مصباح الفقاهه المجلد 1

اشارة

سرشناسه:خوئی، ابوالقاسم، 1371 - 1278

عنوان و نام پدیدآور:مصباح الفقاهه/ من تقریر بحث... ابوالقاسم الموسوی الخوئی؛ لمولفه محمدعلی التوحیدی التبریزی

مشخصات نشر:قم: موسسه انصاریان، 1417ق. = 1996م = 1375.

مشخصات ظاهری:7 ج.نمونه

یادداشت:کتابنامه

موضوع:معاملات (فقه)

شناسه افزوده:توحیدی، محمدعلی، 1353 - 1303، محرر

رده بندی کنگره:BP190/خ 9م 6 1375

رده بندی دیویی:297/372

شماره کتابشناسی ملی:م 75-7089

ص :1

اشارة

مصباح الفقاهه

من تقریر بحث... ابوالقاسم الموسوی الخوئی

لمولفه محمدعلی التوحیدی التبریزی

ص :2

****

البحث فی مکاسب المحرمة

**کلمة المؤلف**

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحمد للّه الذی هدانا إلی حقائق الایمان،و أنار قلوبنا بأنوار العلم و العرفان،و الصلوات الزاکیات علی سیدنا و نبینا محمد الصادع بالدین الحنیف،و الشرع المنیف،و علی آله الأطهار الدعاة الی اللّه و الناشرین لأحکام اللّه،(و بعد)فلما کان کتاب المکاسب الذی هو من مصنفات الشیخ الأعظم الصناع الفذ و العلم الفرد المحقق المؤسس شیخ مشایخنا الأنصاری قدس اللّه روحه من أعظم الکتب الفقهیة شأنا و أکثرها مادة و أمتنها استدلالا و أجزلها عبارة کان هو المعول علیه فی الدراسة الخارجیة عند البحث عن المعاملات و قد جمع قدس اللّه روحه و أکرم مثواه بین دفتی کتابه زبدة أفکار العلماء المتقدمین و خلاصة أنظارهم الدقیقة و أضاف إلیها من فکرته الوقادة و قریحته النقادة تحقیقات أنیقة و تأملات رشیقة و بذلک کان الکتاب صحیفة ناصعة تمثل سداد الرأی و نتاج المجهود الفکری فی مراتبه الراقیة و علماؤنا الأعلام قدس اللّه أسرارهم قد أبدوا اهتماما خاصا بهذا الکتاب و عنوا به عنایة فائقة

ص:3

و تعرضوا الیه و أوسعوه دراسة و شرحا و تعلیقا حسب اختلاف أذواقهم فی الشرح و التعلیق و بذلک تکونت مجموعة نفیسة من الشروح لا یستغنی عنها الباحث و لا یتجاوزها المراجع المتأمل الی ان ألقت العلوم الدینیة زعامتها و أسندت رئاستها الی سیدنا و استاذنا علم الأعلام آیة اللّه الملک العلام فقیه العصر و فرید الدهر البحر اللجی واسطة قلادة الفضل و التحقیق محور دائرة الفهم و التدقیق إمام أئمة الأصول و زعیم أساتذة المعقول و المنقول المبین لاحکام الدین و المناضل عن شریعة جده سید المرسلین قدوة العلماء الراسخین أسوة الفقهاء العاملین المولی الأعظم و الحبر المعظم مولانا و ملاذنا الحاج السید أبو القاسم الموسوی الخویی النجفی أدام اللّه أیام إفاضاته و متع اللّه المسلمین بطول بقائه و هو أدامه اللّه قد تعرض الی الکتاب أثناء الدراسة الخارجیة فی الحوزة المقدسة العلویة و أوسعه تهذیبا و تنقیحا و کشف النقاب عن غوامضه و أبان الموارد المعضلة منه و أخذ بتلک المسائل و الآراء التی قیلت أو یمکن أن یقال فصهرها فی بوتقة خیاله الواسع و فکره الجامع و أفرغها فی قوالب رصینة و شیدها علی أسس متینة و کان النتاج درة لماعة علی مفرق التشریع الإسلامی و الفقه الجعفری و کنت ممن وفقه اللّه للاستفادة من محضره الشریف و الارتواء من منهلة العذب فجمعت فی هذا المختصر ما استفدته من تلک الأبحاث ثم عرضت ذلک علی السید الأستاذ دام ظله فراجعه مراجعة کاملة و کرر النظر فی أبحاثه و فصوله و ها أنا ذا أقدم کتابی هذا مصباح الفقاهة إلی أرباب العلم و الفضیلة آملا أن یقع ذلک منهم موقع القبول و جعلت عملی هذا خالصا لوجهه الکریم سائلا منه أن یجعل ذلک ذخرا الیوم لا ینفع مال و لا بنون.و قد کان المؤلفون القدماء کثیرا یقولون ان أسواق العلوم کاسدة و تجارتها غیر مربحة و ان الناس قد رغبت عنها الی ملاذ الدنیا و شهواتها و قصرت بأنظارها الی الخطام العاجل و العرض الزائل و انهم قد استأثروا الکسل علی الجد و النوم علی السهر و الراحة علی العمل و ان الدنیا قد أدبرت عن ورثة الرسالة و أصحاب الامانة و أمثال هذه الکلمات صارت عنوانا لفواتح الکتب و مستهلات الخطب و الرسائل و اما نحن فلنا أن نفتخر بحمد اللّه و إفضاله علی هذا العهد الزاهی الذی ازدهرت فیه أنوار العلوم و أشرقت فیه شموس المعارف و أصبحت الأمم من کل حدب و صوب یتجهون الی هذه المدینة المقدسة مدینة سید العلماء علی الإطلاق بعد النبی صلی الله علیه و آله و سلم و ازدحمت المدارس بطلابها و ضاقت بهم أرجاؤها نحمده تعالی علی هذه الموهبة الجلیلة و النعمة الجسیمة و نسأله أن یوفقنا لخدمات الدین و إحیاء شریعة سید المرسلین و أن یجعلنا من المشمولین لقوله عز من قائل (یَرْفَعِ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) - وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ .

ص:4

(فیما یرجع الی روایة تحف العقول)

اشارة

قوله ره:و روی فی ئل (1) أقول المذکور فی تحف العقول (2)و البحار (3)یشتمل علی زیادات و قد أسقطها المصنف و ربما یخل بالمقصود و ما فی حاشیة العلامة الطباطبائی «ره»من انه لا یتغیر بها المعنی المراد فیظهر لک ما فیه مما سیأتی(بحث و تحقیق)اعلم ان هذه الروایة و ان کانت حاویة للضوابط الکلیة و القواعد الکبرویة الراجعة إلی اعاشة عالم البشریة من حیث تدینهم بالأحکام الشرعیة إلا انه لا یمکن تصدیر الکتاب بها لأجل أخذها مدرکا للابحاث الآنیة و دلیلا لأحکام التجارة جزئیها و کلیها بل لا بد فی کل مسألة من ملاحظة مدارکها بالخصوص فان کان فیها ما یدل علی المنع أخذ به و إلا فالعمومات الدالة علی صحة المعاملات محکمة(الوجوه الدالة علی عدم جواز التمسک بها)و إنما لم یجز التمسک بهذه الروایة لوجوه«الأول»قصورها من ناحیة السند و عدم استیفائها لشروط حجیة اخبار الآحاد فان راویها أبو محمد بن الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرانی أو الحلبی و إن کان رجلا وجیها فاضلا جلیل القدر رفیع الشأن و کان کتابه مشتملا علی الدرر و الیواقیت.من مواعظ أهل البیت«ع»و قد اعتمد علیه جملة من الأصحاب[4]إلا انه لم یذکرها مسندة بل

ص:5


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 2 جوار التکسب بالمباحات من أبواب ما یکتسب به
2- 2) ص 80
3- 3) ج 23 المکاسب المحرمة ص 14.

أرسلها عن الصادق«ع»فلا تکون مشمولة لأدلة حجیة خبر الواحد لاختصاصها بالخبر الموثوق بصدوره و دعوی قیام القرینة علی اعتبار رواتها المحذوفین جزافیة لأن القرینة علی اعتبارهم ان کانت هی نقله عنهم فذلک ممنوع لکون النقل أعم من الاعتبار فالالتزام بالأعم لا یدل علی الالتزام بالأخص و ان کانت شیئا آخر غیر النقل فلم یصل إلینا ما یدل علی اعتبارهم و لو سامنا ذلک فإنه لا یفیدنا بوجه بل حتی مع تصریحه باعتبارهم عنده لأن ثبوت الاعتبار له لا یدل علی ثبوته لنا ما لم یذکر سببه من التوثیق لنلاحظه حتی یوجب ثبوته عندنا فلعله یعتمد علی غیر خبر الثقة أیضا.

وهم و دفع

و ربما یتوهم انجبار ضعفها بعمل المشهور إلا انه مدفوع لکونه فاسدا کبری و صغری اما الوجه فی منع الکبری فلعدم کون الشهرة فی نفسها حجة فکیف تکون موجبة لحجیة الخبر و جابرة لضعف سنده و إنما الشهرة بالنسبة الی الخبر کوضع الحجر فی جنب الإنسان فلا بد من ملاحظة نفس الخبر فان کان جامعا لشرائط الحجیة عمل به و إلا فإن ضم غیر حجة الی مثله لا ینتج الحجیة.

(لا یقال)إذا عمل المشهور بخبر کشف ذلک عن احتفافه بقرائن توجب الوثوق قد اطلعوا علیها و لم تصل إلینا فیکون الخبر موثوقا به کما ان إعراضهم عن الخبر الصحیح یوجب وهنه و سقوطه عن الاعتبار و من هنا اشتهر فی الألسن ان الخبر کلما ازداد صحة ازداد باعراض المشهور عنه و من هنا.

(فإنه یقال)مضافا الی کون ذلک دعوی بلا برهان و رجما بالغیب و عملا بالظن الذی لا یغنی من الحق شیئا ان المناط فی حجیة خبر الواحد هی وثاقة الراوی و یدل علی ذلک للموثقة[1]التی ارجع الامام«ع»السائل فیها إلی العمری و ابنه حیث علل هذا الحکم فیها

ص:6

بأنهما ثقتان و یدل علیه أیضا الروایات المتواترة (1)التی أرجع فیها إلی أشخاص موثقین فان من المعلوم انه لا خصوصیة لهؤلاء الرواة إلا من حیث کونهم موثقین اذن فالمناط هی الوثاقة فی الراوی و علی هذا فان کان عمل المشهور راجعا الی توثیق رواة الخبر و شهادتهم بذلک فبها و إلا فلا یوجب انجبار عفة و من هنا یعلم انه بعد ثبوت صحة الخبر لا یضره إعراض المشهور عنه إلا أن یرجع الی تضعیف رواته،و بالجملة ان الملاک فی حجیة أخبار الآحاد هو وثاقة رواتها و المناط فی عدم حجیتها عدم وثاقتهم و لأجل ذلک نهی (2)عن الرجوع الی من لا وثاقة له و تفضیل الکلام فی الأصول،و اما الوجه فی منع الصغری فهو عدم ثبوت عمل المتقدمین بها و اما عمل المتأخرین فهو علی تقدیر ثبوته غیر جابر لضعفها مضافا الی ان استنادهم إلیها فی فتیاهم ممنوع جدا کما سیأتی فإن المظنون بل الموثوق به هو اعتمادهم فی الفتیا علی غیرها،و إنما ذکروها فی بعض الموارد تأییدا للمرام لا تأسیا للکلام.

(لا یقال)ان شرائط الحجیة و ان کانت غیر موجودة فیها إلا أن موافقتها فی المضمون مع الروایات الأخیر الصحیحة أو الموثقة توجب حجیتها علی ان آثار الصدق منها ظاهرة.

(فإنه یقال)إذا لم تستوف الروایة شرائط الحجیة فمجرد موافقتها مع الحجة فی المضمون لا تجعلها حجة،و اما قوله ان آثار الصدق منها ظاهرة فلا تدری ماذا یرید هذا القائل من هذه الآثار أ هی غموض الروایة و اضطرابها أم تکرار جملها و ألفاظها أم کثرة ضمائرها و تعقیدها أم اشتمالها علی أحکام لم یفت بها أحد من الأصحاب و من أهل السنة کحرمة بیع جلود السباع و الانتفاع بها و إمساکها و جمیع التقلب و التصرف فیها مع ان الروایات المعتبرة إنما تمنع عن الصلاة فیها فقط لا عن مطلق الانتفاع بها کموثقة سماعة[3] و غیرها و کحرمة الانتفاع بالمیتة و لو کانت طاهرة و سیأتی خلاف ذلک فی بیع المیتة و کحرمة التصرف و الإمساک فیما یکون فیه وجه من وجوه الفساد و سیظهر لک خلاف ذلک من المباحث الآتیة و مما ذکرنا ظهر عدم انجبارها بالإجماع المنقول علی تقدیر حجیته(الوجه الثانی)ان فتاوی أکثر الفقهاء ان لم یکن کلهم لا تطابق بعض جمل الروایة فکیف ینجبر

ص:7


1- 1) راجع الباب المذکور من ئل.
2- 2) راجع أبواب القضاء من ج 3 ئل

ضعفها بالشهرة الفتوائیة بینهم فان مقتضی بعض فقرانها حرمة بیع النجس مطلقا مع انه لم یلتزم به إلا النادر من الفقهاء بل فی بعض فقراتها حرمة إمساکه و التقلب فیه و لم یفت بهذا أحد فیما نعلم مضافا الی ان ظاهر الروایة هو حرمة بیع الأمور المذکورة تحریما تکلیفیا و یدل علی ذلک من الروایة قوله«ع»(فهو حرام بیعه و شرائه و إمساکه و ملکه و هبته و عاریته و التقلب فیه)فان الإمساک و التقلب یشمل جمیع أنواع التصرف حتی الخارجی منه و لا معنی لحرمته وضعا و الفقهاء رضوان اللّه علیهم لم یلتزموا فی أکثر المذکورات بذلک و إنما ذهبوا الی الحرمة الوضعیة و استفادوا ذلک من النهی فی أبواب المعاملات نظیر النهی عن البیع الغرری فإن معناه الإرشاد إلی بطلان ذلک البیع کما یأتی فی محله ان شاء اللّه،نعم لو توجه النهی بذات المعاملة مع ارادة ما یظهر منه من المولویة لتوجه الالتزام بالحرمة التکلیفیة کالنهی عن بیع الخمر و سیأتی(الوجه الثالث)ان التقسیم المذکور فیها لا یرجع الی أمر محصل و ذلک یکشف عن اضطرابها فان تربیع أقسام المعاملة المعاشیة بجعل کل واحد من الولایات و الصناعات قسما مستقلا من تلک الأقسام فی قبال التجارات و الإجارات لا یسلم عن التکرار،أما الولایة فهی علی قسمین لأنها اما عامة ثبتت من اللّه کالنبوة و الإمامة أو خاصة ثبتت من قبل الولاة العامة أما الولایة العامة فهی خارجة عن حدود الروایة فإن التقسیم فیها باعتبار المعاملة المعاشیة فالولایة العامة خارجة عنها تخصصا و إنما هی من المناصب الإلهیة التی جعلت للعصمة الطاهرة و اما الولایة الخاصة فمن حیث جواز ارتزاق الولاة من بیت المال تدخل تحت الإجارة المذکورة فی الروایة فلا تکون الولایة فی مقابل الإجارة قسما آخر فان المراد من الإجارة فیها لیس هی الإجارة المصطلحة بین الفقهاء و یدل علی ذلک إدخال الجعالة تحتها و عدم ذکرها فی الروایة استقلالا،و اما الصناعات فان کان المقصود منها الصناعات المصطلحة من البنایة و الخیاطة و التجارة و نحوها فمن الواضح انها لیست قسما من المعاملات المشرعة للاعاشة و إنما هی موضوع من الموضوعات و ان کان النظر فیها إلی الطواری و العوارض من حیث ان من یتصف بها اما أن یوجر نفسه للغیر لأجل ما عنده من الصناعة و اما أن یجعل ما یحصله منها ثمنا أو مثمنا فی البیع فعلی الأول تدخل تحت الإجارة و علی الثانی تحت التجارة فلا تکون وجها آخر فی قبالهما إلا أن یراد منها نفس الحرفة و الصنعة مع تعمیم المقسم الی کل ما یکون وسیلة إلی المعاش فحینئذ یشملها المقسم لکونها من أعظم الوسائل إلی التعیش،و فیه انه بناء علیه لا یکون التقسیم المذکور فی الروایة حاصرا لخروج کثیر من وسائل الاعاشة عن المقسم کالحیازات و النتاجات و الاصطیاد و احیاء الموات و اجراء القنوات و الضیافات و أخذ الخمس و الزکاة و الصدقات و قد رد هذا الإشکال بأن الحصر فی الروایة إضافی و لکن هذا الرد

ص:8

فاسد فإنه ناشئ من الاغترار بما اشتهر فی ألسنة الأدباء من حسبان الحصر الإضافی قسما آخر یقابل الحصر الحقیقی مع ان الحصر لا یکون إلا حقیقیا بل الالتزام بالحصر فی مورد مع الالتزام بکونه إضافیا لا حقیقیا التزام بالمتناقضین کما هو واضح للناقد البصیر.

نعم قد یکون الحصر فی حصة خاصة کما یقال:زید أعلم من فی النجف،و قد یکون غیر مقید بحصة خاصة فیسمی الأول إضافیا و الثانی حقیقیا و هذا غیر ما توهم(و توهم بعضهم) ان التقسیم فیها باعتبار المعاملات و حینئذ فلا یوجب حصرها فی الأربع حصر کل طرق المعاش الیه و لکن هذا التوهم مما لا یصغی الیه بعد القطع بأن المعاملات المنقسمة إلی الأقسام المذکورة لیست هی المعاملات المصطلحة کما عرفت.

نعم لا یبعد أن یقال ان التقسیم فی الروایة بحسب المعاملات المعاشیة المعروفة کما یدل علی ذلک صدرها[1]و قد أسقطه المصنف تبعا لصاحب الوسائل و قد تحصل من مطاوی بعض ما ذکرنا عدم جواز الاستناد إلی شیء من روایات تحف العقول فی شیء من الأحکام الشرعیة و مع ذلک لا ینقضی تعجبی من الشیخ حسین البحرانی«ره»کیف رضی القول بأنه کتاب لم یسمح الدهر بمثله مع ان الکتب المعتمدة للشیعة نصب عینیه.

تذییل

لا یخفی علیک ان المناسب تقسیم المعایش العباد الی قسمین التجارة بالمعنی الأعم و العمل فان الاعاشة العقلائیة لا تخلو منهما،و اما مثل التسؤل و نحوه فلیس من الطرق العقلائیة للاعاشة(کشف حقیقة و لطف قریحة)لا یخفی علیک ان الإضافات الموجودة بین المال و مالکه المسماة بالاضافات المالکیة تکون علی أنحاء لأنها فی دار تقررها أما إضافة ذاتیة تکوینیة و اما إضافة عرضیة أی متکونة بواسطة الأمور الخارجیة.

أما الأولی فکالاضافات الموجودة بین الأشخاص و أعمالهم و أنفسهم و ذممهم فإن إعمال کل شخص و نفسه و ذمته مملوکة له ملکیة ذاتیة و له واجدیة لها فوق مرتبة الواجدیة الاعتباریة و دون مرتبة الواجدیة الحقیقة التی لمکون الموجودات ثم انه لیس المراد من الذاتی هنا الذاتی فی باب البرهان و هو المنتزع من مقام الذات المسمی بخارج المحمول و لا الذاتی فی باب الکلیات الخمس بل المقصود منه هنا ما لا یحتاج فی تقرره و ظهوره فی صفحة الوجود إلی شیء آخر وراء نفسه من الاعتبارات الملکیة و لا إلی إعدام موجود و لا الی

ص:9

إیجاد معدوم و لا الی ضم ضمیمة و إنما شأنها شأن الذاتیات التی لا تحتاج إلا الی علة فی الوجود ثم ان معنی الملکیة هنا لیس إلا القدرة و السلطنة بمعنی ان کل أحد مسلط علی عمله و نفسه و ما فی ذمته بأن یؤجر نفسه للغیر أو یبیع ما فی ذمته و یأتی لذلک زیادة توضیح فی أول البیع ان شاء اللّه،و من هنا یندفع ما ربما یتوهم من ان عمل الإنسان لا یعد من الأموال و وجه الاندفاع انه لیس من الأموال بالإضافة الاعتباریة لا بالإضافة التکوینیة.

و اما الإضافة العرضیة فهی اما أن تکون إضافة أولیة و اما أن تکون إضافة ثانویة و الأولیة إما أصلیة استقلالیة أو تبعیة غیریة فالأولیة الأصلیة کالإضافة المالیة الحاصلة بالعمل أو بالحیازة أو بهما معا فالأول کالأعمال التی یعملها الإنسان فیحصل منها المال و الثانی کحیازة المباحات و الثالث کمن یحوز أشجارا فیجعلها سریرا فإن الصورة السریریة توجب.تحقق إضافة مالیة أخری فی المادة الخشبیة وراء المالیة المتقومة بالخشبة فتلک المالیة القائمة فی السریر حاصلة من العمل و الحیازة معا فإطلاق الأولیة علیها باعتبار عدم سبق اضافة ذلک المال الی الغیر و الأصلیة باعتبار عدم تبعها للغیر.

و اما الإضافة الأولیة التبعیة فهی ما تکون بین المالک و بین نتاج أمواله کالنتاج التی تنتج الحیوانات المملوکة و البیوض التی تبیضها الطیور المملوکة و الثمار التی تثمرها الأشجار المملوکة الی غیر ذلک فإنها تضاف الی مالک الأصول اضافة أولیة تبعیة اما إطلاق التبعیة فلکونها تابعة لما تحصل منه و اما إطلاق الأولیة فلعدم سبق أضافه إلیها.

و اما الإضافة الثانویة فالمراد بها ما قابل الإضافة الأولیة و ان کانت طارئة علی الأموال مرارا عدیدة فهی نظیر المعقولات الثانویة فی مقابلتها للمعقولات الأولیة،و هی علی قسمین لأنها تارة تکون قهریة و اخری اختیاریة.

(أما الأولی)فکالاضافة التی تحصل بسبب الإرث أو الوقف بناء علی کونه من الإیقاعات کما اخترناه فی محله و وجه کونها قهریة هو حصول المالکیة فی هذه الموارد للوارث و الموقوف علیه و الموصی له بالقهر لا بالفعل الاختیاری.

(و اما الثانیة)فکالاضافة الحاصلة من المعاملات و منها ما یحصل من المکاسب التی نحن بصدد بحثها و تأسیس أصولها و مبانیها بعون اللّه و حسن توفیقه،و غیر خفی علی الناقد ان ما ذکرناه من تلک الإضافات علی أقسامها من البدیهیات التی لا تحتاج الی المقدمات النظریة الخفیة قوله علیه السلام:کذلک المشتری أقول هو اسم فاعل مقابل البائع و لیس باسم مفعول لیکون المراد منه المبیع کما توهم.

قوله علیه السلام:فیجعل ذلک الشیء أقول یمکن أن یراد منه الحمل أی یحمل

ص:10

أو الأخذ أی یأخذ أو الوصف أی یوصف فی مقام الإیجار و لیس بمعناه المعروف لیکون الشیء مفعولا أولا و قوله«ع»(فی عمل)مفعولا ثانیا کما احتمله بعض الأعاظم.

قوله«ع»:حلالا أقول لیس منصوبا علی الحالیة و لا مجرورا لکونه وصفا لقوله ع (فی عمل)کما تخیل بل إنما هو مرفوع للخبریة فإن أصل النسخة هکذا(فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال).

قوله«ع»:أو سوقة أقول فی المجمع السوقة بالضم الرعیة و من دون الملک و منه الحدیث:ما من ملک و لا سوقة یصل الی الحج إلا بمشقة.

قوله«ع»:أو عمل التصاویر أقول فی تحف العقول(أو حمل التصاویر)و علی هذا فعطف الخنازیر و المیتة و الدم فی الروایة علی التصاویر لا یحتاج إلی عنایة.

قوله«ع»:اجارة نفسه فیه أو له أقول المراد من الأول هو الإیجار لنفس الشیء بأن یؤجر نفسه لصنع الخمر کایجار نفسه فی هدم المساجد،و من الثانی الإیجار للمقدمات،و لیس المراد من الأول إیجار نفسه فی المصنوع کحمل الخمر و من الثانی إیجار نفسه لصنعه،و لا ان المراد من الأول المباشریة و من الثانی التسبیبیة،و لا ان المراد من الأول الإیجار للمقدمات و من الثانی الإیجار لنفس المحرم،فان کل ذلک خلاف الظاهر من الروایة و من هنا ظهر المقصود من قوله«ع»(أو شیء منه أو له)غایة الأمر ان المراد منهما جزء العمل و جزء المقدمات و الضمائر الأربعة کلها ترجع الی الأمر المنهی عنه.

قوله«ع»:و ینحیها أقول فی المجمع نحی الشیء أزاله و نح هذا عنی أی أزله و أبعده عنی قوله«ره»:و حکاه غیر واحد أقول لیس فی کتاب السید من روایة تحف العقول عین و لا اثر و لم تذکر حتی بمضمونها فیه.

(نعم)ذکرت[1]فیه معائش الخلق علی خمسة أوجه(وجه الامارة و وجه العمارة

ص:11

و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات)إلا ان ذلک غیر مربوط بما فی تحف العقول سنخا و حکما و لعل هذه الجملة صدرت من المصنف اما من سهو القلم أو من جهة الاعتماد علی ما فی ئل فإنه قال بعد نقل روایة تحف العقول(و رواه المرتضی فی کتاب المحکم و المتشابه) و لا یخفی ان کتاب المحکم و المتشابه هذا هو بعینه تفسیر النعمانی المعروف.

فی الفقه الرضوی

اشارة

قوله«ره»:و فی الفقه المنسوب الی مولانا الرضا«ع» أقول تحقیق الکلام هنا یقع فی جهتین الاولی فی صحة نسبة هذا الکتاب الی الرضا«ع»و عدم صحتها و الثانیة فی دلالة

ص:12

هذه الروایة علی مقصد المصنف و عدم دلالتها

(اما الجهة الأولی) فی صحة نسبة هذا الکتاب الی الرضا«ع»

اشارة

فقد تمسک القائلون باعتباره بوجوه کثیرة و لکنها تؤل الی وجهین:

(الأول)و هو عمدة ما تمسک به المثبتون

ان ظهوره و ان کان فی زمن المجلسی الأول و لکن الذی أخبرنا بالکتاب و رواه المجلسی هو الثقة الفاضل و المحدث الکامل القاضی السید أمیر حسین طاب ثراه[1]فإنه أول من اطلع علیه و استنسخه و قد استنسخه المجلسی من نسخته و هو ثقة فیصدق فی قوله لشمول أدلة الخبر الواحد لخبره هذا.

(و فیه)ان اخباره هذا اما أن یکون مستندا إلی القرائن التی أوجبت حصول العلم العادی له من الخطوط الموجودة فیه للإمام«ع»و الإجازات المدونة فیه للاعلام علی ما نقله المحدث المتبحر النوری فی المستدرک (1)عن المجلسی الأول.

و اما ان یکون مستندا الی اخبار ثقتین عدلین من أهل قم للسید المذکور بکون الکتاب للرضا«ع»کما فی المستدرک (2)أیضا حیث قال:ان السید الثقة الفاضل القاضی أمیر حسین أخبر بأن هذا الکتاب له«ع»و أخبره بذلک أیضا ثقتان عدلان من أهل قم و هذا خبر صحیح داخل فی عموم ما دل علی حجیة خبر العدل.

اما الطریق الأول فضعفه بین لان حصول العلم للسید الأمجد و السند الأوحد من تلک القرائن علی صحة النسبة لدیه لا یوجب حصول العلم لنا باعتباره و عامه بذلک لا یفید غیره بوجه و من الغرائب أن یتمسک لحجیة خبره هذا بعموم أدلة أخبار الآحاد فان هذه العمومات لا تشمل الأخبار الحدسیة و لو کان المخبر بها من الثقات و أغرب منه أن یقال ان المتیقن من الاخبار الحدسیة الخارجة عن هذه العمومات هی ما لا تعتمد علی مبادئ محسوسة یلزم من العلم بها العلم بمضمون الخبر و اما لو اعتمد علی مبادئ محسوسة یلزم من العلم بها العلم بصدق الخبر کما فی الشجاعة و السخاوة و العدالة بناء علی تفسیرها بمعنی الملکة فلا یظن بأحد أن یتوقف فی عموم أدلة خبر العدل لها و اخبار السید باعتبار الفقه الرضوی من قبیل الثانی لا الأول و وجه الغرابة فی هذه القول ان الاخبار بالأمور الحدسیة بواسطة أسبابها الحسیة إنما یکون مشمولا لأدلة الحجیة إذا کان بین الأسباب و مسبباتها ملازمة عادیة بحیث یلزم من العلم بها العلم بالمسببات کما فی الأمثلة المذکورة و اما إذا انتفت الملازمة العادیة فأدلة حجیة الخبر لا تشمله کما حقق ذلک فی علم الأصول و هذا الشرط مفقود فی موضوع البحث فان

ص:13


1- 1) راجع ج 3 ص 337.
2- 2) راجع ج 3 ص 339

الأمور التی استند إلیها السید فی اخباره قابلة للمنع فإنه کیف یعلم احد ان الخطوط فی النسخة للإمام«ع»و ان الإجازات للاعلام إلا من طریق الحدس الشخصی إذن فإن الأمور المذکورة حدسیة لا حسیة،و أیضا فلا ملازمة بینها و بین العلم بالنتیجة.

(فإن قلت)کیف یصح إنکار ما یدل علی صدق نسبة الکتاب للإمام«ع»مع ان فیه عبارات تنطق بکونه له«ع»مثلما قال فی أول الکتاب یقول عبد اللّه علی بن موسی الرضا و فی بعض کلماته نحن معاشر أهل البیت و أمرنی أبی وجدنا أمیر المؤمنین«ع»و أروی عن أبی العالم،الی غیر ذلک من العبائر التی لا ینبغی صدورها إلا عن الحجج(علیه السلام)و قد ذکر المحدث النوری جملة منها فی المستدرک (1)هذا مضافا الی القرائن التی اعتمد علیها السید المذکور (قلت)أولا ان احتمال الکذب لا دافع له مع الجهل بمؤلفه و انفتاح باب الجعل و الفریة من المشمرین عن ساق الجد للکذب علی العترة الطاهرة.

أ فنسیت الأخبار المجعولة فی أمر الولایة کیف قامت و ان لکل واحد من الأئمة علیهم السلام من یدس علیه من الکذابین.

و من هذا ظهر فساد توهم الصدق فی نسبة الکتاب من جهة موافقة تاریخه لزمان الرضا علیه السلام،و ثانیا لنفرض ان الکتاب لیس من مجعولات الوضاعین فهل یصح أن نتمسک بقوله:نحن معاشر أهل البیت،أو جدنا أمیر المؤمنین،لتصحیح کون الکتاب للإمام علیه السلام أ لیس احتمال کون مؤلفه رجلا علویا بمکان من الإمکان(و اما الطریق الثانی) أعنی استناد اخبار السید بصدق الکتاب الی أخبار ثقتین بذلک من أهل قم.

(ففیه)أولا انه محض اشتباه من المحدث المتبحر النوری فإنه مع نقله کلام المجلسی الأول بطوله الذی هو الأصل فی السماع عن السید غفل عنه و سلک مسلکا آخر فقد قال المجلسی الأول کما فی المستدرک (2)ثم حکی-أی السید-عن شیخین فاضلین صالحین ثقتین انهما قالا:ان هذه النسخة قد أتی بها من قم إلی مکة المشرفة و علیها خطوط العلماء و إجازاتهم و خط الامام علیه السلام فی عدة مواضع قال:و القاضی أمیر حسین قد أخذ من تلک النسخة و أتی بها الی بلدنا و انی استنسخت نسخة من کتابه.و هذا الکلام کما تری یعلن بمخالفته لما أفاده النوری.

و ثانیا فننقل الکلام الی اخبار هذین العدلین فإن غایة ما یحصل لنا من أخبارهما کون الفقه الرضوی من جملة الأخبار المرسلة فیتوجه علیه ما قدمناه فی روایة تحف العقول.

و مما یوهن حجیة خبر أمیر حسین بصدق الکتاب مع کونه ثقة قول المجلسی الأول بعد

ص:14


1- 1) راجع ج 3 ص 343.
2- 2) راجع ج ص 337.

کلامه المتقدم و العمدة فی الاعتماد علی هذا الکتاب مطابقة فتاوی علی بن بابویه فی رسالته و فتاوی ولده الصدوق لما فیه من دون تغییر أو تغییر یسیر فی بعض المواضع و من هذا الکتاب تبین عذر قدماء الأصحاب فیما أفتوا به.

و وجه الوهن انه لو کان اخبار السید بذلک جامعا لشرائط الحجیة فی الخبر الواحد فلا وجه لقول المجلسی الأول:ان العمدة فی إثباته هی مطابقته لفتوی الصدوقین،و بالجملة لم یتحصل لنا من الوجه المذکور ما یوجب اعتبار الکتاب.

(الأمر الثانی)مما تمسک به المثبتون

لنسبة الکتاب موافقته لرسالة علی بن بابویه الی ولده الصدوق و هی الکتاب المعروف بشرائع الصدوق و قد استند الی هذا الوجه بعض الأصحاب و عرفت ان المجلسی الأول من هؤلاء فقد جعل العمدة فی تصحیح الکتاب موافقته لفتوی الصدوقین فلا بد من ان یکون الکتاب موجودا فی زمان الصدوق و معتمدا علیه عنده و لذا نقل عنه و ان لم یسم به.

(و فیه)ان هذا لا یوجب اعتبار الکتاب لاحتمال أخذ مؤلفه ذلک من الرسالة المذکورة بل هذا هو الظاهر إذ من المستبعد جدا بل من المستحیل عادة ان یسند علی بن بابویه کتاب الرضا علیه السلام الی نفسه من دون ان یشیر هو أو ابنه الصدوق الذی کتب لأجله هذه الرسالة الی ان هذا الکتاب من تألیف الرضا و هل یرضی احد ان ینسب مثل هذه السرقة إلی الصدوقین فلا بد و ان یکون الأمر بالعکس بأن یکون هذا الکتاب مأخوذا من رسالة علی بن بابویه.

(و ربما قیل (1)ان فقه الرضا علیه السلام هذا هو الذی کتبه الرضا لأحمد بن السکین الذی کان مقربا عنده و هو بخطه«ع»موجود فی الطائف بمکة المعظمة فی جملة کتب السید علیخان و علیه إجازات العلماء و خطوطهم و هذه النسخة بالخط الکوفی و تاریخها عام مائتین من الهجرة و بعد ان نقل المحدث النوری هذا الوجه عن الریاض قال ما حاصله:و من هنا یتضح ان من عدم الاطلاع و من قلة الخبرة ان یقال ظهور الکتاب إنما کان فی زمن أمیر حسین اما قبل ذلک الزمان فلم یکن منه عین و لا أثر.

(أقول)نحن لا ندعی انه لم یکن للرضا«ع»کتاب و آثار حتی ینقض علینا بما کتبه لأحمد بن سکین بل نقول انه لا مدرک لنا لإثبات ان هذا الکتاب الذی عندنا کان له علیه السلام و انه هو الذی کان موجودا فی مکتبة السید علیخان خصوصا مع ملاحظة أن ظهوره کان من قم کما عرفت و من هنا یعلم ان نقد النوری للقول بظهوره فی زمن أمیر حسین

ص:15


1- 1) ملخص ما نقله النوری فی ج 3 المستدرک ص 340 عن کتاب ریاض العلماء.

ناشئ من عدم التأمل.

ثم انه مع الغض عن جمیع ما ذکرناه فان فی الکتاب قرائن قطعیة تدل علی عدم کونه لمثل مولانا الرضا«ع»بل هو رسالة عملیة ذکرت فیها الفتاوی و الروایات بعنوان الإفتاء کما یظهر لمن یلاحظه کیف و أکثر روایاته اما بعنوان روی و راوی و نحوهما،و اما نقل عن الرواة خصوصا فی آخر الکتاب فإنه ینقل فیه کثیرا عن ابن ابی عمیر و زرارة و الحلبی و صفوان و محمد بن مسلم و منصور و غیرهم.

علی ان فیه عبارات یقبح صدورها عن الامام«ع»نظیر قوله جعلنی اللّه من السوء فداک و قوله فی باب القدر (1)صف لی منزلتین فان هذا القول ظاهر فی جهل القائل و هو مستحیل فی حق الامام«ع»الی غیر ذلک و قد نقل جملة منها فی المستدرک (2)مع انه ذکر فیه[1] من الاحکام المتناقضة و ما یخالف مذهب الشیعة بکثیر و حملها علی التقیة بدیهی الفساد لما ورد فی هذا الکتاب أیضا مما یخالفها بل تکذیبهم و الإزراء علیهم کما فی المتعة[2]و الالتزام بالتفصیل (3)بأن بعض الکتاب إملاء منه«ع»و بعضه الآخر لأحمد بن محمد بن عیسی الأشعری و ان موارد التقیة فی الکتاب إنما هی فیما سمع منه علیه السلام تکلف فی تکلف و قول بلا علم هذا کله ما یرجع الی نفس الکتاب،و قد أجاد صاحب الفصول فی بعض ما افاده[3]هنا فلیراجع إذن فقد حق القول انه لو أنیطت الأحکام الشرعیة بمثل هذه المدارک

ص:16


1- 1) ص 48.
2- 2) ج 3 ص 350.
3- 3) راجع ج 3 المستدرک ص 353.

فبین أیدینا البخاری و مسند احمد و صحیح مسلم و علی هذا فعلی الفقه السلام.

و اما توهم انجبار روایاته بالشهرة إذا قامت علی وفقها فقد عرفت ما فیه فی روایة تحف العقول(و ربما یتخیل)اعتبار الکتاب لأجل عمل جملة من الأکابر علیه کالمجلسیین و غیرهما و لکنه فاسد لأنهم قد استندوا فی عملهم هذا بما ذکر من الوجوه التی عرفت جوابها بما لا مزید علیه.

(و اما الجهة الثانیة) عدم إمکان الاستناد بهذه الروایة

فمع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه و الالتزام باعتبار الکتاب لا یمکن الاستناد بهذه الروایة[1]التی نقلها العلامة الأنصاری«ره»فی شیء من المباحث و ذلک لوجوه (الأول)عدم وجدان فتوی من فتاوی أعاظم الأصحاب علی طبقها فإن الروایة صریحة بحرمة استعمال ما نهی عنه مما فیه الفساد بجمیع الاستعمالات حتی الإمساک مع انه لم یفت به أحد فیما نعلم و کیف یفتوه فقیه أو متفقة بحرمة إمساک الدم و المیتة و لحوم السباع کما ان ذلک مقتضی الروایة إذن فلا یمکن الفتوی علی طبقها.

(الثانی)ان مقتضی قوله(فحرام ضار للجسم و فساد للنفس)أن الضابطة فی تحریم هذه الأمور المذکورة فی الروایة هو أضرارها للجسم کما ان المناط فی جوازها عدم اضرارها له مع ان جلها لیس بضار للجسم کالملابس و المناکح و أکثر المشارب و المآکل ان لم یکن کلها کذلک و علی فرض تسلیم ذلک فلا نسلم انضباط القاعدة فإنه لا شبهة ان کثیرا من هذه الاستعمالات للأشیاء المحرمة لا تکون مضرة قطعا کوضع الید علیها مثلا أو الأکل منها قلیلا أو شد الید بجلد المیتة و شعر الخنزیر و إنما المضر هی مرتبة خاصة من الاستعمالات بجمیع الأشخاص و الأزمان و الأمکنة و الکمیة فلو کان ذلک موجبا لحرمة جمیع الاستعمالات بجمیع

ص:17

مراتبها فتکون نظیر قول النبی«ص» (1):(فما أسکر کثیره فقلیله حرام)للزم من ذلک القول بحرمة جمیع ما خلق اللّه فی الأرض من المباحات فان کل واحد من هذه المباحات لا بد و أن یکون مضرا فی الجملة و لو باستعمال الشیء الکثیر منه.

علی ان الأحکام الشرعیة بناء علی مسلک العدلیة تدور مدار ملاکاتها الواقعیة من المصالح و المفاسد و اما المنافع و المضار فهی خارجة عن حدودها،نعم ربما یکون الضرر أو النفع موضوعا للأحکام إلا ان ذلک غیر مربوط بباب ملاکات الأحکام.

(الثالث)ان ظاهر الروایة هو حرمة بیع الأمور المذکورة تحریما تکلیفیا کما تقدم نظیر ذلک فی روایة تحف العقول و کلامنا فی الحرمة الوضعیة.

فی اعتبار کتاب دعائم الإسلام

اشارة

قوله و عن دعائم الإسلام أقول أقصی ما قیل أو یمکن أن یقال فی وجه اعتبار هذا الکتاب ان صاحبه أبا حنیفة النعمان حیث کان رجلا إمامیا اثنی عشریا جلیلا فاضلا فقیها و من جملة النوابغ فی عصره بل کان فریدا فی دهره کما یظهر من کتابه کانت روایاته مشمولة لأدلة حجیة خبر العدل الإمامی.

(و الذی)ینبغی أن یقال انه لا شبهة فی علو مکانة أبی حنیفة النعمان صاحب کتاب دعائم الإسلام و غیره من الکتب الکثیرة و نبوغه فی العلم و الفضل و الفقه و الحدیث علی ما نطقت به التواریخ و کتب الرجال و کتابه هذا کما لا شبهة فی کونه إمامیا فی الجملة فإنه کان مالکی الأصل فتبصر و صار شیعیا إمامیا کما اتفقت علیه کلمات أکثر المترجمین الذین تعرضوا لترجمته و تاریخه کالبحار[1]و تنقیح المقال للمامقانی (2)و سفینة البحار[2]

ص:18


1- 1) راجع ج 11 الوافی باب 156 ان کل مسکر حرام ص 82.
2- 2) ج 3 ص 273.

و المستدرک (1)و تأسیس الشیعة للسید حسن الصدر (2)و غیرها و قد نقلوا عن أئمة التاریخ و الرجال کونه إمامیا و علی هذا فلا یصغی الی قول ابن شهرآشوب فی المعالم انه لم یکن إمامیا علی ما فی تنقیح المقال.

إلا أن الذی یقتضیه الإنصاف إنا لم نجد بعد الفحص و البحث من یصرح بکونه ثقة و لا اثنی عشریا و إن کان المحدث النوری قد أتعب نفسه فی إثباتهما و بالغ فی اعتبار الکتاب و مع هذا الجهد و المبالغة لم یأتی بشیء ترکن الیه النفس و یطمئن به القلب و لعل کلام السید فی الروضات (3)ینظر الی ما ذکرناه حیث قال:و لکن الظاهر عندی انه لم یکن من الإمامیة الحقة و حینئذ فکیف یمکن إثبات حجیة روایاته بأدلة حجیة خبر العدل.

و علی تقدیر تسلیم وثاقته و کونه إمامیا اثنی عشریا فلا یخرج بذلک ما احتواه کتابه عن سلک الأخبار المرسلة فتسقط حجیته للإرسال.

و أما توهم انجباره بالشهرة أو بموافقة أکثر روایاته لروایات الکتب المعتبرة فقد تقدم جوابهما فی ذیل روایة تحف العقول.

(فان قلت)إذا سلمنا وثاقة أبی حنیفة النعمان فلا مناص عن الالتزام بحجیة کتابه لأنه قال فی أوله:نقتصر فیه علی الثابت الصحیح مما رویناه عن الأئمة من أهل بیت رسول اللّه (صلی الله علیه و آله)فیکون کلامه هذا توثیقا إجمالیا لما أسقطه من الرواة.

(قلت)نعم و لکن ثبوت الصحة عنده لا یوجب ثبوتها عندنا لاحتمال اکتفائه فی تصحیح الروایة بما لا نکتفی به نحن و الحق فیه ما ذکره المجلسی فی البحار (4)ان روایاته إنما تصلح للتأکید و التأیید فقط.

(إزاحة شبهة)و قد التجأ المحدث النوری (5)فی تنزیه أبی حنیفة النعمان عن اتهامه

ص:19


1- 1) ج 3 خاتمة الکتاب فی الفائدة الثانیة ص 313.
2- 2) ص 382.
3- 3) ص 727.
4- 4) ج 1 ص 15.
5- 5) ج 3 المستدرک ص 215

بمذهب الإسماعیلیة و إثبات کونه ثقة اثنی عشریا الی بیان نبذة من عقائد الإسماعیلیة الفاسدة کقولهم بأن محمد بن إسماعیل حی لم یمت و یبعث برسالة و شرع جدید ینسخ به شریعة محمد و انه من اولی العزم و أولو العزم عندهم سبع لأن السماوات سبع و الأرضین سبع و بدن الإنسان سبع و الأئمة سبع و قلبهم محمد بن إسماعیل الی غیر ذلک من الخرافات التی تنزه عنها النعمان و کتابه ثم انه صرح فی کتابه بکفر الباطنیة و أثبت إمامة الأئمة الطاهرة و کونهم مفترضی الطاعة و لم یصرح بإسماعیل و لا بابنه محمد و مع ذلک کله فکیف یرضی المنصف بعدة من من الإسماعیلیة،انتهی ملخص کلامه.

(و فیه)ان تنزه النعمان من تلک الأقاویل الکاذبة و العقائدة الفاسدة و تصریحه بکفر الباطنیة لا یستلزم عدم کونه من الإسماعیلیة لأن الباطنیة قسم منهم و لیس کل اسماعیلی من الباطنیة و ان عدم ذکره إسماعیل و ابنه فی عداد الأئمة لا یکشف عن عدم عقیدته بإمامتهما مع ان عقائده الاسماعیلین لم تصل إلینا بحقیقتها حتی نلاحظها مع ما ذکره النعمان لیتضح لنا انه منهم أو لیس منهم و لقد صادفت زعیما من زعمائهم فی الحضرة الشریفة فسألته عن ولی الأمر و الحجة المنتظر«ع»هل هو حی أو میت فقال هو لا حی و لا میت بل یولد من امرأة قرشیة لا تحیض فیعلم من ذلک انهم لا یرون ما تذهب إلیه الباطنیة فی محمد بن إسماعیل.

(کشف حقیقة)لا ینقضی تعجبی من المحدث المتبحر النوری حیث قال فی المستدرک (1)ما ملخصه:ان الکتاب المذکور لم یخالف فی فرع غالبا إلا و معه موافق معروف من الشیعة إلا فی إنکار المتعة فلیس له موافق علیه،ثم حمل إنکاره هذا علی التقیة و جعل القرینة علی ذلک ما ذکره فی باب الطلاق من عدم وقوع التحلیل بالمتعة للمطلقة ثلاثا و ما ذکره فی باب الحد فی الزنا من ان الإحصان لا یتحقق بالمتعة فإن المتعة لو لم تکن جائزة عنده لکان ذکرها فی البابین بلا وجه و تکون من قبیل ذکر الزنا فیهما و لا معنی لأن یقول أحد ان الزنا لا یتحقق به التحلیل و الإحصان.

(و وجه العجب)أولا ان الکتاب یشتمل علی فروع کثیرة تخالف مذهب الشیعة الاثنی عشریة و لم یوافقه علیها أحد من علماء الشیعة و قد ذکرنا فی الحاشیة[1]أنموذجا من هذه المخالفات لتکون حجة علی منکرها.

ص:20


1- 1) ج 3 ص 318.

(و ثانیا)ان نقل روایتین فی الکتاب یظهر منهما جواز المتعة لا یدل علی التزامه بالجواز و نسبة ذلک إلیه محتاجة إلی علم الغیب بأنه کان حین ما نقلهما ملتفتا الی ما یستفاد منهما من مشروعیة المتعة فإن من المحتمل القریب أن یکون نظره فی الروایتین مقصورا علی نفی التحلیل و الإحصان بالمتعة کنفیهما بالشبهة مع عدم التفاته إلی جهة أخری لأنه لیس بمعصوم لا یمکن فی حقه مثل هذا الاحتمال.

(اما)ان المتعة بناء علی عدم جوازها کالزنا فیکون ذکرها فی البابین من قبیل ذکر الزنا و لا معنی له.

(فیدفعه)ان ذکر المتعة یکون من قبیل ذکر الشبهة فی البابین و لا خفاء فیه و لا معنی للتهویل به.

تذییل

لا یخفی علیک انا لو قطعنا النظر عن جمیع ما ذکرناه فی عدم اعتبار الکتاب فالروایة التی

ص:21

ذکرها المصنف[1]هنا لا یمکن الاستناد إلیها بالخصوص لأن قوله فیها(و ما کان محرما أصله منهی عنه لم یجز بیعه)یقتضی حرمة بیع الأشیاء التی تعلق بها التحریم من جهة ما مع انه لیس بحرام قطعا علی ان الظاهر منه هی الحرمة التکلیفیة مع أنها منتفیة جزما فی کثیر من الموارد التی نهی عن بیعها و شرائها و إنما المراد من الحرمة فی تلک الموارد هی الحرمة الوضعیة لیس إلا فلا تکون الروایة معمولة بها.

القول فی صحة النبوی المشهور و سقمه

اشارة

قوله و فی النبوی المشهور أقول توضیح الکلام فی صحة الحدیث و سقمه یقع فی مقامین الأول فی سنده و الثانی فی دلالته،

أما الأول فی سنده

اشارة

فالکلام فیه من جهتین الاولی فی حجیته عند العامة و الثانیة فی حجیته عند الخاصة.

اما الکلام فی الجهة الأولی حجیته عند العامة

فإن هذا النبوی لم یذکر فی أصول حدیثهم إلا فی قضیة الشحوم المحرمة علی الیهود التی نقلت بطرق متعددة کلها عن ابن عباس إلا فی روایتین إحداهما عن جابر و الثانیة عن عمر و قد ذکر فی ذیل بعض الروایات[2]التی عن ابن عباس قوله«ص»:(ان اللّه إذا حرم علی قوم أکل شیء حرم علیهم ثمنه)مع اضافة لفظ (أکل)و علی هذا فیکون غیر النبوی المشهور.

(نعم)ورد فی مسند أحمد[3]بإسناده عن ابن عباس فی بعض روایات تلک القضیة (ان اللّه إذا حرم علی قوم شیئا حرم علیهم ثمنه)بإسقاط لفظ(أکل)إلا ان أصول حدیثهم کلها مطبقة علی ذکره حتی ابن حنبل نفسه نقل ذلک فی موضع آخر من کتابه عن

ص:22

ابن عباس کما أشرنا إلی مصدره فی الحاشیة،نعم قد أورده الفقهاء من العامة[1]و الخاصة[2]فی کتبهم الاستدلالیة کثیرا مع إسقاط کلمة أکل تأییدا لمرامهم.

و حاصل ما ذکرناه ان اتحاد القضیة فی جمیع روایاتها و إطباق أصول حدیثهم علی ذکر لفظ الأکل و اتصال السند فیما یشتمل علیه و فیما لا یشتمل علیه الی ابن عباس و موافقة أحمد علی ذکر لفظ أکل فی مورد آخر کلها شواهد صدق علی اشتباه أحمد و ان النبوی مشتمل علی کلمة أکل.

و اما الجهة الثانیة حجیته عند الخاصة

فالنبوی و إن اشتهرت روایته فی ألسنة أصحابنا فی کتبهم قدیما و حدیثا متضمنة لکلمة أکل تارة و بدونها أخری إلا ان کلهم مشترکون فی نقله مرسلا و العذر فیه أنهم أخذوه من کتب العامة لعدم وجوده فی أصولهم.

و حیث أثبتنا فی الجهة الاولی ان الصحیح عندهم هو ما اشتمل علی کلمة أکل کان اللازم علینا ملاحظة ما ثبت عندهم و إذن فلم یبق لنا وثوق بکون النبوی المشهور روایة فکیف بانجبار ضعفه بعمل المشهور.

و اما المقام الثانی فی دلالته

فبعد ما عرفت ان الثابت عند العامة و الخاصة اشتمال الروایة علی کلمة أکل کان عمومه متروکا عند الفریقین فان کثیرا من الأمور یحرم أکله و لا یحرم بیعه و من هنا قال فی جوهر النقی حاشیة البیهقی فی ذیل الحدیث المشتمل علی کلمة«أکل»:قلت عموم هذا الحدیث متروک اتفاقا بجواز بیع الآدمی و الحمار و السنور و نحوها.

ص:23

(تبیین)لو فرضنا ثبوت النبوی علی النحو المعروف لم یجز العمل به أیضا للإرسال و عدم انجباره بالشهرة و غیرها و ذلک لأن تحریم الشیء الذی یستلزم تحریم ثمنه اما أن یراد به تحریم جمیع منافع ذلک الشیء و اما تحریم منافعه الظاهرة و اما تحریم منافعه النادرة و لو من بعض الجهات فعلی الاحتمالین الأولین فالمعنی و إن کان وجیها و موافقها لمذهب الشیعة لقولهم بأن ما یحرم جمیع منافعه أو منافعه الظاهرة یحرم بیعه إلا ان إثبات اعتمادهم فی فتیاهم بذلک علی النبوی مشکل و ذلک للوثوق بأن مستندهم فی تلک الفتیا لیس هو النبوی بل هو ما سیأتی فی البیع من اعتبار المالیة فی العوضین لأن مالیة الأشیاء إنما هی باعتبار المنافع الموجودة فیها الموجبة لرغبة العقلاء و تنافسهم فیها فما یکون عدیما لجمیع المنافع أو للمنافع الظاهرة لا تکون له مالیة و إذن فلیست هنا شهرة فتوائیة مستندة الی النبوی لتوجب انجباره لأنه بناء علی انجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب إنما یکون فیما انحصر الدلیل لفتیاهم بذلک الخبر الضعیف و لم یکن فی البین ما یصلح لاستنادهم الیه.

(و اما علی الثالث)فالحرمة لا توجب فساد البیع عند المشهور لیحتمل انجبار النبوی بفتیاهم «فتحمل»انه لا یکون شیء من الروایات العامة التی ذکرها المصنف دلیلا فی المسائل الآتیة بل لا بد فی کل مسألة من ملاحظة مدارکها فان کان فیها ما یدل علی المنع أخذ به و إلا فالعمومات الدالة علی صحة العقود کقوله تعالی أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ محکمة کما تقدمت الإشارة الی ذلک فی أول الکتاب.

بطلان المعاملة علی الأعمال المحرمة

«تمهید»لا یخفی علیک ان محل کلامنا فی المسائل الآتیة انما هو فی الأعیان المحرمة من الخمر و الخنزیر و المیتة و نحوها.

و اما الأعمال المحرمة کالزنا و النمیمة و الکذب و الغیبة فیکفی فی فساد المعاملة علیها الأدلة الدالة علی تحریمها لان مقتضی وجوب الوفاء بالعقود هو وجوب الوفاء بالعقد الواقع علی الأعمال المحرمة و مقتضی أدلة تحریم تلک الاعمال هو وجوب صرف النفس عنها و إیقاف الحرکة نحوها فاجتماعهما فی مراحلة الامتثال من المستحیلات العقلیة و علی أقل التقادیر فإن أدلة صحة العقود و وجوب الوفاء بها مختصة بحکم العرف بما إذا کان العمل سائغا فی نفسه فلا وجه لرفع الید بها عن دلیل حرمة العمل فی نفسه.

و بما ذکرنا یظهر ان الوجه فی فساد المعاملة علی الأعمال المحرمة هو استحالة الجمع بین وجوب الوفاء بهذه المعاملة و بین حرمة هذه الأعمال أو الحکومة العرفیة المذکورة.

ص:24

و ربما یظهر من کلام شیخنا الأستاذ (1)فی حکم الأجرة علی الواجبات ان الوجه فی ذلک هو عدم کون الأعمال المحرمة من الأموال أو عدم إمکان تسلیمها شرعا حیث قال الأول ان یکون العمل الذی یأخذ الأجیر أو العامل بإزائه الأجرة و الجعل ملکا له بأن لا یکون مسلوب الاختیار بإیجاب أو تحریم شرعی علیه،و بملاحظة ما تقدم یظهر لک ما فیه فإنک قد عرفت ان صحة المعاملة علیها و وجوب الوفاء بها لا یجتمعان مع الحرمة النفسیة سواء اعتبرنا المالیة أو القدرة علی التسلیم فی صحة العقد أم لم نعتبر شیئا من ذلک.

تقسیم المکاسب إلی الثلاثة أو الخمسة

قوله قد جرت عادة غیر واحد علی تقسیم المکاسب أقول المکاسب جمع مکسب و هو مفعل من الکسب اما مصدر میمی بمعنی الکسب أو التکسب أو اسم مکان من الکسب قوله مما ندب الیه الشرع أقول أی أمر به بالأمر الاستحبابی و قد أشار بذلک الی الأخبار الواردة فی استحباب الرعی[1]و الزرع[2].

قوله فتأمل أقول لعله إشارة الی ان وجوب الصناعات لیس بعنوان التکسب بل

ص:25


1- 1) ج 1 منیة الطالب ص 15.

لکون ترکها یؤدی الی اختلال النظام کما سنبینه.

«أقول»ملخص کلامه ان الفقهاء رضوان اللّه علیهم کالمحقق فی الشرائع و غیره فی کتبهم قسموا المکاسب الی محرم کبیع الخمر و مکروه کبیع الأکفان و مباح کبیع الأشیاء المباحة و أهملوا ذکر الواجب و المستحب بناء علی عدم وجودهما فی المعاملات مع انه یمکن التمثیل للمستحب بمثل الزرع و الرعی و للواجب بالصناعات الواجبة کفایة إذا وجد أکثر من واحد ممن یقوم بها أو عینا إذا لم یوجد غیر واحد.

(و فیه)ان الأمثلة المذکورة لا تدل علی شیء من مراده،إما الزراعة فاستحبابها إنما هو من جهة إیکال الأمر الی اللّه و انتظار الفرج منه کما فی روایة العیاشی[1].

و اما الرعایة فاستحبابها لما فیها من استکمال النفس و تحصیل الأخلاق الحسنة و تمرین الطبع علی ادارة شؤن الرعیة و ازالة الأوصاف الرذیلة من السبعیة و البهیمیة فان من مصرف برهة من الزمان فی تربیة الحیوان صار قابلا لإدارة الإنسان و من هنا کان الأنبیاء قبل بعثتهم رعاة للاغنام کما فی روایة عقبة المتقدمة(ما بعث اللّه نبیا قط حتی یسترعیه الغنم و یعلمه بذلک رعیة الناس)و فی النبوی المتقدم(ما من نبی إلا و قد رعی الغنم قیل و أنت یا رسول اللّه قال و أنا)و علی کل حال فالزراعة و الرعی مستحبان فی أنفسهما بما انهما فعلان صادران من

ص:26

المکلف لا بعنوان التکسب بهما کما هو محل الکلام فلا یصلحان مثلا لما نحن فیه.

(و اما)الصناعات بجمیع أقسامها فهی من الأمور المباحة و لا تتصف بحسب أنفسها بالاستحباب فضلا عن الوجوب فلا یکون التکسب بها إلا مباحا،نعم إنما یطرء علیها الوجوب إذا کان ترکها یوجب إخلالا بالنظام و حینئذ یکون التصدی لها واجبا کفائیا أو عینیا و هذا غیر کونها واجبة بعنوان التکسب.

(ازالة شبهة)قد یقال ان وجوب الصناعات من جهة أداء ترکها ان اختلال النظام یقتضی أن یکون التکسب بها مجانیا و لکن هذا یفضی الی الإخلال بالنظام أیضا و مقتضی الجمع بین الأمرین أن یلتزم بوجوبها مع الأجرة و علی ذلک فتکون مثالا لما نحن فیه.

(و لکن یرد علیه)أولا ان هذا لیس إلا التزاما بوجوبها لأجل حفظ النظام و علیه فلا یکون التکسب بعنوانه واجبا.

(و ثانیا)ان الواجب من الصناعات إنما هو الطبیعة المطلقة العاریة عن لحاظ المجانیة و غیرها و ما یخل بالنظام إنما هو إیجاب العمل مجانا لا ما هو الجامع بینه و بین غیره و لا ملازمة بین عدم وجوب الصناعات مجانا و بین وجوب الجامع غیر المقید بحصة خاصة من الطبیعة و من هنا نقول یجب الاقدام علیها عینا أو کفایة من حیث هی صناعة یختل بترکها النظام سواء کانت علیها أجرة أم لا.

(و التحقیق)ان التقسیم ان کان باعتبار نفس التکسب فلا محیص عن تثلیث الأقسام کما تقدم و إن کان بلحاظ فعل المکلف و العناوین الثانویة الطاریة علیه فلا مانع من التخمیس و لا یخفی علیک انه إذا کان التقسیم بحسب فعل المکلف لا یختص المثال بالصناعات بل یصح التمثیل بما وجب بالنذر أو الیمین أو العهد و بالکسب لقضاء الدین أو الإنفاق علی العیال و نحو ذلک.

(لا یقال)إذا ملک الکافر عبدا مسلما وجب بیعه علیه و یکون بیعه هذا من قبیل الاکتساب بالواجب.

(فإنه یقال)الواجب هنا فی الحقیقة هو إزالة ملکیة الکافر للمسلم و بیع العبد المسلم إنما وجب لذلک و یدلنا علی ذلک انه لو زال ملکه بغیر البیع کالعتق و الهبة أو بالقهر کموت الکافر لا یجب البیع.

ص:27

معنی حرمة الاکتساب تکلیفا

اشارة

قوله:و معنی حرمة الاکتساب. أقول الحرمة المتعلقة بالمعاملة اما أن تکون وضعیة و اما أن تکون تکلیفیة و بینهما عموم من وجه،فالبیع وقت الندی لصلاة الجمعة حرام تکلیفا و البیع الغرری حرام وضعا و بیع الخمر حرام وضعا و تکلیفا و کلام المصنف هنا مسوق لبیان خصوص الحرمة التکلیفیة فی البیع.

(إذا عرفت هذا)

فاعلم ان حرمة البیع تکلیفا تتصور علی وجوه.

الأول ما أفاده المحقق

الایروانی فی حاشیته

و هو ان معنی حرمة الاکتساب هو إنشاء النقل و الانتقال بقصد ترتب أثر المعاملة أعنی التسلیم و التسلیم للمبیع و الثمن فلو خلا عن هذا القصد لم یتصف الإنشاء الساذج بالحرمة.

(و فیه)ان تقیید موضوع الحرمة بالتسلیم و التسلم إنما یتم فی الجملة لا فی جمیع البیوع المحرمة،و تحقیقه ان النواهی المتعلقة بالمعاملات علی ثلاثة أقسام:الأول أن یکون النهی عنها بلحاظ انطباق عنوان محرم علیها کالنهی عن بیع السلاح لأعداء الدین عند حربهم مع المسلمین فإن النهی عنه إنما هو لانطباق عنوان تقویة الکفر علیه و یدل علی ذلک جواز بیع السلاح علیهم إذا لم یفض ذلک الی تقویتهم علی المسلمین و لهذا حرم نقل السلاح إلیهم بغیر البیع أیضا کإجارته علیهم و هبته لهم و إعارته إیاهم إذا لزم منه المحذور المذکور.

و من هنا یتضح ان بین عنوان بیع السلاح منهم و بین عنوان تقویة الکفر و إعانته عموما من وجه إذ قد یباع السلاح علیهم و لا یلزم منه تقویتهم کبیعه منهم حال الصلح مثلا أو حال حربهم مع الکفار الآخرین أو مع المسلمین و لکن بشرط تأخیر التسلیم الی ما بعد الحرب أو بدون الشرط المذکور و لکن یؤخذ التسلیم قهرا علیهم فان هذه الموارد لا یلزم من البیع فیها اعانة کفر علی إسلام،و قد تحصل تقویة الکفر علی الإسلام بغیر البیع کالإجارة السلاح علیهم أو هبته منهم،و قد یجتمعان و إذن فتعلق النهی بتقویة الکفر علی الإسلام لا یستلزم حرمة بیع السلاح لأعداء الدین إلا فی مادة الاجتماع،نعم لو کان بین العنوانین تلازم خارجا لتوجه الالتزام بحرمة بیع السلاح منهم مطلقا و لکنک عرفت ان الأمر علی خلافه.

(و الثانی)أن یتوجه النهی إلی المعاملة من جهة تعلقها بشیء مبغوض کالنهی عن بیع الخمر و الخنزیر و الصلیب و الصنم و آلات القمار و غیرها من الآلات المحرمة فإن النهی عن بیع تلک الأمور إنما هو لمبغوضیتها لا بلحاظ عنوان طارئ علی المعاملة کما فی القسم الأول.

(و الثالث)أن یکون النهی عن المعاملة باعتبار ذاتها کالنهی عن البیع وقت النداء

ص:28

لصلاة الجمعة و النهی عن بیع المصحف و المسلم من الکافر بناء علی حرمة بیعهما منه فإن النهی عن البیع فی هذا القسم لیس بلحاظ العناوین الطاریة علیه و لا بلحاظ مبغوضیة متعلقة بل لأجل مبغوضیة نفسه.

إذا عرفت ما تلونا علیک ظهر لک ان تقیید موضوع حرمة البیع بالتسلیم و التسلم المستلزم لتقید أدلة تحریمه إنما یتم فی القسم الأول فقط دون الثانی و الثالث فلا بد فیهما من الأخذ بإطلاق أدلة التحریم لعدم ثبوت ما یصلح لتقییدها،نعم لو کان دلیلنا علی التحریم هو عموم ما دل علی حرمة الإعانة علی الإثم أو الملازمة بین حرمة الشیء و حرمة مقدمته لجاز تقیید موضوع حرمة البیع بالتسلیم و التسلم فإن الإعانة علی الإثم و المقدمیة إلی الحرام لا یتحققان إلا بالتسلیم و التسلم.

(الوجه الثانی)أن یراد من حرمة البیع حرمة إیجاده بقصد ترتب إمضاء العرف

و الشرع علیه

بحیث لا یکفی مجرد صدوره من البائع خالیا عن ذلک القصد.

(و فیه)انه لا وجه لتقیید موضوع حرمة البیع بذلک أیضا لما مر من إطلاق أدلة تحریم البیع مع عدم وجود ما یصلح لتقییدها و من هنا لو باع أحد شیئا من الأعیان المحرمة کالخمر مثلا مع علمه بکونه منهیا عنه فقد ارتکب فعلا محرما و إن کان غافلا عن قصد ترتب إمضاء الشرع و العرف علیه فإنه لا دلیل علی دخالة قصد امضائهما فی حرمة بیع الخمر.

(الوجه الثالث)ما أفاده العلامة الأنصاری

و حاصل کلامه ان المراد من حرمة البیع حرمة النقل و الانتقال مقیدة بقصد ترتب الأثر المحرم علیه کبیع الخمر للشرب و آلات القمار للعب و الصلیب و الصنم للتعبد بهما.

(و فیه)ان تقیید ما دل علی تحریم البیع بالقصد المذکور تقیید بلا موجب له إذا البیع کغیره من الأفعال إذا حکم الشارع بحرمته وجب التمسک بإطلاق دلیله حتی یثبت له المقید، نعم لو کان الدلیل علی حرمة البیع هو ما تقدمت الإشارة إلیه من الملازمة بین حرمة الشیء و حرمة مقدمته أو عموم ما دل علی تحریم الإعانة علی الإثم لتم ما ذکره فی الجملة لکن الکلام أعم من ذلک.

(و اما)ما فی المتن من دعوی انصراف الأدلة إلی صورة قصد ترتب الآثار المحرمة فهی دعوی جزافیة،و نظیرها أن یدعی انصراف أدلة تحریم الزنا مثلا الی ذات البعل و الالتزام بمثل هذه الانصرافات یستدعی تأسیس فقه جدید،نعم لدخالة قصد ترتب الأثر المحرم أو المحلل فی حرمة البیع و حلیته فی مثل بیع الصلیب و الصنم وجه کما سیأتی فی النوع الثانی مما یحرم التکسب به.

ص:29

(لا یقال)انه لا مناص عن تقیید حرمة البیع بقصد ترتب الأثر المحرم علیه فان من الجائز قطعا إعطاء الدرهم للخمار و أخذ خمره للاهراق مثلا.

(فإنه یقال)ان ذلک و إن کان جائزا إلا انه لا یرتبط بأصل المعاملة بل هو من أنحاء النهی عن المنکر و قطع مادة الفساد.

و الذی یقتضیه النظر الدقیق ان ما یکون موضوعا لحلیة البیع بعینه یکون موضوعا لحرمته،بیان ذلک ان البیع لیس عبارة عن الإنشاء الساذج سواء کان الإنشاء بمعنی إیجاد المعنی باللفظ کما هو المعروف بین الأصولیین أم کان بمعنی إظهار ما فی النفس من الاعتبار کما هو المختار عندنا و إلا لزم تحقق البیع بلفظ بعت خالیا عن القصد،و لا ان البیع عبارة عن مجرد الاعتبار النفسانی من دون أن یکون له مظهر و إلا لزم صدق البائع علی من اعتبر ملکیة ماله لشخص آخر فی مقابل الثمن و ان لم یظهرها بمظهر کما یلزم حصول ملکیة ذلک المال للمشتری بذاک الاعتبار الساذج الحالی من المبرز،بل حقیقة البیع عبارة عن المجموع المرکب من ذلک الاعتبار النفسانی مع إظهاره بمبرز خارجی سواء تعلق به الإمضاء من الشرع و العرف أم لم یتعلق بل سواء کان فی العالم شرع و عرف أم لم یکن،و إذن فذلک المعنی هو الذی یکون موضوعا لحرمة البیع و هو الذی یکون موضوعا لحلیته و هکذا الکلام فی سائر المعاملات کما حققناه فی الأصول و سیأتی التعرض له فی أول البیع ان شاء اللّه.

قوله:فهو متفرع علی فساد البیع. أقول بعد أن أثبتنا ان موضوع الحلیة و الحرمة فی المعاملات شیء واحد و ان ترتب الأثر علی المعاملة من النقل و الانتقال أو غیر ذلک خارج عن حقیقتها،و بعد أن أوضحنا عند التکلم فی الروایات العامة المتقدمة ان الحرمة التکلیفیة لا تستلزم الحرمة الوضعیة ظهر لک بطلان ما ذهب الیه المشهور من ان حرمة المعاملة تستلزم فسادها،کما ظهر بطلان ما نسب الی أبی حنیفة من ان حرمة المعاملة تستلزم صحتها،و انه لا بد فی إثبات صحتها و فسادها من التماس دلیل آخر غیر ما دل علی الحرمة التکلیفیة و قد أوضحناه فی الأصول،و تترتب علی ذلک ثمرات مهمة فی المباحث الآتیة.

قوله:اما لو قصد الأثر المحلل. أقول قد بینا ان البیع المحرم لا یخرج بقصد الأثر المحلل عن الحرمة المتعلقة به بعنوان البیع،و ان قصد الأثر المحرم لا یکون مأخوذا فی موضوع تحریم البیع فلا مجال لدعوی انه لو قصد الأثر المحلل فلا دلیل علی تحریم المعاملة، نعم لو قصد حلیته شرعا مع کونه محرما لتوجه علیه التحریم من جهة التشریع أیضا کما ان الأمر کذلک فی سائر المحرمات المعلومة إذا أتی بها بعنوان الإباحة.

ص:30

معنی حرمة الاکتساب وضعا

لا یخفی علیک ان معنی الحرمة الوضعیة فی العقود عبارة عن فساد المعاملة و بطلانها بحیث لا یترتب علیها أثر من الآثار،و ان الفاسد و الباطل عندنا و عند غیر الحنفیة بمعنی واحد و هو ما اختل فی تلک المعاملة شیء من الشروط التی اعتبرها الشارع رکنا لها بحیث یلزم من انتفائها انتفاء المشروط فی نظر الشارع.

و اما عند الحنفیة (1)فان الباطل و الفاسد فی البیع مختلفان فلکل واحد منهما معنی یغایر معنی الآخر،فالباطل هو ما اختل رکنه أو محله و رکن العقد هو الإیجاب و القبول کما تقدم،فإذا اختل ذلک الرکن کأن صدر من مجنون أو صبی لا یعقل کان البیع باطلا غیر منعقد،و کذلک إذا اختل المحل و هو المبیع کأن کان میتة أو دما أو خنزیرا فان البیع یکون باطلا.

و اما الفاسد فهو ما اختل فیه غیر الرکن و المحل کما إذا وقع خلل فی الثمن بأن کان خمرا، فإذا اشتری سلعة یصح بیعها و جعل ثمنها خمرا انعقد البیع فاسدا ینفذ بقبض المبیع،و لکن علی المشتری أن یدفع قیمته غیر الخمر،و کذلک إذا وقع الخلل فیه من جهة کونه غیر مقدور التسلیم کما إذا باع شیئا مغصوبا منه لا یقدر علی تسلیمه،أو وقع الخلل فیه من جهة اشتراط شرط لا یقتضیه العقد کما سیأتی،فإن البیع فی کل هذه الأحوال یکون فاسدا لا باطلا،و یعبرون عن الباطل بما لم یکن مشروعا بأصله و وصفه،و یریدون بأصله رکنه و محله کما عرفت،و یریدون بوصفه ما کان خارجا عن الرکن و المحل،و حکم البیع الفاسد انه یفید الملک بالقبض بخلاف البیع الباطل فإنه لا یفید الملک أصلا.

و قال ابن الهمام الحنفی فی شرح فتح القدیر (2):و أیضا فإنه مأخوذ فی مفهومه-الفاسد- أو لازم له انه مشروع بأصله لا وصفه،و فی الباطل غیر مشروع بأصله فبینهما تباین فان المشروع بأصله و غیر المشروع بأصله متباینان فکیف یتصادقان.إلا ان أمثال تلک الأقاویل لا تبتنی علی أساس صحیح من العقل و الشرع و العرف و اللغة.

ص:31


1- 1) راجع ج 2 الفقه علی المذاهب الأربعة ص 224.
2- 2) راجع ج 5 ص 185.

الاکتساب المحرم أنواع

النوع الأول الاکتساب بالأعیان النجسة

جواز المعاوضة علی أبوال ما لا یؤکل لحمه

اشارة

قوله:و یحرم المعاوضة علی أبوال[1]ما لا یؤکل لحمه. أقول فی کلام العلامة الأنصاری هنا و فی المسائل الآتیة خلط بین الحرمة التکلیفیة و الحرمة الوضعیة فقد جعل هنا کلا من النجاسة و الحرمة و عدم جواز الانتفاع بها دلیلا علیهما مع ان الأولین دلیلان علی الحرمة التکلیفیة و الثالث دلیل علی الحرمة الوضعیة.

قوله:فیما عدا بعض أفراده کبول الإبل الجلالة. أقول قال المحقق الایروانی:

لعل هذا استثناء من صدر الکلام أعنی قوله یحرم المعاوضة علی بول غیر مأکول اللحم بتوهم شمول الإجماع المنقول علی جواز بیع بول الإبل له.

(و فیه)أولا ان المصنف لم یستثن بول الإبل الجلالة فیما یأتی من أبوال مالا یؤکل لحمه لا فی حرمة شربه و لا فی نجاسته،و ثانیا ان الفارق بین بول الإبل الجلالة و بین أبوال ما لا یؤکل لحمه لیس إلا کون الأول نجسا بالعرض و کون الثانیة نجسة بالذات و مجرد هذا لا یکون فارقا بینهما حتی یصح الاستثناء،و الظاهر انه استثناء من قوله(و عدم الانتفاع به) أی لیس لأبوال ما لا یؤکل لحمه نفع ظاهر إلا بول الإبل الجلالة فإنه کبول الإبل غیر الجلالة لها منفعة ظاهرة.

تنقیح و تهذیب

قد انتقت کلمات الأصحاب علی حرمة بیع أبوال ما لا یؤکل لحمه بل فی بعضها دعوی الإجماع بقسمیه علی ذلک،و فی المراسم (1)حکم بحرمة بیع الأبوال مطلقا إلا بول الإبل، و فی الغنیة (2)منع عن بیع کل نجس لا یمکن تطهیره،و فی نهایة الشیخ (3)و جمیع النجاسات محرم التصرف فیها و التکسب بها علی اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال

ص:32


1- 1) أول المکاسب.
2- 2) أوائل البیع.
3- 3) باب المکاسب المحظورة.

و غیرهما،و فی المبسوط (1):فاما نجس العین فلا یجوز بیعه کالبول،و فی التذکرة (2):

الإجماع علی عدم صحة بیع نجس العین مطلقا،و فی المستند (3):تحریم بیع الأبوال مما لا یؤکل لحمه شرعا موضع وفاق،و فی الجواهر (4):ادعی قیام الإجماع المحصل علی الحرمة و ان نقل الإجماع بین الأصحاب مستفیض علیها،و علی هذا الضوء المذاهب الأربعة،و فی الفقه علی المذاهب الأربعة (5):و من البیوع الباطلة بیع النجس،و فی شرح فتح القدیر (6)إذا کان أحد العوضین أو کلاهما محرما فالبیع فاسد.

ثم انه قد استدل المصنف علی حرمة بیع أبوال ما لا یؤکل لحمه وضعا و تکلیفا بالإجماع و الحرمة و النجاسة و عدم جواز الانتفاع بها،و جمیعا لا یصلح لإثبات الحرمة التکلیفیة و لا الوضعیة.

أما الجماع و ان نقله غیر واحد و من أعاظم الأصحاب إلا أن إثبات الإجماع التعبدی هنا مشکل جدا للاطمئنان بل العلم بأن مستند المجمعین إنما هو الروایات العامة المتقدمة، و الروایات الخاصة المذکورة فی بیع الأعیان النجسة،و الحکم بحرمة الانتفاع بها،مضافا الی ان المحصل منه غیر حاصل و المنقول منه غیر حجة.

أما الحرمة فإن أراد منها حرمة الأکل و الشرب فالکبری ممنوعة لعدم الدلیل علی ان کلما یحرم أکله أو شربه یحرم بیعه،و لو فرضنا وجود دلیل علی ذلک فلا بد من تخصیص أکثر أفراده فإن کثیرا من الأشیاء یحرم أکلها و یجوز بیعها و ذلک مستهجن یوجب سقوط الدلیل عن الحجیة،و ان أراد منها حرمة الانتفاع بها بجمیع منافعها أو بالمنافع الظاهرة فهو و ان استلزم حرمة البیع کما تقدم فی النبوی المشهور و لکن الصغری ممنوعة لعدم الدلیل علی تحریم جمیع المنافع أو المنافع الظاهرة لتلک الأبوال و سیأتی تفصیلها.

و اما النجاسة فإن روایة تحف العقول و ان دلت علی حرمة بیع النجس لقوله«ع»فیها (أو شیء من وجوه النجس فهذا کله حرام محرم لأن ذلک کله منهی عن اکله و شربه و لبسه و ملکه و إمساکه و التقلب فیه فجمیع تقلبه فی ذلک حرام)إلا ان ذلک فیما تکون منافعه کلها محرمة کما هو مقتضی التعلیل المذکور فیها،و اما إذا کان للنجس منفعة محللة فلا دلیل علی حرمة بیعه و أبوال ما لا یؤکل لحمه مما له منفعة محللة و مقتضی ذلک جواز بیعها،اللهم إلا ان یقال ان کل نجس یحرم الانتفاع به بجمیع منافعه فإذا کان کذلک حرم بیعه

ص:33


1- 1) فصل فی حکم ما یصح بیعه و ما لا یصح.
2- 2) ج 1 شرائط العوضین.
3- 3) ج 2 ص 334.
4- 4) ج متاجر أوائل المکاسب المحرمة.
5- 5) ج 2 ص 231
6- 6) ج 5 ص 186.

و شرائه و لکنه دعوی بلا دلیل،هذا مضافا الی ضعف سندها و عدم انجبارها بعمل الأصحاب کما عرفت.

علی انه لو سلمنا دلالة الحرمة و النجاسة علی حرمة البیع لدلتا علی الحرمة التکلیفیة دون الوضعیة کما تقدم فی أول المسألة.

و مما ذکرنا ظهر أن المشهور لم یستندوا فی فتیاهم بحرمة بیع النجس إلی روایة تحف العقول،و لا الی غیرها من الروایات العامة المتقدمة کروایة فقه الرضا«ع»الدالة علی أن کلما یکون محرما من جهة یحرم بیعه،و لو کان مستندهم ذلک لم یکن الحکم بحرمة البیع مختصا بالنجس بل کان یعم سائر المحرمات و لو کانت من الأعیان الطاهرة کأبوال ما لا یؤکل لحمه بناء علی حرمة شربها.

و أما عدم جواز الانتفاع بها فربما قیل بأنه یستلزم فساد البیع و إن لم یقم دلیل علی حرمة ذلک البیع تکلیفا لأن حرمة الانتفاع بها یستلزم نفی مالیتها التی لا بد منها فی تحقق البیع و فیه أولا انه لا دلیل علی اعتبار المالیة فی البیع و إنما المناط صدق عنوان المعاوضة علیه و أما ما عن المصباح من أنه مبادلة مال بمال فلا یکون دلیلا علی ذلک لعدم حجیة قوله.

و ثانیا إذا سلمنا اعتبار المالیة فی البیع فلا نسلم أن أبوال ما لا یؤکل لحمه لیست بمال فی جمیع الأزمنة و الأمکنة کیف و أن الانتفاع بها باستخراج الأدویة أو الغازات أو استعمالها فی العمارة عند قلة الماء ممکن جدا فتکون مالا باعتبار تلک المنافع الظاهرة،و مثلها أکثر المباحات التی تختلف مالیتها بحسب الأزمنة و الأمکنة کالماء و الحطب و نحوهما،و من هنا یعلم أن الشرب لیس من منافعها حتی یلزم من حرمته سقوط مالیتها،اللهم إلا أن یقال ان الشارع قد ألغی مالیتها بتحریم جمیع منافعها،و لکنه أول الکلام.

و ثالثا إذا سلمنا اعتبار المالیة فی البیع فیکفی أن یکون المبیع مالا بنظر المتبایعین إذا کان عقلائیا و لا یجب کونه مالا فی نظر العقلاء أجمع.

و رابعا لو سلمنا عدم کون الأبوال المذکورة مالا حتی فی نظر المتبایعین فإن غایة ما یلزم کون المعاملة علیها سفهیة و لا دلیل علی بطلانها بعد شمول أدلة صحة البیع لها،و الفاسد شرعا إنما هو معاملة السفیه لا المعاملة السفهائیة،و الدلیل علی الفساد فیها أن السفیه محجور شرعا عن المعاملات،هذا کله مضافا الی صحة المعاملة علیها بمقتضی آیة التجارة و إن لم یصدق علیها البیع،و قد اتضح مما قدمناه جواز بیع أبوال ما لا یؤکل لحمه وضعا و تکلیفا کما اتضح جواز بیع أبوال ما یؤکل لحمه مطلقا بل الجواز هنا بالأولویة إبلا کان أو غیرها جلالا کان أو غیره قلنا بجواز شربه اختیارا أو لم نقل لأن جواز الشرب لا یعد من منافع

ص:34

البول لیکون مالا باعتباره و یدور الحکم بجواز البیع مداره.

وهم و دفع

قد استدل المحقق الایروانی«ره»علی فساد المعاملة علیها بقوله تعالی (1): «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْکُمْ» علی أن یراد من الباطل ما یعم الباطل العرفی و الشرعی،و مراد المستدل أن أخذ المال عوضا عن أبوال مالا یؤکل لحمه أکل للمال بالباطل.

(و فیه)أن دخول باء السببیة علی الباطل و مقابلته فی الآیة للتجارة عن تراض-و لا ریب ان المراد بالتجارة هی الأسباب-قرینتان علی کون الآیة ناظرة إلی فصل الأسباب الصحیحة لا معاملة عن الأسباب الباطلة کما نبه علیه المستدل فی أول البیع و غیره،و علی ذلک فیکون الغرض من الباطل الأسباب الباطلة فلا یکون لها تعلق بما لا مالیة له من العوضین کما یرومه المستدل،کما أن المراد من الأکل فیها لیس هو الازدراد علی ما هو معناه الحقیقی بل هو کنایة عن تملک مال الغیر من غیر استحقاق و إن کان ذلک المال من غیر المأکولات کالدار و نحوها،و قد تعارف استعماله بذلک فی القرآن و فی کلمات الفصحاء بل و فی غیر العربیة أیضا.

و علی هذا فان کان الاستثناء متصلا کما هو الظاهر و الموافق للقواعد العربیة،فیکون مفاد الآیة نفی تملک أموال الغیر بالأسباب الباطلة من القمار و الغصب و الغزو و بیع المنابذة و الحصاة و التقسیم بالأزلام و الأقداح،إلا بسبب یکون تجارة عن تراض فتفید حصر الأسباب الصحیحة للمعاملات بالتجارة عن تراض،و إن کان الاستثناء منقطعا فظهور الآیة البدوی و إن کان هو بیان القاعدة الکلیة لکل واحد من أکل المال بالباطل و التجارة عن تراض و لا تعرض لها للحصر،و تظهر ثمرة ذلک فیما لا یعد فی العرف من الأسباب الباطلة و لا من التجارة عن تراض فیکون مهملا،إلا أنه تعالی حیث کان بصدد بیان.الأسباب المشروعیة للمعاملات و تمیز صحیحها عن فاسدها و کان الإهمال مما یخل بالمقصود فلا محالة یستفاد الحصر من الآیة بالقرینة المقامیة،و تکون النتیجة أن الآیة مسوقة لبیان حصر الأسباب الصحیحة بالتجارة عن تراض سواء کان الاستثناء متصلا أم منقطعا،و مما یدل علی کون الآیة راجعة إلی أسباب المعاملات تطبقها فی بعض الروایات[1]علی القمار.

ص:35


1- 1) راجع سورة النساء آیة 33.

قوله:کبول الإبل الجلالة. أقول بعد ما عرفت جواز الانتفاع بالأبوال مطلقا و جواز بیعها کذلک فلا وجه لهذا الاستثناء.

قوله:إن قلنا بجواز شربها اختیارا کما علیه جماعة. أقول قد ظهر مما تقدم ان جواز الشرب أو حرمته لیسا مناطین فی جواز بیعا و حرمته لعدم کون الشرب من المنافع

ص:36

الظاهرة لیدور الحکم علیه وجودا و عدما،إذن فلا فرق بین أبوال ما یؤکل لحمه و ما لا یؤکل لحمه.

استطراد فی حرمة شرب أبوال ما یؤکل لحمه لغیر التداوی

قد وقع الخلاف بین أعاظم الأصحاب فی جواز شرب أبوال ما یؤکل لحمه حال الاختیار و عدم جوازه،و ذهب جمع کثیر الی الجواز،و جماعة أخری إلی الحرمة و هو الحق، لمفهوم موثقة عمار[1]فإنه یدل علی حرمة شربها لغیر التداوی،کما تدل علی ذلک أیضا عدة روایات اخری من الخاصة[2]و العامة[3].

ص:37

نعم هناک روایتان[1]إحداهما روایة قرب الاسناد تدل علی جواز شرب أبوال مأکول اللحم علی وجه الإطلاق و الثانیة روایة الجعفری تدل علی جواز شرب بول الإبل مطلقا و انه خیر من لبنه.

(و فیه)مضافا الی ضعف سندیهما،انه لا بد من تقییدهما بمفهوم موثقة عمار المتقدمة، و حینئذ فیختص جواز شربها بالتداوی فقط،علی أن روایة الجعفری لیست بصدد بیان.الجواز التکلیفی بل هی مسوقة إلی بیان الوجهة الطیبة و ان أبوال الإبل مما یتداوی بها الناس و یدل علی ذلک قوله«ع»فی ذیل الروایة«و یجعل اللّه الشفاء فی ألبانها».

دفع توهم

قد استدل بعض الأعاظم (1)علی حرمة شربها بقوله تعالی (2): «وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ» حیث قال:و عندی ان هذا القول هو الأقوی و فی آیة تحریم الخبائث غنی و کفایة بعد القطع بکون البول مطلقا من الخبائث.

(و فیه)ان المقصود من الخبائث کل ما فیه مفسدة و ردائه و لو کان من الافعال المذمومة

ص:38


1- 1) المامقانی فی حاشیته علی المتن.
2- 2) سورة الأعراف آیة 156.

المعتبر عنه فی الفارسیة لفظ«پلید»و یدل علی ذلک إطلاق الخبیث علی العمل القبیح فی قوله تعالی (1): وَ نَجَّیْناهُ مِنَ الْقَرْیَةِ الَّتِی کانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» و یساعده العرف و اللغة[1] و إذن فالآیة ناظرة إلی تحریم کل ما فیه مفسدة و لو من الأعمال القبیحة فلا تعم شرب الأبوال الطاهرة و نحوها مما تتنفر عنها الطبائع.

قوله:لا یوجب قیاسه علی الأدویة. أقول هذا الکلام بظاهره مما لا یترقب صدوره من المصنف،و ذلک لان التداوی بها لبعض الأوجاع یجعلها مصداقا لعنوان الأدویة،فکما

ص:39


1- 1) سورة الأنبیاء آیة 72.

یجوز بیعها حتی إذا کانت نجسة،فکذلک یجوز بیع الأبوال مطلقا لکونها مصداقا للادویة و انطباق الکلی علی أفراده غیر مربوط بالقیاس،و توضیح ذلک ان مالیة الأشیاء تدور علی رغبات الناس بلحاظ حاجاتهم إلیها علی حسب الحالات و الأزمنة و الأمکنة،و لا شبهة ان المرض من الحالات التی لأجلها یحتاج الإنسان إلی الأدویة و العقاقیر طاهرة کانت أم نجسة و لأجل ذلک یجلبها الناس من أقاصی البلاد،فإذا کانت الأبوال عند العرف من الأدویة و یعد من الأموال فی غیر حال المرض کانت کسائر الأدویة التی یحتاج إلیها الناس فی حال المرض و لا مجال لتفریقها عنها.

اللهم إلا أن یکون مراد المصنف سقوط مالیة الأبوال لکثرتها.

(و فیه)مضافا الی کونه خلاف الظاهر من کلامه،و الی منع کثرتها فی جمیع البلاد ان الکثرة لا توجب سقوط مالیتها بعد إمکان الانتفاع بها فی بعض الأمکنة و إلا لزم سلب المالیة عن أکثر المباحات،نعم لا یبعد الالتزام بسقوط مالیتها إذا لم ینتفع بها فی محلها و لم یمکن نقلها الی محل ینتفع بها فیه.

و مما ذکرنا علم ان التداوی بالابوال من المنافع الظاهرة لها فلا وجه لعدها فیما لا نفع فیه کما لا وجه للنقض علی ذلک بأنه لو کان التداوی بها موجبا لصحة بیعها لجاز بیع کل شیء من المحرمات لقوله«ع»[1]:«لیس شیء مما حرمه اللّه إلا و قد أحله لمن اضطر الیه» و ذلک لما بینا من ان المرض من الأحوال المتعارفة للإنسان فلا یقاس بالاضطرار الذی لا یتفق فی العمر إلا نادرا.

و من هنا یتضح الفرق بین الأبوال و بین المیتة و لحوم السباع و غیرهما من المحرمات التی یحتاج إلیها الإنسان عند الاضطرار،و لذلک فلا یتجر أحد بلحوم السباع و نحوها لاحتمال الحاجة إلیها و هذا بخلاف الأدویة فإن بیعها و شرائها من التجارات المهمة.

قوله:و لو عند الضرورة المسوغة للشرب. أقول لا تعرض فی شیء من الروایات العامة و غیرها للتعلیق جواز بیع الأبوال الطاهرة غیر بول الإبل علی جواز شربها.

قوله:و لا ینتقص أیضا بالأدویة المحرمة. أقول قوله:لأجل الإضرار تعلیل للحرمة،و حاصل النقض إن الأبوال الطاهرة تکون بحکم الأدویة،فکما أن الأدویة محرمة الاستعمال فی غیر حال المرض لاضرارها بالنفس و مع ذلک یجوز بیعها و استعمالها عند المرض

ص:40

فی حال المرض لأجل تبدل عنوان الإضرار بعنوان النفع،و هذا بخلاف الأبوال فان حلیتها لیست إلا لأجل الضرورة فالنقض فی غیر محله.

و لکن الإنصاف أن ما أفاده المصنف نقضا و جوابا غیر تام،أما الجواب فلأنا لا نجد فرقا بین الأبوال و سائر الأدویة،و إذا کان الاحتیاج إلی الأدویة موجبة لتبدل عنوان الضرر الی النفع فلیکن الاحتیاج إلی الأبوال فی حال المرض کذلک،مع أن الأمر لیس کذلک فان من الواضح جدا ان الاحتیاج إلی الأدویة و العقاقیر حال المرض لیس من قبیل تبدل موضوع الضرر بموضوع النفع کانتقال موضوع التمام الی موضوع القصر،و إنما هو کالاحتیاج إلی سائر الأشیاء بحسب الطبع.

و أما النقض ففیه(أولا)انه لا یجوز أن تعلل حرمة الأدویة فی غیر حال المرض بالإضرار،لأنه من العناوین الثانویة فلا یمکن أن یکون علة لثبوت الحرمة للشیء بعنوانه الأولی،و لو صح ذلک لم یوجد شیء یکون حلالا بعنوانه الأولی إلا نادرا،و ذلک لانه لا بد من عروض عنوان الضرر علیه فی مرتبة من مراتب استعماله فیکون حراما.

و(ثانیا)ان عنوان الإضرار لیس مما تکون الحرمة ثابتة علیه بالذات،أو بعنوان غیر منفک عنه لانه لیس أمرا مضبوطا بل یختلف بالإضافة إلی الأشخاص و الأزمنة و الأمکنة و المقدار،و ربما یکون الشیء مضرا بالإضافة إلی شخص جار المزاج دون غیره،و بالنسبة إلی منطقة دون منطقة،أو بمقدار خاص دون الأقل منه،بل لو کان عنوان الإضرار موجبا لحرمة البیع لما جاز بیع شیء من المشروبات و المأکولات،إذ ما من شیء إلا و هو مضر للمزاج أزید من حده،نعم لو دل دلیل علی أن ما أضر کثیره فقلیله حرام کما ورد (1)فی الخمر(فما أسکر کثیره فقلیله حرام)لتوجه ما ذکره من النقض،و قد تمسک بعض العامة بذلک عند بحثنا معه فی حرمة شرب التتن،و أجبنا عنه بأنه لو صح ما أضر کثیره فقلیله حرام للزم الالتزام بحرمة جمیع المباحات فان من الواضح أنه ما من شیء فی العالم إلا و تکون مرتبة خاصة منه مضرة لامزاج.

(حرمة ببیع شحوم ما لا یؤکل لحمه)

قوله:و لا ینافیه النبوی[1]لعن اللّه الیهود. أقول وجه التنافی هو توهم الملازمة

ص:41


1- 1) قد تقدم فی ص 18.

بین حرمة الأکل و حرمة البیع،و أجاب عنه المصنف بأن الظاهر أن الشحوم کانت محرمة الانتفاع علی الیهود بجمیع الانتفاعات لا کتحریم شحوم غیر مأکول اللحم علینا.

(و فیه)أنه لا منشأ لهذا الظهور لا من الروایة و لا من غیرها بل الظاهر منها حرمة أکلها فقط،کما هو المستفاد من الآیة[1]أیضا فإن الظاهر من تحریم الشحوم فیها تحریم أکلها لکونه منفعة ظاهرة لها،إلا انک عرفت (1)فی البحث عن النبوی المشهور أن حرمة الأکل لا یستلزم حرمة البیع وضعا و تکلیفا باتفاق من الشیعة و من العامة.

قوله:و الجواب عنه مع ضعفه. أقول قال المحقق الایروانی ظاهر النبوی ما حرم أکله من المأکولات أعنی ما یقصد للأکل دون ما حرم أکله مطلقا لیخالف غرض المصنف و یلزم تخصیص الأکثر حتی یضطر الی تضعیفه سندا و دلالة.

(و فیه)مضافا الی کونه حملا تبرعیا انه یلزم تخصیص الأکثر أیضا لجواز بیع المأکولات و المشروبات المحرمة إذا کانت لها منافع محللة،ثم ان الظاهر من ذیل کلامه استظهار ضعف الروایة من عبارة المصنف من غیر جهة تخصیص الأکثر،إلا انه ناشئ من غلط النسخة و من زیادة کلمة مع قبل کلمة ضعفه.

(لا یقال)لو سلمنا حرمة الإعانة علی الإثم لکان الظاهر من الروایة هو بیع الیهود شحومهم من غیرهم،و لم یعلم حرمته علی غیر الیهود،بل الظاهر من الآیة المبارکة اختصاص التحریم بهم،مع انه لو قطع النظر عن هذا الظهور لکان تقیید الروایة بما إذا کان البیع للأکل بلا موجب.

ص:42


1- 1) ص 23.

جواز بیع العذرة

قوله:یحرم بیع العذرة النجسة من کل حیوان علی المشهور. أقول المعروف بین الفقهاء رضوان اللّه علیهم حرمة بیع العذرة النجسة من کل حیوان،بل فی التذکرة (1)لا یجوز بیع سرجین النجس إجماعا منا،و فی الجواهر ادعی الإجماع بقسمیه علی حرمة بیع أرواث مالا یؤکل لحمه،و فی النهایة (2)جعل بیع العذرة من المکاسب المحظورة،و فی الغنیة (3)منع عن بیع سرقین ما لا یؤکل لحمه،و فی المراسم (4)حکم بحرمة بیع العذرة، و فی المستندة (5)انه موضع وفاق،و علی هذا اتفاق المذاهب الأربعة[1]ثم ان تحقیق هذه المسألة فی ضمن مقامین الأول من حیث القواعد و الإجماعات و الروایات العامة،و الثانی من حیث الروایات الخاصة الواردة فی خصوص هذه المسألة.

أما المقام الأول من حیث القواعد و الإجماعات و الروایات العامة فقد ظهر من المسألة السابقة و ما قبلها انه لا یجوز الاستدلال بشیء من تلک الأمور علی حرمة البیع و فساده.

و أما المقام الثانی من حیث الروایات الخاصة فالروایات الواردة هنا علی ثلث طوائف الأولی[2]ما یدل علی حرمة بیع العذرة و کون ثمنها سحتا،الثانیة[3]ما یدل علی جواز بیعها و هی روایة ابن مضارب

ص:43


1- 1) ج 1 ص 3 من البیع.
2- 2) باب المکاسب المحظورة.
3- 3) ص 2 من البیع.
4- 4) ص 1 من المکاسب.
5- 5) ج 2 ص 334.

الثالثة[1]ما یدل علی جواز بیعها و حرمته معا و هی روایة سماعة.

و للجمع بینها وجوه للاعلام،الأول ما ذکره شیخ الطائفة(ره)من حمل روایة المنع علی عذرة الإنسان،و روایة الجواز علی عذرة البهائم مما یؤکل لحمه،و استشهد علی ذلک بروایة سماعة،قال فی التهذیب بعد ما نقل روایة الجواز انه و لا ینافی ذلک ما رواه یعقوب ابن شعیب،لان هذا الخبر محمول علی عذرة الإنسان،و الأول محمول علی عذرة البهائم من الإبل و البقر و الغنم،و لا تنافی بین الخبرین،و الذی یکشف عما ذکرناه روایة سماعة، و فی المبسوط (1)فلا یجوز بیع العذرة و السرجین مما لا یؤکل لحمه،و فی الخلاف (2)فالسرجین النجس محرم بالإجماع فوجب أن یکون بیعه محرما.

إذا عرفت مسلکه من کتبه الثلاثة فلا تغتر بإطلاق کلامه فی الاستبصار،حیث حمل روایة الجواز علی عذرة غیر الآدمیین،و روایة المنع علی عذرة الناس،ثم استشهد علیه بروایة سماعة فإن مراده من غیر الآدمیین إنما هو ما یؤکل لحمه فقط فلا یعم غیر المأکول.

(و فیه)أولا انه ثبت فی محله أن کون الدلیل نصا فی مدلوله غیر کون بعض أفراده متیقنا فی الإرادة من الخارج علی تقدیر صدور الحکم،فما هو الموجب لرفع الید عن الحکم هو الأول دون الثانی،ففی مثل الأمر[2]بغسل الثوب من بول الخفاش الصریح فی المحبوبیة و الظاهر فی الوجوب،و ما ورد[3]من ان بول الخفاش لا بأس به،الصریح فی جواز

ص:44


1- 1) فصل فی حکم ما یصح بیعه و ما لا یصح.
2- 2) ج 1 ص 225.

الترک،و الظاهر فی الإباحة الخاصة،برفع الید عن ظهور کل منهما بصریح الآخر فیثبت الاستحباب،و أما فی أمثال المقام حیث لا صراحة للدلیل فی شیء،فلا موجب للجمع المذکور فإنه تبرعی محض و خارج عن صناعة الجمع الدلالی العرفی فلا یوجب رفع التعارض بوجه،إذن فلا بد إما من طرحهما و إما الرجوع الی المرجحات السندیة،أو الخارجیة من موافقة الکتاب أو مخالفة العامة.

و بعبارة اخری أن الجمع العرفی بین الدلیلین بطرح ظهور کل منهما بنص الآخر إنما یجری فیما کانت لکل منهما قرینیة لرفع الید عن ظهور الآخر،کالجمع بین الأمر و الترخیص،بحمل الأول علی الاستحباب و الثانی علی الکراهة،و هذا بخلاف ما إذا ورد النفی و الإثبات علی مورد واحد کما فیما نحن فیه،فإنه من أوضح موارد المتعارضین.

(و ثانیا)سلمنا ذلک إلا أن إطلاق العذرة علی مدفوعات ما یؤکل لحمه ممنوع جدا، و إنما یطلق علیها لفظ الأرواث أو السرقین و هذا واضح لمن کان له انس بالعرف و اللغة[1] (و ثالثا)سلمنا جواز الإطلاق و صحته إلا ان أخذ المتیقن من الدلیلین المتنافیین لا یعد

ص:45

من الجموع العرفیة،لعدم ابتنائه علی أساس صحیح،بل لو جاز أحد المتیقن من الدلیل لانسد باب حجیة الظواهر و لم یجز التمسک بها،إذ ما من دلیل إلا و له متیقن فی إرادة المتکلم إلا ان یقال بتخصیص ذلک بصورة التعارض و هو کما تری.

(و رابعا)سلمنا ذلک أیضا إلا ان أخذ المتیقن من دلیلی الجواز و المنع لا ینحصر بما ذکر،بل یجوز أخذه منهما بوجه آخر أوجه منه،بأن تحمل روایة الجواز علی فرض کون العذرة المبیعة یسیرة،و روایة المنع علی فرض کونها کثیرة،أو تحمل روایة الجواز علی بلاد تعارف فیها بیع العذرة لأجل التسمید و نحوه،و روایة المنع علی بلاد لم یتعارف فیها بیعها أو غیر ذلک.

(الثانی)أن تحمل روایة الجواز علی بلاد ینتفع بها،و روایة المنع علی بلاد لا ینتفع بها، و قد حکمی المصنف هذا الوجه من المجلسی ثم استبعده.(و فیه)مضافا الی کونه جمعا تبرعیا ان إمکان الانتفاع بها فی مکان یکفی فی صحة بیعها علی وجه الإطلاق،علی أنک عرفت فی بیع الأبوال ان غایة ما یلزم هو کون المعاملة علی أمثال تلک الخبائث سفهیة،و لم یقم دلیل علی بطلانها و صرف العمومات عنها،مع ان الظاهر من قول السائل فی روایة سماعة(انی رجل أبیع العذرة)هو کونه بیاع العذرة و أخذه ذلک شغلا لنفسه،و إنما سئل عن حکمه الشرعی،و هذا کالصریح فی کون بیع العذرة متعارفا فی ذلک الزمان ثم ان هذا الوجه و ان نسبه المصنف إلی المجلسی و لکن لم نجده فی کتبه،بل الموجود فی مرآة العقول (1)نفی البعد عن حمل روایة الجواز علی الکراهة.

(الثالث)ما احتمله السبزواری (2)من حمل روایة المنع علی الکراهة،و روایة الجواز علی الترخیص المطلق،و قد استبعده المصنف أیضا:و لعل الوجه فیه هو أن استعمال لفظ السحت فی الکراهة غیر جار علی المنهج الصحیح،فان السحت فی اللغة[1]عبارة عن الحرام

ص:46


1- 1) ج 3 باب جامع ما یحل الشراء و البیع ص 411.
2- 2) راجع الکفایة المقصد الثانی من التجارة.

إذن فروایة المنع آبیة عن الحمل علیها.

(و فیه)أولا ان لفظ السحت قد استعمل فی الکراهة فی عدة من الروایات[1]فإنه أطلق فیها علی ثمن جلود السباع،و کسب الحجام،و اجرة المعلمین الذین یشارطون فی تعلیم القرآن،و قبول الهدیة مع قضاء الحاجة،و من الواضح جدا انه لیس شیء منها بحرام قطعا،و إنما هی مکروهة فقط،و قد نص بصحة ذلک الاستعمال غیر واحد من أهل اللغة[2]بل الروایات[3]الکثیرة تصرح بجواز بیع جلود السباع و أخذ الأجرة للحجام

ص:47

و تعلیم القرآن حتی مع الاشتراط،و الجمع العرفی یقتضی حمل المانعة علی الکراهة،و علیها فتاوی الأصحاب و إجماعهم،بل فتاوی أکثر العامة[1]إذن فلا وجه للتهویل علی السبزواری بأن کلمة السحت غیر مستعملة فی الکراهة الاصطلاحیة.

(و ثانیا)لو سلمنا حجیة قول اللغوی فغایة ما یترتب علیه ان حمل لفظ السحت علی

ص:48

المکروه خلاف الظاهر،و لا بأس به إذا اقتضاه الجمع بین الدلیلین.

(لا یقال)و ان صح إطلاق کلمه السحت علی الکراهة کصحة إطلاقها علی الحرام،إلا أن نسبته الی الثمن صریحة فی الحرمة،فإنه لا معنی لکراهة الثمن.

(فإنه یقال)ان عنایة تعلق الکراهة بالثمن لا تزید علی عنایة تعلق الحرمة به،فارادة الثانی من کلمة السحت دون الأول مع صحة استعمالها فیهما تحتاج إلی قرینة معینة،و من هنا ذکر فی لسان العرب السحت یرد فی الکلام علی المکروه مرة،و علی الحرام اخری،و یستدل علیه بالقرائن،غایة الأمر انه إذا تعلقت الحرمة بالثمن فیستفاد من ذلک الحرمة الوضعیة أعنی بها فساد البیع زائدا علی حرمة التصرف فی الثمن،بخلاف تعلق الکراهة به،فإنه متمحض فی الدلالة علی الحکم التکلیفی کما فی ثمن جلود السباع و نحوه.

(الرابع)أن تحمل روایة الجواز علی الجواز التکلیفی لظهور کلمة لا بأس فی ذلک، و روایة المنع علی الحرمة الوضعیة،فتصیر النتیجة ان بیع العدة فاسد و غیر حرام.

(و فیه)مضافا الی کونه جمعا تبرعیا ان استعمال لا بأس فی الجواز التکلیفی و مقابله فی البأس الوضعی من الغرابة بمکان کاد أن یلحق بالأغلاط و لم نسمع الی الآن نظیر ذلک الاستعمال،بل هما متمحضان لبیان الحکم الوضعی و ان کان یستفاد منهما الحکم التکلیفی أحیانا بالالتزام،و من هنا ترون ان الفقهاء رضوان اللّه علیهم یتمسکون بالأمر بشیء و بالنهی عن شیء فی الصلاة لإثبات الجزئیة و المانعیة فیها،علی أن قوله«ع»فی روایة سماعة(حرام بیعها و ثمنها)ظاهر فی الحرمة التکلیفیة لو لم یکن نصا فیها فلا وجه لرفع الید عنها و حملها علی الحرمة الوضعیة.

(الخامس)ما اختاره العلامة المامقانی«ره»و قال الأقرب عندی حمل قوله«ع» لا بأس ببیع العذرة علی الاستفهام الإنکاری.و لعل هذا مراد المحدث الکاشانی حیث قال و لا یبعد أن یکون اللفظتان مختلفتین فی هیئة التلفظ و المعنی و ان کانتا واحدة فی الصورة.

(و فیه)مضافا الی کونه محتاجا الی علم الغیب،انه خلاف الظاهر من الروایة فلا یجوز المصیر الیه بمجرد الاحتمال.

و التحقیق انه لا یجوز العمل بروایات المنع لوجهین،الأول عدم استیفائها شرائط الحجیة بنفسها،أما روایة ابن شعیب فلضعف سندها،لا للإرسال کما زعمه صاحب الجواهر، اغترارا بإرسال العلامة فی المنتهی،بل لجهالة علی بن مسکین أو سکن،و کذا روایة دعائم الإسلام،و توهم انجبارهما بعمل المشهور توهم فاسد،فإنه مضافا الی فساد الکبری،ان الحکم غیر مختص بالعذرة،بل شامل لغیرها من النجاسات،و أما روایة سماعة فهی و إن کانت

ص:49

موثقة،إلا انه لا یجوز الاعتماد علیها،اما لإجمالها لمعارضة صدرها مع ذیلها إن کانت روایة واحدة،و إما للتعارض و التساقط لو کانت روایتین،و لکن یدل علی التعدد من الروایة أمور:الأول اقتران کلمة قال فیها بالواو،و الثانی وضع المظهر فیها موضع المضمر،فإنها لو کانت روایة واحدة لکان للإمام«ع»أن یقول و لا بأس ببیعها بدل قوله(لا بأس ببیع العذرة)الثالث انها لو کانت روایة واحدة لکانت مجملة کما عرفت،إذن فلزم للسائل أن یسأل عن بیع العذرة ثانیا فینکشف من تلک القرائن تعددها و ان سماعة لما نقل روایة المنع ألحقها بروایة الجواز تفهیما للمعارضة و علی هذا فیحکم بالتساقط.

(إن قلت)ان السائل لما فهم مقصوده من القرائن الحالیة أو المقالیة و إن لم تصل إلینا ترک التعرض للسؤال،فلا یلزم من ذلک تعدد الروایة.

(قلت)احتمال انه فهم المراد من القرائن و إن کان موجودا إلا أن أصالة عدم القرینة التی من الأصول المسلمة عند العقلاء تدفع ذلک الاحتمال،ثم لو صحت روایة ابن مضارب کما هی کذلک و ان رماها المجلسی (1)بضعف السند لوجب الأخذ بها،و إلا فالمرجع فی الجواز التکلیفی هی أصالة الإباحة،و فی الجواز الوضعی هی العمومات من أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و أحل اللّه البیع،و تجارة عن تراض.

(الوجه الثانی)انک بعدها عرفت تعدد روایة سماعة و کونها روایتین فتنحصر الروایات هنا فی طائفتین،المانعة عن بیع العذرة،و المجوزة لبیعها،و علی هذا فإن أمکن الجمع بینهما بإحدی الوجوه المتقدمة فنأخذ بهما،و إلا فلا بد من الرجوع الی المرجحات الخارجیة لتساوی روایتی سماعة من حیث المرجحات السندیة،و لما کان القول بحرمة بیع العذرة مذهب العامة بأجمعهم فنأخذ بالطائفة المجوزة لبیعها،و من هنا ظهر ما فی کلام المصنف حیث استبعد حمل الطائفة المانعة عن بیعها علی التقیة،و العجب من الفاضل المامقانی«ره»فإنه وجه کلام المصنف و قال ان مجرد کونه مذهب أکثر العامة لا یفید مع کون فتوی معاصر الإمام الذی صدر منه الحکم هو الجواز کما فیما نحن فیه حیث ان الجواز فتوی أبی حنیفة المعاصر لمن صدر منه أخبار المنع و هو الصادق«ع»فخبر الجواز أولی بالحمل علی التقیة،و وجه العجب ان أبا حنیفة قد أفتی بحرمة بیع العذرة کما عرفت.

و أعجب من ذلک ما نسبه إلیه العلامة فی التذکرة (2)من تجویز بیع السرجین النجس لأن أهل الأمصار یتبایعونه لزروعهم من غیر نکیر،فإنه«ره»مع اطلاعه علی مذهب العامة

ص:50


1- 1) ج 3 مرآة العقول باب 103 جامع فیما یحل الشراء من المکاسب ص 411.
2- 2) ص 3 من البیع.

و آرائهم کیف خفی علیه مذهب أبی حنیفة فی هذه المسألة،نعم لا ینکر تجویز أبی حنیفة (1)بیع العذرة إذا اختلطت بالتراب،و بیع الزبل الذی یسمی بالسرجین،و بیع البعر للانتفاع به و جعله وقودا.

قوله:فروایة الجواز لا یجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفی. أقول الوجوه المشار إلیها فی کلامه هی الإجماعات المنقولة،و الشهرة الفتوائیة،و الروایات العامة المتقدمة،و ضعف سند ما یدل علی الجواز،إلا أنها مخدوشة بأجمعها،و لا یصلح شیء منها لترجیح ما یدل علی المنع أما الإجماعات المنقولة فلیست بتعبدیة،بل مدرکها هی الوجوه المتقدمة،و لو کانت تعبدیة لکانت حجة مستقلة،و ضمها إلی روایة المنع لا یزید اعتبارها بل هی بنفسها لو کانت حجة لوجب الأخذ بها،و إلا فضم الإجماعات إلیها لا یوجب حجیتها.

و أما الشهرة الفتوائیة فهی و إن کانت مسلمة،إلا أن ابتنائها علی روایة المنع ممنوع جدا،فان تلک الشهرة غیر مختصة ببیع العذرة،بل هی جاریة فی مطلق النجاسات،و لو سلمنا ابتنائها علیها لا توجب انجبار ضعف سند الروایة،علی أن ما یوجب ترجیح احدی الروایتین علی الأخری عند المعارضة هی الشهرة فی الروایة دون الشهرة الفتوائیة.

و أما الروایات العامة فقد تقدم الکلام فیها،علی أن النجاسة لم تذکر فی شیء منها إلا فی روایة تحف العقول،و الذی یستفاد منها لیس إلا حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا،و هی و إن کانت مانعة عن البیع،إلا انه لم یقل بها أحد،و أما مانعیة النجاسة من حیث هی نجاسة فلا یستفاد من تلک الروایات،و لا من غیرها،نعم لا شبهة فی حرمة الانتفاعات المتوقفة علی الطهارة،و من هنا یظهر الجواب عمن ذهب الی حرمة الانتفاع بالعذرة فی التسمید و نحوه،و تمسک فی ذلک بقوله«ع»فی روایة تحف العقول(أو شیء یکون فیه وجه من وجوه الفساد)بدعوی ان التسمید و نحوه من التصرفات فیها من وجوه الفساد،بل قد ورد فی بعض الروایات[1]جواز طرح العذرة فی المزارع.

و اما تخیل ضعف روایة الجواز من ناحیة السند،ففیه أولا انه محض اشتباه قد نشأ من خلط ابن مضارب بابن مصادف و توهم ان الأول غیر موجود فی کتب الرجال فاسد فإنه مضافا الی کونه مذکورا فیها و منصوصا بحسنه،انه قد اتفقت أصول الحدیث علی نقل

ص:51


1- 1) ج 2 فقه المذاهب الأربعة ص 232.

روایة الجواز عنه،و لم یحتمل فیها نقلها عن ابن مصادف.

و ثانیا ان اختصار الکلینی بنقل روایة الجواز فقط دون غیرها یشیر الی اعتبارها کما هی کذلک لکون رواتها بین ثقات و حسان.

جواز بیع الأرواث

قوله:الأقوی جواز بیع الأرواث الطاهرة. أقول المشهور بین أصحابنا جواز بیع الأرواث الطاهرة،و فی المستند (1)یجوز الاکتساب بها مطلقا وفاقا للأکثر بل عن السید الإجماع علیه لطهارتها و عظم الانتفاع بها فیشملها الأصل و العمومات،و فی الخلاف (2)سرجین ما یؤکل لحمه یجوز بیعه دلیلنا علی جواز ذلک انه طاهر عندنا و من منع منه فإنما منع لنجاسته و یدل علی ذلک بیع أهل الأمصار فی جمیع الأعصار لزروعهم و ثمارهم و لم نجد أحدا أکره ذلک و لا خلاف فیه فوجب أن یکون جائزا،نعم حکم فی النهایة (3)بحرمة بیع العذرة و الأبوال إلا بول الإبل خاصة فإنه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة و فی المراسم (4)حکم بحرمة التکسب بالعذرة و البول إلا بول الإبل خاصة،و کذلک ذهبت الشافعیة (5)إلی نجاسة فضلة مأکول اللحم بلا تفصیل بین الطیور و غیرها،مع ذهابهم (6)الی عدم صحة بیع کل نجس إلا إذا کان مخلوطا بشیء طاهر لا یمکن فصله منه.

و الظاهر انه لا فرق بین العذرة و الأرواث فی جواز البیع و عدمه من جهة مدرک الحکم إلا نجاسة الاولی و طهارة الثانیة،فإن الأخبار الخاصة الواردة فی حرمة بیع العذرة لم تتم کما عرفت،و الاخبار العامة المتقدمة إنما تدل علی حرمة بیع ما یکون منهیا عن أکله فتکون شاملة للارواث و العذرة کلتیهما،و حیث عرفت انه لا یصلح شیء من ذلک لإثبات حرمة بیع العذرة فتعرف عدم جریانه فی الأرواث أیضا،و أما ما فی روایة تحف العقول من قوله «ع»:(أو شیء من وجوه النجس)فلا تدل علی مانعیة النجاسة عن البیع،لما عرفت فی بیع الأبوال أن مقتضی التعلیل المذکور فیها هو کون منافع النجس بأجمعها محرمة،و أما إذا کانت له منفعة محللة فلا تدل الروایة علی حرمة بیعه،إذن فلا وجه لما التزم به شیخنا الأنصاری من التفریق بین العذرة و الأرواث.

و أما دعوی الإجماع علی التفریق بینهما فهی دعوی جزافیة للاطمئنان بأن مدرک المجمعین

ص:52


1- 1) ج 2 ص 334.
2- 2) ج 1 ص 225.
3- 3) باب المکاسب المحظورة.
4- 4) باب المکاسب.
5- 5) ج 1 فقه المذاهب ص 12.
6- 6) ج 2 فقه المذاهب ص 232.

تلک الوجوه المذکورة لمنع بیع العذرة دون الأرواث،و إلا فالإجماع التعبدی الکاشف عن رأی الحجة معلوم العدم،و قیام السیرة علی جواز الانتفاع و المعاوضة لا یختص بالارواث بل یعم العذرة أیضا،کشمول العمومات لهما،و ما فی الجواهر من الاستدلال علی جواز بیع الأرواث فقط بخبر ابن مضارب،و بذیل روایة سماعة،بعد ما حملهما علیها فاسد لما عرفت من انه لا یصح إطلاق العذرة علی الأرواث بوجه،و ان الأرواث فی اللغة[1]لا تطلق إلا علی رجیع ذی الحافر.

و قد یتوهم تحریم بیعها لآیة تحریم الخبائث بدعوی ان عموم التحریم المستفاد من الجمع المحلی باللام یشمل البیع أیضا.

(و فیه)أولا ما أجاب به المصنف من أن المراد من تحریم الخبائث هو تحریم أکلها، لا مطلق الانتفاعات بها.

و ثانیا انه قد تقدم فی بیع الأبوال ان الخبیث عبارة عن مطلق ما فیه نقص و دنائة و لو کان من قبیل الافعال و یرادف فی الفارسیة بلفظ(پلید)فمثل الزنا و الافتراء و الغیبة و النمیمة و غیرها من الأفعال المحرمة التی عبر عنها فی قوله تعالی (1)بالفواحش،من الخبائث أیضا،إذن فلیس المراد من تحریم الخبائث فی الآیة إلا بیان الکبری الکلیة من تحریم ما فیه مفسدة،و أما تشخیص الصغری و بیان ان فی هذا مفسدة أو فی ذاک فخارج عن حدود الآیة،و إلا فیلزم التمسک بالعام فی الشبهات المصداقیة و هو لا یجوز کما نقح فی الأصول، و ان أبیت إلا عن اختصاصها بما یکون الطبع متنفرا عنه،فندفعه بعدم الملازمة بین تحریم الأکل و حرمة البیع،کما سبق فی بیع الأبوال و غیره،إلا إذا کان الأکل من المنافع الظاهرة

جواز بیع الدم نجسا کان أم طاهرا

اشارة

قوله:یحرم المعاوضة علی الدم بلا خلاف. أقول المشهور بین أصحابنا شهرة عظیمة حرمة بیع الدم النجس کما فی النهایة (2)و المراسم (3)و المبسوط (4)و فی التذکرة (5)

ص:53


1- 1) سورة الأعراف آیة 31: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَواحِشَ .
2- 2) المکاسب المحظورة.
3- 3) أول المکاسب.
4- 4) فی فصل ما یصح بیعه و ما لا یصح
5- 5) ج 1 ص 3 من البیع.

یشترط فی المعقود علیه الطهارة الأصلیة و لو باع نجس العین لم یصح إجماعا.

و علی هذا المنهج ابن الهمام الحنفی فی شرح فتح القدیر (1)و عن المالکیة (2)لا یصح بیع النجس،و عن الحنابلة لا یصح بیع النجس کالدم،و عن الشافعیة لا یصح بیع کل نجس،و عن الحنفیة لا یصح بیع الدم،و فی أخبارهم[1]أیضا شهادة علی ذلک إذا عرفت ذلک فاعلم ان المصنف قد فصل بین الدم النجس فحکم بحرمة المعاوضة علیه للإجماع و الاخبار السابقة أی الروایات العامة،و بین الدم الطاهر فقد قوی جواز المعاوضة علیه إذا فرضت له منفعة محللة کالصبغ و نحوه،لکونه من الأعیان التی یجوز الانتفاع بها منفعة محللة.

(و فیه)انه بعد اشتراکهما فی حرمة الأکل،و جواز الانتفاع بهما منفعة محللة کالصبغ و التسمید و نحوهما،فلا وجه للتفکیک بینهما،و أما النجاسة فقد عرفت مرارا انه لا موضوعیة لها،فلا تکون فارقة بین الدم الطاهر و النجس،و أما الاخبار السابقة فمضافا الی ضعف سندها أنها شاملة لهما،فلو تمت لدلت علی حرمة بیعهما معا و إلا فلا،علی ان المستفاد من روایة تحف العقول هو تحریم مطلق منافع النجس،و حینئذ فإن وفقنا علی ظاهرها فلازمه الإفتاء بما لم یفت به أحد،و ان اقتصرنا علی خصوص تحریم البیع فلا دلیل علیه.

و أما الإجماع فهو لا یختص بالمقام،و إنما هو الذی ادعی قیامه علی حرمة مطلق بیع النجس،و مدرکه هی الوجوه المذکورة لحرمة بیعه من الروایات العامة و غیرها،و إلا فلیس هنا إجماع تعبدی لیکشف عن رأی المعصوم،إذن فلا دلیل علی حرمة بیع الدم سواء کان نجسا أم طاهرا لا وضعا و لا تکلیفا.

وهم و إزالة

و قد استدل علی حرمة بیع الدم مطلقا بمرفوعة أبی یحیی الواسطی[2]فإن فیها نهی

ص:54


1- 1) ج 5 ص 186.
2- 2) راجع ج 2 فقه المذاهب ص 231 و ص 232.

علی«ع»عن بیع سبعة منها الدم،فتدل علی ذلک وضعا و تکلیفا بعد ملاحظة انجبارها بالشهرة،بل بعدم الخلاف بین الأصحاب.

(و فیه)أولا انها ضعیفة السند،و غیر منجبرة بعمل المشهور صغری و کبری،و الوجه فی ذلک هو ما تقدم (1)و لا انها منجبرة بعدم الخلاف و إن ذکره المامقانی«ره»فإنه علی تقدیر عدم کونه حجة فضمها لغیر الحجة لا یفید اعتبارها فلا یجوز الاستدلال بها علی حرمة بیع الأمور المذکورة فیها.نعم إذا قلنا بشمول أدلة التسامح فی السنن للمکروهات لا بأس من الالتزام بکراهة بیعها.

(و ثانیا)ان الظاهر من الدم المذکور فی المرفوعة هو الدم النجس الذی تقذفه الذبیحة المسمی بالمسفوح لکثرته و مرسومیة أکله فی زمن الجاهلیة،دون الطاهر المتخلف فیها الذی یباع بتبع اللحوم کثیرا،فإنه من القلة بمکان لم یکن مورد الرغبة لأهل الجاهلیة لینجر ذلک الی أن یمر علی«ع»بالقصابین و ینهاهم عن بیعه،و لعله لذلک لم یذکر اللّه تعالی فی القرآن (2)إلا الدم المسفوح،إذن فالروایة لا تشمل الدم الطاهر فلا تدل علی حرمة بیعه مطلقا لکونها أخص من المدعی.

و لکن یمکن أن یقال ان تعارف أکل الدم النجس و غلبته فی الخارج لا یوجب اختصاص المنع المذکور فی الروایة،بل یعم الدم الطاهر أیضا،و یدل علی ذلک من الروایة ذکر الطحال فیها،فإن الإمام علیه السلام بین کونه من الدم،و فی روایة[1]

ص:55


1- 1) ص 6.
2- 2) سورة الانعام آیة 146أَوْ دَماً مَسْفُوحاً .

أخری لأنه دم إلا أنه مع ذلک لا نسلم دلالة المرفوعة علی أزید من حرمة بیعه للأکل فقط تکلیفا،أو وضعا أیضا،کما نبه علی ذلک العلامة الأنصاری«ره»و قال فالظاهر إرادة حرمة البیع للأکل و لا شک فی تحریمه لما سیجیء من أن قصد المنفعة المحرمة فی المبیع موجب لحرمة البیع بل بطلانه،و اما حرمة بیعه لغیر الأکل فلا دلالة علیه من الروایة لا وضعا و لا تکلیفا،و الشاهد لذلک انه لا ریب فی جواز بیع الأمور المذکورة فیها لغیر الأکل کإطعام الحیوان و نحوه.

تذکرة

ربما یتوهم ان بیع الدم لما کان اعانة علی الإثم فیکون محرما لذلک،و فیه مضافا الی ما سیأتی من عدم الدلیل علی حرمتها،ان النسبة بینها و بین بیع الدم هو العموم من وجه، فإنه قد یشتریه الإنسان لغیر الأکل کالصبغ و التسمید و نحوهما،فلا یلزم منه إعانة علی الإثم بوجه،و علی تقدیر کونه اعانة علی الإثم فالنهی إنما تعلق بعنوان خارج عن البیع فلا یدل علی الفساد.

تذکرة اخری

قد استدل العلامة المامقانی علی حرمة بیعه بما دل من الکتاب (1)و السنة (2)علی تحریم الدم بضمیمة قوله«ع»ان اللّه إذا حرم شیئا حرم ثمنه.

(و فیه)مضافا الی ما تقدم فی النبوی،ان المراد من تحریم الدم فی الکتاب و السنة إنما هو تحریم أکله و قد عرفت مرارا انه لا ملازمة بینه و بین حرمة الثمن.

فی حرمة بیع المنی

قوله:الرابعة لا إشکال فی حرمة بیع المنی. أقول قبل التعرض لبیان جهات المسألة و أحکامها لا بد و أن یعلم ان المنی إنما یطلق علی ما خرج من المخرج و أریق کما ذکره بعض

ص:56


1- 1) سورة البقرة آیة 169 إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ وَ الدَّمَ .و سورة المائدة آیة 5حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ .
2- 2) راجع ج 11 الوافی ص 20،و ج 3 ئل باب 30 ما یحرم من الذبیحة من الأطعمة المحرمة،و ج 2 کا ص 153،و ج 2 التهذیب ص 300.

أهل اللغة[1]فی وجه تسمیته،و هذا بخلاف عسیب الفحل فان له معان عدیدة،و الذی یناسب منها المقام أربعة،الطروقة،و ماء الفحل فی الأصلاب،و اجرة الضراب،و إعطاء الکراء علی الضراب،فإن أرید منه المعنیین الأخیرین فیکون ذلک بنفسه موردا للنهی فی الروایات الناهیة عنه،و ان أرید المعنیین الأولین فیکون الذی فی الحدیث بتقدیر المضاف، فالتقدیر فی نهی رسول اللّه،ص عن عسیب الفحل انه نهی عن بیعه أو عن کرائه،و قد نص علی ذلک کثیر من اللغویین[2]و لکن الغرض فی ما نحن فیه هو الکسب کما أشیر إلیه فی النبوی الآتی و لعل الوجه فی افراد المصنف و بعض آخر عسیب الفحل عن المنی هو الفرق المذکور بینهما.

ص:57

ثم ان تحقیق الکلام فی هذه المسألة یقع فی ثلاث جهات:الاولی فی بیع المنی إذا وقع فی خارج الرحم،و الثانیة فی بیعة بعد وقوعه فیه و یسمی بالملاقیح،و الثالثة فی بیع ماء الفحول فی أصلابها و یسمی بعسیب الفحل.

أما الجهة الأولی فحکم المصنف بحرمة بیعه لنجاسته،و عدم الانتفاع به إذا وقع فی خارج الرحم،و کذلک یحرم بیعه عند کل من یری النجاسة مانعة عن البیع،و منهم المالکیة و الحنابلة (1)غیر الشافعیة فإنهم و إن ذهبوا الی مانعیة النجاسة عن البیع إلا انهم یرون طهارة المنی فی بعض الصور[1]أما النجاسة فظهر ما فی مانعیتها عن البیع من المسائل المتقدمة،و اما عدم الانتفاع به فمانعیته عنه تتوقف علی أمرین:الأول إثبات حرمة الانتفاع به إذا وقع فی خارج الرحم،و الثانی اعتبار المالیة فی البیع،فبانتفاء أحدهما یثبت جواز بیعه،و حیث عرفت و ستعرف عدم اعتبار المالیة فیه فیحکم بجواز بیعه فی هذه الصورة،علی انه لو تم ذلک لمنع عن بیعه وضع فقط کما هو واضح.

و اما الجهة الثانیة ففی التذکرة (2)لا نعرف خلاف بین العلماء فی فساد بیع الملاقیح للجهالة و عدم القدرة علی التسلیم.

و لکن التحقیق أن یقال انه ان قلنا بتبعیة النماء للحیوان کما هو الحق فبمجرد وقوع المنی فی الرحم یصیر ملکا لمالک الحیوان بالتبعیة لکونه جزء منه،کما کان قبل ذلک جزء من الفحل و ملکا لمالکه بالتبع،و علی هذا فلا یجوز بیعه لا من صاحب الأنثی،و لا من غیره،و ان قلنا بعدم الجزئیة و التبعیة،بل بکونه کالبذر المغروس فی أرض الغیر، فالظاهر جواز بیعه مطلقا سواء کان من صاحب الأنثی أو من غیره حتی بناء علی اعتبار المالیة فی العوضین،لکونه ما لا فی هذه الصورة فتجوز المعاوضة علیه،و أما منع جواز بیعه حینئذ لنجاسته کما فی المتن فمن العجائب کیف فإنها منتفیة قطعا إذا خرج من الباطن الی الباطن،علی انها لو کانت مانعة لمنعت عن بیعه لأجل المنافع التی تتوقف علی عدمها لا مطلقا علی انک عرفت عدم مانعیتها عن البیع،و ستعرف اعتراف المصنف بذلک فی بیع المیتة فإنه قال

ص:58


1- 1) ج 3 فقه المذاهب ص 331 و ص 232.
2- 2) ج 1 ص 7 من البیع.

فمجرد النجاسة لا تصلح علة لمنع البیع لو لا الإجماع علی حرمة بیع المیتة.

و اما الجهالة و عدم القدرة علی التسلیم فلا تکونان مانعتین عن بیع الملاقیح،لأنها لا تختلف قیمتها باختلاف الکم و الکیف،و أن تسلیم کل شیء بحسب حاله و هو فی المنی وقوعه فی الرحم فهو حاصل علی الفرض،و بعبارة اخری ان الجهالة و عدم القدرة علی التسلیم إنما تمنعان عن البیع لأجل الغرر المنهی عنه فی البیع کما یأتی فی البیع الغرری،ففی بیع الملاقیح لیس غرر لا من ناحیة الجهالة و لا من ناحیة عدم القدرة علی التسلیم.

و لکن الذی یسهل الخطب ان السیرة القطعیة من العقلاء و المتشرعة قائمة علی تبعیة النتاج للأمهات فی الحیوانات،و قد أمضاها الشارع فلا یمکن التخطی عنها،کما ان الولد للفراش فی الإنسان بالنص و الإجماع القطعیین،و من هنا یعاملون مع نتاج الحیوانات معاملة الملک حتی مع العلم بأن اللقاح حصل من فحل شخص آخر،و إلا فکان اللازم علیهم اما رد النتاج الی صاحب الفحل ان کان معلوما أو المعاملة معه معاملة مجهول المالک ان کان المالک مجهولا و هذا شیء لا یتفوه به ذو مسکة،و اما دعوی الإجماع التعبدی علی البطلان فدعوی جزافیة بعد العلم و لا أقل من الاحتمال بکونه مستندا الی الوجوه المذکورة لبطلان بیع الملاقیح و قیاس ذلک بالبذر المغروس فی أرض الغیر باطل بعد قیام الدلیل علی الفرق.

و أما الجهة الثالثة فقد وقع الخلاف بین الفقهاء فی حرمة بیع عسیب الفحل،قال فی التذکرة بعد کلامه المتقدم فی الجهة الثانیة یحرم بیع عسیب الفحل و هو نطفته لانه غیر متقوم و لا معلوم و لا مقدور علیه و لا نعلم فیه خلافا.و قال فی الخلاف (1)اجارة الفحل للضراب مکروه و لیس بمحظور و عقد الإجارة علیه غیر فاسد،ثم ادعی الإجماع علی الکراهة.و فی المستند (2)حکم بکراهة أجرة الضراب و حمل علیها الاخبار الناهیة عنها للإجماع و هکذا وقع الخلاف فی ذلک بین العامة[1].

ص:59


1- 1) ج 1 ص 222.
2- 2) ج 2 ص 330.

ثم ان تحقیق هذه الجهة یقع فی مقامین:الأول من حیث القواعد و الثانی بحسب الروایات أما الأول فقد استدل علی بطلان المعاملة علی عسیب الفحل بالبیع أو بالإجارة بوجوه الأول بجهالته.و فیه انه لم یرد نص و لا انعقد إجماع علی اعتبار العلم بعوضی المعاملة لیلزم من جهالتهما بطلانها بل إنما نعتبر ذلک فیها من جهة الغرر المرتفع بالعلم بالطروقة و الاجتماع فان الغرض من المعاملة علی عسیب الفحل هو ذلک.

الثانی بعدم القدرة علی التسلیم بدعوی أن إحبال الحیوان غیر مقدور علیه فلا تصح الإجارة علیه لان ذلک لیس فی وسعه و الموجود فی أصلاب الفحول أیضا غیر مقدور علی تسلیمه فلا یصح بیعه.و فیه ان اعتبار ذلک فی المعاملة أیضا من جهة الغرر فحیث کان النظر فی ذلک الی الطروقة و الاجتماع فیرتفع الغرر عنها فان تسلیم کل شیء بحسبه کما عرفت فی الجهة الثانیة و الثالث بعدم کون ما فی أصلاب الفحول مالا لکونه ماء مهینا لا قیمة له فیکون العقد علیه باطلا،و فیه مضافا الی عدم اعتبار المالیة فی عوضی المعاملة.أن قوامها إنما هو باعتبار العقلاء و رغبتهم،فلا شبهة فی ترتب الغرض المهم علی ما فی أصلاب الفحول،علی انه لو تم شیء من تلک الوجوه لدل علی الحرمة الوضعیة دون التکلیفیة،و أما توهم مانعیة النجاسة عنها هنا لتکون دلیلا علی الحرمة التکلیفیة فما لا یصغی إلیه،فإنه مع تسلیم مانعیتها عن المعاملة فلا دلیل علی نجاسة ما فی الأصلاب.

و أما المقام الثانی فالروایات الواردة هنا علی طائفتین:الأولی[1]تدل علی حرمة بیع

ص:60

عسیب الدابة و إکرائها علی الضراب،و ان ثمن ذلک سحت،و یدل علیه بعض الروایات من طرق العامة أیضا[1].

الثانیة[2]تدل علی جواز إکراء التیوس و نفی البأس عن أخذ اجورها،فمقتضی الجمع بینهما هو حمل الطائفة الأولی المانعة علی الکراهة،و لا یمنع عن ذلک إطلاق السحت علی ثمن عسیب الفحل فی روایة الجعفریات،فإنک قد عرفت فی بیع العذرة إطلاقه علی الکراهة الاصطلاحیة فی مواضیع شتی.

لا یقال ان النبوی و روایة الجعفریات بنفسهما ظاهرتان فی الکراهة المصطلحة لاشتمالهما علی ما لیس بمحرم قطعا،فإنه ذکر المنع فی الجعفریات عن بیع جلود السباع و أجر القاری مع أنهما لیسا بمحرمین جزما،و فی النبوی نهی عن لبس ثیاب ینسج بالشام مع عدم ثبوت حرمته، علی أن النبوی کمرسلة الصدوق و دعائم الإسلام و المنقول من طرق العامة ضعیفة السند.

فإنه یقال إن ثبوت الترخیص فی بعض الأمور المذکورة فیهما بدلیل خارجی لا یوجب ثبوته فی غیره،کیف و قد ثبت فی الشرعیة المقدسة استحباب بعض الأغسال کغسل الجمعة

ص:61

و العیدین و غیرهما مع انها ذکرت فی جملة من الروایات[1]فی عداد الأغسال الواجبة کغسل الجنابة و المیت و مس المیت،نعم لم تثبت من تلک الروایات المانعة إلا وثاقة روایة الجعفریات علی ان النهی عن بیع عسیب الفحل فی النبوی لا یوجب حرمة المعاملة وضعا بل التکسب به حرام تکلیفا،و الشاهد علی ذلک ان فی الروایة نهی عما هو حرام بذاته مثل ثمن الکلب و ما هو حرام بالعرض مثل خاتم الذهب فإنه لیس بذاته من المحرمات بل لبسه و التختم به حرام ثم لا وجه لحمل الطائفة المانعة علی التقیة لما عرفت من کون المسألة محل الخلاف بین العامة أیضا

جواز الانتفاع بالمیتة و حرمة بیعها

اشارة

قوله:یحرم المعاوضة علی المیتة. أقول

تحریر هذه المسألة فی مقامین

و قد خلط المصنف بینهما،الأول فی جواز الانتفاع بالمیتة،و الثانی فی حرمة بیعها،و تقدیم الأول للبحث عنه أول من تقدیم الثانی و إن عکسه المصنف.

أما المقام الأول فی جواز الانتفاع بالمیتة

فإن مقتضی الأصل الأولی هو جواز الانتفاع بالمیتة إلا أن المشهور إنما هی حرمة الانتفاع بها ففی النهایة (1)بیع المیتة و التصرف فیها و التکسب بها حرام،و فی المراسم (2)التصرف فی المیتة ببیع و غیره حرام،و فی الجواهر لا یجوز الانتفاع بشیء من المیتة مما تحله الحیاة فضلا عن التکسب،و علیه فتاوی أکثر العامة[1].

ثم ان المهم هنا صرف عنان الکلام الی الروایات الخاصة الواردة فی ذلک و هی علی طائفتین الأولی تدل علی حرمة الانتفاع بالمیتة،و الثانیة علی جواز الانتفاع بها.

أما الطائفة الأولی فهی متظافرة،منها مکاتبة قاسم الصیقل[2]فإنه سأل الإمام«ع»

ص:62


1- 1) فی المکاسب المحظورة.
2- 2) فی أول المکاسب.

عن جواز جعل أغماد السیوف من جلود الحمر المیتة.فکتب«ع»فان کان ما تعمل وحشیا ذکیا فلا بأس،فإن مفهومها یدل علی حرمة الانتفاع بجلود غیر الذکی،و فیه مضافا إلی ضعف سندها،أن مناط المنع فیها عن عمل أغماد السیوف من جلود الحمر المیتة،لیس إلا من جهة إصابتها الثوب الذی یصلی فیه السائل،و من هنا أمره الرضا(علیه السلام)بأن یتخذ ثوبا لصلاته، و أما أصل الانتفاع بها بعمل الاغماد منها فهو مسکوت عنه فیبقی تحت أصالة الإباحة،بل یمکن أن یقال أن الروایة تدل علی جواز الانتفاع بالمیتة،و ذلک لأن السؤال فیها إنما وقع عن أمرین:أحدهما عمل الأغماد من جلود الحمر المیتة،و الثانی اصابتها الثوب فجوابه(علیه السلام) عن الثانی دون الأول لیس إلا تقریرا لجواز الانتفاع بالمیتة،و إلا فکان سکوته عنه مع کونه فی مقام البیان مخلا بالمقصود،و من هنا یعلم الوجه فی قول أبی جعفر الثانی(علیه السلام)(فان کان ما تعمل وحشیا ذکیا فلا بأس)إذن فلا بد من جعلها من جملة ما یدل علی جواز الانتفاع بها دون العکس.

و منها روایة الوشاء[1]فإنه(علیه السلام)قد منع فیها عن استصباح الالیات المبانة من الغنم الحی فإنه یستلزم اصابتها الید و الثواب و هو حرام.

(و فیه)انه لما لم یکن اصابة الید و الثوب للمیتة،و سائر النجاسات،بل تلویث تمام البدن فهما،حراما قطعا،فلا بد إما من أخذ التحریم فی قوله ع(و هو حرام)إرشادا إلی النجاسة کما فی الحدائق،أو إلی المانعیة عن الصلاة،أو إلی صورة المعاملة معها معاملة المذکی بل عدم تعرضه ع لحکم الانتفاع بها بالاستصباح المسئول عنه،و تصدیه لبیان نجاستها أو مانعیتها عن الصلاة أدل دلیل علی جواز الانتفاع بها دون العکس،سلمنا ذلک و لکن

ص:63

لا بد من الاقتصار فیها علی موردها أعنی صورة اصابتها الید و الثوب،إلا أن یتمسک فی غیر موردها بعدم القول بالفصل.نعم و فی دلالة الروایات المرویة عن الکاهلی[1]و علی بن المغیرة[2]و الجرجانی[3]و سماعة[4]و غیرها[5]علی حرمة الانتفاع بالمیتة غنی و کفایة، و قد ذکر ذلک فی أحادیث أهل السنة[6]أیضا.

ص:64

و أما الطائفة الثانیة فهی أیضا کثیرة مستفیضة منها روایتی الصیقل و الوشاء المتقدمتین و منها روایة أبی القاسم الصیقل و ولده[1]و قد ظهر وجه الاستدلال بها من روایة الصیقل المتقدمة،علی أن إصرار السائل فی هذه الروایة علی الجواب بقوله(و نحن محتاجون الی جوابک فی هذه المسألة یا سیدنا لضرورتنا إلیها)أدل دلیل علی جواز الانتفاع بالمیتة،فإن سکوته(علیه السلام)عن حکم المسألة مع إصرار السائل علی الجواب تقریر علی ذلک بلا ارتیاب.

و منها روایة البزنطی[2]التی تدل علی جواز الاستصباح بما قطع من ألیات الغنم.

و منها[3]ما عن علی بن الحسین(علیه السلام)فإنه کان یلبس الفرو المجلوب من العراق و ینزعه وقت الصلاة،ففعله هذا یدل علی جواز الانتفاع بالمیتة إلا فیما یکون مشروطا بالطهارة، و الوجه فی کون ذلک الفرو العراقی من جلود المیتة هو نزعه فی الصلاة،إلا أن یقال ان

ص:65

لبسه سلام اللّه علیه إنما کان فی مورد الأخذ من ید المسلم و معه یحکم بالتذکیة و عدم کون الجلد من المیتة،إذن فلان مانع من الصلاة فیه فضلا عن لبسه فی غیرها،فلا مناص من حمل فعله علیه السلام علی الاحتیاط من جهة عدم اقتران صلاته التی هی معراج المؤمن بلبس المیتة الواقعیة،و علیه فلا تبقی للروایة دلالة علی جواز الانتفاع بالمیتة فی نفسها،إلا أن یقال ان الاحتیاط إنما یجری فی حق من کان جاهلا بالأحکام الواقعیة و الموضوعات الخارجیة و أما العالمین بالواقعیات بل بحقائق الأشیاء،و الأمور الکائنة و العوالم الکونیة،فلا یجری الاحتیاط فی حقهم کالأئمة المعصومین علیهم السلام.

علی ان العمل بالاحتیاط یقتضی أن لا یلبسه فی غیر حال الصلاة أیضا.فإن الانتفاع بالمیتة لو کان حراما فإنما هو حرام واقعی تکلیفی فلا یختص بحال الصلاة فقط،نعم ان ما یختص بالصلاة هی الحرمة الوضعیة و أنها تبطل إذا وقعت فی المیتة،إلا أن یتوهم أن عمدة غرضه«ع»من ذلک الاحتیاط هو انخفاظ صلاته عن احتمال البطلان،و اما الاحتیاط فی غیر حال الصلاة فلیس بمحط لنظره«ع»و لکنه مما لا یمکن التفوه به فی حق الملتزم بالشرع من غیر المعصومین فکیف ممن کان معدن العصمة،إلا أن الذی یسهل الخطب أن الروایة ضعیفة السند فلا تکون قابلة للبحث عن دلالتها علی المطلوب و عدمها.

و منها روایة سماعة[1]فإنها تدل علی جواز الانتفاع بالکیمخت و هو جلد المیتة إذا کان مملوحا.

إذا عرفت هاتین الطائفتین المانعة عن جواز الانتفاع بالمیتة و المجوزة له فتعرف وقوع المعارضة بینهما،و بما ان هذه الروایات المجوزة لذلک صریحة فی جواز الانتفاع بها فی غیر ما اشترطت فیه التذکیة،فنرفع الید بها عن ظهور تلک الروایات المانعة،فتقید بغیر ذلک و بصورة الانتفاع بها مثل المذکی،أو تحمل الطائفة المانعة علی الکراهة کما هو مقتضی الجمع العرفی بین الدلیلین المتنافیین،و یدل علی الوجه الأول من الطائفة المرخصة خبر أبی القاسم الصیقل،فان فیه قرر الامام«ع»جواز الانتفاع بجلود المیتة فی غیر الصلاة حیث أمر السائل باتخاذ الثوب لصلاته،و أما دعوی اختصاص موارد الطائفة المجوزة بالجلود و الالیات فهی دعوی جزافیة لعدم القول بالفصل فی أجزاء المیتة قطعا.

(تلویح)قد توهم بعضهم حملها علی التقیة لتخیل ذهاب العامة إلی جواز الانتفاع بها.

ص:66

و فیه انک عرفت فی أول المسألة تصریح بعضهم بذهاب أکثرهم إلی حرمة الانتفاع بالمیتة.

حتی بجلودها قبل الدبغ،و قد ورد ذلک فی أخبارهم أیضا کما عرفت عند التعرض للطائفة المانعة،و من هنا منعوا عن بیع المیتة و جلودها قبل الدبغ و أیضا عللوا (1)حرمة بیع المیتة بانعدام رکن البیع فیه الذی هو مبادلة مال بمال بدعوی أنها لا تعد ما لا عند من له دین سماوی فلو کان الانتفاع بها جائزا عندهم لما تفوهوا بذلک التعلیل العلیل لدوران مالیة الأشیاء وجودا و عدما مدار جواز الانتفاع بها و حرمته.

(تلویح آخر)قال المحقق الایروانی«ره»و أحسن جمع بینها و بین الطائفة المانعة عن الانتفاع حمل المانعة علی صورة التلویث.

و فیه أنک قد عرفت عند التکلم فی روایة الوشاء أن تلویث الید بل تلویث جمیع البدن بالنجاسات لیس من المحرمات،إذن فلا وجه لحمل الطائفة المانعة علی صورة التلویث،و أما ما تخلیة بعضهم من تخصیص المجوزة بالأجزاء التی لا تحلها الحیاة کالصوف و القرن و الانفحة و الناب و الحافر و غیرها من کل شیء یفصل من الشاة و الدابة فهو ذکی،و حمل المانعة علی غیرها،فهو تخیل فاسد و ذلک لأن صدق المیتة علیها ممنوع جدا،علی أن هذا الجمع منافع لصراحة ما یدل علی جواز الانتفاع بها کما عرفت.

المقام الثانی حرمة بیع المیتة

و أما المقام الثانی فالمشهور بل المجمع علیه بین الخاصة و العامة هی حرمة بیع المیتة وضعا و تکلیفا قال فی المستند (2)حرمة بیعها و شرائها و التکسب بها إجماعی و کذلک فی التذکرة (3)بل فی رهن الخلاف (4)أنها لا تملک،و قد تقدم فی المقام الأول تحریم بیعها،من النهایة، و المراسم،و الجواهر.و شرح فتح القدیر،و سبل السلام،و فی الفقه علی المذاهب (5)المالکیة قالوا:لا یصح بیع النجس کعظم المیتة و جلدها و لو دبغ لانه لا یطهر بالدبغ.و الحنابلة قالوا:لا یصح بیع المیتة و لا بیع شیء منها،و کذلک عند الشافعیة،و الحنفیة.

و الذی استدل أو یمکن الاستدلال به علی هذا الرأی وجوه،الأول قیام الإجماع علی ذلک کما سمعته عن بعضهم،و فیه لو سلمنا قیام الإجماع المحصل فی المقام أو حجیة المنقول منه فلا نسلم کونه تعبدیا محضا و کاشفا عن رأی الحجة«ع»أو عن دلیل معتبر،للاحتمال بل الاطمئنان بأن مدرک المجمعین هو الوجوه المذکورة لعدم جواز بیعها و بیع کل نجس

ص:67


1- 1) راجع ج 5 شرح فتح القدیر ص 186.
2- 2) ج 2 ص 333.
3- 3) ج 1 ص 3 من البیع.
4- 4) ج 1 ص 233.
5- 5) ج 2 ص 231.

کما عرفت فی المسائل المتقدمة.

الثانی دعوی حرمة الانتفاع بها فإنها تستلزم سلب المالیة عنها المعتبرة فی العوضین بالإجماع إذن فتدخل المعاملة علیها تحت عموم النهی عن أکل المال بالباطل،و فیه انه بعد ما أثبتنا فی المقام الأول جواز الانتفاع بها،و عرفت فی بیع الأبوال و ستعرف فی أول البیع عدم اعتبار المالیة فی العوضین،و کفایة الأغراض الشخصیة العقلائیة فی صدق المالیة علی تقدیر اعتبارها لکون تلک الأغراض موجبة لخروج المعاملة من السفهائیة،مع عدم الدلیل علی بطلانها،فلا وجه لهذا التوهم،و أما عموم آیة النهی عن أکل المال بالباطل فغیر شامل لشرائط العوضین لکونها ناظرة إلی بیان أسباب التجارة کما تقدم فی بیع الأبوال.

الثالث انه قامت الضرورة من المسلمین علی نجاسة میتة ماله نفس سائلة،و بیع النجس محظور،و فیه أنها و إن ذکرت فی روایة تحف العقول،و لکن مضافا الی ما تقدم فیها من الوهن،أنها لا تدل إلا علی حرمة بیع المیتة النجسة و المدعی أعم من ذلک،و قد اعترف المصنف هنا بعدم مانعیة النجاسة عن البیع علی خلاف ما تکرر منه سابقا من جعلها مانعة عنه و قال(فمجرد النجاسة لا تصلح علة لمنع البیع لو لا الإجماع علی حرمة بیع المیتة).

الرابع الروایات العامة المتقدمة،و فیه أنها و إن کانت تدل علی حرمة بیعها،و لکنها لمکان ضعف أسانیدها لا تفی بالمقصود کما عرفت.

الخامس الروایات الخاصة الواردة فی المسألة منها روایة البزنطی المذکورة فی المقام الأول فإن الإمام«ع»و ان رخص فیها الانتفاع بالمیتة،و لکنه«ع»منع فیها أیضا عن بیعها بقوله(و لا یبیعها).

و منها روایات السکونی[1]و الصدوق[2]و الجعفریات[3]فان جمیعها تدل علی أن ثمن المیتة من السحت فیکون بیعها فاسدا.

ص:68

و منها روایة علی بن جعفر[1]حیث سأل أخاه«ع»عن بیع جلود میتة الماشیة و لبسها و(قال«ع»لا و لو لبسها فلا یصل فیها)فان الظاهر ان المنع فیها راجع الی البیع و اللبس، و لکنه«ع»بین المانعیة عن الصلاة زائدا علی المنع فی نفسه،و قد ورد النهی عن بیع المیتة فی بعض روایات العامة[2]أیضا.

و فیه ان هذه الروایات و إن کانت ظاهرة فی المنع عن بیعها،و لکنها معارضة مع ما هو صریح فی الجواز کمکاتبة الصیقل المتقدمة فإن فیها قرر الامام أسئلتهم عن جواز بیع المیتة من جلود الحمیر و البغال و شرائها و مسها فلو لا جوازها لکان تقریره«ع»لتلک الأسئلة و سکوته عن بیان حکمها إغراء بالجهل و تأخیرا للبیان عن وقت الحاجة،و بضمیمة عدم القول بالفصل بین مورد المکاتبة و غیره یتم المطلوب،و یؤید ذلک فعل علی بن الحسین«ع» حیث کان یبعث الی العراق و یجلب الفرو منهم فان الظاهر انه«ع»کان یأخذ ذلک منهم بالشراء،إلا أن یقال ان مقتضی السوق و ید المسلم هی التذکیة،و کیف کان فلا بد فی رفع المعارضة بینهما إما من طرح المانعة لموافقتها مع العامة لاتفاقهم علی بطلان بیع المیتة کما عرفت فی أول المسألة،و إما من حملها علی الکراهة برفع الید عن ظهورها بما هو صریح فی الجواز أو علی صورة البیع لیعامل معها معاملة المذکی إذا بیعت بغیر إعلام،و إن أبیت عن هذه المحامل کلها فلا بد من الحکم إما بالتخییر فنختار ما یدل علی الجواز،و اما بالتساقط فیرجع الی العمومات و الإطلاقات و یحکم بصحة بیعها.

(لا یقال)أن تقریر الامام«ع»أسئلتهم عن الأمور المذکورة و إن کان لا ینکر إلا أنه لأجل اضطرارهم الی جعل أغماد السیوف من جلود المیتة من الحمیر و البغال مع عدم وجود معیشة لهم من غیر ذلک العمل کما یصرح بذلک ما فی سؤالهم(لا یجوز فی أعمالنا غیرها)و لا ریب أن الضرورات تبیح المحظورات،إذن فلا دلالة فی المکاتبة علی جواز بیعها فی غیر حال الاضطرار.

ص:69

(فإنه یقال)لا منشأ لهذا الکلام إلا توهم إرجاع ضمیر غیرها فی قول السائل(لا تجوز فی أعمالنا غیرها)الی جلود المیتة و لکنه فاسد،إذ لا خصوصیة لها حتی لا یمکن جعل الأغماد من غیرها،بل مرجع الضمیر إنما هی جلود الحمیر و البغال سواء کانت من المیتة أم من الذکی و یدل علی ذلک قوله«ع»فی روایة القاسم الصیقل(فان کان ما تعمل وحشیا ذکیا فلا بأس) إذ لو کانت لجلود الحمر المیتة خصوصیة فی جعل الأغماد منها لکان هذا الجواب لغوا.

نقد و دفع

قد أشکل المصنف علی الروایة بوجهین:

الأول أن الجواب لا ظهور فیه فی الجواز إلا من حیث التقریر الغیر الظاهر فی الرضا خصوصا فی المکاتبات المحتملة للتقیة.و فیه أولا أن التقیة فی المکاتبات و إن کانت کثیرة لکونها معرضا لها من جهة البقاء،و لکنها فی خصوص هذه الروایة غیر محتملة لورودها علی غیر جهة التقیة لذهاب أهل السنة بأجمعهم إلی بطلان البیع المیتة کما عرفت،و أعجب من ذلک تشکیکه فی کاشفیة التقریر عن الرضا و فی کونه من الحجج الشرعیة،مع أنه کسائر الامارات مشمول لأدلة الحجیة.

و ثانیا ان فعلیة التقیة إنما هی بفعلیة موضوعها،و أما مجرد الاحتمال فغیر قابل لأن یکون موضوعا لها و سببا لرفع الید عن الأدلة الشرعیة،نعم إذا صارت فعلیة وجب رفع الید عما یخالفها مکاتبة کان أم غیرها.

الثانی ان مورد السؤال فیها عمل السیوف و بیعها و شرائها لا خصوص الغلاف مستقلا و لا فی ضمن السیف علی أن یکون جزء من الثمن فی مقابل عین الجلد فغایة ما یدل علیه جواز الانتفاع بجلد المیتة بجعله غمدا للسیف و هو لا ینافی عدم جواز معاوضته بالمال،و قد تبعه بعض و قال لکن مع احتمال کون المبیع هو السیف و الغلاف تابع له بنحو الشرط.

و فیه ان هذا من الغرائب،فإن منشأ ذلک حسبان أن الضمائر فی قول السائل(فیحل لنا عملها و شرائها و بیعها و مسها بأیدینا)إلی السیوف.و لکنه فاسد فإنه لا وجه لأن یشتری السیاف سیوفا من غیره،کما لا وجه لسؤاله عن مسها و إصراره بالجواب عن کلما سأله،بل هذه الضمائر إنما ترجع الی جلود الحمر و البغال میتة کانت أم غیرها،کما یظهر ذلک لمن یلاحظ الروایة،مع أن من المستبعد جدا بل من المستحیل عادة أن یجدوا جلود المیتة من الحمیر و البغال بمقدار یکون وافیا بشغلهم بلا شرائها من الغیر،علی أن مقتضی ذلک هی حرمة بیع الغلاف مستقلا مع انه فاسد إذ ربما تکون قیمة الغلاف أکثر من السیف فکیف یحکم بالتبعیة

ص:70

دائما،نعم تبعیة مثل الجل و المسامیر للفرس و الجدران فی بیع الفرس و الدار من الوضوح بمکان و ربما ترمی الروایة بالتقیة لذهاب العامة إلی جواز بیع جلود المیتة بعد الدبغ لطهارتها به[1]و أما قبل الدبغ فلا تصلح للاغماد،و فیه أولا ان أمره«ع»بأن یجعلوا ثوبا لصلاتهم علی خلاف التقیة،و ثانیا لو کانت الروایة موردا للتقیة لکان الألیق أن یجاب بحرمة البیع و الشراء و یدفع محذور التقیة عند الابتلاء بها بإرادة حرمة بیعها قبل الدبغ،فان فیه بیان الحکم الواقعی مع ملاحظة التقیة،و ثالثا ان الروایة خالیة عن کون البیع أو الشراء بعد الدبغ لتحمل علیها،و مجرد عدم صلاحیة الجلود للغلاف قبل الدبغ لا یوجب تقییدها لإمکان دبغها عند جعلها غمدا،إذن فالروایة أیضا علی خلاف التقیة،و أما توهم أن الأخبار المانعة تشتمل علی کلمة السحت التی تأبی عن حملها علی الکراهة فهو توهم فاسد لما مر فی بیع العذرة من أن إطلاق السحت علی المکروه فی الروایات و اللغة کثیر جدا.

هذا کله مع قصر النظر علی المکاتبة،و لکنها ضعیفة السند فلا تقاوم الروایات المانعة لأن فیها روایة الجعفریات و هی موثقة،إذن فلا مناص من الحکم بحرمة بیع المیتة و أجزائها التی تحلها الحیاة،إلا أن یتمسک فی تجویز بیعها بحسنة الحلبی و صحیحة الواردتین فی بیع المیتة المختلطة بالمذکی ممن یستحلها،فإنهما بعد إلغاء خصوصیتی الاختلاط و المستحل تدلان علی جواز بیعها مطلقا،إلا أن الجزم بذلک مشکل جدا فلا مناص من اختصاص جواز البیع بالمستحل کما سیأتی.

فرعان
الأول حکم بیع المذکی المختلط بالمیتة

قوله:انه کما لا یجوز بیع المیتة منفردة کذلک لا یجوز بیعها منضمة إلی المذکی. أقول تارة تمتاز المیتة من المذکی و اخری لا تمتاز،أما الصورة الاولی فلا إشکال فی جواز البیع و صحته بالنسبة الی غیر المیتة،سواء کانت ممتازة عند المتبایعین أم عند المشتری فقط لعدم ترتب الأثر علی علم البائع و جهله،و أما بالنسبة إلی المیتة فیجری فیها جمیع ما تقدم فی بیعها منفردة لأن انضمام المیتة إلی المذکی لا بغیر حکمها،نعم بناء علی حرمة بیعها یکون المقام من مصادیق بیع ما یجوز و ما لا یجوز فیسقط الثمن بالنسبة إلیهما و یحکم بالصحة فیما یجوز و بالفساد

ص:71

فیما لا یجوز،و لا خیار للمشتری بالنسبة الی ما یجوز لأجل تبعض الصفقة لعلمه بالحال کما هو المفروض.

و أما الصورة الثانیة فهی محل الکلام و مورد النقض و الإبرام،و تحقیقها فی مقامین:

الأول من حیث القواعد العامة.و الثانی من حیث الروایات الخاصة الواردة فی خصوص ذلک.

أما المقام الأول فإن کان المدرک فی حرمة بیع المیتة منفردة هی النصوص و الإجماعات فلا شبهة فی أنهما لا تشملان صورة الاختلاط لانه لا یصدق بیع المیتة علی ذلک مع قصد المذکی حتی مع تسلیمها إلی المشتری لکونه مقدمة لا قباض المبیع،و علی هذا فلا وجه لما ذهب الیه المصنف من المنع علی الإطلاق بناء علی وجوب الاجتناب عن کلا المشتبهین،نعم لا یجوز أن ینتفع بهما فیما کان مشروطا بالطهارة و التذکیة و إن کان المدارک فی المنع هی حرمة الانتفاع بالمیتة لکونها فی نظر الشارع مسلوب المالیة نظیر الخمر و الخنزیر و قلنا بتنجیز العلم الإجمالی،فغایة ما یترتب علیه هو عدم جواز بیعهما من شخص واحد للعلم الإجمالی بوجود ما لا یجوز الانتفاع به فیهما فان العلم الإجمالی یوجب وجوب الاجتناب عن کلا المشتبهین، إذن فیجری هنا ما جری فی المیتة المعلومة تفصیلا من الأحکام التکلیفیة و الوضعیة،و أما بیعهما من شخصین فلا بأس فیه لأن حرمة الانتفاع لم تثبت إلا علی المیتة المعلومة أما إجمالا أو تفصیلا علی سبیل منع الخلو و إذا انتفی أحد العامین انتفت حرمة الانتفاع أیضا فلم یبق فی البین إلا الاحتمال فیندفع بالأصل،فإن هذا نظیر انعدام أحد المشتبهین أو خروجه عن محل الابتلاء الموجب لسقوط العلم الإجمالی عن التأثیر.

قوله:فأکل المال بإزائه أکل المال بالباطل. أقول قد عرفت ما فیه فی بیع الأبوال قوله:و جوز بعضهم البیع بقصد بیع المذکی. أقول قد عرفت أن هذا هو الصحیح بناء علی أن المانع عن بیع المیتة هو الإجماع أو النص،فیبیعهما بقصد المذکی ثم یسلمهما إلی المشتری فینتفع بهما فی غیر ما یشترط فیه التذکیة،نعم لو کان المانع هی حرمة الانتفاع فیجری فیه ما ذکرناه.

قوله:و جواز ارتکاب أحدهما. أقول لا دخل للقول بجواز ارتکاب أحدهما فی جواز البیع بقصد المذکی،فإنه بناء علی هذا المنهج یجوز بیع أحدهما معینا أیضا لو کان المانع عن البیع عدم جواز انتفاع المشتری إذ المفروض حینئذ جواز انتفاع کل شخص بما یشتریه، نعم بناء علی کون المانع من بیع المیتة هو النص أو الإجماع لا یصح البیع إلا بقصد المذکی کما عرفت.

ص:72

قوله:لکن لا ینبغی القول به فی المقام. أقول قد منع المصنف عن جواز بیع أحد المختلطین حتی مع القول بأنه یجوز ارتکاب أحد المشتبهین و عدم تنجیز العلم الإجمالی،و ذلک لأصالة عدم التذکیة الجاریة فی اللحوم،فإنها أصل موضوعی حاکم علی سائر الأصول من أصالتی الحل و الطهارة،و فیه ان أصالة عدم التذکیة لا تثبت المیتة التی هی أمر وجودی إلا علی القول بالأصول المثبتة،لا یقال ان المیتة عبارة عما لم تلحقه الذکاة کما فی القاموس،إذن فلا شبهة فی ثبوتها بالأصل بلا أن یلزم منه المحذور و المذکور،فإنه یقال ان الأصل المذکور و إن کان متکفلا لإثبات ذلک العنوان إلا أنه أمر یغایر المیتة و یلازمها و لیس متحدا معها،لأنها فی عرف الشرع و اللغة[1]إما عبارة عما مات حتف أنفه،و إما عبارة عما فارقته الروح بغیر ذکاة شرعیة و علی هیئة غیر مشروعة إما فی الفاعل أو فی المفعول،فلا یثبت شیء منهما بأصالة عدم التذکیة إلا علی القول بحجیة الأصل المثبت فالمحذور فی محله،و أما ما فی القاموس فأمر لم تثبت صحته،و کذلک ما عن أبی عمرو من أنها ما لم تدرک تذکیته.

و أما المقام الثانی فالروایات الواردة هنا علی طائفتین أما الطائفة الأولی[2]فتدل علی حرمة بیع المذکی المختلط بالمیتة،و حرمة الانتفاع بهما،بل یرمی بهما الی الکلاب.و فیه أولا ان الرمی بهما الی الکلاب کنایة عن حرمة الانتفاع بهما علی نحو الانتفاع بالمذکی،کما حملنا علی ذلک قوله«ع»فی روایة الوشاء المتقدمة(أما علمت أنه یصیب الید و الثوب و هو حرام)و إلا فلا مناص من الالتزام بالوجوب النفسی للرمی،و هو بدیهی البطلان،إذ عمدة ما یکون محط النظر و مورد الرغبة من المیتة هو جلدها و لیس هذا مما تأکله الکلاب،و هذا نظیر ما سیأتی فی بیع الدراهم المغشوشة من أمره«ع»بکسر درهم من طبقتین طبقة من نحاس و طبقة من فضة فإن المراد بذلک لیس إلا إعدام الهیئة الدرهمیة لئلا یعامل علیها معاملة الدراهم الرائجة و إلا فکسر الدرهم المغشوش لیس من الواجبات النفسیة کالصوم و الصلاة،و من هذا القبیل

ص:73

أیضا أمره«ع»بإراقة الإنائین المشتبهین،و بإراقة المرق المتنجس کما سیأتی فی الانتفاع بالمتنجس و ثانیا ان حرمة الانتفاع بهما بحسب أنفسهما لا ینافی جواز بیعهما ممن هو فی حکم الکلب أو أضل سبیلا،و یؤیده ما ورد فی بعض الروایات[1]من إطعام المرق المتنجس أهل الذمة أو الکلاب فإنه«ع»قد جعل سبیلهما واحدا،و أما غیر الذمی فهو مثله بل أولی.

و ثالثا لو أغمضنا عن جمیع ما ذکرناه فغایة ما یستفاد من الروایة لیس إلا حرمة الانتفاع بکلا المختلطین لوجود المیتة فیهما فتکون مما تدل علی حرمة الانتفاع بهما و قد تقدم الکلام فی ذلک و أما الطائفة الثانیة[2]فهی تدل علی جواز بیع المذکی المختلط بالمیتة ممن یستحلها،و بهما ترفع الید عن ظاهر روایة الجعفریات لو سلم لها ظهور فی حرمة البیع علی الإطلاق،بل یمکن أن یقال ان تخصیص الحکم بالمستحل لیس إلا لعدم رغبة غیره إلیهما فیکونان مسلوبی المالیة خصوصا إذا لم یکن المراد بالمستحل إلا مستحل الأکل فقط کما هو الظاهر دون مستحل البیع و ان کان یحرم أکله،و اما إذا وجد من یرغب إلیهما و ینتفع بهما فی غیر ما اعتبرت فیه التذکیة و الطهارة کمن یشتریهما لینتفع بهما فی مثل التسمید أو سد الساقیة،أو یصرفهما فی أکل السابع و الطیور،أو کان المشتری ممن لا یبالی بأکل المیتة کفساق المسلمین،فیجوز بیعهما من غیر المستحل أیضا،إلا أن الجزم بذلک مشکل جدا فلا مناص من تخصیص جواز البیع بالمستحل،نعم لا یبعد القول بجواز بیع المیتة منفردة و مع التمیز من المستحل أیضا،ضرورة أن الاختلاط و الاشتباه لا دخل له فی الجواز،و علیه فیخصص بهاتین الروایتین ما دل علی حرمة بیع المیتة علی الإطلاق.

ص:74

قوله:و عن العلامة (1)حمل الخبرین علی جواز استنقاذ مال المستحل للمیتة بذلک برضاه. أقول یرد علیه أولا ان النسبة بین الکافر المستحل و بین ما یجوز استنقاذ ماله عموم من وجه،فإنه قد یکون المستحل ممن لا یجوز استنقاذ ماله إلا بالأسباب الشرعیة کالذمی، و قد یکون غیر المستحل ممن یجوز استنقاذ ماله.

و ثانیا انه لم یکن فی مکان صدور تلک الأخبار و زمانه کافر حربی یجوز استنقاذ ماله فإنها إنما صدرت من الصادق«ع»فی الکوفة فکانت هی و نواحیها فی ذلک الوقت خالیة عن الحربیین لدخول غیر المسلمین فیها بأجمعهم تحت الذمة و الأمان.

قوله:و یمکن حملهما علی صورة قصد البائع المسلم أجزائها التی لا تحلها الحیاة. أقول الظاهر أن هذا الرأی إنما نشأ من عدم ملاحظة الروایتین،فإنه مضافا الی إطلاقهما و عدم وجود ما یصلح لتقییدهما،إن الحسنة إنما اشتملت علی اختلاط المذکی بالمیتة من الغنم و البقر فبدیهی انه لیس فی البقر من الأجزاء التی لا تحلها الحیاة شیء لیمکن الانتفاع به حتی یتوهم حمل الروایتین علی ذلک. قوله:و الروایة شاذة. أقول لا یضر شذوذها بحجیتها بعد فرض صحتها و الإجماع المحصل علی حرمة التصرف فی المیتة غیر ثابت،و المنقول منه مع تصریح جماعة من الفقهاء بالجواز غیر حجة،و أما دعوی معارضتها بما دل علی المنع فقد عرفت الحال فیها.

قوله:یرجع الی عموم ما دل علی المنع عن الانتفاع بالمیتة. أقول قد تقدم حمل الروایات المانعة علی صورة الانتفاع بها کالمذکی بقرینة الروایات المجوزة أو علی الکراهة.

إزاحة وهم

ربما یتخیل الغافل انه بناء علی تکلیف الکفار بالفروع کتکلیفهم بالأصول کما هو الحق و المشهور یکون بیع المذکی المختلط بالمیتة اعانة علی الإثم فهی محرمة،و فیه مضافا الی منع کون المقام من صغریات الإعانة علی الإثم،و منع قیام الدلیل علی حرمتها لو کان منها و إنما هو کبیع العنب و التمر و عصیرهما ممن یعلم انه یجعلها خمرا الذی لا شبهة فی جوازه کما سیأتی انه لا ریب فی جواز مثل هذا النحو من الإعانة علی الإثم،و إلا فلم یجز سقی الکافر أیضا لتنجس الماء بمجرد مباشرته إیاه ببشرته فیحرم علیه شربه فیکون سقیه إعانة علیه،مع أنه لم یقل أحد بحرمته من جهة الإعانة علی الإثم،کیف و قد ورد (2)جواز إبراد الکبد

ص:75


1- 1) فی ج 4 المختلف ص 131.
2- 2) ضریس عن أبی جعفر«ع»قال ان اللّه یجب إبراد الکبد الحری،و من سقی کبدا حری من بهیمة أو غیرها أظله اللّه یوم لا ظل إلا ظله.موثقة.فی القاموس مادة حر الحران العطشان و الأنثی الحری مثل عطشی،مسمع عن أبی عبد اللّه«ع»أفضل الصدقة إبراد کبد حری.ضعیفة لعبد اللّه.و فی روایة أخری أمر«ع»بسقی نصرانی من قبیلة الفراسین عند ضعفه من العطش.راجع ج 1 کا باب 41 سقی الماء من الزکاة ص 178 إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه ان علیا«ع»کان یقول و لا تصدقوا بشیء من نسککم إلا علی المسلمین و تصدقوا بما سواه غیر الزکاة علی أهل الذمة.موثقة.راجع ج 2 ئل باب 20 استحباب الصدقة من أبواب الصدقات.

الحری،و جواز تصدق غیر النسک و الزکاة علی أهل الذمة،و جواز سقی النصرانی، و أیضا مقتضی ذلک التوهم تحریم بیع المأکولات و المشروبات من الکفار،و لا یلزم من تکلیف الکفار بالاجتناب عن المأکولات و المشروبات لتنجسها بالمباشرة تکلیف بما لا یطاق فان الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.خلاف بداهة عن أول الشهیدین فی الدروس احتمال الرجوع فی المقام الی ما ورد[1]فی اللحم الغیر المعلوم کونه ذکیا أو میتا،من أنه یطرح علی النار فکلما انقبض فهو ذکی و کلما انبسط فهو میت.

و فیه مضافا الی ضعف السند فیه،ان ذلک علی خلاف البداهة من الوجدان،فان من المقطوع انه لا تأثیر لانقباض اللحم و لا لانبساطه إذا طرح علی النار فی وقوع الذکاة علیه و عدم وقوعها،إذن فرد علمه إلی أهله طریق الاحتیاط و سبیل النجاة،و ان ادعی الشهید(ره)قیام الشهرة القریبة من الإجماع علی العمل به فی مورده.

الثانی جواز بیع میتة ما لیس له دم سائل

قوله:الثانی ان المیتة من غیر ذی النفس السائلة یجوز المعاوضة علیها. أقول المشهور بین الأصحاب شهرة عظیمة بل الإجماع علی جواز المعاوضة علی میتة غیر ذی النفس السائلة

ص:76

و قد ذهب الی ذلک أکثر العامة و ان کان قد یظهر من بعضهم الآخر خلافه[1]و ما ذهب الیه المشهور هو الوجیه،فإن المقتضی لجواز بیعها أعنی الانتفاع بها بالمنافع المحللة موجود خصوصا فی بعض أقسامها کالسمک فان دهنه من المنافع المهمة المقصودة للعقلاء،و المانع عنه مفقود لعدم ما یصلح للمانعیة عن المعاوضة علی المیتة الطهارة وضعا و تکلیفا،إذن فلا مانع من التمسک بالعمومات لإثبات صحتها،بل یمکن التمسک بها حتی مع الشک فی وجود المنافع فیها لما عرفته مرارا و ستعرفه من عدم اعتبار المالیة فی المعاوضات،و توهم ان بیعها ممن یعلم البائع أنه یأکلها إعانة علی الإثم فیکون حراما،توهم فاسد فإنها کبیع التمر و العنب و العصیر ممن یجعلها خمرا و سیأتی جوازه و ورود الاخبار علیه و ان صدق علیه عنوان الإعانة علی الإثم،و أما الروایات الخاصة التی تدل علی حرمة بیع المیتة فلا ریب فی ظهورها بل صراحة بعضها فی المیتة النجسة،و أما الروایات العامة المتقدمة فمضافا الی ما تقدم فیها،أن الشهرة بل الإجماع علی خلافها هنا،فلا یکون ضعفها منجبرا بعمل الأصحاب.

حرمة التکسب بالکلب الهراش

اشارة

قوله:یحرم التکسب بالکلب الهراش و الخنزیر البریین إجماعا. أقول وجه التقیید بالبریین هو أن المشهور و المختار عنده طهارة البحریین منهما،و استدل علی ذلک فی کتاب الطهارة فی مسألة نجاسة الکلب بصحیحة ابن الحجاج[2]بل الظاهر أنهما من أقسام السمک الغیر المأکول فیکونان خارجین عما نحن فیه تخصصا،ثم ان تحریر البحث هنا یقع فی جهتین:الجهة الاولی فی بیع الکلب الهراش[3]الظاهر بل المجمع علیه بین أصحابنا حرمة

ص:77

بیعه و کون ثمنه سحتا،قال فی التذکرة (1)الکلب ان کان عقورا حرم بیعه عند علمائنا، بل عند أکثر العامة[1]لا یصح بیع الکلب مطلقا و لو کان کلب صید.

و تدل علی حرمة بیعه الروایات المتظافرة[2]إلا أن أکثرها ضعیفة السند،و جملة منها و إن کانت مطلقة تشمل جمیع أقسام الکلاب و لکنها مقیدة بالأخبار الآتیة فی جواز بیع کلب الصید التی هی صریحة فی جواز بیع الصیود منها،و علی هذا المنوال روایات العامة[3] علی کثرتها،و علیه فدعوی الإجماع التعبدی علی حرمة بیعه فی غیر محله،لأنه إن کان المراد بالحرمة هی الحرمة الوضعیة فهی و إن کانت مسلمة و لکن المدارک لها لیس إلا تلک الأخبار المتکثرة فیحکم بفساد بیعها لأجلها لا للإجماع التعبدی و ان کان المراد بها هی الحرمة التکلیفیة،ففیه ان الظاهر هو انحصار معقد الإجماع بالحرمة الوضعیة،بل یکفینا الشک فی

ص:78


1- 1) ج 1 ص 3 من البیع.

ذلک لکونه دلیلا لبیا لا یؤخذ من إلا المقدار المتیقن.

حرمة التکسب بالخنزیر

و الجهة الثانیة فی بیع الخنزیر المشهور بل المجمع علیه بین الخاصة و العامة[1]هو عدم جواز بیعه،قال فی التذکرة (1)لو باع نجس العین کالخنزیر لم یصح إجماعا.ثم ان الروایات الواردة فی هذه المسألة علی طائفتین:الأولی ما دل علی حرمة بیعه وضعا و تکلیفا،منها قوله«ع»فی روایة قرب الاسناد[2]فی نصرانیین باع أحدهما الخنزیر إلی أجل ثم أسلما (إنما له الثمن فلا بأس أن یأخذه)فإن مفهومه أن غیر أخذ الثمن لا یجوز له بعد الإسلام، و علیه فیستفاد من الروایة أمران:الأول حرمة بیع الخنزیر بعد الإسلام و إلا لکان الحصر فیها لغوا،و الثانی صحة المعاملة علیه قبل الإسلام و إلا لکان أخذ ثمنه بعد الإسلام حراما و أکلا للمال بالباطل.

و منها روایتی الجعفریات و دعائم الإسلام (2)حیث جعل الامام«ع»ثمن الخنزیر فیهما من السحت.و منها جملة من الروایات[3]الدالة علی حرمة بیعه بل فی بعضها نهی عن إمساکه.

ص:79


1- 1) ج 1 ص 3 من البیع.
2- 2) راجع ج 2 المستدرک باب 5 مما یکتسب به ص 426.

و قد ذکر ذلک فی أحادیث أهل السنة أیضا[1].

و الثانیة[2]ما دل علی صحة بیع الخنزیر وضعا،بدعوی أنها صریحة فی جواز استیفاء الدین من ثمن الخنزیر،فلازم ذلک هو نفوذ بیعه وضعا و ان کان للبائع حراما تکلیفا و إلا فیلزم استیفاء الدین من مال الغیر فهو حرام لکونه أکلا للمال بالباطل.

و من هنا یظهر الوجه فی دلالة قوله ع فی روایة محمد بن مسلم(أما للمقتضی فحلال و أما للبائع فحرام)علی صحة بیع الخنزیر وضعا و حرمته تکلیفا.

و جمع بینهما فی الوسائل بحمل المجوزة علی فرض کون البائع ذمیا،و استشهد علیه بموثقة منصور[3]لدلالتها علی جواز خصوص بیع الذمی الخنزیر،فتکون مقیدة لما یدل علی جواز بیعه مطلقا

ص:80

و فیه ان حمل المطلق علی المقید و ان کان من المسلمات،إلا أنه فیما کان بینهما تناف و تعاند نظیر أعتق رقبة و لا تعتق رقبة کافرة،و لو لم یکن بینهما تناف کما فی المقام فلا وجه لذلک الحمل و الصحیح أن یقال ان الظاهر من خبر منصور،و من قوله«ع»فی روایة قرب الاسناد (إنما له الثمن فلا بأس أن یأخذه)و من روایة عمار بن موسی[1]هو جواز بیع الذمی الخنزیر قبل الإسلام،فیقید بها ما یدل علی حرمة بیعه مطلقا،إذن فتنقلب النسبة و تصیر المانعة أخص من المجوزة و مقیدة لها،و علیه فلا یجوز لغیر الذمی بیع الخنزیر،و قد اتضح مما ذکرناه حکم بیع الخمر أیضا لأنها مذکورة فی الأخبار المتقدمة مع الخنزیر.ثم انه استدل غیر واحد من الأعاظم علی حرمة بیعه بالأخبار العامة المذکورة فی أول الکتاب،و قد عرفت ما فیها من ضعف السند و الدلالة،ثم لا ینقضی العجب من المصنف حیث اقتصر فی الاستدلال علی حرمة بیع الخنزیر بالإجماع فقط و لم یتعرض للروایات و هو أعرف بالحال.

قوله:و کذلک أجزائهما. أقول ظاهر النصوص و الإجماعات أنما تمنعان عن بیع الکلب و الخنزیر بوصفهما العنوانی و بصورتهما النوعیة التی بها شیئیة الأشیاء فی دار تحققها و صقع تکونها،و بما أن الأحکام الشرعیة إنما تترتب علی الموضوعات العرفیة فلا مانع من شمول المنع للمیتة منهما،لصدق عنوان الکلب و الخنزیر علیها و لو بالمسامحة العرفیة،إذن فتکون المعاملة علیها أیضا حراما،و أما أجزائهما فلا شبهة فی أنه لا یصدق علیها عنوان الکلب و الخنزیر لا بالدقة العقلیة و لا بالمسامحة العرفیة،و علیه فان کانت مما تحله الحیاة شملتها أدلة حرمة بیع المیتة لصدقها علیها و ان جاز الانتفاع بها فی غیر ما هو مشروط بالطهارة و التذکیة،و إن کانت مما لا تحله الحیاة کالشعر و نحوه فحرمة البیع و الانتفاع هنا متوقفة علی مانعیة النجاسة عنهما،إذ من الواضح جدا ان نجاسة الکلب و الخنزیر لا تختض بما تحله الحیاة فقط،و حیث علمت أنها لا تصلح للمانعیة عن البیع و لا عن الانتفاع،فلا مانع عن بیعها للعمومات و لا عن الانتفاع بها بالمنافع المحللة لأصالة الإباحة،و من هنا أفتی بعضهم بجواز بیع شعر الخنزیر و الانتفاع به فی غیر ما هو مشروط بالطهارة،و ان منع عن بیعه بعض

ص:81

فقهاء العامة (1)لأنه نجس العین فلا یجوز بیعه إهانة له،نعم بناء علی طهارة الخنزیر کما ذهب الیه المالک[1]یجوز بیع شعره لعدم نجاسته المانعة عنه.

علی أنه ورد فی جملة من الأحادیث[2]جواز الانتفاع بشعر الخنزیر فی غیر ما هو مشروط بالطهارة،و علی هذا فهو من الأموال عند الشارع أیضا.

حرمة التکسب بالخمر و کل مسکر مائع

اشارة

قوله:یحرم التکسب بالخمر و کل مسکر مائع و الفقاع إجماعا نصا و فتوی. أقول قد قامت الضرورة من المسلمین[3]و أطبقت الروایات من الفریقین علی حرمة بیع الخمر و کل

ص:82


1- 1) ج 5 شرح فتح القدیر ص 202.

مسکر مائع مما یصدق علیه عنوان الخمر من النبیذ و الفقاع و غیرهما،أما الخمر فشربها من أعظم الکبائر و أشد الجرائم فی نظر الشارع المقدس،لما فیه من المضار الدینیة و الخلقیة

ص:83

و البدنیة و الاجتماعیة،و یدل علی حرمة جمیع شؤنها الخیر المشهور بین الخاصة و العامة من أن رسول اللّه ص«لعن الخمر و عاصرها و معتصرها و بائعها و مشتریها و ساقیها آکل ثمنها و شاربها و حاملها و المحمولة إلیه». و أما النبیذ المسکر فیدل علی حرمة بیعه کلما دل علی حرمة بیع الخمر وضعا و تکلیفا لکونه خمرا واقعا،لقوله ع[1]«فما فعل فعل الخمر فهو خمر»و لقوله ع«فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»فمن البدیهی أن النبیذ یفعل ما تفعله الخمر و یسکر کاسکار الخمر،إذن فیکون ذلک مثلها فی جمیع الأحکام،و من هنا ورد فی بعض الروایات[2]«شه شه تلک الحمرة المنتنة»أی النبیذ المسکر،علی أنه جعل الامام ع من أقسام السحت ثمن النبیذ المسکر فی روایة عمار الآتیة،و هذه الروایة و ان لم یکن فیها دلالة علی حرمة البیع تکلیفا لظهورها فی الحکم الوضعی فقط إلا ان فی غیرها کفایة،فإنه بعد ما صدقت الخمر علیه حقیقة فیترتب علیه جمیع أحکامها التی منها حرمة البیع،و هکذا الفقاع لکونه خمرا مجهولا استصغرها الناس و قد نزل ذلک منزلة الخمر فی عدة من الروایات[3]بل فی بعضها ما یدل علی

ص:84

مبغوضیة بیعه کقوله ع:لو أن الدار داری لقتلت بایعه.

تذکرة

هل تختص حرمة البیع بالمائعات المسکرة کما یظهر من المصنف أم نعم جمیع المسکرات و لو کانت من الجوامد خلاف،ربما یقال بالثانی لوجوه:

الأول ان المستفاد من کلام بعض اللغویین[1]هو أن الخمر ما یخامر العقل و یخالطه فتشمل المسکرات الجامدة أیضا.

و فیه انه لا نسلم اعتبار قول اللغوی خصوصا فی مثل المقام من جهة العلم بعدم صحة صدق الخمر علی المجامد،علی أن الظاهر من کلام تاج العروس[2]هو ذلک أیضا فإنه ذکر الخلاف فی اختصاص الخمر بما أسکر من عصیر العنب خاصة و فی عمومه المسکر من عصیر کل شیء،و أما المسکر الجامد فخارج عن محل الخلاف.

الثانی أن الظاهر من التنزیل فی قوله«ص»[3]«کل مسکر خمر»ترتب جمیع آثار الخمر أو آثارها الظاهرة علیه التی منها حرمة البیع.

ص:85

و فیه أن الروایة ضعیفة السند و غیر منجبرة بعمل المشهور و ان قلنا بالانجبار فی موارد عمل المشهور فان مقتضی العمل بعموم التنزیل الحکم بنجاسة المسکر الجامد،مع أنه لم یقل به أحد و أما التزام الفقهاء رضوان اللّه علیهم بإجراء جمیع أحکام الخمر علی کل مسکر مائع فهو لیس لأجل الأخذ بعموم التنزیل بل للروایات الخاصة کما عرفت.

الثالث روایة عمار بن مروان[1]فإنها تدل علی أن ثمن المسکر من السحت إلا أنها ظاهرة فی الحکم الوضعی.

و فیه أن الاستدلال بها متوقف علی أن تکون الروایة کما نقله التهذیب المطبوع و بعض نسخ الوسائل بأن یکون لفظ المسکر معطوفا علی النبیذ،و أما إذا کان وصفا له بإسقاط الواو بینهما کما فی غیر نسخة التهذیب و بعض نسخ الوسائل فهی لا محالة تسقط عن الدلالة، إذا عرفت ذلک فاعلم انه و إن کان لفظ المسکر معطوفا علی النبیذ فی روایة التهذیب إلا أنها مذکورة فی الوافی و الکافی بدون العطف بل بالتوصیف،فترجیحهما علی نسخة التهذیب من الوضوح بمکان و لو مع دوران الأمر بین الزیادة و النقیصة،و یؤید ذلک ما فی روایة الخصال علی ما فی الوسائل من جعل لفظ المسکر وصفا للنبیذ.

تبصرة

لا یخفی علیک أنه لا یبعد اختصاص الروایات بما کان المطلوب منه الشرب و الإسکار، و أما لو کان الغرض منه شیء آخر و لم یکن معدا للإسکار عند العرف و لو کان من أعلی مراتب المسکرات کالمایع المتخذ من الخشب أو غیره المسمی بلفظ(أکل)لأجل المصالح النوعیة و الأغراض العقلائیة،فلا یحرم بیعه لانصراف أدلة حرمة بیع الخمر عنه وضعا و تکلیفا کانصراف أدلة عدم جواز الصلاة فیما لا یؤکل لحمه عن الإنسان.

قوله:و فی بعض الأخبار یکون لی علی الرجال دراهم. أقول قد ورد فی جملة من

ص:86

الروایات جواز تخلیل الخمر بمعالجتها بالملح و نحوه،و علیه تحمل الروایة ابن أبی عمیر[1] الظاهرة فی جواز أخذ الخمر من الغریم لاستیفاء الدین منه و إفسادها بعد الأخذ،و یؤید ذلک الحمل تفسیر علی بن حدید الإفساد فیها بالتخلیل.

قوله:و المراد به إما أخذ الخمر مجانا. أقول حمل الروایة بنحو المانعة الخلو إما علی أخذ الخمر مجانا ثم تخلیلها،أو أخذها و تخلیلها لصاحبها ثم أخذ الخل وفاء عن الدراهم، لا یستقیم،أما الوجه الأول فلأن أخذها مجانا ثم تخلیلها لا یوجب سقوط الدین عن الغریم و هی صریحة فی حصول الوفاء بمجرد الأخذ،و أما الوجه الثانی فهو خلاف ظاهر الروایة فإن الموجود فیها لیس إلا کون استیفاء الدین بالخمر نفسها،علی أن المالک لم یعط الخل وفاء عن الدراهم و إنما أعطی الخمر لذلک فقط،إذن فیحتاج أخذ الخل کذلک إلی إذن جدید من المالک،و الروایة صریحة فی خلافه.

لا یتوهم أن الروایة ظاهرة فی جواز اشتراء الخمر بقصد التخلیل فنرفع الید بها عن ظهور ما یدل علی حرمة بیعها مطلقا وضعا و تکلیفا،و علیه فتختص حرمة بیع الخمر بغیر هذه الصورة،فإن هذا التوهم فاسد لکونها أجنبیة عن قضیة البیع و الشراء و إنما هی راجعة إلی جواز أخذ الخمر من المدیون مسلما کان أو کافرا وفاء عن الدین إذا کان الأخذ بقصد التخلیل و الإفساد،نعم لو التزامنا بما التزم به المصنف فیما تقدم من أن(معنی حرمة الاکتساب حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتب الأثر)و أن(ظاهر أدلة تحریم بیع مثل الخمر منصرف الی ما لو أراد ترتیب الآثار المحرمة أما لو قصد الأثر المحلل فلا دلیل علی تحریم المعاملة) لتوجه القول بجواز بیع الخمر و شرائها بقصد التخلیل و لکنک عرفت ما فیه من الوهن.

تنبیه

قد تقدم فی بیع الخنزیر ظهور روایة منصور و غیرها فی صحة بیع الذمی خمره و خنازیره

ص:87

من ذمی آخر،فیقید بها ما یدل علی حرمة بیع الخمر و کون ثمنها سحتا،و علیه فتنقلب النسبة و یکون ما یدل علی المنع أخص مما یدل علی الجواز مطلقا کروایتی محمد بن مسلم و زرارة المتقدمتین فی ذلک البحث،إذن فنحمل المطلق علی المقید فتصیر النتیجة أنه یجوز للذمی أن یبیع خمره من ذمی آخر.

جواز بیع المتنجس

اشارة

قوله:یحرم المعاوضة علی الأعیان المتنجسة الغیر القابلة للطهارة. أقول المشهور بین الخاصة و العامة[1]حرمة المعاوضة علی الأعیان المتنجسة الغیر القابلة للتطهیر،قال فی التذکرة (1)ما عرضت له النجاسة ان قبل التطهیر صح بیعه و یجب إعلام المشتری بحاله، و ان لم یقبله کان کنجس العین.

و قال فی المبسوط (2)ما حاصله ان کان المتنجس جامدا و کان النجاسة العارضة رقیقة و غیر مانعة عن النظر الیه جاز بیعه و إلا فلا یجوز،و ان کان مائعا فإن قبل التطهیر صح بیعه و إلا فلا یصح.بل فی بعض الحواشی ان هذا الحکم مما لا خلاف فیه بل هو مما قام علیه الإجماع و الاشکال فی کونه مجمعا علیه.

ثم ان محصل کلام المصنف ان المتنجس إذا توقف الانتفاع به بالمنافع المحللة علی الطهارة نظیر المائعات المتنجسة المعدة للشرب و المأکولات المتنجسة المعدة للأکل،فإن بیعه لا یجوز للأخبار العامة المتقدمة،لظهورها فی أن حرمة الشیء تستلزم حرمة بیعه و ثمنه و من هذا القبیل المتنجس،و ان لم یتوقف الانتفاع به علی الطهارة أو کان قابلا للتطهیر مع توقف الانتفاع به علیها فان بیعه یجوز،نعم لا یجوز الاستدلال بقوله«ع»فی روایة تحف العقول (أو شیء یکون فیه وجه من وجوه النجس)علی حرمة بیعه،لان الظاهر من وجوه النجس العنوانات النجسة فإن وجه الشیء إنما هو عنوانه فلا یشمل الأعیان المتنجسة فإن النجاسة فیها لیست إلا أمرا عرضیا فلا تکون وجها و عنوانا لها.

ص:88


1- 1) ج 1 ص 3 من البیع.
2- 2) فی حکم ما یصح بیعه و ما لا یصح.

و فیه مضافا الی ما تقدم فی تلک الروایات من ضعف السند و الدلالة و عدم انجبارهما بشیء انه إن کان المراد بالحرمة فیها هی الحرمة الذاتیة فلا تشمل المتنجس،بداهة أنها مختصة بالأعیان النجسة،إذن فیکون المتنجس خارجا عنها بالتخصص،و إن کان المراد بها ما یعم الحرمة الذاتیة و الحرمة العرضیة فیلزم علی المصنف أن لا یفرق حینئذ بینما یقبل التطهیر و ما لا یقبله،فان موضوع حرمة البیع علی هذا التقدیر ما یتصف بالنجاسة سواء کانت ذاتیة أم عرضیة،فإمکان التطهیر لا یؤثر فی زوال الحرمة الفعلیة عن موضوعها الفعلی،و مع الإغضاء غما ذکرناه لا دلالة فیها علی حرمة بیع المتنجس لأنه ان کان المراد بالحرمة فیها حرمة جمیع منافع الشیء أو منافعه الظاهرة فلا نشمل المتنجس،ضرورة جواز الانتفاع به فی غیر ما یتوقف علی الطهارة کاطعامه الصبی لو قلنا بجوازه أو البهائم أو ینتفع به فی غیر ذلک من الانتفاعات المحللة،و إن کان المراد بها حرمة الأکل و الشرب فقط فإنها لا نستلزم حرمة البیع لما عرفت مرارا من أنه لا ملازمة بین حرمة الأکل و الشرب و بین حرمة البیع فان کثیرا من الأشیاء یحرم أکلها و شربها و مع ذلک یجوز بیعها،و أما دعوی الإجماع التعبدی علی ذلک فجزافیة فان مدرک المجمعین هی الوجوه المذکورة علی حرمة بیع المتنجس.

جواز بیع السباع و المسوخ الا القرد

قوله:قیل بعدم جواز بیع المسوخ من أجل نجاستها. أقول أما المسوخ فالمشهور بین أصحابنا و بین العامة[1]حرمة بیعها،بل فی المبسوط (1)ادعی الإجماع علیها و علی حرمة الانتفاع بها،و فی الخلاف (2)دلیلنا علی حرمة بیعها إجماع الفرقة و قوله(صلی الله علیه و آله):ان الله إذا حرم شیئا حرم ثمنه و هی محرمة الأکل فیحرم ثمنها،و عن بعض فقهائنا انه لا یجوز بیعها لنجاستها،فالمتحصل من کلماتهم انه لا یجوز بیع المسوخ،لحرمة لحمها،و عدم وجود النفع فیها،و نجاستها و قیام الإجماع علی حرمة التکسب بها،و الکل ضعیف،أما الحرمة فلا ملازمة بینها و بین حرمة البیع کما تقدم،و أما النجاسة فأیضا کذلک لو سلمنا نجاسة جمیع أفراد المسوخ،و أما عدم النفع فیها ففیه مضافا الی عدم اعتبار المالیة فی العوضین و کفایة

ص:89


1- 1) فی التجارة فی حکم ما یصح بیعه و ما لا یصح.
2- 2) ج 1 ص 225.

الأغراض الشخصیة فی خروجها عن السفهیة،أنه لا شبهة فی جواز الانتفاع بها منفعة محللة أما الإجماع فنمنع کونه تعبدیا و کاشفا عن رأی الحجة«ع»بل هو کسائر الإجماعات المنقولة فی المسائل المتقدمة فی استناده الی المدارک المعلومة،و یؤید ذلک ما ورد فی بعض الروایات[1] من جواز بیع عظام الفیل.

(نعم)ورد النهی[2]عن بیع القرد و کون ثمنه سحتا،فان ثبت عدم الفصل فهو و إلا فلا بد من الحکم بعدم الجواز فی خصوص القرد.

و أما السباع فلا شبهة فی جواز بیعها لجواز الانتفاع بها بالاصطیاد و نحوه و کذلک الانتفاع بجلودها علی ما ورد فی جملة من الروایات (1)بل فی حدیث[3]جواز بیع الفهود و فی آخر (2)جواز بیع الهر و فی الثالث[4]جواز بیع جلود النمر و فی روایة علی بن جعفر[5] جواز بیع جلود السباع و الانتفاع بها مطلقا.

ص:90


1- 1) منها موثقة سماعة المتقدمة فی ص 7.
2- 2) فی موثقة عبد الرحمن لا بأس بثمن الهر.و سنذکرها فی بیع کلاب الصید.

و بهذا نحمل ما یدل[1]علی حرمة بیع جلود السباع علی الکراهة،نعم ذکر فی بعض روایات العامة[2]انه لا یجوز بیع السنور و من هنا وقع الخلاف بینهم فی ذلک.

أما المستثنی من الأعیان المتقدمة

جواز بیع العبد الکافر

قوله:یجوز بیع المملوک الکافر أصلیا کان أم مرتدا ملیا. أقول إن الممالیک من الکفار علی أقسام ثلاث،فان کفرهم إما أصلی أو عرضی،و علی الثانی فاما أن یعرضهم الکفر بارتدادهم عن الملة و إما أن یعرضهم ذلک بارتدادهم عن الفطرة،أما الکافر الأصلی و المرتد الملی فیجوز بیعهما بلا اشکال بل فی المتن(بلا خلاف ظاهر بل ادعی علیه الإجماع و لیس ببعید)و لا یتوجه الاشکال علی هذا الرأی من ناحیة الأخبار العامة المتقدمة لما عرفت من وهنها،و لا من ناحیة النجاسة فإن الکافر و إن کان من الأعیان النجسة و یشمله قوله«ع»فی روایة تحف العقول(أو شیء من وجوه النجس)إلا أن جمیع منافعه غیر متوقفة علی الطهارة بل یجوز الانتفاع به فی غیر ما اعتبرت فیه الطهارة،و الروایة لضعف سندها لا تصلح للمانعیة، و توهم قیام الإجماع علی عدم الجواز،إنما هو توهم فاسد،إذ مع کثرة المخالف و دعوی انعقاد الإجماع علی الجواز لا یبقی مجال لهذا التخیل،بل من القریب جدا أن یکون مدرک توهم الإجماع تلک الأخبار العامة،إذن فتکون المعاوضة علی المملوک الکافر الأصلی و المرتد الملی مشمولة للعمومات و هذا مضافا الی ما یظهر من جملة من الروایات[3]جواز بیع المملوک الکافر

ص:91

و أما المرتد الفطری ففی التذکرة (1)المرتد إن کان عن فطرة ففی صحة بیعه نظر ینشأ من تضاد الحکمین و من بقاء الملک فان کسبه لمولاه.و مراده ان الحکم بالقتل و الحکم بوجوب الوفاء بالعقد متضادان.و التحقیق إن ما یظهر من مطاوی کلمات الأصحاب تصریحا أو تلویحا فی منشأ الاشکال هنا وجهان،الأول من جهة نجاسته،و الثانی من جهة عدم صدق المال علیه أما الوجه الأول فهو یظهر من بعض الأساطین فی شرحه علی القواعد حیث بنی جواز بیع المرتد علی قبول توبته بل بنی جواز بیع مطلق الکافر علی قبوله للطهر بالإسلام.

و فیه مضافا الی منع مانعیة النجاسة عن البیع،انه لو کان جواز بیعه مبنیا علی زوال نجاسته بالتوبة لما کان فرق بین أقسام الکفار فی ذلک،سواء کان کفرهم أصلیا أم عرضیا و سواء کان عروضه بالارتداد عن الملة أم عن الفطرة،و سواء تقبل توبتهم أم لم تقبل، و ذلک لما عرفت فی بیع المتنجس ان فعلیة الحکم إنما هی بفعلیة موضوعه،فإذا قلنا بمانعیة النجاسة عن البیع کانت مانعة عنه بوجودها الفعلی سواء کانت قابلة للزوال أم لا کیف فإنه بعد صیرورة الموضوع فعلیا من جمیع الجهات فتلک القابلیة لا تؤثر فی انفکاک الحکم عنه علی أن إمکان طهره بالتوبة لا یستلزم تحقق الطهارة لاحتمال أن لا یتوب و لا یخرج الإمکان الاستقبالی من القابلیة إلی الفعلیة.إذن فلا تمنع النجاسة عن بیع العبد إذا ارتد عن الفطرة.

و أما الوجه الثانی فربما یقال بأن النجاسة و إن لم تکن مانعة عن البیع إلا أن العبد بارتداده عن الفطرة یخرج عن الملیة لوجوب قتله و إن تاب،إذن فیکون فی معرض التلف، و کذلک المرتد الملی إذا لم یتب،و من هنا استشکل غیر واحد من أعاظم الأصحاب فی رهن الفطری بدعوی أن الغرض من الرهانة هی الوثاقة فهی منتفیة فیه.

و فیه أن عدم سقوط القتل عنه لا یخرجه عن حدود المالیة،فإن الانتفاع به بالعتق بمکان من الإمکان،و لذا لو قتله غیر الحاکم بدون إذنه لضمنه،کیف فإنه من هذه الجهة لیس إلا کالمملوک المریض المشرف علی الموت،فهل یتوهم أحد سقوطه بذلک عن المالیة بحیث لا یوجب

ص:92


1- 1) ص 4 من البیع.

إتلافه الضمان،و مع الغمض عن جمیع المذکورات ان هذا الوجه إنما یصلح للمانعیة إذا حصل الجزم بالقتل لبسط ید الحاکم الشرعی علیه و علی إجراء الحدود لا مطلقا،إذن فیکون الدلیل أخص من المدعی.

جواز بیع کلب الصید

قوله:یجوز المعاوضة علی غیر کلب الهراش فی الجملة بلا خلاف ظاهر. أقول حیث لم یکن غیر کلب الهراش من أقسام الکلاب علی إطلاقه مما قام الإجماع علی جواز بیعه، فجعل المصنف الجواز المقید بالإجمال موردا لعدم الخلاف.فإنک ستعرف وقوع الخلاف فی بیع کلب الماشیة و الحائط و الزرع.

ثم ان تحقیق هذه المسألة فی ضمن جهات الجهة الأولی الظاهر أنه لا خلاف بین الإمامیة فی جواز بیع کلب الصید الذی اتصف بملکة الاصطیاد،و یطلق علیه الصیود بالحمل الشائع ففی الخلاف (1)دلیلنا إجماع الفرقة،بل دعوی الإجماع المحصل علیه فضلا عن الإجماع المنقول غیر جزافیة،إلا ما نسب الی ابن أبی عقیل من المنع عن بیع الکلب علی إطلاقه استنادا الی العمومات،و ما یظهر من النهایة (2)من قصر جواز التکسب به علی السلوقی و الماشیة و الزرع،إلا أنک قد عرفت فی بیع الکلب الهراش أن المطلقات و إن کانت متظافرة و لکنها قیدت بالروایات الخاصة التی تدل علی جواز بیع الصیود من الکلاب سلوقیا کان أم غیر سلوقی و سنذکرها فی الجهة الثانیة،نعم عن أکثر العامة انه لا یجوز بیع الکلب و لو کان کلب صید کما تقدم.

و قد ورد النص (3)من طرقهم عن النبی(صلی الله علیه و آله)علی خلافه.و ربما یتوهم تخصیص روایات الجواز بالسلوقی بدعوی انه هو المنساق منها لانصراف کلب الصید إلیه لکثرة وقوع الاصطیاد به فی الخارج أو أنه لا یتبادر و لا ینساق غیره من تلک الروایات،فیبقی غیر السلوقی تحت مطلقات المنع عن التکسب بالکلاب.

و فیه مضافا الی کون الروایات خالیة عن ذکر السلوقی،و کثرة الاصطیاد بغیره و ان کان أقل بالنسبة الیه،و ان المراد بالسلوقی هو مطلق کلب الصید و ان کان من غیر جنسه کما صرح به غیر واحد من الأعاظم،أنه یرد علیه ما فی المتن من(عدم الغلبة المعتد بها علی فرض تسلیم

ص:93


1- 1) ج 1 ص 224.
2- 2) أول المکاسب.
3- 3) فی ج 6 سنن البیهقی ص 6 عن جابر نهی عن ثمن الکلب و السنور إلا کلب الصید.

کون مجرد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف)و علیه فلا مجال لتخصیص جواز البیع بالسلوقی فقط.

ثم أجاب عنه المصنف ثانیا و قال(مع أنه لا یصح فی مثل قوله ثمن الکلب الذی لا یصید أو لیس بکلب الصید لأن مرجع التقیید إلی إرادة ما یصح عنه سلب صفة الاصطیاد) و حاصل کلامه ان الکلب و ان کان طبیعة واحدة نعم جمیع افراد الکلاب و تصدق علیها صدق الکلی علی جزئیاته و الطبیعی علی أفراده،إلا أن لحاظ تلک الطبیعة عند جعلها موردا للحکم مع وصف الاصطیاد تارة و بدونه اخری،یستلزم انقسامها الی قسمین متضادین، و علی هذا فیتقابل کلب الصید و کلب الهراش تقابل التضاد کما هو الشأن فی کل ماهیة ملحوظة مع الأوصاف الخارجیة المشخصة تارة و بدونها أخری،إذن فلا یصغی الی دعوی الانصراف بوجه لاستلزامه اتحاد المتضادین و وحدة المتقابلین فهو محال.

و فیه ان کلامه هذا إنما یصح فی أمثال قوله«ع»فی روایة محمد بن مسلم(ثمن الکلب الذی لا یصید سحت)فان ظاهر التوصیف ان وصف الاصطیاد قد أخذ قیدا للموضوع إلا انه لا یتم فی قوله«ع»فی مرسلة الفقیه(ثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت) فان من القریب جدا ان لا یصدق کلب الصید و لو بحسب نوعه علی غیر السلوقی،و لکن المرسلة ضعیفة السند،ثم ان السلوق قریة فی ناحیة الیمن نسبت إلیها کلاب الصید إما لأجل أخذ أصلها منها أو لکون کلابها صیودا.

الجهة الثانیة انک قد عرفت ان مورد الروایات و معقد الإجماعات إنما هو الکلب المتصف بملکة الاصطیاد و صار صیودا بالفعل،و حیث ان تلک الملکة التی هی مناط صحة بیع الکلاب و ملاکها لم تصر فعلیة فی الجر و القابل للتعلیم من السلوقی و الکبیر الغیر المعلم منه فیشکل الحکم بجواز بیعهما.

و ربما یقال فی وجه الصحة فیهما.بأن الأخبار الواردة فی بیع الکلاب علی ثلاث طوائف أما الطائفة الأولی فتدل علی حرمة بیع الکلاب علی وجه الإطلاق کالمطلقات و قد تقدمت جملة منها فی بیع الکلب الهراش و سمعت ان أکثرها ضعیفة السند.

و أما الطائفة الثانیة[1]فتدل علی جواز بیع ما کان صیودا بالفعل و متصفا بملکة

ص:94

الاصطیاد سواء کان سلوقیا أم غیر سلوقی.

و أما الطائفة الثالثة[1]فتدل علی جواز بیع کلب الصید کمرسلة الصدوق و غیرها، و المحتمل فی الطائفة الأخیرة منها ثلاثة:الأول ان یکون المراد بکلب الصید ما کان صیودا بالفعل و کلب صید بشخصه و واجدا للملکة الاصطیاد بنفسه،فیکون الغرض من المرکب هی اضافة الشخص الی وصفه،و حینئذ فترجع هذه الطائفة إلی الطائفة الثانیة و یجری فیها الاشکال المتقدم أیضا من دعوی انصرافها إلی السلوقی مع جوابها،و علیه فنقید بها و بالطائفة الثانیة الطائفة الأولی،فتصیر النتیجة ان غیر الصیود من الکلاب لا یجوز بیعه.

الثانی أن یراد به نوع کلب الصید و ان لم یتصف بعض أفراده بملکة الاصطیاد، و علیه فتختص هذه الطائفة الأخیرة بالسلوقی فقط،فتکون النسبة بینها و بین الطائفة الثانیة هو العموم من وجه،إذ قد یکون الکلب صیودا و لا یکون من أفراد الکلاب السلوقیة و قد یکون من أفرادها و لا یکون صیودا بالفعل کالغیر المعلم من السلوقی،و قد یجتمعان و حینئذ فیجوز تخصیص العمومات بکل من الطائفة الثانیة و الثالثة بناء علی ما نقحناه فی الأصول من جواز تخصیص العام بالخاصین بینهما عموم من وجه،کما إذا ورد أکرم العلماء ثم ورد لا تکرم الفساق منهم و لا تکرم النحویین منهم،فإنه جاز تخصیص أکرم

ص:95

العلماء بکلا الخاصین و ان کانت النسبة بینهما هو العموم من وجه،و علیه فیجوز بیع الصیود من غیر السلوقی و بیع غیر الصیود من السلوقی.

الثالث أن یراد به ما یکون بینه و بین الصید نسبة و علاقة،بدعوی کفایة أدنی الملابسة فی صحة الإضافة کما هو الظاهر و الموافق للاستعمالات الدائرة بین المحاورین،ضرورة ان جملة کلب الصید فی اللغة العربیة لم توضع لمعنی خاص بل أطلقت علی حصة من الکلاب بوجه من المناسبة و بعلاقة الملابسة،کیف فإنها ترادف فی اللغة الفارسیة بلفظ(سک شکاری) و لا یعتبرون فی صحة ذلک الإطلاق أزید من تلک المناسبة الإجمالیة،و علیه فالنسبة بینها و بین الطائفة الثانیة هو العموم المطلق فإنه علی هذا یصح إطلاق کلب الصید علی الصیود مطلقا سلوقیا کان أم غیره و علی السلوقی کذلک صیودا کان أم غیره،و علی ذلک أیضا فیجوز تخصیص العمومات بهما بناء علی جواز تخصیص العام بالخاصین بینهما عموم مطلق کما هو الظاهر علی ما حققناه فی محله.

و أظهر المحتملات الثلاث هو الاحتمال الأخیر لما عرفت من کفایة أدنی الملابسة فی صحة الإضافة ثم الثانی لکثرة إضافة الموصوف الی وصف نوعه و بهذا صح جعله موضوعا للأحکام الشرعیة،و أما الاحتمال الأول فغیر سدید جزما فان من المستبعد جدا اعتبار الانصاف الفعلی فی صحة إضافة الموصوف إلی الصفة و أن لا یکتفی فیها بأدنی المناسبة،هذا غایة ما یمکن أن یقال فی جواز بیع السلوقی علی الإطلاق.

و لکنه فاسد إذ العمل بما ذکرناه علی کلام الاحتمالین إنما یجوز فیما إذا لم یکن کل من الخاصین مقیدا بقید به،یوافق العام و یسانخه،و إلا فینفی ذلک القید بمفهومه أو منطوقه ما اختص به الخاص الآخر من مادة الافتراق،فیکونان من أفراد الدلیلین المتعارضین فیسقطان للتعارض.

و فی المقام ان الظاهر من قوله«ع»فی الطائفة الثانیة(ثمن الکلب الذی لا یصید سحت) (و أما الصیود فلا بأس)هو ان غیر الصیود من الکلاب یحرم بیعه و ان کان سلوقیا، فیشارک العام بمقتضی اشتماله القید العدمی،کما ان الظاهر من قولهم علیهم السلام فی الطائفة الثالثة(و لا بأس بثمن کلب الصید و الآخر لا یحل ثمنه)هو انه کلما کان کلب صید بنوعه جاز بیعه صیودا کان أم لم یکن،و أما غیر کلب الصید فلا یجوز بیعه و إن کان صیودا،فیتعارضان فی الصغیر و الکبیر غیر المعلمین من السلوقی علی الاحتمال الثالث من دعوی العموم المطلق بین الخاصین،و فی الصیود من غیر السلوقی أیضا علی الاحتمال الثانی من دعوی العموم من وجه بینهما،فصارت النتیجة علی الاحتمال الثالث ان غیر الصیود من

ص:96

الکلاب لا یجوز بیعه و إن کان سلوقیا،و علی الثانی فالصیود من غیر السلوقی أیضا لا یجوز بیعه هذا کله مع الإغضاء عن سند الطائفة الثالثة،و إلا فهی لا تقاوم الطائفة الثانیة لضعف سندها،و عدم انجبارها بعمل المشهور،و حینئذ فینحصر المخصص لتلک العمومات فی الطائفة الثانیة،فترتفع الغائلة من أصلها.

حرمة بیع کلب الحراسة

قوله الثالث کلب الماشیة. أقول:هذه هی الجهة الثالثة من الکلام،الظاهر انه لا شبهة فی حرمة بیع الکلاب الثلاثة:أی کلب الماشیة،و کلب الحائط،و کلب الزرع، و یسمی کل واحد منهما بالکلب الحارس،و هذا هو المشهور بین القدماء،و قد دلت علیه العمومات المتقدمة،کما ان المشهور بین الشیخ(ره)و من تأخر عنه الجواز.

و قد استدل علیه بوجوه:الوجه الأول،دعوی الإجماع علیه کما یظهر من العلامة فی التذکرة علی ما حکاه المصنف(ره)قال:(یجوز بیع هذه الکلاب عندنا)و لکنا لم نجد ذلک فی التذکرة.نعم ذکر الشیخ(ره)فی الخلاف (1):ان(بیع هذه الکلاب یجوز عندنا و ما یصح بیعه یصح إجارته بلا خلاف).و المحکی عن حواشی الشهید:(ان أحدا لم یفرق بین الکلاب الأربعة).و ظاهر هذه العبارة عدم وجود القول بالفرق بین الکلاب الأربعة فی جواز البیع و عدمه.

و فیه ان ذلک معارض بدعوی الإجماع علی حرمة بیعها،علی ان دعواه فی مثل هذه المسألة المختلف فیها من الصعب المستصعب خصوصا مع عدم کونه إجماعا تعبدیا کاشفا عن رأی الحجة لاحتمال ان المجمعین قد استندوا الی المدارک المعلومة المذکورة فی المقام.

و لا ینقضی العجب من الشهید(ره)کیف یدعی:ان أحدا لم یفرق بین الکلاب الأربعة فی حرمة البیع و جوازه،مع کثرة الاختلاف فی المسألة!!.

إلا أن یکون نظره الشریف فی ذلک الی العامة،فقد عرفت فی بیع کلب الهراش:ان طائفة منهم کالحنابلة و الشافعیة و بعض فرق المالکیة ذهبوا الی ان بیع الکلاب مطلقا لا یصح حتی کلب الصید و طائفة أخری منهم کالحنفیة و بعض آخر من المالکیة ذهبوا الی صحة بیعها مطلقا حتی کلب الحراسة.أو یکون نظره الی جواز الانتفاع بها مطلقا و عدم جوازه کذلک،فان الفقهاء رضوان اللّه تعالی علیهم لم یفرقوا فی ذلک بین الکلاب الأربعة.

الوجه الثانی:ان ثبوت الدیة علی قاتلها فی الشریعة المقدسة یدل علی جواز المعاوضة علیها و الی هذا أشار العلامة فی المختلف (2)و قال:(و لأن لها دیات منصوصة،فتجوز المعاوضة

ص:97


1- 1) ج 1 کتاب الإجارة ص 276.
2- 2) ج 2 ص 163.

علیها).و قدرت هذه الدیة فی کلب الماشیة بکبش،أو بعشرین درهما،و فی کلب الحائط بعشرین درهما،و فی کلب الزرع بقفیز من طعام.

و فیه ان ثبوت الدیة لها فی الشریعة لا یدل علی ملکیتها فضلا عن جواز المعاوضة علیها فقد ثبتت الدیة فی الحر مع انه غیر مملوک قطعا،بل لا یبعد ان یکون ثبوت الدیة کاشفا عن عدم الملک مع فرض کون الشیء محترما،و إلا لکان الثابت نقص القیمة،أو تخییر المالک بینه و بین الدیة کما فی العبد و الأمة.

الوجه الثالث:انه لا شبهة فی جواز إجارتها لحفظ الماشیة و الحائط و الزرع اتفاقا کما فی المتن،فیجوز بیعها لوجود الملازمة بینهما،و الی هذا الدلیل أشار العلامة أیضا فی المختلف (1)و قال:(و لأنه یجوز إجارتها فیجوز بیعها) و فیه انه لا ملازمة شرعیة بین صحة الإجارة و صحة البیع،فإن إجارة الحر و أم الولد جائزة بالاتفاق و لا یجوز بیعهما،کما لا ملازمة بین صحة البیع و صحة الإجارة،فإن بیع الشعیر و الحنطة و عصیر الفواکه و سائر المأکولات و المشروبات جائز اتفاقا،و لا تصح إجارتها فإن من شرائط الإجارة ان العین المستأجرة مما یمکن الانتفاع بها مع بقاء عینها،و الأمور المذکورة لیست کذلک.

و بعبارة اخری ان جواز بیع الکلاب و عدمه من الأحکام الشرعیة و هی أمور توقیفیة فلا محیص عن اتباع أدلتها،فإن کان فیها ما یدل علی جواز بیعها أخذ به،و إلا فالعمومات الدالة علی المنع متبعة.

الوجه الرابع:ما ذکره العلامة أیضا فی المختلف (2)من انه(إذا جاز بیع کلب الصید جاز بیع باقی الکلاب الأربعة،و الأول ثابت إجماعا فکذا الثانی،بیان الشرطیة:ان المقتضی للجواز هناک کون المبیع مما ینتفع به،و ثبوت الحاجة الی المعاوضة،و هذان المعنیان ثابتان فی صورة النزاع فیثبت الحکم علماء بالمقتضی السالم عن المعارض إذا الأصل انتفائه).و زاد علیه بعض أصحابنا:ان ما یترتب علی الکلاب الثلاثة من المنافع أکثر مما یترتب علی کلب الصید،فإذا جاز بیعه کان بیع تلک الکلاب الثلاثة أولی بالجواز.

و فیه انه قیاس واضح،فقد نهینا عن العمل به فی الشریعة المقدسة،بالأدلة القاطعة، و علیه فلا وجه لرفع الید عن العمومات إلا فی الکلب الصیود.

الوجه الخامس:ان الحکم بجواز بیعها هو مقتضی الجمع بین الروایات،لأنا إذا لاحظنا للعمومات الدالة علی المنع،مع قوله(علیه السلام)فی روایة تحف القول:(و کل شیء یکون لهم

ص:98


1- 1) الموضع المتقدم.
2- 2) الموضع المتقدم.

فیه الصلاح من جهة من الجهات فهذا کله حلال بیعه و شراؤه و إمساکه و استعماله و هبته و عاریته)وجدنا ان النسبة بینهما هی العموم من وجه،فان العمومات تقتضی حرمة بیع الکلاب کلها،و إنما خرج منها بیع کلب الصیود فقط للروایات الخاصة،و هذه الفقرة من روایة تحف العقول تقتضی صحة بیع کلما کان فیه جهة صلاح،فتشمل بیع کلب الماشیة و کلب الحائط و کلب الزرع أیضا،لجواز الانتفاع بها فی الحراسة،و بعد سقوطهما المعارضة یرجع فی إثبات الجواز التکلیفی إلی أصالة الإباحة،و فی إثبات الجواز الوضعی إلی عمومات صحة البیع و التجارة عن تراض.

و فیه أولا:انا لو أغمضنا عما تقدم فی روایة تحف العقول.فإنها لا تقاوم العمومات المذکورة فی خصوص المقام،لأن کثرة الخلاف هنا مانعة عن انجبار ضعفها بعمل المشهور.

و ثانیا:انه لا مناص من ترجیح العمومات علیها،إذ قد بینا فی علم الأصول:ان من جملة المرجحات عند معارضة الدلیلین بالعموم من وجه ان یلزم من العمل بأحدهما إلغاء الآخر من أصله،و إسقاط ما ذکر فیه من العنوان عن الموضوعیة،و حینئذ فلا بد من العمل بالآخر الذی لا یلزم منه المحذور المذکور،و فی المقام لو عملنا بروایة تحف العقول للزم من ذلک إلغاء العمومات علی کثرتها،و لسقط عنوان الکلب المذکور فیها عن الموضوعیة لخروج الکلب الصیود منها بالروایات الخاصة کما عرفت،و لو خرجت الکلاب الثلاثة منها بالروایة المذکورة لما بقی تحتها إلا الکلب الهراش فقط.و یکفی فی المنع عن بیعه عدم وجود النفع فیه،فلا یحتاج الی تلک العمومات المتظافرة،و یلزم المحذور المذکور،و اما إذا علمنا بالعمومات،و رفعنا الید عن الروایة فإن المحذور لا یتوجه أصلا،لأن ما فیه جهة صلاح من الأشیاء لا ینحصر فی الکلاب الثلاثة.

و نظیر ذلک المعارضة بین ما ورد[1]من الأمر بغسل الثوب من أبواب ما لا یؤکل لحمه و ما ورد[2]من نفی الیأس عن بول الطیر و خرئه،فإنا لو قدمنا الخبر.الأول،و حکمنا

ص:99

بسببه بنجاسة خرء الطیور التی لا یؤکل لحمها لکان ذکر الطیر فی الخبر الثانی لغوا محضا،إذ لا یبقی تحته إلا ما یؤکل لحمه من الطیور،و یکفی فی طهارة ذرقها ما یدل[1]علی طهارة بول مأکول اللحم،و هذا بخلاف العکس،فانا إذا عملنا بالخبر الثانی لم یلزم المحذور لکثرة أفراد غیر المأکول من غیر جنس الطیور.

و من هذا القبیل أیضا معارضة ما یدل (1)علی انفعال الماء القلیل بملاقاته النجاسة لما یدل (2)علی عدم انفعال الجاری بذلک،فان العمل بالطائفة الاولی،و الحکم بانفعال الجاری بملاقاته النجاسة إذا کان قلیلا یوجب کون ذکر الجاری فی الطائفة الثانیة لغوا،إذ لا یبقی فیها إلا الکر،و یکفی فی عدم انفعاله بملاقاته النجاسة ما یدل[2]علی عدم انفعال الکر بذلک علی الإطلاق،و لو انعکس الأمر لم یلزم المحذور لکثرة أفراد القلیل من غیر الجاری.

الوجه السادس:ما فی المتن من حکایة روایة ذلک عن الشیخ فی المبسوط،قال:(إنه روی ذلک یعنی جواز البیع فی کلب الماشیة و الحائط المنجبر قصور سنده و دلالته-لکون المنقول مضمون الروایة،لا معناها،و لا ترجمتها-باشتهاره بین المتأخرین).

و فیه أن الشهرة بین المتأخرین لا تجبر ضعف الروایة،بل و لم یعلم استنادهم إلیها فی فتیاهم بالجواز،فلعلهم استندوا فی ذلک الی الوجوه المذکورة،کما یظهر ذلک ممن یلاحظ کلماتهم علی أنه لم یثبت لنا کون المحکی عن الشیخ روایة فضلا عن انجباره هنا بالاشتهار،و توضیح ذلک:أن ناقل الروایة تارة ینقلها بألفاظها الصادرة عن المنقول عنه،و اخری بترجمتها بلغة اخری غیر لغة المروی عنه،و ثالثة بمعناها،کما هو المتعارف بین الرواة،خصوصا فی الأحادیث الطوال التی یعسر حفظ ألفاظها عادة،و رابعة بمضمونها،کما هو المرسوم بین الفقهاء فی مرحلة الإفتاء.

ص:100


1- 1) راجع ج 1 ئل باب 8 نجاسة ما نقص عن الکر من أبواب ماء المطلق.
2- 2) راجع ج 1 ئل باب 5 عدم نجاسة الماء الجاری من أبواب ماء المطلق.

أما غیر القسم الأخیر فلا شبهة فی شمول أدلة اعتبار الخبر له،کما هو واضح،و أما القسم الأخیر فلا تشمله تلک الأدلة قطعا،لانحصارها فی الاخبار الحسیة،و رأی الفقیه من الأمور الحدسیة،فلا یکون حجة لغیره و لغیر مقلدیه،کما حقق فی علم الأصول.

و إذا عرفت ذلک اتضح لک أن المحکی عن الشیخ(ره)لا یکون مشمولا لأدلة اعتبار الخبر لأن ظاهره أنه(ره)فهم باجتهاده جواز البیع من الروایات،و أشار إلیه بلفظ الإشارة بداهة أن الامام«ع»لم یبین الحکم علی النحو المذکورة فی العبارة،و بلفظ الإشارة ابتداء من دون أن یکون مسبوقا أو ملحوقا بکلام آخر یدل علیه،و علیه فلم یثبت کون المحکی روایة حتی ینجبر ضعفها بعمل المشهور،و تکون حجة لنا فی مقام الفتوی،نعم لو کانت الروایة بأصلها و أصله إلینا،و قلنا بانجبار ضعف الخبر بشیء لکان لهذه الدعوی مجال واسع هذا کله علی تقدیر أن یکون المنقول فی المتن هو عین عبارة الشیخ(ره).

و لکنها لیست کک،فإنه قال فی تجارة المبسوط (1):(و روی ان کلب الماشیة و الحائط کذلک)و علی هذا فهی روایة مرسلة،و قابلة للانجبار.

و مع ذلک لا یجوز الاستناد إلیها أیضا،لما عرفت فی البحث عن روایة تحف العقول من منع انجبار ضعف الروایة بشیء صغری و کبری.علی أن من البعید جدا بل من المستحیل عادة أن تکون هناک روایة،و لم یظفر علیها غیر الشیخ من علماء الحدیث،أو وصلوا إلیها و لکنهم لم یوردوها فی أصولهم المعدة للروایة،حتی هو(ره)فی تهذیبیه.

و المظنون أن الشیخ(ره)اطلع علیها فی کتب العامة،و أوردها فی کتابه للمناسبة إلا أن أحادیثهم عن النبی(صلی الله علیه و آله)فی النهی عن بیع الکلاب خالیة أیضا عن استثناء کلب الماشیة و کلب الحائط.

لا یقال:إن عدم اشتهار المرسلة بین القدماء لا یمنع انجبار ضعفها بعمل المشهور من المتأخرین،فإن ظهورها إنما کان من زمان الشیخ(ره)،فیکون هذا عذرا لعدم عمل القدماء بها،و إنما یضر ذلک فیما إذا کانت الروایة بمرأی منهم و مسمع،ثم لم یعملوا بها لإعراضهم عنها.

فإنه یقال:إن ضعف الروایة إنما ینجبر بالشهرة إذا عمل بها المشهور مع نقلهم إیاها فی کتبهم من دون أن یستندوا فی ذلک الی نقل شخص واحد،و أما إذا انتهی سند الناقلین الی شخص واحد فنسبتها إلی النقلة و غیرهم سیان،فمثل هذه الشهرة لا توجب الانجبار.

ص:101


1- 1) راجع فصل حکم ما یصح بیعه و ما لا یصح.و ج 2 ئل باب 42 تحریم بیع الکلاب مما یکتسب به.

ضرورة عدم اختصاص النقلة بقرینة زائدة لیمتازوا بها علی غیرهم.و إذن فنسبة المرسلة الی العاملین و الناقلین کنسبتها إلینا،لأن مستندهم أجمع هو نقل الشیخ(ره)فقط:فلا یکون عملهم هذا جابرا لوهنها.

و یضاف الی ذلک ما قد عرفته مرارا من فساد البناء و المبنی،و أن الشهرة لا تجبر ضعف الروایة صغری و کبری.

تذییل

المستفاد من أخبار الباب إنما هو حرمة بیع کلب الماشیة و کلب الحائط و کلب الزرع و أما المعاملات الأخری غیر البیع فلا بأس فی إیقاعها علیها،کاجارتها،و هبتها،و الصلح علیه بناء علی عدم جریان أحکام البیع علیه إذا کانت نتیجته المبادلة بین المالین،فان المذکور فی تلک الأخبار هی حرمة ثمن غیر الصیود من الکلاب،و لا یطلق الثمن علی ما یؤخذ بدلا بغیر عنوان البیع من المعاملات.

ثم لا یخفی:أن اقتناء تلک الکلاب و لو فی غیر أو ان الاصطیاد و الحراسة مما لا إشکال فیه لأنها من الأموال و لو باعتبار الانتفاع بها فی وقت الاصطیاد و الحراسة،و حرمة بیع هذه الکلاب لا یضر بجواز اقتنائها،إذ لا ملازمة بین حرمة بیع شیء و حرمة اقتنائه و الانتفاع به کیف و إن الانتفاع بها أکثر من الانتفاع بالکلب الصیود،خصوصا لأهل البادیة،و أصحاب الماشیة و البساطین و الزروع و نحوها،و لم یستشکل أحد فی جواز ذلک فیما نعلم،بل ورد فی أخبار الفریقین[1]جواز اقتناء الکلاب الأربعة،إلا أن تلحق بالکلب الهراش.

ص:102

و قد یقال:بجواز بیع کلب الماشیة لقول علی«ع»فی روایة قیس[1]:(لا خیر فی الکلاب إلا کلب صید أو کلب ماشیة).فإن جواز البیع من الخیر الثابت فیه.

و فیه أن غایة ما یستفاد من الروایة هو جواز اقتنائه للانتفاع به فی حراسة الماشیة و اتصافه بالمالیة بهذا الاعتبار،و أما جواز بیعه فلا یستفاد منها،لأنک قد عرفت عدم الملازمة بین کون الشیء مالا،و بین جواز بیعه،و إذن فالروایة من جملة ما یدل علی جواز اقتناء کلب الماشیة.و من هنا اتضح:أنه لا وجه لقیاس ما یحرم بیعه من الکلاب الثلاثة بالخمر لإثبات عدم المالیة فیها،لا وجه لذلک لان الشارع قد ألغی مالیة الخمر،بخلاف الکلاب الثلاثة،فإن مالیتها محفوظة فی نظر الشارع و إن حرم بیعها.

جواز بیع العصیر العنبی إذا غلی و لم یذهب ثلثاه

قوله الأقوی جواز المعاوضة علی العصیر العنبی إذا غلی،و لم یذهب ثلثاه. أقول:

الغلیان عبارة عن القلب،کما فی روایة الحماد[2]،قال:(قلت:أی شیء الغلیان؟قال:

القلب).و المراد به حصول النشیش فیه بحیث یصیر أعلاه أسفله،ثم ان العصیر إذا غلی بنفسه حکم بنجاسته بمجرد ظهور النشیش فیه عند بعض القدماء،و قد شید أرکان هذا القول البطل البحاثة شیخ الشریعة(ره)فی رسالته العصیریة،و تبعه جملة ممن تأخر عنه و علی هذا فلا تحصل الطهارة و الحلیة فیه إلا بصیرورته خلا.

و یمکن تأیید هذا القول بروایة الکلبی النسابة المتقدمة فی بیع النبیذ(قال:سألت أبا عبد اللّه«ع»عن النبیذ؟فقال:حلال،قلت:إنا ننبذه فنطرح فیه العکر و ما سوی ذلک فقال«ع»:شه شه تلک الخمرة المنتنة):و قد کنا نجزم بذلک القول فی سالف الأیام،ثم عدلنا عنه،و تحقیق الحق فی محله.

ص:103

و ان کان غلیانه بالنار فهو محل الکلام فی المقام،و مورد النقض و الإبرام من جهة طهارته و عدمها،و جواز شربه و بیعه و عدمهما،و فصل بعضهم بین العصیر العنبی و التمری و حکم بنجاسة الأول و طهارة الثانی،و تحقیق ذلک و تفصیله فی کتاب الطهارة،و وجهة الکلام هنا فی خصوص البیع فقط،و الظاهر جوازه.

و لنمهد لبیان ذلک مقدمة،و هی أنه لا إشکال فی ان العصیر العنبی سواء غلی أم لم یغل من الأموال المهمة فی نظر الشارع و العرف،و علیه فلو أتلفه أحد ضمن قیمته لمالکه،کما لو أغلاه الغاصب،فإنه یضمنه بنقصان قیمته إذا کان الغلیان موجبا للنقص،کأن أخذ للتداوی فی غیر أو ان العنب،فإنه لا قصور فی شمول دلیل الید لذلک مع قیام السیرة القطعیة علیه و إن کان غلیانه لا یوجب نقصان قیمته،أو کان سببا لزیادتها فلا وجه للضمان،کأن أخذ للدبس و نحوه فغصبه الغاصب فأغلاه،و الوجه فی ذلک هو أن الغاصب و إن أحدث فی العصیر المغصوب وصفا جدیدا،إلا أن تصرفه هذا لم یحدث عیبا فی العصیر لیکون موجبا للضمان،بل صار وسیلة لازدیاد القیمة.

و من هنا ظهر لک ضعف قول المتن:(لو غصب عصیرا فأغلاه حتی حرم و نجس لم یکن فی حکم التالف،بل وجب علیه رده،و وجب علیه غرامة الثلثین،و اجرة العمل فیه حتی یذهب الثلثان)فقد عرفت عدم صحة ذلک علی إطلاقه.

إذا علمت ذلک وقع الکلام فی ناحیتین،الناحیة الاولی:فی جواز بیع العصیر العنبی و عدمه بحسب القواعد،و الناحیة الثانیة:فی جواز بیعه و عدم جوازه بحسب الروایات.

أما الناحیة الأولی:فقد یقال:بحرمة بیعه إذا غلی من جهة النجاسة،و الحرمة،و انتفاء المالیة،و لا یرجع شیء من هذه التعلیلات الی معنی محصل،أما النجاسة فإنها لم تذکر إلا فی روایة تحف العقول،و المراد بها النجاسات الذاتیة،فلا تشمل المتنجسات،لأن نجاستها عرضیة،و لو سلمنا شمولها للمتنجسات فالنهی عن بیعها لیس إلا من جهة عرائها عن المنفعة المحللة،و لا شبهة فی أن العصیر العنبی المغلی لیس کذلک،لوجود المنافع المحللة فیه بعد ذهاب ثلثیه،علی أن مانعیة النجاسة عن البیع ممنوعة کما تقدم.

و أما الحرمة فقد یقال:إن الروایات العامة المتقدمة دلت علی وجود الملازمة بین حرمة الشیء و حرمة بیعه،إلا أنه فاسد،فقد تقدم أنها ضعیفة السند،و أشرنا أیضا الی عدم الملازمة بین حرمة الشیء و حرمة بیعه،علی أن المراد بالحرمة فیها ما یعرض علی الشیء بعنوانه الذاتی الأولی،فلا تشمل الأشیاء المحرمة بواسطة عروض أمر خارجی،و إلا للزم القول بحرمة بیع الأشیاء المباحة إذا عرضتهم النجاسة أو غیرها مما یوجب حرمتها العرضیة

ص:104

و أما انتفاء المالیة ففیه أن العصیر العنبی المغلی من الأموال الخطیرة فی نظر الشارع و العرف و لذا لو أتلفه أحد لضمنه کما عرفته.علی أن الظاهر ان المالیة لا تعتبر فی صحة المعاوضة علی الشیء و أما الناحیة الثانیة:فقد استدل علی حرمة بیعه بروایات:منها قوله«ع»فی روایة محمد ابن الهیثم[1]:إنه(إذا تغیر عن حاله و غلی فلا خیر فیه حتی یذهب ثلثاه).فان البیع من جملة الخبیر منفی فلا یجوز.و فیه أولا:انها روایة مرسلة،فلا تصلح للاستناد إلیها فی الأحکام الشرعیة.و ثانیا:إنها بعیدة عن حرمة البیع الظهور السؤال فی حرمة الشرب فقط،فلا تشمل البیع.

و منها قوله«ع»فی روایة أبی کهمس[2]:(و إن غلی فلا یحل بیعه)فان ظاهرها نفی الحلیة المطلقة تکلیفیة کانت أم وضعیة،فتدل علی حرمة بیع العصیر إذا غلی و لم یذهب ثلثاه و فیه أولا:انها ضعیفة السند.و ثانیا:ان ظهورها فی غلیان العصیر بنفسه لا بالنار، فتکون غریبة عما نحن فیه،و راجعة إلی القسم الأول من العصیر،و قد عرفت من بعض القدماء و من شیخ الشریعة أن الطهارة و الحلیة فیه لا تحصلان إلا بصیرورته خلا،علی أن الظاهر من الحلیة فیها بقرینة الصدر و الذیل هی التکلیفیة فقط دون الوضعیة وحدها،أو ما هو

ص:105

أغم منها و من التکلیفیة،إذن فالروایة ناظرة إلی حرمة بیع العصیر للشرب،فان إشراب النجس أو المتنجس للمسلم حرام،و أما حرمة بیعه للدبس و نحوه فلا یستفاد منها.

ثم لا یخفی:ان قوله«ع»فی ذیل الروایة:(هو ذا نحن نبیع تمرنا ممن نعلم انه یصنعه خمرا).إنما هو لدفع وسوسة السائل من تجویز الامام«ع»بیع العصیر قبل الغلیان،و إن کان المشتری ممن یصنعه خمرا،و سیأتی فی مبحث بیع العنب ممن یجعله خمرا تعلیل الامام«ع» جواز البیع بقوله بعته حلالا فجعله حراما فأبعده اللّه)و قد تکرر ذلک فی جملة من الروایات و منها ما فی روایة أبی بصیر[1]من قوله«ع»:(إذا بعته قبل ان یکون خمرا و هو حلال فلا بأس).فإن منطوقها یدل علی جواز بیع العصیر قبل صیرورته خمرا،و مفهومها یدل علی عدم جواز البیع بعد حرمة العصیر بالغلیان.

و فیه أولا:انها ضعیفة السند.و ثانیا:ان روایها أبا بصیر مشترک بین اثنین،و کلاهما کوفی،و من أهل الثقة،و من المقطوع به ان بیع العصیر العنبی لم یتعارف فی الکوفة فی زماننا هذا مع نقل العنب إلیها من الخارج فضلا عن زمان الراوی الذی کان العنب فیه قلیلا جدا،و علیه فالمسؤول عنه هو حکم العصیر التمری الذی ذهب المشهور الی حلیته حتی بعد الغلیان ما لم یصر خمرا،فلا یستفاد من الروایة إلا حرمة بیع الخمر و جواز بیع العصیر التمری قبل کونه خمرا،فتکون غریبة عن محل الکلام،و إن أبیت عن ذلک فلا إشکال انها غیر مختصة بالعصیر العنبی،فغایة الأمر أن تکون الروایة شاملة لکلا العصیرین،إلا أنه لا بد من التخصیص بالتمری،لان ظاهر قوله«ع»:(و هو حلال)هو أن العصیر قبل کونه خمرا حلال و لو کان مغلیا،و من الواضح ان هذا یختص بالتمری دون العنبی.

قوله و الظاهر أنه أراد بیع العصیر للشرب من غیر التثلیث. أقول:قد حکی المصنف عن المحقق الثانی فی حاشیة الإرشاد:انه(لو تنجس العصیر و نحوه فهل یجوز بیعه علی من یستحله فیه اشکال؟)ثم ذکر المحقق الثانی:(ان الأقوی العدم،لعموم و لا تعاونوا علی الإثم و العدوان).

و قد استظهر المصنف من کلامه هذا:أنه أراد بیع العصیر للشرب من غیر التثلیث،إلا أن الذی یظهر لنا منه:أنه أراد من العصیر مطلق المعتصرات کعصیر الفواکه و غیره، و یدل علی أن هذا هو المراد من کلامه وجهان:الوجه الأول:عطف کلمة(نحوه)علی

ص:106

العصیر،فان الظاهر أن المراد منها مطلق المائعات المضافة،فلا بد و أن یکون المراد من العصیر مطلق المعتصرات،إذ لا خصوصیة العصیر العنبی فی المقام.و الوجه الثانی:تقییده جواز البیع بمن یستحل،إذ لو کان مراده خصوص العصیر العنبی فقط لکان ذلک التقیید لغوا،لجواز بیعه من غیر المستحل أیضا،فقد عرفت حلیته و طهارته و جواز الانتفاع به علی وجه الإطلاق بعد ذهاب ثلثیه.

و یؤید ذلک ما استدل به المحقق الثانی علی حرمة البیع من حرمة الإعانة علی الإثم.فان العصیر العنبی و إن کان یتنجس و یحرم بمجرد الغلیان،إلا أنه یطهر و یحل بذهاب ثلثیه، فلا یکون بیعه من غیر المستحل إعانة علی الإثم،و یستکشف من ذلک أن غرضه من العصیر هو ما ذکرناه.

جواز المعاوضة علی الدهن المتنجس

قوله یجوز المعاوضة علی الدهن المتنجس. أقول:المعروف بین الأصحاب هو جواز المعاوضة علی الدهن المتنجس،لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة،بل فی الخلاف (1)دعوی الإجماع علی ذلک،قال:(یجوز بیع الزیت النجس لمن یستصبح به تحت السماء،و قال أبو حنیفة[1]:یجوز بیعه مطلقا،و قال مالک و الشافعی:لا یجوز بیعه بحال،دلیلنا إجماع الفرقة و أخبارهم).و عن الحنابلة أیضا لا یجوز،إلا ان الظاهر من أخبار العامة (2)جواز ذلک،لاطباقها علی جواز الانتفاع به.بل فی بعضها[2]ذکر

ص:107


1- 1) ج 1 کتاب البیوع ص 225.
2- 2) راجع ج 9 سنن البیهقی ص 354.

جواز البیع صریحا.

قوله و جعل هذا من المستثنی عن بیع الأعیان النجسة. أقول:حاصل کلامه أن مسألة المعاوضة علی الدهن للاستصباح إنما یمکن جعله من المستثنی من حرمة بیع الأعیان النجسة إذا قلنا بحرمة الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدلیل،أو قلنا بحرمة بیع المتنجس و إن جاز الانتفاع به منفعة محللة مقصودة،و إلا فیکون الاستثناء منقطعا،لعدم دخول بیع الدهن المتنجس و لا غیره من المتنجسات القابلة للانتفاع بها فی المستثنی منه،و قد تقدم أن المنع عن بیع النجس فضلا عن المتنجس لیس إلا من حیث حرمة المنفعة المقصودة،فإذا فرض حلها فلا مانع من البیع.

و فیه أولا:أنه قد تقدم مرارا عدیدة أن النجاسة بما هی نجاسة لا تمنع عن البیع إلا إذا استلزمت حرمة الانتفاع بالنجس من جمیع الجهات و قد اعترف المصنف هنا و فی مسألة بیع المیتة الحکم الأول،و قد تقدم أیضا أن النجاسة لا تمنع عن الانتفاع بالنجس لو کان له نفع محلل،بل و ستعرف أن مقتضی الأصل إنما هو جواز الانتفاع بالأعیان النجسة فضلا عن المتنجسات،و إذن فلا مناص عن کون الاستثناء منقطعا لا متصلا.

و ثانیا:أنا لا نعرف وجها لابتناء کون الاستثناء متصلا علی حرمة الانتفاع بالمتنجس، إذا العنوان فی المستثنی منه إنما هو حرمة بیع النجس،أو المتنجس من حیث هما کذلک و لم یقید بحرمة الانتفاع بهما،نعم یجوز تعلیل جواز البیع،أو حرمته بجواز الانتفاع بهما أو حرمته،و علیه فتکون حرمة الانتفاع بهما من علل التشریع لحرمة بیعهما،و من قبیل الواسطة فی الثبوت لذلک،و قد ظهر مما ذکرناه:أن القاعدة الأولیة تقتضی جواز بیع الدهن المتنجس بلا احتیاج الی الروایات،کما أنها تقتضی حرمة بیعه،و عدم جواز الانتفاع به لو قلنا بمانعیة النجاسة عن البیع،و عدم جواز الانتفاع بالمتنجس.

و ثالثا:أن جعل المصنف المعاوضة علی الأعیان المتنجسة من جملة المسائل الثمانیة و ان کان یقتضی اتصال الاستثناء و شمول المستثنی منه للنجس و المتنجس کلیهما،إلا أن تخصیصه الکلام فی عنوان هذه المسائل الثمانیة بالاکتساب بالأعیان النجسة عدا ما استثنی یقتضی انقطاع الاستثناء،سواء قلنا بجواز الانتفاع بالمتنجس أم لم نقل،و علیه فذکر مسألة المعاوضة علی الأعیان المتنجسة فی عداد المعاوضة علی الأعیان النجسة من باب الاستطراد.

ص:108

تأسیس

لا یخفی أن الروایات الواردة فی بیع الدهن المتنجس علی طوائف،الأولی[1]:ما دل علی جواز بیعه مقیدا بإعلام المشتری.الثانیة[2]:ما دل علی جواز البیع من غیر تقیید بالإعلام کروایة الجعفریات الدالة علی جواز بیع الدهن المتنجس لجعله صابونا.الثالثة[3]:ما دل علی

ص:109

عدم جواز بیعه مطلقا،و مقتضی القاعدة تخصیص الطائفة الثالثة الدالة علی عدم الجواز بما دل علی جواز البیع مع الإعلام،و بعد التخصیص تنقلب:نسبتها إلی الطائفة الثانیة الدالة علی جواز البیع مطلقا،فتکون مقیدة لها لا محالة،فیحکم بجواز بیعه مع الإعلام دون عدمه، و علی هذا فیجب الإعلام بالنجاسة مقدمة لذلک.

و لا یخفی أن وجوب الاعلام علی ما یظهر من دلیله إنما هو لأجل أن لا یقع المشتری فی محذور النجاسة،إذ قد یستعمل الدهن المتنجس فیما هو مشروط بالطهارة لجهله بالحال، و علیه فلو باع المتنجس الذی لیس من شأنه أن یستعمل فیما یشترط بالطهارة کاللحاف و الفرش فلا یجب الاعلام فیه.

قوله منها الصحیح عن معاویة بن وهب. أقول:لا دلالة فی الروایة علی جواز البیع و لا علی عدمه،بل هی دالة علی جواز إسراج الزیت المتنجس.

قوله و منها الصحیح عن سعید الأعرج. أقول:الروایة للحلبی،و هی أیضا دالة علی الإسراج،فلا إشعار فیها بحکم البیع بوجه.

قوله و زاد فی المحکی عن التهذیب. أقول:بعد ما نقل الشیخ(ره)روایة ابن وهب المشار إلیها الدالة علی جواز إسراج الزیت المتنجس قال:(و قال:فی بیع ذلک الزیت تبیعه و تبینه لمن اشتراه لیستصبح به)فأشار به الی روایة أخری لابن وهب،و هی الروایة المتقدمة الدالة علی جواز بیع ذلک الزیت مع الإعلام،إذن فلا وجه لجعل هذه العبارة روایة کما صنعه المصنف،و إنما هی من کلام الشیخ(ره).

عدم اشتراط الاستصباح فی صحة بیع

الدهن المتنجس

قوله إذا عرفت هذا فالإشکال یقع فی مواضع:الأول) أقول:ما قیل أو یمکن ان یقال فی حکم بیع الدهن المتنجس وجوه بل أقوال،

الأول:جواز بیعه علی أن یشترط

علی المشتری الاستصباح،

کما استظهره المصنف من عبارة السرائر الثانی:جوازه مع قصد المتبایعین الاستصباح و إن لم یستصبح به بالفعل،کما استظهره المصنف من الخلاف.الثالث جواز بیعه بشرط أن لا یقصد المتبایعان فی جواز بیعه المنافع المحرمة و إن کانت نادرة سواء

ص:110

قصدا مع ذلک المنافع المحللة أم لا.الرابع:صحة بیعه مع قصد المنفعة المحللة إلا إذا کانت شایعة،فلا یعتبر فی صحة البیع ذلک القصد.الخامس:جواز بیعه علی وجه الإطلاق من غیر اعتبار شیء من القیود المذکورة.السادس:اشتراط تحقق الاستصباح به خارجا فی جواز بیعه،کما استظهره المحقق الایروانی من عبارتی الخلاف و السرائر،و جعلهما أجنبیتان عما ذکره المصنف(ره).

و قد اختار فی المتن الوجه الرابع فی مطلق کلامه،و قال:یمکن أن یقال باعتبار قصد الاستصباح،و اختار الوجه الثالث فی آخر کلامه،و قال نعم یشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة،و الذی تقتضیه القواعد مع الإغماض عن الروایات هو الوجه الخامس.

و لنبدأ بذکر ما اختاره المصنف،و ذکر ما یرد علیه من الاشکال،و سیظهر من ذلک وجه القول المختار،فنقول:ملخص کلامه:أن مالیة الأشیاء عند العرف و الشرع إنما هی باعتبار منافعها المحللة الظاهرة المقصودة منها لا باعتبار مطلق الفوائد و لو کانت غیر ملحوظة فی مالیتها،أو کانت نادرة الحصول،و لا باعتبار المنافع الملحوظة إذا کانت محرمة،و علیه فإذا فرض أن الشیء لم تکن له فائدة محللة ملحوظة فی مالیته فلا یجوز بیعه،لا مطلقا لانصراف الإطلاق إلی کون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه،و المفروض حرمتها،فیکون أکلا للمال بالباطل.و لا مع قصد الفائدة المحللة النادرة،فإن قصدها لا یوجب المالیة مع حرمة منفعته الظاهرة،نعم لو دل نص خارجی علی جواز بیعه کما فیما نحن فیه لوجب حمله علی ما إذا قصد المتبایعان المنفعة النادرة،فإنها و إن لم توجب المالیة بحسب نفسها،و لکن توجبها بحکم الشارع،فلا یکون أکلا للمال بالباطل،کما أن حکمه قد یوجب سلب المالیة فی بعض الأحیان کما فی الخمر و الخنزیر،فیکون أکل المال فی مقابلهما أکلا له بالباطل، و هکذا لو لم تقصد المنفعة النادرة فی الصورة المتقدمة،فإن المال فی هذه الصورة یقع فی مقابل المنفعة الظاهرة المحرمة.

و فیه أن جمیع الأدهان و لو کانت من العطور مشترکة فی أن الإطلاء و الاستصباح بها أو جعلها صابونا من منافعها المحللة الظاهرة،و أنها دخیلة فی مالیة الدهن،غایة الأمر ان توفق بعض منافعها کالأکل فیما قصد منه أکله،و الشم فیما قصد منه شمه أوجب لها زیادة فی المالیة،و أوجب إلحاق المنافع الأخر المغفول عنها بالمنافع النادرة و إن کانت فی نفسها من المنافع الظاهرة،لأن اختلاف المرتبة فی المنفعة بمجرده لا یجعل المرتبة النازلة من المنافع نادرة فی حد ذاتها و إن خفیت فی نظر أهل العرف،و علیه فالمرتفع من منافع الدهن إذا تنجس إنما هو خصوص إباحة اکله،و اما ما سواها من المنافع فهو باق علی حاله.

ص:111

و علی الجملة انتفاء بعض المنافع الظاهرة المعروفة عن الأشیاء،کذهاب رائحة الأدهان العطریة،و عروض حرمة الأکل لما قصد منه اکله من الادهان لا یوجب انتفاء مالیتها بالکلیة،بل هی موجودة فیها باعتبار منافعها الأخر الظاهرة و إن کانت غیر معروفة.

و من هنا یتوجه الحکم بالضمان إذا غصبها غاصب أو أتلفها متلف،للسیرة القطعیة العقلائیة،و لدلیل الید،و إذن فلا وجه لجعل الاستصباح من المنافع النادرة للدهن،بل هو کغیره من المنافع الظاهرة،فإن اعتبر قصدها فی صحة البیع اعتبر مطلقا،و ان لم یعتبر ذلک لم یعتبر مطلقا.

و أما المنافع النادرة للشیء فإنها لا توجب مالیته،فکیف یقال:باعتبار قصدها فی صحة بیعه،و لا نظن ان أحدا یلتزم بمالیة الکوز المصنوع من الطین المتنجس بلحاظ الانتفاع بخزفة فی البناء!!علی أنه لا دلیل علی اعتبار أصل القصد وجودا و عدما فی صحة البیع.

قوله نعم یشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة. أقول:أشار به الی الوجه الثالث.

و یرد علیه:أن مالیة الأشیاء قائمة بها بما لها من المنافع حسب رغبات العقلاء،إذ الرغبة فیها لا تکون إلا لأجل منافعها،فالمنافع المترتبة علیها من قبیل الجهات التعلیلیة:بمعنی أن رغبة العقلاء فیها لیس إلا لأجل منافعها الموجودة فیها،و حینئذ فبذل المال إنما هو بإزاء نفس العین فقط،و علة ذلک البذل هی المنافع،و علیه فلو قصد البائع المنفعة المحرمة لم یلزم منه بطلان البیع،فقد عرفت أن مالیة الأشیاء قائمة بذواتها،و أن المنافع المترتبة علیها من قبیل العلل و الدواعی،فحرمة بعض المنافع لا توجب حرمة المعاملة علی الأشیاء إذا کانت حلالا بلحاظ المنافع الأخر،و مثال ذلک صحة بیع العنب ممن یجعله خمرا،و سیأتی البحث فیه و بعبارة واضحة الثمن إنما یقع بإزاء العین دون المنافع،غایة الأمر ان ترتب المنفعة علیها غایة للشراء وداع الیه،فحرمة المنفعة المشروطة علیه لا توجب بطلان البیع ما لم یکن الثمن بإزائها،و مما یدلنا علی ذلک أنه إذا استوفی المشتری منافع المال الأخری غیر هذه التی اشترطت علیه فی البیع،أو التی انصرف إلیها الإطلاق لم یبطل البیع،و لا یکون هذا التصرف منه بغیر استحقاق،و مما ذکرناه تجلی:ان أکل الثمن فی مقابله لیس أکلا للمال بالباطل کما فی المتن فإنه مضافا الی ما تقدم من کون الآیة أجنبیة عن شرائط العوضین،و إنما هی ناظرة إلی حصر المعاملات الصحیحة بالتجارة عن تراض،و ناهیة عن الأسباب الباطلة لها.ان اشتراط المنفعة المحرمة لا یوجب کون الثمن بإزائها،لکی یکون أکل المال فی مقابلها أکلا له بالباطل إذ الشروط لا تقابل بالثمن،و سیأتی ذلک فی مبحث الشروط ان شاء اللّه.

قوله و إلا فسد العقد بفساد الشرط. أقول:یرد علیه أن العقد لا یفسد باشتراط

ص:112

الشرط الفاسد فیه،و قد اختاره المصنف فی باب الشروط،و الوجه فیه أن الالتزام الشرطی أمر آخر وراء الالتزام العقدی،فلا یستلزم فساده فساد العقد،و علیه فلا وجه للالتزام ببطلان العقد فی المقام باشتراط المنفعة المحرمة فیه،لانه من صغریات الکبری المذکورة.

قوله بل یمکن القول بالبطلان بمجرد القصد و إن لم یشترط فی متن العقد. أقول:یرد علیه ما ذکرناه سابقا من أن بذل المال إنما هو بإزاء نفس العین،و المنافع المترتبة علیها من قبیل الجهات التعلیلیة،ثم لتسلم أنا قد التزمنا ببطلان العقد باشتراط المنفعة المحرمة.فلا مجال للالتزام بالبطلان بمجرد القصد بعد ما لم یکن مذکورا فی العقد،إذ لا عبرة بالقصد الساذج إذا لم یکن شرطا فی ضمن العقد،و قد انجلی مما حققناه بطلان سائر الوجوه و الأقوال بأجمعها.هذا کله بحسب ما تقتضیه القواعد.

و أما بحسب الروایات فقد یقال:بلزوم قصد الاستصباح فی بیع ذلک الدهن.لقول الصادق«ع»فی روایة ابن وهب:(بعه و بینه لمن اشتراه لیستصبح به).و لقوله«ع» فی روایة إسماعیل بن عبد الخالق:(أما الزیت فلا تبعه إلا لمن تبین له فیبتاع للسراج).

فإنهما ظاهرتان فی تقیید جواز البیع بقصد الاستصباح،بل بالغ بعضهم و قال:إن الروایة الثانیة صریحة فی ذلک بدعوی حصر جواز البیع فیها بصورة الشراء للإسراج فقط.

و فیه أولا:أن الروایة الثانیة ضعیفة السند کما تقدم.و ثانیا:أن الظهور البدوی فی الروایتین و إن کان ذلک،و لکن الذی یظهر بعد التأمل فی مدلولهما هو أن الاستصباح و الإسراج من فوائد التبیین و متفرعاته،و قد أخذ غایة لذلک لکی لا یقع المشتری فی محذور النجاسة باستعماله الدهن المتنجس فیما هو مشروط بالطهارة کالأکل و نحوه،إذن فلا دلالة فی الروایتین علی أن اعتبار قصد الاستصباح من شرائط البیع.

و ثالثا:أن التوهم المذکور مبنی علی جعل الأمر بالبیان فی الروایتین للإرشاد إلی الاستصباح بالدهن،و لیس کذلک،لأن الأوامر و النواهی إنما تحمل علی الإرشاد إذا اکتنفت بالقرائن الصارفة عن ظهور الأمر فی الوجوب،و عن ظهور النهی فی التحریم، سواء أ کانت القرائن حالیة أم مقالیة،و سواء أ کانت عامة أم خاصة،کالأوامر و النواهی المتعلقة بأجزاء الصلاة و شرائطها،و کالأوامر و النواهی الواردة فی أبواب المعاملات، کقوله تعالی: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ،و کالنهی عن بیع ما لیس عندک،و النهی عن بیع الغرر، و سیأتی البحث عنها فی مواضعها،و أما فیما نحن فیه فلا قرینة توجب رفع الید عن ظهور الأمر بالبیان فی الوجوب النفسی،و حمله علی الإرشاد.

قوله کما یومئ إلی ذلک ما ورد فی تحریم شراء الجاریة المغنیة و بیعها. أقول:وجه

ص:113

الإیماء دلالتها علی بطلان بیع الجاریة المغنیة إذا کان لأجل الغناء،فتکون مؤیدة لما ذکره من کون قصد المنفعة المحرمة موجبا لبطلان البیع و إن لم یشترط فی ضمن العقد،و سیأتی الکلام فی تلک الروایات.

قوله فی روایة الأعرج المتقدمة. أقول:لیست الروایة للأعرج،و لیس متنها هو الذی ذکره المصنف(ره)،و قد عرفت ذلک فی أول المسألة.

وجوب الإعلام بنجاسة الدهن عند البیع

قوله الثانی:أن ظاهر بعض الاخبار وجوب الإعلام. أقول:قد وقع الخلاف بین الفقهاء فی وجوب إعلام المشتری بنجاسة الدهن و عدم وجوبه،و علی الأول فهل یجب مطلقا،أو فیما إذا کان المشتری بصدد الاستعمال للدهن فیما هو مشروط بالطهارة؟و علی التقدیرین فهل الوجوب المذکور نفسی،أم شرطی بمعنی اعتبار اشتراطه فی صحة البیع؟ وجوه:المصرح به فی کلامهم هو الوجوب مطلقا،و قد تقدم فی عنوان المسألة نقل صاحب الحاشیة علی سنن البیهقی عن بعض العامة دعوی الإجماع علی ذلک،و استشهد علی ذلک أیضا بما نقله من الروایة[1].

ثم لا یخفی أن موضوع البحث فی الاشکال السابق یرجع إلی اشتراط البیع بالاستصباح أو بقصده،و أما هنا فموضوع البحث متمحض فی بیان وجوب الإعلام و عدم وجوبه مطلقا أو فی الجملة نفسیا أو شرطیا،إذن فالنسبة بینهما هی العموم من وجه،لانه قد یکون البیع للاستصباح مع جهل المشتری بالنجاسة،و قد یبیعه لغرض آخر غیر الاستصباح مع الاعلام بها،و قد یجتمعان بأن یبیعه للاستصباح مع الاعلام بها،و علیه فدعوی اتحاد الشرطین مجازفة قوله و الذی ینبغی أن یقال:إنه لا إشکال فی وجوب الإعلام) أقول:ظاهر کلامه أنا إذا اعتبرنا الشرط السابق فی بیع الدهن المتنجس فلا مناص لنا عن القول بوجوب الاعلام بنجاسته،لتوقف قصد الاستصباح أو اشتراطه علی العلم بها،و عدم انفکاک أحدهما عن الآخر.و فیه أن کلا من الأمرین مستقل بنفسه لا یرتبط بالآخر،نعم قد یجتمعان، لما عرفته من النسبة المذکورة.

إذا عرفت ذلک فاعلم،أنه ربما یقال:بأن الاعلام بنجاسة الدهن واجب شرطی للبیع، لقوله«ع»فی روایة أبی بصیر:(و أعلمهم إذا بعته).و فیه أن ظهور الروایة فی ذلک

ص:114

و إن کان لا ینکر،و لکن یجب رفع الید عنه،لقوله«ع»فی روایة إسماعیل:(أما الزیت فلا تبعه إلا لمن تبین له).و لقوله«ع»فی روایة ابن وهب:(بعه و بینه لمن اشتراه لیستصبح به).إذ الأمر بالبیان فیها ظاهر فی الوجوب النفسی،و لا یجوز المصیر إلی إرادة الوجوب الشرطی منه إلا بالقرینة،و هی هنا منتفیة.و هکذا الحال فی مطلق الأوامر.

علی انا و إن قلنا بظهور الأمر بالبیان فی الوجوب الشرطی ابتداء،فإن روایة ابن وهب ظاهرة فی الوجوب النفسی لوجهین:الأول ان الظاهر من قوله«ع»فیها:(بعه و بینه لمن اشتراه).ان الاعلام بالنجاسة إنما هو بعد وقوع البیع و تحققه کما یقتضیه التعبیر بالماضی بقوله«ع»(لمن اشتراه).و من الواضح جدا ان البیان بعد البیع لا یکون من شرائطه إلا بنحو الشرط المتأخر،و هو فی نفسه و إن کان جائزا کما حقق فی علم الأصول،و لکن لم یقل به أحد فی المقام،و علیه فلا محیص عن إرادة الوجوب النفسی من الأمر بالبیان فی الروایة،إذ لیس فیها احتمال ثالث.

الثانی:أن الاستصباح قد جعل فیها غایة للبیان و فائدة له،و لیس هذا إلا لبیان منفعة ذلک الدهن و مورد صرفه،لئلا یستعمل فیما هو مشروط بالطهارة،و إلا فلا ملازمة بینهما بوجه من الوجوه الشرعیة و العقلیة و العادیة،و هذا المعنی کما تری لا یناسب إلا الوجوب النفسی،و یختص وجوب الإعلام بصورة التسلیم،فلا یجب مع عدمه،أو مع العلم بأن المشتری لا ینتفع به فی غیر الاستصباح و نحوه مما هو غیر مشروط بالطهارة،فتحصل أن بیع الدهن المتنجس مشروط بالإعلام،فیکون من صغریات ما ورد فی الحدیث[1]:أن شرط اللّه قبل شرکم،فلا یجوز البیع بدون الإعلام.

حرمة تغریر الجاهل و إلقائه فی الحرام الواقعی

قوله و یشیر إلی هذه القاعدة کثیر من الأخبار. أقول:لما کان بیع الدهن المتنجس من المسلم قد یوجب إلقاء له فی الحرام الواقعی حکم بحرمته فی الشریعة المقدسة،فإنه یستفاد من مذاق الشارع حرمة إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی.

و یدل علی صدق هذه الکبری الکلیة مضافا إلی ما ذکرناه من وجوب الإعلام ما ورد

ص:115

فی الأخبار الکثیرة فی مواضع شتی الدالة علی حرمة تغریر الجاهل بالحکم أو الموضوع فی المحرمات.

منها ما دل[1]علی حرمة الإفتاء بغیر علم،و لحوق وزر العامل به للمفتی،فإن ثبوت ذلک علیه،و استحقاق العقوبة الإلهیة و المهلکة الأبدیة إنما هو لوجهین:أحدهما:افتراؤه علی اللّه فهو بالضرورة من المحرمات الذاتیة و المبغوضات الإلهیة،و قد توافق العقل و النقل علی حرمته.و ثانیهما التغریر و التسبیب و إلقاء المسلم فی الحرام الواقعی،و هو أیضا حرام فی الشریعة المقدسة.

و منها ما دل[2]علی ثبوت أوزار المأمومین و إثمهم علی الإمام فی تقصیر نشأ من تقصیر الامام،فیدل علی حرمة تغریر الجاهل بالحکم و إلقائه فی الحرام الواقعی.

ص:116

و منها الروایات[1]المتضمنة لکراهة إطعام الأطعمة و الأشربة المحرمة للبهیمة،فقد استشعر منها المصنف حرمة ذلک بالنسبة إلی المکلف،فتکون مؤیدة للمدعی.

و فیه أنا إذا قلنا بالتعدی عن مورد الروایات لثبتت الکراهة أو الکراهة المغلظة فی ذلک بالنسبة إلی المکلف بالأولویة القطعیة،و أما الحرمة فلا.

و منها ما دل[2]علی ضمان الإمام صلاة المأمومین إذا صلی بهم جنبا أو علی غیر طهر، و معنی الضمان هنا هو الحکم بوجوب الإعادة علی الامام دون المأمومین،و تحمله کل وزر یحدث علی المأمومین من جهة النقص إذا کان عالما.

و منها ما دل[3]علی حرمة سقی الخمر للصبی و الکفار،و أن علی الساقی کوزر من شربها،

ص:117

و إذا کان التسبیب و التغریر بالإضافة إلی الصبی و الکفار حراما فهو أولی بالحرمة فی غیر الصبی و الکفار.

و منها الأخبار الآمرة بإهراق المائعات المتنجسة،و سیأتی التعرض لها فی حکم الانتفاع بالمتنجس.

و منها الأخبار الدالة علی حرمة ارتکاب المحرمات،فإنه لا فرق فی إیجاد المحرم بین الإیجاد بالمباشرة أو بالتسبیب.و یؤید ما ذکرناه ما ورد[1]فی جواز بیع العجین المتنجس من مستحل المیتة دون غیره.و ما ورد من الاخبار الدالة علی حرمة بیع المذکی المختلط بالمیتة،و انه یرمی بهما إلی الکلاب،و قد تقدم ذکرها فی مبحث بیع المیتة،و ما یدل علی جواز إطعام المرق المتنجس لأهل الذمة أو الکلاب،و قد تقدم ذلک أیضا فی المبحث المذکور.

قوله و یؤیده ان أکل الحرام و شربه من القبیح و لو فی حق الجاهل. أقول:

توضیح کلامه:ان الاحکام الواقعیة کما حقق فی محله لیست مقیدة بعلم المکلفین،و إلا لزم التصویب المستحیل أو الباطل،فالأحکام الواقعیة و ملاکاتها شاملة لحالتی العلم و الجهل،ثم إن غرض الشارع من بعث المکلفین نحوها و تکلیفهم بها لیس إلا امتثالها بالإتیان بالواجبات و ترک المحرمات،حتی لا یوجد ما هو مبغوض للشارع،و لا یترک ما هو مطلوب.

و نتیجة المقدمتین ان المکلف الملتفت کما یحرم علیه مخالفة التکالیف الإلزامیة من ارتکاب المحرمات و ترک الواجبات،فکذلک یحرم علیه التسبیب إلی مخالفتها بإلقاء الجاهل فی الحرام الواقعی،لأن مناط الحرمة فی ذلک إنما هو تفویت غرض المولی بإیجاد المفسدة و ترک المصلحة الملزمتین،و هذا المناط موجود فی کلتا الصورتین،فالأدلة الأولیة کما تقتضی حرمة

ص:118

مخالفة التکالیف الإلزامیة بالمباشرة،فکذلک تقتضی حرمة مخالفتها بالتسبیب.

و بعبارة أخری قد ذکرنا فی علم الأصول فی الکلام علی حدیث الرفع:ان المرفوع عن المکلفین عند جهلهم بالتکالیف الواقعیة لیس إلا خصوص الإلزام الظاهری و العقاب الذی تستلزمه مخالفة الواقع،و أما الأحکام الواقعیة و ملاکاتها فهی باقیة علی حالها،و علیه فتغریر الجاهل بالأحکام الواقعیة و إن لم یوجب مخالفة المغرور التکالیف الإلزامیة،إلا انه یوجب تفویت غرض الشارع فهو حرام،و مثال ذلک فی العرف ان المولی إذا نهی عبیده عن الدخول علیه فی وقت خاص عینه لفراغه،فان نهیه هذا یشمل المباشرة و التسبیب،و لذلک لو سبب أحد العبید لدخول أحد علی مولاه فی ذلک الوقت لصح عقابه،کما یصح عقابه لو دخل هو بنفسه لاتحاد الملاک فی کلتا الصورتین بحکم الضرورة و البدیهة،و مما ذکرناه ظهر لک ان فی تعبیر المصنف تسامحا واضحا،فإنه أتی بلفظ القبیح بدل لفظ الحرمة،و من الضروری ان القبیح یرتفع عند الجهل بالتکلیف،و لا یلزمه ارتفاع الحرمة،اللهم إلا إذا أراد بالقبیح الحرمة، و لکنه لا یرفع التسامح.

ثم إن الوجوه المتقدمة إنما تقتضی حرمة تغریر الجاهل بالأحکام الواقعیة فیما إذا کان المغرور فی معرض الارتکاب للحرام،و إلا فلا موضوع للإغراء،و یترتب علی ذلک تقیید وجوب الإعلام فی بیع الدهن المتنجس بذلک أیضا،فإنه إنما یجب فیما إذا کان المشتری فی معرض الانتفاع به فیما هو مشروط بالطهارة،و إلا فلا دلیل علی وجوبه.

قوله بل قد یقال:بوجوب الاعلام و إن لم یکن منه تسبیب. أقول:قد عرفت بما لا مزید علیه حرمة إلقاء الجاهل فی الحرام الواقعی،و أما لو ارتکبه الجاهل بنفسه من دون تغریر و لا تسبیب من الغیر،فهل یجب علی العالم بالواقع إعلامه بالحال؟فیه وجهان:

فعن العلامة(ره)فی أجوبة المسائل المهنائیة التصریح بوجوب الاعلام،حیث سأله السید المهنا عمن رأی فی ثوب المصلی نجاسة؟فأجاب بأنه یجب الاعلام لوجوب النهی عن المنکر.

و لکن یرد علیه أن أدلة وجوب النهی عن المنکر مختصة بما إذا کان صدور الفعل من الفاعل منکرا،و فی المقام لیس کذلک،لأنا قد فرضنا جهل الفاعل بالواقع.

و قد یقال:بعدم الوجوب فی غیر موارد التسبیب،لروایة ابن بکیر[1]فإنها صریحة

ص:119

فی عدم وجوب الإعلام بنجاسة ثوب المصلی.و فیه ان الروایة أجنبیة عما نحن فیه،لان عدم وجوب الإعلام بالنجاسة إنما هو لأن الطهارة الخبیثة لیست من الشرائط الواقعیة للصلاة،و إنما هی من الشرائط العلمیة،لأن تنبیه الجاهل و إعلامه لیس بواجب علی العالم، و یرشدک الی ذلک ان الروایة مختصة بصورة الجهل،و لا تشمل صورة النسیان.

نعم یمکن الاستدلال علیه علی وجه الإطلاق بخبرین آخرین،الأول:خبر محمد بن مسلم[1]فإن الإمام«ع»نهی فیه عن الاعلام بالدم فی ثوب المصلی،و(قال:لا یؤذنه حتی ینصرف)من صلاة.و لا یرد علیه الاشکال المتقدم فی روایة ابن بکیر،فقد عرفت أن مورد السؤال فیها مختص بصورة الجهل بالواقع فقط،و هذا بخلاف مورد السؤال فی هذه الروایة فإنه مطلق یشمل صورتی الجهل و النسیان،و من الواضح ان الطهارة الخبیثة فی صورة النسیان من الشرائط الواقعیة للصلاة.

الثانی:خبر عبد اللّه بن سنان[2]فإنه صریح فی عدم وجوب الاعلام فی صورة الجهل فی غیر الصلاة أیضا،و فی هذا الخبر کفایة و إن لم یسلم الخبر السابق من الاشکال المذکور و مع الإغضاء عما ذکرناه فالمرجع فی المقام هو أصالة البراءة،إذ لیس هنا ما یدل علی وجوب الاعلام،لنخرج به عن حکم الأصل.

ثم ان هذا کله إذا لم یکن ما یرتکبه الجاهل من الأمور التی اهتم الشارع بحفظها من کل احد کالدماء و الفروج و الأحکام الکلیة الإلهیة،کما إذا اعتقد الجاهل ان زیدا مهدور الدم شرعا،فتصدی لقتله و هو محترم الدم فی الواقع أو اعتقد ان امرأة یجوز له نکاحها فأراد التزویج بها،و کانت فی الواقع محرمة علیه،أو غیر ذلک من الموارد،فإنه یجب علی الملتفت إعلام الجاهل فی أمثال ذلک،لکی لا یقع فی المحذور،بل تجب مدافعته لو شرع فی العمل و ان کان فعله من غیر شعور و التفات،و اما فی غیر تلک الموارد فلا دلیل علیه،بل ربما لا یحسن لکونه إیذاء للمؤمن.

قوله و الحاصل:ان هنا أمورا أربعة). أقول:ملخص کلامه:ان إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی علی أربعة أقسام،الأول:ان یکون فعل احد الشخصین علة تامة لصدور

ص:120

الحرام من الآخر،کإکراه الغیر علی الحرام،و هذا مما لا إشکال فی حرمته علی المکره بالکسر،و ثبوت وزر الحرام علیه،الثانی:أن یکون فعل أحدهما سببا لصدور الحرام من الآخر،کإطعام الشیء المحرم للجاهل بحرمته و هذا أیضا مما لا إشکال فی حرمته، فان استناد الفعل إلی السبب أولی من استناده إلی المباشر،فتکون نسبة الحرام إلی السبب أولی،کما یستقر الضمان أیضا علی السبب دون المباشر فی موارد الإتلاف.

و من هذا القبیل ما نحن فیه أعنی بیع الدهن المتنجس ممن لا یعلم بنجاسته من دون بیان.

الثالث:أن یکون فعل أحدهما شرطا لصدور الحرام من الآخر،و هذا علی وجهین:لأن عمل الشخص الأول تارة یکون من قبیل إیجاد الداعی للثانی علی المعصیة،سواء کان باثارة الرغبة إلی الحرام فی نفس الفاعل بالتحریض و التوصیف و نحوهما،أو بإیجاد العناد فی قلبه، کسب آلهة الکفار الموجب لالقائهم فی سب الحق عنادا،و اخری یکون من قبیل إیجاد مقدمة من مقدمات الحرام غیر إیجاد الداعی کبیع العنب ممن یعلم أنه یجعله خمرا.الرابع:

أن یکون من قبیل رفع المانع،و هو أیضا علی وجهین:لأن حرمة العمل الصادر من الفاعل إما أن تکون فعلیة علی أی تقدیر،کسکوت الشخص عن المنع من المنکر،و لا إشکال فی حرمة السکوت إذا اجتمعت شرائط النهی عن المنکر،و إما أن تکون غیر فعلیة علی تقدیر وجود المانع،کسکوت الملتفت إلی الحرام عن منع الجاهل الذی یرید أن یرتکبه،فان الجاهل ما لم یلتفت إلی الحرام لا یکون ارتکابه محرما لیجتمع سکوت الملتفت عن المنع مع الحرمة الفعلیة،کما فیما نحن فیه،و هذا الأخیر إن کان من الأمور المهمة فی نظر الشارع حرم السکوت،و وجب رفع الحرام،و إلا ففیه إشکال.

أقول:هذا التقسیم الذی أفاده المصنف(ره)لا یرجع إلی محصل،مضافا إلی جریه فی إطلاق العلة و المعلول علی غیر ما هو المصطلح فیهما،و المناسب فی المقام تقسیم إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی علی نحو یمکن تطبیقه علی القواعد،و استفادة حکمه من الروایات.

فنقول:إن الکلام قد یقع فی بیان الأحکام الواقعیة،و قد یقع فی إضافة فعل أحد الشخصین إلی الشخص الآخر من حیث العلیة أو السببیة أو الداعویة،أما الأول فقد یکون الکلام فی الأحکام الکلیة الإلهیة،و قد یکون فی الأحکام الجزئیة المترتبة علی الموضوعات الشخصیة.

أما الأحکام الکلیة الإلهیة فلا ریب فی وجوب إعلام الجاهل بها،لوجوب تبلیغ الأحکام الشرعیة علی الناس جیلا بعد جیل إلی یوم القیامة،و قد دلت علیه آیة النفر[1]

ص:121

و الروایات (1)الواردة فی بذل العلم و تعلیمه و تعلمه.

و أما الأحکام الجزئیة المترتبة علی الموضوعات الشخصیة فان لم نقل بوجود الدلیل علی نفی وجوب الإعلام-کالروایة المتقدمة الدالة علی صحة الصلاة فی الثوب النجس جهلا،و أنه لا یجب علی المعیر إعلام المستعیر بالنجاسة-فلا ریب فی عدم الدلیل علی وجوبه،و علی هذا فلو رأی أحد نجاسة فی طعام الغیر فإنه لا یجب علیه إعلامه،کما أنه لا یجب تنبیه المصلی إذا صلی بالطهارة الترابیة مع الغفلة عن وجود الماء عنده،إلا إذا کان ما ارتکبه الجاهل من الأمور المهمة،فإنه یجب إعلام الجاهل بها کما عرفت.

و أما الثانی:(أعنی إضافة فعل أحد الشخصین إلی الشخص الآخر)فقد یکون فعل أحد الشخصین سببا لوقوع الآخر فی الحرام،و اخری لا یکون کذلک،أما الأول:فلا شبهة فی حرمته،کإکراه الغیر علی الحرام،و قد جعله المصنف من قبیل العلة و المعلول، و الدلیل علی حرمة هی الأدلة الأولیة الدالة علی حرمة المحرمات،فان العرف لا یفرق فی إیجاد مبغوض المولی بین المباشرة و التسبیب.

و أما الثانی:فإن کان الفعل داعیا إلی إلی إیجاد الحرام کان حراما،فإنه نحو من إیقاع الغیر فی الحرام،و مثاله تقدیم الطعام المتنجس أو النجس أو المحرم من غیر جهة النجاسة إلی الجاهل لیأکله،أو توصیف الخمر بأوصاف مشقوقة لیشربها،و من هذا القبیل بیع الدهن المتنجس من دون إعلام بالنجاسة،و سب آلهة المشرکین الموجب للجرأة علی سب الإله الحق،و سب آباء الناس الموجب لسب أبیه،و قد جعل المصنف بعض هذه الأمثلة من قبیل السبب،و بعضها من قبیل الشرط،و بعضها من قبیل الداعی،و لکنه لم یجر فی جعله هذا علی المنهج الصحیح و قد أشیر إلی حرمة التسبیب إلی الحرام فی بعض الآیات[1]و الروایات[2]

ص:122


1- 1) راجع ج 1 أصول الکافی بهامش مرآت العقول.و ج 1 الوافی ص 47.

و إن لم یکن الفعل داعیا إلی الحرام فاما أن یکون مقدمة له،و إما أن لا یکون کذلک أما الأول:فکاعطاء العصا لمن أراد ضرب الیتیم،فإن إعطاءه و إن کان مقدمة للحرام، إلا أنه لیس بداع الیه،و الحکم بحرمته یتوقف علی أمرین،الأول:کونه إعانة علی الإثم، و الثانی:ثبوت حرمة الإعانة علی الإثم فی الشریعة المقدسة،و سیأتی الکلام علی ذلک فی مبحث بیع العنب ممن یجعله خمرا.

و أما الثانی:فکمن ارتکب المحرمات و هو بمرأی من الناس،فإن رؤیتهم له عند الارتکاب لیست مقدمة لفعل الحرام،نعم لا بأس بإدخاله تحت عنوان النهی عن المنکر فیجب النهی عنه إذا اجتمعت شرائطه.

لا یخفی أن فی کلام المصنف تهافتا واضحا،حیث جعل ما نحن فیه تارة من القسم الثانی، و اخری من القسم الرابع،و یمکن توجیهه بوجهین،الأول:أن یراد بالفرض الذی أدخله فی القسم الثانی هو فرض الدهن المتنجس،فإن إعطائه للغیر لا یخلو عن التسبیب إلی الحرام الذی سیق هذا القسم لبیان حکمه،و أن یراد بالفرض الذی جعله من القسم الرابع هو فرض الثوب المتنجس،کما تقدم فی مسألة السید المهنا عن العلامة عمن رأی فی ثوب المصلی النجاسة، فإن القسم الرابع لم یفرض فیه کون فعل شخص سببا لصدور الحرام من الشخص الآخر، بل المفروض فیه کونه من قبیل عدم المانع کسکوت العالم عن إعلام الجاهل،و لا شبهة فی مناسبة الثوب المتنجس لذلک.الوجه الثانی:أن یراد من کلامه الدهن المتنجس فی کلا الموردین مع الالتزام فیهما باختلاف الجهتین،بأن یکون الملحوظ فی القسم الثانی کونه تسبیبا لإیقاع الجاهل فی الحرام،و الملحوظ فی إلحاقه بالقسم الرابع هو الحرمة النفسیة مع قطع النظر عن التسبیب.

قوله ثم إن بعضهم استدل علی وجوب الإعلام بأن النجاسة عیب خفی فیجب إظهارها. أقول:أشکل علیه المصنف(ره)بوجهین،الأول:(أن وجوب الإعلام علی القول به لیس مختصا بالمعاوضات،بل یشمل مثل الإباحة و الهبة من المجانیات).و الثانی:

(أن کون النجاسة عیبا لیس إلا لکونه منکرا واقعیا و قبیحا،فان ثبت ذلک حرم الإلقاء فیه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العیب،و إلا لم یکن عیبا فتأمل).

أقول:إن ما أفاده أولا و إن کان وجیها،إلا أن الثانی غیر وجیه،فإن النجاسة.

ص:123

لا ینکر کونها عیبا فی الأعیان النجسة و المتنجسة.سواء کانت من القبائح الواقعیة أم لم تکن بل ربما یوجب جهل المشتری بها تضرره،کما إذا اشتری الدهن المتنجس مع جهله بنجاسته و مزجه بدهنه الطاهر،ثم اطلع علیها،و لعله لذلک أمر بالتأمل.

و الذی یسهل الخطب أنه لا دلیل علی وجوب إظهار العیب الخفی فی المعاملات،و إنما الحرام هو غش المؤمن فیها،کما سیأتی فی البحث عن حرمة الغش،و علیه فالعیب الخفی إن استلزم الغش فی المعاملات وجب رفع الغش،و إلا فلا دلیل علی وجوبه،و من المعلوم أن رفع الغش هنا لا ینحصر بإظهار العیب الخفی،بل یحصل بالتبری عن العیوب،أو باشتراط صرفه فیما هو مشروط بالطهارة،و من هنا یعلم أنه لا وجه لتوهم:أن النجاسة عیب خفی وجب إظهارها حتی لا یکون غشا للمسلم.

ثم إن وجوب الإعلام بالنجاسة فیما إذا کان المشتری مسلما مبالیا فی أمر الطهارة و النجاسة و أما إذا کان کافرا أو مسلما غیر مبال فی الدین فلا یجب الإعلام،لکونه لغوا،و إن کان الجمیع مکلفین بالفروع کتکلیفهم بالأصول.

جواز استصباح الدهن المتنجس تحت الظلال

قوله الثالث:المشهور بین الأصحاب وجوب کون الاستصباح تحت السماء. أقول:

المشهور بین الأصحاب هو جواز الاستضاءة بالدهن المتنجس علی وجه الإطلاق،و ذهب بعضهم إلی جواز الإسراج به تحت السماء،و ذهب المشهور من العامة (1)إلی جواز الاستصباح به فی غیر المسجد ففی أطعمة السرائر:و قال شیخنا أبو جعفر فی مبسوط فی کتاب الأطعمة:روی أصحابنا أنه یستصبح به تحت السماء دون السقف،و هذا یدل علی أن دخانه نجس غیر أن عندی أن هذا مکروه،إلی أن قال:و أما ما یقطع بنجاسته فقال قوم:دخانه نجس،و هو الذی دل علیه الخیر الذی قدمناه من روایة أصحابنا.و قال آخرون-و هو الأقوی-:إنه لیس بنجس و قال ابن إدریس بعده:و لا یجوز الاستصباح به تحت الظلال لأجل التعبد.ثم قال:و لا یجوز الإدهان به و لا استعماله فی شیء من الأشیاء سوی الاستصباح به تحت السماء،ثم قال:ما ذهب أحد من أصحابنا إلی أن الاستصباح به تحت الظلال مکروه،بل محظور بغیر خلاف بینهم،و قول شیخا أبی جعفر محجوج بقوله فی جمیع کتبه إلا ما ذکره هنا،فالأخذ بقوله و قول أصحابنا أولی من الأخذ بقوله المتفرد من أقوال أصحابنا.

ص:124


1- 1) فی ج 2 فقه المذاهب ص 231 و ص 232.

أقول:إن الروایات و إن استفاضت من الفریقین علی جواز إسراج الدهن المتنجس إلا أنها خالیة عن ذکر الاستصباح به تحت السماء فقط،و ستأتی الإشارة إلی هذه الروایات المستفیضة فی البحث عن جواز الانتفاع بالمتنجس.نعم استدل علی ذلک بوجوه:الأول دعوی غیر واحد من أعاظم الأصحاب الإجماع علیه.و فیه أن دعواه فی المقام مجازفة لمخالفة جملة من الأعاظم کالشیخ و العلامة و غیرهما،علی أن الإجماع التعبدی هنا ممنوع لاحتمال استناد المجمعین إلی الوجوه المذکورة فی المسألة.

الثانی:الشهرة الفتوائیة.و فیه أنها و إن کانت مسلمة إلا أنها لیست بحجة.

الثالث:مرسلة الشیخ المتقدمة،المنجبر ضعفها بعمل المشهور،و هی صریحة فی کون الإسراج به تحت السماء.

و فیه أن من المظنون أنها صدرت من سهو القلم،فإن أصحاب الحدیث لم ینقلوها فی أصولهم حتی الشیخ بنفسه فی تهذیبیه،و ظاهره قوله(ره):(روی أصحابنا:أنه یستصبح به تحت السماء)یقتضی کون الروایة مشهورة فی المقام،فلا وثوق بوجود الروایة المذکورة نعم لو کانت العبارة أنه(روی:أنه یستصبح به تحت السماء)کانت حینئذ روایة مرسلة.

و إذا سلمنا کون العبارة المذکورة روایة مرسلة،فإن العمل بها لا یجوز للإرسال،و توهم انجبارها بعمل المشهور بها ممنوع صغری و کبری،کما هو واضح،خصوصا مع مخالفة الشیخ(ره)،فإنه حملها علی الکراهة،و مخالفة العلامة(ره)،فإنه أعرض عنها،و جعل العلة فی تحریم الإسراج به تحت الظلال هی حرمة تنجیس السقف،قال فی المختلف (1):

(نعم لو کان صعود بعض الأجزاء الدهنیة بواسطة الحرارة موجبا لتنجس السقف فلا یجوز الاستصباح به تحت الظلال،و إلا فیجوز مطلقا).

الرابع:ما نقلناه عن العلامة من أن الاستصباح به تحت الظلال یوجب تنجیس السقف لتصاعد بعض الأجزاء الدهنیة قبل إحالة النار إیاه إلی أن تلاقی السقف،فهو حرام.

و لکن یرد علیه أولا:أن دخان النجس کرماده لیس بنجس للاستحالة،و مجرد احتمال صعود الأجزاء الدهنیة إلی السقف قبل الاستحالة لا یمنع عن الإسراج به تحت الظلال لکونه مشکوکا.

و ثانیا:أن الدلیل أخص من المدعی،لأن الدخان قد لا یؤثر فی السقف،إما لعلوه، أو لقلة الزمان،أو لخروجه من الأطراف،أو لعدم وجود دخان فیه.

و ثالثا:إذا سلمنا جمیع ذلک فلا دلیل علی حرمة تنجیس السقف،نعم لا یجوز تنجیسه فی

ص:125


1- 1) ج 4 کتاب الأطعمة ص 133.

المساجد و المشاهد،و علیه فلا وجه للمنع عن الاستصباح به تحت السقف من جهة حرمة تنجیسه قوله لکن الأخبار المتقدمة علی کثرتها. أقول:محصل کلامه:أن المطلقات حیث کانت متظافرة،و واردة فی مقام البیان فهی آبیة عن التقیید،و لو سلمنا جواز تقییدها إلا انه لیس فی المقام ما یوجب التقیید عدا مرسلة الشیخ،و هی غیر صالحة لذلک،لأن تقیید المطلقات بها یتوقف علی ورودها للتعبد،أو لحرمة تنجیس السقف،کما فهمها الشیخ، و کلا الوجهین بعید،فلا بد من حمل المرسلة علی الإرشاد إلی عدم تنجس السقف بالدخان.

و فیه أن غایة ما یترتب علی کون المطلقات متظافرة أن تکون مقطوعة الصدور لا مقطوعة الدلالة،و إذن فلا مانع عن التقیید،إذ هی لا تزید علی مطلقات الکتاب القابلة للتقیید حتی بالأخبار الآحاد،و أوهن من ذلک دعوی إبائها عن التقیید من جهة ورودها فی مقام البیان فان ورودها فی مقام البیان مقوم لحجیتها،و من الواضح أن مرتبة التقیید متأخرة عن مرتبة الحجیة فی المطلق،و نسبة حجیته إلی التقیید کنسبة الموضوع إلی الحکم،و لا یکون الموضوع مانعا عن ترتب الحکم علیه.

و أما ما ذکره من أن المرسلة غیر صالحة لتقیید المطلقات ففیه أنه بناء علی جواز العمل بها و انجبار ضعفها بعمل المشهور لا مانع من حملها علی التعبد المحض فتصلح حینئذ لتقیید المطلقات،و مجرد الاستبعاد لا یکون مانعا عن ذلک،و إنما الإشکال فی أصل وجود المرسلة کما تقدم.

و أما تقیید المطلقات بها من جهة أن المرسلة تدل علی حرمة تنجیس السقف فبعید غایته.

قوله لکن لو سلم الانجبار. أقول:قد أشار به إلی أنها غیر منجبرة بشیء،کما أشرنا إلیه،لأن الشهرة إنما تجبر الخبر الضعیف إذا علم استنادها الیه،و من المحتمل أن تکون فتوی المشهور بعدم جواز الإسراج به تحت السقف مستندة إلی ما ذهب إلیه العلامة من حرمة تنجیس السقف،لا إلی المرسلة المذکورة.

قوله و لو رجع إلی أصالة البراءة حینئذ لم یکن إلا بعیدا عن الاحتیاط و جرأة علی مخالفة المشهور. أقول:لا یکون البعد عن الاحتیاط مانعا عن الرجوع إلی البراءة فی شیء من الموارد،و أما الجرأة علی خلاف المشهور فلا محذور فیها لأن الشهرة لیست بحجة.

ص:126

جواز الانتفاع بالدهن المتنجس فی

غیر الاستصباح

قوله هل یجوز الانتفاع بهذا الدهن فی غیر الاستصباح؟. أقول:حاصل کلامه:

أنه حیث إن جواز الانتفاع بالدهن المتنجس فی غیر الاستصباح لم ترد فیه إلا روایة ضعیفة فی جعله صابونا،فلا بد من الرجوع فیه إلی القواعد.ثم قرب الجواز.و عن الحنفیة[1] التصریح بذلک.

و قد یتوهم عدم جواز استعماله فی غیر الاستصباح مطلقا استنادا إلی روایة قرب الاسناد[2]الدالة علی عدم جواز التدهن به.و لکن الروایة ضعیفة السند.

لا یقال:إن هذه الروایة لا یجوز العمل بها و إن کانت صحیحة،لأنها غیر معمول بها بین الأصحاب،لفتواهم بجواز الانتفاع بالدهن المتنجس فی غیر الاستصباح أیضا.فإنه یقال قد ذکرنا فی علم الأصول:أن إعراض المشهور عن الروایة الصحیحة لا یوجب الوهن فیها و قد أشرنا إلیه فی الکلام علی روایة تحف العقول.

لا یقال:إن هذه الروایة مجملة لا تفی بإثبات المقصود فإنه یحتمل أن یکون قوله«ع»:

(لا تدهن به)من باب الافتعال بالتشدید،فیکون دالا علی عدم جواز تنجیس البدن، أو من باب الإفعال،فلا یمکن الاستناد إلیها فی عدم جواز الاستعمال مطلقا.فإنه یقال:

إن ظاهر الروایة هو النهی عن طلبی البدن بالدهن المتنجس،و من الواضح أن الأدهان من الإفعال بمعنی الخدعة،و أن الذی بمعنی الطلی هو من باب الافتعال.

و الذی ینبغی أن یقال:إن جواز الانتفاع بهذا الدهن فی غیر الموارد المنصوصة و عدم جوازه مبنی علی تحقیق الأصل فی الانتفاع بالمتنجس،فهل الأصل یقتضی جواز ذلک أو حرمته حتی یخرج الخارج بالدلیل؟فذهب جمع من الأصحاب إلی الثانی،و قال جمع من المتأخرین:بالأول،و هو الأقوی،و هو مقتضی أصالة البراءة الثابتة بالأدلة المستفیضة، و یدل هذا الأصل علی إباحة ما لم یرد فیه نهی و حلیته،و من البین أن الانتفاع بالمتنجس فی

ص:127

غیر ما هو مشروط بالطهارة من صغریات ذلک.

قوله و قاعدة حل الانتفاع بما فی الأرض. أقول:لا وجه لهذه القاعدة إلا قوله تعالی[1] هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُمْ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً .

و لکن الآیة لیست بدالة علی جواز الانتفاع بجمیع ما فی الأرض لیکون الانتفاع بالمتنجس من صغریاته،بل هی إما ناظرة إلی بیان أن الغایة القصوی من خلق الأجرام الأرضیة و ما فیها لیس إلا خلق البشر و تربیته و تکریمه،و أما غیر البشر فقد خلقه اللّه تعالی تبعا لخلق الإنسان و مقدمة له،و من البدیهی أن هذا المعنی لا ینافی تحلیل بعض المنافع علیه دون بعض.

و إما ناظرة إلی أن خلق تلک الأجرام و تکوینها علی الهیئات الخاصة و الاشکال المختلفة و الأنواع المتشتتة من الجبال و الأودیة و الأشجار و الحیوانات علی أنواعها،و أنحاء المخلوقات من النامی و غیره،لبیان طرق الاستدلال علی وجود الصانع و توحید ذاته و صفاته و فعاله و علی إتقان فعله و علو صنعه و کمال قدرته و سعة علمه،إذن فتکون اللام للانتفاع،فإنه أی منفعة أعظم من تکمیل البشر،و لعل هذا هو المقصود من قوله«ع»فی دعاء الصباح:

(یا من دل علی ذاته بذاته).

الأصل جواز الانتفاع بالمتنجس

قوله و لا حاکم علیها سوی ما یتخیل) أقول:قد استدل علی حرمة الانتفاع بمطلق المتنجس بجملة من الآیات و الروایات.

اما الآیات فمنها قوله تعالی (1): (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) .فان المتنجس رجس فیجب الاجتناب عنه.

و فیه ان الرجس و إن أطلق علی الأعیان النجسة کثیرا،کما أطلق علی الکلب فی صحیحة البقباق[2]إلا ان الآیة لا ترتبط بالمدعی لوجوه،الأول:ان الظاهر من الرجس

ص:128


1- 1) سورة المائدة آیة 92.

هی الأشیاء التی یحکم علیها بالنجاسة بعناوینها الأولیة،فیختص بالأعیان النجسة،و لا یشمل الأعیان المتنجسة،لأن النجاسة فیها من الأمور العرضیة.

الثانی:أن الرجس فی الآیة لإیراد منه القذارة الظاهریة لکی ینازع فی اختصاصه بالأعیان النجسة،أو شموله الأعیان المتنجسة أیضا.بل المراد منه القذارة المعنویة:أی الحسة الموجودة فی الأمور المذکورة فی الآیة،سواء کانت قدرة بالقذارة الحسیة أیضا أم لم تکن،و الذی یدل علی ذلک من الآیة إطلاق الرجس علی المیسر و الأنصاب و الأزلام، فان من البدیهی أن قذارة هذه الأشیاء لیست ظاهریة،و لا شبهة فی صحة إطلاق الرجس فی اللغة[1]علی ما یشمل القذارة الباطنیة أیضا،و علیه فالآیة إنما تدل علی وجوب الاجتناب عن کل قذر بالقذارة الباطنیة التی یعبر عنها فی لغة الفرس بلفظ(پلید)فتکون المتنجسات خارجة عنها جزما.

الثالث:أن جعل المذکورات فی الآیة من عمل الشیطان،إما من جهة کون الأفعال المتعلقة بالخمر و الأنصاب و الأزلام رجسا من عمل الشیطان،کما یشیر الیه قوله تعالی[2]:

(إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ) .فان الرجس قد یطلق علی مطلق القبائح و المعاصی،و قد عرفت ذلک فی الهامش من القاموس و غیره.

و إما من جهة کون تلک الأمور نفسها من عمل الشیطان،فعلی الأول تکون الآیة دالة

ص:129

علی وجوب الاجتناب عن کل عمل قبیح یصدق علیه أنه رجس،و أما ما لم یحرز قبحه فلا تشمله الآیة،و علی الثانی یکون موضوع الحکم فیها کل عین من الأعیان صدق علیها أنها من عمل الشیطان،و علیه فکل عین محرمة صدق هذا العنوان علیها تکون مشمولة للآیة و من الواضح أن الخمر من عمل الشیطان باعتبار صنعها،أو بلحاظ أن أصل تعلیمها کان من الشیطان،و کذلک النصب بلحاظ جعلها صلیبا،و الأزلام بلحاظ التقسیم،کالحظ و النصیب فی الزمن الحاضر المعبر عنه فی لغة الفارس بکلمة(بلیط آزمایش بخت)و أما ما لا یصدق علیه ذلک و إن کان من الأعیان النجسة کالکلب و الخنزیر فضلا عن المتنجسات فلا تشمله الآیة الرابع:إذا سلمنا شمول الآیة للنجاسات و المتنجسات فلا دلالة فیها علی حرمة الانتفاع بالمتنجس،فان الاجتناب عن الشیء إنما یکون بالاجتناب ما یناسب ذلک الشیء،فالاجتناب عن الخمر عبارة عن ترک شربه إذا لم یدل دلیل آخر علی حرمة الانتفاع بها مطلقا،و الاجتناب عن النجاسات و المتنجسات عبارة عن ترک استعمالها فیما یناسبها،و من القمار عن ترک اللعب، و من الأمهات و البنات و الأخوات و الحالات و بقیة المحارم عبارة عن ترک تزویجهن،کما أن الاجتناب عن المسجد هو ترک العبادة فیه،و الاجتناب عن العالم ترک السؤال عنه، و الاجتناب عن التاجر ترک المعاملة معه،و الاجتناب عن أهل الفسوق ترک معاشرتهم و هکذا و علی الجملة نسبة الاجتناب إلی ما یجب الاجتناب عنه تختلف باختلاف الموارد،و لیست فی جمیعها علی نسق واحد،و علیه فلا دلالة فی الآیة علی حرمة الانتفاع بالمتنجس مطلقا،بل الأمر فی ذلک موقوف علی ورود دلیل خاص یدل علی وجوب الاجتناب مطلقا.

قوله مع أنه لو عم التنجیس لزم أن یخرج عنه أکثر الأفراد. أقول:لا یلزم من خروج المتنجسات کلها من الآیة تخصیص الأکثر فضلا عما إذا کان الخارج بعضها،فان الخارج منها عنوان واحد ینطبق علی جمیع أفراد المتنجس انطباق الکلی علی أفراده نعم لو کان الخارج من عموم الآیة کل فرد فرد من أفراده للزم المحذور المذکور.

و منها قوله تعالی (1): (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) .بناء علی شمول الرجز للأعیان النجسة و المتنجسة،و قد ظهر الجواب عنها من کلامنا علی الآیة السابقة،ثم إن نسبة الهجر إلی الأعیان الخارجیة لا تصح إلا بالعنایة و المجاز،بخلاف نسبته إلی الأعمال،فإنها علی نحو الحقیقة،و علیه فالمراد من الآیة خصوص الهجر عن الأعمال القبیحة و الأفعال المحرمة، و لا تشمل الأعیان المحرمة.

و یحتمل أن یراد من الرجز العذاب،کما فی قوله تعالی (2): (فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ)

ص:130


1- 1) سورة المدثر،آیة:5.
2- 2) سورة البقرة،آیة:56.

و قد صرح بذلک بعض أهل اللغة،کصاحب القاموس و غیره،و علی هذا فالمراد من هجر العذاب هجر موجباته،کما أرید من المسارعة إلی المغفرة،و من الاستباق إلی الخیرات المسارعة و الاستباق إلی أسبابهما فی آیتهما (1).

و منها قوله تعالی (2): (وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ) بناء علی صدق الخبائث علی المتنجسات و حیث إن التحریم فی الآیة لم یقید بجهة خاصة فهی تدل علی عموم تحریم الانتفاع بالمتنجسات.

و أجاب عنها المصنف بأن المراد من التحریم خصوص حرمة الأکل بقرینة مقابلته بحلیة الطیبات.و فیه أن مقتضی الإطلاق هو حرمة الانتفاع بالخبائث مطلقا،فتدل علی حرمة الانتفاع بالمتنجس کذلک.

و الحق أن یقال:إن متعلق التحریم فی الآیة إنما هو العمل الخبیث و الفعل القبیح، فالمتنجس خارج عن مدلولها لانه من الأعیان.

لا یقال:إذا أرید من الخبیث العمل القبیح وجب الالتزام بالتقدیر،و هو خلاف الظاهر من الآیة.

فإنه یقال:إنما یلزم ذلک إذا لم یکن الخبیث بنفسه بمعنی العمل القبیح،و قد أثبتنا فی مبحث بیع الأبوال (3)صحة إطلاقه علیه بدون عنایة،و خصوصا بقرینة قوله تعالی:

(وَ نَجَّیْناهُ مِنَ الْقَرْیَةِ الَّتِی کانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) .فإن المراد من الخبائث فیها اللواط.

و أما الأخبار فهی کثیرة:منها ما تقدم من روایة تحف العقول،حیث علل النهی فیها عن بیع وجوه النجس بأن(ذلک کله محرم أکله و شربه و إمساکه و جمیع التقلب فی ذلک حرام و محرم).فان الظاهر منها أن جمیع الانتفاعات من المتنجس حرام،لکونه من وجوه النجس.

و فیه أولا:ما تقدم فی أول الکتاب من ضعف سند الروایة،و عدم انجباره بشیء.

و ثانیا:أن الظاهر من وجوه النجس هی الأعیان النجسة،فإن وجه الشیء هو عنوانه الاولی،فلا تشمل المتنجسات،لأنها لیست نجسة بعناوینها الاولی.

و منها روایة السکونی[1]الآمرة بإهراق المرق المتنجس بموت الفارة فیه فتدل علی حرمة

ص:131


1- 1) سورة آل عمران،آیة:127 (وَ سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ) .سورة البقرة آیة:143 (فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ) .
2- 2) سورة الأعراف،آیة:156.
3- 3) ص 39.

الانتفاع به،إذ لو لا ذلک لجاز الانتفاع به بإطعامه الصبی و نحوه و بضمیمة عدم القول بالفصل یتم المطلوب.و أجاب عنها المصنف بأن الأمر بالإهراق کنایة عن خصوص حرمة الأکل.و فیه أن الظاهر من الأمر بالإهراق هو عدم جواز الانتفاع بالمرق مطلقا،إلا أنها لا تدل علی المدعی لخصوصیة المورد،فان المرق غیر قابل للانتفاع به إلا فی إطعام الصبی و نحوه بناء علی ما هو الظاهر من جواز ذلک،و من الواضح أن ذلک إنما یکون عادة إذا کان المراق قلیلا،لا بمقدار القدر و نحوه.

و منها الأخبار[1]الدالة علی أن الفأرة إذا ماتت فی السمن الجامد و نحوه وجب أن تطرح الفارة و ما یلیها من السمن،لأنه لو جاز الانتفاع بالمتنجس لما أمر الإمام«ع» بطرحه،لإمکان الانتفاع به فی غیر ما هو مشروط بالطهارة،کتدهین السفن (1)و الأجرب (2)و نحوهما،فتدل علی المدعی بضمیمة عدم القول بالفصل بین أفراد المتنجسات و قد أجاب عنها المصنف بأن الطرح کنایة عن حرمة الأکل فقط،فان الانتفاع بالاستصباح به جائز إجماعا.و لکن یرد علیه ما تقدم من ظهور الأمر بالطرح فی حرمة الانتفاع به مطلقا،و أما الاستصباح به فإنما خرج بالنصوص الخاصة کما عرفت.

ص:132


1- 1) السفن محرکة جلد خشن یجعل علی قوائم السیوف.
2- 2) فی المنجد:الجرب و هو داء یحدث فی الجلد بثورا صغارها لها حکة شدیدة.

و الصحیح فی الجواب ما أشرنا إلیه من أن الأمر بطرح ما تلی الفأرة من السمن للإرشاد إلی عدم إمکان الانتفاع به بالاستصباح و نحوه لقلته،فتکون الروایة غریبة عن المقام.

و من هنا ظهر ما فی روایة زکریا بن آدم[1]التی تدل علی إهراق المرق المتنجس،فإن الأمر بالهراقة فیها إرشاد إلی ما ذکرناه من قلة نفعه،مضافا إلی أنها ضعیفة السند.

و منها قوله«ع»فی روایتی سماعة و عمار[2]الواردتین فی الإنائین المشتبهین:(یهریقها جمیعا و یتیمم)فإن أمره«ع»بهراقة الإنائین مع إمکان الانتفاع بهما فی غیر ما هو مشروط بالطهارة ظاهر فی حرمة الانتفاع بالماء المتنجس،و بضمیمة عدم القول بالفصل بین أفراد المتنجسات یتم المطلوب.

و فیه أن خصوصیة المورد تقتضی کون الأمر بالإهراق إرشادا إلی مانعیة النجاسة عن الوضوء،ثم إذا سلمنا کون الأمر فیهما للمولویة التکلیفیة فمن المحتمل القریب أن یکون الغرض من الأمر هو تتمیم موضوع جواز التیمم،لأن جوازه فی الشریعة المقدسة مقید بفقدان الماء،و قبل إراقة الإنائین لا یتحقق عنوان الفقدان لوجود الماء الطاهر عنده و إن لم یعرفه بعینه،و لذلک أفتی بعض الفقهاء بعدم جواز التیمم قبل إهراق الإنائین.

و منها الأخبار الواردة[3]فی إهراق الماء المتنجس،فإنه لو لا حرمة الانتفاع به فی

ص:133

غیر ما هو مشروط بالطهارة لم یؤمر بذلک،و فیه أولا:ما عرفت من أن خصوصیة المورد تقتضی ذلک،لقلة نفعه فی العادة.و ثانیا:أن الأمر بالهراقة فی تلک الأخبار إرشاد إلی عدم جواز التوضی من ذلک الماء للنجاسة المشتبهة،و لا یجوز التعدی من موردها إلی غیره من الاستعمالات إلا إذا کان مشروطا بالطهارة،و إذن فلا دلالة فیها علی المطلوب أیضا.

و منها الأخبار المستفیضة عند الخاصة[1]و العامة[2]الواردة فی استصباح الدهن المتنجس،فإنها ظاهرة فی أن الانتفاع به منحصر فی الإسراج،فإنه لو جاز الانتفاع به فی غیره أیضا لتعرض له الامام«ع»فیها أو فی غیرها.

و فیه أن وجه التخصیص أن النفع الظاهر للدهن هو الا کل و الإسراج فقط،فإذا حرم أکله للتنجس اختص الانتفاع به بالإسراج،فلذا لم یتعرض الامام«ع»لغیر الاستصباح،و إذن فلا دلالة فیها أیضا علی المدعی.

علی أنه قد ورد فی بعض الروایات جواز الانتفاع به بغیر الاستصباح،کقوله«ع»فی روایة قرب الاسناد[3]:(و لکن ینتفع به کسراج و نحوه).و کقوله علی«ع»المروی

ص:134

عنه بطرق شتی[1]:(الزیت خاصة یبیعه لمن یعلمه صابونا).فان الظاهر أنه لا خصوصیة للمورد فیهما،و نتیجة التعدی عنه هو جواز الانتفاع بکل متنجس بجمیع الانتفاعات المحللة.

بل ورد فی أحادیث العامة[2]جواز الانتفاع به مطلقا من غیر تقیید بنوع خاص من المنافع و قد یخطر بالبال أن الأمر فی الروایات بخصوص الاستصباح دون غیره إنما هو فیما لا یتمکن الإنسان من الانتفاع به بغیر الاستصباح و لو فی الوجوه النادرة من المنافع،و إلا فلا خصوصیة للتقیید بالاستصباح،کما لا خصوصیة للتقیید بجعله صابونا،و لذا جوز الامام«ع»أن ینتفع به بغیرهما أیضا فی روایة قرب الاسناد کما عرفت،و لکنها ضعیفة السند و قد یقال:بانعقاد الإجماع علی حرمة الانتفاع بالمتنجس مطلقا،فیکون مقتضی الأصل هو حرمة الانتفاع به فی المقام.إلا أن ذلک ممنوع،فإن الإجماع المنقول ممنوع الحجیة، و قد حققناه فی علم الأصول.علی أن دعوی الإجماع فی المسألة موهونة بکثرة المخالفین فیهما

ص:135

و أما الإجماع المحصل علی ذلک فهو ممنوع التحقق أیضا.

و یضاف إلی ما ذکرناه کله أنه لا ظهور لعبارات الفقهاء المحتویة لنقله فی ذلک المدعی، قال فی الغنیة (1)بعد أن اشتراط فی البیع أن یکون مما ینتفع به منفعة محللة:(و قیدنا بکونها«المنفعة»مباحة تحفظا من المنافع المحرمة،و یدخل فی ذلک کل نجس لا یمکن تطهیره إلا ما أخرجه الدلیل من بیع الکلب المعلم للصید،و الزیت النجس للاستصباح به تحت السماء،و هو إجماع الطائفة).

و هذه العبارة و إن کانت صریحة فی نقل الإجماع،إلا أن الظاهر رجوعه إلی مطلع کلامه:أعنی حرمة بیع النجس،فلا دلالة فیها علی حرمة الانتفاع بالمتنجس،و یحتمل قریبا أن یرجع إلی آخر کلامه:أعنی استثناء الکلب المعلم للصید،و الزیت المتنجس للاستصباح من حرمة البیع.

و قال الشیخ فی الخلاف (2):(إذا مات الفأرة فی سمن أو زیت أو شیرج أو بزر نجس کله،و جاز الاستصباح به،و لا یجوز أکله،و لا الانتفاع به لغیر الاستصباح).ثم ذکر المخالفین فی المسألة من العامة و غیرهم إلی أن قال:(دلیلنا إجماع الفرقة و أخبارهم).

و فیه أن محط کلامه إنما هو الدهن المتنجس فقط،فلو صح ما ادعاه من الإجماع لدل علی حرمة الانتفاع به خاصة،لکونه هو المتیقن من مورد الإجماع،فلا یشمل سائر المتنجسات و قد أجاب المصنف عما ادعاه الشیخ من الإجماع بأن(معقده ما وقع الخلاف فیه بینه و بین من ذکر من المخالفین،إذ فرق بین دعوی الإجماع علی محل النزاع بعد تحریره و بین دعواه ابتداء علی الاحکام المذکورات فی عنوان المسألة،فإن الثانی یشمل الاحکام کلها، و الأول لا یشمل إلا الحکم الواقع مورد الخلاف،لانه الظاهر من قوله دلیلنا إجماع الفرقة) و فیه أن ما أفاده و إن کان صحیحا بحسب الکبری،إلا أنه خلاف ما یظهر من کلام الشیخ(ره)،فان ظاهره دعوی الإجماع علی جمیع الأحکام المذکورة.فالصحیح فی الجواب هو ما ذکرناه.

علی أنا لو سلمنا قیام الإجماع علی ذلک فلا نسلم کونه إجماعا تعبدیا کاشفا عن رأی المعصوم«ع».إذ من المحتمل القریب جدا،بل المظنون عادة أن مدرکه هو الوجوه المذکورة فی المقام لحرمة الانتفاع بمطلق المتنجس.

قوله أن بل الصبغ و الحناء. أقول:الصبغ و الحناء لیسا من محمل النزاع هنا فی شیء،و لم یتقدم لهما ذکر سابق،فلا تری وجها صحیحا لذکرهما.

ص:136


1- 1) ص 2 من البیع.
2- 2) ج 2 ص 212.

(قوله و مراده بالنص ما ورد من المنع عن الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف).

أقول:قد عرفت عدم ورود النص بذلک.

قوله و الذی أظن و إن کان الظن لا یغنی لغیری شیئا. أقول:بل لا یغنیه أیضا، لعدم کونه من الظنون المعتبرة،اللهم إلا أن یکون مراده من ذلک هو الظن الاطمئنانی، فیکون حجة له،لا لغیره.

قوله و الروایة إشارة إلی ما عن الراوندی فی کتاب النوادر. أقول:قد عرفت:

أنها روایة واحدة نقلت بطرق ثلاثة،و لم یقع السؤال عن الشحم فی شیء منها،فما نقل فی المتن ناشئ عن سهو القلم.

قوله ثم لو قلنا بجواز البیع فی الدهن)، أقول:کما یصح الانتفاع بالمتنجس علی وجه الإطلاق،فکذلک یصح بیعه للعمومات المقتضیة لذلک من قوله تعالی: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، و أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ ،و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) و علیه فلا نحتاج فی ذلک إلی التمسک بقوله«ع»فی روایة تحف العقول:(و کل شیء یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات فهذا کله حلال بیعه و شراؤه و إمساکه و استعماله)کما تمسک به المصنف هنا.

قوله و هذا هو الذی یقتضیه استصحاب الحکم قبل التنجیس)، أقول:إذا سلمنا جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلیة الإلهیة،و أغمضنا عن معارضته دائما بأصالة عدم الجعل کما نقحناه فی الأصول،فلا نسلم جریانه فی المقام،لأن نمحل الکلام هو الجواز الوضعی بمعنی نفوذ البیع علی تقدیر وجوده،و علیه فاستصحاب الجواز بعد التنجس یکون من الاستصحاب التعلیقی الذی لا نقول به.

قوله و أما قوله تعالی: فَاجْتَنِبُوهُ ،و قوله تعالی: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ . أقول:قد یتوهم أن إیراد المصنف(ره)الآیات المذکورة هنا لا یخلو من الاشتباه و سهو القلم،لأنه قد استدل بها فیما مضی علی حرمة الانتفاع بالمتنجس،و کلامنا هنا مختص بجواز البیع فقط،و لکنه توهم فاسد،فان ذکر الآیات هنا لیس إلا لدفع توهم الاستدلال بها علی بطلان بیع المتنجس و القرینة علی ذلک قوله(ره)فی مقام الجواب عنه: (فقد عرفت أنها لا تدل علی حرمة الانتفاع بالمتنجس فضلا عن حرمة البیع) .

قوله و أما مثل بیع الصابون المتنجس فلا یندفع الاشکال عنه. أقول:وجه عدم الاندفاع هو أن الثوب المغسول بالصابون المتنجس و إن کان یقبل الطهارة بالغسل،إلا انه لیس معنی ذلک أن الصابون رجع إلی حالة یقبل معها الطهارة،فإن الأجزاء الصابونیة تنفصل عن الثوب بالغسل و إن کانت فی غایة النجاسة و الخباثة.

ص:137

الأصل جواز الانتفاع بالأعیان النجسة

قوله بقی الکلام فی حکم نجس العین. أقول:الظاهر ان الأصل جواز الانتفاع بالأعیان النجسة أیضا إلا ما خرج بالدلیل کما اختاره بعض الأعاظم و إن ذهب المشهور إلی حرمة الانتفاع بها،بل ادعی علیه الإجماع.

قال فی أول المکاسب من المراسم:التصرف فی المیتة و لحم الخنزیر و شحمه و الدم و العذرة و الأبوال ببیع و غیره حرام.و فی المکاسب المحظورة من النهایة.جمیع النجاسات محرم التصرف فیها.و فی فصل ما یصح بیعه و ما لا یصح من المبسوط،نجس العین لا یجوز بیعه و لا إجارته و لا الانتفاع به و لا اقتناؤه بحال إجماعا إلا الکلب فان فیه خلافا،و علی هذا النهج مذاهب فقهاء العامة[1].

و کیف کان فقد استدل علی عدم الجواز بوجوه،منها الآیات المتقدمة من قوله تعالی (فَاجْتَنِبُوهُ) و قوله تعالی: (وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ،و قد عرفت الجواب عن ذلک آنفا.

و منها قوله تعالی (1): (حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ) .فان عموم التحریم فیها یقتضی حرمة الانتفاع بما ذکر فیها،و بعدم القول بالفصل بین أفراد النجس یتم المطلوب و فیه ان تحریم أی شیء إنما هو بحسب ما یناسبه من التصرفات،فما یناسب المیتة و الدم و لحم الخنزیر إنما هو تحریم الأکل،لا جمیع التصرفات،کما أن المناسب لتحریم الام و البنت

ص:138


1- 1) سورة المائدة،آیة:3.

فی قوله تعالی (1): (حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهاتُکُمْ وَ بَناتُکُمْ) إنما هو تحریم النکاح فقط دون النظر و التکلم و منها ما أشار إلیه المصنف بقوله و یدل علیه أیضا کلما دل من الأخبار و الإجماع علی عدم جواز بیع نجس العین بناء علی أن المنع من بیعه لا یکون إلا مع حرمة الانتفاع به) و لکنا لم نجد فیما تقدم،و لا فیما یأتی ما دل من الاخبار علی عدم جواز بیع النجس بعنوانه فضلا عن کون المنع عن البیع من جهة عدم جواز الانتفاع به.

نعم تقدم فی مبحث بیع المیتة ما دل علی حرمة الانتفاع بالمیتة،إلا أنک عرفت هناک معارضتها بما دل علی جواز الانتفاع بها،و أن الترجیح للروایات المجوزة،علی أنا إذا أخذنا بالروایات المانعة فهی أخص من المدعی لأنها مختصة بالمیتة،و موضوع کلامنا أعم منها و من سائر النجاسات.

نعم روایة تحف العقول صریحة فی المدعی،فان دلالة قوله«ع»فیها:(أو شیء من وجوه النجس فهذا کله حرام محرم لان ذلک کله منهی عن أکله و شربه و لبسه و ملکه و إمساکه و التقلب فیه فجمیع تقلبه فی ذلک حرام)،صریحة لا تکاد تنکر و لا وجه لحملها علی الإمساک و التقلب لأجل الأکل و الشرب کما فی المتن،إلا أن الروایة لا یجوز الاعتماد علیها لضعف سندها و عدم انجباره بعمل المشهور بها.

منها قوله«ع» (2)فی دعائم الإسلام:(و ما کان محرما أصله منهیا عنه لم یجز بیعه و لا شراؤه)بدعوی أن حرمة البیع فی الروایة قد علقت علی حرمة الشیء من أصله،فلا بد و أن یکون الانتفاع به محرما مطلقا،إذ لو جاز الانتفاع به لجاز بیعه لا ملازمة بینهما.

و فیه مضافا إلی ضعف السند فیها،أن المراد بالحرمة فی الروایة حرمة التصرفات المناسبة لذلک الشیء المحرم،لا حرمة جمیع التصرفات،و علیه فلا یستفاد منها حرمة جمیع الانتفاعات علی أنا لو سلمنا دلالتها علی حرمة جمیع التصرفات فغایة ما یستفاد منها:أن کلما لا یجوز الانتفاع به بوجه فلا یجوز بیعه،لا أن کل ما لا یجوز بیعه فلا یجوز الانتفاع به،کما هو المدعی و مما ذکرناه تجلی ما فی النبوی المشهور المجعول:(إن اللّه إذا حرم علی قوم شیئا حرم علیهم ثمنه)و بالجملة:أنا لم نجد آیة و لا روایة تدل علی حرمة الانتفاع بنجس العین مطلقا إلا فی موارد خاصة کالخمر.

و منها الإجماع المدعی علی حرمة الانتفاع بها،و تقریره بوجهین،الأول:دعوی الإجماع علی حرمة بیعها،و بما أن حرمة البیع تستلزم حرمة الانتفاع للملازمة بینهما(و قد عرفت

ص:139


1- 1) سورة النساء،آیة:23.
2- 2) قد تقدم فی ص 22.

ذلک فی الحاشیة عن بعض العامة)فیکون الثانی أیضا موردا للإجماع.

و فیه منع الملازمة بین الحرمتین،لجواز کون النهی عن بیعه تعبدا محضا،و علیه فإذا قام الإجماع علی حرمة البیع فلا یمکن أن یستدل به علی حرمة الانتفاع إلا بالحدس الظنی،و من الواضح أن الظن لا یغنی من الحق شیئا،بل اللازم أن یقتصر من الإجماع علی مورده المتیقن من دون أن یتعدی إلی غیر.

الثانی:دعوی الإجماع علی حرمة الانتفاع بها ابتداء کما هو الظاهر من فخر الدین و الفاضل المقداد.و فیه أن دعواه فی مثل هذه المسألة مع ذهاب الأکثر إلی جواز الانتفاع بها من الأمور الصعبة،و لو سلمت هذه الدعوی فلا یمکن إثبات کونه إجماعا تعبدیا، لإمکان استناد المجمعین فی ذلک إلی الوجوه المذکورة.

قوله الجابر لروایة تحف العقول. أقول:قد تقدم فی أول الکتاب عدم انجبار ضعف الروایة بشیء من الشهرة و الإجماع و غیرهما.

قوله مع احتمال أن یراد من جمیع التقلب جمیع أنواع التعاطی لا الاستعمالات) .

أقول:إذا فرضنا اعتبار الروایة فلا مناص من القول بحرمة التصرف فی الأعیان النجسة علی وجه الإطلاق و لو بالإمساک،و لا وجه لتقییدها بخصوص التعاطی،کما لا وجه لتقیید النهی عن الإمساک بالإمساک علی وجه محرم.

قوله نعم یمکن أن یقال:أن مثل هذه الاستعمالات. أقول:توضیحه أن النهی عن الانتفاع بشیء ینصرف إلی النهی عن الانتفاع به فی منافعه الظاهرة لأن المنفعة النادرة لا تعد من المنافع عرفا،فهی خارجة عن حدود النهی و إن کان الإطلاق فی نفسه شاملا لها، لا یقال:إن النهی عن الانتفاع بشیء یدل علی تحریم جمیع منافعه،لأن النهی عن الطبیعة یقتضی الانزجار عن جمیع أفرادها،و لذلک کان دالا علی العموم.

فإنه یقال:إن الدلالة علی العموم إنما تسلم بمقدار ما ینصرف الیه اللفظ فقط،و نظیر ذلک العمومات الناهیة عن الصلاة فی أجزاء ما لا یؤکل لحمه،فإنه ینصرف إلی غیر الإنسان، فلا ینعقد للعموم ظهور إلا به.

و لا یخفی:أن القول بحرمة الانتفاع بالنجس مطلقا لا یقتضی حرمة اقتنائه و إن کان الاقتناء لغیر الغرض العقلائی،و من هنا ورد فی جملة من الأحادیث[1]جواز اقتناء الخمر،

ص:140

بل أخذها للتخلیل،مع أنها من الخبائث الشدیدة،و ورد أیضا جواز اقتناء بعض الکلاب و قد تقدم ذلک فی البحث عن بیعها (1).

قوله و العذرة للتسمید. أقول:التسمید فی اللغة[1]ما یصلح به الزرع.

قوله کما یدل علیه وقوع السؤال فی بعض الروایات[2]عن الجص. أقول:

قال المحدث القاسانی فی کتاب الوافی:(لعل المراد بالماء الماء الممزوج بالجص،أو بالماء ماء المطر الذی یصیب أرض المسجد المجصص بذلک الجص،و کأنه کان بلا سقف،فإن السنة فیه ذلک.و المراد بالنار ما یحصل من الوقود التی یستحیل بها أجزاء العذرة و العظام المختلطة بالجص رمادا،فإنها تطهر بالاستحالة،و الغرض أنه قد ورد علی ذلک الجص أمران مطهران:

هما النار و الماء فلم یبق ریب فی طهارته،فلا یرد السؤال بأن النار إذا طهرته أولا فکیف یحکم بتطهیره الماء له ثانیا!!إذ لا یلزم من ورود المطهر الثانی تأثیره فی التطهیر).

و قال فی الوسائل:تطهیر النار للنجاسة بإحالتها رمادا أو دخانا،و تطهیر الماء:أعنی ما یجبل به الجص یراد به حصول النظافة و زوال النفرة.

أقول:یمکن أن یراد من الماء ماء المطر الذی یصیب الموضوع المجصص بذلک الجص المتنجس لکون المسجد مکشوفا و بلا سقف کما احتمله القاسانی،و أن یراد من النار الشمس فان الشمس إذا جففت شیئا طهرته.

و یمکن أن یراد من التطهیر التنظیف مجازا کما احتمله فی المستند (2)مطلقا،و صاحب الوسائل فی خصوص الماء،و مع الإغماض عما ذکرناه فالروایة مجملة یرد علمها إلی أهلها، فإن الثابت فی الشریعة أن النار إنما تطهر من النجاسات ما أحالته رمادا،و هذا الشرط غیر

ص:141


1- 1) ص 102.
2- 2) راجع ج 1 ص 57.

حاصل فی الجص.و أن الماء القلیل إنما یطهر الموضع المغسول إذا ورد علیه ثم انفصلت غسالته عنه،و کلا الأمرین منتف هنا،إلا أن یقال:بعدم انفعال الماء القلیل بامتزاجه الجص،و عدم اشتراط انفصال الغسالة فی التطهیر به کما أشار إلیه المحدث القاسانی فی کلامه المتقدم،قال:(لعل المراد بالماء الممزوج بالجص)و کلا الأمرین مخدوش،و تفصیل الکلام فی محله.

و کیف کان فالمستفاد من الروایة أمران،أحدهما:اعتبار الطهارة فیما یسجد علیه و ثانیهما:جواز السجود علی الجص و لو کان مطبوخا.

قوله ثم إن منفعة النجس المحللة للأصل أو للنص قد جعلها ما لا عرفا إلا أنه منع الشرع عن بیعه کجلد المیتة. أقول:قد ظهر مما ذکرناه أنه لا ملازمة بین حرمة بیع الأعیان النجسة و بین حرمة الانتفاع بها و سقوطها عن المالیة،بل لا بد من ملاحظة دلیل الحرمة،هل یوجد فیه ما یدل علی إلغاء المالیة من قبل الشارع کما فی الخمر و الخنزیر؟ فان کان فیه ما یدل علی ذلک أخذ به و حکم بعدم ترتب آثار المالیة علیها من الإرث و الضمان و غیرهما،و إلا فلا یصح أن یحکم بحرمة الانتفاع بها لمجرد حرمة بیعها،کیف و قد علمت جواز الانتفاع بالمیتة و العذرة و شعر الخنزیر و کلب الماشیة و کلب الحائط و کلب الزرع و غیرها من أنواع النجاسات مع ذهاب الأکثر إلی حرمة بیعها!! و علی ذلک یجب أن تترتب علیها جمیع آثار المالیة،فإذا أتلفها أحد ضمنها لمالکها، و إذا مات مالکها انتقلت إلی وراثه،و لا یجوز للغیر أن یزاحم الورثة فی تصرفاتهم، و کذلک تجوز إعارتها و إجارتها وهبتها و لو هبة معوضة،لأن حقیقة الهبة متقومة بالمجانیة، و اشتراط العوض فیها أمر زائد علی حقیقتها،و فائدته جواز فسخ الواجب إیاها إذا لم یف له المتهب بالشرط.

لا یقال:إن الشیء إذا حرم بیعه حرمت سائر المعاملات علیه بطریق الأولویة القطعیة.

فإنه یقال:ان الاحکام الشرعیة توقیفیة محضة.فلا یجوز التعدی عن مورد ثبت فیه التعبد إلی غیره إلا بدلیل،و الموجود فی أدلة النهی عن بیع الأعیان النجسة فی غیر ما ألغی الشارع مالیته إنما هو حرمة ثمنها،فلا تشمل العوض فی سائر المعاملات،لعدم إطلاق الثمن علیه إلا فی الصلح بناء علی کونه بیعا و من قبیل المبادلة بین المالین.

قال المحقق الایروانی:(أن المالیة لا تدور مدار المنفعة،فإن الجواهر النفیسة و منها النقود أموال،و لا فائدة فیها،و فی الماء علی الشط أهم المنافع،و لا یعد مالا،و التراب ینتفع به أهم الانتفاع من اصطناع آجر أو خزف أو أناة و لیس بمال).

ص:142

و فیه أنه لا شبهة فی دوران المالیة الشرعیة مدار المنفعة المحللة،و دوران المالیة العرفیة مدار مطلق المنافع و إن کانت محرمة،و لکن الانتفاع بالأشیاء لیس علی نسق واحد،بل یختلف باختلاف ذی النفع،فنفع الجواهر و النقود بیعها و شرائها،و جعلها أثمانا للأمتعة و العروض،و أما عدم کون الماء علی الشط و التراب فی البر من الأموال مع الانتفاع بها أهم الانتفاع فلکون الناس فی الانتفاع بهما شرعا سواء،و لذا لو اختصا بشخص واحد کبعض أقسام التراب فان الناس یبذلون بإزائهما المال المهم.و علی الإجمال مالیة الأشیاء إنما هی باعتبار منافعها فعدیم المنفعة لیس من الأموال.

حقیقة حق الاختصاص و منشأ ثبوته

قوله و الظاهر ثبوت حق الاختصاص فی هذه الأمور. أقول:قد قامت السیرة القطعیة الشرعیة و العقلائیة علی ثبوت حق الاختصاص و الأولویة للمالک فی أموالهم التی سقطت عن المالیة للعوارض و الطواری کالماء علی الشط،و الحیوان المملوک إذا مات، و الأراضی المملوکة إذا جعلها الجائر بین الناس شرعا سواء کالطرق و الشوارع المغصوبة، بدیهة عدم جواز مزاحمة الأجانب عن تصرف الملاک فی أمثال تلک الموارد ما لم یثبت الإعراض و هذا مما لا ریب فیه.

و إنما الکلام فی منشأ ذلک الحق،و قد استدل علیه بوجوه،الأول:أن حق الاختصاص سلطنة ثابتة فی الأموال و هی غیر الملکیة،فإذا زالت الملکیة بقی الحق علی حاله،لأن کل واحد منهما ناشئ عن سبب خاص به.

و فیه أن ذلک و إن کان ممکنا فی مقام الثبوت،إلا أنه ممنوع فی مقام الإثبات لعدم الدلیل علیه.

الثانی:أن حق الاختصاص مرتبة ضعیفة من الملکیة،فإذا زالت الملکیة بحدها الأقوی بقیت منها المرتبة الضعیفة التی نسمیها بحق الاختصاص لعدم الملازمة بینهما فی الارتفاع، و یتضح ذلک بملاحظة الألوان و الکیفیات الخارجیة.

و فیه ان الملکیة الحقیقة من أیة مقولة کانت،جدة أو إضافة لیست قابلة للشدة و الضعف حتی تعتبر بحدها الضعیف تارة،و بحدها القوی تارة أخری،بل هی أمر بسیط فإذا زالت زالت بأصلها.

و لو سلمنا کون الملکیة الحقیقة ذات مراتب لم یجر ذلک فی الاعتباریة فإن اعتبار کل مرتبة منها مغایر لاعتبار المرتبة الأخری،و إذا زال اعتبار المرتبة القویة لم یبق بعده اعتبار

ص:143

آخر للمرتبة الضعیفة،و علیه فلا یبقی هناک شیء آخر لکی یسمی بالحق.

و هذا لا ینافی ما هو المعروف من أن الحق فی نفسه مرتبة ضعیفة من الملک.فان معنی هذا الکلام:أن الملک و الحق کلیهما من مقولة السلطنة،و أن الملک سلطنة قویة،و الحق سلطنة ضعیفة،و هو أمر آخر غیر اختلاف حقیقة الملک بالشدة و الضعف،و الکمال و النقص نظیر الألوان کما توهم.

و نظیر ما نحن فیه تسمیة الرجحان الضعیف فی باب الأوامر بالاستحباب و الرجحان الشدید بالوجوب،و هو أمر وراء کون الاستحباب مرتبة ضعیفة من الوجوب.

الثالث:قد ثبت فی الشریعة المقدسة أنه لا یجوز لأحد أن یتصرف فی مال غیره إلا بطیب نفسه،و قد دلت علی ذلک السیرة القطعیة و جملة من الاخبار[1]فإذا زالت الملکیة،و شککنا فی زوال ذلک الحکم کان مقتضی الاستصحاب الحکم ببقائه.

و فیه مضافا إلی عدم جریان الاستصحاب فی الأحکام،لمعارضته دائما بأصالة عدم الجعل کما نقحناه فی علم الأصول.أن موضوع الحکم محرمة التصرف هو مال الغیر فإذا سقط

ص:144

الشیء عن المالیة سقطت عنه حرمة التصرف حتی إذا کان باقیا علی صفة المملوکیة.إذ لا دلیل علی حرمة التصرف فی ملک الغیر،فکیف إذا زالت عنه الملکیة أیضا!! الرابع:دعوی الإجماع علی ذلک.و فیه أن دعوی الإجماع التعبدی فی المسألة بعیدة جدا،فان من الممکن استناد المجمعین إلی الوجوه المذکورة.

الخامس:دلالة المرسلة المعروفة بین الفقهاء«من جاز ملک»و قوله«ص»:[1](من سبق إلی ما لم یسبقه الیه مسلم فهو أحق به).علی وجود ذلک الحق فی الأشیاء التی سقطت عنها المالیة.

و فیه أن حدیث الحیازة و إن اشتهر فی ألسنة الفقهاء و کتبهم الاستدلالیة،و لکنا لم نجده فی أصول الحدیث من الخاصة و العامة.و الظاهر انه قاعدة فقهیة متصیدة من الروایات الواردة فی الأبواب المختلفة،کإحیاء الموات و التحجیر و غیرهما کسائر القواعد الفقهیة المضروبة لبیان الأحکام الجزئیة.

و لو سلمنا کون ذلک روایة،أو کان بناء الفقهاء علی الاستدلال بالقاعدة فلا دلالة فیها علی ثبوت حق الاختصاص بعد زوال الملکیة،فإن الظاهر منها لیس إلا ثبوت مالکیة المحیز للمحاز،و أما الزائد عن ذلک فلا دلالة لها علیه.

علی انها ضعیفة السند،و غیر منجبرة بشیء،فإن الشهرة إنما تکون جابرة لضعف سند الروایة إذا علم استناد المشهور إلی الروایة الضعیفة،و لا ریب ان استناد أکثرهم هنا أو کلهم الی غیرها،و إنما ذکروها للتأیید و التأکید.و یضاف الی ذلک:ان جبر الروایة الضعیفة بالشهرة ضعیف المبنی،و قد أشرنا إلیه فی أول الکتاب.

و أما حدیث السبق ففیه أولا:انه ضعیف السند،و غیر منجبر بشیء صغری و کبری، و ثانیا:ان ما نحن فیه خارج عن حدود هذا الحدیث،فان مورده الموارد المشترکة بین المسلمین بأن یکون لکل واحد منهم حق الانتفاع بها،کالأوقات العامة من المساجد و المشاهد و المدارس و الرباط و غیرها،فإذا سبق إلیها أحد من الموقوف علیهم و اشغلها بالجهة التی انعقد علیها الوقف حرمت علی غیره مزاحمته و ممانعته فی ذلک.و لو عممناه الی موارد الحیازة فإنما یدل علی ثبوت الحق الجدید للمحیز فی المحاز،و لا یدل علی بقاء العلقة

ص:145

بین المالک و ملکه بعد زوال الملکیة.

و من جمیع ما ذکرناه ظهر ما فی کلام المحقق الایروانی من الوهن،حیث قال:(و الظاهر ثبوت حق الاختصاص:اما فی الحیازة فلعموم دلیل من سبق الی ما لم یسبقه احد«مسلم» فهو أولی به«أحق به»و اما فیما إذا کان أصله ملکا للشخص فلاستصحاب بقاء العلقة).

فقد علمت ان المورد لیس مما یجری فیه الاستصحاب.و ان الحدیث لا یدل علی المدعی.

قوله ثم انه یشترط فی الاختصاص بالحیازة قصد الحائز للانتفاع. أقول:محصل کلامه انه یشترط فی الاختصاص قصد الحائز الانتفاع بالمحاز،فلو خلت حیازته عن ذلک القصد لم یثبت له حق الاختصاص فی المحاز،و جاز لغیره مع العلم بذلک ان یزاحمه فی التصرفات و لا فرق فی ذلک بین الأوقات العامة و المباحات الأصلیة،و علیه فیشکل الأمر فیما یتعارف فی أکثر البلاد من جمع العذرة و بیعها لتسمید البساطین و الزروع،فان الظاهر بل المقطوع به انه لیس للشخص قصد الانتفاع بفضلاته،و لم یحرزها للانتفاع بها،فیکون أخذ المال بإزائها أخذا محرما.

و لکن التحقیق ان یقال:ان المحاز قد یکون من الأمکنة المشترکة کالاوقات العامة، و قد یکون من المباحات الأصلیة،اما الأول فلا ریب فی ان اختصاص الحائز به مشروط بقصد الانتفاع علی حسب ما أوقفه أهله و إلا فلا یثبت له الاختصاص لکونه علی خلاف مقصود الواقف،و من هنا لم یجز بیعه،و لا هبته،و لا إجارته،و لا استملاکه.

علی انا لو قلنا:بعدم الاشتراط بذلک لجاز إشغال المساجد و معابد المسلمین بنحو من الحیازة و لو بإلقاء السجادة و وضع التربة ثم بیعها من المصلین،و من البدیهی ان هذا علی خلاف وجهة الوقف،نعم لو اکتفینا فی ثبوت الاختصاص بمجرد قصد الحیازة،و لم نشترط فیه قصد الانتفاع،و قلنا بأن حق الاختصاص بما تجوز المعاوضة علیه لارتفع الاشکال و أما الثانی:کالاحتطاب و الاصطیاد فالظاهر أن الاختصاص به غیر مشروط بشیء، بل یکفی فیه مجرد الحیازة الخارجیة لعدم الدلیل علی التقیید،و من هنا ذهب جمع من الأصحاب و من العامة الی عدم الاشتراط.و یظهر ذلک لمن یلاحظ الموارد المناسبة لما نحن فیه قال الشیخ فی الخلاف (1):(الأرضون الموات للإمام خاصة لا یملکها أحد بالإحیاء إلا أن یأذن له الإمام.و قال الشافعی:من أحیاها ملکها أذن له الإمام أو لم یأذن.

و قال أبو حنیفة:لا یملک إلا بإذن،و هو قول مالک.دلیلنا إجماع الفرقة و أخبارهم).و لو کان لتقیید الاختصاص بقصد الانتفاع وجه لکان ذلک موردا للخلاف کالتقیید بإذن الإمام

ص:146


1- 1) راجع ج 2 ص 2.

و یؤیده عموم روایة:(من سبق إلی ما لا یسبقه الیه مسلم فهو أحق به)و قاعدة الحیازة المتقدمتین،بل یمکن استفادة الإطلاق من الإخبار المتظافرة الواردة فی إحیاء الموات من الأراضی،کصحیحة محمد بن مسلم:(أیما قوم أحیوا شیئا من الأرض و عمروها فهم أحق بها و هی لهم).و کحسنة زرارة لإبراهیم بن هاشم عن أبی جعفر«ع»:(قال:قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)من أحیا مواتا فهو له).و غیر ذلک من الروایات من طرق الشیعة (1)و من طرق العامة[1].

النوع الثانی مما یحرم التکسب به ما یحرم لتحریم ما یقصد به

الأول:ما لا یقصد من وجوده علی نحوه الخاص إلا الحرام

حرمة بیع میاکل العبادة المبتدعة

قوله النوع الثانی مما یحرم التکسب به ما یحرم لتحریم ما یقصد به و هو علی أقسام:

الأول:ما لا یقصد من وجوده علی نحوه الخاص إلا الحرام و هی أمور،منها هیاکل العبادة المبتدعة. أقول:المشهور بل المجمع علیه بین الشیعة و السنة[2]هو تحریم بیع هیاکل[3] العبادة المبتدعة،و فی المتن(بلا خلاف ظاهر بل الظاهر الإجماع علیه).

ص:147


1- 1) راجع ج 1 کا ص 409،و ج 2 التهذیب ص 158،و ج 10 الوافی ص 131، و ج 3 ئل إحیاء الموات ص 149،و ج 3 المستدرک إحیاء الموات ص 149.

و قد استدل علی ذلک أولا:بما فی روایة تحف العقول من قوله«ع»:(فکل أمر یکون فیه الفساد مما هو منهی عنه)و قوله«ع»فیها:(إنما حرم اللّه الصناعة التی هی حرام کلها التی یجیء منها الفساد محضا نظیر البرابط و المزامیر و الشطرنج و کل ملهو به و الصلبان و الأصنام)و قوله«ع»أیضا فیها:(أو علی التصاویر و الأصنام).

و فیه أولا:ان روایة تحف العقول ضعیفة السند فلا یمکن الاستناد إلیها فی الأحکام الشرعیة،و قد تقدم ذلک فی أول الکتاب.و ثانیا:أن النهی فیها ظاهر فی الحرمة التکلیفیة فلا دلالة فیها علی الحرمة الوضعیة،و هذا أیضا تقدم فی أول الکتاب.

و ثانیا:بأن أکل المال بإزائها أکل له بالباطل،لآیة التجارة عن تراض،و فیه أنک عرفت مرارا عدیدة:أن الآیة لیست عن شرائط العوضین فی شیء،و إنما هی راجعة إلی بیان أسباب المعاملات،و ستعرف ذلک أیضا فیما یأتی.

و ثالثا:بقوله تعالی (1): (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) و بقوله تعالی (2):

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) و بقوله تعالی (3)(وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ) .بناء علی أن بیع هیاکل العبادة و الاکتساب بها مناف للاجتناب المطلق، کما أن المراد من الأنصاب هی الأوثان و الأصنام[1]و المراد من الرجز الرجس،و من الهجر الاجتناب.

و رابعا:بالنبوی المشهور المجعول(إن اللّه إذا حرم علی قوم شیئا حرم علیهم ثمنه).

و بقوله«ع»فی دعائم الإسلام (4):(نهی عن بیع الأصنام).

ص:148


1- 1) سورة الحج،آیة:32.
2- 2) سورة المائدة،آیة 90.
3- 3) سورة المدثر،آیة:5.
4- 4) راجع ج 2 المستدرک ص 427.

و فیه مضافا إلی ضعف السند فیهما،و عدم ثبوت النبوی علی النحو المعروف أن الظاهر من النهی فی روایة الدعائم هی الحرمة التکلیفیة،و المراد إثبات ما هو أعم منها و من الحرمة الوضعیة.

و خامسا:بأنه قد ورد المنع[1]عن بیع الخشب ممن یجعله صلیبا أو صنما فإذا حرم بیع الخشب لذلک فان بیع الصلیب و الصنم أولی بالتحریم،و هذا هو الوجه الوجیه،و یؤیده قیام السیرة القطعیة المتصلة إلی زمان المعصوم«ع»علی حرمة بیع هیاکل العبادة،و یؤیده أیضا وجوب إتلافها حسما لمادة الفساد کما أتلف النبی(صلی الله علیه و آله)و علی«ع»أصنام مکة[2] فإنه لو جاز بیعها لما جاز إتلافها.

ص:149

بحث و تتمیم

إن کیفیات الأشیاء و أوصافها محسوسة کانت أم غیر محسوسة و إن کانت بحسب الدقة الفلسفیة من مقولة الأعراض،إلا أنها فی نظر العرف المبنی علی المسامحة و المساهلة منقسمة إلی قسمین،الأول:أن یکون النظر إلی الأشیاء أنفسها بالأصالة،و إلی أوصافها بالتبع، لفنائها فی المعروض و اندکاکها فیه،و مثال ذلک الأعراض التی هی من لوازم الوجود کالالوان،و من هذا القبیل أیضا اللیرات العثمانیة التی ألغیت عن الرواج،و الذهب و الفضة غیر المسکوکین.

الثانی:أن یکون النظر فیها إلی الهیئة و الصورة بالأصالة،و إلی المادة و الهیولی بالتبع، لکون الأوصاف معدودة من الصور النوعیة فی نظر العرف،و ذلک کالإشکال التی یکون علیها مدار التسمیة و العنوان فی الخارج،کما فی الکأس و الکوز و نحوهما مع أن موادها من جنس واحد،و من هذا القبیل الفرش و الثوب و نحوهما.

أما القسم الأول:فالمالیة فیها من ناحیة المواد،لان أوصافها خارجة عن حدود الرغبات التی هی من علل ثبوت المالیة فی المرغوب فیه.

و أما القسم الثانی:فالمالیة فیها لخصوص الهیئات،لخروج موادها عن حریم المالیة و حدودها،لکونها إما مرغوبا عنها کالنقود الرائجة المضروبة من القراطیس،أو مغفولا عنها فی قبال الهیئة للتبعیة و الاندکاک،و من هنا اتضح أن المالیة إنما تقوم بمواد الأشیاء، أما للرغبة فیها أنفسها،و إما للمیل إلی هیئاتها،و إما للاشتیاق إلیهما معا،و لا تضر بذلک استحالة عراء المادة عن هیئة ما کما لا یخفی.

و قد انضح:ان المراد بالصورة النوعیة هنا هی العرفیة دون العقلیة المبحوث عنها فی طبیعیات الفلسفة،و ان بینهما عموما من وجه،إذ قد یکون الوصف من الصور النوعیة العرفیة مع کونه فی نظر العقل من الاعراض،کالرجولة و الأنوثة،فإنهما و إن کانا عرضین للإنسان،إلا انهما فی نظر العرف من الصور النوعیة،فالعبد و الأمة نوعان فی نظر العرف و إن کانا بالنظر الدقیق صنفین من طبیعة واحدة.و قد ینعکس الأمر،فیکون ما هو من الصور النوعیة فی نظر العقل من الاعراض فی نظر العرف،و ذلک کالثوبین المنسوج أحدهما من الحریر و الآخر من الفنتاز،فإنهما عند العقل ماهیتان متباینتان،و فی نظر العرف

ص:150

حقیقة واحدة لا تعدد فیها،و قد یجتمعان کالفراشین المنسوجین بنسج واحد و من جنس واحد،و الکأسین المصوغین بصیاغة واحدة،و من فلز واحد.

و إذا عرفت ما تلوناه علیک نقول:الملحوظ استقلالا فی بیع الصلیب و الصنم إن کانت هی الهیئات العاریة عن المواد-إما لعدم مالیة المواد کالمصنوع من الخزف،أو لکونها مغفولا عنها-فلا شبهة فی حرمة بیعها وضعا و تکلیفا،لوقوع البیع فی معرض الإضلال و لتمحض المبیع فی جهة الفساد،و انحطاطه عن المالیة لحرمة الانتفاع مهما بالهیئة الوثنیة، و لذا وجب إتلافها.

و ان کان الملحوظ فی بیعهما هی المواد مجردة عن الصورة الوثنیة إلا باللحاظ التبعی غیر المقصود فلا إشکال فی صحة بیعهما،لآیة التجارة و سائر العمومات،لان البیع و المبیع لم یتصفان بجهة من الجهات المبغوضة المنهی عنها.

و إن کان المقصود من البیع هی المواد و إلهیة معا-کما إذا کانا مصنوعین من الجواهر النفیسة أو الأشیاء الثمینة-فلا إشکال فی حرمة البیع وضعا و تکلیفا کالصورة الأولی، لعموم أدلة المنع عن البیع لهذا الغرض أیضا.

لا یقال:إذا کان کل من الهیئة و المادة ملحوظا فی البیع کان المورد من صغریات بیع ما یملک و ما لا یملک،کبیع الخل مع الخمر،و بیع الشاة مع الخنزیر فی صفقة واحدة،و حکم ذلک أن یقسط الثمن علیهما،و سیأتی،و یثبت للمشتری خیار تخلف الشرط لفوات الانضمام، و علی ذلک فلا وجه للحکم بالبطلان.

فإنه یقال:إن الانحلال و التقسیط و إن کلما بحسب الکبری موافقین للتحقیق،إلا ان الاشکال فی صحة الصغری،لأن الهیئة الوثنیة فی الصلیب و الصنم کالصورة النوعیة للمادة فی نظر العرف،فلا تکونان فی الخارج إلا شیئا واحدا،فلا موضع هنا للانحلال و التقسیط،کما لا موضع لهما فی المادة و الصورة العقلیتین عند التخلف بأن یحکم بالصحة فی المادة السیالة المسماة بالهیولی الأولی،لأنها محفوظة فی جمیع الأشیاء و إن تبادلت علیها الصور و بالبطلان فی الهیئة،لأن المقصود منها غیر واقع،و الواقع منها غیر مقصود،و یتبع ذلک تقسیط الثمن علیها بالنسبة.

و وجه الفساد ان المادة و الهیئة لیستا من الاجزاء الخارجیة لکی تنحل المعاملة الواحدة إلی معاملات متکثرة حسب تکثر أجزاء المبیع،فالمعاملة علیهما واحدة لاتحاد متعلقها خارجا و الکثرة إنما هی تحلیلیة عقلیة.و لازم ذلک ان المعاملة إذا بطلت فی جزء بطلت فی الجمیع فلا منشأ للانحلال و التقسیط،و لا فرق فی ذلک بین ان تکون الصورة عقلیة أو عرفیة.

ص:151

لا یقال:ان بیع المادة مع قصد الصورة الوثنیة و ان کان موجبا للبطلان إلا أن اشتراط إعدام الهیئة و فنائها یوجب صحة البیع و ترتب الأثر علیه،لجواز الانتفاع بأجزائها بعد الکسر،لأنها لیست بأصنام.

فإنه یقال:إذا تحقق موضوع الحرمة و ترتب علیه الحکم لم یؤثر هذا الاشتراط فی الجواز،لأن الشیء لا ینقلب عما هو علیه.

ثم لا یخفی:أنه لو اتصف شیء من آلات الصنائع کالمکائن و نحوها بصورة الوثنیة لکان داخلا فی الأعیان ذات المنافع المحللة و المحرمة،و سیأتی الکلام علیها،و لو قلنا:بجواز بیعها باعتبار منافعها المحللة فإنما هو فیما إذا أوجبت هذه المنافع مالیتها مع قطع النظر عن المنافع الأخری المحرمة و عن لحاظ الجهة الوثنیة،و إلا فلا وجه لتوهم جواز البیع.

قوله لو أتلف الغاصب لهذه الأمور ضمن موادها. أقول:قد عرفت أنه یجب إعدام الصورة الوثنیة،و علیه فان کانت لأبعاضها المکسورة قیمة کما إذا کانت مصوغة من الذهب أو الفضة فلا یجوز إتلافها بمواردها،بل یجب إتلافها بهیئتها فقط،و لو أتلفت بموادها ضمنها المتلف لمالکها،إلا أن یتوقف إتلاف الهیئة علی إتلاف المادة.و ان لم تکن لرضاضها قیمة فلا مانع من إتلاف المادة أیضا مع الهیئة.

لا یقال:إن توقف إتلاف الهیئة علی إتلاف المادة لا ینافی ضمان المادة إذا کانت لها قیمة، کما أن جواز أکل طعام الغیر بدون إذنه فی المجاعة و المخمصة لا ینافی ضمان ذلک الطعام.

فإنه یقال:الفرق واضح بین المقامین،إذ الباعث إلی أکل طعام الغیر فی المخمصة إنما هو الاضطرار الموجب لإذن الشارع فی ذلک،و أما هیاکل العبادة فإن الباعث الی إتلافها لیس إلا خصوص أمر الشارع بالإتلاف فلا یستتبع ضمانا.

حرمة بیع آلات القمار

قوله و منها آلات القمار. أقول:قد اتفقت کلمات الأصحاب علی حرمة بیع آلات القمار،بل فی المستند (1)دعوی الإجماع علیها محققا بعد أن نفی عنها الخلاف أولا.ثم إن مورد البحث هنا-سواء کان من حیث حرمة البیع أم من حیث وجوب الإتلاف- ما یکون معدا للمقامرة و المراهنة کالنرد و الشطرنج.و نحوهما مما بعد آلة قمار بالحمل الشائع، و إلا فلا وجه لحرمة بیعه و إن أنفقت المقامرة به فی بعض الأحیان،کالجواز و البیض و نحوهما،کما لا یجوز إتلافه،لکونه تصرفا فی مال الغیر بغیر إذن منه،و لا من الشارع،

ص:152


1- 1) ج 2 ص 335.

نعم یجب نهی المقامرین بذلک عن المقامرة إذا اجتمعت فیه شرائط النهی عن المنکر.

و یظهر حکم هذه المسألة مما أسسناه فی المسألة السابقة من الضابطة الکلیة فی حرمة بیع ما قصدت منه الجهة المحرمة،فلا یحتاج الی التکرار.علی أن حرمة البیع هنا قد دلت علیها جملة من الاخبار[1]منها روایة أبی الجارود الدالة علی حرمة بیع آلات القمار،و حرمة الانتفاع بها.و منها قوله«ع»فی روایة أبی بصیر:(بیع الشطرنج حرام و أکل ثمنه سحت) و منها ما فی حدیث المناهی:(نهی رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)عن بیع النرد).و مورد الخبرین الأخیرین و إن کان خصوص بعض الآلات،و لکن یتم المقصود بعدم القول بالفصل بین آلات القمار

ص:153

المعدة لذلک.ثم انه قد ورد فی جملة من أحادیث العامة (1)الأمر بکسر النرد و إحراقها.

فتدل علی حرمة بیعها،لان ما لا یجوز الانتفاع به لا یجوز بیعه عندهم.و قد تقدم ذلک فی البحث عن جواز الانتفاع بالنجس،و سیأتی التعرض له فی المسألة الآتیة.

قوله و فی المسالک إنه لو کان لمکسورها قیمة. أقول:قال فی التذکرة (2):

(ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فیحرم بیعه،کآلات الملاهی و هیاکل العبادة المبتدعة، کالصلیب و الصنم،و آلات القمار،کالنرد و الشطرنج إن کان رضاضها لا یعد مالا،و به قال الشافعی،و إن عد مالا فالأقوی عندی الجواز مع زوال الصفة المحرمة).و ذکر المصنف:إن أراد بزوال الصفة زوال الهیئة فلا ینبغی الإشکال فی الجواز،و لا ینبغی جعله محلا للخلاف بین العلامة و الأکثر).و فی حاشیة السید:(لعله أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس به و ترکهم له بحیث خرج عن کونه آلة القمار و ان کانت الهیئة باقیة).

و یرد علی التوجیهین:أن ظاهر عبارة العلامة أن الحرمة الفعلیة لبیع الأمور المذکورة تدور مدار عدم صدق المالیة علی اکسارها،و توجیهها بما ذکره المصنف أو بما ذکره السید رحمهما اللّه بعید عن مساق کلامه جدا،نعم یحتمل وقوع التحریف فی کلامه بالتقدیم و التأخیر:بأن تکون العبارة(و إن عد مالا مع زوال الصفة المحرمة فالأقوی عندی الجواز)فیکون ملخص کلامه جواز البیع إذا کانت المادة من الأموال.أو یوجه بتقدیر المضاف بین کلمة مع و کلمة زوال:بأن یکون التقدیر(فالأقوی عندی الجواز مع اشتراط زوال الصفة المحرمة).و کیف کان فهو أعرف بمرامه،و لا ندری ما الذی فهم منه المسالک حتی استحسنه.

قوله ثم إن المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض. أقول:فی مجمع البحرین:أصل القمار الرهن علی اللعب بشیء،و ربما أطلق علی اللعب بالخاتم و الجواز،و سیأتی التعرض لحقیقة القمار و المیسر و الأزلام،و التعرض لبیان أن المحرم هو مطلق المراهنة و المغالبة أو المغالبة مع العوض فی مسألة حرمة القمار.

حرمة بیع آلات الملاهی

قوله و منها آلات اللهو علی اختلاف أصنافها. أقول:اتفق فقهائنا بل الفقهاء

ص:154


1- 1) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 216.
2- 2) ج 1 ص 4 من البیع.

کافة ظاهرا[1]علی حرمة بیع آلات الملاهی وضعا و تکلیفا،بل فی المستند (1)دعوی الإجماع علی ذلک محققا.

و قد یستدل علی ذلک بالروایات العامة المتقدمة فی أول الکتاب و لکنه فاسد لما فیها من ضعف السند و الدلالة،و ظهورها فی الحرمة التکلیفیة کما عرفت.

و الذی ینبغی ان یقال:ان الروایات (2)قد تواترت من طرقنا و من طرق العامة علی حرمة الانتفاع بآلة اللهو فی الملاهی و المعازف،و أن الاشتغال بها و الاستماع إلیها من الکبائر الموبقة و الجرائم المهلکة،و أن ضربها ینبت النفاق فی القلب کما ینبت الماء الخضرة،و یتسلط علیه شیطان ینزع منه الحیاء،و أنه من عمل قوم لوط،و فی سنن البیهقی:یخسف اللّه بهم الأرض و یجعل منهم القردة و الخنازیر،بل من الوظائف اللازمة کسرها و إتلافها حسما لمادة الفساد،و لیس فی ذلک ضمان بالضرورة،و فی بعض أحادیث العامة (3)ان رجلا کسر طنبورا لرجل فرفعه الی شریح فلم یضمنه.

إذن فالمسألة من صغریات الضابطة الکلیة التی ذکرناها فی البحث عن حرمة بیع هیاکل العبادة المبتدعة،و علیه فالحق هو حرمة بیع آلات اللهو وضعا و تکلیفا،علی أنه ورد فی الحدیث[2]ما یدل علی حرمة بیع آلات الملاهی و شرائها و حرمة ثمنها و التجارة فیها.

ص:155


1- 1) راجع ج 2 ص 335.
2- 2) سنتعرض لهذه الأخبار المنقولة من الفریقین فی البحث عن حرمة الغناء.
3- 3) راجع ج 6 سنن البیهقی ص 101.

و لکنه ضعیف السند.

لا یخفی:أن موضوع الحرمة هنا هی آلة اللهو،و قد حقق فی محله أن المضاف الیه خارج عن حدود المضاف،فلا یعد جزء له،إلا أنه داخل فیه بنحو الاشتراط و التقیید، و حیث إن معرفة الحکم فرع معرفة الموضوع بقیوده و شؤونه فلا بد هنا من العلم بحقیقة اللهو،و سیأتی التعرض له فی محله،و من أوضح مصادیقه ما هو مرسوم الیوم من تغنی أهل الفسوق و لهوهم بالرادیوات و غیرها من آلات الملاهی.

حکم بیع آنیة الذهب و الفضة

قوله و منها أوانی الذهب و الفضة. أقول:مفهوم الإناء أمر معلوم لکونه من المفاهیم العرفیة،و هو ما یکون معدا للأکل و الشرب،جمعه آنیة و أوان،و الظرف أعم منه،و مجمل القول هنا أن النهی عن آنیة الذهب و الفضة إن کان مختصا بالأکل أو الشرب فیها،و کانت محرمة الاستعمال فی خصوصهما،کما أنفق علیه الفقهاء کافة[1]و استفاضت الروایات بینهم من الفریقین (1)فلا شبهة فی جواز بیعها لسائر الجهات المحللة،و منها اقتناؤها لأنحاء الاستعمالات و أقسام التزینات غیر الأکل و الشرب فیها،و هکذا الحکم لو کان المستفاد من الروایات هو حرمة استعمالها علی وجه الإطلاق،کما ادعی علیه الإجماع أیضا،و ذکر النهی عنه فی بعض الأحادیث[2]إذ لا یعم ذلک مثل التزین لعدم صدق الاستعمال علیه، فیجوز بیعها لذلک.

و إن کان المستفاد حرمة جمیع منافعها و جمیع أنحاء التقلب و التصرف فیها حتی التزین

ص:156


1- 1) راجع ج 2 کا ص 187،و ج 2 التهذیب ص 305،و ج 11 الوافی ص 75 و ج 1 ئل باب 65 عدم جواز استعمال أوانی الذهب و الفضة و من أبواب النجاسات،و ج 1 المستدرک ص 166،و ج 14 البحار ص 923 الی ص 925،و ج 1 سنن البیهقی ص 27

بها فلا ریب فی حرمة المعاوضة علیها مطلقا،لکونها مما یجیء منها الفساد محضا،و تکون من صغریات الکبری المتقدمة فی البحث عن حرمة بیع هیاکل العبادة المبتدعة.

و قد استدل علی هذا الاحتمال الأخیر بقوله«ع»[1]:(آنیة الذهب و الفضة متاع الذین لا یوقنون).و فیه مضافا الی ضعف السند فی الروایة،أنها ناظرة إلی الجهة الأخلاقیة فلا تکون مدرکا فی الأحکام الفرعیة،و تفصیل الکلام فی کتاب الطهارة.

حکم بیع الدراهم المغشوشة

قوله و منها الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غش الناس. أقول:لا شبهة فی حرمة غش المؤمن فی البیع و الشراء وضعا و تکلیفا،و سنذکر ذلک عند التعرض لحرمة الغش، و إنما الکلام هنا یقع فی ناحیتین:الاولی جواز الانتفاع بها فی التزین و فی دفعه الی العشار فی المکوس و الکمارک،و إلی الظالم،و عدم جوازه.الثانی جواز المعاوضة علیها و عدم جوازها أما الناحیة الأولی فقد استدل علی الحرمة بروایات،منها ما فی روایة الجعفی[2]من الأمر بکسر الدرهم المغشوش،فإنه لا یحل بیعه و لا إنفاقه.

و فیه أن الأمر فیها لیس تکلیفیا لیجب کسره،و یحرم ترکه،بل هو إرشاد الی عدم صحة المعاوضة علیها،و عدم جواز أداء الحقوق الواجبة منها،و یدل علی ذلک من الروایة تعلیل الامام«ع»الأمر بالکسر بأنه لا یحل بیعه و لا إنفاقه،إذ من البدیهی أن الصد عن

ص:157

عن بیعه و إنفاقه فی الخارج لا ینحصر فی الکسر بل یحصل بغیره أیضا.

و منها ما فی روایة موسی بن بکر[1]من أن الامام«ع»قطع الدینار المغشوش بنصفین و أمره بإلقائه فی البالوعة حتی لا یباع ما فیه غش،إذ لو جاز الانتفاع به فی وجه لما قطعه بنصفین.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند،و غیر منجبرة بشیء.و ثانیا:أن فعله«ع»و إن کان حجة کسائر الأمارات الشرعیة کما حقق فی محله،إلا أن ذلک فیما تکون وجهة الفعل معلومة،و علیه فلا یستفاد من الروایة أکثر من الجواز الشرعی،و یکون مؤداها الإرشاد الی عدم نفوذ المعاملة علیه،لوجود الغش فیه،و الشاهد علی ذلک من الروایة قوله«ع»:

(حتی لا یباع شیء فیه غش).بل الظاهر أنه کان غشا محضا،و إلا لما أمر الإمام«ع» بإلقائه فی البالوعة،لکون هذا الفعل من أعلی مراتب الإسراف و التبذیر.و من هنا ظهر ما فی روایة دعائم الإسلام[2]من حکمه«ع»بقطع الدرهم المغشوش.

و أما الناحیة الثانیة فتوضیح الکلام فیها أن للدراهم المغشوشة حالتین،الاولی:أن تکون رائجة بین الناس حتی مع العلم بالغش،کالدراهم الرائجة فی زماننا.و الثانیة:أن لا تکون رائجة بینهم.

أما الصورة الاولی فلا شبهة فی جواز المعاوضة علی الدراهم المذکورة لأن الفرض الأصیل منها أعنی الرواج غیر تابع لخلوص المواد و نقائها من الغش،بل هو تابع لاعتبار سلطان الوقت لها،و جریان القانون الحکومی علیه من غیر فرق بین اغتشاش المادة و خلوصها نعم إذا سقطت عن الاعتبار فلا تجوز المعاوضة علیها من دون إعلام.

و أما الصورة الثانیة فإن المعاوضة قد تقع علی الدرهم الکلبی ثم یدفع البائع الدرهم المغشوش عند الإقباض،و قد تقع علی شخص الدرهم الخارجی المغشوش،فعلی الأول لا وجه للبطلان أیضا،و لا خیار للمشتری،بل یجبر البائع علی التبدیل،فان حصل التبدیل فیها،

ص:158

و إلا کان للمشتری الخیار.

و علی الثانی فقد یکون المتعاملان کلاهما عالمین بالغش،و قد یکونان جاهلین به،و قد یکونان مختلفین،أما الصورة الاولی فلا ریب فی إباحة البیع تکلیفا و نفوذه وضعا للعمومات و دعوی أن الغش مانع عن صحة البیع للأخبار المتظافرة الآتیة فی البحث عن حرمة الغش دعوی جزافیة،ضرورة خروج هذه الصورة عن موردها خروجا تخصیصا،إذ الغش إنما یتقوم بعلم الغار و جهل المغرور،و قد فرضنا علم المتبایعین بالحال،و التمسک لذلک روایتی الجعفی و موسی بن بکر المتقدمتین بدعوی ظهورهما فی رحمة بیع الدراهم و الدنانیر المغشوشة توهم فاسد،فان الروایتین و إن کانا ظاهرتین فی ذلک،و لکن یجب حملها علی الکراهة لصراحة ما دل من الروایات[1]علی جواز البیع مع علم المتبایعین بالحال.

و أما للصورة الثانیة فالتحقیق فیها أن الکلام تارة یقع فی الحرمة التکلیفیة،و اخری فی الحرمة الوضعیة،أما الحرمة التکلیفیة فمنفیة جزما،لفقد موضوعا(و هو الغش)مع جهل المتبایعین.

و أما الحرمة الوضعیة بمعنی عدم نفوذ البیع فتوضیح الحال فیها یتوقف علی مقدمة قد أوضحناها فی البحث عن بیع هیاکل العبادة،و تعرض المصنف لها فی خیار تخلف الشرط، و لا بأس هنا بالإشارة إلیها إجمالا،و ملخصها:أن القیود فی المبیع-سواء کانت من قبیل الأوصاف أو الشروط-إما صور نوعیة عرفیة،أو جهات کمالیة.

فإن کانت من القبیل الأول فلا ریب فی بطلان البیع مع التخلف،کما إذا اشتری جاریة علی أنها شابة جمیلة فظهرت عبدا شائبا کریه الوجه،أو اشتری صندوقا فظهر أنه طبل.

و وجه البطلان أن ما جری علیه العقد غیر واقع،و ما هو واقع لم یجر علیه العقد،فان ما تعلقت به المعاملة و إن اتحد فی الحقیقة مع ما تسلمه المشتری،إلا انهما فی نظر العرف

ص:159

متباینان،و لا یتقسط الثمن علی المادة و الهیئة،لتبطل المعاملة فیما قابل الهیئة،و تنفذ فیما قابل المادة،کما یتجزأ فیما إذا باع ما یملک و ما لا یملک صفقة واحدة،کالشاة مع الخنزیر،و ذلک لما عرفت من فساد الانحلال و التقسیط فیما إذا کانت الکثرة تحلیلیة عقلیة.

و إن کانت من القبیل الثانی فلا وجه للبطلان،بل یثبت خیار تخلف الشرط،کما إذا باع عبدا علی أنه کاتب فان أنه غیر کاتب أو باع کبشا فظهر أنه نعجة.و الوجه فی ذلک هو أن الفائت لیس إلا من الأوصاف الکمالیة،فلا یوجب تخلفه إلا الخیار.

ففی المقام إذا باع درهما علی أنه مسکوک بسکة السلطان فبان أنه مسکوک بسکة التاجر بطل البیع،لکون الاختلاف بینهما من الاختلاف فی الصور النوعیة.و أما لو باع درهما علی أنه طازج فبان أنه عتیق فان البیع صحیح،و إنما یثبت المشتری خیار تخلف الشرط.

و من هنا ظهر ما فی کلام المصنف من الوهن حیث أثبت خیار التدلیس مع تفاوت السکة،و وجه الوهن هو أن الملحوظ إن کان هی المادة المجردة فلا بطلان و لا خیار، و إن کان هی مع الهیئة أو الهیئة المحضة فلا مناص عن البطلان،نعم لو کان الملحوظ هی المادة المجردة،و کان التفاوت بکثرة الخلیط و قلته لثبت خیار العیب،إلا أنه غیر مفروض المصنف.و أما الصورة الثالثة فتارة یفرض علم البائع بالغش دون المشتری و اخری بالعکس،أما الأولی فهو من أوضح مصادیق الغش فی المعاملة،و یجری فیه جمیع ما ذکرناه فی الصورة الثانیة،و أما الثانی فلا مانع من نفوذ البیع فیه وضعا و إباحته تکلیفا للعمومات و توهم أن الغش مانع عن النفوذ مندفع بما ذکرناه من تقومه بعلم البائع و جهل المشتری، و المفروض عکسه.

قوله و هذا بخلاف ما تقدم من الآلات. أقول:أراد بذلک إبداء الفرق بین بیع آلات اللهو و القمار و بیع الدراهم المغشوشة،بدعوی استحالة صحته فی الآلات،لأن المادة و الهیئة اجزاء تحلیلیة عقلیة فلا تقابل المادة بجزء من الثمن و الهیئة بجزء آخر منه، لیحکم بصحة البیع فی المادة و بفساده فی الهیئة،بل إذا بطل فی جزء بطل فی الجمیع و إذا صح فی جزء صح فی الجمیع،و التقسیط إنما یکون فی الاجزاء الخارجیة کتقسیط الثمن علی الخل و الخمر إذا بیعا صفقة واحدة،و هذا بخلاف الدراهم المغشوشة لنفوذ المعاملة فیها مع الخیار إلا إذا وقع عنوان المعاوضة علی الدراهم المنصرف إطلاقه إلی المسکوک بسکة السلطان فان البیع حینئذ یبطل إذا بان الخلاف.

و فیه ان التزامه بالانحلال و التقسیط فی الاجزاء الخارجیة إذا ظهر الخلاف،و عدم التزامه بهما فی آلات اللهو و القمار و سائر ما کان التعدد فیه بالتحلیل العقلی متین و من الوضوح

ص:160

بمکان،إلا أن الحال فی الدراهم أیضا کذلک،فإذا کان الاختلاف من جهة السکة لا یمکن التصحیح من جهة المادة و الابطال من جهة الهیئة،و أما الصورة الأخری التی یصح البیع فیها مع الخیار أو مع عدمه فلا جامع بینها و بین آلات القمار لیحتاج إلی إبداء الفارق بینهما، و من المحتمل أن هذه العبارة قد حررها النساخ فی غیر موضعها اشتباها و اللّه العالم.

قوله و هذا الکلام مطرد فی کل قید فاسد. أقول:الشروط سواء کانت صحیحة أم فاسدة لا تقابل بجزء من الثمن کما سیأتی بیان ذلک فی بابها،و علیه فتخلفها لا یوجب إلا الخیار حتی علی مسلک المصنف،و دعوی الخصوصیة فی المورد جزافیة.

القسم الثانی ما یقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة.

حکم بیع العنب علی أن یعمل خمرا

قوله القسم الثانی ما یقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة. أقول:أراد به تقسیم ما یقصد من بیعه الحرام إلی ثلاثة أقسام،و بیان حکم کل منها علی حدة،و منشأ القسمة هو أن المنفعة المحرمة التی یقصدها المتعاملان إما أن تکون تمام الموضوع فی المعاوضة بحیث یرجع مفادها إلی بذل المال بإزاء تلک المنفعة المحرمة لا غیر،کالمعاوضة علی العنب بشرط التخمیر فقط،و علی الخشب بشرط صنعه صنما فحسب،و إما أن تکون بنحو الداعی إلی المعاوضة من دون اشتراط فیها کالمعاملة علی العنب لیجعله خمرا من غیر اشتراط لذلک فی المعاوضة، و إما أن تکون جزء الموضوع بحیث یرجع مفاد المعاوضة إلی ضم الغایة المحرمة للغایة المحللة، و بذل المال بإزائهما،کبیع الجاریة المغنیة إذا لو حظ بعض الثمن بإزاء صفة الغناء،فهنا مسائل ثلاث.ثم إن الوجوه المذکورة جاریة فی الإجارة أیضا،بل هی تزید علی البیع بوجه رابع،و هو أن یؤجر نفسه لفعل الحرام کالزنا و النمیمة و الغیبة و القتل و الافتراء، و من هذا القبیل إجارة الجاریة المغنیة للتغنی.

قوله الأولی بیع العنب علی أن یعمل خمرا و الخشب علی أن یعمل صنما. أقول:ادعی فی المستند (1)و فی متاجر الجواهر و غیرهما عدم الخلاف بل الإجماع علی حرمة الإجارة و البیع،بل کل معاملة و تکسب للمحرم سواء اشترطاه فی العقد أم حصل اتفاق المتبایعین علیه،کإجارة المساکن و الحمولات للخمر و رکوب الظلمة و إسکانهم للظلم،و بیع العنب و التمر و غیرهما مما یتخذ منه المسکر لیعمل خمرا أو الخشب لیعمل صنما أو بربطا،و إلی هذا القول ذهب بعض أهل الخلاف[1]بل هو ظاهر جمیعهم،لنصهم علی حرمة الإجارة للأمور

ص:161


1- 1) راجع ج 2 ص 336.

المحرمة،و سیأتی،و لا فرق فی ذلک بین الإجارة و سائر المعاملات.

و کیف کان فالکلام یقع فی ناحیتین:

الاولی فی جواز بیع المباح علی أن یجعل حراما و عدم جوازه.و الثانیة:فی بیان أقسام ما یقصد من إجارته الحرام و ذکر أحکامه.

أما الناحیة الاولی فی جواز بیع المباح علی أن یجعل حراما و عدم جوازه

فالذی یمکن الاستدلال به علی حرمة البیع وجوه،الوجه الأول:

أن بیع الأشیاء المباحة علی أن تصرف فی الحرام-کبیع العنب للتخمیر،و بیع الخشب لجعله صنما أو آلة لهو-إعانة علی الإثم،بل فی المستند (1)أنه معاونة علی الإثم المحرم کتابا و سنة و إجماعا.

و فیه أولا:أن الکبری ممنوعة إلا فی موارد خاصة،کما سیأتی.و ثانیا:أنک علمت فی بعض المباحث أن بین عنوان البیع و عنوان الإعانة علی الإثم عموما من وجه،لتقوم مفهوم الإعانة بالإقباض و التسلیط الخارجی علی العین و لو بغیر عنوان البیع،مع العلم بصرفها فی الحرام و إن کان ینطبق عنوان الإعانة علی البیع فی بعض الأحیان،و علیه فلا تستلزم حرمة الإعانة علی الإثم حرمة البیع فی جمیع الموارد.

و ثالثا:أن حرمة المعاوضة لو سلمت لا تدل علی فساد المعاملة وضعا،لأنها حرمة تکلیفیة محضة.

و رابعا:لو قلنا:بدلالة النهی التکلیفی علی فساد المعاملة فإن ذلک فیما إذا کانت المعاملة بعنوانها الاولی موردا للنهی،کبیع الخمر،لا بعنوانها العرضی کما فی المقام.و هذا لا ینافی ما سلکناه فی بعض المباحث،و أشرنا إلیه فیما سبق من کون النواهی فی باب المعاملات إرشادا إلی الفساد کالنهی عن البیع الغرری،کما أنها فی أبواب الصلاة إرشاد إلی المانعیة،فإن ذلک فیما لم تقصد المولویة التکلیفیة من النهی کالنهی عن بیع الخمر.

و خامسا:أن تخلف الشروط الصحیحة إنما یوجب الخیار للمشترط،لان الشروط لا تقابل بجزء من الثمن،و قد حققناه فی محله،و التزم به المصنف فی باب الشروط،و من الواضح أن الشروط الفاسدة لا تزید علی الصحیحة فی ذلک،فلا یسری فساد الشرط إلی العقد و دعوی امتیاز الموارد عن بقیة الشروط الفاسدة موهونة جدا.

و لو سلمنا أن للشروط حصة من الثمن فیقسط علیها و علی المشروط فإنما هو فی الشروط التی تجعل علی البائع:کأن یشترط المشتری علیه فی ضمن العقد خیاطة ثوبه أو بنائه داره أو نجارة بابه و نحوها مما یوجب زیادة الثمن.و أما الشروط التی تجعل علی المشتری:کأن

ص:162


1- 1) راجع ج 2 ص 336.

یشترط البائع علیه صرف المبیع فی جهة خاصة سواء أ کانت محرمة أم محللة فلا تقابل بشیء من الثمن.و إذن فاشتراط البائع علی المشتری صرف المبیع فی الحرام لا یوجب فساد البیع حتی علی القول بالتقسیط.

الوجه الثانی:أن ذلک أکل للمال بالباطل فهو حرام لآیة التجارة.و فیه أولا:

ما عرفته مرارا و ستعرفه من أن الآیة الشریفة مسوقة لبیان الضابطة الکلیة فی الأسباب الصحیحة و الأسباب الفاسدة للمعاملات،و أن شرائط العوضین خارجة عن حدودها.

و ثانیا:ما عرفته مرارا أیضا من أن الشروط لا تقابل بجزء من الثمن لیلزم من فسادها أکل المال بالباطل،و إنما هی مجرد التزامات لا یترتب علی مخالفتها إلا الخیار.

الوجه الثالث:دعوی الإجماع علی الحرمة.و فیه مضافا إلی عدم حجیة الإجماع المنقول.أن دعوی الإجماع التعبدی فی المقام موهونة جدا،لإمکان استناد المجمعین الی الوجوه المذکورة فی المسألة.

الوجه الرابع:ما ذکره فی المستند (1)من کونه بنفسه فعلا محرما لما بینا فی موضعه:

أن فعل المباح بقصد التوصل به إلی الحرام محرم.و فیه أنا لو قلنا:بحرمة مقدمة الحرام فإنما ذلک فی المقدمات التی لا یمکن التفکیک بینها و بین ذی المقدمة بحیث لا یتمکن المکلف بعد إیجاد المقدمة عن ترک ذی المقدمة،فیعاقب علی ذلک.و من الضروری أن بیع المباح بقصد التوصل به إلی الحرام أو بشرط صرفه فیه لیس علة لإیجاده،و إنما هو من الدواعی و التخلف فیها لیس بعزیز.

الرابع:ما توهم من شمول أدلة النهی علی المنکر للمقام،بدعوی أنه إذا وجب النهی عن المنکر لرفعه فإن النهی عنه لدفعه أولی بالوجوب.

و فیه أنا لو استفدنا من الأدلة وجوب النهی عن المنکر لدفعه فلامکن الالتزام و بوجوب النهی عنه لرفعه بالفحوی،و أما العکس فلا.و لو أغمضنا عن ذلک فهو إنما یتم إذا علم البائع بأن المشتری یصرف المبیع فی الحرام علی حسب الاشتراط،و إلا فلا مقتضی للوجوب،علی أن مقتضاه إنما هو مجرد التکلیف،و النهی التکلیفی فی المعاملات لا یقتضی الفساد.

قوله خبر جابر. أقول:لا وجه لذکره فی المقام إلا من جهة اتحاد حکم البیع و الإجارة فیما نحن فیه،و إلا فهو أجنبی عن البیع،و صریح فی حرمة الإجارة للغایة المحرمة کما سیأتی.

ص:163


1- 1) راجع ج 2 ص 336.
و أما الناحیة الثانیة حکم ما یقصد من إجارته الحرام

و أما الناحیة الثانیة فقد علمت أن ما یقصد من إجارته الحرام یکون علی أربعة أقسام الأول:ان یکون متعلق الإجارة من الأمور المحرمة،کأن یؤجر نفسه للعمل الحرام، و هذا لا شبهة فی حرمته من حیث الوضع و التکلیف،بل لا نعرف فیه خلافا من الشیعة و السنة[1]إلا ما یظهر مما نسب إلی ابی حنیفة فی بعض الفروع[2]و قد عرفت فی معنی حرمة البیع أن نفس أدلة المحرمات کافیة فی حرمة هذا القسم من الإجارة،إذ هی تقتضی الانزجار عنها،و مقتضی العمومات هو وجوب الوفاء بالعقد،و هما لا یجتمعان،و لعل المقصود من خبر جابر الآتی هو هذا القسم أیضا.

الثانی:أن یشترط المؤجر علی المستأجر أن ینتفع بالعین المستأجرة بالمنافع المحرمة من دون ان یکون أصل الإیجار للحرام،کاستئجار الثیاب و الحلی و الأمتعة و الخیام و السیارات و سائر المحمولة بشرط الانتفاع بها بالجهات المحرمة،المشهور بیننا و بین العامة[3]عدم جواز

ص:164

ذلک،إلا ان الظاهر ان المسألة من صغریات الشرط الفاسد،و بما أنک علمت إجمالا و ستعلم تفصیلا ان فساد الشرط لا یستلزم فساد العقد و لا یسری إلیه،فلا موجب لفساد الإجارة من ناحیة الشرط المذکور.

و قد یستدل علی الفساد بروایة جابر[1]حیث حکم الامام«ع»فیها بحرمة الأجرة فی رجل آجر بیته فیباع فیه الخمر.

و فیه مضافا إلی ضعف السند فیها.أولا:أنها أجنبیة عن اشتراط الانتفاع بالعین المستأجرة فی الحرام،إذ لا داعی للمسلم ان یؤاجر بیته و یشترط علی المستأجر ان ینتفع منها بالمنافع المحرمة،بل موردها فرض العلم بالانتفاع المحرم من غیر شرط.

و ثانیا:انها محمولة علی الکراهة لمعارضتها بحسنة ابن أذینة[2]الدالة علی جواز إیجاز الحمولة لحمل الخمر و الخنازیر.

و جمع المصنف بینهما بأن روایة ابن أذینة محمولة علی ما إذا اتفق الحمل من غیر أن یؤخذ رکنا أو شرطا فی العقد،بتقریب ان خبر جابر نص فیما نحن فیه و ظاهر فی هذا،و أن حسنة ابن أذینة بالعکس،فیطرح ظاهر کل منهما بنص الآخر.

و فیه أنه قد تقدم فی البحث عن بیع العذرة ان المتیقن الخارج عن مقام التخاطب من

ص:165

الدلیلین لا یصحح الجمع الدلالی بینهما ما لم یساعده شاهد من النقل و الاعتبار،و إنما هو تبرعی محض.

و من هنا اندفع ما فی التهذیب من انه(إنما حرّم إجارة البیت لمن یبیع الخمر لأن بیع الخمر حرام و أجاز إجارة السفینة یحمل فیها الخمر،لأن حملها لیس بحرام،لأنه یجوز ان یحمل لیجعل خلا،و علی هذا لا تنافی بین الخبرین).علی انه ذکر فی الحسنة جواز حمل الخمر و الخنازیر،و ما ذکره من التوجیه فی حمل الخمر لا یجری فی حمل الخنازیر.

و قد یتوهم عدم نفوذ الإجارة وضعا و حرمتها تکلیفا لروایة دعائم الإسلام[1]الظاهرة فیهما،و لکنه توهم فاسد لأن هذه الروایة ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء فلا تفی لإثبات المقصود.علی انها معارضة بالحسنة المذکورة،فتحمل علی الکراهة.

ثم انه بفحوی ما ذکرناه ظهر حکم القسم الثالث و الرابع،أعنی صورة العلم بترتب الحرام علی الإجارة من غیر ان یجعل شرطا فی العقد أو داعیا إلیها،و صورة ان یکون ترتب الحرام داعیا لإنشاء المعاملة.و یتضح ذلک وضوحا من المسألة الثانیة و الرابعة.

(قوله بل الأظهر فساده و إن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد). أقول:قد سمعت کون المسألة من صغریات الشرط الفاسد،و دعوی الخصوصیة فیها و امتیازها عن سائر الشروط الفاسدة مجازفة.

قوله مع ان الجزء اقبل للتفکیک بینه و بین الجزء الآخر من الشرط و المشروط) .

أقول:جواز الانحلال و التقسیط فی الاجزاء الخارجیة و إن کان صحیحا کما أشرنا الیه، و سیأتی تفصیله فی بیع ما یملک و ما لا یملک،إلا انه غیر صحیح فی الاجزاء التحلیلیة العقلیة فإن الانحلال فی ذلک باطل جزما،و من ذلک یظهر ان بطلان بیع الآلات اللهویة لا یستلزم بطلان البیع فیما إذا کان الشرط؟؟؟؟الشرط إنما جعل بإزاء نفس المال فقط،و لیس للشرط حصة من الثمن،لیقاس ببیع الآلات المحرمة.

حکم بیع الجاریة المغنیة

قوله المسألة الثانیة یحرم المعاوضة علی الجاریة المغنیة. أقول:محصل کلامه:ان الصفات سواء کانت محللة أم محرمة قد تکون داعیة الی المعاوضة،و لا دخل لها فی المعاوضة

ص:166

بأکثر من ذلک،و قد تکون دخیلة فی ازدیاد الثمن فیها،و قد تکون أجنبیة عنها أصلا، أما الأول و الثالث فلا ریب فی صحة المعاوضة فیهما،لأن المفروض أن الصفة المحرمة لم توجب زیادة فی الثمن،و کذا الثانی لو کانت الصفة الموجبة لازدیاد الثمن هی الصفة المحللة، و أما لو کان الموجب للزیادة هی الصفة المحرمة فلا شبهة فی فساد المعاوضة حینئذ،کملاحظة صفة التغنی فی بیع الجاریة المغنیة،و المهارة فی القمار و السرقة و اللهو فی بیع العبد،و وجه الفساد أن بذل شیء من الثمن بملاحظة الصفة المحرمة أکل للمال بالباطل،و أما التفکیک بین القید و المقید فیحکم بصحة العقد فی المقید و بطلانه فی القید بما قابله من الثمن فتوهم فاسد، لأن القید أمر معنوی لا یوزع علیه شیء من المال.

أقول:تحقیق المسألة فی جهتین،الاولی:من حیث القواعد،و الثانیة:من حیث الروایات.أما الجهة الأولی:فالقاعدة تقتضی صحة المعاوضة فی جمیع الوجوه المذکورة، لوجهین،الوجه الأول:أن بعض الأعمال کالخیاطة و نحوها و إن صح أن تقع علیه المعاوضة و أن یقابل بالمال إذا لو حظ علی نحو الاستقلال،إلا أنه إذا لوحظ وصفا فی ضمن المعاوضة فإنه لا یقابل بشیء من الثمن،و إن کان بذل المال بملاحظة وجودها.و علیه فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة المعاوضة فی الموصوف،و إنما هی کالشروط الفاسدة لا توجب إلا الخیار.

الوجه الثانی:لو سلمنا أن الأوصاف تقابل بجزء من الثمن فان ذلک لا یستلزم بطلان المعاملة،إذ الحرام إنما هی الأفعال الخارجیة من التغنی و القمار و الزنا دون القدرة علیها التی هی خارجة عن اختیار البشر.

علی أنه قد ورد فی الآیات و الأحادیث (1):أن قدرة الإنسان علی المحرمات قد توجب کونه أعلی منزله من الملائکة،فإن الإنسان یحتوی علی القوة القدسیة التی تبعث إلی الطاعة، و القوة الشهویة التی تبعث إلی المعصیة،فإذا ترک مقتضی الثانیة و انبعث بمقتضی الاولی فقد حصل علی أرقی مراتب العبودیة.و هذا بخلاف الملک،فإنه لاختصاصه بالقوة الروحیة و الملکة القدسیة الباعثة إلی الطاعة و الرادعة عن المعصیة،و لعرائه عن القوة الأخری الشهویة لا یعصی اللّه،فیکون الإنسان الکامل أفضل من الملک،و تفصیل الکلام فی محله.

و أما الجهة الثانیة فقد استفاضت الروایات من الشیعة[1]

ص:167


1- 1) راجع ج 14 البحار ص 256-366.

و السنة[1]علی حرمة بیع الجواز المغنیات،و کون ثمنهن سحتا کثمن الکلب،و أکثر هذه الروایات و إن کان ضعیف السند،و لکن فی المعتبر منها غنی و کفایة.

و قد یتوهم وقوع المعاوضة بینها و بین ما دل علی جواز البیع و الشراء للتذکیر بالجنة

ص:168

و طلب الرزق کروایتی الدینوی و الصدوق[1].

و فیه أولا:أنهما ضعیفتا السند و غیر منجبرتین بشیء.و ثانیا:أن روایة الصدوق خارجة عن محل الکلام أصلا،فإن المفروض فیها شراء الجاریة التی لها صوت،و مورد البحث هنا بیع الجاریة المغنیة و بینهما بون بعید،و أما روایة الدینوری فهی راجعة إلی البیع و الشراء لطلب الرزق و تحصیله فقط لا سوی ذلک،فلا یکون حراما علی أن المحرم إنما هو التغنی الخارجی،و أما مجرد القدرة علیه فلیس بحرام جزما.

ثم الظاهر من الأخبار المانعة هو أن الحرام إنما هو بیع الجواری المغنیة المعدة للتلهی و التغنی کالمطربات اللاتی یتخذن الرقص حرفة لهن،و یدخلن علی الرجال،إذ من الواضح جدا ان القدرة علی التغنی کالقدرة علی بقیة المحرمات لیست بمبغوضة ما لم یصدر الحرام فی الخارج کما عرفت.علی أن نفعها لا ینحصر بالتغنی لجواز الانتفاع بها بالخدمة و غیرها.

و مع الإغضاء عن جمیع ذلک أن بیعها بقصد الجهة المحرمة لا یکون سببا لوقوع الحرام، لبقاء المشتری بعد علی اختیاره فی أن ینتفع بها بالمنافع المحرمة إن شاء أو بالمنافع المحللة، و علیه فلا موجب لحرمة البیع إلا من جهة الإعانة علی الإثم،و هی بنفسها لا تصلح للمانعیة قال السید(ره)فی حاشیته علی المتن:(و یمکن الاستدلال بقوله«ع»فی حدیث تحف العقول أو شیء یکون فیه وجه من وجوه الفساد خصوصا بقرینة تمثیله بالبیع بالربا، و ذلک لأن المبیع فی بیع الربا لیس مما لا یجوز بیعه،بل الوجه فی المنع هو خصوصیة قصد الربا،ففی المقام أیضا الجاریة من حیث هی لیست مما لا یجوز بیعها،لکن لو قصد بها الغناء یصدق أن فی بیعها وجه الفساد).

و فیه مضافا إلی وهن الحدیث من حیث السند،أنه لا مورد للقیاس،لأن البیع الربوی

ص:169

حرام لذاته،و بیع الجاریة لو کان حراما فإنما هو حرام لأجل قصد التغنی،فالحرمة عرضیة و القیاس مع الفارق.

حرمة کسب المغنیة

لا بأس بالإشارة إلی حکم کسب المغنیة و إن لم یتعرض له المصنف.فنقول:إنه ورد فی جملة من الروایات[1]عدم جواز کسب المغنیة،و أنها ملعونة،و ملعون من أکل من کسبها،فیدل ذلک علی حرمة کسبها وضعا و تکلیفا،علی أنه یکفی فی الحرمة جعلهن الأفعال المحرمة موردا للتکسب،کالتغنی و الدخول علی الرجال و غیرهما،لما علمت سابقا، من أن أدلة صحة العقود،و وجوب الوفاء بها مختصة بما إذا کان العمل سائغا فی نفسه، فلا وجه لرفع الید بها عن دلیل حرمة العمل فی نفسه،نعم لو دعین لزف العرائس،و لم یفعلن شیئا من الأفعال المحرمة فلا بأس بکسبهن،و قد ورد ذلک فی روایة أبی بصیر، و ذکرناها فی الهامش.و من جمیع ما ذکرناه ظهر حکم الرجل المغنی أیضا.

حکم بیع العنب ممن یجعله خمرا

قوله المسألة الثالثة یحرم بیع العنب ممن یعمله خمرا بقصد أن یعمله إلخ. أقول:

ص:170

قد وقع الخلاف بین الفقهاء فی جواز بیع الأشیاء المباحة ممن یعلم البائع أنه یصرفه فی الحرام و عدم جوازه،ففی المختلف (1):(إذا کان البائع یعلم ان المشتری یعمل الخشب صنما أو شیئا من الملاهی حرم بیعه و إن لم یشترط فی العقد ذلک،لنا أنه قد اشتمل علی نوع مفسدة،فیکون محرما،لأنه إعانة علی المنکر).و نقل عن ابن إدریس جواز ذلک، لأن الوزر علی من یجعله کذلک،لا علی البائع،و فصل المصنف(ره)بین ما لم یقصد منه الحرام فحکم بجواز بیعه،و بینما یقصد منه الحرام فحکم بحرمته،لکونه إعانة علی الإثم، فتکون محرمة بلا خلاف.و قد وقع الخلاف فی ذلک بین العامة أیضا[1].

أما ما ذکره المصنف(ره)من التفصیل فیرد علیه أولا:أن مفهوم الإعانة علی الإثم و العدوان کمفهوم الإعانة علی البر و التقوی أمر واقعی لا یتبدل بالقصد،و لا یختلف بالوجوه و الاعتبار.

و ثانیا:لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم ما لم یکن التسبیب و التسبب فی البین کما سیأتی.

و ثالثا:أنا إذا سلمنا حرمة البیع مع قصد الغایة المحرمة لصدق الإعانة علی الإثم علیه فلا بد من الالتزام بحرمة البیع مع العلم بترتب الحرام أیضا،لصدق الإعانة علی الإثم علیه أیضا.و إن قلنا بالجواز فی الثانی من جهة الأخبار المجوزة فلا بد من القول بالجواز فی الأول أیضا،لعدم اختصاص الجواز الذی دلت علیه الاخبار بفرض عدم القصد.

و رابعا:أنا لم نستوضح الفرق بین القسمین،فان القصد بمعنی الإرادة و الاختیار یستحیل ان یتعلق بالغایة المحرمة فی محل الکلام،لأنها من فعل المشتری،إذ هو الذی یجعل العنب خمرا و الخشب صنما،فلا معنی لفرض تعلق القصد بالغایة المحرمة،و أما القصد بمعنی

ص:171


1- 1) ج 1 ص 165.

العلم و الالتفات فهو مفروض الوجود فی القسمین فلا وجه للتفصیل بینهما،نعم یمکن ان یکون الداعی إلی بیع البائع هو ترتب الغایة المحرمة تارة،و غیر ذلک تارة أخری،مع العلم بترتبها فی الخارج،و لکن هذا لا یکون سببا فی اختلاف صدق الإعانة علیهما،لأن دعوة الحرام الی الفعل لیست شرطا فی صدق الإعانة علی الإثم،و هو واضح،إذن فلا وجه للتفصیل المذکور فی کلام المصنف.

ثم إن تحقیق هذه المسألة یقع تارة من حیث الروایات،و اخری من حیث القواعد،
أما الصورة الأولی

فالکلام فیها من جهتین،الاولی:فی الحرمة الوضعیة،و الثانیة:فی الحرمة التکلیفیة.

أما الجهة الأولی:فربما یقال بفساد المعاوضة مع العلم بصرف المبیع أو الانتفاع بالعین المستأجرة فی الجهة المحرمة.لخبر جابر المتقدم(عن الرجل یؤاجر بیته فیباع فیه الخمر؟قال حرام أجرته).فإنه لا وجه لحرمة الأجرة إذا کانت المعاملة صحیحة،و بعدم القول بالفصل بین الإجارة و البیع یتم المقصود.

و فیه مضافا الی ضعف السند فیه،و اختصاصه بالإجارة،انه لا بد من حمله علی الکراهة لمعارضته بحسنة ابن أذینة المتقدمة التی دلت علی جواز إجارة الحمولة لحمل الخمر و الخنازیر.

و أما الجهة الثانیة فقد یقال:بحرمة البیع تکلیفا،لما دل من الاخبار علی حرمة بیع الخشب ممن یتخذه صلبانا،و قد تقدم ذکرها فی البحث عن بیع آلة اللهو،و بعدم القول بالفصل بین موردها و غیره یتم المطلوب.

و لکن یعارضها ما ورد من الاخبار المتظافرة[1]الدالة علی جواز بیع العنب و التمر و عصیرهما ممن یجعلها خمرا،بدعوی عدم الخصوصیة فی مواردها،لعدم القول بالفصل بین

ص:172

هذه الموارد و بین غیرها،إذ لو قیل:بالجواز قیل به مطلقا،و إلا فلا.

و قد یوجه ما ذکر فی روایتی رفاعة و أبی کهمس المذکورتین فی الحاشیة من بیعهم«ع» تمرهم ممن یجعله خمرا:بأن یراد من لفظ الخمر فیهما العصیر المغلی،و لم یذهب ثلثاه فان

ص:173

ظاهر غیر واحدة من الروایات ان شربه کان متعارفا فی زمان الصادق«ع».إذن من المستبعد جدا انهم علیهم السلام یبیعون تمرهم فی کل سنة ممن یصنعه خمرا.

و فیه أن استعمال الخمر فی العصیر المغلی مجازا و ان صح إلا أنه لا یمکن الالتزام به مع عراء الکلام عن القرینة المجوزة علی أن هذا الحمل إنما یصح علی القول بنجاسة عصیر التمر أو بحرمته بعد غلیانه،و لم یثبت شیء منهما،بل الظاهر طهارته و إباحته ما لم یکن مسکرا و علیه فلا مجوز لإطلاق لفظ الخمر أو الشراب الخبیث علیه.

قال المصنف: (فالأولی حمل الأخبار المانعة علی الکراهة لشهادة غیر واحد من الأخبار علی الکراهة،کما أفتی به جماعة و یشهد له روایة رفاعة[1]عن بیع العصیر ممن یصنعه خمرا قال:بعه ممن یطبخه أو یصنعه خلا أحب إلی و لا أری به-بالأول-بأسا).

و فیه أولا:أنه معارض بما فی بعض الروایات من بیعهم علیهم السلام تمرهم ممن یجعله شرابا خبیثا علی ما أشرنا إلیه،لبعد صدور الفعل المکروه منهم«ع»دفعة واحدة فضلا عن الدفعات،و بما فی بعض روایات الباب من تعلیل جواز البیع بأنه قد وقع علی العنب الحلال و إنما المشتری جعله حراما أبعده اللّه و أسحقه،فلا تزر وازرة وزر اخری،و قد ذکرنا الروایات فی الحاشیة.

و ثانیا:أن کون بیع العصیر ممن یجعله خلا أحب الی الامام«ع»لا یدل علی کراهة بیعه ممن یجعله خمرا،خصوصا مع تصریحه«ع»فیها بالجواز ب قوله و لا أری بالأول بأسا نعم لو کان لفظ الروایة:إنی لا أحب بیعه ممن یجعله خمرا،لکان دالا علی کراهة البیع.ثم إنه لم نجد روایة تدل علی الکراهة غیر روایة الحلبی التی نسبها المصنف إلی رفاعة و قد عرفت عدم دلالتها علی ذلک و إذن فلا وجه لقول المصنف:(لشهادة غیر واحد من الأخبار علی الکراهة).

قال السید فی حاشیته ما ملخصه:أنه یمکن الجمع بحمل الأخبار المجوزة علی صورة العلم بأن ذلک عمل المشتری و إن لم یعلم بصرف هذا المبیع الخاص فی المحرم،و حمل الأخبار المانعة علی صورة العلم بصرفه فی الحرام.و یمکن الجمع أیضا بحمل المانعة علی العلم بقصد المشتری صرفه فی الحرام،و حمل المجوزة علی العلم بالتخمیر مع عدم العلم بأن قصده ذلک.

و یرد علی الوجهین:أنهما من الجموع التبرعیة،فلا شاهد لهما.

ص:174

و فی المتن(و قد یجمع بینها و بین الاخبار المجوزة بحمل المانعة علی صورة اشتراط جعل الخشب صلیبا أو صنما أو تواطئهما علیه).

و فیه مضافا الی إطلاق الروایات المانعة،و عدم تقیدها بصورة الاشتراط،و إطلاق الروایات المجوزة،و عدم تقیدها بصورة عدم الاشتراط.أنه یرد علیه أولا:ما فی المتن من أنه لا داعی للمسلم الی هذا النحو من البیع ثم سؤاله عن حکمه.

و ثانیا:أن ذکر جواز بیع الخشب ممن یجعله برابط،و عدم جواز بیعه ممن یجعله صلبانا فی روایتی ابن أذینة و المقنع[1]لا یلائم هذا الجمع ضرورة أن حمل روایة واحدة علی جهتین متنافیتین من غیر تقیید شبیه بالجمع بینهما،فإن السؤال إن کان عن جواز البیع مع اشتراط الصرف فی جهة الحرام فلا یلائمه الجواب بجواز البیع فیما جعله برابط،و إن کان السؤال عن الجواز مع عدم الاشتراط فلا یلائمه الجواب بعدم الجواز فیما جعله أصناما أو صلبانا و الذی ینبغی أن یقال:إنه إذا تم عدم الفصل بین موارد الروایات المجوزة و المانعة کان من قبیل تعارض الدلیلین،فیؤخذ بالطائفة المجوزة،لموافقتها لعمومات الکتاب، کقوله تعالی: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، (وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ) ،(و تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ،و إن لم یثبت عدم الفصل بین مواردها کما احتمله المصنف وجب أن یقتصر بکل طائفة علی موردها و لا تصل النوبة إلی التعارض بینهما،و العمل بقواعده،و هذا هو الظاهر من الروایات، و تشهد له أیضا روایة ابن أذینة المفصلة بین الأصنام و البرابط.

و یقربه:أن شرب الخمر و صنعها،أو صنع البرابط و ضربها و إن کانت من المعاصی الکبیرة و الجرائم الموبقة،إلا أنها لیست کالشرک باللّه العظیم،لان اللّه لا یغفر أن یشرک به و یغفر ما دون ذلک،و علیه فیمکن اختلاف مقدمة الحرام من حیث الجواز و عدمه باختلاف ذی المقدمة من حیث الشدة و الضعف.و دعوی الإجماع علی عدم الفصل دعوی جزافیة،لذهاب صاحبی الوسائل و المستدرک فی عناوین الأبواب من کتابیهما الی التفصیل مضافا الی عدم حجیة الإجماع المنقول فی نفسه.

هذا کله بحسب الروایات،و حاصل جمیع ما ذکرناه:أنه لیس فی الروایات ما یدل علی

ص:175

حرمة بیع المباح ممن یجعله حراما.

و أما الصورة الثانیة(أعنی التکلم فی حکم المسألة من حیث القواعد)

فالکلام فیها من نواحی شتی،الاولی:فی تحقیق مفهوم الإعانة و بیان ما یعتبر فیه،الثانیة:فی حکم الإعانة علی الإثم،الثالثة:أنه علی القول بحرمة الإعانة علی الإثم فهل هی کحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه و الاعتبار،و لا تقبل التخصیص و التقیید،أو هی کحرمة الکذب التی تختلف بذلک و علیه فتتصف بالأحکام الخمسة.

حقیقة الإعانة و مفهومها

ما حقیقة الإعانة و مفهومها؟الظاهر أن مفهوم الإعانة کسائر المفاهیم التی لا یمکن تحدیدها إلا بنحو التقریب،فمفهوم الماء مثلا مع کونه من أوضح المفاهیم ربما یشک فی صدقه علی بعض المصادیق علی ما اعترف به المصنف فی أول کتاب الطهارة.

و قد وقع الخلاف فی بیان حقیقة الإعانة علی وجوه،الأول:ما استظهره المصنف من الأکثر،و هو أنه یکفی فی تحققها مجرد إیجاد مقدمة من مقدمات فعل الغیر و إن لم یکن عن قصد،و الثانی:ما أشار إلیه فی مطلع کلامه من أن الإعانة هی فعل بعض مقدمات فعل الغیر بقصد حصوله منه،لا مطلقا،ثم نسبه الی المحقق الثانی و صاحب الکفایة،و الثالث:

ما نسبه الی بعض معاصریه،من أنه یعتبر فی تحقق مفهومها وراء القصد المذکور وقوع الفعل المعان علیه فی الخارج،و الرابع:ما نسبه الی المحقق الأردبیلی من تعلیقه صدق الإعانة علی القصد أو الصدق العرفی،بداهة أن الإعانة قد تصدق عرفا فی موارد عدم وجود القصد مثل أن یطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فیعطیه إیاها،أو یطلب القلم لکتابة ظلم فیعطیه أباه،و نحو ذلک مما یعد معونة عرفا،و الخامس:الفرق بین الإعانة فی المقدمات القریبة فتحرم و بین المقدمات البعیدة فلا تحرم،السادس:عدم اعتبار شیء فی صدق الإعانة إلا وقوع المعان علیه فی الخارج.

و أوجهها هو الوجه الأخیر،و تحقیق ذلک ببیان أمرین:الأول فی بیان عدم اعتبار العلم و القصد فی مفهوم الإعانة،و الثانی فی بیان اعتبار وقوع المعان علیه فی صدقها.

أما الأمر الأول:فإن صحة استعمال کلمة الإعانة و ما اقتطع منها فی فعل غیر القاصد بل و غیر الشاعر بلا عنایة و علاقة تقتضی عدم اعتبار القصد و الإرادة فی صدقها لغة، کقوله«ع»فی دعاء أبی حمزة الثمالی:(و أعاننی علیها شقوتی)و قوله تعالی (1):

ص:176


1- 1) سورة البقرة،آیة:42.

(وَ اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ).و فی بعض الروایات[1]أن المراد بالصبر هو الصوم.

و فی أحادیث الفریقین[2]:(من أکل الطین فمات فقد أعان علی نفسه).و من البدیهی أن آکل الطین لم یقصد موته بذلک،بل یری أن حیاته فیه.و فی روایة أبی بصیر[3]:

(فأعینونا علی ذلک بورع و اجتهاد).و من المعلوم أن المعین علی ذلک بالورع و الاجتهاد لا یقصد الإعانة علیه فی جمیع الأحیان،و کذلک ما فی بعض الأحادیث[4]من قوله«ع»:

(من أعان علی قتل مؤمن و لو بشطر کلمة).و کذلک قوله(صلی الله علیه و آله) (1):(من تبسم علی وجه مبدع فقد أعان علی هدم الإسلام).و فی روایة أبی هاشم الجعفری (2):(و رزقک

ص:177


1- 1) راجع ج 2 المستدرک ص 389.
2- 2) راجع ج 3 الوافی باب تذاکر الاخوان ص 116.

العافیة فأعانتک علی الطاعة).و فی الصحیفة الکاملة السجادیة فی دعائه علیه السلام فی طلب الحوائج(و اجعل ذلک عونا لی)و أیضا یقال:الصوم عون للفقیر،و الثوب عون للإنسان،و سرت فی الماء و أعاننی الماء و الریح علی السیر،و أعانتنی العصا علی المشی، و کتبت باستعانة القلم،الی غیر ذلک من الاستعمالات الکثیرة الصحیحة،و دعوی کونها مجازات جزافیة لعدم القرینة علیها.

و نتیجة جمیع ذلک أنه لا یعتبر فی تحقق مفهوم الإعانة علم المعین بها.و لا اعتبار الداعی إلی تحققها،لبدیهة صدق الإعانة علی الإثم علی إعطاء العصا لمن یرید ضرب الیتیم و ان لم یعلم بذلک،أو علم و لم یکن إعطاؤه بداعی وقوع الحرام کما لا یخفی.

و یدل علی ما ذکرناه ما تقدمت الإشارة إلیه من أن القصد سواء کان بمعنی الإرادة و الاختیار أم بمعنی الالتفات لا یعتبر فی مفهوم الإعانة.

و علی الجملة لا نعرف وجها صحیحا لاعتبار القصد بأی معنی کان فی صدق الإعانة، و من هنا لا نظن أن أحدا ینکر تحقق الإعانة بإعطاء السیف أو العصا لمن یرید الظلم أو القتل و لو کان المعطی غیر ملتفت الی ضمیر مرید الظلم أو القتل،أو کان غافلا عنه.نعم لو نسب ذلک الی الفاعل المختار انصرف الی صورة العلم و الالتفات.

و أما الأمر الثانی فالذی یوافقه الاعتبار و یساعد علیه الاستعمال هو تقیید مفهوم الإعانة بحسب الوضع بوقوع المعان علیه فی الخارج،و منع صدقها بدونه.و من هنا لو أراد شخص قتل غیره بزعم أنه مصون الدم،و هیأ له ثالث جمیع مقدمات القتل،ثم أعرض عنه مرید القتل،أو قتله ثم بان أنه مهدور الدم فإنه لا یقال:إن الثالث أعان علی الإثم بتهیئة مقدمات القتل،کما لا تصدق الإعانة علی التقوی إذا لم یتحقق المعان علیه فی الخارج،کما إذا رأی شبحا یغرق فتوهم أنه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له علی التقوی فبان أنه خشبة و قد یمنع من اعتبار وقوع المعان علیه فی الخارج فی مفهوم الإعانة و صدقها،بدعوی أنه لو أراد رجلا التهجم علی بیضة الإسلام أو علی قتل النفوس المحترمة فهیأ لهما آخران جمیع مقدمات القتال فمضی أحدهما و ندم الآخر،فإنه لا شبهة فی استحقاق کل من المهیئین الذم و اللوم من جهة الإعانة علی الإثم و إن تحقق الفعل المعان علیه فی أحدهما و لم یتحقق فی الآخر،فلو کان ذلک شرطا فی صدق الإعانة لم یتوجه الذم إلا علی الأول.

و فیه أن الصادر من النادم لیس إلا التجری،و هو علی تقدیر الالتزام بقبحه و استحقاق العقاب علیه لا یصدق علیه الإثم لتکون الإعانة علیه إعانة علی الإثم.و أما إذا قلنا بعدم استحقاق العقاب علیه فان الأمر أوضح،مع أنه لا مضایقة فی صحة ذم معینة،بل فی صحة

ص:178

عقابه أیضا بناء علی حرمة الإعانة علی الإثم و صحة العقاب علی التجری،فإن المعین حینئذ یری نفسه عاصیا لتخیله أنه معین علی الإثم فهو متجر فی فعله،و المفروض أن التجری یوجب استحقاب العقاب.

و قد تجلی من جمیع ما ذکرناه ما فی بقیة الوجوه و الأقوال المتقدمة من الوهن و الخلل.

کما اتضح ضعف ما أورده المصنف علی بعض معاصریه من أن(حقیقة الإعانة علی الشیء هو الفعل بقصد حصول ذلک الشیء سواء حصل فی الخارج أم لا،و من اشتغل ببعض مقدمات الحرام الصادر من الغیر بقصد التوصل الیه فهو داخل فی الإعانة علی الإثم.

ثم لا یخفی:أن عنوان الإعانة کما یتوقف علی تحقق الفعل المعان علیه فی الخارج فکذلک یتوقف علی تحقق المعین و المعان:بأن یکونا مفروضی الوجود مع قطع النظر عن تحقق الإعانة فی الخارج لیقع فعل المعین فی سلسلة مقدمات فعل المعان،فیکون عنوان الإعانة بهذا الاعتبار من الأمور الإضافیة،و علیه فإیجاد موضوع الإعانة کتولید المعین مثلا خارج عن حدودها.و إلا لحرم التناکح و التناسل.للعلم العادی بأن فی نسل الإنسان فی نظام الوجود من یرتکب المعاصی،و تصدر منه القبائح.

و أما مسیر الحاج و متاجرة التاجر مع العلم بأخذ المکوس و الکمارک،و هکذا عدم التحفظ علی المال مع العلم بحصول السرقة کلها داخل فی عنوان الإعانة،فإنه لا وجه لجعل أمثالها من قبیل الموضوع للإعانة و خروجها عن عنوانها،کما زعمه شیخنا الأستاذ و المحقق الایروانی،کما لا وجه لما ذهب الیه المصنف(ره)من إخراجها عن عنوان الإعانة من حیث إن التاجر و الحاج غیر قاصدین لتحقق المعان علیه،لما عرفت من عدم اعتبار القصد فی صدقها.

و قد ظهر من مطاوی جمیع ما ذکرناه:أن المدار فی عنوان الإعانة هو الصدق العرفی، و علیه فلا یفرق فی ذلک بین المقدمات القریبة و المقدمات البعیدة،و لذلک صح إطلاق المعین علی من تسبب فی قضاء حوائج الغیر و لو بوسائط بعیدة.

حکم الإعانة علی الإثم

ما حکم الإعانة علی الإثم؟الظاهر جواز ذلک لانه مقتضی الأصل الاولی،و لا دلیل یثبت حرمة الإعانة علی الإثم و إن ذهب المشهور و بعض العامة[1]إلی الحرمة،و علیه

ص:179

فالحکم هو جواز الإعانة علیه إلا ما خرج بالدلیل،کإعانة الظالمین و إعانة أعوانهم و تهیئة مقدمات ظلمهم،لاستفاضة الروایات علی حرمة إعانتهم و تقویتهم و تعظیم شوکتهم و لو بمدة قلم أو بکتابة رقعة أو بجبایة خراج و نحوها،و سیأتی هذه الروایات فی البحث عن معونة الظالمین،بل الحرمة فی هذا النحو من الإعانة مما استقل به العقل،و قامت علیه ضرورة العقلاء،بل قال فی العروة فی مسألة 29 من صلاة المسافر:إنه لو کانت تبعیة التابع إعانة للجائر فی جوره وجب علیه التمام و إن کان سفر الجائر طاعة فإن التابع حینئذ یتم مع أن المتبوع یقصر.

قوله بعموم النهی عن التعاون علی الإثم و العدوان. أقول:استدلوا علی حرمة الإعانة علی الإثم بوجوه،الوجه الأول:قوله تعالی (1): (وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ) .فان ظاهرها حرمة المعاونة علی الإثم و العدوان مطلقا.

و فیه أن التعاون عبارة عن اجتماع عدة من الأشخاص لإیجاد أمر من الخیر أو الشر لیکون صادرا من جمیعهم،کنهب الأموال و قتل النفوس و بناء المساجد و القناطر.و هذا بخلاف الإعانة فإنها من الافعال،و هی عبارة عن تهیئة مقدمات فعل الغیر مع استقلال ذلک الغیر فی فعله،و علیه فالنهی عن المعاونة علی الإثم لا یستلزم النهی عن الإعانة علی الإثم فلو عصی أحد فأعانه الآخر فإنه لا یصدق علیه التعاون بوجه،فان باب التفاعل یقتضی صدور المادة من کلا الشخصین،و من الظاهر عدم تحقق ذلک فی محل الکلام.

نعم قد عرفت فیما سبق حرمة التسبیب الی الحرام و جعل الداعی إلیه،لکن حرمة ذلک لا تستلزم الحرمة فی المقام.

الوجه الثانی:ادعاء الإجماع علی ذلک.و فیه أنها دعوی جزافیة،لاحتمال کون مدرک المجمعین هی الوجوه المذکورة فی المسألة،فلا یکون إجماعا تعبدیا.مضافا الی عدم حجیة الإجماع المنقول فی نفسه.

الوجه الثالث:أن ترک الإعانة علی الإثم دفع للمنکر،و دفع المنکر واجب کرفعه، و الیه أشار المحقق الأردبیلی فی محکی کلامه،حیث استدل علی حرمة بیع العنب فی المسألة

ص:180


1- 1) سورة المائدة،آیة:3.

بأدلة النهی عن المنکر،و استشهد له المصنف بروایة أبی حمزة[1]عن أبی عبد اللّه«ع» من أنه لو لا أن بنی أمیة وجدوا لهم من یکتب و یجبی لهم الفیء و یقاتل عنهم و یشهد جماعتهم لما سلبوا حقنا).

و فیه أولا:أن الاستدلال بدفع المنکر هنا إنما یتجه إذا علم المعین بانحصار دفع الإثم بترکه الإعانة علیه،و أما مع الجهل بالحال،أو العلم بوقوع الإثم بإعانة الغیر علیه فلا یتحقق مفهوم الدفع.

و ثانیا:أن دفع المنکر إنما یجب إذا کان المنکر مما اهتم الشارع بعدم وقوعه،کقتل النفوس المحترمة،و هتک الاعراض المحترمة،و نهب الأموال المحترمة،و هدم أساس الدین و کسر شوکة المسلمین،و ترویج بدع المضلین و نحو ذلک،فان دفع المنکر فی هذه الأمثلة و نحوها واجب بضرورة العقل و اتفاق المسلمین،و قد ورد الاهتمام به فی بعض الأحادیث[2] و أما فی غیر ما یهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا دلیل علی وجوب دفع المنکر،و علی کلا الوجهین فالدلیل أخص من المدعی.

و أما النهی عن المنکر فإنه و إن کان سبیل الأنبیاء و منهاج الصلحاء و فریضة عظیمة بها تقام الفرائض و تحل المکاسب و ترد المظالم،إلا أنه لا یدل علی وجوب دفع المنکر،فان معنی دفع المنکر هو تعجیز فاعله عن الإتیان به و إیجاده فی الخارج سواء ارتدع عنه باختیاره أم لم یرتد،و النهی عن المنکر لیس إلا ردع الفاعل و زجره عنه علی مراتبه المقررة فی الشریعة المقدسة.و علی الإجمال:إنه لا وجه لقیاس دفع المنکر علی رفعه.و أما روایة أبی حمزة فمضافا الی ضعف السند فیها أنها أجنبیة عن رفع المنکر فضلا عن دفعه،لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة.

قال المحقق الایروانی:(الرفع هنا لیس إلا الدفع فمن شرع بشرب الخمر فبالنسبة إلی جرعة شرب لا معنی للنهی عنه و بالنسبة الی ما لم یشرب کان النهی دفعا عنه).

ص:181

و فیه أن مرجع الرفع و إن کان الی الدفع بالتحلیل و التدقیق إلا أن الاحکام الشرعیة و موضوعاتها لا تبتنی علی التدقیقات العقلیة،و لا شبهة فی صدق رفع المنکر فی العرف و الشرع علی منع العاصی عن إتمام المعصیة التی ارتکبها بخلاف الدفع.

قوله و توهم أن البیع حرام علی کل أحد فلا یسوغ لهذا الشخص فعله معتذرا بأنه لو ترکه لفعله غیره. أقول:محصل الاشکال ما ذکره المحقق الایروانی:من أن النهی عن الطبیعة ینحل إلی نواهی متعددة حسب تعدد أفراد تلک الطبیعة علی سبیل العموم الاستغراقی فکان کل فرد تحت نهی مستقل،و علی هذا فترک بیع فرد من العنب دفع لتخمیر هذا الفرد و إن علم أن عنبا آخر یباع و یخمر لو لم یبع هو هذا،فإذا تراکمت التروک بترک هذا للبیع و ترک ذاک له و هکذا حصل ترک التخمیر رأسا،و کان کل ترک مقدمة لترک فرد من الحرام،لا أن مجموع التروک یکون مقدمة لترک حرام واحد.

و فیه أن النهی إنما ینحل إلی أفراد الطبیعة،لأن معنی النهی عن الشیء عبارة عن الزجر عنه،لما فیه من المفسدة الإلزامیة،فإذا توجه النهی إلی طبیعة ما و کان کل واحد من أفرادها مشتملا علی المفسدة الإلزامیة فلا محالة ینحل ذلک النهی إلی نواهی عدیدة حسب تعدد الافراد،و أما فی مثل المقام فإن منشأ النهی فیه هو أن لا یتحقق الإثم فی الخارج، فالغرض منه إنما هو الوصول الی ذلک،فإذا علم صدور الإثم فی الخارج و لو مع ترک الإعانة من شخص خاص فلا موجب لحرمتها،و هذا کما إذا نهی المولی عبیده عن الدخول علیه فی ساعة عینها لفراغه،فان غرضه یفوت إذا دخل علیه واحد منهم،فترتفع المبغوضیة عن دخول غیره.

و یدلنا علی ذلک ما فی الروایات المتقدمة من تجویزهم علیهم السلام بیع العنب و التمر و عصیرهما ممن یصنعها خمرا،إذ لو لم تدل تلک الروایات علی عدم حرمة الإعانة علی الإثم مطلقا فلا أقل من دلالتها علی عدم الحرمة فیما إذا علم المعین تحقق الحرام فی الخارج علی کل حال.

إذن فما نحن فیه من قبیل رفع الحجر الثقیل الذی لا یرفعه إلا جماعة من الناس،فان الوجوب یرتفع عن الجماعة بمخالفة شخص واحد منهم،و هکذا ما نحن فیه،لان عدم تحقق المعصیة من مشتری العنب یتوقف علی ترک کل أرباب العنب للبیع،لان ترک المجموع سبب واحد لترک المعصیة،کما أن بیع أی واحد منهم علی البدل شرط لتحقق المعصیة من المشتری.

ص:182

تتمیم و فیه تأسیس

قد عرفت فیما تقدم:أن جواز الإعانة علی الإثم هو مقتضی الأصل لعدم الدلیل علی التحریم،و یمکن الاستدلال علیه مضافا الی ذلک بأمور:

الأول:انه لو لم تجز الإعانة علی الإثم لما جاز سقی الکافر،لکونه إعانة علی الإثم، لتنجس الماء بمباشرته إیاه،فیحرم علیه شربه،لکن السقی جائز،لقوله«ع»:(إن اللّه یحب إیراد الکبد الحرا).علی ما تقدم تفصیله فی البحث عن بیع المیتة المختلطة مع المذکی (1)فتجوز الإعانة علی الإثم.و الاعتذار عن ذلک بعدم قدرتهم علی شرب الماء الطاهرة فی حال الکفر اعتذار غیر موجه،إذ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار.

الثانی:أنک علمت سابقا استفاضة الروایات علی جواز بیع العنب و التمر و عصیرهما ممن یجعلها خمرا،و جواز بیع الخشب ممن یجعله برابط،و من الواضح جدا کون هذا البیع إعانة علی الإثم،و من أنکره فإنما أنکره بلسانه،أو هو مکابر لوجدانه،و بعدم القول بالفصل یثبت الجواز فی غیر موارد الروایات.

علی أن فی بعضها إشعارا إلی کلیة الحکم،و عدم اختصاصه بالأمور المذکورة فیها، کقول الصادق«ع»فی روایة أبی بصیر:(إذا بعته قبل أن یکون خمرا فهو حلال فلا بأس به).و فی روایة الحلبی عن بیع العصیر ممن یجعله حراما(فقال:لا بأس به تبیعه حلالا فیجعله حراما أبعده اللّه و أسحقه).و فی روایة ابن أذینة عن بیع العنب و التمر ممن یعلم أنه یجعله خمرا(فقال:إنما باعه حلالا فی الإناء الذی یحل شربه أو أکله فلا بأس ببیعه).فان الظاهر من هذه الروایات أن المناط فی صحة البیع هی حلیة المبیع للبائع حین البیع و إن کان بیعه هذه إعانة علی المحرم،و مثل هذه الروایات غیرها أیضا.

الثالث:قیام السیرة القطعیة علی الجواز،ضرورة جواز المعاملة مع الکفار و غیر المبالین فی أمر الدین من المسلمین ببیع الطعام منهم و لو کان متنجسا کاللحم و إعارة الأوانی إیاهم للطبخ و غیره،مع أنه إعانة علی أکل الطعام المتنجس بمباشرتهم إیاه،و وجوب تمکین الزوجة للزوج و إن علمت بعدم اغتساله عن الجنابة،فیکون التمکین إعانة علی الإثم، و أیضا قامت السیرة القطعیة علی جواز تجارة التاجر و مسیر الحاج و الزرار و إعطائهم الضربة المعینة للظلمة،مع أنه من أظهر مصادیق الإعانة علی الإثم.

و أیضا قضت الضرورة بجواز إجارة الدواب و السفن و السیارات و الطیارات من

ص:183


1- 1) ص 75.

المسافرین،مع العلم إجمالا بأن فیهم من یقصد فی رکوبه معصیة.و أیضا قامت السیرة القطعیة علی جواز عقد الأندیة و المجالس لتبلیغ الاحکام،و إقامة شعائر الافراح و الأحزان بل علی وجوبها فی بعض الأحیان إذا توقف علیها إحیاء الدین و تعظیم الشعائر،مع العلم بوقوع بعض المعاصی فیها من الغیبة و الاستهزاء و الکذب و الافتراء و نظر کل من الرجال و النساء الی من لا یجوز النظر الیه و غیرها من المعاصی.

قوله ثم إنه یمکن التفصیل فی شروط الحرام المعان علیها بین ما ینحصر فائدته و منفعته عرفا فی المشروط المحرم. أقول:قد ظهر مما ذکرناه أن المیزان فی حرمة المقدمة هو کونها سببا لوقوع ذی المقدمة،و إلا فلا وجه للتحریم و ان انحصرت فائدته فی الحرام.

قوله و إنما الثابت من العقلاء و العقل القاضی بوجوب اللطف وجوب رد من هم بها أقول:إن کان المنکر مثل قتل النفس و نحوه مما یهتم الشارع بعدم تحققه فلا ریب فی وجوب رفعه،بل دفعه شرعا و عقلا کما تقدم،و أما فی غیر الموارد التی یهتم الشارع بعدم تحققها فلا وجه لدعوی الوجوب العقلی فیها و ان ادعاه المشهور مطلقا،لمنع استقلال العقل بذلک فی جمیع الموارد،و لذا ذهب جمع من المحققین[1]الی الوجوب الشرعی.

حرمة الإعانة علی الإثم کحرمة الکذب

تقبل التخصیص

إن حرمة الإعانة علی الإثم علی فرض ثبوتها هل تقبل التخصیص و التقیید أم لا؟قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أن حرمة ذلک علی فرض ثبوتها إنما هی کحرمة الکذب تقبل التخصیص و التقیید،و تختلف بالوجوه و الاعتبار،و لیست هی کحرمة الظلم التی لا تختلف بذلک قال شیخنا الأستاذ:(لا إشکال فی عدم إمکان تخصیصها بعد تحقق موضوعها.لان هذه من العناوین الغیر القابلة للتخصیص،فإنها کنفس المعصیة و کالظلم،فإنه کما لا یمکن أن یکون معصیة خاصة مباحة فکذلک لا یمکن أن تکون الإعانة علی المعصیة مباحة،فما عن الحدائق بعد ما حکی عن الأردبیلی(ره)من القول بالحرمة فی مسألتنا من جهة کونها إعانة علی الإثم من أنه جید فی حد ذاته لو سلم من المعارضة بأخبار الجواز لا وجه له لانه لو کان بیع العنب ممن یعلم بأنه یعمله خمرا داخلا فی عنوان الإعانة فلا یمکن أن یدل دلیل

ص:184

علی جواز فمع ورود الدلیل علی الجواز نستکشف بأنه لیس داخلا فی هذا العنوان).

و لکن الوجوه المتقدمة الدالة علی الجواز حجة علیه،و من هنا لو أکره الجائر أحدا علی الإعانة علی الإثم أو اضطر إلیها فإنه لا شبهة حینئذ فی جوازها،و لو کانت حرمتها کحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه و الاعتبار،و لا تقبل التخصیص و التقیید لما کانت جائزة فی صورتی الإکراه و الاضطرار أیضا.

قوله و قد تلخص مما ذکرنا أن فعل ما هو من قبیل الشرط لتحقق المعصیة من الغیر من دون قصد توصل الغیر به الی المعصیة غیر محرم أقول:بعد ما علمت أنه لا دلیل علی حرمة الإعانة علی الإثم،و لا علی اعتبار القصد فی مفهوم الإعانة،و لا فی حکمها فلا وجه لما ذهب الیه المصنف و أتعب به نفسه من التطویل و التقسیم.ثم علی القول:بحرمة الإعانة علی الإثم فلا وجه للحکم بحرمة البیع فی شیء من الشقوق التی ذکرها المصنف،إذا الإعانة علی الإثم إنما تتحقق بالتسلیم و التسلم فی الخارج،و من الواضح أن بینهما و بین البیع عموما من وجه.

قوله و إن علم أو ظن عدم قیام الغیر سقط عنه وجوب الترک. أقول:إذا کان البیع علی تقدیر ترک الآخرین محرما فلا إشکال فی ارتفاع الحرمة عند العلم ببیع غیره، و أما مع الشک فیه فلا مانع من استصحاب ترکه.و الحکم بحرمة البیع،و أما الظن ببیع الغیر فما لم تثبت حجیته لا یغنی من الحق شیئا.

قوله ثم کل مورد حکم فیه بحرمة البیع من هذه الموارد الخمسة فالظاهر عدم فساد البیع. أقول:توضیح کلامه:أنه لا ملازمة بین الحرمة التکلیفیة و الحرمة الوضعیة فی المعاملات،فالبیع وقت النداء لصلاة الجمعة مثلا صحیح و إن کان محرما بالاتفاق.

و لو سلمنا الملازمة بینهما فلا نسلمها فیما إذا تعلق النهی بعنوان عرضی ینطبق علی البیع، کتعلقه بعنوان الإعانة فی بیع العنب ممن یعلم أنه یجعله خمرا،إذ بین عنوان الإعانة علی الإثم و بین البیع عموم من وجه.و علی القول بالفساد مطلقا أو فی الجملة فلا یفرق فی ذلک بین علم المتبایعین بالحال و بین علم أحدهما مع جهل الآخر،فان حقیقة البیع عبارة عن المبادلة بین العوض و المعوض فی جهة الإضافة،فإذا بطل من أحد الطرفین بطل من الطرف الآخر أیضا،إذ لا یعقل التبعیض من حیث الصحة و الفساد فی بیع واحد،کما هو واضح.

ص:185

القسم الثالث حرمة بیع السلاح من أعداء الدین

اشارة

قوله القسم الثالث ما یحرم لتحریم ما یقصد منه شأنا بمعنی أن من شأنه أن یقصد منه الحرام. أقول:هذا العنوان یعم جمیع الأشیاء و لو کانت مباحة،إذ ما من شیء إلا و له شأنیة الانتفاع به بالمنافع المحرمة،فلا یصح أن یجعل عنوانا للبحث،و لا بد من تخصیصه بالموارد المنصوصة،و لذا خصه الفقهاء ببیع السلاح من أعداء الدین.

ثم إن تحقیق هذه المسألة یقع فی ناحیتین،الناحیة الاولی:فی حرمة بیعه و جوازه فی الجملة أو مطلقا،و الأقوال فی ذلک و إن کانت کثیرة قد أنهاها السید فی حاشیته الی ثمان إلا أن الأظهر منها هی حرمة بیعه من الکفار مطلقا و من المخالفین عند محاربتهم مع الشیعة الناجیة.و ذهب بعض العامة[1]إلی حرمة بیعه فی حال الفتنة.

و فصل المصنف(ره)بین حالتی الحرب و الصلح،فذهب إلی الحرمة فی الاولی،و الی الجواز فی الثانیة،و ملخص کلامه:أن الروایات الواردة فی المقام علی طوائف،الاولی[2]

ص:186

ما دل علی جواز بیعه من أعداء الدین فی حال الهدنة الثانیة[1]ما دل علی جواز بیعه منهم مطلقا،الثالثة[2]ما دل علی حرمة بیعه منهم کذلک.

و یمکن الجمع بینها بحمل الطائفة المانعة علی صورة قیام الحرب بینهم و بین المسلمین،و حمل الطائفة المجوزة علی صورة الهدنة فی مقابل المبائنة و المنازعة،و شاهد الجمع الطائفة الأولی المفصلة بین الحالتین«الهدنة و المنازعة».

و عن الشهید فی حواشیه انه لا یجوز مطلقا،لان فیه تقویة الکافر علی المسلم،فلا یجوز

ص:187

علی کل حال،و یرد علیه أولا:أنه لا یمکن المساعدة علی دلیله،لان بیع السلاح علیهم قد لا یوجب تقویتهم علی المسلمین،لإمکان کونه فی حال الصلح،أو عند حربهم مع الکفار الآخرین،أو کان مشروطا بأن لا یسلمه إیاهم إلا بعد الحرب.

و ثانیا:أن رأیه هذا شبه اجتهاد فی مقابل النص،فإنه أخذ بظهور المطلقات الدالة علی المنع،و ترک للعمل بالمقید الذی هو نص فی مفهومه،و هو و إن لم یکن اجتهادا فی مقابل النص،و لکنه شبیه بذلک.انتهی حاصل کلام المصنف.

و لکن الظاهر أن ما ذهب الیه الشهید(ره)وجیه جدا،و لا یرد علیه شیء مما ذکره المصنف لوجوه،الأول:أن ما جعله وجها للجمع بین المطلقات لا یصلح لذلک،فان مورده هم الجائرون من سلاطین الإسلام،کما دل علیه السؤال فی روایتی الحضرمی و هند السراج عن حمل السلاح الی أهل الشام،«و قد ذکرناهما فی الهامش»إذ لا شبهة فی إسلامهم فی ذلک الزمان و إن کانوا مخالفین،فتکون الطائفة الأولی المفصلة بین الهدنة و قیام الحرب مختصة بغیر الکفار من المخالفین فلا یجوز بیعه منهم عند قیام الحرب بینهم و بین الشیعة،و اما فی غیر تلک الحالة فلا شبهة فی جوازه خصوصا عند حربهم مع الکفار،لان اللّه یدفع بهم أعداءه،و أما المطلقات فأجنبیة عن الطائفة المفصلة لاختصاصها بالمحاربین من الکفار و المشرکین الثانی:أنه لا وجه لرد کلام الشهید تارة برمیه الی شبه الاجتهاد فی مقابل النص، و اخری بتضعیف دلیله،أما الأول فلانه لا مناص هنا من العمل بالمطلقات لما عرفت من عدم صلاحیة الطائفة المفصلة للتقیید،فلا یکون ترک العمل بها و الأخذ بالمطلقات شبه اجتهاد فی مقابل النص،و أما الثانی فلان تقویة شخص الکافر بالسقی و نحوه و إن کان جائزا، إلا أن تقویته لجهة کفره غیر جائزة قطعا،و من الواضح أن تمکین المشرکین و المحاربین من السلاح یوجب تقویتهم علی المسلمین،بل ربما یستقل العقل بقبح ذلک،لان تقویتهم تؤدی الی قتل النفوس المحترمة.

ثم إن هذا کله لو تقارن البیع مع التسلیم و التسلم الخارجی،و إلا فلا شبهة فی جوازه، لما عرفت من أن بین البیع و عنوان الإعانة عموما من وجه،فلا یلزم من البیع المجرد تقویة الکافر علی الإسلام.

الثالث:أنه قد أمر فی الآیة الشریفة (1)بجمع الأسلحة و غیرها،للاستعداد و التهیئة الی إرهاب الکفار و قتالهم،فبیعها منهم و لو فی حال الهدنة نقض للغرض،فلا یجوز.

ص:188


1- 1) سورة الأنفال،آیة 62،قوله تعالی: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ وَ آخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ یَعْلَمُهُمْ) .

و أما ما دل علی الجواز فإنه لضعف سنده لا یقاوم الروایات المانعة،و یضاف إلیه أنه ظاهر فی سلاطین الجور من أهل الخلاف.

ثم إن السید(ره)فی حاشیته احتمل دخول هذا القسم الذی هو مورد بحثنا تحت الإعانة علی الإثم بناء علی عدم اعتبار القصد فیها،و کون المدار فیها هو الصدق العرفی،لحصول الصدق فی المقام،و حینئذ فیتعدی الی کل ما کان کذلک،و یؤیده قوله«ع»:یستعینون به علینا.

و فیه أن الإعانة علی الإثم و إن لم یعتبر فی مفهومها القصد،إلا انک قد عرفت أنها لیست محرمة فی نفسها و علی القول بحرمتها فبینها و بین ما نحن فیه عموم من وجه کما هو واضح، و أما قوله«ع»فی روایة هند السراج المتقدمة فی الهامش:(فمن حمل الی عدونا سلاحا یستعینون به علینا فهو مشرک).فخارج عن حدود الإعانة علی الإثم.و إنما یدل علی حرمة إعانة الظلمة،و لا سیما إذا کانت علی المعصومین علیهم السلام الموجبة لزوال حقوقهم.

قوله بل یکفی مظنة ذلک بحسب غلبة ذلک مع قیام الحرب. أقول:قد علمت أن الروایات المانعة تقتضی حرمة بیع السلاح من أعداء الدین و لو مع العلم بعدم صرفه فی محاربة المسلمین،أو عدم حصول التقوی لهم بالبیع،و علیه فلا وجه لما ذکره المصنف من تقیید حرمة البیع بوجود المظنة بصرف السلاح فی الحرب لغلبة ذلک عند قیامها بحیث یصدق حصول التقوی لهم بالبیع.

الناحیة الثانیة:الظاهر شمول التحریم لمطلق آلة الحرب و حدیدتها سواء کانت مما یدفع به فی الحرب أم مما یقاتل،و ذلک لوجوه:

الأول:أن السلاح فی اللغة[1]اسم لمطلق ما یکن.فیشمل مثل:المجن (1)و الدرع

ص:189


1- 1) فی القاموس:المجن و المجنة بکسرهما الترس،و الجنة بالضم کل ما وقی.

و المغفر (1)و سائر ما یکن به (2)فی الحرب.

الثانی:أنه تعالی أمر فی الآیة المتقدمة بالتهیئة و الاستعداد الی قتال الکفار و إرهابهم، فبیع السلاح منهم و لو بمثل المغفر و الدرع نقض لغرضه تعالی.

الثالث:أن تمکین الکفار من مطلق ما یکن به فی الحرب تقویة لهم فهو محرمة عقلا و شرعا کما علمت.

الرابع:أنه یحرم حمل السروج و أداتها الی أهل الشام،و بیعها منهم و الإعانة لهم عند قیام الحرب بینهم و بین الشیعة،لروایتی الحضرمی و هند السراج،فبیعها من الکفار أولی بالتحریم و لکن هذا الوجه یختص بحال الحرب،علی أن کلتا الروایتین ضعیفة السند.

وهم و دفع

قد یتوهم أن المراد بالسروج المذکورة فی روایة الحضرمی هی السیوف السریجیة،فلا تکون لها دلالة و لو بالفحوی علی حرمة بیع ما یکن من أعداء الدین.

و لکن هذا التوهم فاسد،فإنه مضافا الی أن الظاهر من کون السائل سراجا أن سؤاله متصل بصنعته(و هی عمل السروج و نقلها)فلا ربط له بالسیوف و بیعها،أن حمل السروج بالواو علی السیوف السریجیة لا تساعده القواعد اللغویة،لان السریجی یجمع علی سرجیات، لا علی سروج،و إنما السروج جمع سرج.علی أنه لا یساعده صدر الروایة،لاشتماله علی کلمة الأداة و لیست للسیف أدوات بخلاف السرج،و حملها علی أدوات السیف من الغمد و نحوه بعید جدا.

قوله بمقتضی أن التفصیل قاطع للشرکة. أقول:قد یقال:بجواز بیع ما یکن من الکفار لصحیحة محمد بن قیس[1]عن بیع السلاح من فئتین تلتقیان من أهل الباطل؟ فقال:بعهما ما یکنهما.

ص:190


1- 1) فی القاموس:المغفر کمنبر زرد من الدرع یلبس تحت القلنسوة،أو حلق یتقنع بها المتسلح.
2- 2) فی ج 9 تاج العروس ص 323:الکن بالکسر وقاء کل شیء و ستره،و کن أمره عنه أخفاه،و قال بعضهم:أکن الشیء ستره،و فی التنزیل العزیز:(أو أکننتم فی أنفسکم)أی أخفیتم.

و فیه ما ذکره المصنف من عدم دلالتها علی المطلوب،و توضیح ذلک:أن الامام«ع» فصل بین السلاح و بین ما یکن،فلا بد و أن یکون بیع السلاح حراما بعد ما جوز الامام بیع الثانی،لأن التفصیل قاطع للشرکة فی الحکم،و إلا لکان التفصیل لغوا،و علیه فترتفع الید عن ظهور الصحیحة،و تحمل علی فریقین محقونی الدماء من أهل الخلاف،إذ لو کان کلاهما أو أحدهما مهدور الدم لم یکن وجه لمنع بیع السلاح منهم،و حینئذ فیجب ان یباع منهما ما یکن لیتحفظ کل منهما عن صاحبه،و یتترس به عنه،بل لو لم یشتروا وجب إعطاؤهم إیاه مجانا،فان اضمحلالهم یوجب اضمحلال وجهة الإسلام فی الجملة،و لذا سکت علی«ع»عن مطالبة حقه من الطغاة خوفا من انهدام حوزة الإسلام،و من هنا أفتی بعض الأعاظم فی سالف الأیام بوجوب الجهاد مع الکفار حفظا للدولة العثمانیة.

قوله ثم إن مقتضی الاقتصار علی مورد النص عدم التعدی الی غیر أعداء الدین کقطاع الطریق. أقول:بیع السلاح من السرقة و قطاع الطریق و نحوهم خارج عن حریم بحثنا،و إنما هی من صغریات المسألة المتقدمة،فإن قلنا بحرمة الإعانة علی الإثم فلا یجوز بیعه منهم،و إلا جاز کما هو الظاهر.

قوله إلا أن المستفاد من روایة تحف العقول إباطه الحکم بتقوی الباطل و وهن الحق. أقول:لم یذکر ذلک فی روایة تحف العقول بل المذکور فیها هی حرمة و هن الحق و تقویة الکفر،و علیه فلا یمکن التمسک بها علی حرمة بیع السلاح من قطاع الطریق و نحوهم،نعم یجوز الاستدلال علی ذلک بقوله«ع»فیها:(أو شیء فیه وجه من وجوه الفساد).إلا أنک علمت فی أول الکتاب ان الروایة ضعیفة السند.

قوله ثم النهی فی هذه الاخبار لا یدل علی الفساد. أقول:لا شبهة فی ان الحرمة الوضعیة متقومة بکون النهی إرشادیا إلی الفساد،و لا نظر له إلی مبغوضیة المتعلق،کما ان قوام الحرمة التکلیفیة بکون النهی مولویا تکلیفیا ناظرا إلی مبغوضیة متعلقة،و لا نظر له الی فساده،و عدم تأثیره،فهما لا یجتمعان فی استعمال واحد.

و أیضا النهی من حیث هو تحریم بحت لا یقتضی الفساد لا شرعا.و لا عرفا،و لا عقلا، سواء تعلق بذات المعاملة،أو بوصفها،أو بأمر خارج منطبق علیها،إذن فلا ملازمة بین الحرمة الوضعیة و الحرمة التکلیفیة علی ما عرفت مرارا عدیدة.

ص:191

و علیه فان کان المراد بالنهی المتوجه إلی المعاملة هو النهی التکلیفی المولوی کما هو الظاهر منه بحسب الوضع و اللغة لدل علی خصوص الحرمة التکلیفیة،کالنهی عن البیع وقت النداء لصلاة الجمعة،إذ لیس الغرض منه إلا بیان مبغوضیة البیع.

و ان لم ترد منه المولویة التکلیفیة کان إرشادا إلی الفساد،کالنهی المتوجه إلی سائر المعاملات،أو الی المانعیة،کالنهی المتوجه الی أجزاء الصلاة.

إذا عرفت ذلک فنقول:ان النهی عن بیع السلاح من أعداء الدین لیس إلا لأجل مبغوضیة ذات البیع فی نظر الشارع،فیحرم تکلیفا فقط،و لا یکون دالا علی الفساد، و یتضح ذلک جلیا لو کان النهی عنه لأجل حرمة تقویة الکفر،لعدم تعلق النهی به،بل بأمر خارج یتحد معه.

النوع الثالث مما یحرم الاکتساب به ما لا منفعة فیه محللة معتدا بها عند العقلاء.

اشارة

جواز بیع ما لا نفع فیه قوله النوع الثالث مما یحرم الاکتساب به مالا منفعة فیه محللة معتدا بها عند العقلاء. أقول:البحث فی هذا النوع لیس علی نسق البحث فی الأنواع السابقة لنمحضه هنا لبیان الحرمة الوضعیة بخلافه فی المسألة السابقة فإن البحث فیها کان ناظرا إلی الحرمة التکلیفیة و من ذلک یعلم انه لا وجه لهذا البحث هنا إلا استطرادا فان المناسب لهذا ذکره فی شرائط العوضین و العجب من المصنف(ره)حیث ذکر عدم جواز بیع المصحف من الکافر فی شروط الصحة،مع انه اولی بالذکر هنا،لإمکان دعوی کونه حراما تکلیفا!.

ثم ان مالا نفع فیه تارة یکون لقلته کحبة من الشعیر و الحنطة و غیرهما،فان هذه الأمور و ان کانت تعد عند العرف و الشرع من الأموال،بل من مهماتها،إلا ان قلتها أخرجتها عن حدودها،و حدود إمکان الانتفاع بها.و اخری یکون لخسته و ردائته، کحشرات الأرض من العقارب و الحیات و الخنافس و الجعلان و الضفادع و الدیدان، و کبعض اقساط الطیور من بغائها (1)و النسر و الغربان و الرخم (2)و نحوها.

تحقیق و تکمیل

قد تطابقت کلمات الأصحاب علی فساد المعاملة علی ما لا نفع فیه نفعا یعتد به.قال

ص:192


1- 1) فی القاموس:البغاث مثلثة طائر أغبر ج کغزلان و شرار الطیور.
2- 2) فی القاموس:الرخم طائر من الجوارح الکبیرة الجثة الوحشیة الطباع،الواحدة رخمة ج رخم.

الشیخ فی المبسوط (1):(و إن کان مما لا ینتفع به فلا یجوز بیعه بلا خلاف مثل الأسد و الذئب و سائر الحشرات).

و فی التذکرة (2)منع عن بیع تلک الأمور لحستها،و عدم التفات نظر الشرع الی مثلها فی التقویم،و لا یثبت لأحد الملکیة علیها،و لا اعتبار بما یورد فی الخواص من منافعها، فإنها مع ذلک لا تعد مالا،و کذا عند الشافعی.

و فی الجواهر ادعی الإجماع محصلا و منقولا علی حرمة بیع ما لا ینتفع به نفعا مجوزا للتکسب به علی وجه یرفع السفه عن ذلک.و علی هذا المنهج فقهاء العامة أیضا[1]و ان جوز بعضهم بیع الحشرات و الهوام إذا کانت مما ینتفع بها.

إذا عرفت ذلک فنقول:المتحصل من کلمات الفقهاء لفساد بیع ما لا نفع فیه وجوه:

الوجه الأول:أن حقیقة البیع کما عن المصباح عبارة عن مبادلة مال بمال،فلا یصح بیع ما لیس بمال.

و فیه أولا:انه لا یعتبر فی مفهوم البیع و صدقه لغة و عرفا عنوان المبادلة بین المالین، و من هنا ذکر فی القاموس:أن کل من ترک شیئا و تمسک بغیره فقد اشتراه،و من الواضح جدا عدم تحقق الاشتراء بدون البیع،للملازمة بینهما،و لذا قال الراغب الأصفهانی الشراء و البیع یتلازمان،بل کثر فی الکتاب[2]العزیز استعمال البیع و الشراء فی غیر المبادلة المالیة.

و أما ما عن المصباح فمضافا الی عدم حجیة قوله.أنه کسائر التعاریف لیس تعریفا حقیقیا،بل لمجرد شرح الاسم.فلا یبحث فیه طردا و عکسا نقضا و إبراما.

و ثانیا:أنه لو ثبت ذلک فغایة ما یلزم منه أنه لا یمکن تصحیح البیع بالعمومات الدالة

ص:193


1- 1) فی فصل ما یصح بیعه و ما لا یصح من فصول البیع.
2- 2) ج 1 ص 4 من البیع.

علی صحة البیع،و هو لا یمنع عن التمسک بالعمومات الدالة علی صحة العقد و التجارة عن تراض،بداهة صدقها علی تبدیل مالا نفع فیه بمثله،أو بما هو مال.

الوجه الثانی:ما عن الإیضاح من أن المعاملة علی ما لیس له نفع محلل أکل المال بالباطل فتکون فاسدة.

و فیه ما سمعته مرارا من أن الآیة أجنبیة عن بیان شرائط العوضین،بل هی ناظرة إلی تمییز الأسباب الصحیحة للمعاملة عن الأسباب الفاسدة لها،و علیه فلا یکون الأکل فی محل الکلام من أکل المال بالباطل بعد کون سببه تجارة عن تراض.

الوجه الثالث:أن بیع مالا نفع فیه من المعاملات السفهیة فهی فاسدة.و فیه أنه ممنوع صغری و کبری،أما الوجه فی منع الصغری فهو أن المعاملة إنما تکون سفهیة إذا انتفت عنها الأغراض النوعیة و الشخصیة کلتیهما،و لیس المقام کذلک،إذ ربما تتعلق الأغراض الشخصیة باشتراء مالا نفع فیه من الحشرات و غیرها،و هی کافیة فی خروج المعاملة عن السفهیة،و أما الوجه فی منع الکبری فلانه لا دلیل علی فساد المعاملة السفهیة بعد أن شملتها العمومات کما أشرنا الی ذلک مرارا،نعم قام الدلیل علی فساد معاملة السفیه،لکونه محجورا عن التصرف،و المعاملة السفهیة غیر معاملة السفیه.

الوجه الرابع:ما استدل به المصنف(ره)من قوله«ع»فی روایة تحف العقول:(و کل شیء یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات فذلک کله حلال بیعه و شراؤه).إذ لا یراد منه مجرد المنفعة و إلا لعم الأشیاء کلها.و قوله«ع»فی آخرها(إنما حرم اللّه الصناعة التی یجیء منها الفساد محضا نظیر کذا و کذا).الی آخر ما ذکره،فان کثیرا من الأمثلة المذکورة هناک لها منافع محللة،فالاشربة المحرمة مثلا کثیرا ما ینتفع بها فی معالجة الدواب بل الأمراض،فجعلها مما یجیء منه الفساد محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح لندرتها.

و فیه أن هاتین القطعتین من الروایة إنما سیقتا لبیان حکم الأشیاء التی تمحضت للصلاح أو للفساد،أو تساوت فیها الجهتان،أو غلبت إحداهما علی الأخری،فیحکم بصحة بیعها أو فساده حسب ما اقتضته تلک الجهة التعلیلیة المکنونة فیها،و أما الأشیاء التی لها نفع محلل نادر فخارجة عن حدود الروایة،إذ لیس فیها تعرض لذلک بوجه،لا من حیث صحة البیع و لا من حیث فساده،و علیه فلا مانع من صحة المعاملة علیها للعمومات.

علی أنها لو تمت فإنما تدل علی فساد بیع ما لا نفع فیه لخسته،لکونه مما یجیء منه الفساد محضا،و لا تشمل ما لا نفع فیه لقلته کحبة من الحنطة،إذ لیست فیه جهة فساد أصلا.

و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه فهی مختصة بالحرمة التکلیفیة علی ما تقدم فی أول الکتاب

ص:194

فلا تشمل الحرمة الوضعیة،و یضاف الی ما ذکرناه کله أنها ضعیفة السند فلا یصح الاستدلال بها.

الوجه الخامس:دعوی غیر واحد من الأعاظم الإجماع علی ذلک.و فیه أن المحصل منه غیر حاصل و المنقول منه لیس بحجة،علی أنا لا تطمئن بوجود الإجماع التعبدی الکاشف عن الحجة المعتبرة،لاحتمال استناد المجمعین الی الوجوه المذکورة فی المسألة.

و ربما یؤید القول بالجواز بصحیحة محمد بن مسلم[1]الصریحة فی جواز بیع الهر،مع أنه مما لا نفع فیه،بل کثیرا ما یضر الناس،و فی التذکرة (1):لا بأس ببیع الهر عند علمائنا و به قال ابن عباس و الحسن و ابن سیرین و الحکم و حماد و الثوری و مالک و الشافعی[2] و إسحاق و أصحاب الرأی.

و العجب من المصنف حیث منع عن بیع القرد لکون المصلحة المقصودة منه:أعنی حفظ المتاع نادرة بخلاف الهرة،لورود غیر واحد من الروایات علی جواز بیعها،و وجه العجب أن منافع القرد المحللة لیست بنادرة،بل هی من مهمات المنافع!!و إنما الوجه فی المنع عن بیع القرد هو الروایات التی تقدمت فی بیع المسوخ.

قوله و لو فرض الشک فی صدق المال علی مثل هذه الأشیاء المستلزم للشک فی صدق البیع. أقول:العلم بعدم صدق المال علی شیء لا یمنع عن وقوع البیع علیه فضلا عن الشک فی صدقه علیه،و إذن فلا وجه لرفع الید عن عموم ما دل علی صحة البیع و التمسک بعمومات التجارة و الصلح و العقود و الهبة المعوضة و غیرها کما صنعه المصنف.

قوله لان ظاهر تحریمها علیهم تحریم أکلها أو سائر منافعها المتعارفة. أقول:

ص:195


1- 1) ج 1 ص 3 من البیع.

هذا ینافی ما تقدم منه فی بیع الأبوال من حمل النبوی علی کون الشحوم محرمة الانتفاع علی الیهود بجمیع الانتفاعات.

قوله و منه یظهر أن الأقوی جواز بیع السباع بناء علی وقوع التذکیة علیهما .

أقول:یجوز بیع جلود السباع و الانتفاع بها علی وجه الإطلاق لجملة من الاخبار التی ذکرناها فی بیع المسوخ و السباع،و علیه فلا وجه لدعوی ان النص إنما ورد ببعضها فقط،فیجب تقیید جواز البیع به کما فی المتن.

ثم ان السباع مما یقبل التذکیة کما هو المشهور،بل عن السرائر الإجماع علیه.و تدل علیه موثقة سماعة التی تقدمت فی مبحث جواز الانتفاع بالمیتة،عن جلود السباع ینتفع بها؟ قال«ع»:(إذا رمیت و سمیت فانتفع بجلده).إلا أنه لا وجه لتعلیق جواز بیعها علی قبول التذکیة إلا علی القول بحرمة الانتفاع بالمیتة،و إلا فلا مانع من بیعها فی حال الحیاة للانتفاع بجلودها بعد الموت.

قوله و لو غصبه غاصب کان علیه مثله إن کان مثلیا. أقول الدلیل علی الضمان إنما هو السیرة القطعیة من العقلاء و المتشرعة،و علیه فلا بد و أن یخرج من عهدة الضمان إما برد عینه أو مثله،و مع فقدهما لا یمکن الخروج منها بأداء القیمة،بل أصبح الغاصب مشغول الذمة لصاحب العین الی یوم القیامة مثل المفلس،إذ الانتفاع إلی القیمة إنما هو فیما إذا کان التالف من الأموال.فلا ینتقل إلیها إذا لم یکن التالف مالا.

و ربما یتمسک للقول بالضمان بقاعدة ضمان الید،لشمولها لمطلق المأخوذ بالغصب سواء کان من الأموال أو من غیرها.

و فیه ان القاعدة و إن ذکرت فی بعض الأحادیث[1]و استند إلیها المشهور فی موارد الضمان.و لکنها ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء کما سیأتی التعرض لها فی المقبوض بالعقد الفاسد.

ص:196

و قد یتمسک للضمان بقاعدة الإتلاف(من أتلف مال الغیر فهو له ضامن)و لکنه واضح الفساد لاختصاص موردها بالأموال،فلا تشمل غیرها.نعم لو انفصلت کلمة ألما عن اللام و أرید من الأول الموصول و من الثانی حرف الجر بحیث تکون العبارة هکذا:(من أتلف ما للغیر إلخ)لشملت هذه القاعدة صورة الإتلاف و غیره،إلا انه بعید جدا.علی ان القاعدة المذکورة متصیدة و لیست بمتن روایة.و کیف کان فموردها.خصوص الإتلاف، فلا تدل علی الضمان عند عدمه،فلا دلیل علی الضمان إلا السیرة کما عرفت.

قوله خلافا للتذکرة فلم یوجب شیئا کغیر المثلی )أقول:ضعفه بعضهم بأن اللازم حینئذ عدم الغرامة فیما لو غصب صبرة تدریجا.و یرد علیه ان نظر العلامة(ره)لیس إلا عدم الضمان مطلقا،بل فیما إذا لم یکن المغصوب مقدارا یصدق علیه عنوان المال،و من البدیهی ان کل حبة من الصبرة و إن لم تکن مالا بشرط لا و مجردة عن الانضمام إلی حبة أخری،إلا انها إذا انضمت الی غیرها من الحبات صارت مالا،فتشملها أدلة الضمان.

فرع

لو حاز مالا نفع له کالحشرات لثبت له الاختصاص به،فیکون أولی به من غیره، فلیس لأحد ان یزاحمه فی تصرفاته فیه للسیرة القطعیة.علی ان أخذ المحاز من المحیز قهرا علیه ظلم،فهو حرام عقلا و شرعا.و أما حدیث(من سبق الی ما لم یسبق إلیه أحد من المسلمین فهو أحق به)فقد تقدم انه ضعیف السند،و غیر منجبر بشیء.

النوع الرابع ما یحرم الاکتساب به لکونه عملا محرما فی نفسه

حکم تدلیس الماشطة

قوله النوع الرابع ما یحرم الاکتساب به لکونه عملا محرما فی نفسه. أقول:

قد جرت عادة الأصحاب بالبحث عن جملة من الأعمال المحرمة فی مقدمة أبحاث التجارة و تبعهم المصنف بذکر أکثرها فی مسائل شتی بترتیب حروف أوائل عنواناتها،و نحن أیضا نقتفی أثرهم.

ثم إنک قد علمت فی البحث عن معنی حرمة البیع تکلیفا انه یکفی فی عدم جواز المعاملة علی الأعمال المحرمة ما دل علی حرمتها من الأدلة الأولیة،إذ مقتضی أدلة صحة العقود لزوم الوفاء،بها و مقتضی أدلة المحرمات حرمة الإتیان بها،و هما لا یجتمعان.و علیه فلا موجب المبحث فی کل مسألة من المسائل الآتیة عن صحة المعاملة علیها و فسادها،بل فی جهات اخری،و أما ما فی حاشیة السید من عدم جواز أخذ الأجرة علی العمل المحرم لقوله«ع»:

إن اللّه إذا حرم شیئا حرم ثمنه،فان المراد من الثمن مطلق العوض،فهو فاسد،فإنه مضافا

ص:197

الی ضعف سند هذا الحدیث،أنا نمنع صدق الثمن علی مطلق العوض.

قوله المسألة الأولی:تدلیس الماشطة المرأة التی یراد تزویجها أو الأمة التی یراد بیعها حرام. أقول:الماشطة و المشاطة التی تحسن المشط.و تتخذ ذلک حرفة لنفسها.

و الظاهر انه لا خلاف فی حرمة تدلیسها إذا أظهرت فی المرأة التی یراد تزویجها،أو الأمة التی یراد بیعها ما لیس فیهما من المحاسن،بل ادعی علیه الإجماع کما فی الریاض و غیره، قال فی تجارة المقنع:(و لا بأس بکسب الماشطة إذا لم تشارط و قبلت ما تعطی و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها).و فی المکاسب المحظورة من النهایة:(کسب المواشط حلال إذا لم یغششن و لا یدلسن فی عملهن فیصلن شعر النساء بشعر غیرهن من الناس و یوشمن الخدود و یستعملن ما لا یجوز فی شریعة الإسلام)و فی فتاوی العامة[1]انه لا یجوز وصل شعر الإنسان بشعر المرأة.

و تحقیق هذه المسألة فی ثلاث جهات،الجهة الاولی:فی تدلیس الماشطة.الظاهر انه لا دلیل علی حرمة التدلیس و الغش من حیث هما تدلیس و غش إلا فی بیع أو شراء أو تزویج للروایات الخاصة التی سنتعرض لها فی البحث عن حرمة الغش،بل ربما یکونان مطلوبین للعقلاء، کتزیین الدور و الألبسة و الأمتعة،لإظهار العظمة و الشوکة و حفظ الکیان و إراءة انها جدیدة،نعم لو قلنا بحرمة الإعانة علی الإثم لکان تزیین المرأة التی فی معرض التزویج أو الأمتعة التی فی معرض البیع حراما،لکونه مقدمة للغش المحرم.

و قد أجاد المحقق الایروانی حیث قال:(إن الماشطة لا ینطبق علی فعلها غش و لا تدلیس و إنما الغش یکون بفعل من یعرض المغشوش و المدلس فیه علی البیع،نعم الماشطة أعدت المرأة لأن یغش بها،و حالها کحال الحائک الذی بفعله تعد العامة لأن یدلس بلبسها، و کفعل صانع السبحة لان یدلس بالتسبیح بها ریاء.و اما نفس التمشیط فلا دلیل یدل علی المنع عنه بقول مطلق،بل الاخبار رخصت فیه).

الجهة الثانیة:فی تمشیط الماشطة.الظاهر انه لا دلیل علی المنع عنه بقول مطلق و إن

ص:198

ورد النهی عن خصوص وصل الشعر بالشعر،بل یتجلی من الاخبار[1]الکثیرة جوازه

ص:199

مطلقا سواء اشترت فیه الأجرة أ لم تشترط،بل فی روایة قاسم بن محمد صرح بجواز تعیش الماشطة بالتمشیط إذا لم تصل الشعر بالشعر.

و قد یقال:بتقییدها بمفهوم مرسلة الفقیه و فقه الرضا[1]فإنهما تدلان علی جواز کسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطی،إذ مفهومهما یدل علی حرمة کسبها مع انتفاء القیدین أو أحدهما،فتقید به المطلقات،و علیه فالنتیجة انه لا بأس بکسب الماشطة إذا لم تشارط الأجرة و قبلت ما تعطی،و الا فیحرم کسبها.

و فیه أولا:انهما ضعیفتا السند،فلا یجوز الاستدلال بهما علی الحرمة.نعم لا بأس بالاستدلال بهما علی الکراهة بناء علی شمول اخبار من بلغ للمکروهات.و ما ذکره المصنف من ان(المراد بقوله«ع»:إذا قبلت ما تعطی البناء علی ذلک حین العمل و إلا فلا یلحق العمل بعد وقوعه ما یوجب کراهته).بین الخلل،فإنه لا موجب لهذا التوجیه بعد إمکان الشرط المتأخر و وقوعه.فلا غرو فی تأثیر عدم القبول بعد العمل فی کراهة ذلک العمل،کتأثیر الأغسال اللیلیة فی صحة الصوم علی القول به.

و ثانیا:ما ذکره المصنف(ره)،و ملخص کلامه:أن الوجه فی أولویة قبول ما تعطی و عدم مطالبتها بالزیادة إنما هو أحد أمرین علی سبیل منع الخلو:

الأول:ان ما یعطی للماشطة و الحجام و الختان و الحلاق و أمثالهم لا ینقص غالبا عن اجرة مثل عملهم،إلا أنهم لکثرة حرصهم و دناءة طباعهم یتوقعون الزیادة،خصوصا من أولی المروة و الثروة،بل لو منعوا عما یطلبونه بادروا الی السب و هتک العرض،و لذا أمروا فی الشریعة المقدسة بالقناعة بما یعطون و ترک المطالبة بالزائد عنه.

الثانی:ان المشارطة و المماکسة فی مثل تلک الأمور لا تناسب المحترمین من ذوی المجد و الفخامة،کما أن المسامحة فیها ربما توجب المطالبة بأضعاف أجرة المثل،فلذلک أمر الشارع أصحاب هذه الاعمال بترک المشارطة و الرضا بما یعطی لهم،و هذا کله لا ینافی جواز المطالبة بالزائد،و الامتناع عن قبول ما یعطی إذا اتفق کونه أقل من اجرة المثل،إذ لا یجوز الإعطاء أقل من ذلک لاحترام عملهم.

ص:200

قوله و لأن الاولی فی حق العامل قصد التبرع. أقول:المرسلة إنما دلت علی عدم المشارطة المستلزمة لعدم تحقق الإجارة المعتبر فیها تعیین الأجرة،و هذا لا یستلزم قصد التبرع،لجواز ان یکون إیجاد العمل بأمر الآمر،فیکون امره هذا موجبا للضمان بأجرة المثل،کما هو متعارف فی السوق کثیرا.

قوله:«فلا ینافی ذلک ما ورد». أقول:إن تم ما ذکره المصنف من حمل المرسلة علی ان الاولی بالعامل ان یقصد التبرع کانت المرسلة خارجة عن حدود الإجارة موضوعا.

و إن لم یتم ذلک فلا بد و ان یلتزم بتخصیص ما دل[1]علی اعتبار تعیین الأجرة قبل العمل بواسطة المرسلة إذا کانت حجة،و إلا فیرد علمها إلی أهلها.

الجهة الثالثة:قد ورد فی بعض الاخبار[2]لعن الماشطة علی خصال أربع:الوصل،

ص:201

و النمص،و الوشم،و الوشر.أما الوصل فان کان المراد به ما هو المذکور فی روایتی سعد الإسکاف و الاحتجاج المتقدمتین فی الحاشیة من تفسیر الواصلة بالفاجرة و القوادة فحرمته من ضروریات الإسلام،و سیأتی التعرض لذلک فی البحث عن حرمة القیادة.

و إن کان المراد به ما فی تفسیر علی بن غراب من أن(الواصلة التی تصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها).فقد یقال بحرمته أیضا لظهور اللعن فیها.

و لکن یرد علیه أولا:أنه لا حجیة فی تفسیر ابن غراب،لعدم کونه من المعصوم،مع ورود الرد علیه فی روایتی سعد الإسکاف و الاحتجاج،و تفسیر الواصلة و الموصولة فیها بمعنی آخر،و یحتمل قریبا أنه أخذ هذا التفسیر من العامة فإن مضمونه مذکور فی سنن البیهقی (1).

و ثانیا:لو سلمنا اعتباره فإنه لا بد و أن یحمل علی الکراهة،کما هو مقتضی الجمع بین الروایات،و توضیح ذلک أن الروایات الواردة فی وصل الشعر بشعر امرأة علی ثلاث طوائف الأولی:ما دل علی الجواز مطلقا کروایة سعد الإسکاف المتقدمة(عن القرامل التی تضعها النساء فی رؤوسهن یصلنه بشعورهن؟فقال:لا بأس علی المرأة بما تزینت به لزوجها) و کروایة الاحتجاج[1].

الثانیة:ما دل علی التفصیل بین شعر المرأة و شعر غیرها،و جوّز الوصل فی الثانی دون الأول،کقوله«ع»فی مرسلة الفقیه المتقدمة:(لا بأس بکسب الماشطة ما لم تشارط و قبلت ما تعطی و لا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها و أما شعر المعر فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة) الثالثة:ما تظهر منه الحرمة فی مطلق وصل الشعر بالشعر کجملة من الروایات المتقدمة من الفریقین،و کروایتی عبد اللّه بن الحسن[2]

ص:202


1- 1) ج 7 ص 312.

و ثابت بن أبی سعید[1]و هاتان الروایتان تدلان أیضا علی جواز وصل الصوف بالشعر.

و مقتضی الجمع بینهما أن یلتزم بجواز وصل شعر المعز بشعر المرأة فلا کراهة،و بجواز وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخری مع الکراهة،فإن ما دل علی المنع مطلقا یقید بما دل علی جواز الوصل بشعر المعز،و ما دل علی حرمة وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخری یحمل علی الکراهة،لما دل علی جواز تزین المرأة لزوجها مطلقا،فإن روایة سعد الإسکاف و ان کانت بصراحتها تدفع توهم السائل من حیث الموضوع و هو إرادة وصل الشعر بالشعر من الواصلة و الموصولة،و لکنها ظاهرة أیضا فی جواز وصل الشعر بالشعر مطلقا،إذ لو لم یکن جائزا لکان علی الامام«ع»أن یدفع توهم السائل من حیث الحکم،فیقول له مثلا:

إن وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخری حرام،علی أن روایتی عبد اللّه بن الحسن و ثابت غیر ظاهرتین فی الحرمة کما هو واضح لمن یلاحظهما.

بقی هنا أمران،الأول:أن روایة سعد مختصة بزینة المرأة لزوجها.فلا تدل علی جواز الوصل مطلقا.

و فیه أنها و إن کانت واردة فی ذلک إلا أن من المقطوع به أن جواز تزین المرأة لزوجها لا یسوغ التزیین بالمحرم کما تقدم،فیعلم من ذلک أن وصل الشعر بالشعر و لو بشعر امرأة کان من الأمور السائغة فی نفسها.

الثانی:أن روایة سعد مطلقة تدل علی جواز وصل الشعر بالشعر مطلقا و لو کان شعر امرأة أخری،فتقید بما اشتمل علی النهی عن وصل شعر المرأة بشعر امرأة غیرها.

و فیه أن روایة سعد و إن کانت مطلقة و لکن السؤال فیها کان عن خصوص وصل الشعر بالشعر،فلو کان فی بعض أفراده فرد محرم لوجب علی الامام«ع»أن یتعرض لبیان حرمته فی مقام الجواب،فیعلم من ذلک أنه لیس بحرام،هذا کله مع صحة الروایات، و لکنها جمیعا ضعیفة السند،و إذن فمقتضی الأصل هو الجواز مطلقا.

و ربما یقال:إن لعن الواصلة فی النبوی صریح فی الحرمة،فلا یجوز حمله علی الکراهة،

ص:203

و فیه مضافا الی ضعف سنده،و استعمال اللعن فی الأمور المکروهة فی بعض الأحادیث[1] أن اللعن لیس بصریح فی الحرمة حتی لا یجوز حمله الکراهة.و إنما هو دعاء بالابعاد المطلق الشامل للکراهة أیضا،نظیر الرجحان المطلق الشامل للوجوب و الاستحباب کلیهما،غایة الأمر أن یدعی کونه ظاهرا فی التحریم،لکنه لا بد من رفع الید عن ظهوره و حمله علی الکراهة إذا تعارض بما یدل علی الجواز کما عرفت.

و من هنا ظهر جواز بقیة الأمور المذکورة فی النبوی کالمص و الوشم و الوشر و إن کانت مکروهة،بل ربما یشکل الحکم بالکراهة أیضا،لضعف الروایة إلا أن یتمسک فی ذلک بقاعدة التسامح فی أدلة السنن بناء علی شمولها للمکروهات أیضا.بل ورد جواز المص:أعنی حف الشعر من الوجه فی الخبر[2]و من جمیع ما ذکرناه ظهر الجواب أیضا عن روایة عبد اللّه بن سنان[3]المشتملة علی اللعن علی الواشمة و الموتشمة.

ص:204

و قد یتوهم أنه ثبت بالأخبار المستفیضة المذکورة فی أبواب النکاح،و بالسیرة القطعیة جواز تزین المرأة لزوجها،بل کونها من الأمور المستحبة.و مقتضی ما دل علی حرمة الوصل و النمص و الوشم و الوشر هو عدم جواز التزین بها سواء کان ذلک للزوج أو لغیره فیتعارضان فیما کان التزین بالأمور المذکورة للزوج،و یتساقطان،فیرجع الی الأصول العملیة و فیه أنه لو تم ما دل علی حرمة الأمور المزبورة فالنسبة بینه و بین ما دل علی جواز التزین هو العموم المطلق.فیحکم بجواز التزین مطلقا إلا بالأشیاء المذکورة.بیان ذلک:

أن المذکور فی الروایات و إن کان هو جواز تزین الزوجة لزوجها فقط،و لکنا نقطع بعدم مدخلیة الزوجیة فی الحکم بحیث لولاها لکان التزین للنساء حراما،بل هو أمر مشروع للنساء کلها،کما علیه السیرة القطعیة،إذن فلا بد من تخصیص الحکم بما دل علی حرمة الأمور المذکورة فی النبوی.

قوله خصوصا مع صرف الإمام للنبوی الوارد فی الواصلة عن ظاهره. أقول:

صرف النبوی عن ظاهره بالتصرف فی معنی الواصلة و المستوصلة بإرادة القیادة من الواصلة یقتضی حرمة الوصل و النمص و الوشم و الوشر المذکورة فی النبوی،لاتحاد السیاق، دون الکراهة.

نعم لو کان معنی اللعن فی الروایة هو مطلق الابعاد الذی یجتمع مع الکراهة لصار مؤیدا لحمل ما عدا الوصل علی الکراهة.

قوله نعم یشکل الأمر فی وشم الأطفال من حیث إنه إیذاء لهم بغیر مصلحة) .

أقول:لا شبهة أن الوشم لا یلازم الإیذاء دائما،بل بینهما عموم من وجه،فإنه قد یتحقق الإیذاء حیث یتحقق الوشم کما هو الکثیر،و قد یتحقق الوشم حیث لا یتحقق الإیذاء،لأجل استعمال بعض المخدرات المعروفة فی الیوم،و قد یجتمعان.و علی تقدیر الملازمة بینهما فالسیرة القطعیة قائمة علی جواز الإیذاء إذا کان لمصلحة التزین،کما فی ثقب الآذان و الآناف قوله ثم إن التدلیس بما ذکرنا إنما یحصل بمجرد رغبة الخاطب أو المشتری) .

أقول:التدلیس فی اللغة (1)عبارة عن تلبیس الأمر علی الغیر،أو کتمان عیب السلعة عن المشتری و إخفائه علیه بإظهار کما لیس فیها،و أما ما یوجب رغبة المشتری و الخاطب فلیس بتدلیس ما لم یستلزم کتمان عیب،أو إظهار ما لیس فیه من الکمال،و إلا لحرم تزیین السلعة،لکون ذلک سببا لرغبة المشتری،و لحرم أیضا لبس المرأة الثیاب الحمر

ص:205


1- 1) فی القاموس:التدلیس کتمان عیب السلعة عن المشتری.و فی المنجد دلس البائع کتم عیب ما یبیعه عن المشتری.

و الحضر الموجبة لظهور بیاض البدن و صفائه،بداهة کونه سببا لرغبة الخاطبین،و لا نظن أن یلتزم بذلک فقیه أو متفقة.

تزیین الرجل بما یحرم علیه

اشارة

قوله المسألة الثانیة تزیین الرجل بما یحرم علیه من لبس الجریر و الذهب حرام).

أقول:اتفق فقهائنا و فقهاء العامعة[1]و استفاضت الاخبار و من طرقنا (1)و من طرق السنة (2)علی حرمة لیس الرجل الحریر و الذهب إلا فی موارد خاصة،و لکن الأخبار خالیة عن حرمة تزین الرجل بهما،فعقد المسألة بهذا العنوان کما صنعه المصنف(ره)فیه مسامحة واضحة،نعم ورد فی بعض الأحادیث (3):(لا تختم بالذهب فإنه زینتک فی الآخرة) و فی بعضها الآخر (4):(جعل اللّه الذهب فی الدنیا زینة النساء فحرم علی الرجال لبسه و الصلاة فیه).و لکن مضافا الی ضعف السند فیهما،أنهما لا تدلان علی حرمة تزین الرجل بالمذهب حتی یشمل النهی غیر صورة اللبس أیضا،بل تفریعه«ع»فی الروایة الثانیة حرمة لیس الذهب علی کونه زینة النساء فی الدنیا لا یخلو عن الاشعار بجواز تزین الرجل بالذهب ما لم یصدق علیه عنوان اللبس.

ص:206


1- 1) راجع ج 2 کا باب 13 لبس الحریر ص 206.و باب 23 الخواتیم من التجمل ص 210.و ج 11 الوافی باب 186 الخواتیم ص 103.و باب 176 أجناس اللباس من التجمل ص 98.و ج 1 ئل 11 عدم جواز صلاة الرجل فی الحریر.و باب 30 عدم جواز لبس الرجل الذهب من لباس المصلی.
2- 2) راجع ج 2 سنن البیهقی ص 422 و ص 424.
3- 3) ضعیفة لغالب بن عثمان.راجع أبواب الخواتیم المتقدمة من کا و الوافی و ئل.
4- 4) مرسلة.راجع ج 3 ئل باب 30 عدم جواز لیس الرجل المذهب من لباس المصلی.

و قد یقال:إن عنوان التزین بالذهب و الفضة و إن لم یذکر فی الاخبار،إلا أن لیس الحریر و الذهب یلازم التزین بهما،فالنهی عن لبسهما یلازم النهی عن التزین بهما.

و فیه أنها دعوی جزافیة،لمنع الملازمة،بل بین العنوانین عموم من وجه.فان التزین قد یصدق حیث لا یصدق اللبس،کما إذا جعلت أزرار الثوب من الذهب،أو من الحریر، و کما إذا خیط بهما الثوب،کما تتعارف خیاطة الفراء بالحریر و الدیباج،و کما إذا صاغ الإنسان أسنانه من الذهب،و قد یصدق اللبس و لا یصدق التزین،کلبس الحریر و الذهب تحت سائر الألبسة،و تختم الرجل بالذهب للتجربة و الامتحان،و قد یجتمع العنوانان، و تفصیل الکلام فی البحث عن لباس المصلی فی کتاب الصلاة.

و من هنا ظهر أنه لا وجه لما ذهب إلیه فی العروة فی المسألة 22 من مسائل الباس المصلی قال:(نعم إذا کان زنجیر الساعة من الذهب و علقه علی رقبته أو وضعه فی جیبه لکن علق رأس الزنجیر یحرم لانه تزین بالذهب و لا تصلح الصلاة فیه أیضا).

تشبه الرجل بالمرأة و تشبه المرأة بالرجل

هل یجوز تشبه الرجل بالمرأة و بالعکس أولا:بأن یلبس الرجل ما یختص بالنساء من الألبسة،و تلبس المرأة ما یختص بالرجل منها،کالمنطقة و العمامة و نحوهما،و لا ریب ان ذلک یختلف باختلاف العادات؟.

فنقول:إنه ورد النهی عن التشبه فی الاخبار المتظافرة[1]و لعن اللّه و رسوله المتشبهین

ص:207

من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال،و لکن هذه الاخبار کلها ضعیفة السند، فلا تصلح دلیلا للقول بالحرمة.

و مع الإغضاء عن ذلک فلا دلالة فیها علی حرمة التشبه فی اللباس،لان التشبه فیها إما ان یراد به مطلق التشبه أو التشبه فی الطبیعة،کتأنث الرجل و تذکره المرأة،أو التشبه الجامع بین التشبه فی الطبیعة و التشبه فی اللباس.

أما الأول فبدیهی البطلان،فان لازمه حرمة اشتغال الرجل بأعمال المرأة،کالغزل و غسل الثوب و تنظیف البیت و الکنس و نحوها من الأمور التی تعملها المرأة فی العادة، و حرمة اشتغال المرأة بشغل الرجال،کالاحتطاب و الاصطیاد و السقی و الزرع و الحصد و نحوها،مع انه لم یلتزم به احد،بل و لا یمکن الالتزام به.

و اما الثالث فلا یمکن أخذه کذلک،إذ لا جامع بین التشبه فی اللباس و التشبه فی الطبیعة فلا یکون امرا مضبوطا،فیتعین الثانی،و یکون المراد من تشبه کل منهما بالآخر هو تأنث الرجل باللواط،و تذکر المرأة بالسحق،و هو الظاهر من لفظ التشبه فی المقام.

و یؤید ما ذکرناه تطبیق الامام«ع»النبوی علی المخنثین و المساحقات فی جملة روایات من الخاصة[1]

ص:208

و طرق العامة[1]و لکنها ضعیفة السند.

و قد اتضح مما تلوناه بطلان ما ادعاه المحقق الایروانی من(أن إطلاق التشبه یشمل التشبه فی کل شیء،و دعوی انصرافه الی التشبه فیما هو من مقتضیات طبع صاحبه، لا ما هو مختص به بالجعل کاللباس فی حیز المنع،بل کون المساحقة من تشبه الأنثی بالمذکر ممنوع،بل التخنث أیضا لیس تشبها بالأنثی).و کذلک ما فی حاشیة السید من:(عدم اختصاص النبوی بالتشبه فی التأنث و التذکر،لإمکان شموله للتشبه فی اللباس أیضا).

و العجب من المحقق الایروانی حیث قال فی توجیه روایة العامل:(لعل الرجل الذی أخرجه علی«ع»من المسجد کان متزینا بزینة النساء کما هو الشائع فی شبان عصرنا و کان هو المراد من التأنث،لا التخنث)و هو أعرف بمقاله.

ص:209

ثم إنه قد ورد فی بعض الأحادیث[1]النهی عن التشبه فی اللباس،کروایة سماعة فی الرجل یجر ثیابه(قال:إنی لأکره أن یتشبه بالنساء).و فی روایة اخری:کان رسول اللّه ینهی المرأة أن تتشبه بالرجال فی لباسها.فإنه یستفاد منهما تحریم التشبه فی اللباس.

و فیه أنه لیس المراد من التشبه فی الروایتین مجرد لبس کل من الرجل و المرأة لباس الآخر،و إلا لحرم لبس أحد الزوجین لباس الآخر لبعض الدواعی کبرد و نحوه،بل الظاهر من التشبه فی اللباس المذکور فی الروایتین هو أن یتزیی کل من الرجل و المرأة بزی الآخر،کالمطربات اللاتی أخذن زی الرجال،و المطربین الذین أخذوا زی النساء،و من البدیهی أنه من المحرمات فی الشریعة،بل من أخبث الخبائث و أشد الجرائم و أکبر الکبائر.

علی ان المراد فی الروایة الأولی هی الکراهة،إذ من المقطوع به أن جر الثوب لیس من المحرمات فی الشریعة المقدسة.

و قد تجلی مما ذکرناه أنه لا شک فی جواز لبس الرجل لباس المرأة لإظهار الحزن، و تجسم قضیة الطف،و إقامة التعزیة لسید شباب أهل الجنة علیه السلام،و توهم حرمته لاخبار النهی عن التشبه ناشئ من الوساوس الشیطانیة،فإنک قد عرفت عدم دلالتها علی حرمة التشبه.

و قد علم مما تقدم أیضا أنه لا وجه لاعتبار القصد فی مفهوم التشبه و صدقه،بل المناط فی صدقه وقوع وجه الشبه فی الخارج مع العلم و الالتفات،کاعتبار وقوع المعان علیه فی صدق الإعانة،علی أنه قد أطلق التشبه فی الاخبار،علی جر الثوب و التخنث و المساحقة مع أنه لا یصدر شیء منها بقصد التشبه،و دعوی أن التشبه من التفعل الذی لا یتحقق إلا بالقصد دعوی جزافیة،لصدقه بدون القصد کثیرا.

قوله و فیها خصوصا الأولی بقرینة المورد ظهور فی الکراهة. أقول:قد علم مما ذکرناه أنه لا وجه لحمل ما ورد فی التشبه فی اللباس علی الکراهة،بدعوی ظهوره فیها، إذ لا نعرف منشأ لهذه الدعوی إلا قوله«ع»فی روایة سماعة فی رجل یجر ثیابه:(إنی لأکره أن یتشبه بالنساء)و من الواضح جدا أن الکراهة المذکورة فی الروایات أعم من

ص:210

الکراهة الاصطلاحیة.

علی أن روایة الصادق«ع»عن آبائه عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)إنه(کان یزجر الرجل أن یتشبه بالنساء و ینهی المرأة أن تتشبه بالرجال فی لباسها).کالصریحة فی الحرمة،لعدم إطلاق الزجر فی موارد الکراهة الاصطلاحیة.

قوله ثم الخنثی یجب علیها ترک الزینتین إلخ. أقول:اختلفوا فی الخنثی هل هو من صنف الرجال،أو من صنف الإناث،أو هو طبیعة ثالثة تقابل کلا من الصنفین علی أقوال؟قد ذکرت فی محلها،و ما ذکره المصنف(ره)من أنه(یجب علیها ترک الزینتین المختصتین بکل من الرجل و المرأة)مبنی علی کونه داخلا تحت أحد العنوانین«الذکر و الأنثی)و إلا فأصالة البراءة بالنسبة إلی التکالیف المختصة بهما محکمة.

قوله و یشکل بناء علی کون مدرک الحکم حرمة التشبه بأن الظاهر عن التشبه صورة علم المتشبه. أقول:لا إشکال فی اعتبار العلم بصدور الفعل فی تحقق عنوان التشبه، إلا أنه لا یختص بالعلم التفصیلی،بل یکفی فی ذلک العلم الإجمالی أیضا،فهو موجود فی الخنثی

التشبیب بالمرأة الأجنبیة

اشارة

قوله المسألة الثالثة:التشبیب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة و هی کما فی جامع المقاصد ذکر محاسنها و إظهار حبها بالشعر حرام. أقول:لا شبهة فی حرمة ذکر الأجنبیات و التشبیب بها،کحرمة ذکر الغلمان و التشبیب بهم بالشعر و غیره إذا کان التشبیب لتمنی الحرام و ترجی الوصول إلی المعاصی و الفواحش،کالزنا و اللواط و نحوهما،فان ذلک هتک لاحکام الشارع،و جرأة علی معصیته،و من هنا حرم طلب الحرام من اللّه بالدعاء،و لا یفرق فی ذلک بین کون المذکورة مؤمنة أو کافرة،و علی کل حال فحرمة ذلک لیس من جهة التشبیب.

و أما التشبیب بالمعنی الذی ذکره المحقق الثانی فی جامع المقاصد مع القیود التی اعتبرها المصنف ففی حرمته خلاف،فذهب جمع من الأکابر إلی الحرمة،و ذهب بعض آخر الی الجواز،و ذهب جمع من العامة إلی حرمة مطلق التشبیب[1].

ص:211

و قد استدل القائلون بالحرمة بوجوه،الوجه الأول:أن التشبیب هتک للمشبب بها و إهانة لها،فیکون حراما.

و فیه أولا:لو سلمنا کون التشبیب هتکا لها فان ذلک لا یختص بالشعر کما لا یختص بالمؤمنة المعروفة المحترمة،فإنه لا فرق فی حرمة الهتک بین أفراد الناس من المحرم و غیر المحرم،و الزوجة و غیر الزوجة،و المخطوبة و غیر المخطوبة،فإن هتک جمیعها حرام عقلا و شرعا و أیضا لا فرق فی الشعر بین الإنشاء و الإنشاد.

و ثانیا:أن النسبة بین عنوانی الإهانة و التشبیب هی العموم من وجه،فان الشاعر أو غیره قد یذکر محاسن امرأة أجنبیة فی حال الخلوة بحیث لا یطلع علیه أحد لیلزم منه الهتک،أو یکون التوصیف و إظهار محاسنها و ذکر جمالها مطلوبا،سواء کان ذلک بالنظم أم بغیره،کما إذا سأل سائل عن بنات أحد الأعاظم و الملوک لیخطب منهن واحدة،فهل یقوم أحد أن توصیفها بالجمال و الکمال و الأدب و الأخلاق حرام؟؟و کثیرا ما یتحقق عنوان الهتک من دون تحقق التشبیب،و قد یجتمعان،و علیه فلا ملازمة بینهما دائما.

و ثالثا:أن کلامنا فی المقام فی حرمة التشبیب بعنوانه الأولی،فإثبات حرمته لعنوان آخر عرضی-کعنوان الهتک أو الإهانة أو غیرهما-خروج عن محل الکلام.

الوجه الثانی:أنه إیذاء للمشبب بها،و هو حرام.

و فیه أنه لا دلیل علی حرمة فعل یترتب علیه أذی الغیر قهرا إذا کان الفعل سائغا فی نفسه،و لم یقصد العامل أذیة الغیر من فعله.و إلا لزم القول بحرمة کل فعل یترتب علیه أذی الغیر و إن کان الفعل فی نفسه مباحا أو مستحبا أو واجبا،کتاذی بعض الناس من اشتغال بعض آخر بالتجارة و التعلیم و التعلم و العبادة و نحوها،و کثیرا ما یتأذی بعض التجار باستیراد البعض الآخر مال التجارة،و یتأذی الجار بعلو جدار جاره أو من کثرة أمواله،مع أن أحدا لا یتفوه بحرمة ذلک.

علی أن النسبة بین التشبیب و الإیذاء أیضا عموم من وجه،إذ قد یتحقق التشبیب و لا یتحقق الإیذاء کالتشبیب بالمتبرجات،و قد یتحقق الإیذاء حیث لا یتحقق التشبیب،و هو واضح،و قد یجتمعان.

ص:212

ما استدل به علی حرمة التشبیب

و الجواب عنه

قوله و یمکن أن یستدل علیه بما سیجیء. أقول:بعد أن أشکل المصنف علی الوجوه المتقدمة،و اعترف بعدم نهوضها لإثبات حرمة التشبیب أخذ بالاستدلال علیه بوجوه أضعف من الوجوه الماضیة:

الوجه الأول:أن التشبیب من اللهو و الباطل،فیکون حراما،لما سیأتی من دلالة جملة من الآیات و الروایات علی حرمتها.

و فیه أن هذه الدعوی ممنوعة صغری و کبری:أما الوجه فی منع الصغری فلانه لا دلیل علی کون التشبیب من اللهو و الباطل،إذ قد یشتمل الکلام الذی یشبب به علی المطالب الراقیة و المدائح العالیة المطلوبة للعقلاء خصوصا إذا کان شعرا کما هو مورد البحث.

و أما الوجه فی منع الکبری فلعدم العمل بها مطلقا،لان اللهو و الباطل لو کان علی إطلاقهما من المحرمات لزم القول بحرمة کل ما فی العالم،فان کل ما أشغل عن ذکر اللّه- و ذکر الرسول و ذکر القیامة و ذکر النار و الجنة و الحور و القصور-لهو و باطل،و قد نطق بذلک القرآن الکریم أیضا فی آیات عدیدة[1]و سیأتی من المصنف الاعتراف بعدم حرمة اللهو إلا علی نحو الموجبة الجزئیة.

الوجه الثانی:أنه ورد النهی فی الکتاب العزیز[2]عن الفحشاء و المنکر،و منهما التشبیب فیکون حراما.

و فیه أنا نمنع کون التشبیب من الفحشاء و المنکر،علی ان هذا الوجه،مع الوجه السابق، و سائر الوجوه الآتیة لو دلت علی الحرمة لدلت علیها مطلقا،سواء أ کان بالشعر أم بغیره و سواء أ کان التشبیب بأنثی أم بذکر،و سواء أ کانت الأنثی مؤمنة أم غیر مؤمنة،فلا وجه لتخصیص الحرمة بالشعر.

ص:213

و یضاف الی ذلک ان النسبة بین التشبیب و بین تلک العناوین المحرمة هی العموم من وجه فلا تدل حرمتها علی حرمة التشبیب دائما،مع ان الکلام فی التشبیب بعنوانه الاولی، فحرمته بعنوان اللهو أو الفحشاء أو غیرهما من العناوین المحرمة خارج عن حدود البحث و محل النزاع.

الوجه الثالث:انه مناف للعفاف الذی اعتبر فی العدالة بمقتضی بعض الروایات[1]و حیث إن العفاف واجب،فیحرم الإخلال به.

و فیه انا نمنع اعتبار أی عفاف فی العدالة،و إنما المعتبر فیها العفاف عن المحرمات، و کون التشبیب منها أول الکلام.

الوجه الرابع:الأخبار الدالة علی حرمة ما یثیر الشهوة الی غیر الحلیلة حتی بالأسباب البعیدة و هی کثیرة قد ذکرت فی مواضع شتی:منها ما دل[2]علی النهی عن النظر إلی الأجنبیة لأنه سهم مسموم من سهام إبلیس:و النکتة فی إطلاق لفظ السهم علی النظر هی تأثیره فی قلب الناظر و إیمانه،کتأثیر السهم الخارجی فی الغرض،و من هنا أطلق علیه زنا العین کما فی روایة أبی جمیلة و وجه دلالة هذه الاخبار علی حرمة التشبیب هو ان النظر الی

ص:214

الأجنبیات إذا کان سهما مسموما مؤثرا فی هدم الایمان و قلعه عن قلوب الناظرین،فالتشبیب أولی بالتحریم،فإن تأثیر الکلام أشد من تأثیر النظر.

و فیه انک قد عرفت عدم الملازمة بین التشبیب و بین سائر العناوین المحرمة،و کذلک فی المقام،إذ قد یکون التشبیب مهیجا للقوة الشهویة.فلا یکون حراما کالتشبیب بالزوجة،و قد یکون التشبیب غیر مهیج للشهوة کما إذا شبب بإحدی محارمه،و قد یجتمعان فلا ملازمة بینهما.

و منها الأخبار الدالة علی المنع عن الخلوة بالأجنبیة،و هی کثیرة[1]منها قوله«ع»فی

ص:215

روایة مسمع فی قضیة أخذ الرسول ص البیعة علی النساء:و لا یقعدن مع الرجال فی الخلاء، و هکذا فی روایة مکارم الأخلاق،و منها ما فی روایة موسی بن إبراهیم من قوله ع:

من کان یؤمن باللّه و الیوم الآخر فلا یبیت فی موضع یسمع نفس امرأة لیست له بمحرم، و منها قوله(علیه السلام)فی روایة محمد بن الطیار:فان الرجل و المرأة إذا خلیا فی بیت کان ثالثهما

ص:216

الشیطان.الی غیر ذلک من الروایات التی دلت علی حرمة الخلوة مع الأجنبیة،ففی بعضها:

لا یخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشیطان،و فی بعضها:إن الشیطان لا یغیب عن الإنسان فی موضع خلوّ الرجال مع امرأة أجنبیة.و علی هذا النهج أحادیث العامة (1)فیستفاد من جمیعها حرمة خلو الرجل مع امرأة أجنبیة،لأن الشیطان لا یغیب عنه فی هذه الحالة، فیهیج قوته الشهویة لیلقیه الی المهلکة و المضلة،و بما أن التشبیب بالمرأة الأجنبیة یهیج الشهوة أزید مما تهیجه الخلوة بها فیکون أولی بالتحریم.

و فیه أنه لا دلالة فی شیء من تلک الأخبار علی حرمة الخلوة مع الأجنبیة فضلا عن دلالتها علی حرمة التشبیب،أما روایتا مسمع و مکارم الأخلاق فالمستفاد منهما حرمة قعود الرجل مع المرأة فی بیت الخلاء،فقد کان من المتعارف فی زمان الجاهلیة أنهم یهیئون مکانا لقضاء الحاجة،و یسمونه بیت الخلاء،و یقعد فیه الرجال و النساء و الصبیان،و لا یستتر بعضهم عن بعض،کبعض أهل البادیة فی الزمن الحاضر،و لما بعث نبی الرحمة نهی عن ذلک، و أخذ البیعة علی النساء أن لا یقعدن مع الرجال فی الخلاء،علی أن الخلوة مع الأجنبیة إذا کانت محرمة فلا تختص بحالة القعود،بل هی محرمة مطلقة و إن کانت بغیر قعود.

و یؤید ما ذکرناه من المعنی أن النهی فی الروایتین قد تعلق بقعود الرجال مع النساء فی الخلاء مطلقا و إن کن من المحارم،و من الواضح أنه لا مانع من خلوة الرجل مع محارمه، و إن لم یکن للروایتین ظهور فیما ادعیناه،فلا ظهور لهما فی حرمة الخلوة أیضا،و لا أقل من الشک،فتسقطان عن الحجیة.

علی ان من جملة ما أخذ رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)البیعة به علی النساء أن لا یزنین،و لعل أخذ البیعة علیهن أن لا یقعدن مع الرجال فی الخلاء من جهة عدم تحقق الزنا،فان حالة الخلوة مظنة الوقوع علی الزنا،و علیه فلا موضوعیة لعنوان الخلوة بوجه،و الغرض المهم هو النهی عن الزنا،و إنما تعلق بالخلوة لکونها من المقدمات القریبة له.

و یدل علی ما ذکرناه أیضا ما ورد فی جملة من الروایات من تعلیل النهی عن الخلوة بأن الثالث هو الشیطان،فان الظاهر منها هو أنه لو خلا الرجل مع المرأة الأجنبیة فإن الشیطان یکاد أن یوقعهما فی البغی و الزنا،و من هنا ظهر أنه لا یجوز الاستدلال أیضا بهذه الروایات المشتملة علی التعلیل المذکور.و قد ذکرنا جمیع هذه الروایات فی الحاشیة.

و أما روایة موسی بن إبراهیم فهی خارجة عما نحن فیه،فإنها دلت علی حرمة نوم الرجل فی موضع یسمع نفس الامرأة الأجنبیة،و لا ملازمة بین سماع النفس و الخلوة دائما،بل

ص:217


1- 1) راجع ج 7 سنن البیهقی ص 90.

بینهما عموم من وجه،کما أن النهی عن نوم الرجل مع المرأة تحت لحاف واحد کما فی بعض الأحادیث (1)لا یدل علی حرمة عنوان الخلوة.

و یمکن أن یکون نهی الرجل عن النوم فی مکان یسمع نفس المرأة الأجنبیة من جهة کون سماع نفس المرأة من المقدمات القریبة للزنا،کما أن النهی عن النوم تحت لحاف واحد کذلک،فان سماع النفس فی الأشخاص العادیة لا یکون إلا مع نومهم فی محل واحد، و من القریب جدا أن هذا یوجب الزنا کثیرا.

بل یمکن أن یقال:إنه لو ورد نص صریح فی النهی عن الخلوة مع الأجنبیة فلا موضوعیة لها أیضا،و إنما نهی عنها لکونها من المقدمات القریبة للزنا،فان أهمیة حفظ الاعراض فی نظر الشارع المقدس تقتضی النهی عن الزنا،و عن کل ما یؤدی إلیه عرفا.

و أما الروایات المشتملة علی أن إبلیس لا یغیب عن الإنسان فی مواضع منها موضع خلوة الرجل مع امرأة أجنبیة،فإن المستفاد منها أن الشیطان یقظان فی تلک المواضع یجر الناس الی الحرام،فلا دلالة فیها علی المدعی.و علی الجملة فلا دلیل علی حرمة الخلوة بما هی خلوة، و إنما النهی عنها للمقدمیة فقط.

و یضاف الی جمیع ما ذکرناه أن الروایات الواردة فی النهی عن الخلوة بالأجنبیة کلها ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء.

و لو سلمنا وجود الدلیل علی ذلک فإنه لا ملازمة بین حرمة الخلوة و حرمة التشبیب و لو بالفحوی،إذ لا طریق لنا الی العلم بأن ملاک الحرمة فی الخلوة هو إثارة القوة الشهویة حتی یقاس علیها کل ما یوجب تهیجها.و من هنا علی أنه لا وجه لقیاس التشبیب علی شیء یوجب تهیج القوة الشهویة.

قوله و کراهة جلوس الرجل فی مکان المرأة حتی یبرد المکان. أقول:استدل المصنف علی حرمة التشبیب بفحوی أمور مکروهة:منها ما ورد[1]فی کراهة الجلوس فی

ص:218


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 13 تحریم خلوة الرجال بالمرأة تحت لحاف واحد من أبواب النکاح المحرم ص 41.و ج 2 کا باب 5 ما یوجب الجلد من الحدود ص 287.و ج 9 الوافی باب المجردین وجدا فی لحاف واحد من الحدود ص 47.

مجلس المرأة حتی یبرد المکان،و منها ما ورد[1]فی رجحان تستر المرأة عن نساء أهل الذمة و منها ما ورد[2]فی التستر عن الصبی الممیز الی غیر ذلک من الموارد التی نهی الشارع عنها تنزیها،لکونها موجبة لتهیج الشهوة.فتدل بالفحوی علی حرمة التشبیب،لکونه أقوی فی إثارة الشهوة.

و لکنها لا نعرف وجها صحیحا لهذا الاستدلال،إذ لا معنی لإثبات الحرمة لموضوع لثبوت الکراهة لموضوع آخر حتی بناء علی العمل بالقیاس.علی أنا لا نعلم أن مناط الکراهة فی تلک الأمور هو تهیج الشهوة حتی یلتزم بالحرمة فیما إذا کان التهیج أشد و أقوی،و قد تقدم نظیر ذلک من المصنف فی البحث عن حرمة إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی (1)،حیث استدل علی الحرمة بکراهة إطعام النجس للبهیمة.

علی أن رجحان التستر عن نساء أهل الذمة إنما هو لئلا یطلعن رجالهن علی محاسن نساء المسلمین،و رجحان التستر عن الصبی الممیز إنما هو لکونه ممیزا فی نفسه،کما یظهر من الروایة الدالة علی ذلک.

قوله و النهی فی الکتاب العزیز) أقول:قد ورد النهی فی الکتاب الشریف (2)عن خضوع النساء بالقول لئلا یطمع اَلَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ .و عن أن یضربن بِأَرْجُلِهِنَّ لِیُعْلَمَ ما یُخْفِینَ مِنْ زِینَتِهِنَّ (3).

إلا أنه لا دلالة فی شیء من ذلک علی حرمة التشبیب،کما لا دلالة علیها فی حرمة التعریض بالخطبة لذات البعل و لذات العدة الرجعیة،و التعریض هو الإتیان بلفظ یحتمل الرغبة فی النکاح مع کونه ظاهرا فی النکاح،کأن یقول:رب راغب فیک،و حریص علیک،

ص:219


1- 1) ص 117.
2- 2) سورة الأحزاب،آیة 32.
3- 3) سورة النور،آیة:31.

أو انی راغب فیک،أو أنت علی کریمة،أو عزیزة،أو إن اللّه لسائق إلیک خیرا، أو رزقا،أو نحو ذلک.

قوله سواء علم السامع إجمالا بقصد معینة أم لا ففیه إشکال. أقول:إذا ثبتت حرمة التشبیب و حرمة سماعه فلا یحرم سماعة إذا کان المشبب بها امرأة غیر معینة،لعدم علم السامع بها حتی یترتب علیه ما تقدم من الأمور.

قوله و فیه إشکال من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحریم. أقول:قد عرفت عدم دلالة شیء من الوجوه المتقدمة علی حرمة التشبیب.و لو سلم ذلک فلا دلالة فیها علی حرمة التشبیب بامرأة مبهمة أو خیالیة إلا إذا کان مرجعه إلی تمنی الحرام.و قد عرفت أنه خارج عما نحن فیه.

قوله أما التشبیب بالغلام فهو محرم علی کل حال. أقول:التشبیب بالغلام إن کان داخلا فی عنوان تمنی الحرام فلا ریب فی حرمته،لکونه جرأة علی حرمات المولی کما تقدم و إلا فلا وجه لحرمته فضلا عن کونه حراما علی کل حال.بل ربما یکون التشبیب به مطلوبا.و لذا یجوز مداح الابطال و الشجعان،و مدح الشبان بتشبیههم بالقمر و النجوم، و لا شبهة فی صدق التشبیب علیه لغة[1]و عرفا.

قوله لأنه فحش محض. أقول:لا شبهة فی حرمة الفحش و السب کما سیأتی، إلا أنه لا یرتبط ذلک بالتشبیب بعنوانه الأولی الذی هو محل الکلام فی المقام.

حرمة التصویر

اشارة

قوله المسألة الرابعة تصویر صور ذوات الأرواح حرام إذا کانت الصورة مجسمة بلا خلاف. أقول:لا خلاف بین الشیعة و السنة[2]فی حرمة التصویر فی الجملة.

ص:220

ففی المستند (1)ادعی الإجماع علی حرمة علی الصور لذوات الأرواح إذا کانت الصورة مجسمة،و ذکر الخلاف فی غیر هذا القسم.

و فی المختلف (2):(مسألة:قال ابن براج:یحرم التماثیل المجسمة و غیر المجسمة،و قال ابن إدریس:و سائر التماثیل و الصور ذوات الأرواح مجسمة کانت أو غیرها.و أبو الصلاح قال:یحرم التماثیل و أطلق).و عن المحقق الثانی إنه قسم التصویر إلی أربعة أقسام،و قال:أحدها محرم إجماعا،و هو عمل الصور المجسمة لذوات الأرواح،و باقی الأقسام مختلف فیها.

فالمتحصل من کلمات الأصحاب أن الأقوال فی حرمة التصویر أربعة،الأول:أن التصویر حرام إذا کانت الصورة مجسمة لذی روح،و هذا مما لا خلاف فی حرمته بین الأصحاب،بل ادعی علیه الإجماع.

الثانی:أن تصویر ذوات الأرواح حرام سواء کانت الصورة مجسمة أم غیر مجسمة، و قد اختاره المصنف وفاقا لما ذهب إلیه الحلی و القاضی و غیرهما من الأصحاب.

الثالث:حرمة التصاویر مطلقا إذا کانت مجسمة.الرابع:القول بحرمتها علی وجه الإطلاق سواء کانت مجسمة أم غیرها،و سواء کانت لذوات الأرواح أم غیرها،و القولان الأخیران و إن کانا أیضا مورد الخلاف بین الفقهاء کما أشار إلیه النراقی و المحقق الثانی:إلا أنا لم نجد قائلا بهما عدا ما یستفاد من ظاهر بعض العبائر.

و کیف کان فالمهم فی المقام هو التکلم فی مدرک الأقوال،فنقول:الظاهر من بعض المطلقات المنقولة من طرق الشیعة[1]

ص:221


1- 1) ج 1 ص 337.
2- 2) ج 2 ص 163.

و من طرق العامة (1)حرمة التصاویر مطلقا و لو کانت لغیر ذوات الأرواح.و لم تکن مجسمة،کقول علی«ع»:(إیاکم و عمل الصور فإنکم تسألون عنها یوم القیامة)و کالنبوی

ص:222


1- 1) راجع ج 7 سنن البیهقی ص 268.

المذکور فی سنن البیهقی:(إن أشد الناس عذابا عند اللّه یوم القیامة المصورون).

و لکن لا بد من تقیید هذه المطلقات بما دل[1]علی جواز التصویر لغیرها ذوات الأرواح و علیه فتحمل المطلقات علی تصویر ذوات الأرواح.و یحکم بجواز التصویر لغیرها سواء کانت الصورة مجسمة أم غیر مجسمة،و هو الموافق للأصل و الإطلاقات و العمومات من الآیات و الروایات الواردة فی طلب الرزق و جواز الاکتساب بأی کیفیة کان إلا ما خرج بالدلیل.

و یضاف الی ما ذکرناه أن المطلقات المذکورة بأجمعها ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء.

علی ان مقتضی السیرة القطعیة المستمرة إلی زمان المعصوم«ع»جواز التصویر لغیر ذوات الأرواح،و لم نر و لم نسمع من أنکر جواز تصویر الأشجار و الفواکه و الجبال و البحار و الشطوط و الحدائق،بل السیرة المذکورة ثابتة فی تعلم بعض الأشیاء،خصوصا فی بعض العلوم الریاضیة حیث یعملون الصور لتسهیل التفهیم.

و یؤید ما ذکرناه ما ورد فی بعض الأحادیث[2]من ان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)بعث علیا(علیه السلام)

ص:223

فی هدم القبور و کسر الصور،و أیضا قال له:لا تدع صورة إلا محوتها.فإنه لیس من المعهود ان علیا(علیه السلام)کسر الصور التی لغیر ذوات الأرواح،و ان رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)أمره أیضا علی ذلک.

و یضاف الی ما ذکرناه ان الصورة فی اللغة[1]و إن کانت مساوقة للشکل و شاملة لصور ذوات الأرواح و غیرها،إلا ان المراد بها فی المقام صور ذوات الأرواح فقط،لما ورد فی جملة من الروایات التی سنذکرها:ان من صور صورة کلفه اللّه تعالی یوم القیامة ان ینفخ فیها و لیس بنافخ.

و من الواضح ان الأمر بالنفخ و لو کان تعجیزا إنما یمکن إذا کان المورد قابلا لذلک، و لا شبهة ان نفس الأشجار و الأحجار و البحار و الشطوط و نحوها غیر قابلة للنفخ فضلا عن صورها،فان عدم القدرة علی النفخ فیها لیس من جهة عجز الفاعل فقط،بل لعدم قابلیة المورد.

و اما القول الثانی-أعنی حرمة تصویر الصور لذی الروح سواء کانت الصورة مجسمة أم غیر مجسمة-فتدل علیه الاخبار المستفیضة من الفریقین[2]التی تقدمت الإشارة إلیها،

ص:224

فإنه قد ذکر فیها أن من صور صورة یعذب یوم القیامة،و یکلف أن ینفخ فیها و لیس بنافخ،و فی بعضها (1):(أحیوا ما خلقتم).و لکنها مع کثرتها صعیفة السند.و غیر منجبرة بشیء،فلا تکون صالحة للاستناد إلیها فی الحکم الشرعی.

و یضاف الی ما ذکرناه ما تقدم فی الحاشیة من الروایات الدالة علی حرمة خصوص التصویر لذوات الأرواح،کصحیحة البقباق عن أبی عبد اللّه(علیه السلام):(فی قول اللّه یَعْمَلُونَ لَهُ ما یَشاءُ من محاریب و تماثیل؟فقال:و اللّه ما هی تماثیل الرجال و النساء و لکنها الشجر و شبهه).

فان ذکر الرجال و النساء فیها من باب المثال،و یدل علی ذلک من الروایة قوله(علیه السلام)(و لکنها الشجر و شبهه).و غیرها من الروایات المعتبرة.

ما استدل به علی اختصاص الحرمة

بالصور المجسمة

و قد یقال:إن التحریم مختص بالصور المجسمة لوجوه قد أشار الی جملة منها فی متاجر الجواهر:

الوجه الأول:أن الأخبار المشتملة علی نفخ الروح ظاهرة فی ذلک،

فان الظاهر منها أن الصورة التی صنعها المصور جامعة لجمیع ما یحتاج الیه الحیوان سوی الروح،و هذا إنما یکون فی الصورة إذا کانت مجسمة،و واجدة للجثة و الهیکل،و مشتملة علی الأبعاد الثلاثة، إذ یستحیل الأمر بنفخ الروح فی النقوش الخالیة عن الجسم،فإن الأمر بالنفخ لا یکون إلا فی محل قابل له،و الصور المنقوشة علی الألواح و الأوراق و نحوهما غیر قابلة لذلک، لاستحالة انقلاب العرض الی الجوهر.و دعوی إرادة تجسیم النقش مقدمة للنفخ ثم النفع فیه خلاف الظاهر من الروایات.

و أجاب عنه المصنف بوجهین،الأول:

ص:225


1- 1) راجع ج 2 المستدرک ص 457.و ج 7 سنن البیهقی ص 168.

(أن النفخ یمکن تصوره فی النقش بملاحظة محله،بل بدونها،کما فی أمر الإمام(علیه السلام)[1]الأسد المنقوش علی البساط بأخذ الساحر فی مجلس الخلیفة).

و فیه أن هذا خلاف ظواهر الأخبار،فإن الظاهر منها أن التکلیف إنما هو بإحیاء نفس الصور دون محلها،و أما أمر الإمام(علیه السلام)الأسد المنقوش علی البساط بأخذ الساحر فسیأتی الجواب عنه.

الثانی:أن النفخ إنما هو(بملاحظة لون النقش الذی هو فی الحقیقة أجزاء لطیفة من الصبغ،و الحاصل:أن مثل هذا لا یعد قرینة عرفا علی تخصیص الصورة بالمجسمة).

و هذا الجواب متین،و بیان ذلک:أنه إذا کان المقصود من النفخ هو النفخ فی النقوش الخالیة عن الجسم التی هی لیست إلا أعراضا صرفة،فإنه لا مناص عن الاشکال المذکور، و هو واضح.و إذا کان المقصود من النفخ فیها بملاحظة لون النقش،و أجزاء الصبغ اللطیفة فهو متین،إذ النفخ حینئذ إنما هو فی الأجزاء الصغار،و لا ریب فی قابلیتها للنفخ لتکون حیوانا،و لا یلزم منه انقلاب العرض الی الجوهر،بل هو من قبیل تبدل جوهر بجوهر آخر.و علیه فلا یتوجه الاشکال المذکور علی شمول الروایات المتقدمة(أعنی الأخبار المشتملة علی نفخ الروح)لصور ذی الروح مطلقا و إن کانت غیر مجسمة.و لکن قد عرفت أنها ضعیفة السند.

و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه ففی ما دل علی حرمة تصویر الصور لذوات الأرواح مطلقا غنی و کفایة کما عرفت.

و یضاف الی ذلک کله ما تقدم من المطلقات التی دلت علی حرمة التصویر،فان الخارج عنها لیس إلا تصویر الصور لغیر ذی الروح،فیبقی الباقی تحتها.و لکن قد عرفت أن تلک المطلقات ضعیفة السند.

و من هنا یعلم أنه لا استحالة فی صیرورة الصورة الأسدیة المنقوشة علی البساط أسدا

ص:226

حقیقیا و حیوانا مفترسا بأمر الإمام(علیه السلام)،غایة الأمر أنه من الأمور الخارقة للعادة، لکونه إعجازا منه(علیه السلام)،و قد حققنا فی مبحث الاعجاز من مقدمة التفسیر أن الإعجاز لا بد و أن یکون خارجا عن النوامیس الطبیعیة،و خارقا للعادة.

و توضیح ذلک أن الخلق و الإیجاد علی قسمین،الأول:أن یکون بحسب المقدمات الإعدادیة و النوامیس الطبیعیة،فإنه تعالی و إن کان قادرا علی خلق العوالم بمجرد الإرادة التکوینیة،إلا أن حکمته قد جرت علی أن یخلقها بالسیر الطبیعی،و طی المراتب المختلفة بلبس الصور و خلعها حتی تصل الی المقصد الأقصی و الغایة القصوی.

مثلا إذا تعلقت المشیة الإلهیة بخلق الإنسان بحسب المقدمات الإعدادیة و السیر الطبیعی جعل اللّه موادة الأصلیة فی کمون الأغذیة فیأکلها البشر فتحللها القوی المکنونة فیه الی أن تصل الی حد المنویة،ثم یستقر المنی فی الرحم،فیکون دما ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما ثم إنسانا،و هذا هو الخلق بالنوامیس الطبیعیة.و کذلک الحال فی سائر المخلوقات.

الثانی:أن یکون الخلق غیر جار علی النوامیس الطبیعیة،بل أمرا دفعیا و خارقا للعادة، و تکون المقدمات الطبیعیة کلها مطویة فیه،کجعل الحبوب أشجارا و زروعا،و الأحجار لؤلؤا و یواقیتا دفعة واحدة،و یسمی ذلک بالاعجاز،و هذا من المواهب الإلهیة التی خص اللّه بها أنبیاءه و رسله(صلی الله علیه و آله)و الأئمة الطاهرین(علیه السلام).و صیرورة الصورة الاسدیة حیوانا مفترسا بأمر الإمام(علیه السلام)من القبیل الثانی.

الوجه الثانی:ما ذکره فی متاجر الجواهر،

و هو أن(فی بعض النصوص التی تقدمت فی کتاب الصلاة من أنه لا بأس إذا غیر رؤوسها[1]و فی آخر[2]قطعت و فی ثالث[3]

ص:227

کسرت نوع إشعار بالتجسم).

و فیه أولا:أنه لا إشعار فی شیء من هذه الروایات بکون الصور المنهی عنها مجسمة إلا فی روایة قرب الاسناد(تکسر رؤوس التماثیل و تلطخ رؤوس التصاویر)و هی ضعیفة السند،و الوجه فی عدم إشعار غیرها بذلک هو أن قطع الرأس أو تغییره کما یصدق فی الصور المجسمة،فکذلک یصدق فی غیرها.

و ثانیا:أن الکلام فی المقام فی عمل الصور،و هو لا یرتبط بالصلاة فی بیت فیه تماثیل، بل الصلاة فیه کالصلاة فی الموارد المکروهة.

الوجه الثالث:ما فی الجواهر أیضا

من أنه(یظهر من مقابلة النقش للصورة فی خبر المناهی ذلک أیضا)أی کون الصور المحرمة مجسمة.

و فیه أولا:أن خبر المناهی ضعیف السند و مجهول الراوی،کما عرفت مرارا.

و ثانیا:ما ذکره السید فی حاشیته:و هو أن ما اشتمل علی کلمة النقش(خبر آخر عن النبی(صلی الله علیه و آله)نقله الامام(علیه السلام):فلا مقابلة فی کلام النبی،و الامام أراد أن ینقل اللفظ الصادر عنه(علیه السلام)).

فروع مهمة
تصویر الملک و الجن

الأول:هل یلحق الجن و الملک بالحیوان فیحرم تصویرهما أولا؟ففیه قولان،و قد یقال بالثانی،کما فی الجواهر،و حکاه عن بعض الأساطین فی شرحه علی القواعد.

و الوجه فیه أن المطلقات المتقدمة و ان اقتضت حرمة التصویر مطلقا إلا أنک قد عرفت أنها مقیدة بالروایات المعتبرة کصحیحة محمد بن مسلم:(لا بأس ما لم یکن شیئا من الحیوان) و غیرها،و قد عرفت ذلک آنفا،و علیه فنفی البأس عن تصویر غیر الحیوان یقتضی اندراج الملک و الجن تحت الحکم بالجواز،فان من الواضح أنهما لیسا من جنس الحیوان.

و فیه أن المراد من الحیوان هنا ما هو المعروف فی مصطلح أهل المعقول من کونه جسما حساسا متحرکا بالإرادة،و من البدیهی أن هذا المفهوم یصدق علی کل مادة ذات روح سواء کانت من عالم العناصر أم من عالم آخر هو فوقه،و علیه فلا قصور فی شمول صحیحة محمد بن مسلم للملک و الجن و الشیطان،فیحکم بحرمة تصویرهم.

ص:228

و دعوی أن الملک من عالم المجردات فلیس له مادة،کما اشتهر فی ألسنة الفلاسفة،دعوی جزافیة.فإنه مع الخدشة فی أدلة القول بعالم المجردات ما سوی اللّه کما حقق فی محله.انه مخالف لظاهر الشرع.و من هنا حکم المجلسی(ره)فی اعتقاداته بکفر من أنکر جسمیة الملک.و تفصیل الکلام فی محله.

و إن أبیت إلا إرادة المفهوم العرفی من الحیوان فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أیضا،کانصرافه عن الملک و الجن،و لذا قلنا:إن العمومات الدالة علی حرمة الصلاة فی أجزاء ما لا یؤکل لحمه منصرفة عن الإنسان قطعا،مع أنه لم یقل أحد هنا بالانصراف، فتحصل أنه لا یجوز تصویر الملک و الجن.

و فی حاشیة السید(ره)ما ملخصه:أن کلا من صحیحة ابن مسلم،و ما فی خبر تحف العقول(و صنعة صنوف التصاویر ما لم یکن مثل الروحانی)مشتمل علی عقدین عقد ترخیصی و عقد تحریمی،فلا یکونان من الأعم و الأخص المطلقین،لوجود التعارض بین منطوق الصحیحة و بین مفهوم الخبر بالعموم من وجه فی الملک و الجن،فان مقتضی الصحیحة هو جواز تصویرهما،و مقتضی مفهوم روایة تحف العقول هو حرمة تصویرهما،و حیث إن الترجیح بحسب الدلالة غیر موجود،و المرجح السندی مع الصحیحة،فلا بد من ترجیح ما هو أقوی من حیث السند.

و فیه أولا:أن خبر تحف العقول ضعیف السند،و مضطرب الدلالة،فلا یجوز العمل به فی نفسه فلا عما إذا کان معارضا لخبر صحیح،و قد تقدم ذلک.

و ثانیا:أنا سلمنا جواز العمل به،و لکنا قد حققنا فی باب التعادل و الترجیح من الأصول أن أقوائیة السند لا تکون مرجحة فی التعارض بالعموم من وجه،بل لا بد من الرجوع الی المرجحات الأخر،و حیث لا ترجیح لکل منهما علی الآخر،فیحکم بالتساقط و یرجع الی المطلقات الدالة علی حرمة التصویر مطلقا،و علیه فیحرم تصویر الملک و الجن لهذه المطلقات،إلا أنک قد عرفت آنفا أن المطلقات بأجمعها ضعیفة السند،فلا تکون مرجعا فی المقام،فلا بد و أن یرجع الی البراءة.

و سیأتی ان صحیحة محمد بن مسلم غریبة عن حرمة التصویر.

اللهم إلا أن یقال:إن المتعارف من تصویر الملک و الجن ما یکون بشکل أحد الحیوانات فیحرم من هذه الجهة،و لکن یرد علیه أن من یصور صورة الملک و الجن إنما یقصد صورتهما لا صورة الحیوان،و لا بما هو أعم منهما و من الحیوان،إلا أن یکونا معدودین من أفراد الحیوان کما عرفت.

نعم یمکن استفادة الحرمة من صحیحة البقباق المتقدمة،بدعوی أن الظاهر من قوله(علیه السلام)

ص:229

فیها:(و اللّه ما هی تماثیل الرجال و النساء و لکنها الشجر و شبهه هو المقابلة بین ذی الروح و غیره من حیث جواز التصویر و عدمه،و ذکر الأمور المذکورة فیها إنما هو من باب المثال و اللّه العالم.

ان حرمة التصویر غیر مقیده

بکون الصورة معجبة

الفرع الثانی:ما ذکره المصنف و حاصله:انا إذا عممنا الحکم لغیر الحیوان مطلقا أو مع التجسیم فالظاهر أن المراد به ما کان مخلوقا للّه سبحانه علی هیئة خاصة معجبة للناظر،و إلا فلا وجه للحرمة،و علی هذا فلا یحرم تصویر الصور لما هو من صنع البشر و إن کان علی هیئة معجبة کالسیوف و الابنیة و القصور و السیارات و الطیارات و الدبابات و غیرها.

و کذلک لا یحرم تصویر الصور لما هو مخلوق للّه و لکن لا بهیئة معجبة کالخشب و القصب و الشطوط و البحار و الأودیة و العرصات و نحوها.و من هنا ظهر الاشکال فیما حکاه المصنف عن کاشف اللثام فی مسألة کراهة الصلاة فی الثوب المشتمل علی التماثیل من أنه (لو عمت الکراهة لتماثیل ذی الروح و غیرها کرهت الثیاب ذوات الأعلام لشبه الأعلام بالأخشاب و القصبات و نحوها،و الثیاب المحشوة لشبه طرائقها المخیطة بها،بل الثیاب قاطبة أشبه خیوطها الأخشاب و نحوها).

و فیه أولا:أن ما دل علی حرمة التصویر لم یقید بکون الصورة أو ذی الصورة معجبة فلا وجه لجعل الإعجاب شرطا فی حرمة التصویر.

و ثانیا:ما ذکره المحقق الایروانی من أن(الإعجاب الحاصل عند مشاهدة الصورة إنما هو من نفس الصورة لکشفها عن کمال مهارة النقاش و لو کانت صورة نمل أو دود، و لذا لا یحصل ذلک الإعجاب من مشاهدة ذی الصورة).

و أما ما حکاه عن کاشف اللثام فیرد علیه أولا:أن مورد البحث هنا إنما هو الشبه الخاص بحیث یقال فی العرف:إن هذا صورة ذاک،و من البدیهی أن مجرد کون الاعلام و الطرائق و الخیوط فی الثیاب علی هیئة الأخشاب و القصب لا یحقق الشبه المذکورة،و إلا فلا محیص عن الاشکال حتی بناء علی اختصاص الحکم بذوات الأرواح لشبه أعلام الثیاب و طرائقها المخیط بالحیات و الدیدان و نحوهما.

و ثانیا:أنه یعتبر فی حرمة التصویر قصد الحکایة کما سیأتی فی الفرع الآتی،فصانع الثوب لم یقصد شباهته بشیء من ذوات الأرواح و غیرها،بل غرضه نسج الثوب فقط،

ص:230

و علیه فلا بأس بشباهته بشیء من الحیوانات و غیرها شباهة اتفاقیة.

نعم إذا قلنا بتعمیم الحکم الغیر الحیوان مطلقا أو فی الجملة فلا مناص من الالتزام بانصرافه الأدلة عما هو مصنوع للعباد بدیهة أن إیجاد نفس ذی الصورة جائز فإیجاد صورته أولی بالجواز.

اعتبار قصد الحکایة فی حرمة التصویر

الفرع الثالث:ما ذکره المصنف ب قوله هذا کله مع قصد الحکایة و التمثیل،فلو دعت الحاجة الی عمل شیء یکون شبیها بشیء من خلق اللّه و لو کان حیوانا من غیر قصد الحکایة فلا بأس قطعا).

و توضیح کلامه:أنه لا شبهة فی اعتبار قصد حکایة ذی الصورة فی حرمة التصویر، لأن المذکور فی الروایات النهی عن التصویر و التمثیل،و لا یصدق ذلک إذا حصل التشابه بالمصادفة و الاتفاق من غیر قصد للحکایة،و هذا نظیر اعتبار قصد الحکایة فی صحة استعمال الألفاظ فی معانیها،و بدون ذلک لیس هناک استعمال.

و علیه فإذا احتاج أحد إلی عمل شیء من المکائن أو آلاتها أو غیرهما من الأشیاء اللازمة علی صورة حیوان فلا یکون ذلک حراما،لعدم صدق التصویر علیه بوجه.و المثال الواضح لذلک الطائرات المصنوعة فی زماننا،فإنها شبیهة بالطیور و مع ذلک لم یفعل صانعها فعلا محرما،و لا یتوهم أحد حتی الصبیان أن صانع الطائرة یصور صورة الطیر،بل إنما غرضه صنع شیء آخر للمصلحة العامة،و لکونه علی هیئة الطیر إنما هو اتفاقی.و من هنا لا وجه لما توهمه کاشف اللثام علی ما عرفت من أنه(لو عمت الکراهة لتماثیل ذی الروح و غیره کرهت الثیاب ذوات الاعلام لشبه الأعلام بالأخشاب).فان النساج لم یقصد الحکایة فی فعله.

و توهم بعضهم أن مراد المصنف من کلامه فی هذا الفرع هو أن یکون الداعی إلی التصویر هو الاکتساب دون التمثیل بأن یکون غرض المصور نظر الناس الی الصور و التماثیل و إعطاء شیء بإزاء ذلک.

و فیه أنه من العجائب،لکونه غریبا عن کلام المصنف،علی أنه من أوضح أفراد التصویر المحرم فکیف یحمل کلام المصنف علیه!!.

ص:231

اعتبار الصدق العرفی فی حرمة التصویر

الفرع الرابع:ما ذکره المصنف أیضا،و هو (أن المرجع فی الصورة إلی العرف، فلا یقدح فی الحرمة نقص بعض الأعضاء). و توضیح ذلک:أنه یعتبر فی تحقق الصورة فی الخارج الصدق العرفی،فإن الأدلة المتقدمة التی دلت علی حرمة التصویر إنما تقتضی حرمة الصورة العرفیة التامة الأعضاء و الجوارح بحیث یصدق علیها أنها مثال بالحمل الشائع و علیه فإذا صور أحد نصف حیوان من رأسه الی وسطه أو بعض أجزائه فإن قدر الباقی موجودا فهو حرام،کما إذا صور إنسانا جالسا لا یتبین نصد بدنه،أو کان بعض أجزائه ظاهرا و بعضه مقدرا بأن صور إنسانا وراء جدار أو فرس أو یسبح فی الماء و رأسه ظاهر و إن قصد النصف فقط فلا یکون حراما،فان الحیوان لا یصدق علی بعض أجزائه کرجله و یده و رأسه.نعم إذا صدق الحیوان علی هذا النصف کان تصویره حراما، و علی هذا فإذا صور صورة حیوان متفرق الأجزاء فلا یکون ذلک حراما،فإذا راکبها کان حراما لصدق التصویر علی الترکیب،و إذا کان الغرض تصویر بعض الأجزاء فقط ثم بدئ له الإکمال حرم الإتمام فقط،فإنه مع قطع النظر عن الإتمام لیس تصویرا لذی روح و مما ذکرناه ظهر بطلان قول المحقق الایروانی:(إن من المحتمل قریبا حرمة کل جزء جزء أو حرمة ما یعم الجزء و الکل،فنقش کل جزء حرام مستقل إذا لم ینضم الیه نقش بقیة الاجزاء،و إلا کان الکل مصداقا واحدا للحرام)الی أن قال:(و یحتمل أن یکون کل فاعلا للحرام،کما إذا اجتمع جمع علی قتل واحد.فإن الهیئة تحصل بفعل الجمیع،فلو لا نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصل الهیئة بفعل اللاحق).

علی أن المقام لا یقاس باجتماع جمع علی قتل واحد،فإن الإعانة علی القتل حرام بالروایات المستفیضة بل المتواترة،بخلاف ما نحن فیه،فان التصویر المحرم إنما یتحقق بفعل اللاحق، و تحصل الهیئة المحرمة بذلک.

غایة الأمر أن نقش السابق للأجزاء السابقة یکون إعانة علی الإثم،و هی لیست بحرام کما عرفت فیما سبق.

ص:232

جواز أخذ العکس المتعارف

الفرع الخامس:الظاهر من الأدلة المتقدمة الناهیة عن التصویر و التمثیل هو النهی عن إیجاد الصورة،کما أن النهی عن سائر الأفعال المحرمة نهی عن إیجادها فی الخارج،و علیه فلا یفرق فی حرمة التصویر بین أن یکون بالید أو بالطبع أو بالصیاغة أو بالنسج،سواء أ کان ذلک أمرا دفعیا کما إذا کان بالآلة الطابعة أم تدریجیا.

و علی هذا المنهج فلا یحرم أخذ العکس المتعارف فی زماننا،لعدم کونه إیجادا للصورة المحرمة،و إنما هو أخذ للظل،و إبقاء له بواسطة الدواء،فإن الإنسان إذا وقت فی مقابل المکینة العکاسة کان حائلا بینها و بین النور،فیقع ظله علی المکینة،و یثبت فیها لأجل الدواء فیکون صورة لذی ظل،و این هذا من التصویر المحرم؟.

و هذا من قبیل وضع شیء من الأدویة علی الجدران أو الأجسام الصیقلیة لتثبت فیها الاظلال و الصور المرتسمة،فهل یتوهم أحد حرمته من جهة حرمة التصویر،و إلا لزمه القول بحرمة النظر إلی المرآة،إذ لا یفرق فی حرمة التصویر بین بقاء الصورة مدة قلیلة أو مدة مدیدة!!.

و قد اشتهر انطباع صور الأشیاء فی شجرة الجوز فی بعض الأحیان،و لا نحتمل أن یتفوه أحد بحرمة الوقوف فی مقابلها فی ذلک الوقت،بدعوی کونه تصویرا محرما.

و علی الاجمال لا نتصور حرمة أخذ العکس المتعارف،لا من جهة الوقوف فی مقابل المکینة العکاسة،و لا من جهة إبقاء الظل فیها کما هو واضح.

الفرع السادس:قد عرفت آنفا أن المناط فی حرمة التصویر قصد الحکایة و الصدق العرفی،و علیه فیحرم تصویر الصورة للحیوانات مطلقا سواء ما کان منها فرد لنوع من الحیوانات الموجودة،و ما لم یکن کذلک کالعنقاء و نحوه من الحیوانات الخیالیة،و ذلک لإطلاق الأدلة.

الفرع السابع:إذا صور صورة مشترکة بین الحیوان و غیره لم یکن ذلک حراما إلا إذا قصد الحکایة عن الحیوان،ثم إذا اشترک أشخاص عدیدة فی صنعة صورة محرمة،فان قصد کل واحد منهم التصویر المحرم فهو حرام،و إلا فلا یحرم غیر ترکیب الاجزاء المتشتتة الفرع الثامن:قد عرفت فی البحث عن حرمة تغریر الجاهل:أن إلقاء الغیر فی الحرام الواقعی حرام،و علیه فلا فرق فی حرمة التصویر بین المباشرة و التسبیب.بل قد عرفت فی المبحث المذکور:أن نفس الأدلة الأولیة تقتضی عدم الفرق بین المباشرة و التسبیب فی

ص:233

إیجاد المحرمات،و علی هذا فلا نحتاج فی استفادة التعمیم إلی القرینة و ملاحظة المناط کما فی حاشیة السید(ره).

ما استدل به علی حرمة

اقتناء الصور المحرمة و الجواب عنه

قوله بقی الکلام فی جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور. أقول:هل یجوز اقتناء الصور المحرمة أو لا؟ففیه قولان:فالمحکی عن شرح الإرشاد للمحقق الأردبیلی،و عن جامع المقاصد للمحقق الثانی هو الجواز،إلا أن المعروف بین القدماء حرمة بیع التماثیل و ابتیاعها و التکسب بها.بل حرمة اقتنائها.

و قد استدل علی حرمة اقتنائها بوجوه،

الوجه الأول:أن الوجود و الإیجاد فی الحقیقة

شیء واحد و إنما یختلفان بالاعتبار،

فان الصادر من الفاعل بالنسبة إلیه إیجاد،و بالنسبة إلی القابل وجود،فإذا حرم الإیجاد حرم الوجود.

و فیه أن حرمة الإیجاد و إن کان ملازما لحرمة الوجود إلا ان الکلام هنا لیس فی الوجود الاولی الذی هو عین الإیجاد أو لازمه،بل فی الوجود فی الآن الثانی الذی هو عبارة عن البقاء،و من البدیهی انه لا ملازمة بین الحدوث و البقاء،لا حکما،و لا موضوعا،و علیه فما یدل علی حرمه الإیجاد لا یدل علی حرمة الوجود بقاء،سواء کان صدوره من الفاعل عصیانا أو نسیانا أم غفلة إلا إذا قامت قرینة علی ذلک،کدلالة حرمة تنجیس المسجد علی وجوب إزالة النجاسة عنه.

بل ربما یجب إبقاء النتیجة و إن کان الفعل حراما،کما إذا کتب القرآن علی ورق مغصوب،أو بحبر مغصوب،أو کتبه العبد بدون إذن مولاه،أو بنی مسجدا بدون إذنه أو تولد احد من الزنا،فان فی ذلک کله یجب حفظ النتیجة و إن کانت المقدمة محرمة.

و علی الجملة ما هو متحد مع الإیجاد لیس موردا للبحث،و ما هو مورد للبحث لا دلیل علی اتحاده مع الإیجاد.

لا یقال:إن النهی عن الإیجاد کاشف عن مبغوضیة الوجود المستمر فی عمود الزمان، کما أن النهی عن بیع العبد المسلم من الکافر حدوثا یکشف عن حرمة ملکیته له بقاء.

فإنه یقال:إن النهی عن بیع العبد المسلم من الکافر إن تم فهو یدل علی وجوب إزالة علاقة الکافر عنه کما سیأتی بیان ذلک فی محله،و لا یفرق فی ذلک بین الحدوث و البقاء، بخلاف ما نحن فیه،إذ قد عرفت:أن مجرد وجود الدلیل علی حرمة الإیجاد لا یدل علی

ص:234

حرمة الإبقاء إلا إذا کان محفوفا بالقرائن المذکورة.

علی أنا إذا سلمنا الملازمة بین مبغوضیة الإیجاد و بین مبغوضیة الوجود فإنما یتم بالنسبة إلی الفاعل فقط فیجب علیه إتلافه دون غیره،مع أن المدعی وجوب إتلافه علی کل احد فالدلیل أخص منه.

الوجه الثانی:أن صنعة التصاویر لذوات الأرواح من المحرمات الشرعیة،

و قد دل علیه قوله«ع»فی روایة تحف العقول:(و صنعة صنوف التصاویر ما لم یکن مثال الروحانی) و کل صنعة یجیء منها الفساد محضا من دون أن یکون فیها وجه من وجوه الصلح فهی محرمة،و قد دل علی ذلک ما فی روایة تحف العقول من الحصر:(إنما حرم اللّه الصناعة التی هی حرام کلها التی یجیء منها الفساد محضا و لا یکون منه و فیه شیء من وجوه الصلاح) و کل ما یجیء منه الفساد محضا یحرم جمیع التقلب فیه،و منه الاقتناء و البیع،و قد دل علیه قوله«ع»فیها:(و جمیع التقلب فیه من جمیع وجوه الحرکات کلها).و قوله«ع»فیها أیضا:(فکل أمر یکون فیه الفساد مما هو منهی عنه،الی ان قال:فهو حرام محرم بیعه و شراؤه و إمساکه و ملکه و هبته و عاریته و جمیع التقلب فیه).

و فیه أولا:ان الروایة ضعیفة السند فلا یجوز الاستناد إلیها فی شیء من المسائل الشرعیة کما عرفته فی أول الکتاب.

و ثانیا:قد عرفت انه لا ملازمة بین حرمة عمل شیء و بین حرمة بیعه و اقتنائه و التصرف فیه و التکسب به،و من هنا نقول بحرمة الزنا،و لا نقول بحرمة تربیة أولاد الزنا،بل یجب حفظهم لکونهم محقونی الدماء.

و ثالثا:لا نسلم أن عمل التصاویر مما یجیء منه الفساد محضا،فإنه کثیرا ما تترتب علیه المنافع المحللة من التعلیم و التعلم و حفظ صور بعض الأعاظم و نحوه ذلک من المنافع المباحة.

الوجه الثالث:قوله(صلی الله علیه و آله)فی الخبر المتقدم:(لا تدع صورة إلا محوتها).

و فیه أولا:أنه ضعیفة السند.و ثانیا:ما ذکره المحقق الایروانی من انه(وارد فی موضوع شخصی فلعل تصاویر المدینة کانت أصناما و کلابها مؤذیات و قبورها مسنمات).

الوجه الرابع:ما دل1علی عدم صلاحیة اللعب بالتماثیل.

و فیه أولا:انه ضعیف السند.و ثانیا:ان عدم الصلاحیة أعم من الحرمة،فلا یدل

ص:235

علیها.و ثالثا:لو سلمنا دلالته علی حرمة اللعب بها فلا ملازمة بین حرمته و حرمة اقتنائها،فإن حرمة اللعب أعم من حرمة الاقتناء.

و رابعا:انه غریب عما نحن فیه،إذ من المحتمل القریب ان یراد من التماثیل فی هذه الطائفة من الروایة الشطرنج و الوجه فی صحة إطلاق التماثیل علیه هو ان القطع التی یلعب بها فی الشطرنج علی ستة أصناف،و کل صنف علی صورة،کالشاة و الفرزان (1)و الفیل و الفرس و الرخ (2)و البیذق (3)و قد صور هذه القطع فی کتاب المنجد فراجع.

و یؤید ما ذکرناه من إرادة الشطرنج من التماثیل انا لا نتصور معنی لحرمة اللعب بالتصاویر المتعارفة کما هو واضح،و علیه فما دل علی حرمة اللعب بها إنما هو من أدلة حرمة اللعب بالشطرنج،و لا أقل من الاحتمال،فلا یبقی له ظهور فی إرادة الصور المتعارفة.

الوجه الخامس:صحیحة البقباق-المتقدمة عند الاستدلال علی حرمة التصویر

(عن أبی عبد اللّه«ع»فی قول اللّه تعالی (4): یَعْمَلُونَ لَهُ ما یَشاءُ مِنْ مَحارِیبَ وَ تَماثِیلَ ؟فقال:

و اللّه ما هی تماثیل الرجال و النساء و لکنها الشجر و شبهه).و بدعوی ان ظاهر الروایة ان الامام«ع»أنکر ان شاء سلیمان«ع»هذا الصنف من التماثیل،فتکون دالة علی مبغوضیة وجود التماثیل،و حرمة اقتنائها.

و فیه ان الظاهر من الروایة رجوع الإنکار إلی کون التصاویر المعمولة لسلیمان«ع» تصاویر الرجال و النساء،فلا تدل الروایة علی مبغوضیة العمل فضلا عن مبغوضیة المعمول و الوجه فیه هو ان عمل تصاویر الرجال و النساء و اقتنائها من الأمور اللاهیة غیر اللائقة بمنصب الأعاظم و المراجع من العلماء و الروحانیین فضلا عن مقام النبوة،فإن النبی(صلی الله علیه و آله) لا بد و ان یکون راغبا عن الدنیا و زخرفها،و اما عمل الصور و جمعها فمن لعب الصبیان و شغل المجانین و السفهاء،فلا یلیق بمنصب النبوة،بخلاف تصاویر الشجر و شبهه،فإنها

ص:236


1- 1) الفرزان بضم الفاء و سکران الراء المهملة الملکة فی لعب الشطرنج ج فرازین بفتح الفاء،و الکلمة من الدخیل.
2- 2) الرخ بضم الراء المهملة و الخاء المعجمة طائر و همی کبیر،الواحدة رخة قطعة من قطع الشطرنج ج رخاخ و رخخة بکسر الراء.
3- 3) البیذق بفتح الباء و سکون الیاء الماشی راجلا و منه بیذق الشطرنج ج بیاذق.
4- 4) سورة سبأ،آیة:12.

غیر منافیة لذلک.

و قد یقال:ان الصانعین للتماثیل هم الجن،و إنما یتم الاستدلال بالروایة علی حرمة اقتناء الصور إذا قلنا بحرمة التصویر علی الجن کحرمته علی الانس،و هو أول الکلام.

و فیه ان الکلام لیس فی عمل الصور،بل فی اقتنائها،و من الواضح انه یعود الی سلیمان.

الوجه السادس:حسنة زرارة المتقدمة فی الحاشیة(لا بأس بأن یکون التماثیل فی البیوت

إذا غیرت رؤوسها منها و ترک ما سوی ذلک).

فإنها بمفهومها دالة علی ثبوت البأس إذا لم یغیر الرأس.

و فیه ما ذکره المصنف من حمل البأس فیها علی الکراهة للصلاة.و علیه فتدل الروایة علی جواز اقتناء الصور مع قطع النظر عن الصلاة.

و یؤیده ما فی روایة قرب الاسناد[1]من انه(لیس فیما لا یعلم شیء فإذا علم فلینزع الستر و لیکسر رؤوس التماثیل).فان الظاهر ان الأمر بکسر رؤوس التصاویر لأجل کون البیت معدا للصلاة.و مع الإغضاء عما ذکرناه و تسلیم ان البأس ظاهر فی المنع فالروایة معارضة بما دل علی جواز الاقتناء کما سیأتی.و یضاف الی جمیع ذلک انها ضعیفة السند و مجهولة الراوی.

الوجه السابع:ما دل2علی کراهة علی«ع»وجود الصور فی البیوت،

فإنه بضمیمة ما دل[3]علی ان علیا«ع»لم یکن یکره الحلال یدل علی حرمة اقتناء الصور فی البیوت.

و فیه ان المراد من الحلال الذی کان علی«ع»لا یکرهه المباح المتساوی طرفاه، لا ما یقابل الحرمة،لأن علیا«ع»کان یکره المکروه أیضا.و من هنا یظهر ان الکراهة المذکورة فی الروایة الأولی أعم من الحرمة و الکراهة المصطلحة.و إذن فلا دلالة فیها أیضا علی حرمه اقتناء الصور.

ص:237

الوجه الثامن:روایة الحلبی1فقد أمر الإمام«ع»فیها بتغییر رأس الصورة و جعلها

کهیئة الشجر،

فتدل علی حرمة إبقاء الصور من غیر تغییر فیها.

و فیه ان أمر الإمام«ع»بتغییر الصورة فی الطنفسة التی أهدیت إلیه لیس إلا کفعله بنفسه،و من الواضح ان فعل الامام«ع»لا یدل علی الوجوب،و لا یقاس ذلک بسائر الأوامر الصادرة منه«ع»الدالة علی الوجوب،و قد تقدم نظیر ذلک فی البحث عن بیع الدراهم المغشوشة من أمره«ع»بکسر الدرهم المغشوش،و إلقائه فی البالوعة،علی ان الروایة مرسلة،فلا یجوز الاستناد إلیها.

الوجه التاسع،صحیحة محمد بن مسلم المتقدمة(عن تماثیل الشجر و الشمس و القمر؟

فقال:لا بأس ما لم یکن شیئا من الحیوان).

فإنها ظاهرة فی حرمة اقتناء الصور المحرمة، فإن التماثیل جمع تمثال بالفتح،و یجمع علی تمثالات.و علیه فالسؤال عن التماثیل إنما هو سؤال عن الصور الموجودة فی الخارج،فلا بد و أن یحمل علی الأمور المناسبة لها من البیع و الشراء و الاقتناء و التزین و نحوها،لا علی نفس عمل الصور،کما أن السؤال عن بقیة الأشیاء الخارجیة-من المأکولات و المشروبات و المرکوبات و المنکوحات و نحوها-سؤال عن الأفعال المناسبة لها،و الطارئة علیها بعد کونها موجودة فی الخارج.و إذن فالصحیحة دالة علی حرمة اقتناء الصور المحرمة و بیعها و شرائها و التزین بها،کما هو واضح.

قال المحقق الایروانی:(و الجواب أما عن الصحیحة فبعد تسلیم السؤال فیها عن حکم الاقتناء و کون اقتنائها من منافعها.أن غایة ما یستفاد منهما ثبوت البأس،و هو أعم من التحریم.

و فیه أن کلمة البأس ظاهرة فی المنع ما لم یثبت الترخیص من القرائن الحالیة أو المقالیة، کما أن مقابلها:أعنی کلمة لا بأس ظاهر فی الجواز المطلق.

فالإنصاف أنها ظاهرة فی التحریم،إلا أنها معارضة بما دل[2]علی جواز اقتناء الصور

ص:238

فلا بد من حملها علی الکراهة،کغیرها من الأخبار المتقدمة لو سلمت دلالتها علی الحرمة،

ص:239

بل الظاهر من بعضها ان النهی عن اقتناء الصور فی البیوت إنما هو من جهة کراهة الصلاة إلیها،و علیه فلا یکره الاقتناء فی غیر بیوت الصلاة.و قد ذکر المصنف هنا جملة من الروایات[1]و لکنها ضعیفة السند.

ثم ان مقتضی العمومات الدالة علی حلیة البیع و نفوذه هو جواز بیع الصور و ان کان عملها حراما،لعدم الدلیل علی حرمة بیعها وضعا و تکلیفا،بل الظاهر من بعض الأحادیث الدالة علی جواز إبقاء الصور هو جواز بیعها،فان المذکور فیها جواز اقتناء الثیاب و البسط و الوسائد التی فیها الصور،و من الواضح جدا انها تبتاع من السوق غالبا،و قد ذکرنا جملة منها فی الحاشیة،و المتحصل من جمیع ما ذکرناه:أن المحرم هو خصوص تصویر الصور لذوات الأرواح فقط،و أما اقتناؤها و تزیین البیوت بها و بیعها و شراؤها فلا إشکال فی جوازها.

قوله و یؤید الکراهة الجمع بین اقتناء الصور و التماثیل فی البیت. أقول:قد عرفت

ص:240

أنه لا دلیل علی حرمة اقتناء الصورة المحرمة،و أن مقتضی الجمع بین ما دل علی جواز الاقتناء و بین ما دل علی الحرمة هو حمل الثانی علی الکراهة.

و یؤید ذلک أیضا الأخبار المستفیضة[1]المصرحة بأن الملائکة لا تدخل بیتا فیه صورة أو کلب أو إناء یبال فیه،و فی بعض أحادیث العامة (1):لا تدخل الملائکة بیتا فیه کلب و لا صورة تماثیل.و فی بعض أحادیثنا[2]إضافة الجنب إلی الأمور المذکورة.

و وجه التأیید أن وجود الجنب و الکلب و الإناء الذی یبال فیه فی البیوت لیس من الأمور المحرمة فی الشریعة المقدسة،بل هو مکروه،و اتحاد السیاق یقتضی کون اقتناء الصور فیها أیضا مکروها.

ثم إنه لا فرق فیما ذکرناه من جواز اقتناء الصور و بیعها و شرائها بین کونها مجسمة و غیر مجسمة،لاتحاد الأدلة نفیا و إثباتا کما عرفت.

ص:241


1- 1) راجع ج 7 ص 268.

حرمة التطفیف و البخس

اشارة

قوله الخامسة التطفیف حرام): أقول:التطفیف[1]مثل التقلیل و زنا و معنی، و المراد به هنا أن یجعل الإنسان نفسه کیالا أو وزانا،فیقلل نصیب المکیل له فی إیفائه و استیفائه علی وجه الخیانة.و البخس[2]نقص الشیء عن الحد الذی یوجبه الحق علی سبیل الظلم.و کیف کان فلا إشکال فی حرمتهما عند المسلمین قاطبة.و تدل علی ذلک الأدلة الأربعة.

أما الکتاب فقوله تعالی[3]: (وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ) .و قوله تعالی: (1)(وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْیاءَهُمْ) .و قوله تعالی (2): (وَ لا تَنْقُصُوا الْمِکْیالَ وَ الْمِیزانَ) .و أما السنة فقد ورد النهی عن البخس و التطفیف فی جملة من الروایات[4]و أما الإجماع فإنه و إن کان

ص:242


1- 1) راجع سورة الأعراف،آیة:83.و سورة هود،آیة 86.و سورة الشعراء آیة:180.
2- 2) سورة هود،آیة:85.

قائما علی حرمة التطفیف و البخس،إلا أنه لیس إجماعا تعبدیا،بل من المحتمل القریب أن یکون مدرکه الکتاب و السنة،و أما العقل فلأن تنقیص حق الناس و عدم الوفاء به ظلم.

و قد استقل العقل بحرمته.

و مما ذکرناه ظهر ما فی کلام المحقق الایروانی من الوهن حیث قال:الظاهر بل المقطوع به أن التطفیف بنفسه لیس عنوانا من العناوین المحرمة:أعنی الکیل بالمکیال الناقص و کذا البخس فی المیزان مع وفاء الحق کاملا).و وجه الوهن أن التطفیف قد أخذ فیه عدم الوفاء بالحق،و البخس هو نقص الشیء علی سبیل الظلم،و هما بنفسهما من المحرمات الشرعیة و العقلیة.

علی أنه قد ثبت الذم فی الآیة الشریفة علی نفس عنوان التطفیف،فان الویل کلمة موضوعة للوعید و التهدید،و تقال لمن وقع فی هلاک و عقاب،و کذلک نهی فی الآیات المتعددة عن البخس کما عرفت آنفا.و ظاهر ذلک کون التطفیف و البخس بنفسهما من المحرمات الإلهیة

ص:243

قوله ثم إن البخس فی العدد و الذرع یلحق به حکما و إن خرج عن موضوعه) .

أقول:قد عرفت أن التطفیف و البخس مطلق التقلیل و النقص علی سبیل الخیانة و الظلم فی إیفاء الحق و استیفائه.و علیه فذکر الکیل و الوزن فی الآیة و غیرها إنما هو من جهة الغلبة،فلا وجه لإخراج النقص فی العدد و الذرع عن البخس و التطفیف موضوعا، و إلحاقهما بهما حکما.

صحة المعاملة المطفف فیها و فسادها

قوله و لو وازن الربوی بجنسه فطفف فی أحدهما فإن جرت المعاوضة إلخ. أقول قد عرفت أنه لا إشکال فی حرمة التطفیف تکلیفا،فإجارة نفسه علیه-کإجارة نفسه علی سائر الأفعال المحرمة-محرمة وضعا و تکلیفا،کما عرفت مرارا.

و أما الکلام فی صحة المعاملة المطفف فیها و فسادها فنقول:إن المعاملة قد تقع علی الکلی فی الذمة،و قد تقع علی الکلبی فی المعین الخارجی،و قد تقع علی الشخص المعین الموجود فی الخارج المشار إلیه بالإشارة الحسیة.

أما علی الصورتین الأولتین فلا إشکال فی صحة المعاملة و عدم فسادها بالتطفیف الخارجی فإن المعاملة قد انعقدت صحیحة،و لکن البائع،أو من یباشر الإقباض و التسلیم طفف فی الکیل و الوزن،أو فی الذرع و العدد،و هو لا یوجب فسادها،بل یکون الدافع مشغول الذمة بما نقص عن الحق،و لا یفرق فی ذلک بین کون المعاملة ربویة أو غیر ربویة کما هو واضح.

و علی الجملة:إن هاتین الصورتین خارجتان غما نحن فیه.

و أما علی الصورة الثالثة فربما یقال:ببطلان المعاملة إذا وقعت علی المتاع الخارجی بما أنه مقدر بمقدار کذا فظهر عدم انطباق العنوان الملحوظ فی البیع علی المشار إلیه الخارجی و وجه البطلان أن ما هو معنون بعنوان کذا غیره موجود فی الخارج،و ما هو موجود فی الخارج غیر معنون بذلک العنوان،و توهم إلغاء الإشارة أو الوصف فاسد،فان اللازم هو الأخذ بکلیهما،لتعلق قصد المتبایعین بهما.

و فیه أنه لا وجه للبطلان إذا تخلف العنوان،فإنه لیس من العناوین المقومة،بل هو إما أن یکون مأخوذا علی نحو الشرطیة،أو علی نحو الجزئیة کما سیجیء.و لا یقاس ذلک بتخلف العناوین التی تعد من الصور النوعیة عند العرف،کما إذا باع صندوقا فظهر أنه طبل،أو باع ذهبا فظهر أنه مذهب،أو باع بغلا فظهر أنه حمار فان البطلان فی أمثالها لیس

ص:244

من انفکاک العنوان عن الإشارة،بل من جهة عدم وجود المبیع أصلا،و قد تقدم ذلک فی البحث عن بیع هیاکل العبادة و عن بیع الدراهم المغشوشة.

و ربما یقال:إن المورد من صغریات تعارض الإشارة و العنوان،و تقدیم أحدهما علی الآخر یختلف بحسب اختلاف الموارد.

و فیه أن الکبری و إن کانت مذکورة فی کتب الشیعة و السنة[1]إلا أنها لا تنطبق علی ما نحن فیه،فان البیع من الأمور القصدیة،فلا معنی لتردد المتبایعین فیما قصداه.نعم قد یقع التردد منهما فی مقام الإثبات من جهة اشتباه ما هو المقصود بالذات.

و الذی ینبغی أن یقال:إن الصور المتصورة فی المقام ثلاث،الاولی:أن یکون إنشاء البیع معلقا علی کون المبیع متصفا بصفة خاصة،بأن یقول:بعتک هذا المتاع الخارجی علی أن یکون منا فظهر الخلاف،و هذا لا إشکال فی بطلانه،لا من جهة التطفیف،و لا من جهة تخلف الوصف،بل لقیام الإجماع علی بطلان التعلیق فی الإنشاء.

الثانیة:أن ینشأ البیع منجزا علی المتاع الخارجی بشرط کونه کذا مقدار ثم ظهر الخلاف،و هذا لا إشکال فی صحته،فان تخلف الأوصاف غیر المقومة للصورة النوعیة لا یوجب بطلان المعاملة،غایة الأمر أنه یوجب الخیار للمشتری.

الثالثة:أن یکون مقصود البائع-من قوله:بعتک هذا المتاع الخارجی بدینارین علی أن یکون کذا مقدار-بیع الموجود الخارجی فقط،و کان غرضه من الاشتراط الإشارة إلی تعیین مقدار العوضین،و وقوع کل منهما فی مقابل الآخر بحیث یقسط الثمن علی أجزاء المثمن،و علیه فإذا ظهر الخلاف صح البیع فی المقدار الموجود و بطل فی غیره،نظیر بیع ما یملک و ما لا یملک،کالخنزیر مع الشاة و الخمر مع الخل.

و الظاهر هی الصورة الأخیرة،فإن مقصود البائع من الاشتراط المذکور لیس إلا بیان مقدار المبیع فقط،من غیر تعلیق فی الإنشاء،و لا اعتبار شرط فی المعاملة کما هو واضح، هذا کله إذا لم یکن البیع ربویا.

و أما إذا کان ربویا،فان کان من قبیل الصورة الأولی بطل البیع للتعلیق،مع قطع النظر

ص:245

عن التخلف،و کون المعاملة ربویة،و إن کان من قبیل الصورة الثانیة بطل البیع،لکونه ربویا،مع قطع النظر عن تخلف الشرط.و إن کان من قبیل الصورة الثالثة قسط الثمن علی الاجزاء،و صح البیع فی المقدار الموجود،و بطل فی غیره.

التنجیم

اشارة

قوله السادسة:التنجیم (1)حرام،و هو کما فی جامع المقاصد الإخبار عن أحکام النجوم. أقول:

تحقیق المرام یبتنی علی مقدمتین:
المقدمة الاولی فی بیان أمرین:
الأمر الأول:أن أصول الإسلام أربعة:
الأول:الایمان باللّه،و الإقرار بوجوده،و کونه صانعا للعالم،

و بجمیع ما یحدث فیه من غرائب الصنع،و آثار الرحمة،و عجائب الخلق،و اختلاف الموجودات من الشمس و القمر و النجوم و الریاح و السحاب و الجبال و البحار و الأشجار و الاثمار،و اختلاف اللیل و النهار،فمن أنکر ذلک کان کافرا،کالدهریة القائلین:بکون الأمور کلها تحت سلطان الدهر بلا احتیاج الی الصانع،و کفره ثابت بالضرورة من المسلمین،بل و من جمیع الملیین،و قد دلت الآیات الکثیرة علی أن من لم یؤمن باللّه و أنکره فهو کافر.

الثانی:الإقرار بتوحیده تعالی،

و یقابله الشرک،و القول:بأن للعالم أکثر من صانع واحد،کما یقوله الثنویة و غیرهم،و کفر منکر التوحید ثابت بکثیر من الآیات-کقوله تعالی (2): (إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ) -و الروایات.

الثالث:الإیمان بنبوة محمد(صلی الله علیه و آله)و الاعتراف بکونه نبیا مرسلا:

(لا ینطق عن الهوی إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی) و من أنکر ذلک-کالیهود و النصاری و أشباههم-کان کافرا یحکم الضرورة من المسلمین،و قد دلت علیه جملة من الآیات و الروایات.و أما الإقرار بالأنبیاء السابقین فهو داخل فی الإقرار بما جاء به النبی(صلی الله علیه و آله)،فإنکاره یوجب الکفر من جهة التکذیب النبی(صلی الله علیه و آله).

الرابع:الایمان بالمعاد الجسمانی،و الإقرار بیوم القیامة و الحشر و النشر،

و جمع العظام البالیة،و إرجاع الأرواح فیها،فمن أنکر المعاد أو أنکر کونه جسمانیا فهو کافر بالضرورة و لا بد و أن یعلم أن الإقرار بهذه الأمور الأربعة له موضوعیة فی التلبس بحلیة الإسلام، و إنکار أی واحد منها فی حد نفسه موجب للکفر،سواء کان مستندا الی العناد و اللجاج

ص:246


1- 1) نجم من التفعیل رعی النجوم و راقبها لیعلم منها أحوال العالم.
2- 2) سورة التوبة،آیة:28.

أم کان مستندا إلی الغفلة و عدم الالتفات الناشئ عن التقصیر أو القصور،و قد دلت الآیات الکثیرة أیضا علی کفر منکر المعاد.

الأمر الثانی:أنه یجب علی العباد الاعتراف بفرائض اللّه و سنن رسوله(صلی الله علیه و آله)،و بما جاء

به النبی(صلی الله علیه و آله)،

فمن ترکها جاحدا و هو عالم بأن إنکاره هذا یستلزم تکذیب النبی(صلی الله علیه و آله) فهو کافر،و إلا فلا ملازمة بین الإنکار و بین الکفر،و من هنا لا یحکم بکفر المخالفین فی الظاهر مع إنکارهم الولایة.

و قد دلت الآیات و روایات الفریقین علی اعتبار الأمور المذکورة فی الإسلام،و حقن الدماء،و حفظ الأموال،ففی موثقة سماعة (1):(الإسلام شهادة أن لا إله إلا اللّه و التصدیق برسول اللّه به حقنت الدماء و علیه جرت المناکح و المواریث و علی ظاهره جماعة الناس).و فی روایة داود بن کثیر الرقی (2):(إن اللّه تعالی فرض فرائض موجبات علی العباد فمن ترک فریضة من الموجبات و جحدها کان کافرا).و من طرق العامة (3)عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):(أقاتل الناس حتی یشهدوا أن لا إله إلا اللّه و یؤمنوا بی و ما جئت به فإذا فعلوا ذلک عصموا منی دماءهم و أموالهم).

المقدمة الثانیة:أنه لا إشکال فی اختلاف الأجرام العلویة

و الکیفیات الخاصة الحاصلة بین الفلکیات بعضها مع بعض،و تأثیرها فی الأوضاع الأرضیة و الأجسام العنصریة، کتأثیر قرب الشمس من خط الاستواء و بعدها عنه فی اختلاف الفصول،و کزیادة الرطوبة فی الأبدان بزیادة نور القمر و نقصانها بنقصانه،و زیادة أدمغة الحیوانات و ألبانها بزیادة نوره و نقصانها بنقصانه،و زیادة البقول و الثمار نموا و نضجا احمرارا و اخضرارا عند زیادة نور القمر،بل ذکر المحقق البهائی فی الحدیقة الحلالیة ان المزاولین لها یسمعون صوتا من القثّاء و القرع و البطیخ عند تمدده وقت زیادة النور،و کزیادة المیاه فی البحار و الشطوط و الینابیع فی کل یوم من النصف الأول من الشهر و نقصانها یوما فیوما فی النصف الأخیر منه،الی غیر ذلک من الآثار الواضحة التی یجوز الاعتقاد بها،و الإخبار عنها، من دون أن یترتب علیه محذور شرعا.

و أیضا لا إشکال فی جواز النظر إلی أوضاع الکواکب و سیرها،و ملاحظة اقتران بعضها مع بعض،و الإذعان بها و الإخبار عنها،کالإخبار عن سیر الکواکب حرکة سریعة من المشرق الی المغرب فی یوم و لیلة التی بها یتحقق طلوعها و غروبها،و یتحقق اللیل

ص:247


1- 1) راجع ج 3 الوافی ص 18.
2- 2) راجع ج 3 الوافی ص 40.
3- 3) راجع ج 8 سنن البیهقی ص 202.

و النهار،کما حقق فی الهیئة القدیمة،و کالإخبار عن الخسوف و الکسوف،و عن ممازجات الکواکب و مقارناتها،و اختفائها و احتراقها،و نحوها من الأمور الواضحة المقرة فی علم معرفة التقویم و علم الهیئة،فإن الإخبار عنها-نظیر الإخبار عن طلوع الشمس فی أول الیوم و عن غروبها فی آخره-مبنی علی التجربة و الامتحان و الحساب الصحیح الذی لا یتخلف غالبا،و من الواضح جدا أنه لا یرتبط شیء منها بما نحن فیه،بل هی خارجة عن علم النجوم.

نعم إذا استند المخبر عن تلک الأمور إلی الظنون غیر المعتبرة عقلا،و کان کلامه ظاهرا فی الإخبار الجزمی کان الإخبار حراما من جهة الکذب،و علیه فلا وجه لما ذکره المصنف من تجویز الأخبار عن سیر الکواکب مع الاستناد إلی الأمارات الظنیة.

إذا عرفت هاتین المقدمتین فنقول:قد اختلفت الأقوال فی جواز تعلم النجوم و تعلیمها و النظر فیها مع عدم اعتقاد تأثیرها أصلا و عدم جوازه.

و تنقیح المسألة و تهذیبها یقع فی أمور:
الأول:قال جمع من الفلاسفة:إن للأفلاک نفوسا ترتسم فیها صور المقدرات،

و یقال لها:لوح المحو و الإثبات،و إن الأفلاک متحرکة علی الاستدارة و الدوام حرکة إرادیة اختیاریة للشبه بعالم العقول:و الوصول الی المقصد الأقصی،و إنما مؤثرة فی ما یحدث فی عالم العناصر من الموت و المرض و الصحة و الفقر و الغنی،و إن نظام الکل بشخصیته هو الإنسان الکبیر،و العقول و النفوس بمنزلة القوی العاقلة و العاملة التی هی مبادی الإدراکات و التحریکات و النفوس مفوضة إلی النفوس المنطبعة بمنزلة الروح الحیوانی.و علی الجملة التزموا بأن الموجودات الممکنة برمتها مفوضة إلی النفوس الفلکیة،و العقول الطولیة،و أن اللّه تعالی بعد خلقه العقل الأول منعزل عن التصرف فی مخلوقة.

و فیه أنه علی خلاف ضرورة الدین،و إجماع المسلمین،و الاعتقاد به کفر و زندقة، لکونه إنکارا للصانع،فإن الأدلة العقلیة و السمعیة من الآیات و الروایات مطبقة علی إثبات الصانع،و إثبات القدرة المطلقة له تعالی،و أن أزمة المخلوقات کلها فی قبضة قدرته،یفعل فیها ما یشاء،و لا یسئل عما یفعل و هم یسألون.

إلا أن یکون مراد الفلاسفة أن الفیاض علی الإطلاق فی جمیع الحالات هو الباری تعالی و لکن إفاضة الوجود بواسطة النفوس الفلکیة،و هی طرق لوصول الفیض،و لیست مؤثرة فی عالم العناصر لیلزم منه إنکار الصانع.و یظهر هذا من کلام جماعة منهم.

علی أن الظاهر من الآیات و الروایات أن حرکة الأفلاک إنما هی حرکة قسریة،

ص:248

و بمباشرة الملائکة،فالاعتقاد علی خلافه مخالف للشرع،و تکذیب النبی الصادق(صلی الله علیه و آله)فی إخباره،فیکون کفرا،و إرادة النفوس الفلکیة من الملائکة من تأویلات الملاحدة،کما صرح به المجلسی(ره)فی اعتقاداته.

ثم إن الاعتقاد بالأمور المذکورة إنما یوجب الکفر إذا علم المعتقد بالملازمة بینها و بین إنکار الصانع،أو تکذیب النبی(صلی الله علیه و آله)،و إلا فلا محذور فیه،کما عرفت فی المقدمة الثانیة.

الأمر الثانی:أن یلتزم بتأثیر الأوضاع الفلکیة و الکیفیات الکوکبیة بنفسها فی حوادث

العوالم السفلیة،

کتوسعة الرزق و أنوثة الولد و رجولته و صحة المزاج و سقمه و ازدیاد الأموال و نقصانها و غیرها من الخیرات و الشرور،سواء قلنا بالنفوس الفلکیة أم لم نقل.

و هو علی وجهین،الأول:أن یکون ذلک علة تامة لحدوث الحوادث.و الثانی:أن یکون شریکا للعلة فی الأمور المذکورة.

و کلا الوجهین باطل،لأنه إنکار للصانع،أو لتوحیده جل و علا،و الظاهر أنه لا خلاف فی ذلک بین الشیعة و السنة[1]بل قامت الضرورة بین المسلمین علی کفر من اعتقد بذلک.

قال العلامة المجلسی فی مرآة العقول:(إن القول باستقلال النجوم فی تأثیرها کفر و خلاف لضرورة الدین،و أن القول بالتأثیر الناقص إما کفر أو فسق).و قال المحقق البهائی فی الحدیقة الهلالیة:إن الالتزام بأن(تلک الأجرام هی العلة المؤثرة فی تلک الحوادث بالاستقلال أو أنها شریکة فی التأثیر فهذا لا یحل للمسلم اعتقاده و علم النجوم المبتنی علی هذا کفر.الی غیر ذلک من کلمات الأعاظم الصریحة فیما ذکرناه.

ص:249

الأمر الثالث:أن یلتزم بکون أوضاع الکواکب علامة علی حوادث عالم العناصر

من التقارن و التباعد و الاتصال و التربیع و الاختفاء و غیرها من الحالات-علامة علی حوادث عالم العناصر التی تحدث بقدرة اللّه و إرادته:بأن یجعل الوضع الفلانی علامة رجولة الولد،و الوضع الفلانی علامة أنوثته و هکذا،کما أن سرعة حرکة النبض علامة علی الحمی،و اختلاج بعض الأعضاء علامة علی بعض الحوادث المستقبلة،و نصب العلم علامة علی التعزیة و الرثاء.

و هذا الوجه قد اختاره السید بن طاوس فی محکی کلامه فی رسالته النجومیة،و وافقه علیه جمع من الأعاظم،کالمحقق البهائی فی الحدیقة الهلالیة،و السید الجزائری فی شرح الصحیفة السجادیة (1).و المحدث النوری فی المستدرک (2)و غیرهم،و حملوا علیه ما روی من صحة علم النجوم و جواز تعلمه.

الأمر الرابع:أن یلتزم بأن اللّه تعالی قد أودع فی طبائع أوضاع الکواکب

خصوصیات تقتضی حدوث بعض الحوادث

من غیر أن یکون لها استقلال فی التأثیر و لو بنحو الشرکة،و تلک الخصوصیات کالحرارة و البرودة المقتضیتین للإحراق و التبرید.

و هذان الوجهان و إن لم یکن الاعتقاد بهما موجبا للکفر بأنفسهما،إلا أنهما باطلان لوجوه الأول:أنه لا طریق لنا الی کشف هذا المعنی فی مقام الإثبات و إن کان ممکنا فی مقام الثبوت.

الثانی:أن ذلک مناف لإطلاق الروایات[1]الدالة علی حرمة العمل بعلم النجوم و جعلها

ص:250


1- 1) ص 181.
2- 2) ج 2 ص 433.

علامة علی الحوادث،و ظاهر جملة من

ص:251

الروایات[1]ان لعلم النجوم حقیقة واقعیة،و لکن لا یحیط بها غیر علام الغیوب،و من

ص:252

ارتضاه لغیبة،فلا یجوز لغیره أن یجعلها علامة علی الحوادث.

و من هنا قال الشهید فی محکی قواعده:(و أما ما یقال:من أن استناد الأفعال إلیها کاستناد الإحراق إلی النار،و غیرها من العادیات.الی أن قال:فهذا لا یکفر معتقده، و لکنه مخطئ أیضا).

الثالث:أن ذلک مناف للاخبار المتواترة الواردة فی الحث علی الدعاء و الصدقات و سائر وجوه البر،و الدلالة علی أنها ترد القضاء الذی نزل من السماء،و أبرم إبراما،و أنها ترد البلاء المبرم،و من الواضح جدا أن الالتزام بالوجهین المذکورین إنکار لذلک،و هو مستلزم للکفر من حیث إنه تکذیب النبی(صلی الله علیه و آله)،و لا یفرق فی ذلک بین کون الالتزام بأن أوضاع الکواکب مجرد علامة علی الحوادث،أو مؤثرة فیها و لو بغیر شعور و اختیار نظیر الحرارة و البرودة.

لا یقال:قد ورد فی بعض الأحادیث[1]أنه یکره التزویج فی بعض الإیلام و الساعات لنحوستها کمحاق الشهر،و عند کون القمر فی برج العقرب،فیستفاد من ذلک أن سیر الکواکب و أوضاعها علامة علی بعض الحوادث.

فان ذلک لا ینافی ما قدمناه بعد أن کان المبین له هو الشارع علی ألسنة أمنائه،و قد عرفت دلالة بعض الأخبار علی أن لعلم النجوم حقیقة،و لکن لا یعلم بها غیر علام الغیوب،و من ارتضاه لغیبة.

علی أن ذلک أجنبی عما نحن فیه،فان کراهة التزویج فی تلک الأوقات ککراهة الصلاة فی المواضع المکروهة،و کراهة الجماع فی الأوقات المخصوصة،فلا دلالة فی ذلک علی المطلوب الأمر الخامس:هل یجوز تعلم علم النجوم فی حد ذاته من غیر إذعان بتأثیر الکواکب أم لا؟نسب الشهید فی محکی الدروس القول بالحرمة الی بعض الأصحاب،و لکن الظاهر

ص:253

من بعض الأحادیث[1]هو الجواز إذا کان ذلک لمجرد معرفة سیر الکواکب و أوضاعها الخاصة وفاقا لجمع من الأعاظم رضوان اللّه علیهم.و أما ما یوهم حرمة تعلم النجوم من أحادیث الشیعة (1)و السنة (2)فمحمول علی غیر هذه الصورة و اللّه العالم.

حفظ کتب الضلال

اشارة

قوله السابعة حفظ کتب الضلال حرام فی الجملة بلا خلاف. أقول:قال الشیخ فی غنائم المبسوط:إذا وجد فی المغنم کتب نظر فیها-الی أن قال-:و إن کانت کتبا لا یحل إمساکه کالکفر و الزندقة و ما أشبه ذلک لا یجوز بیعه.ثم حکم بوجوب تمزیقها و إتلافها،و حکم بکون التوراة و الإنجیل من هذا القبیل،لوقوع التحریف فیهما.و نحوه العلامة فی غنائم التذکرة.

ثم إن المراد بکتب الضلال کل ما وضع لغرض الإضلال و إغواء الناس،و أوجب الضلالة و الغوایة فی الاعتقادات أو الفروع.فیشمل کتب الفحش و الهجو و السخریة، و کتب القصص و الحکایات و الجرائد المشتملة علی الضلالة،و بعض کتب الحکمة و العرفان و السحر و الکهانة و نحوها مما یوجب الإضلال.

و قد استدل علی حرمة الحفظ بوجوه:
الأول:حکم العقل بوجوب قلع مادة الفساد.

و فیه أن مدرک حکمه إن کان هو حسن العدل و قبح الظلم-بدعوی أن قلع مادة الفساد حسن،و حفظها ظلم و هتک للشارع-فیرد علیه أنه لا دلیل علی وجوب دفع الظلم فی جمیع الموارد،و إلا لوجب علی اللّه و علی الأنبیاء و الأوصیاء الممانعة عن الظلم تکوینا، مع أنه تعالی هو الذی أقدر الإنسان علی فعل الخیر و الشر،و هداه السبیل إما شاکرا، و إما کفورا.

ص:254


1- 1) راجع المصادر المذکورة و ج 14 البحار ص 145-156.
2- 2) راجع ج 8 سنن البیهقی ص 138.

و إن کان مدرک حکمه وجوب الإطاعة و حرمة المعصیة،لأمره تعالی بقلع مادة الفساد فلا دلیل علی ذلک إلا فی موارد خاصة،کما فی کسر الأصنام و الصلبان و سائر هیاکل العبادة.و أما التمسک بروایة تحف العقول فی استفادة کلیة الحکم فسیأتی الکلام فیه.

نعم إذا کان الفساد موجب لوهن الحق و سد بابه،و إحیاء الباطل و تشیید کلمته وجب دفعه،لأهمیة حفظ الشریعة المقدسة،و لکنه أیضا وجوب شرعی فی مورد خاص،فلا یرتبط بحکم العقل بقلع مادة الفساد.

الوجه الثانی:قوله تعالی : (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ) .

(1)

فقد قیل 2فی تفسیر الآیة:أن یشتری کتابا فیه لهو الحدیث،فتشمل حفظ کتب الضلال أیضا.

و فیه أولا:أن المذموم فی ظاهر الآیة هو اشتراء لهو الحدیث للإضلال،و من الواضح ان هذا المعنی أجنبی عن حفظ کتب الضلال،لعدم العلم بترتب الغایة المحرمة علیه،غایة الأمر احتمال ترتب الإضلال علی الحفظ.

و ثانیا:أنا إذا سلمنا ذلک فالمستفاد من الآیة حرمة اشتراء کتب الضلال،و لا دلالة فیها علی حرمة إبقائها و حفظها بعد الشراء،کما أن التصویر حرام،و أما اقتناؤه فلیس بحرام،و الزناء حرام و تربیة أولاد الزناء لیس بحرام.و قد تقدم ذلک فی البحث عن جواز اقتناء الصور المحرمة.

و ثالثا:أنه قیل 3:إن الآیة قد نزلت فی النضر بن الحارث بن کلدة،فإنه کان یشتری کتبا فیها احادیث الفرس من حدیث رستم و إسفندیار،و کان یلهی الناس بذلک، و یظرف به لیصدهم عن سماع القرآن و تدبر ما فیه.نظیر الجرائد المعروفة فی هذا الزمان فإنها مشتملة علی الأمور اللاهیة التی تصد الناس عن الحق.

و رابعا:ما ذکره المحقق الایروانی من ان المراد من الاشتراء هو التعاطی،و هو کنایة عن التحدث به،و هذا داخل فی الإضلال عن سبیل اللّه بسبب التحدث بلهو الحدیث و لا إشکال فی حرمة الإضلال،و ذلک غیر ما نحن فیه من إعدام ما یوجب الإضلال.

ص:255


1- 1) سورة لقمان،آیة:5.
الوجه الثالث:قوله تعالی : (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) .

(1)

و فیه ان قول الزور قد فسر بالکذب[1].و سیأتی فی مبحث حرمة الغناء تفسیر قول الزور بالغناء فی جملة من الروایات،و لا منافاة بین التفسیرین،فان کلا منهما لبیان المصداق،و قد ذکرنا فی مبحث التفسیر ان القرآن لا یختص بطائفة،و لا بمصداق و إلا لنفد بنفاد تلک الطائفة و انعدم ذلک المصداق،بل القرآن یجری مجری الشمس و القمر،کما فی عدة من الروایات،و قد ذکرنا جملة منها فی مقدمات التفسیر،و جمعها فی مشکاة الأنوار المعروف بمقدمة تفسیر البرهان، و کیف کان فالآیة غریبة عما نحن فیه.

لا یقال:إن الآیة تدل علی إعدام کتب الضلال،لکونها من أظهر مصادیق الکذب بل فی کذب علی اللّه و رسوله.

فإنه یقال:غایة ما یستفاد من الآیة وجوب الاجتناب عن التکلم بالکذب،و أما إعدامه فلا،و إلا لوجب إعدام جمیع ما فیه کذب کأکثر التواریخ و نحوها،و لم یلتزم به احد من المحصلین فضلا عن الفقهاء.

الوجه الرابع:ان جملة من فقرات روایة تحف العقول تدل علی حرمة حفظ کتب

الضلال:

منها قوله«ع»:(إنما حرم اللّه الصناعة التی یجیء منها الفساد محضا)بدعوی أن مفهوم الحصر یقتضی حرمة الصناعة المحرمة بجمیع منافعها،و منها الحفظ.

و فیه ان حرمة الصناعة لا تلازم حرمة إبقاء المصنوع کما تقدم فی مبحث إبقاء الصور المحرمة،فغایة ما تدل علیه الروایة ان تألیف کتب الضلال أو استنساخها من المحرمات، لصدق الصناعة علیهما،و لا تدل علی حرمة الإبقاء.

و منها قوله«ع»:(و ما یکون منه و فیه الفساد محضا-الی قوله«ع»-و جمیع التقلب فیه من جمیع وجوه الحرکات کلها).و فیه ان صدق التقلب علی الحفظ ممنوع خصوصا إذا کان غرض الحافظ عدم وقوع کتب الضلال فی أیدی الناس لتوجب إضلالهم.

و منها قوله«ع»:(أو یقوی به الکفر و الشرک فی جمیع وجوه المعاصی أو باب یوهن به الحق فهو حرام محرم بیعه و شراؤه و إمساکه).

و فیه ان الکبری و ان کانت مسلمة،و لکن للمناقشة فی الصغری مجالا واسعا،لمنع کون الحفظ تقویة للکفر و اهانة للحق،کما هو واضح،الا ان یکون بهذا الداعی.

ص:256


1- 1) سورة الحج،آیة:31.

و یضاف الی جمیع ما ذکرناه من الأجوبة أنها ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء کما تقدم، فلا تصلح أن تکون مستندا لشیء من الأحکام الشرعیة.

الوجه الخامس:حسنة عبد الملک بن أعین التی تقدمت فی مبحث التنجیم،

حیث سأل عن ابتلائه بالنجوم(فقال لی:تقضی؟قلت:نعم،قال:أحرق کتبت).

و فیه أن مقتضی التفصیل فیها القاطع للشرکة هو جواز الحفظ مع عدم الحکم.

الوجه السادس:الإجماع.

و فیه أولا:أنا لا نسلم تحققه علی المطلوب،و لذا قال فی الحدائق،ما حاصله:أنه لا دلیل علی حفظ کتب الضلال.و أما الوجوه التی أقاموها علی حرمته فهی تخمینیة اعتباریة لا یجوز الاعتماد علیها فی الأحکام الشرعیة.

و ثانیا:لو سلمنا تحققه علی المطلوب فلیس إجماعا تعبدیا،لاحتمال استناده الی الوجوه المذکورة فی المسألة.و لو سلمنا جمیع ذلک فالمتیقن من الإجماع ما یترتب علیه الإضلال خارجا،و لا ریب أن حرمة إضلال الناس عن الحق من الضروریات بین المسلمین،فلا یحتاج فی إثباتها إلی الإجماع.

ثم لو سلمنا حرمة حفظ کتب الضلال فإنه لا بأس بحفظها لردها،أو إظهار ما فیها من العقائد الخرافیة و القصص المضحکة و الأحکام الواهیة،و مما ذکرناه ظهر حکم المعاملة علیها وضعا و تکلیفا،و کذلک ظهر حکم کتب المخالفین المدونة فی الفقه و العقائد و الأخبار و غیرها.

حرمة حلق اللحیة

اشارة

و لا بأس بالتعرض لحرمة حلق اللحیة إجابة لالتماس بعض الأفاضل.فنقول:المشهور بل المجمع علیه بین الشیعة و السنة[1]هو حرمة حلق اللحیة،

و قد استدل علیها بوجوه:

ص:257

الوجه الأول:قوله تعالی فی التحدث عن قول الشیطان: (وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ) .

(1)

بدعوی أن حلق اللحیة من تغییر الخلقة،و کل ما یکون تغییرا لها فهو حرام.

و فیه أنه إن کان المراد بالتغییر فی الآیة المبارکة تغییرا خاصا فلا شبهة فی حرمته علی إجماله،و لکن لا دلیل علی کون المراد به ما یعم حلق اللحیة،و إن کان المراد به مطلق التغییر فالکبری ممنوعة،ضرورة عدم الدلیل علی حرمة تغییر الخلقة علی وجه الإطلاق، و إلا لزم القول بحرمة التصرف فی مصنوعاته تعالی حتی بمثل جری الأنهار و غرس الأشجار و حفر الآبار و قطع الأخشاب و قلم الأظفار و غیرها من التغییرات فی مخلوقاته سبحانه.

و الظاهر أن المراد به تغییر دین اللّه الذی فطر الناس علیها وفاقا للشیخ الطوسی(ره) فی تفسیره[1].و یدل علیه قوله تعالی (2): (فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ) .و قد نقل الشیخ(ره)فی تفسیر الآیة أقوالا شتی،و لیس منها ما یعم حلق اللحیة.

الوجه الثانی:ما فی جملة من الروایات2من الأمر بإعفاء اللحی و حف الشوارب،

و النهی عن التشبه بالیهود و المجوس.

ص:258


1- 1) سورة النساء،آیة:118.
2- 2) سورة الروم،آیة:29.

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أنها لا تدل علی الوجوب،فان من الواضح جدا أن إعفاء اللحی لیس واجبا،بل الزائد عن القبضة الواحدة مذموم.نعم غایة الأمر أنه یستفاد منها الاستحباب. أقول:الظاهر أن الأمر بالإعفاء عقیب الإحفاء ثم النهی عن التشبه بالیهود ما ذکره المحدث القاسانی«ره»بعد نقل الحدیث من أن(الیهود لا یأخذون من لحاهم،بل یطیلونها، فذکر الإعفاء عقیب الإحفاء ثم النهی عن التشبه بالیهود دلیل علی أن المراد بالاعفاء أن لا یستأصل و یؤخذ منها من دون استقصاء،بل مع توفیر و إبقاء بحیث لا یتجاوز القبضة فتستحق النار).و علی هذا فلا دلالة فی ذلک علی حرمة حلق اللحیة،لأن المأمور به حینئذ هو الاعفاء و إبقاء اللحیة بما لا یزید علی القبضة،و هو لیس بواجب قطعا.

و أما النهی عن التشبه بالمجوس عقیب الاعفاء و الإحفاء فالمراد به أن لا تحلق اللحیة، و تترک الشوارب،کما یصنعون(قال رسول اللّه:إن المجوس جزوا الحاهم و وفروا شواربهم و أما نحن نجز الشوارب و نعفی اللحی و هی الفطرة) و علیه فلا یدل هذا النهی علی حرمة حلق اللحیة و ترک الشوارب معا،فان نفی التشبه یحصل بفعل أی منهما.

و أما ما یقال:من أن الروایات لا تدل علی وجوب الاعفاء:لاشتمالها علی قص الشوارب، و هو مستحب اتفاقا.

ففیه أن ظهور الأمر فی الوجوب إنما ترفع الید عنه بمقدار ما ثبت فیه الترخیص،و قد حققنا ذلک فی موضعه.

الوجه الثالث:روایة الجعفریات1الدالة علی أن حلق اللحیة من المثلة،و من مثل

فعلیه لعنة اللّه.

و فیه أولا:أنها مجهولة السند.و ثانیا:أن المثلة هو التنکیل بالغیر بقصد هتکه و إهانته

ص:259

بحیث تظهر آثار فعل الفاعل بالمنکل به،و علیه فتکون الروایة دالة علی حرمة هتک الغیر بإزالة لحیته،لکون ذلک مثلة و المثلة محرمة،فلا ترتبط بحلق اللحیة بالاختیار،سواء أ کان ذلک بمباشرة نفسه أم بمباشرة غیره.

و ثالثا:أن اللعن کما یجتمع مع الحرمة فکذلک یجتمع مع الکراهة أیضا،فترجیح أحدهما علی الآخر یحتاج إلی القرینة المعینة.و یدل علی هذا ورود اللعن علی فعل المکروه فی موارد عدیدة،و قد تقدمت فی مسألة الوصل و النمص (1)و من تلک الموارد ما فی وصیة النبی«ص»لعلی«ع»(قال:یا علی لعن الله ثلاثة:آکل زاده وحده و راکب الفلاة وحده و النائم فی بیت وحده).

و من ذلک یظهر بطلان الفرق بین اللعن المطلق و بین کون اللعن من الله أو من رسوله بتوهم أن الأول یجتمع مع الکراهة،لکونه ظاهرا فی العبد المطلق،بخلاف الثانی،فإنه یختص بالحرمة،لکونه ظاهرا فی إنشاء الحرمة.اللهم إلا أن یقال:إن الروایة المذکورة ضعیفة السند،و لم نجد فی غیرها ورود اللعن من الله علی فعل المکروه،و علیه فلا بأس فی ظهور ذلک فی الحرمة.

الوجه الرابع:ما دل1علی عدم جواز السلوک مسلک أعداء الدین.

و من شعارهم حلق اللحیة.

و فیه أولا:أنه ضعیف السند.و ثانیا:أن السلوک مسلک أعداء الدین عبارة عن اتخاذ سیرتهم شعارا و زیا،و هذا لا یتحقق بمجرد الاتصاف بوصف من أوصافهم.

الوجه الخامس:قوله ص لرسولی کسری(ویلکما من أمرکما بهذا؟

(2)

قالا:أمرنا بهذا ربنا یعنیان کسری فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله):(لکن ربی أمرنی بإعفاء لحیتی و قص شواربی).

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:ما تقدم من أن المأمور به إنما هو الإعفاء و هو لیس بواجب قطعا.

ص:260


1- 1) ص 204.
2- 2) راجع ج 1 المستدرک ص 59.
الوجه السادس:قوله«ع»1:(أقوام حلقوا اللحی و فتلوا الشوارب فمسخوا).

و فیه أن الروایة و إن کانت ظاهرة فی الحرمة،إلا أنها ضعیفة السند.

الوجه السابع:و هو العمدة صحیحة البزنطی[2]الدلالة علی حرمة حلق اللحیة و أخذها و لو بالنتف و نحوه.و تدل علی ذلک أیضا السیرة القطعیة بین المتدینین المتصلة إلی زمان النبی(صلی الله علیه و آله)،فإنهم ملتزمون بحفظ اللحیة،و یذمون حالقها،بل یعاملونه معاملة الفساق فی الأمور التی تعتبر فیها العدالة.و یؤید ما ذکرناه دعوی الإجماع علیه،کما فی کلمات جملة من الأعلام،و عدم نقلهم الخلاف فی المقام من الشیعة و السنة،کما هو کذلک و اللّه العالم.

ص:261

و موضوع حرمة حلق اللحیة هو إعدامها،و علیه فلا یفرق فی ذلک بین الحلق و النتف و غیرهما مما یوجب إزالة الشعر عن اللحیة.أما مقدار اللحیة فی جانب الفلة فلم یرد فی تحدیده نص خاص،فالمدار فی ذلک هو الصدق العرفی،و علی هذا فإذا أخذت بمثل المکینة و المقراض أو غیرهما-بحیث لم تصدق اللحیة علی الباقی-کان حراما.

موضوع الرشوة و حقیقتها

اشارة

قوله الثامنة الرشوة حرام. أقول:لم نجد نصا من طرق الخاصة و من طرق العامة یحقق موضوع الرشوة،و یبیّن حقیقتها،غیر أنه ورد فی بعض الروایات أنها تکون فی الأحکام،و لکنها لم توضح أن الرشوة هل هی بذل المال علی مطلق الحکم،أو علی الحکم بالباطل؟بل لا یفهم منها الاختصاص بالأحکام،و إلا لما صح إطلاقها فی غیرها.

و کیف کان فلا بد فی تحقیق مفهومها من الرجوع الی العرف و اللغة و کلمات الأصحاب.

ففی المستند (1)أن مقتضی کلام الأکثر و المتفاهم فی العرف أن الرشوة عامة لکل ما یدفع من المال للحاکم،سواء أ کان لحق أم کان لباطل،و حکی ذلک عن تصریح والده،ثم قال و هو الظاهر من القاموس و الکنز و مجمع البحرین.

و یدل علیه استعمالها فیما أعطی للحق فی الصحیح عن رجل یرشو الرجل علی أن یتحول عن منزله فیسکنه غیره؟قال:لا بأس فإن الأصل فی الاستعمال إذا لم یعلم الاستعمال فی غیره الحقیقة،کما حقق فی موضعه.انتهی ملخص کلامه،و سنذکر الروایة فی البحث عن حکم الرشوة فی غیر الاحکام و عن حاشیة الإرشاد إن الرشوة ما یبذله المتحاکمان.و فی کلمات جماعة ان الرشوة ما یبذله المحقق لیحکم له بحق بحیث لو لم یبذله لأبطل حقه،و لحکم علیه بالباطل،الی غیر ذلک من کلمات الأصحاب بمضامین مختلفة.

و المتحصل من کلمات الفقهاء رضوان اللّه علیهم،و من أهل العرف و اللغة[1]مع ضم

ص:262


1- 1) ج 2 ص 526.

بعضها الی بعض أن الرشوة ما یعطیه أحد الشخصین للآخر لإحقاق حق أو تمشیة باطل أو للتملق،أو الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة،أو فی عمل لا یقابل بالأجرة و الجعل عند العرف و العقلاء و إن کان محطا لغرضهم و موردا لنظرهم.

بل یفعلون ذلک العمل للتعاون و التعاضد فیما بینهم،کإحقاق الحق،و إبطال الباطل، و ترک الظلم و الإیذاء أو دفعهما،و تسلیم الأوقاف-من المدارس و المساجد و المعابد و نحوها- الی غیره،کأن یرشو الرجل علی ان یتحوله عن منزله فیسکنه غیره،أو یتحوله عن مکان فی المساجد فیجلس فیه غیره،الی غیر ذلک من الموارد التی لم یتعارف أخذ الأجرة علیها.

نعم ما ذکره فی القاموس من تفسیر الرشوة بمطلق الجعل محمول علی التفسیر بالأعم،کما هو شأن اللغوی أحیانا،و إلا لشمل الجعل فی مثل قول القائل:من رد عبدی فله ألف درهم،مع انه لا یقول به أحد.

حرمة الرشوة

ما حکم الرشوة؟الظاهر بل الواقع لا خلاف بین الشیعة و السنة[1]فی الجملة للآخذ و المعطی،بل عن جامع المقاصد أجمع أهل الإسلام علی تحریم الرشا فی الحکم،سواء أ کان الحکم لحق أم لباطل،و سواء أ کان للباذل أم علیه.و فی تجارة المسالک علی تحریمه إجماع المسلمین.

و تدل علی حرمتها فی الجملة الروایات المتظافرة«و سنذکرها فی الحاشیة».و قوله تعالی (1): (وَ لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ لِتَأْکُلُوا فَرِیقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ) .

ص:263


1- 1) سورة البقرة،آیة:184.

و وجه الدلالة انه تعالی نهی عن الأدلاء بالمال الی الحکام لإبطال الحق و إقامة الباطل حتی یأکلوا بذلک فریقا من أموال الناس بالإثم و العدوان.و هذا هو معنی الرشوة،و إذا حرم الإعطاء حرم الأخذ أیضا،للملازمة بینهما.

لا یقال:إن الآیة إنما نزلت فی خصوص أموال الیتامی و الودیعة و المال المتنازع فیه، و قد نهی اللّه تعالی فیها عن إعطاء مقدار من تلک الأموال للقضاء و الحکام لأکل البقیة بالإثم و العدوان،و علی هذا فهی أجنبیة عن الرشوة.

فإنه یقال:نعم قد فسرت الآیة الشریفة بکل واحد من الأمور المذکورة[1]إلا أن هذه التفاسیر من قبیل بیان المصداق،و القرآن لا یختص بطائفة،و لا بمصداق،بل یجری کجری الشمس و القمر،کما دلت علیه جملة من الروایات،و قد ذکرناها فی مقدمة التفسیر علی أن فی مجمع البحرین عن الصحاح إن قوله تعالی: (وَ تُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ) یعنی الرشوة و قد یتوهم ان الآیة لیست لها تعرض لحکم الرشوة،فإن قوله تعالی: (وَ تُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ) ظاهر فی ان المحرم هو الأدلاء بأموال الناس الی الحکام لیستعین بهؤلاء علی أکل فریق آخر من أموال الناس بالإثم،و من المعلوم ان الرشوة هی ما یعطیها الراشی من مال نفسه لإبطال حق أو إحقاق باطل.

و فیه أولا:ان الرشوة فی العرف و اللغة أعم من ذلک،کما تقدم،فلا وجه للتخصیص بقسم خاص.

و ثانیا:انه لا ظهور فی الآیة المبارکة فی کون المدفوع الی الحکام مال الغیر،بل هی أعم من ذلک،أو ظاهرة فی کون المدفوع مال المعطی.و مجمل القول ان حرمة الرشوة فی الجملة من ضروریات الدین،و مما قام علیه إجماع المسلمین،فلا حاجة الی الاستدلال علیها.

ثم ان تفصیل الکلام فی أحکام الرشوة ان القاضی قد یأخذ الرشوة من شخص لیحکم له بالباطل مع العلم ببطلان،الحکم،و قد یأخذها لیحکم للباذل مع جهله،سواء طابق حکمه الواقع أم لم یطابق،و قد یأخذها لیحکم له بالحق مع العلم و الهدی من اللّه تعالی.

اما الصورتان الأولیان فلا شبهة فی حرمتهما،فان الحکم بالباطل،و الإفتاء و القضاء مع الجهل بالمطابقة للواقع محرمان بضرورة الدین و إجماع المسلمین،بل هما من الجرائم

ص:264

الموبقة و الکبائر المهلکة.

و یدل علی حرمتها أیضا العقل و الکتاب[1]و السنة[2].

و علی هذا فمقتضی القاعدة حرمة الرشوة فی کلتا الصورتین لما عرفت فی أوائل الکتاب من حرمة المعاملة علی الأعمال المحرمة وضعا و تکلیفا،علی أن الروایات من الشیعة[3]

ص:265

و السنة[1]قد أطبقت علی حرمة الرشاء فی الحکم.

و أما الصورة الثالثة فمقتضی القاعدة فیها جواز أخذ المال علی القضاء و الإفتاء،فإن عمل المسلم محترم فلا یذهب هدرا،و أما الآیة المتقدمة فلا تشمل المقام،لاختصاصها بالحکم بالباطل کما عرفت.نعم الحرمة فیها هی مقتضی إطلاق الروایات المتقدمة الدالة علی ذلک، و هذا المعنی هو الذی تقتضیه مناسبة الحکم و الموضوع،فان القضاء من المناصب الإلهیة التی جعلها اللّه للرسول،فلا ینبغی لمن یتفضل علیه اللّه بهذا المنصب الرفیع أن یأخذ علیه الأجرة.

و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه ففی الروایات الدالة علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء غنی و کفایة«و سنتعرض لهذه الروایات فی البحث عن حکم أخذ الأجرة علی القضاء» إذ الظاهر من الأجرة فیها الجعل المأخوذ للقضاء دون الأجر المقرر من قبل السلطان و لو کان جائزا،فإنه لا شبهة فی جواز أخذه إذا کان الدخول فیه بوجه محلل کعلی بن یقطین و النجاشی و أمثالهما.

لا یقال:إن الرشوة فی اللغة ما یؤخذ لإبطال حق أو إحقاق باطل،فلا تصدق علی ما یؤخذ للقضاء بما یحق.

فإنه یقال:إن مفهوم الرشوة أعم من ذلک کما عرفت،فلا وجه للحصر،و تقیید المطلقات.علی أن الأمور التی یکون وضعها علی المجانیة فإن أخذ الأجرة علیها بعد رشوة فی نظر العرف،و من هذا القبیل القضاوة و الإفتاء.نعم لو فرضنا قصور الأدلة المتقدمة عن إثبات الحرمة کان مقتضی أصالة الحل هو الإباحة،بل و هو مقتضی عمومات صحة المعاملات،کأوفوا بالعقود،و تجارة عن تراض،و أحل اللّه البیع،و غیرها.

قوله و ظاهر روایة حمزة بن حمران. أقول:ربما یقال بجواز أخذ الأجرة علی القضاوة الحقة،لقوله«ع»فی روایة حمزة بن حمران[2]عن المستأکلین بعلمهم:إنما

ص:266

ذلک الذی یفتی الناس بغیر علم،و لا هدی من اللّه لیبطل به الحقوق طمعا فی حطام الدنیا، فان الظاهر منها حصر الاستیکال المذموم فیما کان لأجل الحکم بالباطل،أو مع عدم معرفة الحق،فیجوز الاستیکال مع العلم بالحق.

و قد یدعی کون الحصر إضافیا بالنسبة إلی الفرد الذی ذکره السائل،فلا یدل إلا علی عدم الذم علی هذا الفرد المخصوص دون سائر الأفراد التی لا تدخل فی الحصر إلا أن هذه الدعوی خلاف الظاهر.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أنها مسوقة لدفع توهم السائل أن من تحمل علوم الأئمة و بثها فی شیعتهم و وصل الیه منهم البر و الإحسان بغیر مطالبة کان من المستأکلین بعلمه.فأجاب الإمام«ع»بأن هذا لیس من الاستیکال المذموم،و إنما المستأکلون الذین یفتون بغیر علم لإبطال الحقوق.و علی هذا فمفهوم الحصر هو العقد السلبی المذکور فی الروایة صریحا و لیس فیها تعرض لأخذ الأجرة علی الحکم بالحق، لا مفهوما و لا منطوقا.

و أما ما ذکره أخیرا من کون الحصر لیس إضافیا فهو متین،و لکن لا من جهة کونه خلاف الظاهر،بل من جهة أنه لا معنی للحصر الإضافی فی قبال الحصر الحقیقی،غایة الأمر أن دائرة الحصر تختلف سعة و ضیقا،و قد تقدم ذلک فی أول الکتاب (1).

و قال العلامة فی المختلف (2):(إن تعین القضاء علیه-إما بتعیین الامام«ع»أو بعقد غیره،أو بکونه الأفضل،و کان متمکنا-لم یجز الأجر علیه.و إن لم یتعین-أو کان محتاجا-فالأقرب الکراهة.لنا الأصل الإباحة علی التقدیر الثانی،و لأنه فعل لا یجب علیه فجاز أخذ الأجر علیه.أما مع التعیین فلأنه یؤدی واجبا،فلا یجوز أخذ الأجرة علیه کغیره من العبادات الواجبة).

و فیه أنه لا وجه لذکر هذا التفصیل فی المقام،فإن حرمة الأجرة علی القضاء لکونه واجبا عینیا أو کفائیا من صغریات البحث عن أخذ الأجرة علی الواجب الذی سیأتی الکلام فیه.و کلامنا هنا فی حکم أخذ الرشوة علی القضاء من حیث هی رشوة،لا عن جهات

ص:267


1- 1) ص 9.
2- 2) ج 2 ص 164.

أخر،و علیه فمقتضی الإطلاقات الدالة علی حرمة أخذ الأجرة علی الحکم هو عدم الفرق بین صورتی الاحتیاج إلی أخذ الأجرة و الانحصار و بین عدمهما،کما هو واضح.

و من هنا ظهر أنه لا وجه لقول المصنف:(و أما اعتبار الحاجة فلظهور اختصاص أدلة المنع بصورة الاستغناء).

ثم الظاهر أنه لا یجوز أخذ الأجرة و الرشوة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة و تعلیم المسائل الدینیة،فقد عرفت فیما تقدم:أن منصب القضاوة و الإفتاء و التبلیغ یقتضی المجانیة.

و یدل علی الحرمة أیضا ما فی روایة یوسف بن جابر[1]من أنه لعن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله) رجلا احتاج الناس الیه لفقهه فسألهم الرشوة.و لکن الروایة ضعیفة السند،و العمدة فی المقام التمسک بالإطلاقات المتقدمة الناهیة عن أخذ الرشوة علی الحکم.

جواز ارتزاق القاضی من بیت المال

قوله و أما الارتزاق من بیت المال فلا إشکال فی جوازه للقاضی. أقول:الفرق بین الأجرة و الارتزاق ان الأجرة تفتقر الی تقدیر العمل و العوض و ضبط المدة.و أما الارتزاق من بیت المال فمنوط بنظر الحاکم من غیر ان بقدر بقدر خاص.

و لا إشکال فی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال فی الجملة کما هو المشهور.لأن بیت المال معد لمصالح المسلمین و القضاء من مهماتها.و لما کتبه علی أمیر المؤمنین«ع»الی مالک الأشتر فی عهد طویل (1)فقد ذکر«ع»فیه صفات القاضی ثم قال:(و افسح له فی البذل ما یزیل علته و تقل معه حاجته الی الناس).و العهد و إن نقل مرسلا إلا ان آثار الصدق منه لائحة،کما لا یخفی للناظر الیه.و یدل علی ذلک أیضا بعض الفقرات من مرسلة الحماد[2]الطویلة.

ص:268


1- 1) راجع ج 3 نهج البلاغة فی العهد 53 الذی کتبه للأشتر النخعی.و ج 3 ئل باب 8 تحریم الرشوة فی الحکم من آداب القاضی.و ج 2 المستدرک ص 447.

ثم إن القاضی قد یکون جامعا لشرائط القضاوة علی النحو المقرر فی الشریعة،و منصوبا من قبل الامام«ع»خاصا أو عاما.و قد یکون جامعا لشرائط القضاء،و لکنه کان منصوبا من قبل سلطان الجور،و لم یکن له غرض فی قبولها إلا التوادد و التحبب الی فقراء الشیعة و قضاء حوائجهم و إنفاذ أمورهم و إنقاذهم من المهلکة و الشدة،و قد لا یکون جامعا للشرائط سواء کان منصوبا من قبل الجائر أم لا.

أما الأولان فلا شبهة فی جواز ارتزاقهم من بیت المال،لما عرفت من انه معد لمصالح المسلمین و القضاء من مهماتها،و لا مجال فی هاتین الصورتین للبحث عن خصوصیات المسألة من انه یجوز مطلقا أو مع الاحتیاج و عدم التعیین،لأن الفرض ان القاضی أعرف بموارد مصرف بیت المال،و عدالته المفروضة تمنعه عن الحیف.

و أما الثالث فیحرم ارتزاقه من بیت المال،لعدم قابلیته لمنصب القضاوة،کخلفاء الجور،فلا یکون من موارد المصرف لبیت المال.

و قد یستدل علی حرمة ارتزاق القاضی بحسنة عبد اللّه بن سنان (1):(عن قاض بین قریتین یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق؟فقال:ذلک السحت).

و فیه ان الروایة محمولة علی الصورة الثالثة من عدم کونه قابلا للقضاوة،لأنه إذا کان جامعا للشرائط لا یحرم ارتزاقه من بیت المال أو من جوائز السلطان،و هو واضح، و یمکن حملها علی کون الرزق اجرة علی القضاء،فقد عرفت:ان أخذ الأجرة علی القضاء حرام.

جواز أخذ القاضی للهدیة

قوله و اما الهدیة فهی ما یبذله علی وجه الهبة. أقول:قد عرفت حکم الرشوة و الأجرة علی الحکم و القضاء،و اما الهدیة ففی حرمتها خلاف:و هی کما عن المصباح

ص:269


1- 1) راجع ج 2 کا باب 5 أخذ الأجرة علی الحکم من القضاء ص 358.و ج 9الوافی باب أخذ الرشوة من القضاء ص 135.و ج 3 ئل باب 8 تحریم الرشوة فی الحکم من آداب القضاء ص 396.

العطیة علی سبیل الملاطفة.

ثم إنها قد تکون للملاطفة و التودد فقط بحیث لا مساس لها للدواعی الأخری.و قد تکون علی وجه الهبة لتورث المودة التی توجب الحکم له حقا کان أم باطلا،إذا علم المبذول له ان ذلک من قصد الباذل و إن لم یقصد هو إلا الحکم بالحق.و قد تکون لأجل الحکم للباذل و لو باطلا،و لکن المبذول له لم یکن ملتفتا الی ذلک و إلا لکان رشوة محرمة و قد تکون متأخرة عن الفعل المحرم و لکنها بداعی المجازاة و أداء الشکر.

و مقتضی القاعدة جواز أخذها للقاضی فی جمیع الصور و إن حرم الدفع علی المعطی إذا کان غرضه الحکم له.و قد استدل علی حرمة الأخذ بوجوه،الأول:قوله«ع»فی روایة الأصبغ[1]:(و ان أخذ هدیة کان غلولا).

و فیه أولا:ان الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أنها واردة فی هدایا الولاة دون القضاة،فتکون أجنبیة عن المقام،و بما أن الهدیة إلی الولاة جائزة فلا بد من حمل الروایة علی غیر ذلک من الوجوه الممکنة:

الأول:ان تحمل علی الکراهة،لأن إهداء الهدیة إلی الوالی قد یحبب إلیه أخذ الرشوة المحرمة.

الثانی:ان تحمل علی ظاهرها،و لکن یقید الإعطاء بکونه لدفع الظلم،أو إنقاذ الحق أو لأجل أن یظلم غیره،فإنها فی هذه الصور کلها محرمة علی الوالی،و فی الصورة الأخیرة محرمة علی المعطی أیضا.

الثالث:ان تحمل علی کون ولایتهم من قبل السلطان مشروطة بعدم أخذ شیء من الرعیة،لأنهم یرتزقون منه.و علی الجملة لا یمکن الاستدلال بها علی المطلوب.

الوجه الثانی:ما ورد[2]من ان هدایا العمال أو الأمراء غلول أو سحت.

و فیه أولا:انه ضعیف السند.و ثانیا:انه أجنبی عما نحن فیه لوروده فی هدایا العمال

ص:270

و هم غیر القضاة،و وجه کونها محرمة قد علم من الوجوه المتقدمة.و ثالثا:انه یمکن ان یراد من إضافة الهدایا الی العمال إضافة المصدر الی الفاعل دون المفعول:بمعنی أن الهدایا التی تصل إلی الرعیة من عمال سلاطین الجور غلول،فتکون الروایة راجعة إلی جوائز السلطان و عماله،و سنتکلم علیها.و هذا الوجه الأخیر و إن کان فی نفسه جیدا،إلا أنه إنما یتم فیما إذا علم کون الهدیة من الأموال المحرمة،و إلا فلا وجه لکونها غلولا.علی أنه بعید عن ظاهر الروایة.

الوجه الثالث:ما استدل به فی المستند[1]علی حرمة أخذ القاضی للهدیة من أن النبی زجر عمال الصدقة عن أخذهم الهدایا.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند،لکونها منقولة من طرق العامة.و ثانیا:أنها وردت فی عمال الصدقة فلا ترتبط بما نحن فیه،و لعل حرمتها علیهم من جهة الوجوه التی ذکرناها فی حرمتها علی الولاة.

الوجه الرابع:ما تقدم فیما سبق (1):(عن الرضا عن آبائه عن علی«ع»فی قوله تعالی (2): أَکّالُونَ لِلسُّحْتِ ؟قال:هو الرجل یقضی لأخیه الحاجة ثم یقبل هدیته).

و فیه أولا:أن الروایة مجهولة.و ثانیا:أنها وردت فی خصوص الهدیة بعد قضاء حاجة المؤمن،و لم یقل أحد بحرمتها هناک،لما دل علی جواز قبول الهدیة من المؤمن،بل من الکافر،و لما دل علی استحباب الاهداء علی المسلم،و إذن فلا بد من حمل الروایة علی الکراهة،و رجحان التجنب عن قبول الهدایا من أهل الحاجة إلیه لئلا یقع یوما فی الرشوة الوجه الخامس:أن المناط فی حرمة الرشوة للقاضی هو صرفه عن الحکم بالحق الی الحکم بالباطل،و هو موجود فی الهدیة أیضا،فتکون محرمة.و فیه أن غایة ما یحصل من تنقیح المناط هو الظن بذلک،و الظن لا یغنی من الحق شیئا.

ص:271


1- 1) ص 48.
2- 2) سورة المائدة،آیة:46.
الرشوة فی غیر الاحکام

قوله و هل یحرم الرشوة فی غیر الحکم. أقول:الرشوة فی غیر الأحکام قد تکون لإتمام أمر محرم،و قد تکون لإصلاح أمر مباح،و قد تکون لإنهاء أمر مشترک الجهة بین المحلل و المحرم.

أما الأول فلا شبهة فی حرمته من غیر احتیاج إلی أدلة حرمة الرشوة،لما عرفت من حرمة أخذ المال علی عمل محرم.

و أما الثانی فلا شبهة فی جوازه،لعدم الدلیل علی الحرمة مع کون العمل سائغا فی نفسه و صالحا لأن یقابل بالمال و إن کان کثیرون یفعلونه للتعاضد و التعاون،و لا یأخذون علیه مالا و اما الثالث:فان قصدت به الجهة المحرمة فهو حرام،و إن قصدت به الجهة المحللة فهو حلال،و إن بذل المال علی إصلاح أمره حلالا أم حراما فقد استظهر المصنف حرمته، لوجهین،الوجه الأول:أنه أکل للمال بالباطل،فیکون حراما.

و فیه أن أخذ المال علی الجهة المشترکة بین المحلل و المحرم لیس من أکل المال بالباطل، فإن أکل المال إنما یکون باطلا إذا کان بالأسباب التی علم بطلانها فی الشریعة،کالقمار و الغزو و نحوهما،و لم یعلم بطلان أخذ المال علی العمل المشترک بین الحلال و الحرام،فلا یکون من مصادیق أکل المال بالباطل.

الوجه الثانی:إطلاق فحوی ما تقدم فی هدیة الولاة و العمال.

و فیه أولا:أن الروایات المتقدمة فی هدیة الولاة و العمال ضعیفة السند.و قد عرفت ذلک آنفا.و ثانیا:أن حرمة الهدیة لهما إنما تقتضی حرمة إعطاء الرشوة لهما،و لا دلالة لهما علی حرمة الرشوة علی غیرهما من الناس.

و قد یقال:بحرمة الرشوة مطلقا حتی فی غیر الأحکام،لإطلاق بعض الروایات المتقدمة فی الحاشیة من طرق الخاصة،و من طرق العامة.

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند،و قد عرفت ذلک آنفا.و ثانیا:أنها منصرفة إلی الرشا فی الحکم کما فی المتن.و ثالثا:أنها مقیدة بما دل[1]علی جواز الرشوة لأمر مباح

ص:272

و للتحویل[1]عن المنزل المشترک،کالأوقاف العامة.

و قد یتوهم أن موضوع الرشوة مختص بالأحکام،لما ورد فی جملة من الروایات الماضیة من أن الرشا فی الحکم حرام،أو کفر،أو سحت.

و فیه أولا:أن المستفاد منها لیس إلا حرمة الرشوة فی الحکم،لاختصاص موضوعها به،و هو واضح.بل قد یدعی أنها مشعرة بعموم مفهوم الرشوة لغیر الأحکام،و إلا للزم إلغاء التقیید فی قوله«ع»:(و أما الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم).

و ثانیا:أن مفهوم الرشوة فی اللغة غیر مختص بما یؤخذ فی الحکم،بل هو أعم من ذلک

من الرشوة فی الحکم

المعاملة المحاباتیة مع القاضی

قوله و مما یعد من الرشوة أو یلحق بها المعاملة المشتملة علی المحاباة. أقول:

الکلام فی المعاملة المشتملة علی المحاباة بعینه هو الکلام فیما تقدم من الرشوة،فإذا باع من القاضی ما یساوی عشرة دراهم بدرهم کان الناقص من الرشا المحرم،و إن کان غرضه من ذلک تعظیم القاضی-أو التودد المحض أو التقرب الی اللّه-فلا وجه للحرمة.

ثم إن فی حکم بذل العین له بذل المنافع کسکنی الدار و رکوب المراکب و نحوهما من المنافع کما لا یخفی.و أما ما یرجع الی الأقوال کمدح القاضی و الثناء علیه فلا یعد رشوة فضلا عن کونه محرما لذلک.نعم لو کان ذلک إعانة علی الظلم کان حراما من هذه الجهة.

قوله و فی فساد المعاملة المحابی فیها وجه قوی. أقول:لا وجه لفساد المعاملة المشتملة

ص:273

علی المحاباة المحرمة إلا إذا کان الحکم للمحابی شرطا فیها،و قلنا:بأن الشرط الفاسد مفسد للعقد،فیحکم بالبطلان.

فائدة

الظاهر من الأخبار المتقدمة أن منزلة الرشوة منزلة الربا،فکما أن الربا حرام علی کل من المعطی و الآخذ و الساعی بینهما،فکذلک الرشوة،فإنها محرمة علی الراشی و المرتشی و الرائش أی الساعی بینهما یستزید لهذا و یستنقص لذاک.

نعم لا بأس بإعطائها إذا کان الراشی محقا فی دعواه،و لا یمکن له الوصول الی حقه إلی بالرشوة،کما استحسنه فی المستند (1)(لمعارضة إطلاقات تحریمها مع أدلة نفی الضرر، فیرجع الی الأصل لو لم یرجح الثانی)بل یتعین ترجیحه لحکومة أدلة نفی الضرر علی أدلة الأحکام بعناوینها الأولیة کما هو واضح.

حکم الرشوة وضعا

قوله ثم إن کلما حکم بحرمة أخذه وجب علی الآخذ رده ورد بدله مع التلف).

أقول:قد ذکرنا أن الباذل قد یعطی الرشوة للقاضی أو غیره لیحکم له علی خصمه،و قد یحابیه فی معاملة لیحکم له فی الخصومات و الدعاوی،و قد یرسل الیه هدیة بداع الحکم له أما الأول فلا شبهة فی ضمان القابض المال الذی أخذه من الدافع بعنوان الرشوة،کما لا شبهة فی الحرمة علیهما تکلیفا،فیجب علی الآخذ رد المال أو رد بدله من المثل أو القیمة مع التلف.

قال فی الجواهر:(لا خلاف و لا إشکال فی بقاء الرشوة علی ملک المالک،کما هو مقتضی قوله«ع»:إنها سحت،و غیره من النصوص الدالة علی ذلک-الی أن قال-:فإذا أخذ ما لم ینتقل الیه من مال غیره کان ضامنا).

و وجه الضمان أن الرشوة فی هذه الصورة إنما وقعت فی مقابل الحکم،فتکون فی الحقیقة إجارة فاسدة،أو شبیهة بها،فیحکم بالضمان،لکونها من صغریات کل عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده،و هذه القاعدة و إن لم یرد علیها نص بالخصوص،و لکنها متصیدة من الأخبار الواردة فی موارد الضمان،فتکون حجة،و سیأتی ذکرها فی محلها.و من هنا ظهر بطلان القول بعدم الضمان إذا علم الدافع بالحرمة،لکون التسلیط حینئذ مجانیا.

ص:274


1- 1) ج 2 ص 526.

و أما الثانی فهو کالأول من حیث الحرمة التکلیفیة،و لکن لا وجه للضمان لما نقص من القیمة،فإن غایة الأمر أن المعاملة کانت المشروطة بالشرط الفاسد،و قد عرفت إجمالا، و ستعرف تفصیلا:أن الشروط مطلقا لا تقابل بجزء من الثمن،و أن الفاسد منها لا یوجب فساد المعاملة،و إنما یثبت الخیار فقط للمشروط له.

و أما الثالث فالظاهر أنه لا ضمان فیه أیضا،لأن الدافع لم یقصد المقابلة بین الحکم و المال المبذول للقاضی،و إنما إعطاء مجانا لیحکم له،فیکون مرجعه إلی هبة مجانیة فاسدة،لأن الداعی لیس قابلا للعوضیة،و لا مؤثرا فی الحکم الشرعی وضعا،و لا تکلیفا.و علیه فیکون المورد من صغریات الضابطة الکلیة(کل عقد لا یضمن بصحیحة لا یضمن بفاسده).

و قد یقال:بالضمان لقاعدة الضمان بالید.و فیه أن عموم علی الید مختص بغیر الید المتفرعة علی التسلیط المجانی،و لذا لا یضمن بالهبة الفاسدة فی غیر هذا المقام.

قوله و فی کلام بعض المعاصرین ان احتمال عدم الضمان فی الرشوة مطلقا غیر بعید) أقول:علله القائل فی محکی کلامه بوجهین:الأول أن المالک قد سلطه علیها تسلیطا مجانیا فلا موجب للضمان.و الثانی:أنها تشبه المعاوضة،و ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده أما الأول فیرد علیه أن التسلیط فی المقام لیس بمجانی،بل هو فی مقابل الحکم للباذل کما عرفت.

و أما الثانی فیرد علیه أن عملهم هذا إما إجارة فاسدة أو شبیهة بها،و علی أی حال یکون موجبا للضمان،لقاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده.

اختلاف الدافع و القابض

قوله فروع فی اختلاف الدافع و القابض. أقول:ذکر المصنف هنا فروعا ثلاثة و تعرض لحکمها.و تحقیق الکلام فی مسألة المترافعین فی الدفع و القبض،و بیان الضابطة الکلیة فیها أن الفروض المتصورة فیها أربع کلها تنطبق علی المقام غیر الصورة الرابعة.

و لعل المصنف لذلک أهملها.

الصورة الاولی أن یتوافق المترافعان علی فساد الأخذ و الإعطاء و لکن الدافع یدعی کون المدفوع رشوة علی سبیل الإجارة و الجعالة،فتکون موجبة للضمان،لأن الإجارة الصحیحة توجب الضمان،فکذلک الإجارة الفاسدة،و القابض یدعی أنه علی سبیل الهدیة إلا أنها فاسدة،فلا تکون موجبة للضمان،لأن الهبة الصحیحة لا ضمان فیها،فکذا الهبة الفاسدة

ص:275

و قد رجح المصنف القول الأول(لأن عموم خبر علی الید یقضی بالضمان إلا مع تسلیط المالک مجانا و الأصل عد تحققه،و هذا حاکم علی أصالة عدم سبب الضمان فافهم).

و فیه أن موضوع قاعدة الضمان بالید إنما هو التسلیط غیر المجانی،و التسلیط هنا محرز بالوجدان،و عدم کونه مجانیا محرز بالأصل(فلیتم الموضوع بضم الوجدان الی الأصل، و یترتب علیه الحکم،و لا یلزمه المحذور المذکور.نعم یرد علیه أن خبر علی الید ضعیف السند،و غیر منجبر بشیء،فلا یجوز الاستناد الیه،و قد عرفته فیما سبق (1)و یأتی التعرض له فی أحکام الضمان.

و التحقیق أنه ثبت فی الشریعة المقدسة عدم جواز التصرف فی مال امرئ مسلم إلا بطیب نفسه،و قد تقدمت الإشارة إلیه فیما سبق (2).و ثبت فیها أیضا أن وضع الید علی مال الغیر بدون رضی مالکه موجب للضمان،للسیرة القطعیة،و من الواضح جدا ان وضع الید علی مال الغیر فی المقام محرز بالوجدان،فإذا ضممنا إلیه أصالة عدم رضی المالک بالتصرف المجانی تألف الموضوع من الوجدان و الأصل،و حکم بالضمان،و لا یلزم شیء من المحاذیر، و لیس المراد من الأصل المذکور استصحاب العدم الأزلی لیرد علیه ما أورده فی علم الأصول بل المراد به استصحاب العدم المحمولی،و هو واضح،و إن قلنا بحجیة الأول أیضا.

الصورة الثانیة:أن یتسالم المترافعان علی شیء واحد،و لکن القابض یدعی صحته علی وجه لا یمکن معه الرجوع،و یدعی الباذل فساده،کما إذا ادعی الباذل کون المبذول هدیة علی سبیل الرشوة،و ادعی القابض کونها هبة صحیحة لازمة.

و هذا النزاع إنما یکون له أثر فیما إذا کانت الدعوی قبل تلف العین،مع عدم کون الهبة لذی رحم أو علی وجه قربی،فإنه یترتب علی النزاع ح استرجاع العین من الموهوب له و أما إذا کان النزاع بعد التلف فلا أثر له بوجه،فإنه لا ضمان للهبة بعد التلف،سواء أ کانت فاسدة أم صحیحة،و علیه فلا وجه لما ذکره المصنف(ره)من قوله و لأصالة الضمان فی الید إذا کانت الدعوی بعد التلف).

و قد یقال هنا:بالضمان،لعموم قاعدة علی الید،لأن وضع القابض یده علی مال الدافع محرز بالوجدان،و عدم کونه بالهبة الصحیحة الناقلة محرز بالأصل فیلتئم الموضوع منهما، و یترتب علیه الحکم بالضمان،و لا یعارض ذلک الأصل بأصالة عدم الهبة الفاسدة.لأنها لا أثر لها.

و التحقیق هو القول بعدم الضمان،لأن أصالة الصحة فی العقود تتقدم علی جمیع الأصول

ص:276


1- 1) ص 196.
2- 2) ص 144.

الموضوعیة،و علیه اتفاق کافة العلماء،و بناء العقلاء.

لا یقال:الدافع إنما یدعی ما لا یعلم إلا من قبله فیقدم قوله فی دعواه،لأنه أعرف بضمیره.فإنه یقال:لا دلیل علی ثبوت هذه القاعدة فی غیر الموارد الخاصة،کإخبار المرأة عن الحمل أو الحیض أو الطهر،فلا یجوز التعدی إلی غیرها.

الصورة الثالثة:أن یکون مصب الدعوی أمرا مختلفا،کما إذا ادعی الباذل أنها رشوة محرمة أو اجرة علی الحرام،و ادعی القابض کونها هبة صحیحة.و الظاهر هنا تقدیم قول الدافع،لأصالة عدم تحقق الهبة الصحیحة الناقلة،فإنها أمر وجودی و موضوع للأثر،فالأصل عدمها.و لا تعارضها أصالة عدم تحقق الرشوة المحرمة أو الإجارة الفاسدة لأنهما لا أثر لهما،و إنما الأثر مترتب علی عدم تحقق السبب الناقل،سواء تحقق معه شیء من الأسباب الفاسدة أم لم یتحقق.

و ربما یقال:بتقدیم أصالة الصحة علی الأصول الموضوعیة،لحکومتها علیها فی باب المعاملات علی حذو ما تقدم.

و فیه أن مدرک أصالة الصحة هو الإجماع و بناء العقلاء کما عرفت،و هما من الأدلة اللبیة فلا بد من الأخذ بالقدر المتیقن،و هو ما کان مصب الدعوی أمرا واحدا معلوما للمترافعین و کان الاختلاف فی الخصوصیات،و قد فرضنا أن المقام لیس کذلک.

الصورة الرابعة:ان یدعی کل منهما عنوانا صحیحا غیر ما یدعیه الآخر،کأن یدعی الباذل کونه بیعا لیتحقق فیه الضمان،و یدعی القابض کونه هبة مجانیة لکی لا یتحقق فیه الضمان،فإن أقام أحدهما بینة أو حلف مع نکول الآخر حکم له،و إلا وجب التحالف، و ینفسخ العقد،و علیه فیجب علی القابض رد العین مع البقاء،أو بدلها مع التلف،و هذه الصورة لا تنطبق علی ما نحن فیه.

حرمة سب المؤمن

قوله التاسعة سب المؤمن حرام فی الجملة بالأدلة الأربعة. أقول:قد استقل العقل بحرمة سب المؤمن فی الجملة،لکونه ظلما و إیذاء،و علی ذلک إجماع المسلمین من غیر نکیر و قد تعرض الغزالی لذلک فی إحیاء العلوم[1].

ص:277

و قد استفاضت الروایات من طرقنا[1]و من طرق العامة[2]علی حرمته.

ص:278

نعم المراد هنا من المؤمن فی روایاتنا غیر ما هو المراد فی روایات العامة،و من هنا منعوا عن سب أبی حنیفة[1]و أشباهه،و یدل علی الحرمة أیضا قوله تعالی (1): (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) فان سبب المؤمن من أوضح مصادیق قول الزور،و لا ینافی ذلک ما ورد من تطبیق الآیة علی الکذب کما سیأتی.

قوله و روایة ابن الحجاج عن أبی الحسن فی الرجلین یتسابان قال:البادی منهما أظلم و وزره علی صاحبه ما لم یعتذر الی المظلوم.و فی مرجع الضمائر اغتشاش،و یمکن الخطأ من الراوی. أقول:محصول کلامه:أن الظاهر وقوع الاغتشاش فی مرجع الضمائر فی روایة بحسب المعنی،فإنه إذا رجع الضمیر ان المجرور ان فی قوله«ع»:(و وزره علی صاحبه)الی الراد لزم کون الوزرین کلیهما علی البادی،و لیس علی الراد شیء،و یمکن ان یکون لفظ الروایة(مثل وزره علی صاحبه)فتکون دالة علی ان البادی یستحق وزرین:أحدهما للمباشرة.و الثانی للتسبیب من غیر ان یخفف عن الراد شیء،و لکن الراوی أخطأ فحذف کلمة مثل.

و علیه فشأن الروایة شأن ما عن ابی جعفر«ع»(قال أیما عبد من عباد اللّه سن سنة هدی کان له مثل أجر من عمل بذلک من غیر ان ینقص من أجورهم شیء و أیما عبد من عباد اللّه سن سنة ضلال کان علیه مثل وزر من فعل ذلک من غیر ان ینقص من أوزارهم شیء).و غیر ذلک من الروایات المستفیضة (2)الواردة بهذا المضمون.

و لکن ما أفاده المصنف علی خلاف الظاهر من الروایة،فإن الظاهر منها ان الضمیر المضاف إلیه فی کلمة(وزره)یرجع الی السب المستفاد من قوله«ع»:(یتسابان)،نظیر قوله تعالی (3): (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی) فالمعنی ان وزر کل سب علی فاعله،و لا یرتفع عنه إلا بالاعتذار من المسبوب،لهتک کل من المتسابین صاحبه و ظلمه إیاه،و علی هذا فلا اغتشاش فی الضمائر.

و لکن الذی یسهل الخطب انا لم نجد الروایة علی النحو الذی نقله المصنف،بل هی مرویة هکذا:(و وزره و وزر صاحبه علیه ما لم یعتذر الی المظلوم.و فی روایة أخری:

ص:279


1- 1) سورة الحج آیة:31.
2- 2) راجع ج 2 ئل باب 16 إقامة السنن الحسنة من الأمر بالمعروف ص 496.
3- 3) سورة المائدة آیة:11.

(ما لم یتعد المظلوم)أی ما لم یتجاوز عن الاعتداء بالمثل.و قد ذکرنا هما فی الحاشیة آنفا، أما الأولی فتدل علی ان البادی منهما یستحق وزرین:أحدهما بالأصالة و الآخر بالتسبیب.

و إلقاء غیره فی الحرام الواقعی،و قد عرفت فی البحث عن حرمة تغریر الجاهل ان التسبیب الی الحرام حرام بالأدلة الأولیة،مع قطع النظر عن الروایات الخاصة.

و اما الثانیة فتدل علی جواز الاعتداء بالمثل،و کون وزر الاعتداء علی البادی من دون ان یکون للمظلوم شیء من الوزر ما لم یتجاوز و إذا تجاوز کان هو البادی فی القدر الزائد و قد ذهب الی ذلک جمع من الأکابر،قال العلامة المجلسی (1):إن أثم سباب المتسابین علی البادی،اما إثم ابتدائه فلأن السب حرام و فسق،لحدیث:سباب المؤمن فسوق و قتاله کفر،و اما إثم سب الراد فلأن البادی هو الحامل له علی الرد-الی ان قال-:

لکن الصادر عنه هو سب یترتب علیه الإثم،إلا ان الشرع أسقط عنه المؤاخذة،و جعلها علی البادی،للعلة المتقدمة،و إنما أسقطها عنه ما لم یتعد،فان تعدی کان هو البادی فی القدر الزائد.

و عن المحقق الأردبیلی فی آیات الاحکام بعد ذکر جملة من الآیات الظاهرة فی الاعتداء بالمثل قال:فیها دلالة علی جواز القصاص فی النفس و الطرف و الجروح،بل جواز التعویض مطلقا حتی ضرب المضروب و شتم المشتوم بمثل فعلهما-الی أن قال-و تدل علی عدم التجاوز عما فعل به و تحریم الظلم و التعدی.و من هنا ظهر أن هذا الرأی لا بعد فیه خلافا لما استظهرناه فی الدورة السابقة.و قد وقع التصریح بذلک فی جملة من أحادیث العامة،و تقدم بعضها فی الهامش.

قوله ثم إن المرجع فی السب الی العرف. أقول:الظاهر من العرف و اللغة[1] اعتبار الإهانة و التعبیر فی مفهوم السب،و کونه تنقیصا و إزرءا علی المسبوب،و أنه متحد مع الشتم،و علی هذا فیدخل فیه کلما یوجب إهانة المسبوب و هتکه کالقذف و التوصیف بالوضیع و اللاشیء و الحمار و الکلب و الخنزیر و الکافر و المرتد و الأبرص و الأجذم و الأعور و غیر ذلک من الألفاظ الموجبة للنقص و الإهانة،و علیه فلا یتحقق مفهومه إلا بقصد الهتک

ص:280


1- 1) راجع ج 2 مرآة العقول ص 311.

و اما مواجهة المسبوب فلا تعتبر فیه.

قوله فالنسبة بینه و بین الغیبة عموم من وجه. أقول:ذکر المصنف فی البحث عن مستثنیات الغیبة ما هذا نص عبارته:(نعم لو تأذی من ذمه بذلک دون ظهوره لم یقدح فی الجواز و لذا جاز سبه بما لا یکون کذبا و هذا هو الفارق بین السب و الغیبة حیث إن مناط الأول المذمة و التنقیص فیجوز و مناط الثانی إظهار عیوبه فلا یجوز إلا بمقدار الرخصة) و التحقیق ان النسبة بینهما هی العموم من وجه،فإنه قد یتحقق السب و لا یتصف بعنوان الغیبة،کأن یخاطب المسبوب بصفة مشهورة مع قصد الإهانة و الإذلال،فإن ذلک لیس إظهارا لما ستره اللّه،و قد تتحقق الغیبة حیث لا یتحقق السب،کأن یتکلم بکلام یظهر به ما ستره اللّه من غیر قصد للتنقیص و الإهانة،و قد یجتمعان،و یتعدد العقاب فی مورد الاجتماع،لکون کل من العنوانین موضوعا للعقاب،فلا وجه للتداخل،و لعل هذا مراد المصنف هنا و فی مبحث الغیبة.

و قال المحقق الایروانی:ان النسبة بین السب و الغیبة(هو التباین فان السب هو ما کان بقصد الإنشاء و اما الغیبة فجملة خبریة).

و فیه انه لا دلیل علی هذه التفرقة فان کلا منهما یتحقق بکل من الإنشاء و الإخبار.

قوله ثم إنه یستثنی من المؤمن المتظاهر بالفسق. أقول:یجوز سب المتجاهر بالفسق بالمعصیة التی تجاهر فیها،لزوال احترامه بالتظاهر بالمنکرات،کما فی بعض الأحادیث،و سیأتی ذکره فی البحث عن مستثنیات الغیبة،و اما المعاصی التی ارتکبها العاصی و لکن لم یتجاهر فیها فلا یجوز السب بها،و اما السب بما لیس فی المسبوب فافتراء علیه فیحرم من جهتین.

قوله و یستثنی منه المبدع أیضا. أقول:قد دلت الروایات المتظافرة[1]علی جواز سب المبدع فی الدین و وجوب البراءة منه و اتهامه،و لکن الظاهر أنه لا وجه لجعله من

ص:281

المستثنیات باستقلاله،فإنه إن کان المراد به المبدع فی الأحکام الشرعیة فهو متجاهر بالفسق، و إن کان المراد به المبدع فی العقائد و الأصول الدینیة فهو کافر باللّه العظیم،فیکون خارجا عن المقام موضوعا،لعدم کونه متصفا بالایمان.

قوله و یمکن أن یستثنی من ذلک ما إذا لم یتأثر المسبوب عرفا. أقول:مقتضی الإطلاقات المتقدمة أن سب المؤمن حرام مطلقا سواء تأثر أم لم یتأثر،نعم إذا لم یوجب إهانة المسبوب فی نظر العرف کان خارجا عن عنوان السب موضوعا،لما عرفت من اعتبار الإهانة و الاستنقاص فی مفهوم السب.

و علیه فلا وجه لاستثناء بعض الأمثلة عن مورد البحث کسب الوالد ولده،و سب المعلم متعلمه،و سب المولی عبده،لأنه إن کان موجبا لإهانتهم فلا یجوز للاستثناء و إن لم یکن موجبا لذلک فهو خارج عن السب موضوعا.

و قد ظهر أیضا فساد ما یقال:من أن السب فی الأمثلة المذکورة فخر للمسبوب و تأدیب له فلا یحرم.و وجه الفساد أن مفهوم السب ینافی مفهوم الفخر و التأدیب،فلا یجتمعان فی مورد واحد،و أضعف من جمیع ذلک دعوی السیرة علی الجواز فی الموارد المزبورة،فإنا لو سلمنا تحقق السیرة من المتدینین فإنما هی فی غیر موارد الهتک و الظلم،فلا تکون إلا علی جواز التأدیب دون السب.

قوله و أما الوالد فیمکن استفادة الجواز فی حقه مما ورد من مثل قولهم«ع»أنت و مالک لأبیک. أقول:قد وردت هذه الجملة المبارکة فی الروایات المتظافرة (1)الصحیحة و غیرها،و لکنها راجعة إلی الجهات الأخلاقیة الناشئة من الجهات التکوینیة،فإن الولد بحسب التکوین من المواهب الإلهیة للوالد فلا یناسبه أن یعارض أباه فی تصرفاته.

و یؤید ذلک المعنی ما فی روایة محمد بن سنان الضعیف،من تعلیل حلیة مال الولد لأبیه بأن الولد موهب للوالد فی قوله تعالی (2): (یَهَبُ لِمَنْ یَشاءُ إِناثاً وَ یَهَبُ لِمَنْ یَشاءُ الذُّکُورَ) و علیه فلیس لفظ اللام فی قوله«ع»:(أنت و مالک لأبیک)إلا للاختصاص فقط الناشئ من المحبة الجبلیة و المعطوفة الغریزیة المنافیة للإیذاء و الإذلال و لو بالسب و الشتم.

نعم لو دلت هذه الروایات علی الملکیة حقیقیة کانت أم تنزیلیة،أو علی الولایة المطلقة و السلطنة التامة کان لکلام المصنف وجه.

و لکن کلا الاحتمالین بدیهی البطلان.أما الأول فلأنه لو تم لجاز للأب أن یتصرف

ص:282


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 107 حکم الأخذ من مال الولد و الأب مما یکتسب به ص 559
2- 2) سورة الشوری آیة:49.

فی ما یرجع الی أولاده،و یتصرف فی شؤونهم تصرف الموالی فی عبیدهم و أمورهم مع أنه لم یلتزم به أحد.

علی أنه مخالف للروایات (1)المعتبرة الصریحة فی أن للأب أن یستقرض من مال ابنه، و یقوم جاریته بقیمة عادلة،و یتصرف فیها بالملک،فان من الواضح أنه لو کان الابن و ماله للأب لما احتاج فی جواز التصرف فی ماله و جاریته الی الاستقراض و التقویم.

و أما الثانی فأیضا فاسد،لأن مورد بعضها الولد الکبیر،و من المقطوع به أنه لا ولایة للأب علیه،و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه فهی معارضة بما دل علی حرمة سب المؤمن بالعموم من وجه،ففی مورد التعارض یرجع الی عمومات ما دل علی حرمة الظلم،و هو واضح

حرمة السحر

اشارة

قوله العاشرة السحر حرام فی الجملة بلا خلاف. أقول:لا خلاف فی حرمة السحر فی الجملة،بل هی من ضروریات الدین،و مما قام علیه إجماع المسلمین،و قد استفاضت بها الروایات من طرقنا[1].

ص:283


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 107 و باب 108 مما یکتسب به ص 160.

و من طرق العامة[1]و هذا لا شبهة فیه،و إنما الکلام فی تحقیق موضوع السحر و بیان حقیقته.

و قد اختلفت کلمات أهل اللغة[2]فی ذلک،فذکر بعضهم أنه الخدعة و التمویه،

ص:284

و قال بعضهم:إنه إظهار الباطل بصورة الحق.و قیل:هو الأخذة فی العین.و فی القاموس:إنه ما لطف مأخذه و دق.و قال بعضهم:إنه صرف الشیء عن وجهه الی غیر حقیقته بالأسباب الخفیة علی سبیل الخدعة و التمویه،الی غیر ذلک من التعاریف.

و قد وقع الخلاف بین الأصحاب فی ذلک أیضا،فعن العلامة فی القواعد إنه کلام یتکلم به،أو یکتبه أو رقیة،أو یعمل شیئا یؤثر فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة.

و عن المنتهی إنه زاد أو عقد،و فی المسالک إنه زاد أو أقسام و عزائم یحدث بسببها ضرر علی الغیر،و عن الدروس إنه زاد الدخنة و التصویر و النفث و تصفیة النفس الی غیر ذلک من کلماتهم.

و التحقیق أن المتبادر عند أهل العرف من کلمة السحر-و الظاهر من استقراء موارد استعمالها و ما اشتق منها عند أهل اللسان،و المتصید من مجموع کلمات اللغویین فی تحدید معناها-أن السحر هو صرف الشیء عن وجهه علی سبیل الخدعة و التمویه،بحیث إن الساحر یلبس الباطل لباس الحق،و یظهره بصورة الواقع فیری الناس الهیاکل الغریبة و الاشکال المعجبة المخوفة.

ص:285

و الوجه فی ذلک أن السحر عمل خفی یحصل بالأسباب الخفیة،و یصور الشیء علی خلاف صورته الواقعیة،و یصرفه عن وجهه بالخدعة و التمویه،و یقلبه من جنسه فی الظاهر،لا فی الحقیقة،بحیث إن الساحر یسحر الناظرین حتی یتخیلوا أنه یتصرف فی الأمور التکوینیة، و یغیرها عن حقیقتها إلی حقیقة أخری،فیریهم البر بحرا عجابا تجری فیه السفن و تتلاطم فیه الأمواج،من غیر أن یلتفتوا الی کونه خدعة و تمویها.و إظهارا للباطل بصورة الحق و قصة السحرة مع موسی«ع»مذکورة فی القرآن (1)حین ألقوا (فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِیُّهُمْ یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعی) .

لا یقال:قد تکون للسحر حقیقة واقعیة کالتصرف فی عقل المسحور أو بدنه،أو ما یرجع الیه،و علیه فلا یتم تعریفه المذکور.

فإنه یقال:لیست للسحر حقیقة واقعیة،و لکن قد یترتب علیه أمر واقعی،فقد یظهر الساحر للمسحور شیئا مهولا،فیخاف هذا و یصبح مجنونا،أو یریه بحرا و فیه سفینة جاریة،فیحاول المسحور أن یرکبها فیقع من شاهق و یموت،فان الجنون و الموت و إن کانا من الأمور الواقعیة،إلا أنهما ترتبا علی الأمور التخیلی الذی هو السحر،و یقرب ما ذکرناه ما عن صاحب العین من أنه(یقلب الشیء من جنسه فی الظاهر،و لا یقلبه عن جنسه فی الحقیقة).و قد أشیر الی ما ذکرناه فی خبر الاحتجاج[1]حیث سئل الإمام علیه السلام عن الساحر أ یقلب الواقع الی الواقع آخر؟؟فقال«ع»:هو أضعف من ذلک.

و علی ما ذکرناه من المعنی قد استعملت کلمة السحر فی مواضع شتی من الکتاب العزیز[2] و أطلق المشرکون صفة الساحر علی النبی الصادق المصدق،فقد زعموا أن محمدا(صلی الله علیه و آله)یظهر الباطل بصورة الحق بکلمات فصیحة و خطب بلیغة حتی یسحر بها أعین الناظرین و قلوبهم،

ص:286


1- 1) سورة طه آیة:69.

و من هنا أیضا أطلق السحر علی البیان الجید[1]بلحاظ المدح و الذم،فإنه یصرف حواس الحاضرین و آذان السامعین الی المتکلم.

و بهذا الاعتبار أیضا أطلق السحر علی تمویه الفضة بالذهب.و علی الجملة أن الناظر الی کلمات أهل اللغة و موارد الاستعمال یقطع بأن السحر لیست له حقیقة واقعیة،و إنما هو ما ذکرناه،و من جمیع ما تقدم ظهر ما هو المراد من الأخیار المتظافرة الدالة علی حرمة السحر و قد ذکرناه بعضها فی الهامش.

و أما ما ذکره فی القاموس من أن السحر ما لطف مأخذه و دق فإنه و إن انطبق علی ما ذکرناه،لأن صرف الشیء عن وجهه علی سبیل التمویه له مأخذ دقیق جدا،إلا أنه تعریف بالأعم،فإن الأمور التی یلطف مأخذها-و هی لیست من السحر فی شیء-کثیرة جدا،کالقوی الکهربائیة،و الرادیوات،و الطائرات،و بعض أقسام أدوات الحرب، و غیر ذلک مما لا یعرفه أکثر الناس،خصوصا الصناعات المستحدثة.

و قد ظهر مما ذکرناه الفرق بین السحر و بین المعجزة و الشعوذة،فإنک قد عرفت فی البحث عن حرمة التصویر (1)إجمالا أن الإعجاز أمر حقیقی له واقعیة،إلا أنه غیر جار علی السیر الطبیعی،بل هو أمر دفعی خارق للعادة،و اما المقدمات الطبیعیة فکلها مطویة فیه، کجعل الحبوب أشجارا و زروعا،و الأحجار لؤلؤا و یواقیت دفعة واحدة،و منه صیرورة عضا موسی«ع»ثعبانا،و صیرورة الأسد المنقوش علی البساط حیوانا مفترسا بأمر الإمام علیه السلام فی مجلس الخلیفة،و قد تقدم ذلک فی المبحث المذکور،و اما السحر فقد عرفت انه لیست لها حقیقة واقعیة أصلا.

ص:287


1- 1) ص 227.

و أما الشعوذة فسیأتی انها عبارة عن الخفة فی الید و السرعة فی الحرکة المعبر عنها فی لغة الفارس بکلمة(تردستی و تند کاری)فان المشعوذ الحاذق یفعل الأمور العادیة،و الأفعال المتعارفة بتمام السرعة،بحیث یشغل أذهان الناظرین بأشیاء،و یأخذ حواشیهم إلیها،ثم یعمل شیئا آخر بسرعة شدیدة و بحرکة خفیفة فیظهر لهم غیر ما انتظروه،و یتعجبون منه و لکن الصادر منه أمر واقعی،کأخذ الأشیاء من موضع و وضعها فی موضع آخر بالسرعة التامة حتی یتخیل الناظر إلیها أنها انتقلت بنفسها،فالنقل و الانتقال أمر حقیقی،و لکن الناظر لا یلتفت الی الناقل،و هذا بخلاف السحر،فإنه أمر خیالی محض کما عرفت التنبیه علیه و من هنا اتضح الفرق بین الشعوذة و المعجزة أیضا.و اما ما ذکره الأصحاب من بیان حقیقة السحر و أسبابه و اقسامه فکلها تقریبیة،فإن انطبق علی ما ذکرناه فهو،و إلا فیرد الی قائله،و هو أعرف بمقاله.

أقسام السحر

و لا بأس بالتعرض لما ذکره الأصحاب من أقسام السحر لیعلم هل انما مشمولة لما دل علی حرمة السحر أم لا؟و قد تکلم علیها العلامة المجلسی فی البحار (1)و أطال الکلام فیها موضوعا و حکما،نقضا و إبراما.

و حاصل کلامه فی تحقیق أقسام السحر:انه علی أنواع شتی،

النوع الأول:سخر

الکذابین(أو الکلدانیین)الذین کانوا من قدیم الدهر،و هم قوم یعبدون الکواکب،

و یزعمون کونها مدبرة للعالم السفلی،و مبادی لصدور الخیرات و الشرور،و قد بعث اللّه إبراهیم«ع»مبطلا لمقالتهم و هدم أساس مذهبهم،و هم علی فرق ثلاث:

فان منهم من یزعم ان الکواکب هی الواجبة الخالقة للعالم،و منهم من یزعم أنها قدیمة لقدم العلة المؤثرة فیها،و منهم من یزعم أنها حادثة مخلوقة،و لکنها فعالة مختارة فوض خالقها أمر العالم إلیها.

و الساحر من هذه الفرق الثلاثة من یعرف القوی العالیة الفعالة:بسائطها و مرکباتها، و یعرف ما یلیق بالعالم السفلی و حوادثه،و یعرف معدات هذه الحوادث لیعدها،و عوائقها لیرفعها بحسب الطاقة البشریة،فیکون متمکنا من استحداث ما یخرق العادة.انتهی ملخص کلام المجلسی فی النوع الأول.

أقول:قد عرفت ان السحر هو صرف الشیء عن وجهه علی سبیل الخدیعة و التمویه

ص:288


1- 1) راجع ج 14 ص 251.

من دون أن یکون له واقعیة،فاستحداث الأمور الخارقة للعادة لیس من السحر،و لو تمکن أحد من إحداث الأمور الغریبة بواسطة القوة النفسانیة الحاصلة بالریاضة،أو بصرف المقدمات فلا یقال له:إنه ساحر،بل لا دلیل علی حرمته،فان هذا شعار أهل الکرامة.

نعم لا شبهة فی کفر الفرق المذکورة،کما اعترف به المجلسی(ره)حتی الفرقة الثالثة القائلة:بتفویض أمر العالم الی الکواکب،فان قولهم هذا مخالف لضرورة الدین،فان اللّه هو الذی یحیی و یمیت،و یهب لمن یشاء ذکورا،و یهب لمن یشاء إناثا،و یصور فی الأرحام کیف یشاء.

النوع الثانی:سحر أصحاب الأوهام و النفوس القویة،

فقد ثبت بالوجوه العدیدة إمکان تسلط النفوس علی جوارح الغیر و أعضائه،فتسخره للقیام بحرکات و تأدیة أعمال علی غیر ارادة منه،و من دون وساطة شیء آخر.

و هذه النفوس قد تکون لریاضاتها قویة صافیة عن الکدورات البدنیة،فتستغنی فی تأثیرها عن الاستعانة بأدوات من خارجها،و تصدر عنها الأمور الغریبة الخارقة للعادة، و قد تکون ضعیفة و ممزوجة بأوساخ المواد،فتحتاج فی إتمام تأثیرها إلی الاستعانة بأدوات سحریة أخری،انتهی حاصل کلامه فی النوع الثانی.

أقول:لا شبهة أن بعض النفوس لصفائها بالریاضات تؤثر فی الأمور التکوینیة،و تصرفها عن وجهها صرفا حقیقیا،کإیقاف الماشی عن المشی،و المیاه الجاریة عن الجریان،بل قیل إن هذا المعنی مکنون فی الأسد بحسب الغریزة و الطبیعة،فإنه إذا نظر الی حیوان أوقفه عن المشی و الحرکة،إلا أنه لا دلیل علی حرمته بعنوان الأولی ما لم یترتب علیه شیء من العناوین المحرمة،بل نمنع عن صدق السحر علیه،و إنما هو نحو من الکرامة إن کان بطریق حق،و من الکفر أو الفسق إن کان بطریق الباطل.

و لا نظن أن یتوهم أحد أن تصفیة النفس بالریاضات الحقة حتی تصیر مؤثرة فی الأمور التکوینیة من المحرمات،بل هو مطلوب فی الشریعة المقدسة إذا کان بالإطاعة و التقوی، و من المعروف المشهور أن سلمان رضی اللّه عنه قد وصل بمجاهداته و تقواه و عظیم طاعته لمولاه الی حد أن انقادت الأمور التکوینیة لإرادته و التزمت فرض طاعته.

النوع الثالث:من السحر الاستعانة بالأرواح الأرضیة،

و اعلم أن القول بوجود الجن مما أنکره بعض المتأخرین من الفلاسفة و المعتزلة.و أما أکابر الفلاسفة فإنهم لم ینکروا القول بوجود الجن،و لکنهم سموها بالأرواح الأرضیة.

و هی بأنفسها مختلفة الأصناف،فإن منها خیرة و منها شریرة.و قد شاهد أهل الصنعة

ص:289

و التجربة أن الاتصال بها یحصل بأمور خفیفة و بأفعال سهلة لا مشقة فی إیجادها،کالرق و الدخن و التجرید،و قد سموا هذا النوع بالعزائم و عمل تسخیر الجن،انتهی حاصل کلام المجلسی فی النوع الثالث.

أقول:لا ریب فی خروج هذا النوع أیضا من السحر موضوعا و حکما،تعلیما و تعلما، بل لا دلیل علی حرمته فی نفسه إلا إذا ترتب علیه عنوان محرم من إیذاء إنسان و الإضرار به،أو کانت مقدماتها محرمة،فیحرم الاشتغال بها،و إلا فلا یحرم استخدام الجن، و کشف الغائبات بواسطتهم،بل لا دلیل علی حرمة إیذاهم.

النوع الرابع:مما ذکره المجلسی(ره)من أقسام السحر:التخیلات و الأخذ بالعیون،

و هذا النوع یتضح بأمور:

الأول:وقوع الاغلاط فی البصر کثیرا،فان الساکن قد یری متحرکا و بالعکس، کما أن راکب السفینة إذا نظر الی البحر یری السفینة ساکنة و یری الماء متحرکا،و القطرة النازلة من السماء تری خطا مستقیما،و الشعلة الجوالة تری دائرة من النار،و الأشیاء الصغیرة تری فی الماء کبیرة،و غیر ذلک من أغلاط البصر.

الثانی:أن المحسوسات قد یختلط بعضها ببعض إذا کانت مدرکة بسرعة النظر،لأن القوة الباصرة إذا وقفت علی محسوس وقوفا تاما فی زمان معتد به أدرکته علی نحو لا یشتبه بغیره کثیرا،و أما إذا أدرکته فی زمان قلیل،ثم أدرکت محسوسا آخر و هکذا،فإنه یختلط بعضه ببعض.

الثالث:أنه قد تشغل النفس بشیء فلا تشعر حینئذ بشیء و إن کان حاضرا عند الإنسان کالوارد علی السلطان،فإنه قد یلقاه شخص فیتکلم معه،و لکن لا یلتفت الیه،و الناظر فی المرآة یری القذارة فی عینیه و لا یری أکبر منها.

إذا عرفت هذه الأمور اتضح لک تصویر هذا النوع من السحر،فان المشعبذ الحاذق یشغل أذهان الناظرین بأمور،و یأخذ بأبصارهم،ثم یعمل شیئا آخر بسرعة شدیدة، و بحرکة خفیفة،فیظهر لهم غیر ما انتظروه،فیتعجبون منه.

أقول:هذا النوع هو المعروف بالشعوذة،فلا یرتبط بالسحر،و سیأتی أنه لا دلیل علی حرمتها،فإنها لیست إلا الحرکة السریعة فی الأعضاء،فلا معنی لحرمتها فی نفسها،إلا إذا اقترنت بعناوین محرمة.نعم أطلق علیها السحر فی خبر الاحتجاج المتقدم فی الحاشیة، فإنه قد ذکر الامام«ع»فیه:(و نوع آخر منه خطفة و سرعة و مخاریق و خفة)إلا أنه علی سبیل المجازیة،فقد عرفت الفرق بین السحر و الشعوذة،و عدم صدق کل منهما علی الآخر

ص:290

النوع الخامس:الاعمال العجیبة التی تظهر من ترکیب الآلات علی النسب الهندسیة،

کراقص یرقص،و کفارسین یقتتلان،و کراکب علی فرسه،و فی یده بوق کلما مضی ساعة من النهار ضرب البوق من غیر أن یمسه أحد،و من هذا القبیل الصور المصنوعة لأهل الروم و الهند بحیث یراها الناظر إلیها إنسانا علی کیفیات مختلفة ضاحکة و باکیة حتی یفرق فیها بین ضحک السرور و ضحک الخجل و ضحک الشامت،فهذه الوجوه کلها من لطائف التخایل، و کان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب.

و من ذلک أیضا ترکیب صندوق الساعات،و علم جر الأثقال و الأجسام العظیمة بآلات خفیفة،و هذا النوع فی الحقیقة لا ینبغی أن یعد من السحر،فان لها أسبابا معلومة معینة، و من اطلع علیها قدر علی إیجادها،و حیث لم یصل إلیها إلا الفرد النادر لصعوبتها عدها أهل الظاهر من السحر،انتهی ملخص کلامه.

أقول:إن إیجاد الصنائع المعجبة و ترکیب الأمور الغریبة-کما هو المعروف کثیرا فی العصر الحاضر،کالطائرات و القطارات و السیارات و سائر أدوات النقل و الآلات العجیبة المعدة للحرب-لیس من المحرمات بعناوینها الأولیة إلا إذا انطبقت علیه عناوین محرمة اخری،و لیس من مقولة السحر،کما اعترف به المجلسی،و لم یثبت کون سحر سحرة فرعون من هذا القبیل.

النوع السادس من السحر:الاستعانة بخواص الأدویة

مثل أن تجعل فی الطعام بعض الأدویة المبدلة،أو المزیلة للعقل،أو الدخن المسکر«البخور»أو عصارة البنج المجعول فی الملبس،و هذا مما لا سبیل إلی إنکاره،فإن أثر المغناطیس شاهد.انتهی ملخص کلام المجلسی.

أقول:هذا النوع أیضا خارج عن السحر موضوعا و حکما،و إنما هی أسرار یکتشفها علم الکیمیاء،و قد یستعان بها فی علم الطب،و لو کانت الاستعانة بالأدویة محرمة للزم القول بحرمة علم الطب،و لم یلتزم به أحد،بل وجوبه من الضروریات عند الملل و عقلاء العالم

النوع السابع من السحر:تعلیق القلب،

و هو أن یدعی الساحر علم الکیمیاء و علم اللیمیا و الاسم الأعظم،و یدعی أن الجن یطیعونه،فإذا کان السامع ضعیف العقل قلیل التمیز اعتقد بذلک و تعلق قلبه به،و یلزم ذلک أن یحصل فیه الرعب و الخوف،و یفعل فیه الساحر ما یشاء،مع أن تلک الدعاوی لیس لها أصل،و من جرب هذا المعنی و أهله علم أن لتعلیق القلب أثرا عظیما من حیث الخوف و الرجاء کلیهما.

و فیه أنه لا وجه لجعله من أقسام السحر،و إنما هو قسم من الکذب،إذا لم یکن له

ص:291

واقع،علی أن تعلیق القلب لو کان سحرا لکانت الاستمالة بمطلقها سحرا محرما،سواء کانت بالأمور الواقعیة أم بغیرها.

النوع الثامن:النمیمة.

و فیه أنها و إن کانت محرمة بالضرورة عند الفریقین،بل عند العقلاء،إلا أنها أجنبیة عن السحر و عن مورد الأخبار الدالة علی کفر الساحر و وجوب قتله،فان من البدیهی أن التمام لیس بکافر و لا یجوز قتله.

و علی الجملة لم یتحصل لنا من الأقسام المذکورة ما یکون سحرا و محرما بعنوانه،فانحصر السحر المحرم بما ذکرناه:أعنی صرف الشیء عن وجهه علی سبیل الخدعة و التمویه.و قد تقدم أن هذا هو المورد للأخبار الدالة علی حرمة السحر.

ثم إنه ورد فی جملة من الروایات المتقدمة ما دل علی کفر الساحر.و فی الروایات الأخری المتقدمة فی الحاشیة أنه یقتل.

أما الحکم بالکفر فلا یمکن أن یراد به الکفر المصطلح فی الشرعیة المقدسة.ضرورة عدم جریان أحکام الکفر علیه،و من قسمة الأموال،و بینونة زوجته و الحکم بنجاسته، فیشمله ما دل علی إسلام من أقر بالشهادتین و المعاد،علی أنا لم نر و لم نسمع من یعامل الساحر معاملة الکافر حتی فی زمن النبی(صلی الله علیه و آله)و الأئمة.

و یؤید ما ذکرناه ما سیأتی فی البحث عن جواز دفع السحر بالسحر من قوله«ع»للساحر الذی أخذ السحر صناعة لنفسه:(حل و لا تعقد).فلو کان السحر موجبا للکفر لحکم أبو عبد اللّه بکفره،و لکن الروایة مجهولة.

و کیف کان فما دل علی کفر الساحر لا بد من حمله إما علی مستحل السحر،و إما علی من یعارض به القرآن و النبوة،و یدعی به الرسالة أو الإمامة،أو یدعی ما لا یقدر علیه إلا اللّه،و یدل علی الأخیر ما فی روایة العسکری«ع»فی قصة هاروت و ماروت من قوله علیه السلام:(فلا تکفر باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار و دعاء الناس الی أن یعتقدوا أنک تحیی و تمیت و تفعل ما لا یقدر علیه إلا اللّه فان ذلک کفر).

و لکن الروایة ضعیفة السند.و سنتعرض لها فی البحث عن جواز دفع السحر بالسحر و أما الحکم بقتله فهو المشهور بین الأصحاب،بل فی کلمات غیر واحد منهم دعوی الإجماع علیه من دون فرق بین المستحل و غیره.

و فی حدود الریاض:(یقتل الساحر إذا کان مسلما،و یعزر إذا کان کافرا،بلا خلاف فتوی و نصا،ثم قال:إن مقتضی إطلاق النص و الفتوی بقتله عدم الفرق فیه بین کونه مستحلا أم لا،و به صرح بعض الأصحاب،و حکی آخر من متأخر المتأخرین قولا بتقییده

ص:292

بالأول،و وجهه غیر واضح).

أقول:(قد ورد فی الروایات العدیدة المتقدمة فی أول المسألة أن حد الساحر هو القتل، إلا أنها روایات ضعیفة،و غیر منجبرة بالشهرة الفتوائیة،فقد عرفت مرارا أنها لا تجبر ضعف الروایة.و علیه فان تم الإجماع و التسالم علی ذلک أخذ به،و إلا فعمومات ما دل علی حرمة قتل النفس محکمة.

نعم إذا کان الساحر مستحلا للسحر،أو کان یعارض به بعض المناصب الإلهیة وجب قتله،إلا أن القتل لم یجب علیه بما أنه ساحر،بل بما أنه منکر لما هو من ضروریات الإسلام.

قوله و بعضها قد ذکر فیما ذکره فی الاحتجاج. أقول:قد ظهر مما تقدم أن إطلاق السحر علی بعض الأمور المذکورة فی خبر الاحتجاج-کالسرعة و الخفة و النمیمة- إنما هو بنحو من العنایة و المجاز،علی أن الروایة ضعیفة السند و غیر منجبرة بشیء.

قوله و أما الأقسام الأربعة المتقدمة من الإیضاح إلخ. أقول:قال فی محکی الإیضاح:إن استحداث الخوارق إما بمجرد التأثیرات النفسانیة:و هو السحر،أو بالاستعانة بالفلکیات فقط:و هو دعوة الکواکب،أو بتمزیج القوی السماویة بالقوی الأرضیة:و هی الطلسمات،أو علی سبیل الاستعانة بالأرواح الساذجة:و هی العزائم، و یدخل فیه النیرنجات،و الکل حرام فی شریعة الإسلام و مستحله کافر.

و تبعه المصنف فی ذلک،لوجهین:الأول شهادة المجلسی(ره)فی البحار بدخولها فی السحر عند أهل الشرع،فتشملها الإطلاقات.

الثانی:دعوی فخر الدین فی الإیضاح کون حرمتها من ضروریات الدین،و هذا الوجه یوجب الاطمئنان بالحکم،و باتفاق العلماء علیه فی جمیع الأعصار.

أما الوجه الأول:فیرد علیه أولا انه لا حجیة فی شهادة المجلسی،لاستناده الی اجتهاده و قد اعترف به المصنف أیضا فیما سیأتی.فقد قال:(لکن الظاهر استناد شهادتهم الی الاجتهاد).

و ثانیا:أنا لم نجد فی کلام المجلسی شهادة علی کون الأقسام المذکورة من السحر عند عرف الشارع،فإنه قال:(إن لفظ السحر فی عرف الشرع مختص بکل مخفی سببه، و یتخیل علی غیر حقیقته،و یجری مجری التمویه و الخداع).ثم ذکر الأنواع المتقدمة، و أی شهادة فی ذلک علی مقصود المصنف.

و ثالثا:أنک قد عرفت خروج کثیر من الأقسام المزبورة بل کلها عن حقیقة السحر.

ص:293

بل یکفی الشک فی منع شمول الإطلاقات لها،لعدم جواز التمسک بها عند الشک فی الصدق.

و رابعا:ما ذکره المصنف فیما سیأتی من معارضة شهادة المجلسی بما ذکره الفخر من إخراج علمی الخواص و الحیل من السحر،و بما ذکره صاحب لک و غیره من تخصیصهم السحر بما یحدث ضررا،و بما ذکره العلامة من تخصیصه السحر بما یؤثر فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله،و هذه الشهادات من هؤلاء الأعیان تکشف عن عدم العموم فی لفظ السحر لجمیع ما تقدم،و عن کون الإطلاق فی جملة منها مجازا.

و من هنا ظهر الجواب عن الوجه الثانی أیضا.علی أن الدعوی المذکورة لا توجب الاطمئنان بالحکم إلا فی المورد المتیقن،کالإضرار بالمسحور فی عقله أو بدنه أو ماله أو ما یرجع الیه من شؤونه،و أما فی غیر الموارد المتیقنة فإنه لا دلیل علی حرمة الاستعانة بالأمور المتقدمة،بل ربما تکون مطلوبة لإبطال سحر مدعی النبوة و الإمامة،و مع الشک فیه فأصالة البراءة محکمة.

عدم اختصاص حرمة السحر

بالمضر منه هل تختص حرمة السحر بالمضر منه أو تعم غیر المضر أیضا؟فیه خلاف.فالمحکی عن الشهیدین فی الدروس و لک ان المعتبر فی السحر الإضرار،و عن شارح النخبة أن ما کان من الطلسمات مشتملا علی إضرار أو تمویه علی المسلمین أو الاستهانة بشیء من حرمات اللّه فهو حرام،سواء عد من السحر أم لا،و عن جملة من الأکابر انه حرام مطلقا سواء أ کان مضرا أم لا تمسکا بظاهر الإطلاقات المتقدمة،و من هنا ظهر أنه لا وجه لتقیید السحر بما کان مؤثرا فی بدن المسحور أو عقله أو قلبه من غیر مباشرة کما عرفته عن العلامة فی القواعد.

و قد یستدل علی اختصاص حرمة السحر بالمضر منه ببعض الروایات الواردة فی قصة هاروت و ماروت،و سیأتی ذکرها.

و فیه أولا:أن هذه الروایات ضعیفة السند.و ثانیا:أنه لا تنافی بینها و بین المطلقات الدالة علی حرمة السحر مطلقا.

قوله فمثل احداث حب مفرط فی الشخص بعد سحرا. أقول:الوجه فیه ما ورد

ص:294

فی بعض الأحادیث[1]من تشدید النبی(صلی الله علیه و آله)المرأة التی صنعت ذلک لزوجها،و استقباله إیاها باللعن و التوبیخ،و حکمه علیها بعدم قبول التوبة.

و فیه أولا:أنه لیس فی الروایة ما یدل علی کون المصنوع سحرا.و ثانیا:أن العمل بها یقتضی حرمة إدخال الزوجة حبها فی قلب الزوج و إن کان ذلک بالأخلاق الحسنة و الأفعال المرضیة،مع انه مطلوب فی الشریعة المقدسة،و قد أمر به فی الأخبار المتظافرة،بل المتواترة المذکورة فی أبواب مقدمات النکاح،و علیه فلا بد من حمل الروایة علی کون المصنوع أمرا غیر مشروع یوجب تکدر البحار و الطین،و استحقاق المرأة باللعن و ثالثا:ان الروایة مخالفة للقواعد،فإنها مشتملة علی عدم قبول التوبة من المرأة التی صنعت لزوجها شیئا یوجب المحبة و العطف،مع ان الثابت فی الإسلام جواز توبة المرأة المرتدة،سواء أ کانت فطریة أو ملیة،و من المقطوع به ان سحرها لا یزید علی الارتداد، و یضاف الی جمیع ما ذکرناه ان الروایة ضعیفة السند.

جواز دفع ضرر السحر بالسحر

قوله بقی الکلام فی جواز دفع ضرر السحر بالسحر. أقول:و قد یستدل علی الجواز بالروایات[2]الواردة فی قصة هاروت و ماروت و غیرها،فإنها تدل علی جواز

ص:295

دفع ضرر السحر بالسحر.و فیه انها و إن کانت ظاهرة الدلالة علی ذلک،و لکنها ضعیفة السند،فلا یمکن الاستناد إلیها.

نعم یمکن الاستدلال علی الجواز بالآیة الواردة فی قصة هاروت و ماروت[1]بتقریب أن السحر لو لم یکن جائز الاستعمال حتی فی مقام دفع الضرر لم یجز تعلیمه أصلا،فجواز التعلیم یدل علی جواز العمل به فی الجملة،و القدر المتیقن منه هو صورة دفع ضرر الساحر، و کیف کان فلا ریب فی انه قد یجب إذا توقفت علیه مصلحة ملزمة،کما إذا ادعی الساحر منصبا من المناصب الإلهیة،کالنبوة و الإمامة.

التسخیر لیس من السحر

و قد یقال:بأن من السحر التسخیرات بأقسامها حتی تسخیر الحیوانات،بدعوی أن تعاریف السحر صادقة علیها،حتی ان الشهیدین مع أخذهما الإضرار فی تحریم السحر ذکروا ان استخدام الملائکة و الجن من السحر،و علیه فتشملها الإطلاقات المتقدمة الدالة علی حرمة السحر بجمیع شؤونه.

و فیه أنک قد عرفت خروج الاستعانة بالأرواح الأرضیة و استخدام الجن من السحر موضوعا و حکما.و حینئذ فإن انطبق علی ذلک شیء من العناوین المحرمة حکم علیه بالحرمة لتلک الجهة المحرمة،لا لکونه سحرا،کما إذا اشتملت التسخیرات علی المقدمات المحرمة،

ص:296

أو کان المسخر بالکسر لعمله ذلک عرضا للتضرر أو التلف أو الجنون،أو لارتکاب شیء آخر من الأمور غیر المشروعة،أو کان المسخر بالفتح مؤمنا من الإنس أو ملکا،و کان التسخیر ظلما علیهم،و مع انتفاء العناوین المحرمة فلا وجه للحرمة،کتسخیر الکفار من الانس و الجن و إن اشتمل ذلک علی إیذائهم،و إلا لما جاز قتل الکفار،و أخذ الجزیة منهم و هم صاغرون.

و کذلک یجوز تسخیر الحیوانات مطلقا،خصوصا المؤذیات منهم کالعقارب و الحیات و السباع،و إلا لما جاز استخدام الحمولة،و قتل المؤذیات منها،و قد أجاد المحقق الایروانی و قال:(فالأمر فی تسخیر الحیوانات أوضح،فهل یمکن الالتزام بجواز تسخیر الحیوانات بالقهر و الغلبة و الضرب،و مع ذلک لا یجوز تسخیرها بما یوجب دخولها تحت الخدمة طوعا)

الشعوذة

قوله الحادیة عشرة الشعبذة حرام بلا خلاف. أقول:الشعوذة[1]هی اللعبة المعروفة:أعنی الخفة فی الحرکة المعبر عنها فی لغة الفرس بکلمة(تردستی)و أما الذی یترتب علی الشعوذة فهو أمر واقعی،فان المشعوذ یفعل ما یفعله سائر الناس من الأمور العادیة، إلا أنه یشغل أذهان الناظرین بسرعة حرکته و خفة یده بحیث یتعجبون من أفعاله من غیر أن تکون تلک الأفعال الصادرة منه خیالیة محضة کما فی السحر أو غیر جاریة علی السیر الطبیعی کما فی المعجزات،علی ما عرفت من التفرقة بینها و بین السحر و المعجزة فی المسألة السابقة.و یمکن أن تکون الشعوذة أعم من السحر،و یظهر ذلک من ملاحظة ما ذکره

ص:297

بعض اللغویین مع ملاحظة ما ذکرناه فی معنی الشعوذة بحسب المتفاهم العرفی.و لکن الظاهر هو ما ذکرناه من المبائنة بینهما.

و قد استدل المصنف(ره)علی حرمة الشعوذة بأمور:

الأول:الإجماع.و فیه أنه لیس هنا إجماع تعبدی،لاحتمال استناده إلی سائر الوجوه المذکورة فی المسألة.

الثانی:أنه من اللهو و الباطل.و فیه أنه ممنوع صغری و کبری،أما الوجه فی منع الصغری فلأنا لا نسلم کونها من اللهو و الباطل إذا ترتب علیها غرض عقلائی.و أما الوجه فی منع الکبری فلأنه لا دلیل علی حرمتهما علی الإطلاق،بل الحرام منهما هو القسم الخاص.

الثالث:قوله«ع»فی خبر الاحتجاج:(و نوع آخر منه خطفة و سرعة و مخاریق و خفة).و فیه أولا:إنه ضعیف السند و غیر منجبر بشیء و قد تقدم ذلک آنفا.و أما جبره بالإجماع المحکی،فإن الإجماع إن کان حجة فی نفسه لزم اتباعه لذلک،و إلا فإن ضم غیر الحجة إلی مثله لا یفید الاعتبار.

الرابع:صدق بعض تعاریف السحر علی الشعوذة،فتکون مشمولة لما دل علی حرمة السحر.و فیه أنک قد عرفت خروجها عن حدود السحر موضوعا،و عدم صدقة علیها.

الغش الحرام

اشارة

قوله الثانیة عشرة الغش حرام بلا خلاف. أقول:لا شبهة فی حرمة غش المسلم فی الجملة بلا خلاف بین الشیعة و أهل السنة[1]لتواتر الروایات من طرقنا[2]

ص:298

و من طرق العامة (1)بل هی من ضروریات مذهب المسلمین.

و العجب من المحقق الایروانی حیث ألغی عنوان الغش عن الموضوعیة و التزم بحرمته للعناوین الثانویة من الکذب و أکل أموال الناس بلا رضی منهم!.

و لا ریب أن الروایات حجة علیه،لظهورها فی حرمة الغش فی نفسه،فإذا تحقق موضوعه فی مورد ترتب علیه حکمه،کسائر القضایا الحقیقیة،و سیأتی أن موضوع الغش أمر عرفی.

فقد ظهر أنه لا وجه لما ارتکبه المحقق المذکور من السیر و التقسیم فی نفی موضوعیة الغش بدعوی أنه لا دلیل علی حرمة شوب اللبن بالماء و لا علی حرمة عرض المشوب علی البیع،و لا علی حرمة مجرد الإنشاء،فتعین أن یکون الغش المحرم أخذ قیمة غیر المغشوش بإزاء المغشوش

ص:299


1- 1) راجع ج 5 سنن البیهقی ص 320.
موضوع الغش

لا شک فی أن الغش لیست له حقیقة شرعیة،و لا متشرعیة،بل المراد به ما جری علیه العرف و اللغة[1]من کونه بمعنی الکدر و الخدیعة و الخیانة،و یعبر عنه فی لغة الفرس بکلمة(گول زدن)و لا یتحقق ذلک إلا بعلم الغاش و جهل المغشوش،فإذا کان کلاهما عالمین بالواقع،أو جاهلین به،أو کان الغاش جاهلا و المغشوش عالما انتفی مفهوم الغش.

ثم إنه لا یعتبر فی مفهوم الغش انحصار معرفته بالغاش،فإن أکثر أفراد الغش یعرفه نوع الناس بإمعان النظر،خصوصا من کان من أهل الفطانة و التجربة،و من کان شغله الغش،فإنه لا شبهة أن من الغش جعل الجید من الحبوب علی ظاهر الصبرة و ردیه فی باطنها و بیع الأمتعة فی الظلال،و من الواضح أن نوع الناس یلتفتون الی الغش فی أمثال ذلک بتدقیق النظر،و لو اختص مفهوم الغش بما انحصر طریق معرفته بالغاش لم یبق له إلا مورد نادر.

نعم قد تنحصر معرفته بالغاش کمزج اللبن بالماء،و خلط الدهن الجید بالدهن الردی، و وضع الحریر و نحوه فی مکان بارد لیکتسب ثقلا،و بیع الحیوان مسموما لا یبقی أزید من یوم و یومین،و غیر ذلک من الموارد التی لا یطلع علی الغش إلا خصوص الغاش فقط، و لکن هذا لا یوجب اختصاص الغش بتلک الموارد،و عدم تحقق مفهومه فی غیرها.

و قد ظهر مما ذکرناه أن الغش لا یصدق لغة و لا عرفا علی الخلط الظاهر الذی لا تحتاج معرفته إلی إمعان النظر،فإذا مزج الردی بالجید مزجا یعرفه أی ناظر الیه من الناس-بغیر تدقیق النظر،و جعل الردی فی ظاهر الصبرة و الجید فی باطنها-فان ذلک لا یکون غشا، و یدل علی ذلک بعض الأحادیث[2].

ص:300

تذییل

إن ظاهر المطلقات المتقدمة هو حرمة الغش علی وجه الإطلاق سواء أ کان فی المعاملة أم فی غیرها،إلا أنه لا بد من صرفها الی خصوص المعاملات فی الجملة،بداهة أنه لا بأس بتزیین الدور و الألبسة و الأمتعة لإراءة أنها جدیدة،مع أنها عتیقة،و کذلک لا بأس بإطعام الطعام المغشوش و سقی اللبن الممزوج للضیف و غیره،و بذل الأموال المغشوشة للفقراء.بل یمکن دعوی عدم صدق الغش فی هذه الموارد،أو فی بعضها.نعم لو أخبر بموافقة الظاهر فی ذلک للواقع کان حراما من جهة الکذب،سواء کان إخباره قولیا أم فعلیا،و هو أجنبی عما نحن فیه.

لا یعتبر فی صدق الغش قصد مفهومه

قوله و یمکن أن یمنع صدق الاخبار المذکورة إلا علی ما قصد التلبیس. أقول:

ظاهر المصنف أنه یعتبر فی حقیقة الغش قصد مفهومه من التلبیس و الخدیعة.و أما ما یکون ملتبسا فی نفسه فلا یجب علیه الإعلام به.

و فیه أنه لا دلیل علی اعتبار القصد بمعنی الداعی فی مفهوم الغش.بداهة کونه من الأمور الواقعیة،و هی لا تختلف باختلاف الدواعی کالأمور القصدیة،و إنما المعتبر فیه علم البائع بالخلط مع جهل المشتری إیاه.

و علیه فإذا اختلط الجید بالردی أو امتزج اللبن بالماء بغیر اختیار من المالک،و لا رضی و باعهما بدون التنبیه کان ذلک أیضا غشا محرما،لإطلاق الروایات،و عدم دلالة شیء منها علی اعتبار القصد فی تحقق الغش.

و مما ذکرناه ظهر بطلان ما فی الریاض من قوله ثم لو غش لا بقصده بل بقصد إصلاح المال لم یحرم للأصل و اختصاص ما مر من النص بحکم التبادر بصورة القصد).

ص:301

حکم المعاملة المشتملة علی الغش

من حیث الصحة أو الفساد

قوله ثم إن فی جامع المقاصد ذکر فی الغش بما یخفی بعد تمثیله له بمزج اللبن بالماء وجهین فی صحة المعاملة و فسادها. أقول:ضابط الصحة و الفساد فی المقام هو ما حققناه فی البحث عن بیع الدراهم المغشوشة و غیره،و إجماله:أن المبیع إما أن یکون کلیا، و یکون الغش فی الفرد المقبوض،کما إذا باع منا من الحنطة الجیدة.و دفع عنها حنطة مغشوشة فإنه لا شبهة فی صحة البیع فی هذه الصورة،لعدم کون الغش فی البیع،و إنما هو فی تطبیق المبیع الکلی علی الفرد الخارجی،فللمشتری تبدیله بغیره.

و إما أن یکون المبیع شخصیا،و هو علی أقسام،لأن الأوصاف المأخوذة فی المبیع قد تکون من قبیل الصور النوعیة فی نظر العرف،و لا شبهة فی بطلان البیع فی هذه الصورة إذا ظهر المبیع مغشوشا،کما إذا باع فلزا علی أنه ذهب فبان مذهبا.و وجه البطلان أن ما وقع علیه العقد لیس بموجود،و ما هو موجود لم یقع علیه العقد.

و قد تکون الأوصاف المأخوذة فیه من قبیل وصف الکمال أو الصحة،کما إذا باع عبدا علی أنه کاتب أو نجار أو بصیر فبان أنه لا یحسن الکتابة و التجارة أو أنه أعمی،و حینئذ فإن کان العقد معلقا علی الوصف بحیث ینتفی البیع مع انتفاء الوصف فهو باطل،للتعلیق المجمع علی کونه مبطلا للعقد،و إن کان مشروطا بالوصف حکم بالصحة.

و علیه فإذا کان التخلف فی الأوصاف الکمالیة ثبت خیار تخلف الشرط للمشتری.و إذا کان التخلف فی وصف الصحة کان المشتری مخیرا بین الأمور الثلاثة الفسخ،أو الإمضاء بدون الأرش،أو الإمضاء معه.

و قد یکون المبیع المجموع المرکب من جزئین،أو من أجزاء،و هو علی قسمین:

أحدهما:أن یکون للهیئة الاجتماعیة دخل فی ازدیاد الثمن،بأن کانت واسطة فی زیادة مالیة المبیع و إن لم یقابلها بنفسها جزء من الثمن،کما هو الشأن فی عامة الأوصاف حتی ما کان من قبیل الصور النوعیة.

و علیه فلا شبهة فی بطلان البیع فی الجزء الفائت و کون المشتری مخیرا فی الباقی بین الفسخ و الإمضاء.و مثاله أن یبیع دورة البحار،فیظهر ان احد الأجزاء التی وقع علیها البیع کتاب لغة،أو یبیع مصراعی الباب،فیبین أنه مصراع واحد،أو یبیع زوجی

ص:302

الخف فیبین أنه فرد واحد،أو یبیع عدلی الغرارة-أی الجوالق-فیبین أنه عدل واحد.

و غیر ذلک من الأمثلة.فإنه لا شبهة فی دخل الهیئة الاجتماعیة فی زیادة المالیة فی الأمور المذکورة،فیترتب علیها الحکم المزبور.

و ثانیهما:ان لا یکون للهیئة الاجتماعیة مساس فی زیادة مالیة المبیع أصلا،بل کان الانضمام کوضع الحجر فی جنب الإنسان،و علیه فلا شبهة فی صحة البیع و لزومه بالنسبة إلی الجزء الموجود،من دون ان یثبت للمشتری خیار تخلف الوصف،کما إذا باع صبرة حنطة بدینارین علی انها وزنتان فوجد نصفها ترابا،فیصح البیع فی الوزنة الموجودة و یبطل فی الأخری،فإن مرجع ذلک الی بیع کل وزنة من هذه الحنطة بدینار.و من هنا ظهر ما فی کلام المصنف من أن الغش(إن کان من قبیل التراب الکثیر فی الحنطة کان له حکم تبعض الصفقة و نقص الثمن بمقدار التراب الزائد).

و من جمیع ما ذکرناه یظهر ضعف کلام الشهید حیث قال فی شرائط الاقتداء من الذکری:(الثالث یشترط القصد الی إمام معین)الی ان قال:(و لو نوی الاقتداء بالحاضر علی أنه زید فبان عمروا ففی ترجیح الإشارة علی الاسم،فیصح،أو بالعکس،فیبطل نظر،نظیر ان یقول المطلق لزوجة اسمها عمرة:هذه-هنا-زینب طالق،و یشیر البائع إلی حمار،فیقول:بعتک هذا الفرس).و منشأ للتردد فی ذلک تغلیب الإشارة أو الوصف و یضاف الی ما ذکرناه انک قد عرفت فی مبحث التطفیف:ان البیع من الأمور القصدیة فلا معنی لتردد المتبایعین فیما قصداه.

و کذلک ظهر بطلان ما استدل به القائلون بالفساد مطلقا من أن العقد لم یتعلق بذات المبیع بأی عنوان اتفق،بل تعلق بالمبیع بعنوان انه غیر مغشوش،فإذا ظهور الغش فقد ظهر ان ما هو المبیع غیر موجود،و ما هو موجود غیر المبیع.

و وجه البطلان انه إنما یتم فیما إذا کانت الأوصاف المختلفة من قبیل الصور النوعیة لا مطلقا،و قد أوضحنا ذلک فیما تقدم.

و قد یستدل علی الفساد بوجوه أخر،قد أشار إلیها المصنف:

الأول:النهی الوارد عن بیع المغشوش،فإنه یدل علی فساده.و فیه انا لم نجد ما یدل علی النهی عن بیع المغشوش فی نفسه غیر خبر موسی بن بکر،و خبر الجعفی،و سیجیء الکلام علیهما.

الثانی:النهی عن الغش الوارد فی الروایات الکثیرة،و قد تقدم ذکرها فی الحاشیة، و من الواضح ان الغش متحد مع البیع،کما تدل علیه روایة هشام المتقدمة(أما علمت ان

ص:303

البیع فی الظلال غش).فیدل علی الفساد.

و فیه ان النهی إنما تعلق بالغش،و هو أمر خارج عن البیع،و النهی إذا تعلق بأمر خارج عن الشیء لا یدل علی فساد ذلک الشیء،و قد حقق ذلک فی محله.و اما روایة هشام فهی لا تدل علی أزید من ذلک،خصوصا بعد ملاحظة قوله«ع»فی ذیلها:(و الغش لا یحل) فإنه ظاهر فی الحکم التکلیفی فقط.

الثالث:خبر موسی بن بکر عن أبی الحسن«ع»فإنه(أخذ دینارا من الدنانیر المصبوبة بین یدیه فقطعها بنصفین ثم قال:ألقه فی البالوعة حتی لا یباع شیء فیه غش).فان تعلیله علیه السلام ذلک بأن لا یقع بیع علی شیء فیه غش یدل علی فساد هذه المعاملة.

و نظیر ذلک خبر الجعفی،و قد تقدم الکلام علیهما فی البحث عن البیع الدراهم المغشوشة (1)مع انهما ضعیفتا السند کما تقدم فی المبحث المذکور.

حرمة الغناء

اشارة

قوله الثالثة عشرة الغناء،لا خلاف فی حرمته فی الجملة. أقول:لا خلاف فی حرمة الغناء فی الجملة بین الشیعة،و اما العامة فقد التزموا (2)بحرمته لجهات خارجیة،و إلا فهو بنفسه أمر مباح عندهم.

قال فی المستند (3)بعد ان ذکر موضوع الغناء:(فلا خلاف فی حرمة ما ذکرناه انه غناء قطعا،و لعل عدم الخلاف بل الإجماع علیه مستفیض،بل هو إجماع محقق قطعا،بل

ص:304


1- 1) ص 157 و ص 158.
2- 2) فی ج 2 فقه المذاهب ص 42:فالتغنی من حیث کونه تردید الصوت بالألحان مباح لا شیء فیه.و لکن قد یعرض له ما یجعله حراما أو مکروها.و علی هذا المنهج تفصیل المذاهب الأربعة.ثم قال:فما عن أبی حنیفة من انه یکره الغناء و یجعل سماعة من الذنوب فهو محمول علی النوع المحرم منه.و فی ص 43 نقل الغزالی فی الإحیاء عن الشافعی:لا أعلم أحدا من علماء الحجاز کره السماع.و قد استدل الغزالی علی الجواز برقص الحبشة و الزنوج فی المسجد النبوی یوم عید و أقرهم الرسول(صلی الله علیه و آله).ثم ذکر ان حرمة الغناء من جهة المحرمات الخارجیة.أقول قد تظافرت الأحادیث من طرقهم فی حول الغناء إثباتا و نفیا.راجع ج 10 سنن البیهقی ص 221-230.
3- 3) ج 2 ص 340.

ضرورة دینیة).

و فی متاجر الریاض:(بل علیه إجماع العلماء،کما حکاه بعض الأجلاء،و هو الحجة).

و غیر ذلک من کلمات الأصحاب المشتملة علی دعوی الإجماع و الضرورة علی حرمة الغناء.

و یدل علی حرمته وجوه،الوجه الأول:قیام الإجماع علیها محصلا و منقولة.

و فیه أن دعوی الإجماع علی الحرمة فی الجملة و إن لم تکن جزافیة،بل فی کلمات غیر واحد من الأعلام دعوی الضرورة علیها،إلا أنه لیس إجماعا تعبدیا،فان من المحتمل القریب استناد المجمعین الی الآیات و الروایات الدالة علی حرمة الغناء.

الوجه الثانی:جملة من الآیات الکریمة و لو بضمیمة الروایات،منها قوله تعالی (1):

(وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) و منه الغناء،للروایات[1]الواردة فی تطبیقه علیه،و لا فرق فی هذه النتیجة بین کون الغناء نفسه من مقولة الکلام،أو هو کیفیة مسموعة تقوم به، لاتحادهما فی الخارج علی کل حال،فلا وجه للخدشة فی الروایات الواردة فی تفسیر الآیة:

بأن مقتضاها أن الغناء من مقولة الکلام،مع أنه کیفیة تقوم به.

و منها قوله تعالی (2): (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ) فقد ذکرت عدة من الروایات[2]أن الغناء من مصادیق لهو الحدیث الذی حرمته الآیة

ص:305


1- 1) سورة الحج آیة:31.
2- 2) سورة لقمان آیة:5.

الکریمة،بل نسبه الطبرسی (1)الی أکثر المفسرین،و لفظ الاشتراء فی الآیة یجری علی ضرب من المجاز،أو علی بعض التعاریف التی یذکرها فریق من اللغویین،و قد تقدم ذلک فیما سبق (2)،فلا ضیر فی أن یتعلق بلهو الحدیث و بالغناء کما ذکرته الروایات و إن لم یکونا من الأعیان.

و منها قوله تعالی (3): (وَ الَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) بضمیمة ما فی تفسیر القمی (4)من تطبیق الآیة علی الغناء.

و منها قوله تعالی (5): (وَ الَّذِینَ لا یَشْهَدُونَ الزُّورَ) فإنه قد ورد فی بعض الأحادیث[1] تفسیر الزور فی الآیة بالغناء،و یؤیده ما تقدم من الروایات فی قوله تعالی: (وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) .و الروایات المذکورة فی تفسیر الآیات المزبورة و إن کان أکثرها ضعیف السند إلا أن فی المعتبر منها غنی و کفایة.

و قد أورد فی المستند علی دلالة الآیات علی حرمة الغناء بأن الروایات الواردة فی تفسیرها بالغناء معارضة بما ورد فی تفسیرها بغیره.

و فیه أن الأحادیث المذکورة فی تفسیر القرآن کلها مسوقة لتنقیح الصغری و بیان المصداق،فلا تدل علی الانحصار بوجه حتی تقع المعارضة بینهما،و قد أشرنا الی هذا

ص:306


1- 1) ج 4 مجمع البیان ط صیدا ص 312.
2- 2) ص 193.
3- 3) سورة المؤمنین آیة:3.
4- 4) ص 444 وَ الَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ،عن الغناء و الملاهی.
5- 5) سورة الفرقان آیة:72.

فیما سبق مرارا،و تکلمنا علیه فی البحث عن مقدمات التفسیر مفصلا.

الثالث:الروایات[1]الدالة علی حرمة الغناء،و حرمة تعلیمه و تعلمه،و حرمة التکسب به و استماعه.و أنه ینبت النفاق فی القلب کما ینبت الماء الخضرة.و أنه یورث الفقر و القساوة و ینزع الحیاء.و أنه رقیة الزناء،و یرفع البرکة،و ینزل البلاء،کما نزل البلاء علی المغنین من بنی إسرائیل.و أنه مما وعد الله علیه النار و بئس المصیر.و أنه غش النفاق و أن الغناء مجلس لا ینظر الله الی أهله.و أن استماع الغناء نفاق و تعلمه کفر.و أن صاحب الغناء یحشر من قبره أعمی و أخرس و أبکم.و أن من ضرب فی بیته شیئا من الملاهی أربعین یوما فقد باء بغضب من الله فان مات فی أربعین مات فاجرا فاسقا مأواه النار و بئس المصیر.و أن من أصغی الی ناطق یؤدی عن الشیطان فقد عبد الشیطان.و أن الغناء أخبث ما خلق الله و شر ما خلق الله و أنه یورث الفقر و النفاق.و أن من استمع الی الغناء یذاب فی اذنه الإفک.

و غیر ذلک من المضامین المدهشة التی اشتملت علیها الأخبار المتواترة.و الروایات الواردة فی حرمة الغناء و إن کان أکثرها ضعیف السند،و لکن فی المعتبر منها غنی و کفایة.

و العجب من المحقق الأردبیلی،حیث قال فی محکی شرح الإرشاد:ما رأیت روایة صحیحة صریحة فی التحریم.و هو أعرف بمقاله.

رأی المحدث القاسانی فی حرمة الغناء

و الجواب عنه

قال فی الوافی (1)ما حاصله:الذی یظهر من مجموع الأخبار الواردة فی الغناء هو اختصاص حرمته،و حرمة التکسب به،و حرمة تعلیمه و تعلمه و استماعه بما کان متعارفا من بنی أمیة و بنی العباس،من دخول الرجال علی النساء،و تکلمهن بالأباطیل،و لعبهن بالملاهی علی أقسامها،و أما غیر ذلک فلا محذور فیه،و علیه فلا بأس بسماع الغناء بما یتضمن ذکر الجنة

ص:307


1- 1) ج 10 ص 33.

و النار،و التشویق الی دار القرار،و الترغیب الی الله،و الی عبادته و طاعته.

ثم حمل علی هذا کلام الشیخ فی الاستبصار.و قد استشهد علی رأیه هذا بوجوه:

الأول:مرسلة الفقیه(سأل رجل علی بن الحسین«ع»عن شراء جاریة لها صوت؟ فقال:ما علیک لو اشتریتها فذکرتک الجنة).

الثانی:روایة أبی بصیر(قال:قال أبو عبد الله«ع»:أجر المغنیة التی تزف العرائس لیس به بأس و لیست بالتی یدخل علیها الرجال).

الثالث:الروایات (1)المشتملة علی مدح الصوت الحسن.و علی استحباب قراءة القرآن به و بألحان العرب،و أن لکل شیء حلیة و حلیة القرآن الصوت الحسن.و أن الامام علی ابن الحسین«ع»کان أحسن الناس صوتا بالقرآن.فان المستفاد من جمیعها جواز الغناء فی نفسه،بل استحبابه فی خصوص القرآن،و أن حرمته إنما تکون للأمور الخارجیة التی قد تقارنه فی الوجود.

أقول:یرد علیه أمور،الأول:أن الظاهر من الروایات المتظافرة،بل المتواترة (من حیث المعنی)الناهیة عن الغناء،و عن جمیع ما یتعلق به هو تحریمه بنفسه مع قطع النظر عن اقترانه بسائر العناوین المحرمة،و قد عرفت جملة منها فی الهامش،و عرفت مصادرها،فراجع.

الثانی:أنه إذا کان تحریم الغناء إنما هو للعوارض المحرمة کان الاهتمام بالمنع عنه فی هذه الروایات لغوا محضا،لورود النهی عن سائر المحرمات بأنفسها.

الثالث:ان ما استشهد به علی مقصده لا یفی بمراده،أما مرسلة الفقیه فمضافا الی ضعف السند فیها انها أجنبیة عن الغناء نفیا و إثباتا،کما تقدم فی بیع الجاریة المغنیة (2).

و اما روایة أبی بصیر فإنها و إن کانت صحیحة إلا انها لا دلالة فیها علی مقصد المحدث المذکور،فإن غایة ما یستفاد منها و من روایة أخری لأبی بصیر (3)انه لا بأس بأجر المغنیة التی تدعی إلی العرائس،و لا یدخل علیها الرجال،اما الغناء فی غیر زف العرائس فلا تعرض فی الروایتین لحکمه.

و اما الروایات الواردة فی قراءة القرآن بصوت حسن فلا صلة لها بالمقام،إذ لا ملازمة بین حسن الصوت و بین الغناء،بل بینهما عموم من وجه،فیقع التعارض فی مورد الاجتماع، و تحمل الطائفة المجوزة علی التقیة،لما عرفت من ذهاب العامة إلی جواز الغناء فی نفسه.

علی ان هذه الروایات ضعیفة السند،و ستأتی الإشارة الی ذلک.

ص:308


1- 1) سنشیر الی مصادرها فی البحث عن مستثنیات الغناء.
2- 2) ص 169.
3- 3) قد تعرضنا لهاتین الروایتین فی ص 170.

و یضاف الی ذلک کله ان ما ذهب الیه المحدث المذکور مخالف للإجماع بل الضرورة من مذهب الشیعة و قد عرفت ذلک فی أول المسألة.

ثم إن هذا القول نسب الی صاحب الکفایة،و لکنه بعید،فإن المتأخرین عنه نسبوا الیه استثناء الغناء فی القرآن،و من الواضح ان ذلک فرع الالتزام بحرمة الغناء.

و قد یستدل علی ما ذهب إلیه القاسانی بروایة قرب الاسناد (1):(عن علی بن جعفر عن أخیه قال:سألته عن الغناء هل یصلح فی الفطر و الأضحی و الفرع؟قال:لا بأس به ما لم یعص به)و هی و إن کانت مجهولة لعبد الله بن الحسن،و لکن رواها علی بن جعفر فی کتابه،إلا انه قال:ما لم یزمر به،و علیه فهی صحیحة.فتدل علی جواز الغناء فی نفسه و حرمته إذا اقترن بالمعاصی الخارجیة.

و فیه ان الظاهر من قوله«ع»:ما لم یزمر به،ان الصوت بنفسه صوت مزماری، و لحن رقصی،کألحان أهل الفسوق:و یعبر عنها فی الفارسیة بکلمة(پسته و سرود و دو بیت و آوازه خواندن)لا أنه صوت یکون فی المزمار،و إلا لقال ما لم یکن فی المزمار أو بالنفخ فی المزمار،و علیه فتدل الروایة علی تحقق الغناء بالصوت المزماری، و اللحن الرقصی لا مطلقا،و سیأتی،و علی هذا یحمل قوله«ع»:ما لم یعص به،فی روایة قرب الاسناد علی تقدیر صدورها من المعصوم.

و اما إطلاق الغناء علی غیر هذا القسم فی هاتین الروایتین فی قول السائل:(سألته عن الغناء)،و تقریر الامام«ع»صحة الإطلاق بالجواب عن حکمه ب قوله لا بأس به)، فهو کإطلاق نوع أهل اللغة لفظ الغناء علی المعنی الأعم.

تحقیق موضوع الغناء

قوله و إن اختلف فیه عبارات الفقهاء و اللغویین. أقول:عرفوا الغناء بتعاریف مختلفة[1]إلا انها لیست تعاریف حقیقیة،لعدم الاطراد و الانعکاس،بل هی بین إفراط

ص:309


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 43 تحریم کسب المغنیة مما یکتسب به ص 541.

و تفریط،فقد عرفه فی المصباح بأنه مد الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب،و علی قوله هذا یخرج أکثر أفراد الغناء مما لم یحتوی علی القیدین المذکورین،فان من أظهر أفراده الألحان التی یستعملها أهل الفسوق،و هی لا توجب الطرب إلا أحیانا،و لذا التجأ الطریحی فی المجمع و بعض آخر فی غیره إلی توسعة التعریف المذکور بقولهم(أو ما یسمی فی العرف غناء)نعم قد یحصل الطرب لحسن الصوت و إن لم یشتمل علی ترجیع.

و عرفه آخرون بأنه مجرد مد الصوت،أو رفعه،مع الترجیح أو بدونه،و بأنه تحسین الصوت فقط،أو ترجیعه کذلک،و یلزم من هذه التعاریف أن یدخل فی الغناء ما لیس من أفراده قطعا،کرفع الصوت لنداء أحد من البعید،و رفع الصوت أو تحسینه لقراءة القرآن و المراثی و المدائح و الخطب،بل التکلم العنیف،مع أن الشارع قد ندب الی قراءة القرآن بصوت حسن،و بألحان العرب.

بل فی بعضها(کان علی بن الحسین«ع»أحسن الناس صوتا بالقرآن).و فی بعضها:

إنه(کان یقرء القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن صوته)و فی بعضها:(و رجع بالقرآن صوتک فان اللّه تعالی یحب الصوت الحسن یرجع به ترجیعا)و ستأتی الإشارة الی هذه الروایات،فان جمیع هذه الأفراد مما یصدق علیه الغناء علی التفاسیر المذکورة،و هی لیست منه قطعا.

و أیضا ثبت فی الشریعة المقدسة استحباب رفع الصوت بالأذان،و لم یتوهم أحد أنه غناء

ص:310

و قد ورد (1)أنه(ما بعث اللّه نبیا إلا حسن الصوت)و من الواضح جدا أن حسن الصوت لا یعلم إلا بالمد و الرفع و الترجیع.

و قد دلت السیرة القطعیة المتصلة إلی زمان المعصوم«ع»علی جواز رفع الصوت بقراءة المراثی،بل ورد الحث علی قراءة الرثاء للأئمة و أولادهم،و دلت الروایات علی مدح بعض الراثین کدعبل و غیره،فلو کان مجرد رفع الصوت غناء لما جاز ذلک کله.و توهم خروج جمیع المذکورات بالتخصیص تکلف فی تکلف.

و التحقیق أن المستفاد من مجموع الروایات بعد ضم بعضها الی بعض هو ما ذکره المصنف من حیث الکبری.و توضیح ذلک:أن الغناء المحرم عبارة عن الصوت المرجع فیه علی سبیل اللهو و الباطل و الإضلال عن الحق سواء تحقق فی کلام باطل أم فی کلام حق، و سماه فی الصحاح بالسماع،و یعبر عنه فی لغة الفرس بکلمة:(دو بیت و سرود و پسته و آوازه خواندن).

و یصدق علیه فی العرف أنه قول زور و صوت لهوی.فان اللهو المحرم قد یکون بآلة اللهو من غیر صوت کضرب الأوتار.و قد یکون بالصوت المجرد،و قد یکون بالصوت فی آلة اللهو کالنفخ فی المزمار و القصب،و قد یکون بالحرکات المجردة کالرقص،و قد یکون بغیرها من موجبات اللهو.

و علی هذا فکل صوت کان صوتا لهویا و معدودا فی الخارج من ألحان أهل الفسوق و المعاصی فهو غناء محرم،و من أظهر مصادیقه الأغانی الشائعة بین الناس فی الرادیوات و نحوها،و ما لم یدخل فی المعیار المذکور فلا دلیل علی کونه غناء فضلا عن حرمته و إن صدق علیه بعض التعاریف المتقدمة.

ثم إن الضابطة المذکورة إنما تتحقق بأحد أمرین علی سبیل مانعة الخلو،الأول:أن تکون الأصوات المتصفة بصفة الغناء مقترنة بکلام لا یعد عند العقلاء إلا باطلا،لعدم اشتماله علی المعانی الصحیحة،بحیث یکون لکل واحد من اللحن و بطلان المادة مدخل فی تحقق معنی السماع و الغناء.

و مثاله الألفاظ المصوغة علی هیئة خاصة المشتملة علی الأوزان و السجع و القافیة،و المعانی المهیجة للشهوة الباطلة و العشق الحیوانی من دون أن تشتمل علی غرض عقلائی،بل قد لا تکون کلماتها متناسبة،کما تداول ذلک کثیرا بین شبان العصر و شاباته،و قد یقترن

ص:311


1- 1) راجع کا بهامش ج 2 مرآة العقول ص 532،و ج 5الوافی ص 267.مرسلة و ضعیفة لسهل،و موسی بن عمر الصیقل.

بالتصفیق،و ضرب الأوتار،و شرب الخمور،و هتک الناس،و غیرها من الأمور المحرمة.

و علیه فلو وجد اللحن المذکور فی کلام له معنی صحیح عند العقلاء لما کان غناء.

و مثاله قراءة القرآن و الأدعیة و الخطب و الأشعار المشتملة علی الحکم و المواعظ،و مدائح الأنبیاء و الأوصیاء و أعاظم الدین و مصائبهم و رثائهم.

نعم قد یتوهم صدق الغناء علی رفع الصوت و ترجیعه بالأمور المذکورة لجملة من التعاریف المتقدمة،فیکون مشمولا لإطلاقات حرمة الغناء.

و لکنک قد عرفت:أنها تعاریف لفظیة،و إنما سیقت لمجرد شرح الاسم فقط و إن کان بلفظ أعم،فلا تکون مطردة،و لا منعکسة.و علیه فلا وجه لما ذکره بعضهم من عد المرائی من المستثنیات من حرمة الغناء،فإنها خارجة عنه موضوعا کما عرفت.و إذا ثبت کونها غناء فلا دلیل علی الاستثناء الذی یدعیه هؤلاء القائلون،و سیأتی بیانه إنشاء اللّه.

الثانی:أن یکون الصوت بنفسه مصداقا للغناء و قول الزور و اللهو المحرم،کألحان أهل الفسوق و الکبائر التی لا تصلح إلا للرقص و الطرب،سواء تحققت بکلمات باطلة أم تحققت بکلمات مشتملة علی المعانی الراقیة،کالقرآن و نهج البلاغة و الأدعیة.نعم و هی فی هذه الأمور المعظمة و ما أشبهها أبغض،لکونها هتکا للدین،بل قد ینجر الی الکفر و الزندقة،و من هنا نهی فی بعض الأحادیث[1]عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و الکبائر،أو بألحان أهل الکتابین کما فی بعض الأحادیث (1).و یریدون بأهل الکتابین الیهود و النصاری.

و من هذا القبیل ما ذکر فی غناء جواری الأنصار[2]:(جئناکم جئناکم حیونا حیونا

ص:312


1- 1) راجع ج 1 المستدرک ص 295.

نحیکم)،و منه أیضا الرجز[1]الذی یشبه ما جاء فی غناء جواری الأنصار،فان التکلم العادی بذلک لیس من المحرمات فی الشریعة المقدسة،بل هو مطلوب،لکونه مصداقا للتحیة و الإکرام،و إنما یکون حراما إذا تکیف فی الخارج بکیفیة لهویة،و ظهر فی صورة السماع و الغناء.

و علی الجملة لا ریب أن للصوت تأثیرا فی النفوس،فان کان إیجاده للحزن و البکاء و ذکر الجنة و النار بقراءة القرآن و نحوه لم یکن غناء لیحکم بحرمته،بل یکون القاری مأجورا عند اللّه،و إن کان ذلک للرقص و التلهی کان غناء و سماعا،و مشمولا للروایات المتواترة الدالة علی حرمة الغناء و اللّه العالم.

مستثنیات حرمة الغناء
منها رثاء الحسین علیه السلام

منها رثاء الحسین و سائر المعصومین«ع»،قال المحقق الأردبیلی(ره)فی محکی شرح الإرشاد:(و قد استثنی مراثی الحسین«ع»أیضا،و دلیله أیضا غیر واضح)ثم قرب الجواز،لعدم الدلیل علی حرمة الغناء مطلقا،ثم قال:(و یؤیده أن البکاء و التفجع علیه علیه السلام مطلوب و مرغوب،و فیه ثواب عظیم،و الغناء معین علی ذلک،و أنه متعارف دائما فی بلاد المسلمین فی زمن المشایخ الی زماننا هذا من غیر نکیر،و هو یدل علی الجواز غالبا).ثم أید رأیه هذا بما دل علی جواز النیاحة فی الشریعة المقدسة،و بأن التحریم إنما هو للطرب،و لیس فی المراثی طرب،بل لیس فیها إلا الحزن.و استدل بعض متأخر المتأخرین علی ذلک بعمومات أدلة البکاء و الرثاء.

أقول:قد عرفت آنفا ان المراثی خارجة عن الغناء موضوعا،فلا وجه لذکرها من مستثنیات حرمة الغناء،و لو سلمنا إطلاق الغناء علیها لشملتها إطلاقات حرمة الغناء المتقدمة و لا دلیل علی الاستثناء،و وجود السیرة علی الرثاء و إقامة التعزیة علی المعصومین«ع»

ص:313

فی بلاد المسلمین و إن کان مسلما،و لکنها لا تدل علی جواز الغناء فیها الذی ثبت تحریمه بالآیات و الروایات.

و أما ما دل علی ثواب البکاء علی الحسین«ع»،أو ما دل علی جواز النوح علی المیت، فلا یعارض بما دل علی حرمة الغناء،و سیأتی.

و أما ما ذکره الأردبیلی من أنه معین علی البکاء فهو ممنوع،فان الغناء علی ما حققنا من مفهومه لا یجتمع مع البکاء و التفجع.و أما ما ذکره من أن التحریم إنما هو للطرب، و لیس فی المراثی طرب فهو یدل علی خروج الغناء عن المراثی موضوعا،لا حکما.

جواز الحداء لسوق الإبل

و منها الحداء لسوق الإبل،و قد اشتهر فیه استثناء الغناء،و لکنه ممنوع،لعدم الدلیل علیه،نعم ذکر فی جملة من النبویات المنقولة من طرق العامة (1)جواز ذلک.و لکنها ضعیفة السند،و غیر منجبرة بشیء.و لو سلمنا انجبارها فلا دلالة فیها علی کون الحداء الذی جوزه النبی(صلی الله علیه و آله)غناء،فإن القضیة التی ذکرت فیها لم یعلم وقوعها بأی کیفیة،نعم الظاهر خروجه من مفهوم الغناء موضوعا،و قد مال الیه صاحب الجواهر،قال:(بل ربما ادعی أن الحداء قسیم للغناء بشهادة العرف،و حینئذ یکون خارجا عن الموضوع، لا عن الحکم،فلا بأس به).

جواز الغناء فی زف العرائس

و منها غناء المغنیة فی زف العرائس،و قد استثناه جمع کثیر من أعاظم الأصحاب،و هو کذلک،للروایات الدالة علی الجواز،کصحیحة أبی بصیر(قال:قال أبو عبد اللّه«ع» أجر المغنیة التی تزف العرائس لیس به بأس،و لیست بالتی یدخل علیها الرجال).و غیرها من الروایات المتقدمة فی البحث عن بیع الجاریة المغنیة (2).

ثم إن هذا فیما لم یطرأ علیه عنوان آخر محرم،و إلا کان حراما،کالتکلم بالأباطیل و الکذب و ضرب الأوتار و دخول الرجال علیهن و غیرها من الأمور المحرمة،و قد صرح

ص:314


1- 1) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 227 و ص 228.
2- 2) ص 169 و ص 170.

بذلک المحقق الأردبیلی فی محکی شرح الإرشاد.

لا یقال:إن الظاهر من قوله«ع»:(و لیست بالتی یدخل علیها الرجال)أن الغناء إنما یکون حراما للمحرمات الخارجیة،کما ذهب الیه المحدث القاسانی(ره).و لذا جوزه الامام«ع»فی زفاف العرائس مع عدم اقترانه بها.

فإنه یقال:الظاهر من هذه الروایة،و من قوله«ع»فی روایة أخری:(لا بأس بمن تدعی إلی العرائس أن الغناء علی قسمین،أحدهما:ما یختلط فیه الرجال و النساء.و الثانی:

ما یختص بالنساء.أما الأول فهو حرام مطلقا.و أما الثانی فهو أیضا حرام إلا فی زف العرائس.

الغناء فی قراءة القرآن

و منها الغناء فی قراءة القرآن،و قد اشتهر بین المتأخرین نسبة استثناء الغناء فی قراءة القرآن الی صاحب الکفایة،قال فی تجارة الکفایة:(إن غیر واحد من الاخبار[1]یدل علی جواز الغناء فی القرآن،بل استحبابه،بناء علی دلالة الروایات علی استحباب حسن الصوت و التحزین و الترجیع به،و الظاهر أن شیئا منها لا یوجد بدون الغناء علی ما استفید من کلام أهل اللغة و غیرهم،علی ما فصلنا فی بعض رسائلنا).

و فیه أن مفاد هذه الروایات خارج عن الغناء موضوعا کما عرفت،فلا دلالة فی شیء منها علی جواز الغناء فی القرآن،بل بعضها صریح فی النهی عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و الکبائر الذین یرجعون القرآن ترجیع الغناء،و قد ذکرنا هذه الروایة فی البحث عن موضوع الغناء.

و علی الجملة أن قراءة القرآن بالصوت الحسن و إن کان مطلوبا للشارع،و لکنها محدودة

ص:315

بما إذا لم تنجر الی الغناء،و إلا کانت محرمة.نعم لا شبهة فی صدق الغناء علیه علی تعاریف بعض أهل اللغة،و لکنک قد عرفت:أنها لیست بجامعة،و لا مانعة.

و لقد أجاد صاحب الکفایة فی الوجه الأول من الوجهین الذین جمع بهما بین الأخبار، قال:(أحدهما:تخصیص تلک الأخبار الواردة المانعة بما عدا القرآن،و حمل ما یدل علی ذم التغنی بالقرآن علی قراءة تکون علی سبیل اللهو کما یصنعه الفساق).ثم أیده بروایة عبد اللّه بن سنان الناهیة عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق.

و قد یقال:بجواز الغناء فی القرآن،بدعوی أن أخبار الغناء معارضة بالأخبار الکثیرة المتواترة الدالة علی فضل قراءة القرآن و الأدعیة و الأذکار بالعموم من وجه،و بعد التساقط فی مورد الاجتماع یرجع الی أصالة الإباحة،و قد ذکر المصنف هذا الوجه فی خلال کلام صاحب الکفایة،و لکن لیس فی تجارة الکفایة من ذلک عین و لا أثر،و لا لما نسبه الیه المصنف من جملة من العبارات،و لا تأیید مذهبه بروایة علی بن جعفر.

و قد أشکل علیه المصنف بما حاصله:أن أدلة الأحکام غیر الإلزامیة لا نقاوم أدلة الأحکام الإلزامیة.و الوجه فی ذلک أن الفعل إنما یتصف بالحکم غیر الإلزامی إذا خلا فی طبعه عما یقتضی الوجوب أو الحرمة.

و مثاله أن إجابة دعوة المؤمن-و قضاء حاجته و إدخال السرور فی قلبه و کشف کربته- من الأمور المستحبة فی نفسها،و لکن إذا استلزم امتثالها ترک واجب کالصوم و الصلاة، أو إیجاد حرام کالزنا و اللواط-تخرج عن الاستحباب،و تکون محرمة.

و فیه أن ما ذکرناه لا یرتبط بکلام المستدل،و تحقیق ذلک أن ملاحظة اجتماع الأحکام الإلزامیة مع الاحکام غیر الإلزامیة یتصور علی وجوه:

الأول:أن تقع المزاحمة بین الطائفتین فی مرحلة الامتثال من دون أن ترتبط إحداهما بالأخری فی مقام الجعل و الإنشاء،کالمزاحمة الواقعة بین الإتیان بالواجب و بین الإتیان بالأمور المستحبة،فإنه لا شبهة حینئذ فی تقدیم أدلة الأحکام الإلزامیة علی غیرها و کونها معجزة عنه،کما ذکره المصنف.

الثانی:أن یکون الموضوع فیهما واحدا من دون أن یکون بینهما تماس فی مرحلتی الثبوت و الإثبات،و لا یقع بینهما تزاحم و تعارض أصلا.کما إذا حکم الشارع بجواز شیء فی نفسه و طبعه،و بحرمته بلحاظ ما یطرأ علیه من العناوین الثانویة.

و مثال ذلک إباحة الشارع أکل لحم الضأن مثلا فی حد نفسه،و حکمه بحرمته إذا کان الحیوان جلالا أو موطوءا،فإنه لا تنافی بین الحکمین ثبوتا و إثباتا،إذ لا إطلاق لدلیل

ص:316

الحکم غیر الإلزامی حتی بالنسبة إلی العناوین الثانویة لتقع المعارضة بینهما.

الثالث:أن یتحد موضوع الحکمین أیضا،و لکن یقید الحکم غیر الإلزامی بعدم المخالفة للحکم الإلزامی.

مثاله أن قضاء حاجة المؤمن و إجابة دعوته و إدخال السرور فی قلبه و تفریج غمه من الأمور المرغوبة فی الشریعة المقدسة.إلا أنها مقیدة بعدم ترک الواجب،و فعل الحرام، لما ورد[1]من أنه لا طاعة للمخلوق فی معصیة الخالق.فتقدیم دلیل الوجوب أو الحرمة فی هذه الصورة علی أدلة الأمور المذکورة و إن کان مسلما إلا انه لدلیل خارجی،لا لما ذکره المصنف.فهذه الصور الثلاثة کلها غریبة عن کلام المستدل.

نعم لو صحت روایة عبد اللّه بن سنان المتقدمة-التی دلت علی استحباب قراءة القرآن بألحان العرب،و حرمة قراءته بألحان أهل الفسوق و الکبائر-لوجب تقیید ما دل علی استحباب قراءة القرآن بصوت حسن بغیر الغناء.و لکن الروایة ضعیفة السند.

الرابع:أن یکون الحکم متحدا فی مقام الثبوت.و لکن الأدلة متعارضة فی إثبات کونه إلزامیا أو غیر إلزامی.

الخامس:ان یکون الحکمان الإلزامی و غیر الإلزامی فی مرحلة جعلهما مطلقین.بحیث لا یرتبط أحدهما بالآخر،و لکنهما قد یتصادقان علی مورد فی الخارج،و یتعارضان بالعموم من وجه،لا بنحو التباین،و فی هاتین الصورتین لا وجه لدعوی أن أدلة الأحکام غیر الإلزامیة لا تقاوم أدلة الأحکام الإلزامیة،بل لا بد من ملاحظة المرجحات فی تقدیم إحداهما علی الأخری،و قد حقق ذلک فی محله.

و ما ذکره المستدل إنما هو من قبیل الصورة الرابعة،و علیه فلا وجه للحکم بالتساقط، و الرجوع الی أصالة الإباحة،بل یقدم ما دل علی حرمة الغناء،لکونه مخالفا للعامة، و یترک ما دل علی الجواز لموافقته لهم.و نتیجة ذلک أنه لا دلیل علی استثناء الغناء فی القرآن و الأدعیة و الأذکار.

ص:317

تنبیه

هل یجوز تعلم الغناء و تعلیمه أولا؟قد یکون ذلک بالتغنی و استماعه و قد یکون بالتوصیف و السؤال عن قواعده.أما الأول فلا شبهة فی حرمته،فان التغنی و الاستماع الیه کلاهما حرام.و أما الثانی فقد ذکر تحریمه فی بعض الروایات[1]و لکنها ضعیفة السند.فمقتضی الأصل هو الجواز،إلا أن یطرأ علیه عنوان محرم.

حرمة الغیبة

اشارة

قوله الرابعة عشرة الغیبة حرام بالأدلة الأربعة. أقول:لا إشکال فی حرمة الغیبة فی الجملة،للآیة و الروایات المتظافرة المتواترة من طرق الشیعة (1)و من طرق العامة (2)و أکثر هذه الروایات و إن کان ضعیف السند،و لکن فی المعتبر منها غنی و کفایة.علی أنها متواترة معنی.بل حرمتها من ضروریات الدین،و مما قام علیه إجماع المسلمین.و قد حکم العقل بحرمتها أیضا،لکونها ظلما للمغتاب بالفتح و هتکا له.

و یکفی فی إثبات الحرمة قوله تعالی (3): (وَ لا یَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضاً أَ یُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَنْ یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ) .فإنه تعالی بعد نهیه عن الغیبة صریحا أراد بیان کونها من الکبائر الموبقة و الجرائم المهلکة.فشبه المغتاب بالکسر بآکل المیتة،إما لأنه یأکل

ص:318


1- 1) راجع کا بهامش ج 2 مرآة العقول ص 341-350.و ج 3 الوافی باب الغیبة ص 163.و ج 2 ئل باب 152 تحریم اغتیاب المؤمن من العشرة ص 237. و ج 2 المستدرک باب 132 تحریم اغتیاب المؤمن من العشرة ص 105-107.و ج 15 البحار العشرة ص 177.
2- 2) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 245-247.و ج 3 إحیاء العلوم للغزالی ص 124.
3- 3) سورة الحجرات آیة:12.

الجیف فی الآخرة کما فی بعض الروایات[1]أو لتشبیهه بالسباع و الکلاب،أو لکون حرمة الغیبة کحرمة أکل المیتة،بل أعظم،کما فی روایة العسکری«ع»[2].

و قد شبه عرض المؤمن باللحم،فإنه ینتقص بالهتک،کما ینتقص اللحم بالأکل.و شبه الاغتیاب بالأکل،لحصول الالتذاذ بهما،و وصف المؤمن بأنه أخ،فإن المؤمنین إخوة، و من طبیعة الإخوة أن یکون بینهم تحابب و توادد.

و شبه المغتاب(بالفتح)بالمیت،لعدم حضوره فی أکثر حالات الاغتیاب.و صدر سبحانه و تعالی الجملة بالاستفهام الإنکاری إشعارا للفاعل بأن هذا العمل یقبح أن یصدر من أحد،إذ کما لا یجب أحد أن یأکل لحم أخیه المیت،لاشمئزاز طبعه عنه،و شدة رأفته به.و کذلک لا بد و أن یشمئز عقله عن الغیبة،لکونها هتکا لعرض أخیه المؤمن.

و قد استدل علی حرمة الغیبة بآیات أخر،و لکن لا دلالة فی شیء منها علی ذلک إلا بالقرائن الخارجیة،فلا یکون الاستدلال بها بالآیات،بل بتلک الأمور الخارجیة.

منها قوله تعالی (1): (لا یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) .و فیه أو لا أنه لیس فی الآیة ما یدل علی أن الغیبة من الجهر بالسوء إلا بالقرائن الخارجیة.و ثانیا:لا یستفاد منها التحریم،فان عدم المحبوبیة أعم منه و من الکراهة المصطلحة.

و منها قوله تعالی (2): (وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) .و فیه أن الهمزة و اللمزة بمعنی کثیر الطعن علی غیره بغیر حق،سواء کان فی الغیاب أم فی الحضور.و سواء کان باللسان أم بغیره،و سیأتی أن الغیبة عبارة عن إظهار ما ستره اللّه.و بین العنوانین عموم من وجه.

و منها قوله تعالی (3): (إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَنْ تَشِیعَ الْفاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ) .و فیه أن الآیة تدل علی أن حب شیوع الفاحشة من المحرمات.و قد أوعد اللّه

ص:319


1- 1) سورة النساء آیة:147.
2- 2) سورة الهمزة آیة:1.
3- 3) سورة النور آیة:18.

علیه النار،و الغیبة إخبار عن الفاحشة و العیب المستور،و هما متباینان.إلا أن یکون الإخبار عن العیوب المستورة بنفسه من الفواحش،کما هو مقتضی الروایات الدالة علی حرمة الغیبة.

بل فی بعض الروایات[1]عن أبی عبد اللّه«ع»(قال:من قال فی مؤمن ما رأته عیناه و سمعته أذناه فهو من الذین قال اللّه عز و جل: إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ ،الآیة).

و یرد علیه أولا:أنه خروج عن الاستدلال بالآیة إلی الروایة.

و ثانیا:أنه أخص من المدعی،فان الآیة لا یندرج فیها حینئذ إلا نشر الغیبة لا مطلقا و یضاف الی ذلک أن الروایة ضعیفة السند.

الغیبة من الذنوب الکبیرة

قوله ثم ظاهر هذه الاخبار کون الغیبة من الکبائر. أقول:وجه الظهور ما ذکره فی مبحث الکبائر من رسالته فی العدالة،و أن عد المعصیة کبیرة یثبت بأمور:قال:(الثانی النص المعتبر علی أنها مما أوجب اللّه علیها النار سواء أوعد فی الکتاب،أو أخبر النبی ص أو الإمام بأنه مما یوجب النار،لدلالة الصحاح المرویة فی الکافی و غیرها علی أنها مما أوجب اللّه علیه النار).و من الواضح أن الغیبة کذلک.

و توضیح المسألة علی نحو الإجمال أنه اشتهر بین الفقهاء التفصیل بین الکبیرة و الصغیرة حکما و موضوعا.و اختلف کلماتهم فی تفسیرهما علی نحو لا یمکن الجمع بینها.

فقیل:إن الکبیرة کل ذنب توعد اللّه علیه بالعذاب فی کتابه العزیز،بل ربما نسب هذا القول الی المشهور.و قیل:إنها کل ذنب رتب الشارع المقدس علیه حدا، أو صرح فیه بالوعید.و قیل:إنها کل معصیة تؤذن بقلة اعتناء فاعلها بالدین.و قیل:

کلما علمت حرمته بدلیل قاطع فهو من الکبائر.و قیل:کلما توعد علیه توعدا شدیدا فی الکتاب أو السنة فهو من الکبائر.الی غیر ذلک من التفاسیر.ثم قالوا:إن الکبائر تنافی العدالة دون الصغائر.

و التحقیق ما ذکرناه فی مبحث العدالة من کتاب الصلاة من أن المعاصی کلها کبیرة

ص:320

و إن کان بعضها أکبر من بعضها الآخر،کالشرک باللّه العظیم،فإنه من أعظم المعاصی و قتل النفوس محترمة،فإنه أعظم من بقیة الذنوب.و هکذا و إنما أطلقت الکبیرة علیها بالتشکیک علی اختلاف مراتبها شدة و ضعفها.و علیه فلا وجه للنزاع فی أن الغیبة من الکبائر أم من الصغائر.

و قد اختار هذا الرأی جمع من الأصحاب،بل ظاهر ابن إدریس فی کتاب الشهادة من السرائر دعوی الإجماع علیه،فإنه بعد ما نقل کلام الشیخ فی المبسوط الظاهر فی أن الذنوب علی قسمین:صغائر و کبائر قال:(و هذا القول لم یذهب الیه(ره)إلا فی هذا الکتاب أعنی المبسوط،و لا ذهب إلیه أحد من الأصحاب،لأنه لا صغائر عندنا فی المعاصی إلا بالإضافة إلی غیرها).

و من هنا یتضح أن الاخبار الواردة فی عد الکبائر إنما هی مسوقة لبیان عظمها بین سائر الذنوب:لحصر المعاصی الکبیرة بالأمور المذکورة،و علیه یحمل قوله تعالی (1): (إِنْ تَجْتَنِبُوا کَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ) .

و مع الإغضاء عما ذکرناه فلا ثمرة للنزاع فی الفرق بین الکبائر و الصغائر،فإن الذنوب کلها تضر بالعدالة و تنافیها،فإن العدالة هی الاعتدال فی الدین،و الاستقامة علی طریقة سید المرسلین،و ارتکاب أیة معصیة و إن کانت صغیرة یوجب الانحراف فی الدین، و الخروج عن الصراط المستقیم،لکون ذلک هتکا للمولی و جرأة علیه،کما أن الخروج عن الطرق التکوینیة انحراف عنها.

و لو سلمنا أن الصغائر لا تنافی العدالة إلا ان الغیبة من الکبائر،فإن الکبیرة لیست لها حقیقة شرعیة لنبحث فیها،بل المراد بها هو معناها اللغوی،و هو الذنب العظیم عند الشارع و یعرف عظمه تارة بالنص علی کونه من الکبائر کالشرک و الزناء و قتل النفس المحترمة و غیرها من الکبائر المنصوصة.و اخری بالتوعد علیه فی الکتاب أو السنة المعتبرة.

و ثالثة بترتیب آثار الکبیرة علیه.و رابعة بالقیاس الی ما ثبت کونه من الکبائر الموبقة، کقوله تعالی (2): (وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .و قد ثبت فی السنة المعتبرة التوعید علی الغیبة،فتکون من الکبائر.

و تدل علی ذلک أیضا الروایات الدالة علی أن الخیانة من الکبائر،و بدیهی أن الغیبة من أعظم الخیانات.و یدل علی کون الغیبة من الخیانة قول النبی ص[1]فی وصیته

ص:321


1- 1) سورة النساء آیة:35
2- 2) سورة البقرة آیة:187.

لأبی ذر:(یا أبا ذر المجالس بالأمانة و إفشاء سر أخیک خیانة فاجتنب ذلک و اجتنب مجلس العشرة).و لکنها ضعیفة السند.

و قد یستدل أیضا علی کون الغیبة کبیرة بالروایات[1]الدالة علی أن الغیبة أشد من الزناء،و هو من الکبائر،فالغیبة أولی منه بأن تکون کبیرة.

و لکن یرد علیه أولا:أن ما ورد بهذا المضمون کله ضعیف السند.و ثانیا:أن هذه الروایات عللت ذلک بأن الغیبة لا نغفر حتی یغفرها صاحبها بخلاف بعض أقسام الزناء.

و یؤید ما ذکرناه أن کل واحد من الذنوب فیه جهة من المبغوضیة لا توجد فی غیره من المعاصی،فلا عجب فی کونه أشد من غیره فی هذه الخصوصیة و إن کان غیره أشد منه من جهات شتی،و اختلافها فی ذلک کاختلاف المعاصی فی الآثار.

نعم هذه الأخبار صالحة لتأیید ذلک.و یصلح لتأییده أیضا ما روی مرسلا[2]:أن أربی الربا عرض المؤمن،فیکون تناول عرضه بالغیبة کبیرة.فإنه ثبت فی الشریعة المقدسة أن الربا من الذنوب الکبیرة.بل فی جملة من الروایات (1)أنه أشد من ثلاثین أو سبعین زنیة کلها بذات محرم.

ص:322


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 1 تحریم الربا ص 597.
حرمة الغیبة مشروطة بالإیمان

قوله ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغیبة بالمؤمن. أقول:المراد من المؤمن هنا من آمن باللّه و برسوله و بالمعاد و بالأئمة الاثنی عشر علیهم السلام:أولهم علی بن أبی طالب«ع»،و آخرهم القائم الحجة المنتظر عجل اللّه فرجه،و جعلنا من أعوانه و أنصاره و من أنکر واحدا منهم جازت غیبته لوجوه:

الوجه الأول:أنه ثبت فی الروایات (1)و الأدعیة و الزیارات جواز لعن المخالفین، و وجوب البراءة منهم،و إکثار السب علیهم،و اتهامهم،و الوقیعة فیهم:أی غیبتهم، لأنهم من أهل البدع و الریب[1].

بل لا شبهة فی کفرهم،لأن إنکار الولایة و الأئمة حتی الواحد منهم،و الاعتقاد بخلافة غیرهم،و بالعقائد الخرافیة،کالجبر و نحوه یوجب الکفر و الزندقة.و تدل علیه الأخبار (2)المتواترة الظاهرة فی کفر منکر الولایة،و کفر المعتقد بالعقائد المذکورة،و ما یشبهها من الضلالات.

و یدل علیه أیضا قوله«ع»فی الزیارة الجامعة:(و من جحدکم کافر).و قوله«ع» فیها أیضا:(و من وحده قبل عنکم).فإنه ینتج بعکس النقیض أن من لم یقبل عنکم لم یوحده،بل هو مشرک باللّه العظیم.

و فی بعض الأحادیث (3)الواردة فی عدم وجوب قضاء الصلاة علی المستبصر(إن الحال

ص:323


1- 1) راجع ج 1 الوافی باب البدع و الرأی ص 56.و کا بهامش ج 1 مرآة العقول باب البدع ص 38 و ج 2 ئل باب 39 وجوب البراءة من أهل البدع من الأمر بالمعروف ص 510.
2- 2) راجع ج 3 ئل باب 6 جملة ما یثبت به الکفر و الارتداد من أبواب المرتد ص 457
3- 3) راجع ج 1 ئل باب 31 عدم وجوب قضاء المخالف عبادته إذا استبصر من مقدمات العبادة ص 20.

التی کنت علیها أعظم من ترک ما ترک من الصلاة).

و فی جملة من الروایات (1)الناصب لنا أهل البیت شر من الیهود و النصاری،و أهون من الکلب،و أنه تعالی لم یخلق خلقا أنجس من الکلب،و أن الناصب لنا أهل البیت لأنجس منه.و من البدیهی أن جواز غیبتهم أهون من الأمور المذکورة.بل قد عرفت جواز الوقیعة فی أهل البدع و الضلال،و الوقیعة هی الغیبة.نعم قد ثبت حکم الإسلام علی بعضهم فی بعض الاحکام فقط تسهیلا للأمر،و حقنا للدماء.

الوجه الثانی:أن المخالفین بأجمعهم متجاهرون بالفسق.لبطلان عملهم رأسا،کما فی الروایات المتظافرة (2).بل التزموا بما هو أعظم من الفسق،کما عرفته،و سیجیء أن المتجاهر بالفسق تجوز غیبته.

الوجه الثالث:أن المستفاد من الآیة و الروایات هو تحریم غیبة الأخ المؤمن،و من البدیهی أنه لا أخوة و لا عصمة بیننا و بین المخالفین.و هذا هو المراد أیضا من مطلقات أخبار الغیبة،لا من جهة حمل المطلق علی المقید،لعدم التنافی بینهما،بل لأجل مناسبة الحکم و الموضوع.

علی ان الظاهر من الاخبار الواردة فی تفسیر الغیبة هو اختصاص حرمتها بالمؤمن فقط و سیأتی،فتکون هذه الروایات مقیدة للمطلقات.فافهم.و قد حکی عن المحقق الأردبیلی تحریم غیبة المخالفین.و لکنه لم یأت بشیء ترکن الیه النفس.

الوجه الرابع:قیام السیرة المستمرة بین عوام الشیعة و علمائهم علی غیبة المخالفین،بل سبهم و لعنهم فی جمیع الأعصار و الأمصار.بل فی الجواهر أن جواز ذلک من الضروریات

حرمة غیبة الصبی الممیز

قوله ثم الظاهر دخول الصبی الممیز المتأثر بالغیبة لو سمعها. أقول:لم یشترط فی حرمة الغیبة کون المغتاب بالفتح مکلفا،بل المستفاد من الروایات المتقدمة و غیرها ان المناط فی حرمة الغیبة صدق المؤمن علی المغتاب بالفتح،کما أن الظاهر من معنی الغیبة هی کشف

ص:324


1- 1) راجع ج 1 ئل باب 11 کراهة الاعتسال بغسالة الحمام من أبواب الماء المضاف ص،3.
2- 2) راجع ج 1 ئل باب 29 بطلان العبادة بدون ولایة الأئمة من مقدمات العبادات ص 19.

أمر قد ستره اللّه،و سیأتی و من الضروری ان الصبی الممیز ممن یصدق علیه عنوان المؤمن إذا أقر بما یعتبر فی الایمان،بل قد یکون أکمل إیمانا من أکثر البالغین.

و أیضا لا شبهة ان اللّه قد ستر عیوب الناس حتی الصبیان الممیزین،فذکرهم بالمساوی الموجودة فیهم کشف لما ستره اللّه علیهم.نعم لا بأس بذکر الأمور التی هی من مقتضیات الصباوة بحیث لا تعد من العیوب و المساوی،کاللعب بالجواز و الکعاب و الکرة و نحوها.

أما الصبیان أو المجانین غیر الممیزین فلا شبهة فی جواز اغتیابهم،لأن الأمور الصادرة منهم لا تعد عیبا حتی یکون ذکرها کشفا لما ستره اللّه علیهم.

موضوع الغیبة

قوله بقی الکلام فی أمور،الأول:الغیبة اسم مصدر لاغتاب. أقول:وقع الخلاف فی تحدید مفهوم الغیبة،و بیان حقیقتها،فالمروی من الخاصة[1]و العامة[2]، و المعروف بیننا و بین السنة (1)و بعض أهل اللغة ان الغیبة ذکر الإنسان بما یکرهه و هو حق.بل حکی المصنف عن بعض من قارب عصره ان الإجماع و الأخبار متطابقان علی ان حقیقة الغیبة ذکر غیره بما یکرهه لو سمعه.

و لکن هذا التعریف لا یرجع الی معنی محصل،فان المراد من الموصول فیه إن کان هو الذکر-بحیث یکون حاصله ان الغیبة ذکر غیره بذکر لا یرضی به لو سمعه-دخل فی التعریف ما لیس بغیبة قطعا إذا کره المقول فیه کذکره بفعل بعض المباحات.بل و بعض المستحبات من المواظبة علی الأدعیة و الأذکار،و القیام علی النوافل و العبادات،و الالتزام

ص:325


1- 1) راجع ج 3 إحیاء العلوم للغزالی ص 116.

بالزیارات و إعطاء الصدقات،و علیه فالتعریف المذکور تعریف بالأعم.کما ان تعریف المصباح بقوله(اغتابه إذا ذکره بما یکرهه من العیوب و هو حق و الاسم الغیبة)یکون تعریفا بالأخص.

و إن کان المراد من الموصول فی التعریف الأوصاف المذمومة و الأفعال القبیحة الصادرة من المقول فیه-و یقربه التعریف المتقدم من المصباح-خرج عن الغیبة ما لا یشک أحد کونه منها،کذکر الغیر بالأمور المحرمة التی ارتکبها عن رغبة و شهوة من غیر ان یشمئز منها،و من ذکرها،و علیه فلا یکون التعریف المذکور جامعا للأفراد.

و التحقیق ان یقال:إنه لم یرد نص صحیح فی تحدید مفهوم الغیبة،و لا تعریف من أهل اللغة کی یکون جامعا للأفراد و مانعا للأغیار،و علی هذا فلا بد من أخذ المتیقن من مفهوم الغیبة و ترتیب الحکم علیه:و هو ان تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه،و اما فی المقدار الزائد فیرجع الی الأصول العملیة.و قد ذکر هذا فی جملة من الروایات[1]و هی و إن کانت ضعیفة السند.و لکن مفهومها موافق للذوق السلیم و الفهم العرفی.

و یؤیده ما فی لسان العرب و غیره من ان الغیبة(ان تتکلم خلف إنسان مستور بسوء أو بما یغمه لو سمعه).بل ینطبق علیه جمیع تعاریف الفقهاء و أهل اللغة،لکونه المقدار المتیقن من مفهوم الغیبة،کما عرفت.

و قد أشیر إلیه فی بعض أحادیث العامة[2].

و توضیح ما ذکرناه من المعنی ان ذکر الناس.و التعرض لأوصافهم لا یخلو عن صور ثلاث،الصورة الأولی:ذکر الإنسان بما یوجب تعظیمه و ترفیعه بین الناس،کأن

ص:326

یقول:إن فلانا عالم زاهد مجتهد،یصلی النوافل،و یعطی الفقراء،و یهتم بأمور المسلمین و حوائجهم،و نحو ذلک من المدائح،و لا نظن ان یعد احد هذه الصورة من الغیبة.

نعم فی لسان العرب و تاج العروس عن ابن الأعرابی(غاب إذا ذکر إنسانا بخیر أو شر) إلا انه أجنبی عن المقام،فإنه غیر الاغتیاب.و الوجه فی خروج هذه الصورة عن مفهوم الغیبة ان هذه المذکورات لیست من السوء،سواء کره ذکرها المقول فیه أم لا.

الصورة الثانیة:ان یذکر إنسانا بشیء من صفاته العادیة المتعارفة التی لا توصف بالمدح أو الذم.و لا ریب فی عدم اندراج هذه الصورة أیضا تحت الغیبة،فإن الأمور العادیة لیست مما سترها اللّه علی المقول فیه،و ذکرها لا یوجب نقصه و افتضاحه سواء أ کان کارها لها أم لا.

الصورة الثالثة:ان یذکر إنسانا بالأوصاف الذمیمة و الأفعال القبیحة الموجودة فیه التی قد سترها اللّه علیه،و موضوع الغیبة هو هذه الصورة.و ما ذکرناه من الصور المذکورة یشمل ما لو نفی عن المقول فیه بعض الأوصاف.

تنبیهات موضوع الغیبة

و لا بد من التنبیه علی أمور:

الأول:انه لا یفرق فی صدق الغیبة بین ان یکون المقول نقصا فی دین المقول فیه

أو بدنه،أو نسبه،.

أو أخلاقه،أو فعله،أو قوله،أو عشیرته،أو ثوبه،أو داره أو دابته،أو خادمه،أو تعیشه أو فی أی شأن من شؤونه.

إلا ان الظاهر من روایة داود بن سرحان المتقدمة فی الحاشیة أن الغیبة ذکر الإنسان بما یکون نقصا فی دینه فقط.

و فیه أولا:ان الروایة ضعیفة السند،و قد عرفت.و ثانیا:ان روایة ابن سیابة المتقدمة فی البحث عن معنی الغیبة صرحت بأن الغیبة قولک فی أخیک ما ستره اللّه علیه، و هذا الإطلاق یشمل ما إذا کان المقول نقصا دینیا و غیر دینی،و توهم حمل المطلق علی المقید هنا فاسد،لعدم التنافی بینهما،علی ان روایة ابن سیابة فصلت بین ذکر الأمور المستورة و الأمور الظاهرة،و صرحت بخروج الثانیة عن حدود الغیبة،و من الواضح ان مقتضی التفصیل القاطع للشرکة هو عموم مفهوم الغیبة بذکر مطلق العیوب غیر الأمور الظاهرة.

و لکنک عرفت:ان هذه الروایة أیضا ضعیفة السند.

ص:327

و قد یتوهم اعتبار قصد الانتقاص فی موضوع الغیبة.و لکنه توهم فاسد،إذ لا دلیل علیه،فان صدق عنوان العیب علی المقول أمر عرفی لا یرتبط بالقصد،و لا یقاس هذا بالتعظیم و الهتک المتقومین بالقصد.

الثانی:أن ذکر أحد بالأوصاف العادیة أو نفیها عنه إنما لا یکون غیبة إذا لم یستلزم

نقصا فی الجهات المزبورة فی التنبیه السابق،

و إلا فلا شبهة فی کونه غیبة،کنفی العدالة عنه،فإنه یدل بالملازمة علی ارتکابه المعاصی.و کقوله:إن فلانا یقرء علم النحو منذ ثلاثین سنة،فإنه یدل بالملازمة علی بلادة المقول فیه و بلاهته،أو مماطلته و بطالته.

الثالث: ان یکون المقول أمرا قد ستره اللّه علی المقول فیه

ان مقتضی ما ذکرناه من التعریف(بل المتیقن من مفهوم الغیبة،و مورد الروایات الدالة علی حرمة الغیبة)ان یکون المقول أمرا قد ستره اللّه علی المقول فیه و اما ذکر الأمور الظاهرة فلیس من الغیبة.و قد ذکره الأصحاب فی مستثنیاتها،و سیأتی ذکره.و تدل علی ذلک روایة ابن سیابة المتقدمة،و روایة الأزرق[1]،إلا أنهما ضعیفتا السند.

نعم فی إحیاء العلوم (1)عن عائشة إنها(دخلت علینا امرأة فلما ولت أومأت بیدی انها قصیرة فقال«ص»:اغتبتها)فان الظاهر منها تحقق الغیبة بحکایة الأمور الظاهرة.و لکنها ضعیف السند.

نعم قد یکون ذکر الأمور الظاهرة حراما،لانطباق شیء من العناوین المحرمة علیه، کالتعییر و الهجاء و السب و الهتک و الظلم و نحوها،و علیه فیکون حراما من غیر جهة الغیبة

الرابع:قد تحقق الغیبة بالتعریض و الإشارة قولا،

کأن یقول:الحمد للّه الذی لم یبتلینی بالسلطان و بالمیل الی الحکام،أو فعلا،کأن یحکی مشیة الغائب،بل هو أشد من الذکر باللسان،لکونه أعظم فی الانتقاص،أو کتابة،فقد قیل:ان القلم احد اللسانین فان المناط فی تحقق الغیبة کشف ما ستره اللّه،و لا خصوصیة للکاشف.

الخامس:لا بد فی صدق الغیبة من وجود احد یقصد بالتفهیم.

فقد عرفت:أنها إظهار ما ستره اللّه،و هو لا یتحقق بمجرد حدیث النفس،فإنه لا یزید علی الصور العلمیة

ص:328


1- 1) راجع ج 3 باب الغیبة ص 127.

و الملکات النفسانیة.و من هنا علم عدم تحقق الغیبة أیضا بذکر الإنسان بعیوب یعلمها المخاطب نعم قد یحرم ذلک من جهة أخری.

السادس:لا تتحقق الغیبة إلا بکون المغتاب(بالفتح)معلوما بالتفصیل عند المخاطبین،

فلو کان مرددا عندهم بین أشخاص،سواء کانوا محصورین أم غیر محصورین فذکره بالنقائص و المعایب المستورة لا یکون غیبة،فإنه لیس کشفا لما ستره اللّه.

و مثاله أن تقول:رأیت الیوم رجلا بخیلا،أو جاءنی الیوم شارب الخمر أو تارک الحج أو عاق الوالدین،أو من یعیش معیشة ضنکا،فکل ذلک لا یکون من الغیبة فی شیء،و لا یکون حراما إلا إذا انطبق علیه عنوان محرم آخر،و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون کل واحد من المحصورین کارها لذلک الذکر أم لا،لما عرفت من أن کراهة المقول فیه لیست شرطا فی تحقق الغیبة.

نعم لو عرفنا الغیبة بأنها ذکر الغیر بما یکرهه کما علیه المشهور کان ذلک من الغیبة، و شملته أدلة تحریمها.و لکنک قد عرفت ضعفة فیما سبق.

و لا یخفی أن ما ذکرناه من اشتراط العلم التفصیلی بالمغتاب فی مفهوم الغیبة إنما هو بالإضافة الی الإفراد.أما إذا کان المذکور نقصا للعنوان الکلی-و کشفا لما ستره اللّه علی النوع بحیث یکون المصداق المردد إنما ذکر من باب تطبیق الکلی علی الفرد-کان ذلک غیبة لجمیع أفراد الکلبی الموجودة فی الخارج،لانحلاله إلیها کسائر القضایا الحقیقة،بل بالنسبة الی الأفراد الماضیة أیضا،بل ربما یکون ذلک بالنسبة الی بعض الأفراد بهتانا.و مثاله أن یذکر إنسانا بالسوء المستور لکونه عجمیا أو عربیا أو بقالا،أو لکونه من أهل البلد الفلانی أو من الصنف الفلانی و هکذا.

السابع: فی موارد الشک فی تحقق الغیبة و عدمه

قد عرفت أنه لیس فی المسألة ما یعتمد علیه فی تعریف الغیبة و تفسیرها إلا بعض الروایات الضعیفة.و علیه فکلما شککنا فی تحقق موضوع الغیبة للشک فی اعتبار قید فی المفهوم أو شرط فی تحققه یرجع الی أصالة العدم.

الثامن:أن مقتضی ما ذکره المشهور من أن الغیبة ذکرک أخاک بما یکرهه لو سمعه عدم

صدق الغیبة مع حضور المغتاب(بالفتح)،

بل هذا هو الظاهر من الآیة،فإن تشبیه المغتاب بالمیتة إنما هو لعدم شعوره بما قیل فیه.و أما علی ما ذکرناه فی تعریف الغیبة فلا فرق فی انطباقها بین حضور المغتاب و عدمه ما دام یصدق علی القول أنه إظهار لما ستره اللّه.

قوله نظیر ما إذا نفی عنه الاجتهاد. أقول:نفی الاجتهاد لیس نقصا فی حق أحد کما ذکره المصنف،و لکنه فیما إذا لم یستلزم تعریضا بغباوة المنفی عنه،لطول اشتغاله

ص:329

بالتحصیل،و إلا فلا شبهة فی کونه غیبة.

قوله لعموم ما دل علی حرمة إیذاء المؤمن. أقول:قد دلت الروایات المتواترة (1)علی حرمة إیذاء المؤمن و إهانته و سبه،و علی حرمة التنابز بالألقاب،و علی حرمة تعییر المؤمن بصدور معصیة منه فضلا عن غیر المعصیة،إلا أنها خارجة عن المقام کما ذکره المصنف، فإن النسبة بین ما نحن فیه و بین المذکورات هی العموم من وجه.و قد أشرنا الی ذلک فی البحث عن حرمة سب المؤمن.

دواعی الغیبة

قوله ثم إن دواعی الغیبة کثیرة. أقول:الأسباب التی ذکروها باعثة للغیبة عشرة.و قد أشیر إلیها فی ما روی عن الصادق«ع»فی مصباح الشریعة (2)و لکن الروایة ضعیفة السند.و تکلم علیها الشهید الثانی رضوان اللّه علیه فی کشف الریبة بما لا مزید علیه و تذکر منها اثنین،فان لهما مأخذا دقیقا لا یلتفت الیه نوع الناس فیقعون فی الغیبة،و من حیث لا یشعرون.

الأول:أن یرفع نفسه بتنقیص غیره،بأن یقول:فلان ضعیف الرأی و رکیک الفهم، و ما ذکره بدیهی البطلان و نحوها من الکلمات المشعرة بالذم.و أکثر من یبتلی به هم المزاولون للبحث و التدریس و التألیف فیما إذا أخذهم الغرور و العجب.

الثانی:أن یغتم لأجل ما یبتلی به أحد فیظهر غمه للناس،و یذکر سبب غمه،و هو شیء ستره اللّه علی أخیه،فیقع فی الغیبة من حیث إنه یقصد الاهتمام بشأنه،فان اغتمامه له رحمة، و لکن ذکره سبب ذلک علیه شر.و قد یتصنع ذلک بعض المنافقین،و یأخذه وسیلة لهتک أعراض الناس و کشف عوراتهم:بأن یظهر الاغتمام و التحسر لابتلاء شخص محترم،ثم یذکر فیه ما یوجب افتضاحه فی الأنظار و انحطاطه عن درجة الاعتبار.فیلقی نفسه فی جهنم و بئس المصیر،و بذلک یکون إداما لکلاب النار،کما فی بعض الأحادیث[1]أستعیذ باللّه من الحقد و الحسد و غیظ القلوب.

ص:330


1- 1) راجع ج 2 ئل أبواب العشرة من الحج.
2- 2) راجع ج 2 المستدرک ص 105.
کفارة الغیبة

قوله الثانی:فی کفارة الغیبة الماحیة لها. أقول:الذی قیل أو یمکن أن یقال فی بیان کفارة الغیبة وجوه،الأول:الاستحلال من المغتاب(بالفتح).الثانی:الاستغفار له فقط.الثالث:کلا الأمرین معا.الرابع:أحدهما علی سبیل التخییر.الخامس:

التفصیل بین وصول الغیبة إلی المغتاب فکفارتها الاستحلال منه،و بین عدم وصولها الیه فکفارتها الاستغفار له فقط.السادس:التفصیل بین إمکان الاستحلال منه،و بین عدمه لموت،أو بعد مکان،أو کون الاعتذار موجبا لإثارة الفتنة و الإهانة،فعلی الأول یجب الاستحلال منه،و علی الثانی یجب الاستغفار له.السابع:عدم وجوب شیء منهما فی جمیع الصور،بل الواجب علی المغتاب(بالکسر)الاستغفار لنفسه و التوبة من ذنبه.

أقول:قبل التکلم فی الوجوه المذکورة لا بد و أن یعلم أنه إذا شک فی وجوب شیء منها فإن أصالة البراءة محکمة للشک فی ثبوت التکلیف المقتضی للامتثال.

و قال المصنف(ره):إن(أصالة بقاء الحق الثابت للمغتاب بالفتح علی المغتاب بالکسر یقتضی عدم الخروج منه إلا بالاستحلال خاصة).

و فیه أنه لم یثبت هنا للمقول فیه حق حتی یستصحب بقاؤه،و یجب الخروج عن عهدته فان من حق المؤمن علی المؤمن أن لا یغتابه،و إذا اغتابه لم یحفظ حقه فلم یبق موضوع للاستصحاب،و لم یثبت بذلک حق آخر للمغتاب حتی یستصحب.و علیه فلا وجه لما أفاده المحقق الایروانی من أن الأصل فی المسألة هو الاحتیاط،و الإتیان بکل ما احتمل دخله فی رفع العقاب من الاستحلال و التوبة و الاستغفار للمغتاب(بالفتح)و غیر ذلک.

إذا عرفت ذلک فنقول:أما الاستحلال من المغتاب مطلقا فذهب الی وجوبه جمع من الأصحاب.قال الشهید فی کشف الریبة:(اعلم أن الواجب علی المغتاب ان یندم و یتوب علی ما فعله لیخرج من حق اللّه سبحانه و تعالی ثم یستحل المغتاب لیحله فیخرج عن مظلمته) و یمکن الاستدلال علی ذلک بأن الغیبة من حقوق الناس،و حقوق الناس لا ترتفع إلا بإسقاط ذی الحق منهم.أما الوجه فی الصغری فلأنها ظلم للمغتاب.و لما ورد فی الاخبار الکثیرة من أن حق المؤمن علی المؤمن أن لا یغتابه.

و أما الوجه فی الکبری فهو جملة من الروایات:منها ما دل علی أن الغیبة لا تغفر حتی یغفرها صاحبها.و قد تقدمت هذه الروایة فی البحث انها صغیرة أو کبیرة.و فیه انها

ص:331

و إن کانت واضحة الدلالة علی المقصود.و لکنها ضعیفة السند.

و منها ما عن الکراجکی (1)عن علی«ع»فی روایة قال فیها:إن للمؤمن علی المؤمن ثلاثین حقا،و ذکرها علی التفصیل(ثم قال«ع»:سمعت رسول اللّه یقول:إن أحدکم لیدع من حقوق أخیه شیئا فیطالبه یوم القیامة فیقضی له و علیه).

و فیه أولا:انها ضعیفة السند.و ثانیا:انها لا تدل علی وجوب الاستحلال،لاشتمالها علی حقوق لا قائل بوجوب أدائها،کعیادة المریض،و حضور المیت،و قضاء الحاجة و غیرها و لم یتوهم احد و لا یتوهم ان من لم یعمل بالحقوق المذکورة فی هذه الروایة و غیرها من الروایات المتواترة الواردة فی حقوق الاخوان وجب علیه ان یستحل من ذی الحق مع التمکن،و من ولیه مع عدمه،نظیر الحقوق المالیة،و إنما هی حقوق اخلاقیة ینبغی للإنسان أن یراعیها،و یواظب علیها،لکونها مقومة لاجتماعهم،بل هی فی الجملة من مقتضیات طبع البشر و العقلاء مع قطع النظر عن الشریعة.و علیه فالمراد من القضاء بموجبها یوم القیامة هو ما ذکره المصنف من(المعاملة معه معاملة مر لم یراع حقوق المؤمن لا العقاب علیها).

و منها النبوی (2):(من کانت لأخیه عنده مظلمة فی عرض أو مال فلیستحلها).

و فیه انه ضعیف السند.و لا بأس بحمله علی الاستحباب للتسامح فی أدلة السنن.نعم قد ثبت بالأدلة القطعیة الضمان فی الحقوق المالیة فقط.

و منها ما عن عائشة (3)انها قالت لامرأة:(قالت لأخری:إنها طویلة الذیل:قد اغتبتها فاستحلها).و فیه أولا:ان الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:ان ما ذکر فیها لیس من الغیبة،لأنه من الأمور الظاهرة.و ثالثا:انه لا حجیة فی قول عائشة.

و منها ما دل (4)علی ان من اغتاب مسلما أو مسلمة لم یقبل اللّه صلاته و لا صیامه أربعین یوما و لیلة إلا ان یغفر له صاحبه.

و فیه أولا:انه ضعیف السند.و ثانیا:انه لا بد من حمل نظائر هذه الأخبار علی

ص:332


1- 1) ضعیفة للحسین بن محمد بن علی السیرافی البغدادی.راجع ج 2 ئل باب 222حقوق المؤمن من العشرة ص 229.
2- 2) راجع ج 2 سنن البیهقی ص 83.و کشف الریبة ص 87.و ج 2 مرآة العقول ص 349.و ج 3 إحیاء العلوم ص 134.
3- 3) راجع ج 3 إحیاء العلوم ص 134.
4- 4) کروایة جامع الأخبار.مرسلة.راجع ج 2 المستدرک ص 106.

الاحکام الأخلاقیة،فإنه لم یتفوه احد ببطلان عبادة المغتاب بالکسر،و وجوب القضاء علیهم بعد التوبة.

و منها ما دل (1)علی انتقال الأعمال الصالحة باغتیاب الناس الی المغتاب بالفتح،فإذا استحل منه رجعت الی صاحبها.و فیه مضافا الی کونه ضعیف السند.انه لا دلالة له علی وجوب الاستحلال.

و قد ذکر المصنف ان«فی الدعاء التاسع و الثلاثین من أدعیة الصحیفة السجادیة و دعاء یوم الاثنین من ملحقاتها ما یدل علی هذا المعنی أیضا».

و فیه ان ما فیهما أجنبی عما نحن فیه،أما الأول فهو مسوق لطلب العفو و الرحمة لذی الحق و المظلمة فی حال عدم التمکن من استحلاله،و لا تعرض فیه لوجوب الاستحلال منه أصلا.و اما الثانی فیدل علی طلب المغفرة له مع عدم التمکن من التحلل و الرد من غیر تعرض لوجوب الاستحلال،کما سیأتی.

و أما الاستغفار للمغتاب بالفتح فذهب الی وجوبه غیر واحد من الأصحاب،و یمکن الاستدلال علیه بأمور:

الأول:ما تقدم من دعاء السجاد«ع»فی طلب العفو و الرحمة لذوی الحقوق و المظلمة، و فیه أن الفعل الصادر من المعصوم«ع»لا یدل علی الوجوب لکونه أعم منه و من المستحب الثانی:روایة(حفص بن عمر[1]عن ابی عبد اللّه«ع»قال:سئل النبی ص ما کفارة الاغتیاب؟قال:تستغفر اللّه لمن اغتبته کلما ذکرته).

و فیه أولا:ان الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:ان مقتضی العمل بها هو وجوب الاستغفار للمغتاب بالفتح کلما ذکره،أو کل وقت ذکر الاغتیاب،و من الواضح ان هذا خلاف الضرورة،و لم یلتزم به فقیه فیما نعلم و ان ذکره بعض أهل الأخلاق،و علیه فتحمل الروایة علی الجهات الأخلاقیة.

نعم بناء علی کون النسخة«کما ذکرته»بدل«کلما ذکرته»علی ما ذکره المجلسی فی مرآة العقول (2)لا یتوجه علیها الإشکال الثانی.

ص:333


1- 1) کروایة جامع الأخبار.مرسلة.راجع ج 2 المستدرک ص 106.
2- 2) ج 2 ص 348.

الثالث:ما فی روایة السکونی[1]من قول الإمام«ع»:(من ظلم أحد ففاته فلیستغفر اللّه له فإنه کفارة له).بدعوی أن الضمیر المنصوب فی کلمة فاته یرجع الی الظلم المفهوم من کلمة ظلم نظیر قوله تعالی: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی) .و من الواضح أن الغیبة من الظلم،فیجب علی من اغتاب أحدا أن یستغفر له.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أن الظاهر منها رجوع الضمیر الی المظلوم کما جزم به المجلسی(ره)فی مرآة العقول (1)،فالمعنی أن من لم یدرک المظلوم لیطلب منه براءة الذمة،و یسترضیه عن المظلمة فلیستغفر اللّه له،و علیه فتدل الروایة علی وجوب طلب المغفرة للمظلوم مع عدم التمکن من الوصول الیه،لا مطلقا.

و مما ذکرناه فی الروایة الثانیة و الثالثة ظهر الجواب عن روایتی الجعفریات[2]أیضا.

و من جمیع ما حققناه فی عدم وجوب الاستحلال و الاستغفار تکلیفا ظهر الجواب عن القول بوجوب کلا الأمرین تعیینا أو تخییرا.و علم أیضا أنه لا وجه لما نقله المامقانی عن بعض مشایخه من العمل بطائفتی الأخبار الدالة إحداهما علی الاستغفار،و الأخری منهما علی الاستحلال،فیلزم المغتاب(بالکسر)الجمع بینهما:بأن یستغفر للمقول فیه،و یستحل منه و أما التفصیل بین وصول الغیبة للمقول فیه و بین عدم وصولها الیه،فیجب الاستحلال منه فی الصورة الاولی،و یجب الاستغفار له فی الصورة الثانیة،فقد ذهب الیه جمع من أعاظم الأصحاب کالشهید الثانی و المجلسی و غیرهما.

قال المحقق الطوسی فی مبحث التوبة من التجرید:(و یجب الاعتذار عن المغتاب مع بلوغه)و تبعه العلامة و القوشجی فی شرحهما علی التجرید.

و یدل علی هذا التفصیل ما عن مصباح الشریعة[3]و هو قوله«ع»:(إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه فان لم تبلغه و لم تلحقه فاستغفر اللّه له).

ص:334


1- 1) ج 2 ص 320.

و فیه أولا:أنه ضعیف السند.و ثانیا:أن الغیبة إن کانت من حقوق الناس وجب الاستحلال من المقول فیه سواء علم بذلک أم لا،و إلا بقی المغتاب(بالکسر)مشغول الذمة إلی الأبد،و یکون شأن الغیبة فی ذلک شأن الحقوق المالیة،و إن لم تکن من حقوق الناس فلا وجه لوجوب الاستحلال من المقول فیه و إن بلغته الغیبة.و علی کل حال فلا وجه للتفصیل المذکور و لا بد إما من حمل الروایة علی الجهات الأخلاقیة،أورد علمها إلی قائلها و مما ذکرناه ظهر ما فی کلامی الشهید فی کشف الریبة و المجلسی فی مرآة العقول (1)من الضعف حیث جعلا التفصیل المذکور وجه الجمع بین الروایات.

و أما التفصیل بین إمکان الاستحلال و عدمه فألحقه الشهید فی کشف الریبة بالتفصیل المتقدم حکما،و قال:(و فی حکم من لم یبلغه من لم یقدر علی الوصول الیه بموت أو غیبة) و یمکن الاستدلال علیه بما فی دعاء السجاد«ع»یوم الاثنین[1]من طلب العفو و المغفرة لذوی الحقوق و المظلمة مع عدم إمکان الخروج عنها.

و فیه أولا:أن الأدعیة الواردة فی أیام الأسبوع لم یثبت کونها من زین العابدین«ع» و لذا عدوها من الملحقات للصحیفة المعروفة.

و ثانیا:أن فعل المعصوم و إن کان حجة کسائر الأمارات المعتبرة،إلا أنه مجمل لا یدل علی الوجوب.کما عرفته آنفا.

و أما الاکتفاء بالتوبة فی محو تبعات الغیبة،کما یکتفی بها فی محو تبعات سائر المعاصی فهو المتعین،لقیام الضرورة،و دلالة الآیات المتظافرة،و الروایات المتواترة من الفریقین علی أن التائب عن ذنبه کمن لا ذنب له.

و فی إحیاء العلوم (2)عن مجاهد:أن کفارة أکلک لحم أخیک أن تثنی علیه و تدعو له بخیر.و فیه أنه و إن کان حکما أخلاقیا،و لکن قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أنه لا دلیل علیه.

و کذلک لا وجه لما حکاه عن عطا من أنه سئل(عن التوبة من الغیبة؟قال:أن تمشی

ص:335


1- 1) ج 2 ص 348.
2- 2) ج 3 ص 134.

الی صاحبک فتقول له:کذبت فیما قلت و ظلمتک و أسأت و إن شئت أخذت بحقک و إن شئت عفوت و هذا هو الأصح).

علی أن ما ذکره فی طریق الاعتذار من أن یقول المغتاب(بالکسر)لصاحبه:(کذبت فیما قلت)کذب محرم،لما عرفت أن الغیبة کشف العیوب المستورة الموجودة فی المقول فیه فلا یکون الاغتیاب من الأکاذیب.

قوله و الانصاف أن الاخبار الواردة فی هذا الباب کلها غیر نقیة السند. أقول:

ربما قیل:إنه لا وجه لمناقشة المصنف فی اعتبار الروایات،فإنه قد اعترف بکونها مستفیضة علی أنه(ره)جعل من أدلة وجوب الاستحلال الدعاء التاسع و الثلاثین من الصحیفة،و من البدیهی أن الصحیفة وصلت إلینا بسند معتبر عن الامام الرابع علیه و علی آبائه ألف تحیة و سلام و فیه أن مراد المصنف من الأخبار التی ناقش فی اعتبارها غیر الدعاء المزبور کما هو الظاهر،و إنما لم یلتزم بوجوب الاستحلال،لأن الدعاء غیر تام الدلالة علیه،و أما الاستفاضة فهی لا تنافی عدم الاعتبار،فان الخبر المستفیض قسم من الاخبار الآحاد کما حقق فی محله،و لذا یجعلونه فی مقابل المتواتر.

مستثنیات الغیبة
جواز غیبة المتجاهر بالفسق

قوله الثالث:فیما استثنی من الغیبة و حکم بجوازها بالمعنی الأعم. أقول:ذکر المصنف تبعا لجامع المقاصد أن المستفاد من الاخبار أن الغیبة المحرمة هی ما کان الغرض منها انتقاص المؤمن و هتک عرضه،أو التفکه به،أو إضحاک الناس منه.

و أما إذا کان الاغتیاب لغرض صحیح راجع الی المغتاب بالکسر أو الفتح،أو الی ثالث بحیث یکون هذا الغرض الصحیح أعظم مصلحة من احترام المؤمن وجب العمل علی طبق أقوی المصلحتین،و هذا کنصح المستشیر و التظلم و نحوهما،و علیه فموارد الاستثناء لا تنحصر بعدد معین،بل المدار فیها وجود مصلحة أهم من مصلحة احترام المؤمن.و علی هذا المنهج جمیع موارد التزاحم فی الواجبات و المحرمات،سواء کانت من حقوق اللّه أم من حقوق الناس.

و أقول:مقتضی الأدلة المتقدمة هو تحریم الغیبة بعنوانها الأولی،سواء انطبقت علیها سائر العناوین المحرمة أم لا.و علیه فلا وجه لجعل حرمة الغیبة تابعة لقصد هتک المؤمن،

ص:336

أو التفکه به،أو انطباق غیرهما من العناوین المحرمة.

نعم ما ذکره المصنف تبعا لجامع المقاصد فی ضابطة ترجیح الأهم علی المهم فهو فی غایة المتانة و الجودة علی ما نقحناه فی علم الأصول،و لا تحصی ثمراته فی علم الفقه،إلا أنه لا وجه لذکر هذه الضابطة فی المقام،فان الکلام هنا متمحض لبیان مستثنیات الغیبة بحسب التعبد بالأدلة الخاصة،فلا مساس له بلحاظ المناط و العمل بطبق أقوی الملاکین،و کیف کان فقد عدوا من مستثنیات الغیبة أمورا:

الأول:المتجاهر بالفسق فإنه یجوز اغتیابه بلا خلاف بین الشیعة و السنة (1)و تدل علی جواز غیبته جملة من الروایات.منها روایة هارون بن جهم[1]عن الصادق(قال:إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غیبة).و فیه أن الروایة و إن کانت ظاهرة الدلالة علی المدعی.و لکنها ضعیفة السند.

و منها النبوی (2):(من ألقی جلباب الحیاء فلا عیبة له.أقول:لیس المراد فی الحدیث من ألقی جلباب الحیاء بینه و بین ربه حتی قام فی صف المتمردین علیه،و إلا لدل الخبر علی جواز اغتیاب کل مذنب،لهتکهم الستر المرخی بینهم و بین ربهم.و لیس المراد به أیضا من لا یبالی بارتکاب الأمور العادیة غیر المناسبة لنوع الناس،کالأکل فی السوق، و الجلوس فی المقاهی،و الاعتیاد علی الأکل فی الضیافة زائدا علی المتعارف.بل المراد منه هو الفاسق المعلن بفسقه غیر المبالی بالتمرد علی الشارع و الجرأة علی مخالفته بالإقدام علی القبائح و المعاصی علنا،فیدل علی المقصود،إلا أنه ضعیف السند.

و منها الروایات[2]الدالة علی أن الفاسق المعلن بفسقه لا غیبة له و لا حرمة،إلا أنها ضعیفة السند.

ص:337


1- 1) راجع ج 3 إحیاء العلوم ص 134.
2- 2) راجع ج 2 المستدرک ص 108.و ج 10 سنن البیهقی ص 210.و ج 3 إحیاء العلوم ص 134.

و منها ما روی عنه«ع»[1]بطرق عدیدة:«من عامل الناس فلم یظلمهم و حدثهم فلم یکذبهم و وعدهم فلم یخلفهم کان ممن حرمت غیبته و کملت مروته و ظهر عدله و وجبت اخوته».فهذه الروایة دلت بمفهومها علی أن من ارتکب الأمور المذکورة فهو جائز الغیبة.و من الواضح أن من ظلم الناس فی معاملاتهم و کذبهم فی حدیثهم کان متجاهرا بالفسق و لکن الروایة بجمیع طرقها ضعیفة السند.علی أن الظاهر من هذه الروایة و من صحیحة ابن أبی یعفور و روایة علقمة الآتیتین اعتبار العدالة فی حرمة الغیبة،و لم یلتزم به أحد و منها صحیحة ابن أبی یعفور (1)فقد دلت علی أن حرمة التفتیش عن أحوال الناس مترتبة علی الستر و العفاف منهم،و مقتضی ذلک أن حرمة التفتیش تنتفی إذا انتفت الأمور المذکورة.

و فیه ان التفتیش غیر الغیبة،و حرمة أحدهما لا تستلزم حرمة الآخر.نعم قد یجتمعان ثم لو سلمنا اتحادهما فان مقتضی ذلک اعتبار العدالة فی حرمة الغیبة.

و منها ما فی روایة علقمة[2]عن الصادق«ع»و هو قوله:«فمن لم تره بعینک یرتکب ذنبا أو لم یشهد علیه بذلک شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و إن کان

ص:338


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 41 ما یعتبر فی الشاهد من أبواب الشهادات ص 417.

فی نفسه مذنبا و من اغتابه بما فیه فهو خارج من ولایة اللّه و داخل فی ولایة الشیطان».

قال المصنف:«دل علی ترتب حرمة الاغتیاب و قبول الشهادة علی کونه من أهل الستر و کونه من أهل العدالة علی طریق اللف و النشر،أو علی اشتراط الکل یکون الرجل غیر مرئی منه المعصیة و لا مشهودا علیه بها،و مقتضی المفهوم جواز الاغتیاب مع عدم الشرط خرج منه غیر المتجاهر».

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أن ظاهرها اعتبار العدالة فی حرمة الغیبة،و هو بدیهی البطلان،کما عرفت آنفا.

و ثالثا:أن ظاهر مفهومها هو أن غیبة الرجل جائزة لمن یشاهد صدور المعصیة منه، أو إذا شهد علیه بها شاهدان،و علیه فتنحصر موارد الأدلة الدالة علی حرمة الغیبة بالعیوب البدنیة و الأخلاقیة،فان المغتاب«بالکسر»لا بد له من العلم حین یغتاب،و إلا کان من البهتان،لا من الغیبة،و هذا خلاف صراحة غیر واحد من الروایات الدالة علی حرمتها، علی أنه لم یلتزم به احد.

نعم لو أرید من الخطاب فی قوله«ع»:«فمن لم تره بعینک»العنوان الکلی و القضیة الحقیقیة-و کان معناه أن صدور المعصیة منه بمرأی من الناس و مسمع منهم بحیث یر الناس و یرونه و هو یوقع المعصیة-لسلم عن هذا الاشکال.

و منها ما فی روایة أبی ابن یعفور[1]المتقدمة من قوله«ع»:(و قال رسول اللّه«ص»:

لا غیبة إلا لمن صلی فی بیته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمین وجبت علی المسلمین غیبته).فإنه یدل علی جواز غیبة من رغب عن الجماعة،بل علی وجوبها.

و فیه أولا:أن أصل الروایة و إن کانت صحیحة کما عرفت إلا أن هذه القطعة قد زیدت علیها فی روایة الشیخ،و هی مشتملة علی ضعف فی السند.و ثانیا:أنها مختصة بمن رغب عن الجماعة،فلا تعم غیره.

و ثالثا:أن ظاهر الروایة هو دوران الغیبة و العدالة إثباتا و نفیا مدار حضور الجماعة، و الرغبة عنها.و یدل علی هذا من الروایة أیضا قوله«ع»بعد القطعة المذکورة:(و سقطت بینهم عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الی إمام المسلمین أنذره و حذره فان حضر جماعة المسلمین و إلا أحرق علیه بیته و من لزم جماعتهم حرمت علیهم غیبته و ثبتت عدالته بینهم).

و حاصل ما تقدم:أنه لم یدل دلیل معتبر علی جواز غیبة المتجاهر بالفسق،لیکون مقیدا

ص:339

للإطلاقات الدالة علی حرمة الغیبة مطلقا.

نعم قد ذکرنا فی معنی الغیبة أنها عبارة عن کشف ما ستره اللّه علی العباد،و أیدناه ببعض الروایات،فیکون المتجاهر بالفسق خارجا عن حدود الغیبة تخصصا و موضوعا،لأنه قد کشف ستره بنفسه قبل أن یکشفه المغتاب(بالکسر).

فروع
الأول:هل یعتبر فی جواز غیبة المتجاهر بالفسق قصد الغرض الصحیح من النهی عن

المنکر و ردعه عن المعاصی،أو لا؟

مقتضی العمل بالإطلاقات المتقدمة الدالة علی نفی الغیبة عن المتجاهر بالفسق هو الثانی،إذ لم تقید بالقصد المذکور،کما أن ذلک أیضا مقتضی ما ذکرنا من خروج ذکر المتجاهر بالفسق عن تعریف الغیبة موضوعا.إذا لم یتقید عنوان الغیبة بأکثر من کونها کشفا لما ستره اللّه.

الثانی:هل تجوز غیبة المتجاهر فی جمیع ما ارتکبه من المعاصی

و إن لم یتجاهر إلا فی بعضها کما عن الحدائق،أولا تجوز إلا فیما تجاهر فیه کما عن الشهید الثانی(ره)؟.

و فصل المصنف بین المعاصی التی هی دون ما تجاهر فیه فی القبح و بین غیرها،فیجوز اغتیابه فی الأول،و لا یجوز اغتیابه فی الثانی.

و مثاله:من تجاهر باللواط جاز اغتیابه بالتعرض للاجنبیات،و من تجاهر بقطع الطرق جاز اغتیابه بالسرقة.و من تجاهر بکونه جلاد سلطان الجور-یقتل الناس،و یمثل بهم، و ینکل-جاز اغتیابه بشرب الخمر و الزناء و اللواط.و من تجاهر بنفس المعصیة جاز اغتیابه فی مقدماتها.و من تجاهر بالمعاصی الکبیرة جاز اغتیابه بالتعرض لجمیع القبائح.و لعل هذا هو المراد من قوله(صلی الله علیه و آله):(من ألقی جلباب الحیاء فلا غیبة له).لا من تجاهر بمعصیة خاصة و عد مستورا فی غیرها،کبعض عمال الظلمة.انتهی ملخص کلامه.

أقول:أما القول بالتفصیل المذکور فلا دلیل علیه بوجه،فان بعض الناس قد یتجاهر بالذنوب الکبیرة،کقتل النفوس المحترمة،و شرب الخمور،و أکل أموال الناس،و مع ذلک یتستر فیما هو دونها،کإیذاء الجار،و النظر إلی الأجنبیات،و ترک العبادات الواجبة.

نعم إذا تجاهر فی معصیة جاز اغتیابه بها و بلوازمها،فإذا تجاهر بشرب الخمر جاز اغتیابه بتهیئة مقدمات الشرب من الشراء و الحمل،أو الصنع،فان الالتزام بالشیء التزام بلوازمه.

و من ألقی جلباب الحیاء فی معصیة ألقی جلبابه فی لوازمه أیضا.و علیه فیدور الأمر بین

ص:340

القول بالجواز مطلقا،و بین القول بعدم الجواز کک.

و قد یقال:إن الظاهر هو جواز اغتیاب المتجاهر مطلقا،کما عن الحدائق.بل استظهره من کلام جملة من الأعلام،بل ذکر المصنف تصریح بعض الأساطین بذلک.

و الوجه فیه هو إطلاق الروایات المتقدمة،فإنه دال علی جواز غیبة المتجاهر بالفسق حتی بذکر المعاصی التی لم یتجاهر فیها.فکأن تجاهره بمعصیة واحدة أسقط احترامه فی نظر الشارع بحیث صار مهدور الحرمة.کما أن المرتد بارتداده یصبح مهدور الدم،و لکنک قد عرفت ضعف الروایات المذکورة،فلا یمکن التمسک بإطلاقها.و علیه فالاقتصار علی المقدار المتیقن یقتضی عدم جواز غیبة المتجاهر بغیر ما تجاهر فیه و فی لوازمه.

الثالث:ظهر من مطاوی ما ذکرناه أنه یعتبر فی صدق التجاهر بالفسق أن یکون

المتجاهر به مما یوجب الفسق و الخروج عن العدالة،

فلو ارتکب أحد الحرام الواقعی لشبهة حکمیة أو موضوعیة،فإنه لیس بمذنب فضلا عن کونه متجاهرا بالفسق.

أما الشبهة الحکمیة فکما إذا شرب العصیر التمری المغلی قبل ذهاب ثلثیه-أو أکل لحم الأرنب،لأنه یعتقد إباحتهما بحسب اجتهاده أو اجتهاد من یقلده-فإنه یکون معذورا فی هذا الارتکاب إذا تمت له أو لمقلده مقدمات الاجتهاد.

و اما الشبهة الموضوعیة فکشرب الخمر باعتقاد انها ماء،و کوطی امرأة أجنبیة باعتقاد انها زوجته،و کقتل المؤمن باعتقاد انه مهدور الدم.فإنه أیضا معذور فی هذه الأعمال إلا إذا کان مقصرا فیها.

الرابع:قد عرفت:ان مقتضی العمل بالمطلقات هو جواز غیبة المتجاهر مطلقا بمجرد

تجاهره بمعصیة من المعاصی،

فیکون التجاهر و لو فی معصیة واحدة علة تامة لجواز الغیبة، و علیه فلا یفرق فی ذلک بین ان یکون معروفا بالتجاهر فی الفسق بین جمیع الناس،و فی جمیع الأمکنة و الأصقاع،أو بین بعضهم و فی بعض البلاد و القری.

و علی هذا فلا وجه لما استشکله المصنف من دعوی(ظهور روایات الرخصة فیمن لا یستنکف عن الاطلاع علی عمله مطلقا،فرب متجاهر فی بلد متستر فی بلاد الغربة أو فی طریق الحج و الزیارة لئلا یقع عن عیون الناس).نعم لو تجاهر بذلک بین جماعة هم أصحاب سره و رفقائه فی العمل فإنه لا یعد متجاهرا بالفسق.

و لکن قد عرفت ضعف المطلقات المذکورة،فلا یمکن الاستناد إلیها فی تجویز هتک عرض المؤمن و افتضاحه بین الناس،و لا تصلح لتقیید المطلقات الدالة علی حرمة الغیبة.

و إذن فلا تجوز غیبة المتجاهر إلا لمن تجاهر بالمعصیة عنده،لا من جهة الروایات،بل لعدم

ص:341

تحقق مفهوم الغیبة مع التجاهر،علی ما ذکرناه فی تفسیرها،و اللّه العالم.

و لقد أجاد المصنف حیث قال:(و بالجملة فحیث کان الأصل فی المؤمن الاحترام علی الإطلاق وجب الاقتصار علی ما تیقن خروجه).

قوله و هذا هو الفارق بین السب و الغیبة. أقول:قد تقدم توضیح ذلک فی البحث عن حرمة سباب المؤمن،و قلنا:إن النسبة بین الغیبة و سب المؤمن هی العموم من وجه.

جواز تظلم المظلوم

قوله الثانی:تظلم المظلوم و إظهار ما فعل به الظالم و إن کان متسترا به. أقول:

ذکر الشیعة و السنة (1)من مستثنیات حرمة الغیبة تظلم المظلوم،و إظهار ما أصابه من الظالم و إن کان مستترا فی ظلمة إیاه.کما إذا ضربه أو شتمه أو أخذ ما له أو هجم علی داره فی مکان لا یراهما أحد أو لا یراهما من یتظلم إلیه،فإنه یجوز للمظلوم أن یتظلم بها الی الناس.

و یدل علیه قوله تعالی (2): (لا یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ) .فقد ثبت من الخارج ان الغیبة من الجهر بالسوء،فإنها إظهار ما ستره اللّه من العیوب الموجبة لهتک المقول فیه و إهانته،کما عرفت.و علیه فتنطبق الآیة علی ما نحن فیه.و تکون النتیجة ان اللّه لا یحب الاغتیاب إلا للمظلوم،فان له ان یتظلم الی الناس بذکر مساوی الظالم و إن لم یرج ارتداعه عن ظلمه إیاه.

و أما الروایة (3)المفسرة للجهر بالسوء بأن المراد به الشتم فمضافا الی ضعف السند فیها أن انطباقه علی ذلک لا ینافی انطباقه علی الغیبة أیضا،لما عرفت مرارا من ان الروایات الواردة فی تفسیر القرآن کلها لبیان المصداق و تنقیح الصغری.

و قید الشهید فی کشف الریبة و جمع ممن تأخر عنه جواز الغیبة هنا بکونها عند من یرجو منه إزالة الظلم عنه اقتصارا فی مخالفة الأصل الثابت بالعقل و النقل علی المتیقن،إذ لا عموم فی الآیة لیتمسک به فی إثبات الإباحة مطلقا.و ما ورد فی تفسیر الآیة من الأخبار

ص:342


1- 1) راجع ج 3 إحیاء العلوم للغزالی ص 133.
2- 2) سورة النساء،آیة:148.
3- 3) راجع ج 2 مجمع البیان ط صیدا ص 131.

لا ینهض للحجیة،مع أن المروی عن الباقر«ع»فی تفسیرها المحکی عن مجمع البیان:أنه لا یحب الشتم فی الانتصار إلا من ظلم.

و فیه أن الآیة و إن لم تشتمل علی شیء من ألفاظ العموم و أدواته إلا ان قوله (إِلاّ مَنْ ظُلِمَ) مطلق فبمقتضی مقدمات الحکمة فیه یفید العموم.و علیه فیجوز للمظلوم اغتیاب الظالم سواء احتمل ارتداعه أم لا.

و یدل علی الحکم المذکور ما فی تفسیر القمی (1)من الرخصة للمظلوم فی معارضة للظالم و کذلک یدل علیه ما ورد[1]فی تطبیق الآیة علی ذکر الضعیف إساءة المضیف إیاه،و لکن جمیع ذلک ضعیف السند.

ثم إن المراد من إساءة الضیافة هو هتک الضعیف و عدم القیام بما یلیق بشأنه و بما تقتضیه وظائف الضیافة و المعاشرة المقررة فی الشریعة المقدسة،و یسمی ذلک فی لغة الفرس بکلمة(پذیرایی)و لیس المراد بها ترک ما یشتهیه الضیف و یتمناه زائدا علی المقدار المتعارف.

و بعبارة أخری حق الضیف علی المضیف أن یکرمه و یحترمه بالحد الأوسط،فلا تجوز له مطالبته بالحد الأعلی،و لا یجوز للمضیف ان یعامل ضیفه بالحد الأدنی،و إلا لجاز لأی منهما ان یذکر ما فعله الآخر معه من المساءة،لأنه نوع من التظلم،فیکون مشمولا للآیة من دون احتیاج إلی الروایة،و حینئذ فیکون تطبیق الآیة علی إساءة الضیافة مؤیدة لما ذکرناه.

و قد یستدل علی الجواز هنا بأمور غیر ناهضة للدلالة علی المقصود:
الأول:قوله تعالی : (وَ الَّذِینَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْیُ هُمْ یَنْتَصِرُونَ) .

(2)

و قوله تعالی:

(وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِکَ ما عَلَیْهِمْ مِنْ سَبِیلٍ) .بدعوی ان ذکر المظلوم ما فعله الظالم معه من السوء نحو من الانتصار فیکون مشمولا للآیتین.

و فیه ان الآیتین أجنبیتان عما نحن فیه،بل هما راجعتان الی جواز الاعتداء و الانتقام

ص:343


1- 1) ص 145.
2- 2) سورة الشوری،آیة:37.

بالمثل،نظیر قوله تعالی (1): (فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ) .

و قد ذهب الی هذا جمع من الأکابر حتی صرح الأردبیلی فی محکی کلامه بجواز اعتداء المضروب بالضرب و المشتوم بالشتم کما عرفته إجمالا فی البحث عن حرمة السب.

و یدل علی ما ذکرناه من حمل الآیتین علی الانتقام بالمثل قوله تعالی بینهما: (وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها) .و دعوی أن الغیبة نحو من الاعتداء،دعوی جزافیة،فإنه لا إطلاق للآیتین بالنسبة إلی المجازات بالمحرمات،و إلا لجاز الاعتداء بالزناء و نحوه،و لم یلتزم به احد، بل هو ضروری البطلان.

الثانی ان فی منع المظلوم من التظلم حرجا عظیما،

بل ربما لا یتحمله إلا الأوحدی من الناس.و فیه ان هذا لا یتم فی جمیع الموارد،فان رب شخص یتحمل ما لا یحصی من المصائب الشدیدة و النوائب العسرة حتی من الأشخاص الدنیة بغیر حرج و مشقة.

علی أن فی شمول دلیل الحرج للمقام إشکالا،بل منعا،لأنه مناف للامتنان فی حق المغتاب(بالفتح)و قد حققنا فی معنی أدلة الحرج و الضرر انها أدلة امتنانیة،و إنما تجری إذا لم یلزم من جریانها خلاف الامتنان فی حق الآخرین.

الثالث:ان فی تشریع الجواز مظنة ردع الظالم،

و هی مصلحة خالیة عن المفسدة، فتوجب الجواز،فإن الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد علی مسلک العدلیة.

و فیه أن الاحکام الشرعیة و إن کانت تابعة للملاکات الواقعیة،إلا ان المصلحة المظنونة لا تقاوم المفسدة المقطوعة،لأن الظن لا یغنی من الحق شیئا.علی انه ربما لا یرتدع الظالم باغتیابه،بل قد لا یرتدع بما هو أعظم من الاغتیاب،علی ان لازم هذا الوجه هو جواز اغتیابه حتی من غیر المظلوم،فان الظن بالارتداع موجود فیهما،بل قد یکون ذکر غیر المظلوم آکد فی ردع الظالم.

الرابع:ما فی روایة قرب الاسناد المتقدمة

فی البحث عن جواز غیبة المتجاهر بالفسق و هو قوله«ع»:(ثلاثة لیس لهم حرمة صاحب هوی مبتدع و الإمام الجائر و الفاسق المعلن بالفسق).بدعوی ان عدم احترام الإمام الجائر إنما هو لجوره،لا لتجاهره بالفسق و إلا لم یکن قسیما للفاسق المعلن بفسقه.

و فیه أولا:انها ضعیفة السند کما عرفته فی المبحث المذکور.و ثانیا:یمکن ان یراد من الامام الجائر من یتقمص بقمیص الخلافة علی غیر استحقاق،و ینتصب منصب الإمامة بغیر رضی من اللّه و رسوله.و یمکن ان یراد به مطلق القاعد الذی یجوز علی الناس

ص:344


1- 1) سورة البقرة،آیة:190.

و بظلمهم،سواء ادعی الخلافة مع ذلک أم لا،و یعبر عنه فی لغة الفرس بلفظ(زمامدار) و علیه فیدخل فیه من یقضی بین الناس،أو یفتیهم علی غیر هدی من اللّه و رسوله.

و علی کل حال،فلا دلالة فی توصیف الإمام بالجور علی علیته لجواز الغیبة،فإن عطف الفاسق علیه من قبیل عطف العام علی الخاص.علی أن الروایة المذکورة مرویة عن النبی بسند آخر[1]و هی تشتمل علی توصیف الامام بالکذاب.علی أن هذا الوجه لو دل علی الجواز لم یختص بخصوص المظلوم.فإن الإمام الجائر یجوز اغتیابه لکل أحد.فعموم العلة:أعنی الجور یقتضی عموم الحکم.

الخامس:قوله«ص»2:(و لصاحب الحق مقال).

و فیه أولا:أنه ضعیف السند و غیر منجبر بشیء.و ثانیا:أنه لا دلیل إلا علی ثبوت المقال لصاحب الحق من حیث الکبری:أی فی موارد ثبوت الحق له بالفعل.و أما إحراز الصغری فلا بد و ان یکون بأدلة أخری.

و معنی الحدیث أن کل من ثبت له حق فعلی علی أحد من الحقوق المالیة و العرضیة و البدنیة و غیرها فله مقال فی المطالبة به،و المرافعة علیه.و علی هذا فلا تشمل المظلوم الذی أضیع حقه،و فات بالظلم علیه،إذ لیس له حق فعلی حتی یکون له مقال فی المطالبة به، و المرافعة علیه.

و یحتمل اختصاصه بالدین فقط،فیکون مساوقا لقوله«ص»[3]:(لی الواجد بالدین

ص:345

یحل عرضه و عقوبته ما لم یکن دینه فیما یکره اللّه عز و جل).

عدم جواز الغیبة فی ترک الاولی

لا یجوز للمظلوم أن یغتاب الظالم بترک الأولی،لعدم الدلیل علیه.و قد یستدل علی الجواز بروایتین،الأولی:روایة حماد بن عثمان[1]الواردة فی استقضاء الدین،فإنها ظاهرة فی جواز الشکوی من الدائن لترکه الأولی،لأن الإمهال فی قضاء الدین من الأمور المستحبة و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أن ظاهر الفرض فی الروایة أن الدائن قد تعدی علی المدیون،فطلب منه أداء الدین مع عدم وجوب الأداء علیه لعسر أو لغیره، و لا شبهة ان ذلک ظلم تباح معه الغیبة.

و یؤید ذلک أن الامام«ع»لم یوجب علی المدیون أداء الدین،و لو کان واجدا،و لم یکن له عذر لکان أداء الدین واجبا علیه بلا ریب،لما ورد(أن لی الواجد یحل عرضه و عقوبته).و قد عرفت ذلک آنفا.

هذا کله علی النسخة المعروفة التی تبعها صاحب الوسائل و المصنف فی النقل.و أما علی نسختی الوافی و المستدرک،و ما ذکره المجلسی (1)عن بعض النسخ القدیمة.من تبدیل الضاد المعجمة فی استقضیت فی الموضعین بالصاد المهملة فالروایة تکاد تکون نصا فیما ذکرناه فان معنی الاستقصاء فی الحق البلوغ إلی الغایة فی المطالبة.و من الواضح ان ذلک قد یؤدی الی الهتک و الظلم،فیکون حراما.و علیه فتکون الروایة من جملة ما دل علی جواز اغتیاب

ص:346


1- 1) راجع ج 3 مرآة العقول باب 25 آداب قضاء الدین ص 389.

الظالم من قبل المظلوم بذکر أوصافه المحرمة کما تقدم.

و من تأمل الروایة،و تشدید الامام«ع»فیها علی المشکو علیه،و استشهاده بالآیة یطمئن بصحة نسخة الوافی.علی ان المحدث القاسانی دقیق فی نقله.و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه.و تسلیم عدم ظهور الروایة فیما یقول فلیس لها لظهور فیما ذکره المصنف أیضا،فتکون مجملة.

الثانیة مرسلة ثعلبة بن میمون[1]:(قال:کان عنده قوم یحدثهم إذ ذکر رجل منهم رجلا فوقع فیه و شکاه فقال له أبو عبد اللّه(علیه السلام):و أنی لک بأخیک کله و أی الرجال المهذب) فان الظاهر من الجواب ان الشکوی إنما کانت من ترک الأولی الذی لا یلیق بالأخ الکامل المهذب.

و فیه أولا:انها ضعیفة السند.و ثانیا:ان جواب الامام(علیه السلام)ظاهر فی ان الصنع الذی شکی منه الرجل أمر یصیب به جمیع الناس،و لیس یوجد من لا یصیب به إلا الأوحدی و علیه فیخرج هذا عن موضوع الغیبة،فقد عرفت انها کشف ما ستره اللّه.

و قد یستدل علی جواز الغیبة بترک الأولی بما ورد فی ذکر الضیف مساوی ضیافة المضیف،فان ذلک لیس إلا من ترک الأولی.

و فیه مضافا الی ضعف السند فیه.انک قد عرفت:ان المراد من إساءة الضیافة فی الروایة هو الهتک و الظلم و الإهانة،و إلا لما صح تطبیق الآیة علی الموارد.و اما ما فی حاشیة الایروانی من دعوی ان ترک الأولی نوع من الظلم فلا وجه له.

نصح المستشیر

قوله و یبقی من موارد الرخصة لمزاحمة الغرض الأهم صور تعرضوا لها،منها نصح المستشیر. أقول:مستثنیات الغیبة التی ذکروها تندرج فی واحد من ثلاثة عناوین:

الأول:ما کان خارجا عنها موضوعا کذلک التجاهر بالفسق إذا خصصنا الجواز

ص:347

بذکر ما تجاهر فیه من المعاصی،و قد تکلمنا علیه مفصلا.و من هذا القبیل ذکر الأشخاص بالأوصاف الظاهرة کالأعمش و الأحول و الأعرج و نحوها،بل من المتعارف فی کل زمان ذکر الناس بالأوصاف الواضحة.کما هو کذلک فی کثیر من الرواة.و الوجه فی ذلک هو ما تقدم فی معنی الغیبة من کونها إظهارا لما ستره اللّه علی المقول فیه،فذکر الأمور الظاهرة لیس منها شیء.

الثانی:أن تکون فی الغیبة مصلحة تزاحم المفسدة فی ترکها،کما إذا توقف حفظ النفس المحترمة أو الأموال الخطیرة أو صیانة العرض عن الخیانة علی الغیبة.و لا بد ح من ملاحظة قواعد التزاحم،و العمل علی طبق أقوی الملاکین.و علیه فتتصف الغیبة بالأحکام الخمسة کما هو واضح.

الثالث:ما کان خارجا عن الغیبة بالتخصص و هو علی قسمین،الأول:أن یکون الخروج بدلیل مختص بالغیبة کتظلم المظلوم،و قد تقدم الکلام فیه.الثانی:أن یکون الخروج بدلیل عام جار فی أبواب الفقه،و لا یختص بالغیبة فقط.کأدلة نفی الحرج و الضرر هذا کله بحسب الکبری.

و أما بحسب الصغری فقد ذکروا لها موارد عدیدة،الأول:نصح المستشیر،قال المصنف:(فإن النصیحة واجبة للمستشیر فان خیانته قد تکون أقوی مفسدة من الوقوع فی المغتاب،و کذلک النصح من غیر استشارة).و علیه فالنسبة بینه و بین الغیبة عموم من وجه،لأن الغیبة قد تتحقق بإظهار العیوب المستورة حیث لا یتحقق النصح،کما هو الکثیر،و قد یتحقق النصح حیث لا تتحقق الغیبة،کما إذا لم یتوقف علی ذکر أحد بالسوء و قد یجتمعان،کما إذا استشاره أحد فی التزوج بامرأة معلومة،و هو یعلم أنها فأجرة و متبرجة أو استشاره فی مصاحبة رجل فی السفر أو التجارة أو المجالسة،و هو یعلم أنه خائن و شیء الخلق و شارب الخمر و مرتکب الفجور و آکل أموال الناس بالظلم و العدوان،أو استشاره فی التلمذة عند شخص و هو یعلم أنه شیء العقیدة أو شیء العمل،فان النصح فی الموارد المذکورة یتوقف علی الغیبة.و علی هذا فان کان دلیل وجوب النصح و دلیل حرمة الغیبة من قبیل المتعارضین تساقطا معا فی مادة الاجتماع.و کان المرجع إلی أصالة الإباحة.و إن کانا من قبیل تزاحم المقتضیین فلا بد فی ترجیح أحدهما علی الآخر من ملاحظة أقوی الملاکین.

و لکن الظاهر أن ما نحن فیه من صغریات باب التزاحم،لا التعارض،فإن الغیبة فی موارد الاجتماع مأخوذة فی مقدمات النصح.و أنه یتولد منها و یتوقف علیها،نظیر توقف

ص:348

إنقاذ الغریق و الإتیان بالصلاة علی التصرف فی ملک غیره.و علیه فیتصف کل من النصح و الغیبة بالأحکام الخمسة حسب اختلاف الموارد بقوة الملاک و ضعفه علی ما تقدمت الإشارة إلیه،فإن تساوی الملاکان کان النصح و الغیبة مباحین،و إن زاد أحدهما علی الآخر کان الزائد متصفا بالوجوب أو الاستحباب بقدر ما فیه من زیادة الملاک،و کان الناقص محرما أو مکروها بمقدار ما فیه من نقصه،هذا کله مع تسلیم وجوب النصح.

و لکن بعد التأمل فی الأخبار الموهمة لوجوب النصح لم نجد فیها ما یدل علی الوجوب، فإنها علی أربع طوائف:

الأولی[1]:ما دل علی حرمة خیانة المؤمن لأخیه.و من المعلوم أنها أجنبیة عما نحن فیه.لعدم الملازمة بین الخیانة و ترک النصیحة حتی مع الاستشارة،لإمکان رده الی غیره سواء کان ذلک الغیر أعرف منه بحال المستشیر أم لا،و من الواضح أنه لو کان النصح واجبا لما جاز رده.

الثانیة:الأخبار[2]الدالة علی وجوب نصح المؤمن ابتداء بدون سبق استشارة

ص:349

و استهداء،و هی و إن کانت کثیرة و معتبرة،و لکنها راجعة إلی الجهات الأخلاقیة، فتحمل علی الاستحباب.

و الوجه فی ذلک هو لزوم العسر الأکید و الحرج الشدید من القول:بوجوب النصح علی وجه الإطلاق،و تقییده بمورد الابتلاء،أو بمن یفی بحقوق الاخوة من غیر أن یضیع منها شیئا و إن کان یرفع العسر و الحرج،و لکن قامت الضرورة علی عدم وجوبه هنا أیضا.

الثالثة:الأخبار الواردة فی خصوص نصح المستشیر،و قد ادعی غیر واحد من المحدثین و غیرهم ظهورها فی الوجوب.منها قوله«ع»[1]:فی روایة ابن عمر عن أبی عبد اللّه«ع» (قال:من استشار أخاه فلم ینصحه محض الرأی سلبه اللّه عز و جل رأیه).و منها قوله«ع»[2]فی روایة النوفلی:(من استشاره أخوه المؤمن فلم یمحضه النصیحة سلبه اللّه لبه).

و فیه أن التوعید فی هاتین الروایتین بالعقوبة الدنیویة من سلب اللب و الرأی لا یدل علی أزید من الاستحباب و رجحان العمل،فان العقل من أعظم النعم الإلهیة،و قد من به سبحانه علی عباده لهدایتهم،فصرفه الی غیر ما خلق لأجله یوجب الزوال و هو من النقمات الشدیدة.کما أن صرفه الی ما خلق لأجله یوجب المزیة و الاستکمال،و لا شبهة فی رجحانه و من هنا ظهر أن قوله«ع»فی روایة عبایة[3]:(و أنصح لمن استشارک).إرشاد الی ما ذکرناه.فیکون محمولا علی الاستحباب.علی أن الروایات المذکورة کلها مجهولة الرواة.و یدل علی عدم الوجوب أیضا ما أشرنا إلیه سابقا من جواز إرجاع المستشیر الی

ص:350

غیره،فإنه ینافی وجوب النصح.

الرابعة:الروایات (1)الآمرة بإعانة المؤمن و کشف کربته و قضاء حاجته،و من الواضح أن نصح المؤمن نوع منها،فیکون واجبا.

و فیه أن جمیع ما ورد فی حقوق الإخوان محمول علی الجهات الأخلاقیة،فیحمل علی الاستحباب،إلا ما ثبت وجوبه فی الشریعة،کرد السلام و نحوه،ضرورة أنه لم یلتزم أحد فیها بالوجوب،بل قامت الضرورة علی عدم الوجوب فتکون الضرورة قرینة علی رفع الید عن ظهورها فی الوجوب.

و حاصل جمیع ما قدمناه:أنه لا دلیل علی وجوب النصح بعنوانه الأولی مطلقا،إلا إذا کان ترکه موجبا لتلف النفس،و هتک العرض،و ذهاب المال الخطیر،فإنه یجب ح لأهمیة الأمور المذکورة.

جواز الاغتیاب فی مواضع الاستیفاء

الثانی:الاستفتاء إذا توقف علی ذکر الظالم بالخصوص بأن یقول للمفتی:ظلمنی فلان فی حقی فکیف طریقی فی الخلاص.

و الذی تقتضیه القاعدة هو الجواز إذا کان السؤال موردا للابتلاء مع عدم تمکن السائل منه بغیر تسمیة المغتاب.و الوجه فی ذلک هو قیام الأدلة النقلیة و العقلیة و ضرورة المذهب علی وجوب تعلم الأحکام الشرعیة التی تکون فی معرض الابتلاء بها،و علیه فإذا توقف ذلک علی ترک واجب أو ارتکاب حرام فان العمل ح یکون علی طبق أقوی الملاکین،و من الواضح أن التعلم أهم من ترک الغیبة.فإن ترک التعلم ینجر الی اضمحلال الدین و أما بحسب الروایات فقد استدل علی الجواز بروایتین.

الاولی:شکایة هند[1]زوجة أبی سفیان الی الرسول(صلی الله علیه و آله)حیث قالت:إن أبا سفیان رجل شحیح لا یعطینی ما یکفینی و ولدی،و لم یزجرها النبی(صلی الله علیه و آله)عن قولها.

ص:351


1- 1) راجع مصادقة الاخوان للصدوق.و ج 3 الوافی الفصل الخامس أبواب ما یجب علی المؤمن من الحقوق فی المعاشرة.و ج 2ئل أبواب العشرة فی السفر و غیره من کتاب الحج.

و فیه أولاد:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أن القضیة شخصیة،فیحتمل أن یکون عدم الردع لفسق أبی سفیان و نفاقه،أو لمعروفیته بالبخل،حتی قیل:إنه کان مضرب المثل فی البخل.

علی أن مورد الروایة من صغریات تظلم المظلوم،فقد عرفت جواز ذکر الظالم فیه،فلا تدل علی جواز الغیبة فی مورد الاستفتاء مطلقا.و من هنا ظهر الجواب عما ورد (1)فی قصة بیعة النساء من أن هند رمت زوجها أبا سفیان إلی أنه رجل ممسک،و لم یردعها الرسول(صلی الله علیه و آله).

الثانیة صحیحة ابن سنان[1]المشتملة علی ذکر الرجل امه بأنها لا تدفع یدل لا مس،و لم یردعه رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)،فتدل علی جواز الغیبة عند الاستفتاء.

و فیه أولا:أنه لم یظهر لنا من الروایة کون المرأة معروفة عند النبی(صلی الله علیه و آله)،و قد عرفت فیما سبق اعتبار العلم بالمغتاب(بالفتح)فی تحقیق الغیبة،و ذکرها بعنوان الأمومة لا یستلزم التعیین،و یتفق نظیر ذلک کثیرا للمراجع و المجتهدین.

و ثانیا:أن المذکور فی الروایة قضیة شخصیة،و خصوصیاتها مجهولة لنا،فیحتمل أن تکون الام متجاهرة بالزناء کما هو الظاهر من قول ابنها:(إن أمی لا تدفع ید لامس إلخ)و علی هذا فلا مجال لاستصحاب عدم التجاهر کما صنعه المصنف،علی أنه لا یترتب علیه أثر إلا علی القول:بالأصل المثبت.

ص:352


1- 1) راجع ج 5 مجمع البیان ط صیدا ص 276.
جواز الاغتیاب لردع المقول فیه

عن المنکر الثالث:قصد ردع المغتاب(بالفتح)عن المنکر الذی یفعله،و قد استدل المصنف علی الجواز هنا بوجهین،الأول:أن الغیبة هنا إحسان فی حقه،فإنها و إن اشتملت علی هتکه و إهانته إلا أنه توجب إنقاذه من المهلکة الأبدیة و العقوبة الأخرویة.الثانی:أن عمومات النهی عن المنکر شاملة لذلک.

أما الوجه الأول ففیه أولا:أن الدلیل أخص من المدعی،إذ ربما لا یرتدع المقول فیه عن فعل المنکر.

و ثانیا:أن الغیبة محرمة علی المغتاب بالکسر،و لا یجوز الإحسان بالأمر المحرم،فإنه إنما یتقبل اللّه من المتقین،و هل یتوهم أحد جواز الإحسان بالمال المغصوب و المسروق إلا إذا کان أعمی البصیرة،کبعض المنحرفین عن الصراط المستقیم،و دعوی رضی المقول فیه حینئذ بالغیبة جزافیة.فإنها مضافا الی بعدها،أن رضاه لا یرفع الحرمة التکلیفیة.

و أما الوجه الثانی:ففیه أنه لا یجوز ردع المنکر بالمنکر لانصراف أدلته عن ذلک، و إلا لجاز ردع الزناة بالزناة بأعراضهم،و ردع السراق بسرقة أموالهم.

نعم قد ثبت جواز دفع المنکر بالمنکر فی موارد خاصة کما یتضح ذلک لمن یلاحظ أبواب النهی عن المنکر و أبواب الحدود،و قد تقدم فی البحث عن حرمة السب جواز شتم المبدع و الوقیعة فیه،و البهت علیه،بل وجوبها،کما یظهر من بعض الروایات المتقدمة فی المبحث المذکور.

هذا کله فیما إذا لم یکن ردع ذلک المنکر مطلوبا من کل أحد و إلا وجب ردعه علی کل من اطلع علیه بأی نحو اتفق،کمن تصدی لقتل النفوس المصونة،و هتک الاعراض المحترمة،و أخذ الأموال الخطیرة،فإن منعه واجب بما هو أعظم من الغیبة فضلا عنها، لأن حفظ الأمور المذکورة أهم فی نظر الشارع من ترک الغیبة و نحوها،و قد تقدمت الإشارة إلی حکم مزاحمة ترک الغیبة بما هو أهم منه.

ص:353

جواز الاغتیاب لحسم مادة الفساد

الرابع:قصد حسم مادة الفساد عن الناس کاغتیاب المبدع فی الدین الذی یخاف إضلاله للناس،و قوده إیاهم الی الطریقة الباطلة.

و یدل علی جواز الغیبة هنا أمور:

الأول:أن مصلحة دفع فتنته عن الناس أولی من الستر علیه،بل ربما یجب هتکه و حطه عن الانظار إذا لم یرتدع بالغیبة وحدها،فإن حرمة الدین فی نظر الشارع أهم من حرمة هذا المبدع فی الدین.

الثانی:قوله«ع»فی صحیحة داود بن سرحان المتقدمة فی البحث عن حرمة سبب المؤمن (إذا رأیتم أهل الریب و البدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم و أکثروا من سبهم و القول فیهم و الواقعیة-الغیبة-و باهتوهم کیلا یطمعوا فی الفساد فی الإسلام).

الثالث:ما تقدم فی البحث عن جواز غیبة المتجاهر بالفسق(ثلاثة لیس لهم حرمة صاحب هوی مبتدع).و لکنه ضعیف السند.

جواز جرح الشهود

الخامس:جرح الشهود،و قد اتفق الأصحاب علی جواز جرحهم و إظهار فسقهم، بل إقامة البینة علی ذلک صونا لأموال الناس و أعراضهم و أنفسهم،إذ لو لا ذلک لبغی الفساق فی الأرض و أظهروا فیها الفساد،فیدعی الواحد منهم علی غیره حقا مالیا أو عرضیا أو بدنیا،أو یدعی زوجیة امرأة أجنبیة لنفسه،أو یدعی نسبا کاذبا لیرث من میت،ثم یقیم الشهود علی دعواه من أشباه الهمج الرعاع فیصیب من أموال الناس و أعراضهم و دمائهم ما یشاء.

و أولی بالجواز من ذلک جرح الرواة الضعفاء،إذ یتوقف علیه حفظ الدین، و صیانة شریعة سید المرسلین،و قد جری علیه دیدن الأصحاب فی جمیع الأمصار و الأعصار و دونوا فی ذلک کتابا مفصلة للتمییز الموثق منهم عن غیره،بل علی هذا سیرة الأئمة«ع».

و یومئ الی هذا قوله تعالی (1): (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا) فان التبین عن حال

ص:354


1- 1) سورة الحجرات،آیة:6.

الفاسق الحامل للخبر لا یخلو عن الجرح غالبا.و من هنا یظهر حکم الشهادة علی الناس -بالقتل و الزناء و السرقة و القذف و شرب الخمر و نحوها-لإقامة الحد علیهم،و قد ثبت جواز الشهادة،بل وجوبها بالکتاب و السنة المعتبرة،کما یظهر ذلک لمن یراجع أبواب الشهادات.

جواز الاغتیاب لدفع الضرر

عن المقول فیه السادس:جواز الاغتیاب لدفع الضرر عن المغتاب(بالفتح)کما إذا أراد احد ان یقتله أو یهتک عرضه،أو یأخذ أمواله،أو یضره بما یرجع إلیه فإن غیبته جائزة لدفع الأمور المذکورة عنه،فان حفظها أهم فی الشریعة المقدسة من ستر ما فیه من العیوب،بل لو اطلع علیها المقول فیه لرضی بالاغتیاب طوعا.

و قد حمل المصنف علی هذا ما ورد فی ذم زرارة بن أعین(ره)من الأحادیث المذکورة فی کتب الرجال،و استوضح ذلک من صحیحة الکشی (1)الصریحة فی تنزیه زرارة و تقدیسه عن المطاعن و المعایب،و ان ذم الامام«ع»إیاه فی بعض الأحیان إنما هو کتعییب الخضر«ع»سفینة المساکین لئلا یأخذ الغاصب من ورائهم.بل تبقی صالحة لأهلها.

و قد أورد الکشی(ره)فی رجاله روایات عدیدة مشتملة علی اعتذار الامام«ع»عن قدح زرارة و ذمه و التبری منه لکی یصان زرارة عن کید الخائنین،و لا تصیبنه فتنة المعاندین و لکن الظاهر انه لا دلالة فی شیء من الروایات المذکورة علی مقصود المصنف من جواز الغیبة لدفع الضرر عن المقول فیه،فإنک قد عرفت:ان الغیبة إظهار ما ستره اللّه علیه و من الواضح انه لم یکن فی زرارة عیب دینی لیکون ذکره غیبة،و إنما ذمة الإمام«ع» و تبرأ منه لحفظ دمه و شؤونه عن الأخطار،کما عرفت التصریح بذلک فیما أشرنا إلیه من الأخبار المتقدمة.

بل الظاهر منها ان قدح الامام«ع»فیه یدل علی رفعة شأنه و عظم مقامه و جلالة مرتبته بحیث لا یرضی الامام«ع»ان تمسه أیدی الظالمین.

ص:355


1- 1) راجع رجال الکشی ص 91.و قد ذکرها المصنف فی المتن.
جواز الاغتیاب بذکر الأوصاف الظاهرة

السابع:أن یکون الإنسان معروفا بوصف یدل علی عیب،کالأعمش و الأعرج و الأشتر و الأحول و الأصم،فإنه لا محذور فی ذکر المقول فیه بالأوصاف المذکورة،و ما یجری مجراها.

فقد کثر بین الفقهاء و علماء الرجال ذکر الرواة و حملة الأحادیث بالأوصاف الظاهرة المعربة عن العیوب،بل و علیه السیرة القطعیة من حدیث الأیام و قدیمها،بل و کان هذا مرسوما بین الأئمة«ع»أیضا،کما یومئ الیه بعض الأحادیث[1]الواردة فی توثیق بعض الرواة.

و فی بعض الأحادیث(جاءت زینب العطارة الحولاء الی نساء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)و قد تقدم ذلک فی البحث عن حرمة الغش.

و الوجه فی جواز ذلک ان ذکر الأوصاف الظاهرة خارج عن تعریف الغیبة کما تقدم، لأنها لیست مما ستره اللّه،إلا إذا کان ذکرها بقصد التنقیص و التعبیر،فإنه حرام من غیر جهة الاغتیاب.

الثامن:قال الشهید فی کشف الریبة:(قیل:إذا علم اثنان من رجل معصیة شاهداها فأجری أحدهما ذکرها فی غیبة ذلک العاصی جاز،لأنه لا یؤثر عند السامع شیئا).ثم قال:

الأولی تنزیه النفس عن ذلک بغیر غرض صحیح خصوصا مع احتمال النسیان و لکن الظاهر خروج هذا القسم عن الغیبة موضوعا.و هو واضح.

التاسع:رد من ادعی نسبا لیس له،و قد استدل علیه المصنف(بأن مصلحة حفظ الأنساب أولی من مراعاة حرمة المغتاب).

أقول:أهمیة حفظ الأنساب ثابتة فیما إذا ترتب علی النسب أثر شرعی من التوارث، و النظر الی النساء و نحوهما،و اما إذا لم یترتب علیه أثر شرعی،أو ترتب الأثر علی دعوی النسب:کأن ادعاه لصیانة نفسه أو عرضه أو ماله من إصابة الظالم إیاها فلا تجوز الغیبة برد هذه الدعوی.و مع الشک فی مورد یرجع الی المطلقات الدالة علی حرمة الغیبة

ص:356

علی وجه الإطلاق،لأن الشبهة و إن کانت مصداقیة،إلا أن التخصیص من جهة المزاحمة فلا بد من الاقتصار علی المتیقن.

العاشر:القدح فی مقالة باطلة،فإن وجوب حفظ الحق و إضاعة الباطل أهم من احترام المقول فیه.و أما ما وقع من بعض المتجاهرین بالنسبة إلی الأعاظم أحیاء کانوا أم أمواتا من الجهر بالسوء کالطلاق الغبی و البله و نحوهما من الألفاظ القبیحة فلا شبهة فی حرمته، لکونه من الفحش و الشتم،کما تقدمت الإشارة إلیه فی البحث عن حرمة السب.

قوله ثم إنهم ذکروا موارد للاستثناء لا حاجة الی ذکرها. أقول:منها تفضیل بعض العلماء علی بعضهم و إن استلزم انتقاص الآخر،و لا ریب فی جوازه،لتوقف الغرض الأهم علیه،و قد جری علی هذا دیدن الأصحاب فی جمیع الازمان و الأقطار،خصوصا فی تعیین مراجع التقلید.و لکن هذه مرحلة کم زلت فیها الاقدام،عصمنا اللّه من الزلل.

حرمة استماع الغیبة

قال المصنف(ره):(یحرم استماع الغیبة بلا خلاف فقد ورد أن السامع للغیبة أحد المغتابین،و الأخبار فی حرمته کثیرة،إلا أن ما یدل علی کونه من الکبائر کالروایة المذکورة و نحوها ضعیفة السند).

أقول:الظاهر أنه لا خلاف بین الشیعة و السنة (1)فی حرمة استماع الغیبة،و لکنا لم نجد دلیلا صحیحا یدل علیها بحیث یکون استماع الغیبة من المحرمات فضلا عن کونه من الکبائر،إذ ما ورد فی حرمته من طرق الخاصة[1]و من طرق العامة[2]کله لا یخلو عن الإرسال و ضعف السند،فلا یکون قابلا للاستناد إلیه.

ص:357


1- 1) راجع ج 3 إحیاء العلوم ص 126.

نعم قال فی کتاب الاختصاص (1):(نظر أمیر المؤمنین«ع»الی رجل یغتاب رجلا عند الحسن ابنه«ع»فقال:یا بنی نزه سمعک عن مثل هذا فإنه نظر الی أخبث ما فی وعائه فأفرغه فی وعائک).فإنه ربما یدعی کونه روایة مسندة،قد أرسلها صاحب الاختصاص للاختصار،فیدل ذلک علی وثاقة رواتها المحذوفین عنده،إذ فرق بین کلمة روی عنه کذا و بین کلمة قال فلان کذا،فان القول الأول ظاهر فی کون المنقول مرسلا دون الثانی، و علیه فهی روایة معتبرة تدل علی حرمة استماع الغیبة.

و لکن یرد علیه أن ثبوت الاعتبار عنده لا یستلزم ثبوته عندنا،إذ لعله یعتمد علی ما لا نعتمده.

و قد یستدل علی الحرمة مطلقا بحدیث المناهی[1]،فإن رسول اللّه ص(نهی عن الغیبة و الاستماع إلیها و نهی عن التمیمة و الاستماع إلیها).

و فیه أولا:أنه ضعیف السند کما عرفته مرارا.و ثانیا:أن صدره و إن کان ظاهرا فی الحرمة مطلقا،إلا أن ذیله قرینة علی حرمة الاستماع مع عدم الرد فقط،و هو قوله(صلی الله علیه و آله) (و من تطوع علی أخیه فی غیبة سمعها فیه فی مجلس فردها عنه رد اللّه عنه ألف باب من الشر فی الدنیا و الآخرة فإن و هو لم یردها و هو قادر علی ردها کان علیه کوزر من اغتابه سبعین مرة).

و حملها علی السماع القهری خلاف الظاهر منها.علی أنه أمر نادر.

و قد یجاب عن حدیث المناهی بعدم ظهوره فی الحرمة التکلیفیة،فإن النهی فیه عن استماع الغیبة نهی تنزیهی،و إرشاد إلی الجهات الأخلاقیة.و یدل علیه من الحدیث ذکر الأمور الأخلاقیة فیه من آثار الغیبة ککونها موجبة لبطلان الوضوء (2)و الصوم.

و فیه أن ما ثبت کونه راجعا الی الاخلاقیات ترفع الید فیه عن ظهور النهی فی الحرمة، و أما غیره فیؤخذ بظهوره لا محالة کما حقق فی محله.

و مع الإغضاء عن جمیع ما ذکرناه و تسلیم صحة الروایات المتقدمة الظاهرة فی حرمة استماع الغیبة مطلقا،فلا بد من تقییدها بالروایات المتکثرة[2]الظاهرة فی جواز استماعها

ص:358


1- 1) راجع ج 2 المستدرک ص 108.
2- 2) راجع مکارم الأخلاق ص 238.

لردها عن المقول فیه،و تخصیصها بصورة السماع القهری قد تقدم الجواب عنه آنفا،و علیه فإنما یحرم استماع الغیبة مع عدم الرد.

و قد یقال:إن النسبة بین الاخبار الواردة فی سماع الغیبة للرد و بین المطلقات المتقدمة الدالة علی حرمة سماع الغیبة هی العموم من وجه.فإن الطائفة الأولی أعم من الثانیة من حیث شمولها للسماع القهری الاتفاقی،و أخص منها من حیث اختصاصها بصورة الاستماع للرد فقط.و الطائفة الثانیة أعم من حیث شمولها للاستماع بغیر داعی الرد،و أخص من حیث اختصاصها بالاستماع الاختیاری،فیقع التعارض بینهما فی مورد الاجتماع،و یؤخذ بالطائفة الأولی لکونها صحیحة السند دون الطائفة الثانیة بناء علی ان صحة السند من المرجحات،کما هو المشهور بین المتأخرین.

و لکن یرد علیه ان مجرد صحة السند لا یکون من المرجحات فی معارضة الدلیلین(و قد حققناه فی علم الأصول)و علیه فتسقطان للمعارضة،و یرجع الی عمومات ما دل علی رجحان إعانة المؤمن،و إلا فیرجع الی البراءة.

علی انک قد عرفت:ان الطائفة الثانیة ضعیفة السند،فلا تعارض الطائفة الأولی

ص:359

فضلا عن وصول النوبة إلی الترجیح.

و علی ما ذکرناه من عدم الدلیل الصحیح علی حرمة استماع الغیبة فإنما یلتزم بالجواز إذا لم یرض السامع بالغیبة،أو لم یکن سکوته إمضاء لها أو تشجیعا للمتکلم علیها،أو تسبیبا للاغتیاب من آخر،و إلا کان حراما من هذه الجهات.

و قد ورد فی أحادیث عدیدة[1]أن الراضی بفعل قوم الداخل معهم.و تقدم فی البحث عن بیع المتنجس حرمة التسبیب لوقوع الجاهل فی الحرام الواقعی.بل تحرم مجالسته للاخبار المتظافرة الدالة علی حرمة المجالسة مع أهل المعاصی(و سنشیر الی مصادرها) کما تحرم مجالسة من یکفر بآیات اللّه للآیة[2].

و قد یستدل علی حرمة الاستماع بأدلة حرمة الغیبة،بدعوی عدم تحققها إلا بالمستمع.

و فیه ان حرمة الغیبة لا تلازم حرمة الاستماع و إن کان بینهما تلازم خارجا،فان التلازم فی الخارج لا یستدعی التلازم فی الحکم.و قد جاز سماع الغیبة للرد جزما.

قوله و الظاهر ان الرد غیر النهی عن الغیبة. أقول:الغرض من رد الغیبة هو نصرة المغتاب و تنزیهه عن تلک الواقعة و إن أفاد النهی عن المنکر أیضا،و أما النهی عن الغیبة فهو من صغریات النهی عن المنکر،فیجری علیه حکمه سواء قلنا بوجوب رد الغیبة أملا.

ثم إن نصره الغائب برد الغیبة عنه تختلف باختلاف المعایب،فان کان العیب راجعا إلی الأمور الدنیویة فنصرته بأن یقول مثلا:العیب لیس إلا ما عابه اللّه من المعاصی.

و إن کان راجعا إلی الأمور الدینیة وجهه بما یخرجه عن کونه معصیة،و إذا لم یقبل التوجیه رده بأن المؤمن قد یبتلی بالذنوب،فإنه لیس بمعصوم،و هکذا ینصره فی ذکر سائر العیوب.

ص:360

حرمة الغیبة لا تلازم حرمة استماعها

قوله ثم إن المحرم سماع الغیبة المحرمة دون ما علم حلیتها. أقول:إذا سلمنا حرمة سماع الغیبة بالإرادة و الاختیار فهل هو حرام مطلقا حتی مع جواز الاغتیاب کما فی الموارد المتقدمة؟أو أنه یحرم مع حرمة الاغتیاب فقط؟أو یفصل بین علم السامع بالحلیة،فیلتزم بالجواز و بین جهله بها،فیلتزم بالحرمة؟ و ظاهر المصنف جواز الاستماع ما لم یعلم السامع حرمة الغیبة،لأنه قول غیر منکر فلا یحرم الإصغاء إلیه للأصل.و أما حدیث السامع أحد المغتابین فمع تسلیم صحته یدل علی أن السامع لغیبة کالمتکلم بتلک الغیبة فی الحرمة و الحلیة،فیکون دلیلا علی الجواز هنا.

إلا أن یقال:إن الحدیث ینزل السامع للغیبة منزلة المتکلم بها.فإذا جاز للسامع التکلم بالغیبة جاز له سماعها،و إلا فلا،و لکنه خلاف الظاهر من الحدیث.

و التحقیق أن جواز الغیبة قد یکون حکما واقعیا،و قد یکون حکما ظاهریا.أما الجواز الواقعی فلا ملازمة فیه بین جواز الغیبة و جواز الاستماع إلیها،لأنه یتصور علی أنحاء ثلاثة:

الأول:أن یکون المقول فیه جائز الغیبة عند الناس من غیر اختصاص بشخص دون شخص:بأن کان متجاهرا فی الفسق و متظاهرا فی مخالفة المولی،فان مثل هذا تجوز غیبته واقعا لکل أحد إما مطلقا أو فی خصوص ما تجاهر فیه من الذنوب علی الخلاف المتقدم.

بل قد عرفت خروجه عن موضوع الغیبة رأسا،و علیه فالاستماع إلیها أولی بالجواز.

و کذلک الکلام فی غیبة المبدع فی الدین،و الإمام الجائر.

الثانی:أن یکون جواز الغیبة الواقعی مختصا بالمغتاب(بالکسر)کالصبی الممیز، و المکره علی اغتیاب الناس،و علیه فلا یجوز استماعها مطلقا لمن یحرم علیه الاغتیاب،لعدم الملازمة بینهما،فان ارتفاع الحکم عن أحدهما لا یستلزم ارتفاعه عن الآخر.

و علی الجملة جواز السماع یدور مدار الرد عن المغتاب(بالفتح)و مع عدمه کان حراما و إن لم یکن المغتاب(بالکسر)مکلفا.فتحصل:أن الاغتیاب جائز و الاستماع حرام، کما أنه قد یکون السماع جائزا و الاستماع حراما.نظیر ما إذا کان المغتاب(بالکسر)ممن لا یمکن رده،و لا الفرار عنه کالسلطان الجائر و نحوه،و لذا سکت الامام المجتبی«ع» عند سب أبیه.

ص:361

و نظیر ذلک ما إذا تصدی أحد لقتل شخص محقون الدم بزعم أنه کافر حربی،و نحن نعلم أنه محقون الدم،فإنه یحرم علینا السکوت و إن جاز له القتل،و نظائره کثیرة فی باب الرشوة و غیره.

الثالث:أن تکون هنا ملازمة عرفیة بین جواز الغیبة و جواز الاستماع إلیها،کتظلم المظلوم،فان مناط جواز الغیبة هنا هو ظهور ظلامته،و اشتهارها بین الناس.و هذا المعنی لا یتحقق فی نظر العرف إلا بسماع التظلم منه،و کذلک الشأن فی سماع الغیبة فی موارد الاستفتاء.

و علی الجملة فجواز الغیبة واقعا لا یلازم جواز السماع ملازمة دائمیة،بل النسبة بینهما عموم من وجه،فقد تحرم الغیبة دون الاستماع،کالمکره علی السماع،و قد یحرم الاستماع دون الغیبة،کما إذا کان القائل معذورا فی ذلک دون السامع،و قد یجتمعان.

و أما الجواز الظاهری للغیبة فهل یلازم جواز استماعها أم لا،کما إذا احتمل السامع، أو صرح القائل بأن المقول فیه مستحق للغیبة.ففی کشف الریبة عند ذکر مستثنیات الغیبة إنه(إذا سمع أحد مغتابا لآخر و هو لا یعلم استحقاق المقول عنه للغیبة،و لا عدمه قیل:لا یجب نهی القائل،لإمکان استحقاق المقول عنه،فیحمل فعل القائل علی الصحة ما لم یعلم فساده،لأن ردعه یستلزم انتهاک حرمته و هو أحد المحرمین).

و أجاب الشهید(ره)عن ذلک فی الکتاب المذکور:بأن(الأولی التنبیه علی ذلک الی أن یتحقق المخرج منه،لعموم الأدلة،و ترک الاستفصال فیها،و هو دلیل إرادة العموم، حذرا من الإغراء بالجهل،و لأن ذلک لو تم لتمشی فیمن یعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة إلی السامع،لاحتمال اطلاع القائل علی ما یوجب تسویغ مقاله،و هو هدم قاعدة النهی عن الغیبة).

و رده المصنف بأن فی ذلک خلطا بین رد الغیبة و النهی عنها،و الذی نفاه القائل بعدم وجوب النهی هو الثانی الذی هو من صغریات النهی عن المنکر دون الأول.

و تحقیق مراد المصنف أن النسبة بین وجوب رد الغیبة و وجوب النهی عنها عموم من وجه،فإنه قد یجب النهی عن الغیبة،لوجوب النهی عن المنکر حیث لا یجب ردها و لو من جهة کون المقول فیه جائز الغیبة عند السامع،مع کونه مستورا عند القائل،و مع ذلک یجب نهی القائل عنها من باب وجوب النهی عن المنکر،و قد یجب رد الغیبة حیث لا مورد النهی عن المنکر،کما إذا کان المغتاب(بالکسر)صبیا،فان فعله لیس بمنکر لکی یجب النهی عنه،إلا أنه یجب علی السامع حینئذ رد الغیبة حفظا لاحترام أخیه المؤمن.و قد

ص:362

یجتمعان،کما إذا علم السامع بکون الاغتیاب حراما،فإنه من حیث کونه من المنکرات فی الشریعة یجب النهی عنه،و من حیث کونه هتکا للمؤمن و کشفا لعورته یجب رده.

و إذا شک فی استحقاق المقول فیه الغیبة و عدم استحقاقه حرم سماعها علی القول بحرمته و وجب ردها علی النحو الذی تقدم من توجیه فعل المقول فیه علی نحو یخرجه عن المعصیة و مع هذا لا یجب نهی القائل،بل لا یجوز،لإمکان استحقاق المقول فیه،فیحمل فعل القائل علی الصحة ما لم یعلم فساده،فان ردعه یستلزم انتهاک حرمته،و هو حرام علی أن إثبات وجوب الردع بأدلة النهی عن المنکر تمسک بالعام فی الشبهات المصداقیة،و هو لا یجوز لا یقال:کما لا یجب نهی القائل عن الغیبة فکذلک لا یجب ردها،لاحتمال کون المقول فیه مستحقا للغیبة عند القائل،و مسلوب الاحترام فی عقیدته،و علیه فإثبات وجوب الرد فی الفرد المشکوک بالأدلة الدالة علی وجوب احترام المؤمن،و وجوب رد غیبته تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة.

فإنه یقال:أولا:أنه لا شبهة فی کون المقول فیه مؤمنا وجدانا،و عدم وجود المجوز لاغتیابه محرز بأصالة العدم،فان المقول فیه کان فی زمان و لم یکن فیه ما یجوز غیبته، و الأصل بقاؤه فی تلک الحالة.

و قد ذکرنا فی محله أن عنوان المخصص إذا کان أمرا وجودیا،فإنه ینفی بالأصل الموضوعی فی مورد الشک،و ینقح به موضوع التمسک بالعام،و لا یلزم منه التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة.و کذلک فی المقام.إذا شککنا أن المقول فیه جائز الغیبة عند القائل أم لا نستصحب عدمه،و ینقح به موضوع التمسک بعموم ما دل علی حرمة استماع الغیبة علی تقدیر ثبوته،و بعموم ما دل علی وجوب رد الغیبة.

و ثانیا:أن المتعارف من أفراد الغیبة هو أن السامع لا یعلم نوعا بحال المقول فیه، و الظاهر من الروایات الدالة علی وجوب رد الغیبة أن ذلک هو المراد،إذ لو حملناها علی خصوص ما إذا علم السامع بکون المقول فیه غیر جائز الغیبة کان ذلک حملا لها علی المورد النادر

حرمة کون الإنسان ذا لسانین

قوله ثم إنه قد یتضاعف عقاب المغتاب إذا کان ممن یمدح المغتاب فی حضوره).

أقول:توضیح کلامه أنه إذا کان للإنسان لسان مدح فی الحضور،و لسان ذم فی الغیاب استحق بذلک عقابین:أحدهما للاغتیاب.و الثانی:لکونه ذا لسانین،و یسمی هذا منافقا

ص:363

أیضا.و إذا مدح المقول فیه فی حضوره بما لیس فیه عوقب بثلاثة عقاب:للاغتیاب، و الکذب،و النفاق.

ثم إن المدح فی الحضور بالأوصاف المباحة و إن کان جائزا فی نفسه،بل ربما یکون مطلوبا للعقلاء،و لکنه إذا کان مسبوقا بالذم أو ملحوقا به کان من الجرائم الموبقة و الکبائر المهلکة.و قد ورد فی الأخبار المستفیضة (1)أن ذا لسانین یجیء یوم القیامة و له لسانان من النار،فان لسانه المدح فی الحضور و إن لم یکن لسانا من النار،إلا أنه إذا تعقبه أو تقدمه لسان الذم فی الغیاب صار کذلک.

ثم إن النسبة بین المغتاب(بالکسر)و بین ذی اللسانین هی العموم من وجه،فإنه قد توجد الغیبة و لا یوجد النفاق،و قد یوجد النفاق حیث لا توجد الغیبة،کأن یمدح المقول فیه حضورا،و یذمه بالسب و البهتان غیابا.و قد یجتمعان کما عرفت.

قوله و قد یطلق الاغتیاب علی البهتان. أقول:قد عرفت:أن الغیبة هی أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه،و أما البهتان فهو علی ما تقدم فی بعض أخبار الغیبة ذکرک أخاک بما لیس فیه،فهما متباینان مفهوما و مصداقا.نعم بناء علی مقالة المشهور من أن الغیبة ذکرک أخاک بما یکرهه فیمکن اجتماعهما فی بعض الموارد.

و أما إطلاق الغیبة علی البهتان فی روایة علقمة[1]فبنحو من المسامحة و التجوز.

علی أنها ضعیفة السند.و أما کون عقاب التهمة أشد من الغیبة فلاشتمالها علی الفریة و الهتک معا

حقوق الاخوان

قوله خاتمة فی بعض ما ورد من حقوق المسلم علی أخیه. أقول:قد ورد فی الروایات (2)المتظافرة،بل المتواترة أن للمسلم علی أخیه حقوقا کثیرة،و فی روایة

ص:364


1- 1) راجع ج 3 الوافی باب مخالفة السر و العلن ص 158.و ج 2 ئل باب 143 تحریم کون الإنسان ذا وجهین من العشرة ص 235.و ج 2 المستدرک ص 102.
2- 2) راجع مصادقة الاخوان للصدوق.و کا بهامش ج 2 مرآة العقول باب حق المؤمن علی أخیه ص 171.و ج 3 الوافی باب حقوق الاخوة ص 101 و باب صفة الأخ ص 103.و ج 2 ئل باب 122 وجوب أداء حق المؤمن من العشرة ص 227. و ج 15 البحار العشرة ص 61.و ج 2 المستدرک ص 92.و غیر ذلک من الأبواب من الکتب المذکورة و غیرها.

الکراجکی أن للمؤمن علی أخیه ثلاثین حقا،و عدها واحدا بعد واحد،ثم قال«ع»:

(سمعت رسول اللّه یقول:و إن أحدکم لیدع من حقوق أخیه شیئا فیطالبه به یوم القیامة فیقضی له و علیه).و قد عرفت فی البحث عن کفارة الغیبة أنها ضعیفة السند.

و فی صحیحة مرازم عن أبی عبد اللّه«ع»قال:(ما عبد اللّه بشیء أفضل من أداء حق المؤمن).

و قد خص المصنف هذه الأخبار(بالأخ العارف بهذه الحقوق المؤدی لها بحسب الیسر.

أما المؤمن المضیع لها فالظاهر عدم تأکد مراعاة هذه الحقوق بالنسبة الیه،و لا یوجب إهمالها مطالبته یوم القیامة لتحقق المقاصة،فإن التهاتر یقع فی الحقوق کما یقع فی الأموال) و استشهد المصنف(ره)علی رأیه هذا بعدة روایات قاصرة الدلالة علیه.منها ما رواه الصدوق و الکلینی عن أبی جعفر«ع»[1]،و قد ذکر فیها إخوان الثقة و إخوان المکاشرة و قال فی إخوان المکاشرة:(و أبذل لهم ما بذلوا لک من طلاقة الوجه و حلاوة اللسان).

و فیه أن هذه الروایة غریبة عما ذکره المصنف،فإنها مسوقة لبیان وظیفة العمل بحقوق الاخوان علی حسب مراتب الإخوة،فإن منهم من هو فی أرقی مراتب الاخوة فی أداء

ص:365

حقوقها حتی یطمئن به الإنسان علی عرضه و ماله،و سائر شؤنه،و هذا الأخ کالکف و الجناح،فیبذل له المال و الید،و یعادی من عاداه،و یصافی من صافاه،و منهم إخوان الانس و الفرح و المجالسة و المفاکهة،فلا یبذل لهم إلا ما یبذلون من طلاقة الوجه و حلاوة اللسان،و لا یطمأن إلیهم فی الأمور المذکورة.

و منها روایة عبید اللّه الحلبی[1]فإنها تدل علی أن للصداقة حدودا،و لا یلیق بها إلا من کانت فیه هذه الحدود.و وجه الاستدلال هو ما ذکره المصنف من أنه(إذا لم تکن الصداقة لم تکن الاخوة،فلا بأس بترک الحقوق المذکورة بالنسبة الیه).

و فیه أن الصداقة المنفیة عمن لا یفی بحدودها غیر الإخوة الثابتة بین المؤمنین بنص الآیة[2] و الروایات،و من الواضح أن الحقوق المذکورة إنما ثبتت للاخوة المحضة،سواء أ کانت معها صداقة أم لا.و علیه فنفی الصداقة فی مورد لا یدل علی نفی الإخوة،لأن الصداقة فوق الاخوة،و نفی المرتبة الشدیدة لا یدل علی نفی المرتبة الضعیفة.علی أن الروایة ضعیفة السند.

و من هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بما فی نهج البلاغة[3]من نفی الصداقة عمن لا یحفظ أخاه فی ثلاث.مع أنه ضعیف للإرسال.

و منها ما دل[4]علی سلب الاخوة عمن لا یلبس المؤمن العاری،کروایتی الوصافی و ابن أبی عمیر.

ص:366

و فیه أن المراد من سلب الاخوة فی الروایتین کنایة عن سلب الاخوة الکاملة.فقد تعارف بین المتجاورین نفی المحمول بلسان نفی الموضوع لأجل المبالغة فی التعبیر،کما یقال یا أشباه الرجال و لا رجال،و لا صلاة لجار المسجد إلا فیه،و لا شک لکثیر الشک،و یقال لمن لا یعمل بعلمه:إنه لیس بعالم،الی غیر ذلک من الإطلاقات الفصیحة.و علیه فلا دلالة فی الروایتین علی نفی الاخوة حقیقة الذی هو مفاد لیست التامة.

و یدل علی ما ذکرناه أنه لو أرید من السلب نفی الاخوة حقیقة لزم القول بعدم وجوب مراعاة سائر الحقوق الثابتة.من رد الاغتیاب و نحوه،و هو بدیهی البطلان.

و یضاف الی جمیع ما ذکرناه أن الروایتین ضعیفتا السند.

و منها روایة یونس بن ظبیان[1]الدالة علی اختبار الاخوان بإتیانهم بالصلاة فی وقتها و برهم فی الاخوان،و إذا لم یحفظوهما فأعزبوا عنهم.

و فیه أن ظاهر الروایة کونها راجعة إلی ترک العشرة و المجالسة مع من لا یهتم بالإتیان بالصلاة فی أوقاتها،و الإحسان للإخوان فی الیسر و العسر،فان المجالسة مؤثرة کتأثیر النار فی الحطب،و لذا نهی[2]عن المجالسة مع العصاة و الفساق.

ص:367

و أمر (1)بمجالسة العلماء و الصلحاء،و علیه فلا دلالة فیها علی نفی الاخوة عمن لا یقوم بحقوق الاخوان.علی أن الروایة مجهولة.

و علی الجملة فلا وجه لتقیید المطلقات الواردة فی حقوق الإخوان بصورة قیامهم بذلک.

و لا یخفی أن المیزان فی تأدیة حقوق الاخوة هو المیزان فی الامتثال فی بقیة الأعمال المستحبة من أن الإتیان بجمیعها تکلیف بما لا یطاق،فتقع المزاحمة بینها فی مرحلة الامتثال،فیؤتی الأهم فالأهم.

حرمة القمار

اشارة

قوله الخامسة عشرة القمار حرام إجماعا. أقول:تحقیق الکلام فی حرمة القمار یقع فی جهتین،الاولی:فی حرمة بیع الآلات المعدة للقمار وضعا و تکلیفا،و قد تقدم الکلام فیه تفصیلا فی النوع الثانی.

الثانیة فی حرمة اللعب بها،و تنقیح الکلام هنا فی ضمن مسائل أربع،المسألة الاولی أنه لا خلاف بین الفقهاء من الشیعة و السنة[1]فی حرمة اللعب بالآلات المعدة للقمار مع المراهنة،و من هذا القبیل الحظ و النصیب المعروف فی هذا الزمان المعبر عنه فی الفارسیة بلفظ(بلیط آزمایش بخت)نظیر اللعب بالأقداح فی زمن الجاهلیة«و سنتعرض لتفسیر اللعب بالأقداح فی الهامش»بل علی حرمة القمار ضرورة مذهب الإسلام.

و تدل علیها الآیات[2]المتظافرة و الروایات المتواترة من طرقنا[3]

ص:368


1- 1) راجع ج 1 الوافی باب مجالسة العلماء ص 42.

و من طرق السنة (1)و قد أشیر الی حکمة التحریم فی قوله تعالی (2): (إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) .فإن أخذ مال الناس بغیر تجارة و مشقة موجب لإلقاء العداوة و البغضاء، و الاشتغال بلعب القمار یصد عن ذکر اللّه،و عن امتثال الأحکام الإلهیة.

حرمة اللعب بالآلات المعدة للقمار

بدون الرهن

المسألة الثانیة:فی اللعب بالآلات المعدة للقمار بدون الرهن:بأن کان الغرض منه مجرد الانس و الفرح،کما هو المرسوم کثیرا بین الأمراء و السلاطین.و هذا أیضا لا إشکال فی حرمته،بل فی المستند (3)بلا خلاف فیها،و قد وقع الخلاف فی ذلک بین العامة[1].

و کیف کان فقد استدل المصنف علی حرمته بوجهین:

الأول:قوله«ع»فی روایة تحف العقول:(إن ما یجیء منه الفساد محضا لا یجوز التقلب فیه من جمیع وجوه الحرکات).

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند،و قد تقدم.و ثانیا:أنها لا تدل إلا علی صدق الکبری من حرمة التقلب و التصرف فی کل ما یجیء منه الفساد محضا.و أما إحراز الصغری فلا بد

ص:369


1- 1) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 213.
2- 2) سورة المائدة آیة:93.
3- 3) ج 2 ص 337.

و أن یثبت من الخارج،و من الواضح أن کون الآلات المعدة للقمار کذلک أول الکلام، إذ لو کان اللعب بها بدون مراهنة جائزا لم تکن کذلک،فلا یمکن إثبات الحرمة به، فإنه دور ظاهر.

الثانی:ما فی روایة أبی الجارود[1]من تفسیر المیسر بالنرد و الشطرنج و بکل قمار الی أن قال«ع»:(و کل هذا بیعه و شراؤه و الانتفاع بشیء من هذا حرام من اللّه محرم).

فإنها تشمل بإطلاقها اللعب بالآلات المعدة للقمار بدون الرهن.

و قد یقال:إن المراد بالقمار المذکور فی الروایة هو المعنی المصدری«أعنی العمل الخارجی»،و علیه فتکون الروایة منصرفة إلی اللعب بالآلات المذکورة مع الرهن، کما أن المطلقات منصرفة إلیه أیضا،و لکنها دعوی جزافیة،فإن المراد من القمار فیها هو نفس الآلات.و یدل علیه من الروایة قوله«ع»:(بیعه و شراؤه)و قوله«ع»:

(و أما المیسر فالنرد و الشطرنج).

و فیه أن الروایة و إن کانت صریحة الدلالة علی المقصود،و لکنها ضعیفة السند.

ثم إن المصنف(ره)ذکر جملة من الروایات للتأیید،و ادعی عدم انصرافها الی اللعب الخارجی:منها ما عن مجالس المفید الثانی ولد الشیخ الطوسی«ره»[2]و هو قوله«ع»:

(کلما ألهی عن ذکر اللّه فهو من المیسر).

و فیه أولا:أن هذه الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أنها محمولة علی الکراهة،فإن کثیرا من الأمور یلهی عن ذکر اللّه و لیس بمیسر،و لا بحرام،و إلا لزم الالتزام بحرمة کثیر من الأمور الدنیویة،لقوله تعالی (1): (إِنَّمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ) .

بل قد أطلق اللهو علی بعض الأمور المستحبة فی جملة من الروایات[3]کسباق الخیل،

ص:370


1- 1) سورة محمد،آیة:38.

و مفاکهة الاخوان،و ملاعبة الرجل أهله،و متعة النساء،فإنها من الأشیاء المندوبة فی الشریعة،و مع ذلک أطلق علیها اللهو،و توهم أن الملاهی غیر المحرمة خارجة عن الحدیث توهم فاسد،فإنه مستلزم لتخصیص الأکثر،و هو مستهجن.

و منها روایة الفضیل[1]عن النرد و الشطرنج و غیرهما من آلات القمار التی یلعب بها (فقال«ع»:إذا میز اللّه بین الحق و الباطل فی أیهما یکون؟قلت:مع الباطل؟قال«ع» فمالک و الباطل).

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أنه لا ملازمة بین البطلان و الحرمة.

و منها روایة زرارة[2]عن لعبة بعض أقسام القمار(فقال«ع»:أ رأیتک إذا میز اللّه الحق و الباطل مع أیهما یکون؟قال:قلت:مع الباطل؟قال«ع»:فلا خیر فیه).و فیه أن نفی الخیر أعم من الحرمة و الکراهة.

و منها روایة عبد الواحد بن المختار[3]إنه سأل الإمام«ع»عن اللعب بالشطرنج؟ قال«ع»:(إن المؤمن لمشغول عن اللعب).فان إباطه الحکم باللعب تقتضی عدم اعتبار الرهن فی حرمة اللعب بالآلات المزبورة.

و فیه أن الروایة غریبة عما نحن فیه،فان الظاهر منها أخذ عنوان المؤمن موضوعا للاجتناب عن اللعب المطلق،و بما أنه لا دلیل علی حرمته علی وجه الإطلاق حتی اللعب بالید و الأصابع و اللحیة و السبحة و نحوها،فتکون الروایة إرشادا إلی بیان شأن المؤمن من أنه لا یناسبه الاشتغال بالأمور اللاغیة،فإنها غیر مفیدة له فی دینه و دنیاه.

و قد استدل علی حرمة القمار بدون الرهن بالمطلقات الناهیة عن المیسر و القمار من الآیات و الروایات(و قد أشرنا إلی مصادرها فی هامش ما تقدم).

و أجاب عنه المصنف بوجهین،الأول:ان المطلقات منصرفة إلی الفرد الغالب،و هو

ص:371

اللعب بالآلات المذکورة مع الرهن.

و فیه أولا:ان اللعب بآلات القمار من غیر رهن کثیر فی نفسه لو لم یکن أکثر من اللعب بها مع المراهنة،أو مساویا له فی الکثرة.

و ثانیا:ان مجرد غلبة الوجود فی الخارج لا توجب الانصراف،نعم ان دعوی الانصراف إنما تصح إذا کان لها منشأ صحیح،کأن یکون الفرد النادر أو غیر الغالب علی نحو لا یراه العرف فردا للعمومات و المطلقات،کانصراف الحیوان عن الإنسان فی نظر العرف،مع انه من أکمل افراده،و لذا قلنا بانصراف الروایات المانعة عن الصلاة فی غیر المأکول عن الإنسان.و الوجه فی ذلک ان العرف یری الإنسان مباینا للحیوان حتی انه لو خوطب احد بالحیوان فان العرف یعد ذلک من السباب.

الثانی:ما أشار إلیه ب قوله و فی صدق القمار علیه نظر لما عرفت) .و توضیح ذلک ان المستفاد من کلمات أهل العرف و اللغة[1]ان القمار و کک المیسر موضوع للعب بأی شیء مع الرهان،و یعبر عنه فی لغة الفارس بکلمة(برد و بأخت)و علیه فاللعب بالآلات بدون الرهن خارج عن المطلقات موضوعا و تخصصا.

ص:372

نعم فی الجواهر(عن ظاهر الصحاح و المصباح و التکملة و الذیل انه قد یطلق علی اللعب بها مطلقا مع الرهن و دونه).و الظاهر انه من باب المجاز،لعلاقة المشابهة و المشاکلة، و لا أقل من الشک فی صدق مفهوم القمار علیه،و من المعلوم انه مع الشک فی الصدق لا یجوز التمسک بالمطلقات.

و کذلک لا یجوز التمسک بقوله تعالی (1): «إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ» .فان العداوة إنما تتحقق مع الرهان،لا بدونه.

و التحقیق أن یستدل علی الحرمة بالمطلقات (2)الکثیرة الناهیة عن اللعب بالنرد و الشطرنج و بکل ما یکون معدا للتقامر،فإنه لا شبهة أن اللعب بالأمور المذکورة یعم بما کان مع المراهنة أو بدونها.

و قد ناقش المصنف فی ذلک بانصراف المطلقات المذکورة إلی صورة اللعب بآلات القمار مع الرهن.و قد عرفت جوابه.و العجب منه(ره)أنه استبعد الانصراف فی روایة أبی الربیع الشامی[1]الناهیة عن الاقتراب من النرد و الشطرنج.ثم التزم به فی المطلقات المذکورة!مع أنهما من باب واحد،فإن النهی عن الاقتراب من النرد و الشطرنج کنایة عن حرمة اللعب بهما.فشأن روایة أبی الربیع شأن المطلقات فی الانصراف و عدمه،و لکن الروایة ضعیفة السند.

ص:373


1- 1) سورة المائدة آیة:91.
2- 2) فی ج 2 کا ص 201.و ج 10 الوافی ص 36.و ج 2 ئل باب 63 تحریم کسب القمار ص 546،و باب 132 تحریم اللعب بالنرد و باب 130 تحریم اللعب بالشطرنج ص 567 مما یکتسب به.و ج 2 المستدرک ص 459.
حرمة المراهنة علی اللعب

بغیر الآلات المعدة للقمار المسألة الثالثة:المراهنة علی اللعب بغیر الآلات المعدة للقمار،کالمراهنة علی حمل الحجر الثقیل،و علی المصارعة،و نطاح الکباش،و صراع البقر،و مهارشة الدیکة و مضاربتها، و المراهنة علی الطیور،و علی الطفرة و نحو ذلک مما عدوها فی باب السبق و الرمایة من غیر الأفراد التی نص علی جوازها.

و الظاهر أنه لا خلاف فی الجملة بین الشیعة و أکثر العامة[1]فی حرمة المراهنة علی اللعب مطلقا و إن کان بغیر الآلات المعدة للقمار،نعم یظهر من الجواهر اختصاص الحرمة بما إذا کان اللعب بالآلات المعدة له،و أما مطلق الرهان و المغالبة بغیرها فلا حرمة فیه.نعم تفسد المعاملة علیه،و لا یملک الراهن الجعل،فیحرم علیه التصرف فیه.

و ذکر المصنف(ره)أن الظاهر إلحاقه بالقمار فی الحرمة و الفساد،بل صرح العلامة الطباطبائی(ره)فی مصابیحه بعدم الخلاف فی ذلک،ثم قال المصنف:(و هو ظاهر کل من نفی الخلاف فی تحریم المسابقة فیما عدا المنصوص مع العوض،و جعل محل الخلاف فیها بدون العوض).

و توضیح کلامه أن الخلاف فی حکم المسابقة بدون الرهن فی غیر الموارد المنصوصة لا معنی له إلا فی الحرمة التکلیفیة،فإن الحرمة الوضعیة عبارة عن فساد المعاملة و عدم انتقال المال الی غیر مالکه،و المفروض أنه لیس هنا رهن لیقع الاختلاف فی انتقاله الی غیر مالکه و عدم انتقاله،فتعین أن یکون الخلاف فی هذه الصورة فی الحرمة التکلیفیة فقط دون الحرمة الوضعیة.

و علیه فمقابلة مورد الوفاق-أعنی حرمة المسابقة مع الرهن فی غیر الموارد المنصوصة- بمورد الخلاف تقتضی أن یکون مورد الوفاق هو خصوص الحرمة التکلیفیة،أو الأعم منها و من الحرمة الوضعیة.و أما تخصیص مورد الوفاق بخصوص الحرمة الوضعیة کما عرفته من ظاهر الجواهر فلا یلائم کلماتهم.

ص:374

و کیف کان فقد استدل القائلون بالحرمة و الفساد بوجوه:

الأول:الإجماع.و فیه أن دعواه فی المقام علی الحرمة و إن لم تکن جزافیة کما عرفت،و لکنا لا نطمئن بکونه إجماعا تعبدیا،بل من المحتمل القریب استناده إلی سائر الوجوه المذکورة فی المسألة.

الثانی:صدق مفهوم القمار علیه بغیر عنایة و علاقة،فقد عرفت أن الظاهر من أهل العرف و اللغة أن القمار هو الرهن علی اللعب بأی شیء کان.و تفسیره باللعب بالآلات المعدة للقمار دور ظاهر.

و یدل علی ما ذکرناه ترادف کلمة القمار فی لغة الفرس لکلمة(برد و بأخت)بأی نحو تحقق،و من أوضح أفراده فی هذا الزمان الحظ و النصیب المعبر عن ذلک فی الفارسیة بلفظ (بلیط آزمایش بخت)و إذا صدق علیه مفهوم القمار شملته المطلقات الدالة علی حرمة القمار و المیسر و الأزلام،و حرمة ما أصیب به من الأموال،غایة الأمر أن الموارد المنصوصة فی باب السبق و الرمایة قد خرجت عن هذه المطلقات.

الوجه الثالث:الروایات الکثیرة الظاهرة فی حرمة الرهان علی المسابقة فی غیر الموارد المنصوصة:منها ما دل[1]علی نفار الملائکة عند الرهان و لعنها صاحبه ما خلا الحافر و الخف و الریش و النصل،و لکن جمیعه ضعیف السند.

ص:375

و منها ما عن تفسیر العیاشی[1]من أن المیسر هو الثقل الخارج بین المتراهنین،فیدل علی الحرمة وضعا و تکلیفا،و علیه فلا وجه لحمله علی الحرمة الوضعیة فقط،کما صنعه المحقق الایروانی،و لکنه ضعیف السند.

و منها ما دل[2]علی أن کل ما قوم به فهو من المیسر حتی اللعب بالجوز و اللوز و الکعاب،و معنی المقامرة هو المراهنة علی اللعب کما عرفته فی الهامش آنفا.

و منها روایة إسحاق بن عمار[3]الصریحة فی حرمة المقامرة بالجوز و البیض و حرمة أکلهما،فإنها دلت علی تحقق القمار باللعب بغیر الآلات المعدة له.

و تدل علی هذا أیضا الروایة المشتملة علی قی الإمام«ع»البیض الذی قامر به الغلام «و سیأتی الکلام فی هذه الروایة و بیان أنها ضعیفة السند».

ص:376

و الحاصل:أن الرهن علی اللعب بغیر الآلات المعدة للقمار حرام وضعا و تکلیفا،فلا وجه لإنکار الحرمة التکلیفیة،و الالتزام بخصوص الفساد،کما صنعه صاحب الجواهر.

و قد یستدل علی ما ذهب الیه صاحب الجواهر بما فی صحیحة محمد بن قیس[1]الواردة فی مؤاکلة الشاة من أنه قال«ع»:(لا شیء فی المؤاکلة من الطعام ما قل منه أو کثر و منع غرامة فیه).بدعوی أن الامام«ع»لم یتعرض فیها لغیر فساد المراهنة فی الطعام،و أنه لیس لها أثر یترتب علیها،و لو کانت المراهنة المزبورة محرمة تکلیفا لردع عنها أیضا.

و أجاب المصنف عن ذلک بأن(هذا وارد علی تقدیر القول بالبطلان و عدم التحریم، لأن التصرف فی هذا المال مع فساد المعاملة حرام أیضا فتأمل).و توضیح کلامه:أن سکوت الامام«ع»عن بیان الحرمة فی جهة لا یستلزم ثبوت الجواز فیها،و إلا لکانت الروایة دالة علی جواز التصرف فی مال الغیر بناء علی فساد هذه المعاملة،لأن الإمام«ع» قد سکت عن بیان حرمته أیضا.

أقول:الظاهر أن الروایة أجنبیة عن المقام،و إنما هی مسوقة لبیان حکم عقد المؤاکلة فی الطعام،فان مالک الشاة قد أباحها لأشخاص معینین بشرط متأخر،و هو قوله إن أکلتموها فهی لکم) .و اشترط علیهم الضمان إذا تخلف الشرط المذکور،و قال:(و إن لم تأکلوها فعلیکم کذا و کذا).و قد حکم الامام«ع»بفساد هذه المعاملة،و عدم ترتب الأثر علیها ب قوله لا شیء فی المؤاکلة).و أنها لیست من المعاملات التی أمضاها الشارع کما أمضی المزارعة و المضاربة و المساقاة و غیرها.

و علی هذا فمفاد الروایة ینحل الی قضیتین:إحداهما موجبة،و هی إباحة الشاة بشرط متأخر إباحة مالکیة.و الثانیة سالبة،و هی عدم تحقق الإباحة المالکیة مع تخلف الشرط المذکور.و حکم القضیة الاولی هو الجواز وضعا و تکلیفا من غیر غرامة علی الآکلین.

و حکم القضیة الثانیة هو عدم الجواز وضعا،لا تکلیفا.فتثبت علیه غرامة الأکل،لکونه مشمولا لعمومات أدلة الضمان،لا لأنها معاملة خاصة توجب الضمان بنفسها.

و یدل علی ذلک من الروایة أمران،أحدهما:قوله«ع»:(لا شیء فی المؤاکلة).

ص:377

فإن ظاهره ان الصادر بین مالک الشاة و أصحابه إنما هو عقد المؤاکلة فی الشاة.

و ثانیهما:قول المالک:(إن أکلتموها فهی لکم،و إن لم تأکلوها فعلیکم کذا و کذا) فان ظاهره أن هذا القول من المالک صیغة لعقد المؤاکلة،و أن المتعاملین بها یحاولون إیجاد معاملة خاصة کسائر المعاملات المقررة فی الشریعة المقدسة.

و قد علم من الوجهین المذکورین:أن کلمة(آکل)فی قول السائل:(فی رجل آکل و أصحاب له شاة).إنما هو فعل ماض من باب المفاعلة،و لیس باسم فاعل من الثلاثی المجرد،و لا فعل ماض منه کما هو واضح.و نظیر هذه المعاملة کثیر الوقوع بین أهل العرف،فیقول أحدهم لصاحبه:إن أکلت کذا مقدارا من الثمرة أو إن سکنت فی هذه الدار سنة واحدة فلیس علیک شیء،و إلا فعلیک کذا و کذا.

قوله ثم إن حکم العوض من حیث الفساد حکم سائر المأخوذ بالمعاملات الفاسدة) .

أقول:حکم المأخوذ بالقمار و کذلک حکم المأخوذ بسائر المعاملات الفاسدة هو وجوب رد عینه مع البقاء،ورد بدله من المثل أو القیمة مع التلف،و یأتی الکلام إنشاء اللّه علی هذا فی البحث عن المقبوض بالعقد الفاسد.

قوله و ما ورد[1]من قی الإمام(علیه السلام)البیض الذی قامر به الغلام. أقول:لم یتوهم أحد و لا موقع للتوهم أیضا ان القی من جهة رد البیض الی المالک،فان آکل الحرام لا یجب علیه رد عینه و لو کان عالما عامدا فضلا عما إذا تناوله جاهلا،لأن الطعام بعد المضغ یعد فی العرف تالفا،خصوصا بعد وصوله إلی المعدة،أما بعد القی فإنه یعد من القذارات العرفیة،و إنما الوجه فی ذلک هو تنزه الامام(علیه السلام)ان لا یصیر الحرام الواقعی جزءا من بدنه،بل الظاهر من الروایة ان البیض قد اشتراه الغلام للإمام(علیه السلام)و لکنه قامر به فی الطریق،فلا موضوع هنا للضمان.

و لو سلمنا ان الامام(علیه السلام)لم یکن مالکا للبیض فیمکن ان یقال:إن الأموال کلها للإمام(علیه السلام)،لأنه أولی بالناس من أنفسهم،و یؤیده ما دل علی ان الأرض و ما یخرج منها له(علیه السلام).و علی هذین الوجهین ففی الامام البیض إنما هو لئلا یکون ما أصیب به

ص:378

القمار جزءا من بدنه.

و کیف کان فقد أورد المصنف علی الروایة(بأن ما کان تأثیره کذلک یشکل أکل المعصوم له جهلا بناء علی عدم إقدامه علی المحرمات الواقعیة الغیر المتبدلة بالعلم،لا جهلا، و لا غفلة،لأن ما دل علی عدم جواز الغفلة علیه فی ترک الواجب و فعل الحرام دل علی عدم جواز الجهل علیه فی ذلک).

و یمکن ان یقال:إن الاعتراض علی الروایة مبنی علی کون علم الأئمة بالموضوعات حاضرا عندهم من غیر توقف علی الإرادة،و قد دلت علیه جملة من الروایات،کما أن علمهم بالأحکام کذلک.

و أما بناء علی ان علمهم بالموضوعات تابع لإرادتهم و اختیارهم(کما دلت علیه جملة أخری من الروایات)فلا یتوجه الاشکال علی الروایة،لإمکان صدور الفعل عنهم(علیه السلام) جهلا قبل الإرادة.و لکن الذی یسهل الخطب أن البحث فی علم الامام من المباحث الغامضة،و الأولی رد علم ذلک الی أهله،کما ذکره المصنف(ره).علی ان الروایة المذکورة ضعیفة السند.

حکم المسابقة بغیر رهان

فی ما عدا الموارد المنصوصة

قوله الرابعة المغالبة بغیر عوض فی غیر ما نص علی جواز المسابقة فیه. أقول:

المشهور بین الأصحاب هو عدم جواز المسابقة بغیر رهان فی ما عدا الموارد المنصوصة، کالمصارعة،و حمل الأثقال،و الجری علی الاقدام،و کالمسابقة علی السفن و البقر و الکلاب و الطیور،و المکث فی الماء،و حفظ الأخبار و الأشعار،و رمی البنادق،و الوقوف علی رجل واحدة و غیرها.و قد ذهب بعض الأصحاب و جمع من العامة[1]إلی الجواز.

و یمکن الاستدلال علی الحرمة بوجوه:

الأول:دعوی الإجماع علیها،و قد ادعاه غیر واحد من الأصحاب.

و فیه أن من المحتمل القریب استناده الی الوجوه الآتیة،فلیس هنا إجماع تعبدی، و من هنا علله بعض الأعاظم من الأصحاب بعموم النهی عن المسابقة إلا فی ثلاثة.

ص:379

الثانی:ما ورد فی جملة من الأحادیث[1]من نفی السبق إلا فی خف أو حافر أو نصل بدعوی أن السبق بالسکون مصدر لکلمة سبقه الی کذا أی تقدمه و خلفه و غلبه علی کذا فیراد من نفیه نفی مشروعیة المسابقة و المغالبة و إن لم یکن فیها رهان.فیکون مفاده کمفاد لا رهبانیة و لا نجش فی الإسلام.

و فیه أن ذلک إنما یتم لو کان المذکور هو السبق بسکون الباء،و لم یثبت ذلک،بل فی المسالک أن قراءة الفتح هی المشهور.و السبق بالفتح هو العوض الذی یتراهن علیه المتسابقون و علیه فلا تدل الروایة إلا علی تحریم المراهنة فقط.بل قال المصنف:إنها(غیر ظاهرة فی فی التحریم أیضا،لاحتمال إرادة فسادها.بل هو الأظهر،لأن نفی العوض ظاهر فی نفی استحقاقه،و إرادة نفی جواز العقد علیه فی غایة البعد).و مع الإغضاء عن ثبوت قراءة الفتح،فالروایة مجملة،فلا یجوز التمسک بها إلا فی الموارد المتیقنة علی أنها ضعیفة السند.

ثم إنه أورد المصنف علی قراءة السکون بأنه(علی تقدیر السکون فکما یحتمل نفی الجواز التکلیفی فیحتمل نفی الصحة،لوروده مورد الغالب من اشتمال المسابقة علی العوض).

و فیه أولا:أن المسابقة بدون المراهنة کثیرة فی نفسها.و ثانیا:أن غلبة الوجود بمجردها لا توجب الانصراف.

الثالث:أن مفهوم القمار صادق علی مطلق المغالبة و لو بدون العوض،کما یدل علیه ما تقدم فی بعض الروایات من تسمیة اللعب بالشطرنج بدون المراهنة قمارا،و علیه فتشمله الإطلاقات الدالة علی حرمة القمار.

و فیه أنک قد عرفت فیما سبق آنفا:أن الرهان مأخوذ فی مفهوم القمار،سواء کان اللعب بالآلات المعدة له أم لا،فالمسابقة بغیر المراهنة خارجة عن القمار موضوعا.و إطلاق القمار علیها أحیانا لا یدل علی الحقیقة،فإنه أعم من الحقیقة و المجاز،و حرمة اللعب بالنرد و الشطرنج من جهة الأدلة الخاصة،لا من جهة صدق مفهوم القمار علیه.

ص:380

و لو سلمنا أن إطلاق القمار علی المسابقة الخالیة عن العوض علی سبیل الحقیقة فإن السیرة القطعیة قائمة علی جوازها،کالسباحة و المصارعة و المکاتبة و المشاعرة و غیرها،خصوصا إذا کان الفعل أمرا قریبا،کبناء المساجد و القناطر و المدارس،فان فی ذلک فلیتنافس المتنافسون.

الرابع:أنه قد علل تحریم اللعب بالنرد و الشطرنج فی بعض الأخبار المتقدمة فی الهامش آنفا:بأنه من اللهو و الباطل،و هو جار فیما نحن فیه أیضا،بل ورد من طرق الخاصة و العامة أن کل لهو المؤمن باطل إلا فی ثلاث(و قد تقدم فی الحاشیة)و هو بإطلاقه شامل للمقام،و قد تقدم أیضا أن(کلما ألهی عن ذکر اللّه فهو من المیسر).و من الواضح ان المسابقة و إن کانت بغیر عوض تلهی عن ذکر اللّه.

و فیه أنه لا دلیل علی حرمة مطلق اللهو کما عرفت،و ستعرفه فی البحث عن حرمة اللهو فان کثیرا من الأمور لهو و هو لیس بحرام کاللعب بالأحجار و الأشجار و السبحة و اللحیة و أزرار الثوب و نحوها.علی أنه لا ملازمة بین ما نحن فیه و بین اللهو،فإن النسبة بینهما هی العموم من وجه،إذ کثیرا ما تکون المسابقة للأغراض العقلائیة من تربیة البدن و معالجته و التنزه و التفریح کما هو واضح.

حرمة القیادة

قوله السادسة عشرة القیادة حرام. أقول:و هی فی اللغة السعی بین الشخصین لجمعهما علی الوطی المحرم،و قد یعبر عنها بکلمة الدیاثة،و لا شبهة فی حرمتها وضعا و تکلیفا بل ذلک من ضروریات الإسلام،و هی من الکبائر الموبقة و الجرائم المهلکة.

و فی مرسلة الشیخ الورام (1)عن النبی(صلی الله علیه و آله)عن جبرئیل قال:(اطلعت علی النار فرأیت فی جهنم و أدیا یغلی فقلت:یا مالک لمن هذا؟فقال:لثلاثة:المحتکرین و المدمنین للخمر و القوادین).و قد تقدم فی روایة سعد الإسکاف و غیرها (2)تفسیر الواصلة و المستوصلة بذلک.

و فی روایة ابن سنان (3)عن حد القواد؟قال«ع»:(یضرب ثلاثة أرباع حد الزانی

ص:381


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 27 تحریم الاحتکار من آداب التجارة ص 579.
2- 2) ص 199.
3- 3) راجع ج 3 ئل باب 5 من حد القیادة ص 438.

خمسة و سبعین سوطا و ینفی من المصر الذی هو فیه).و فی بعض الأحادیث (1):(لا یدخل الجنة عاق و لا منان و لا دیوث).و فی عیون الأخبار (2):(و أما التی کانت تحرق وجهها و بدنها و هی تجر أمعاؤها فإنها کانت قوادة).و قد ورد اللعن و التوعید علی القواد فی بعض الأحادیث[1].

حرمة إتیان القائف

و ترتیب الأثر علی قوله

قوله السابعة عشرة القیافة حرام فی الجملة. أقول:القیافة فی اللغة[2]معرفة الآثار و شبه الرجل بأخیه و أبیه،و الظاهر أنه لا شبهة فی جواز تحصیل العلم أو الظن بأنساب الأشخاص بعلم القیافة و بقول القافة،و لم یرد فی الشریعة المقدسة ما یدل علی حرمة ذلک.و ما ورد فی حرمة إتیان العراف و القائف لا مساس له بهذه الصورة،و إنما المراد منه حرمة العمل بقول القافة،و ترتیب الأثر علیه کما سیأتی،و مع الشک فی الحرمة و الجواز فی هذه الصورة یرجع الی الأصول العملیة.

ثم إنه لا شبهة فی حرمة الرجوع الی القائف و ترتیب الآثار علی قوله،و فی الکفایة لا أعرف فیها الخلاف.و فی المنتهی الإجماع علی ذلک.خلافا لأکثر العامة[3]فإنهم جوزوا

ص:382


1- 1) راجع ج 2 المستدرک باب 23 تحریم إتیان العراف مما یکتسب به ص 435.
2- 2) راجع ج 3 ئل باب 117 جملة ما یحرم علی النساء من مقدمات النکاح ص 27.

العمل بقول القافة استنادا إلی جملة من الروایات الواردة من طرقهم«و سنشیر إلیها».

و تدل علی حرمة العمل بقول القافة الآیات الدالة علی حرمة العمل بغیر علم،و علی حرمة اتباع الظنون،و أنها لا تغنی من الحق شیئا«و قد تقدمت هذه الآیات (1)»فان نفی النسب عن شخص أو إلحاقه به بالاستحسانات الحاصلة من ملاحظة أعضاء البدن علی النحو الذی تقرر فی علم القیافة لا یتفق و القواعد الشرعیة،فإنه هدم لأحکام الإرث المترتبة علی التوالد الشرعی،و أیضا قد ثبت فی الشریعة أن الولد للفراش،بل هو من القواعد المسلمة بین الفریقین،و العمل بالقیافة ینافیها فی کثیر من الموارد.

و یضاف الی ما ذکرناه أن النسب إذا لم تقم علی ثبوته أمارة شرعیة فإن الاستصحاب یقتضی نفیه،و لا یجوز رفع الید عنه إلا بالأمارات المعتبرة شرعا،و لیست القیافة منها.

و أما ما ورد فی أحادیث العامة[1]من العمل بقول القافة فلا یصلح أن یکون رافعا للاستصحاب،فإنه مضافا الی ضعف السند فیها أنه مناف لما ورد فی المنع عن العمل بعلم

ص:383


1- 1) فی البحث عن حرمة الرشوة ص 265

القیافة فی بعض أحادیث الشیعة[1].و فی روایة الجعفریات (1)جعل من السحت أجر القافی و قد استشهد المصنف(ره)علی حرمة العمل بقول القافة بروایة زکریا بن یحیی[2] الواردة فی قصة أبی الحسن الرضا«ع»،و إثبات بنوة ابنه الجواد«ع»و إمامته بالرجوع إلی القافة حیث زعموا ما کان فینا إمام قط حائل اللون.

و لکن لم نجد فی الروایة ما یستشهد به لذلک،بل الظاهر منها أن الشیعة أیضا کانوا یعتقدون بقضاء رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)بقول القافة،و أن الرضا«ع»لم ینکر علیهم ذلک.

نعم یرد علی الروایة وجوه،الأول:أنها ضعیفة السند.

الثانی:أنها مخالفة لضرورة المذهب،فإنها اشتملت علی عرض أخوات الإمام و عماته علی القافة،و هو حرام لا یصدر من الإمام«ع».و توهم أن ذلک من جهة الاضطرار و هو یبیح المحظورات توهم فاسد،إذ لم تتوقف معرفة بنوة الجواد للرضا«ع»علی إحضار النساء.

الثالث:أن الجماعة الذین بغوا علی الرضا«ع»لینفوا بنوة الجواد«ع»عنه لو کانوا معتقدین بامامة الرضا«ع»لما احتاجوا إلی القافة بعد إخباره بالبنوة.

ص:384


1- 1) راجع ج 2 المستدرک باب 23 تحریم إتیان القافة مما یکتسب به ص 434.

حرمة الکذب

اشارة

قوله الثامنة عشرة:الکذب حرام بضرورة العقول و الأدیان،و یدل علیه الأدلة الأربعة. أقول:لا شبهة فی حرمة الکذب،فإنه من قبائح الذنوب،و فواحش العیوب بل هو مفتاح الشرور،و رأس الفجور،و من أشد الجرائم،و أکبر الکبائر و حرمته من ضروریات مذهب الإسلام،بل جمیع الأدیان،و قد استدل علیها المصنف بالأدلة الأربعة.

أما الکتاب و السنة الواردة لدی الخاصة (1)و العامة (2)فی ذلک فذکرهما مما لا یحصی.

و أما الإجماع فمن المحتمل القریب،بل المقطوع به أنه مستند الی الکتاب و السنة،فلا یکون هنا إجماع تعبدی،کما هو واضح.

و أما العقل فإنه لا یحکم بحرمة الکذب بعنوانه الأولی مع قطع النظر عن ترتب المفسدة و المضرة علیه،و کیف یحکم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الکاذبة التی لا تترتب علیها مفسدة دنیویة أو أخرویة.نعم إذا ترتب علیه شیء من تلک المفاسد،کقتل النفوس المحترمة و هتک الأعراض المحترمة،و نهب الأموال،أو إیذاء الناس و ظلمهم،و نحوها من العناوین المحرمة،فإن ذلک محرم بضرورة العقل،و لکنه لا یختص بالکذب،بل یجری فی کل ما استلزم شیئا من الأمور المذکورة و لو کان صدقا.

الکذب من الکبائر

قوله أحدهما فی أنه من الکبائر. أقول:قد عرفت فی مبحث الغیبة تحقیق الحال فی کون معصیة کبیرة.و قد استدل المصنف علی کون الکذب من الکبائر فی الجملة بعدة من الروایات:

منها روایتا الأعمش و عیون الأخبار (3)حیث جعل الامام«ع»الکذب من الکبائر

ص:385


1- 1) راجع أصول الکافی بهامش ج 2 مرآة العقول ص 324.و ج 3 الوافی ص 157.و ج 2 ئل باب 138 تحریم الکذب من عشرة الحج ص 233.و ج 2 المستدرک ص 100.
2- 2) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 195.و ج 3 إحیاء العلوم ص 93.
3- 3) راجع ج 2 ئل باب 45 تعیین الکبائر من جهاد النفس ص 465.

فی هاتین الروایتین.و فیه أنهما و إن کانتا ظاهرتین فی المقصود،و لکنهما ضعیفة السند[1] و منها قوله«ع»فی روایة عثمان بن عیسی[2]:(إن اللّه جعل للشر أقفالا و جعل مفاتیح تلک الأقفال الشراب و الکذب شر من الشراب).

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أنها مخالفة للضرورة،إذ لا یلتزم فقیه،بل و لا متفقة بأن جمیع أفراد الکذب شر من شرب الخمر،فإذا دار الأمر فی مقام الاضطرار بین ارتکاب طبیعی الکذب-و لو بأن یقول المکره(بالفتح):إن عمر فلان مائة سنة مع أنه ابن خمسین-و بین شرب الخمر فلا یحتمل أحد ترجیح شرب الخمر علی الکذب.

و مما ذکرناه ظهر الجواب عما دل[3]علی أن المؤمن إذا کذب بغیر عذر کتب اللّه علیه بتلک الکذبة سبعین زنیة أهونها کمن یزنی مع أمه.و من الواضح أن الزناء بالأم من أکبر الکبائر،فکک،علی أن هذه الروایة أیضا ضعیفة السند.و یضاف الی ذلک ما ذکرناه فی مبحث الغیبة،و هو أن کل واحد من الذنوب مشتمل غالبا علی خصوصیة لا توجد فی غیره،و کونه أشد من غیره فی هذه الخصوصیة لا یستلزم کونه أشد منه فی جمیع الجهات.

نعم قد یکون بعض أفراد الکذب أشد من شرب الخمر و الزناء،کالکذب علی اللّه، و علی رسوله،و کالکذب لقتل النفس المحترمة،و لإثارة الفتنة و نحوها،و لا مضایقة فی جعله حینئذ من الکبائر.

و منها ما عن العسکری«ع» (1)فإنه قال:(جعلت الخبائث کلها فی بیت و جعل مفتاحها الکذب).بدعوی أن ما یکون مفتاحا للخبائث کلها لا بد و أن یکون کبیرة.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:لا ملازمة بین کون الشیء مفتاحا للخبائث و بین کونه معصیة فضلا عن کونه من الکبائر،فإنه قد یکون الشیء غیر محرم،و مع ذلک یکون مفتاحا للحرام،کالشبهات و مقدمات الحرام،و علیه فشأن هذه الروایة شأن الروایات الآمرة بالاجتناب عن الشبهات،فهی غیر دالة علی حرمة الکذب فضلا عن

ص:386


1- 1) راجع ج 3 من ج 15 البحار ص 43.

کونه من الکبائر.

قوله و یمکن الاستدلال علی کونه من الکبائر بقوله تعالی (1): «إِنَّما یَفْتَرِی الْکَذِبَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِآیاتِ اللّهِ». أقول:وجه الدلالة أنه تعالی جعل الکاذب غیر مؤمن بایات اللّه کافرا بها.

و فیه أن الآیة و إن کانت ظاهرة الدلالة علی کون الکذب المذکور فیها من الکبائر، و لکن الظاهر من ملاحظة الآیة و ما قبلها أن المراد بالکاذبین فی الآیة الشریفة هم الذین یفترون علی اللّه و علی رسوله فی آیات اللّه،کالیهود و المشرکین،لزعمهم أن ما جاء به النبی(صلی الله علیه و آله) کله من تلقاء نفسه و مفتریات شخصه،و قد رد اللّه کلامهم علیهم بقوله عز من قائل: (إِنَّما یَفْتَرِی الْکَذِبَ) .و علی هذا فالکذابون المذکورون فی الآیة لم یؤمنوا باللّه و برسوله و بالمعاد من الأول،لا أن الکذب أوجب خروجهم عن الإیمان لکی تدل الآیة علی مقصد المصنف.

قوله کونه من الکبائر من غیر فرق بین أن یترتب علی الخبر الکاذب مفسدة و أن لا یترتب علیه شیء أصلا. أقول:ذهب المصنف تبعا لظاهر الفاضلین و الشهید الثانی الی أن الکذب مطلقا من الکبائر،سواء ترتبت علیه مفسدة أم لا،و استند فی رأیه هذا إلی الإطلاقات المتقدمة التی استدل بها علی کون الکذب من الکبائر،ثم أیده بقول النبی(صلی الله علیه و آله) فی وصیته[1]لأبی ذر رضوان اللّه علیه:(ویل للذی یحدث فیکذب لیضحک به القوم ویل له ویل له ویل له).بدعوی أن الأکاذیب المضحکة لا یترتب علیها الإیقاع فی المفسدة إلا نادرا.

و الوجه فی جعلها من المؤیدات ما ذکره المصنف فی مبحث الکبائر من رسالته فی العدالة و هو أن من الموازین التی تعد به الخطیئة کبیرة ورود(النص المعتبر علی أنها مما أوجب اللّه علیها النار).و من الواضح أن الوصیة المذکورة ضعیفة السند.

أقول:قد عرفت أن الإطلاقات المتقدمة لا تنهض لإثبات المطلوب،إما لضعف السند فیها،أو لضعف الدلالة،و کذلک الشأن فی روایة أبی ذر،فهی و إن کانت ظاهرة فی المقصود،و لکن قد عرفت أنها ضعیفة السند.

و التحقیق أنه لا دلیل علی جعل الکذب مطلقا من الکبائر،بل المذکور فی روایة أبی

ص:387


1- 1) سورة النمل،آیة:107.

خدیجة[1]:(الکذب علی اللّه و علی رسوله و علی الأوصیاء(صلی الله علیه و آله)من الکبائر)فإن الظاهر منها أنها مسوقة للتحدید،و بیان أن الکذب الذی یعد کبیرة إنما هو الکذب الخاص،و علیه فتقید بها المطلقات المتقدمة الظاهرة فی کون الکذب بمطلقه من الکبائر بناء علی صحتها من حیث السند و الدلالة،و لکن روایة أبی خدیجة المذکورة ضعیفة السند.

و فی مرسلة الفقیه (1):(من قال علی ما لم أقله فلیتبوأ مقعده من النار).فان الظاهر منها أن الکذب علی الرسول من الکبائر بناء علی تفسیر الکبیرة بما أوعد اللّه علیه النار فی الکتاب العزیز أو فی السنة المعتبرة.و علیه فیدخل فیه الکذب علی اللّه و علی أوصیائه«ع» لملازمتهما للکذب علی النبی(صلی الله علیه و آله)،و لکن الروایة ضعیفة السند.

و فی بعض الأحادیث (2)أن شهادة الزور و الیمین الغموس«الکاذبة التی یتعمدها صاحبها» من الکبائر.

و مما یؤید أن الکذب لیس مطلقا من الکبائر ما ورد فی مرسلة سیف بن عمیرة (3)من التحذیر عن الکذب الصغیر و الکبیر،فان انقسام الکذب الی الصغیر و الکبیر یدل علی عدم کونه مطلقا من الکبائر إلا أن الروایة مرسلة.

و فی روایة ابن الحجاج[2]ما یشعر بعدم کون الکذب مطلقا من الکبائر.

ص:388


1- 1) راجع المصدر المزبور من ج 2 ئل ص 234.
2- 2) راجع الباب 45 المتقدم من ج 2 ئل ص 463.
3- 3) راجع کا بهامش ج 2 مرآة العقول ص 324.و ج 3 الوافی ص 157.و ج 2 ئل باب 140 تحریم الکذب فی الصغیر و الکبیر من عشرة الحج ص 234.

و لکن الذی یعظم الخطب ما تقدمت الإشارة إلیه فی مبحث الغیبة من أنه لا أثر لهذه المباحث،فان الذنوب کلها کبیرة و إن کان بعضها أکبر من بعض،و لذا اختلفت الاخبار فی تعدادها.و لو سلمنا انقسامها إلی الصغیرة و الکبیرة فإن جمیعها مضرة بالعدالة،فإن العدالة هی الاستقامة و الاعتدال،فأی ذنب ارتکبه المکلف فإنه یوجب الخروج عنها.

حرمة الکذب فی الهزل و الجد

هل یحرم الکذب مطلقا و إن کان صادرا بعنوان الهزل،أو تختص حرمته بالکذب الجدی؟فنقول:إن الکذب المسوق للهزل علی قسمین:فإنه قد یکون الهازل بکذبه مخبرا عن الواقع،و لکن بداع المزاح و الهزل من دون أن یکون إخباره مطابقا للواقع،کأن یخبر أحدا بقدوم مسافر له أو حدوث حادث أو وصول حاجة لیغتر المخاطب بقوله، فیرتب علیه الأثر،فیضحک منه الناس،و هذا لا شبهة فی کونه من الکذب،فإنه عبارة عن الخبر غیر الموافق للواقع،و اختلاف الدواعی لا یخرجه عن واقعه و حقیقته،و إذن فیکون مشمولا لما دل علی حرمة الکذب.

و قد یکون الکلام بنفسه مصداقا للهزل،بحیث یقصد المتکلم إنشاء بعض المعانی بداعی الهزل المحض من غیر أن یقصد الحکایة عن واقع لیکون إخبارا،و لا یستند الی داع آخر من دواعی الإنشاء.

و مثاله أن ینشئ المتکلم وصفا لأحد من حضار مجلسه بداعی الهزل،کإطلاق البطل علی الجبان و الزکی علی الأبله و العالم علی الجاهل،و هذا لا دلیل علی حرمته مع نصب القرینة علیه کما استقر به المصنف.

و الوجه فی ذلک هو أن الصدق و الکذب إنما یتصف بهما الخبر الذی یحکی عن المخبر به، و قد عرفت:أن الصادر عن الهازل فی المقام لیس إلا الإنشاء المحض،فیخرج عن حدود الخبر موضوعا.

و قد یقال:بالحرمة هنا أیضا،لإطلاق جملة من الروایات:منها مرسلة سیف المتقدمة، فإنها ظاهرة فی وجوب الاتقاء عن صغیر الکذب و کبیره فی الجد و الهزل علی وجه الإطلاق و فیه مضافا الی کونها ضعیفة السند،أن إنشاء الهزل خارج عن الکذب موضوعا کما عرفت،فلا یشمله ما دل علی حرمة الکذب.و من هنا ظهر الجواب عن التمسک بروایة

ص:389

أبی ذر المتقدمة من إثبات الویل لمطلق الکاذب،کما ظهر الجواب عن روایة الحارث الأعور[1] علی أن کلمة(لا یصلح)فیها ظاهرة فی الکراهة المصطلحة دون الحرمة،کما أن قوله«ع» فی روایة الأصبغ[2]:(لا یجد العبد طعم الإیمان حتی یترک الکذب هزله وجده).

لا یستفاد منه أزید من الکراهة،فإن المکروهات مانعة أیضا عن وجدان المؤمن طعم إیمانه و کذلک ظهر الجواب عن روایة الخصال[3].

بیان حقیقة الوعد و اقسامه

قوله و کیف کان فالظاهر عدم دخول خلف الوعد فی الکذب)، أقول:لا بأس بتوضیح حقیقة الوعد،و بیان حکم الخلف فیه.أما حقیقة الوعد فإنه یتحقق بأحد أمور ثلاثة،الأول:أن یخبر المتکلم عن عزمه علی الوفاء بشیء،کأن یقول لواحد:إنی عازم علی أن أعطیک درهما،أو انی ملتزم بالمجیء الی ضیافتک،أو علی إعظامک و إکرامک، و لا شبهة فی کون هذا من أفراد الخبر،غایة الأمر أن المخبر به من الأفعال النفسانیة أعنی العزم علی الفعل الخارجی نظیر الإخبار عن سائر الأمور النفسانیة من العلم و الظن و الشک و الوهم.و علیه فان کان حین الإخبار عازما فهو صادق و إلا فهو کاذب،فتشمله أدلة حرمة الکذب،و یکون خارجا عن المقام.

الثانی:أن ینشئ المتکلم ما التزمه بنفس الجملة؟؟ التی تکلم بها بأن یقول:لک علی کذا درهما أو دینارا أو ثوبا،و نظیره صیغ النذر و العهد،کقولک للّه علیّ ان أفعل کذا،و لا ریب ان مثل هذه الجمل إنشائیة محضة،فلا تتصف بالصدق،و لا بالکذب بالمعنی المتعارف، بل الصدق و الکذب فی ذلک بمعنی الوفاء بهذا الالتزام و عدم الوفاء به.

الثالث:ان یخبر المتکلم عن الوفاء بأمر مستقبل،کقوله:أجیئک غدا،أو أعطیک

ص:390

درهما بعد ساعة،أو أدعوک إلی ضیافتی بعد شهر،و هذه جمل خبریة بالحمل الشائع و لکنها مخبرة عن أمور مستقبلة،کسائر الجمل الخبریة الحاکیة عن الحوادث الآتیة،کالإخبار عن قدوم المسافر غدا،و عن نزول الضیف یوم الجمعة،و عن وقوع الحرب بین السلاطین بعد شهر.و لا شبهة فی انصاف هذا القسم من الوعد بالصدق و الکذب،فإنها عبارة عن موافقة الخبر للواقع و عدم موافقته له من غیر فرق بین أنواع الخبر،و هو واضح.

و أما حرمة الکذب هنا فان تنجزها یتوقف علی عدم إحراز تحقق المخبر به فی ظرفه، فیکون النهی عنه منجزا ح.و أما لو أحرز حین الإخبار تحقق الوفاء بوعده فی ظرفه، و لکن بدا له،أو حصل له المانع من باب الاتفاق،و أصبح مسلوب الاختیار عن الإتمام و الإنهاء لم تکن الحرمة منجزة و إن کان إخباره هذا فی الواقع کذبا.و أما حکم المقام من حیث خلف الوعد فسیأتی التکلم علیه.

و من هنا اتضح أن النسبة بین حرمة الکذب و بین خلف الوعد هی العموم من وجه، فإنه قد یتحقق الکذب المحرم حیث لا مورد لخلف الوعد،و قد یوجد خلف الوعد حیث لا یوجد الکذب المحرم،و قد یجتمعان.

و قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه ان الإخبار إذا کان عن الأمور المستقبلة کان صدق الخبر و کذبه منوطین بتحقق المخبر به فی ظرفه علی نحو الشرط المتأخر و عدم تحققه فیه.

و علیه فإذا کان عازما علی الوفاء بوعده حین الإخبار فهل یجب علیه البقاء علی عزمه هذا ما لم یطرأ علیه العجز صونا لکلامه عن الاتصاف بالکذب،أو لا یجب علیه ذلک؟ الظاهر هو الثانی،فإنه لا دلیل علی وجوب إتمام العزم،و علی حرمة العدول عنه لکی لا یتصف کلامه السابق بالکذب،و نظیر ذلک الإخبار عن عزمه علی إیجاد فعل فی الخارج،کإرادة السفر و نحوه،و لم یتوهم احد وجوب البقاء علی عزمه السابق لئلا یتصف کلامه بالکذب علی نحو الشرط المتأخر،و اما الأدلة الناهیة عن الکذب فهی مختصة بالکذب الفعلی،فلا تشمل غیره کما سیأتی.

ص:391

خلف الوعد

قد عرفت:ان حقیقة الوعد إنما تتحقق بأحد أمور ثلاثة.و اما المراد من خلفه فهو نقض ما التزم به و ترک ما وعده و عدم إنهائه و إتمامه.فهل هذا حرام أم لا؟قد یقال بالحرمة بدعوی انه من افراد الکذب،فیکون مشمولا لعموم ما دل علی حرمته.

و لکنها دعوی جزافیة،فإن ما دل علی حرمة الکذبة یختص بالکذب الفعلی الابتدائی، فلا یشمل الکذب فی مرحلة البقاء،و إن شئت قلت:المحرم إنما هو إیجاد الکلام الکاذب لا إیجاد صفة الکذب فی کلام سابق.

و نظیر ذلک ما حققناه فی کتاب الصلاة فی البحث عن معنی الزیادة فی المکتوبة،و قلنا:

إن المراد بها هو الزیادة الابتدائیة:أی الشیء الذی لا یطابق المأمور به حین صدوره من الفاعل،بحیث إذا وجد لم یوجد إلا بعنوان الزیادة.

و علیه فإذا أوجد المصلی شیئا فی صلاته بعنوان الجزئیة أو الشرطیة،ثم بدا له ما أخرجه عن عنوانه الأولی،و ألحقه بالزیادة لم یکن محکوما بحکم الزیادة فی الفریضة،فلا تشمله قوله«ع» (1):(من زاد فی صلاته فعلیه الإعادة).

و کذلک فی المقام،فان ما دل علی حرمة الکذب مختص بالکذب الابتدائی الفعلی المعنون بعنوان الکذب حین صدوره من المتکلم.اما إذا وجد کلام فی الخارج،و هو غیر متصف بالکذب،و لکن عرض له ما ألحقه بالکذب بعد ذلک فلا یکون حراما،لانصراف ما دل علی حرمة الکذب عنه و إن صدق علیه مفهوم الکذب حقیقة من حیث مخالفة المتکلم لوعده و عدم جریه علی وفق عهده،و لذا یطلق علیه وعد کاذب و وعد مکذوب،کما یطلق علی الوفاء به وعد صادق و وعد غیر مکذوب.

و قد استدل علی حرمة مخالفة الوعد علی وجه الإطلاق بالأخبار الکثیرة[1]الدالة

ص:392


1- 1) راجع ج 1 ئل باب 19 بطلان الفریضة بالزیادة من الخلل ص 514.

علی وجوب الوفاء به.

أقول:الروایات الواردة فی هذا المقام کثیرة جدا،و کلها ظاهرة فی وجوب الوفاء بالوعد،و حرمة مخالفته،و لم نجد منها ما یکون ظاهرا فی الاستحباب.و لکن خلف الوعد حیث کان یعم به البلوی لجمیع الطبقات فی جمیع الأزمان،فلو کان حراما لاشتهر بین الفقهاء کاشتهار سائر المحرمات بینهم،مع ما عرفت من کثرة الروایات فی ذلک،و کونها بمرأی منهم و مسمع،و مع ذلک کله فقد أفتوا باستحباب الوفاء به و کراهة مخالفته حتی المحدثین منهم کصاحبی الوسائل و المستدرک و غیرهما مع جمودهم علی ظهور الروایات،و ذلک یدلنا علی أنهم اطلعوا فی هذه الروایات علی قرینة الاستحباب،فأعرضوا عن ظاهرها.

و لکنا قد حققنا فی علم الأصول أن إعراض المشهور عن العمل بالروایة الصحیحة لا یوجب وهنها،کما أن عملهم بالروایة الضعیفة لا یوجب اعتبارها،إلا إذا رجع إعراضهم الی تضعیف الروایة،و رجع عملهم الی توثیقها.و إذن فلا وجه لرفع الید عن ظهور الروایات المذکورة علی کثرتها،و حملها علی الاستحباب.

و لکن الذی یسهل الخطب أن السیرة القطعیة بین المتشرعة قائمة علی جواز خلف الوعد، و علی عدم معاملة من أخلف بوعده معاملة الفساق.و لم نعهد من أعاظم الأصحاب ان ینکروا علی مخالفة الوعد کانکارهم علی مخالفة الواجب و ارتکاب الحرام،فهذه السیرة القطعیة تکون قرینة علی حمل الأخبار المذکورة علی استحباب الوفاء بالوعد،و کراهة مخالفته نعم الوفاء به و الجری علی طبقه من مهمات الجهات الأخلاقیة،بل ربما توجب مخالفته سقوط الشخص عن الاعتبار فی الأنظار،لحکم العقل و العقلاء علی مرجوحیته.

و مع ذلک کله فرفع الید عن ظهور الروایات،و حملها علی الاستحباب یحتاج إلی الجرأة و الأوفق بالاحتیاط هو الوفاء بالوعد.

و قد یستدل علی الحرمة أیضا بقوله تعالی (1): (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ کَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) .حیث قیل (2):(کبر أن تعدوا من أنفسکم ما لا تفون

ص:393


1- 1) سورة الصف،آیة:2.
2- 2) ج 5 مجمع البیان ط صیدا ص 278.

به مقتا عند اللّه).و قد استشهد الامام«ع»بهذه الآیة أیضا علی ذلک فی بعض الروایات المتقدمة فی الحاشیة.

و فیه ان الآیة أجنبیة عن حرمة مخالفة الوعد فإنها راجعة إلی ذم القول بغیر العمل و علیه فموردها أحد الأمرین علی سبیل مانعة الخلو.

الأول:ان یتکلم الإنسان بالأقاویل الکاذبة بأن یخبر عن أشیاء مع علمه بکذبها و عدم موافقتها للواقع و نفس الأمر،فإن هذا حرام بضرورة الإسلام کما تقدم.

الثانی:موارد الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر:بأن یأمر الناس بالمعروف،و یترکه هو،و ینهاهم عن المنکر،و یرتکبه،و هذا هو الظاهر من الآیة،و من الطبرسی فی تفسیرها (1).

و علیه فشأن الآیة شأن قوله تعالی (2): (أَ تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ) .

و هذا أیضا حرام بالضرورة بل هو أقوی من الأمر بالمنکر و النهی عن المعروف بالقول، لکونه ترویجا للباطل بالعمل،و من البدیهی أن تأثیره فی الترویج أقوی من تأثیر القول فیه و اما الوعید فمن حیث القاعدة یجری فیه ما جری فی الوعد إنشاء و إخبارا،و اما من حیث الروایات فلا تشمله الأحادیث المتقدمة فی الحاشیة الظاهرة فی الوجوب،بداهة انه لا یجب الوفاء بالوعید قطعا،بل قد یحرم ذلک فی بعض الموارد جزما.

خروج المبالغة عن الکذب موضوعا

قوله ثم إنه لا ینبغی الإشکال فی أن المبالغة فی الادعاء و إن بلغت ما بلغت لیست من الکذب. أقول:إذا کانت المبالغة بالزیادة علی الواقع کانت کذبا حقیقة،کما إذا اعطی زیدا درهما فیقول:أعطیته عشرة دراهم،أو إذا زار الحسین(علیه السلام)أو بقیة المشاهد المشرفة أو الکعبة المکرمة مرة واحدة فیقول:زرت عشرین مرة،و من هذا القبیل تأدیة المعنی بلفظ واحد موضوع للکثرة و المبالغة،کإطلاق الضراب علی الضارب،فإنه إخبار عن الکثرة بالهیئة.نعم لو قامت قرینة خارجیة علی إرادة الواقع،و کون استعمال اللفظ فیه لأجل المبالغة فقط لما کان کذبا.

و مثله ما هو متعارف بین المتحاورین من استعمال بعض الفصول من الاعداد فی مقام

ص:394


1- 1) ج 5 مجمع البیان ص 278.
2- 2) سورة البقرة،آیة:41.

التکثیر و الاهتمام،کلفظ سبع أو سبعین أو ألف،فیقول المولی لعبده مثلا:لو اعتذرت منی ألف مرة لما قبلت عذرک،و من ذلک قوله تعالی (1): (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِینَ مَرَّةً فَلَنْ یَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ) .کما ذکره الطبرسی[1]فإن الغرض من الآیة هو نفی الغفران رأسا.

و تجوز المبالغة أیضا بالتشبیه و الاستعارة،کتشبیه الرجل العالم بالبحر المواج،و تشبیه الوجه الحسن بفلقة القمر،و کالکنایة عن الجود بکثرة الرماد،و هزال الفصیل،و جبن الکلب،و استعارة الأسد و السیف البتار للرجل الشجاع،و لا یعد شیء منها کذبا،و کیف و القرآن الکریم و خطب الأئمة و کلمات الفصحاء مشحونة بذلک،بل ربما تکون هذه الخصوصیات و أمثالها موجبة لقوة الکلام،و وصوله الی حد الاعجاز أو ما یقرب منه.

و الوجه فی خروج المبالغة بأقسامها عن الکذب هو أن المتکلم إنما قصد الإخبار عن لب الواقع فقط،إلا أنه بالغ فی کیفیة الأداء،فتخرج عن الکذب موضوعا،نعم إذا انتفی ما هو ملاک المبالغة من وجه الشبه و نحوه کان الکلام کاذبا.

خروج التوریة عن الکذب

قوله و أما التوریة و هو أن یرید بلفظ معنی مطابقا للواقع. أقول:المعروف بین أهل اللغة و غیرهم أن الکذب نقیض الصدق فصدق الکلام بالمطابقة،و کذبه بعدم المطابقة و إنما الکلام فی بیان معنی المطابق(بالکسر)-و أنه عبارة عما یظهر من کلام المتکلم أو عبارة عن مراده منه-و بیان المطابق(بالفتح):و أنه عبارة عن الواقع و النسبة الخارجیة،أو عن اعتقاد المخبر،أو عن کلیهما.

فذهب المشهور الی أن صدق الخبر مطابقته بظهوره للواقع،و کذبه عدم مطابقته للواقع بدعوی أن هیئة الجملة الخبریة إنما وضعت لتحقق النسبة فی الخارج،سواء کانت النسبة ثبوتیة أو سلبیة،کما أن ألفاظ أجزائها موضوعة للمعان التصوریة من الموضوع و المحمول و متعلقاتها،فمطابقة الخبر لتلک النسبة الخارجیة الواقعیة صدق،و عدمها کذب،فإذا قیل:

ص:395


1- 1) سورة التوبة:آیة 81.

زید قائم فإن هذا القول یدل علی تحقق النسبة الخبریة فی الخارج أعنی اتصاف زید بالقیام، فان طابقها کان صادقا،و إن خالفها کان کاذبا.

و فیه أولا:أنه قد لا تکون للنسبة خارجیة أصلا کقولنا شریک الباری ممتنع،و اجتماع النقیضین محال،و الدور أو التسلسل باطل،و ما سوی اللّه ممکن،إذ لا وجود للامتناع و الإمکان و البطلان فی الخارج.إلا أن یقال:إن المراد بالخارج ما هو أعم منه و من نفس الأمر،و من البین أن الأمثلة المذکورة مطابقة للنسبة فی نفس الأمر،و تفسیر الخارج بذلک ظاهر المحقق التفتازانی حیث قال فی المطول بعد تفسیره الصدق بمطابقة الخبر للواقع، و الکذب بعدم مطابقته للواقع:(و هذا معنی مطابقة الکلام للواقع و الخارج و ما فی نفس الأمر).

و ثانیا:أن الالتزام المذکور لا یتفق مع تعریف القضیة بأنها تحتمل الصدق و الکذب، فإن دلالة الجملة علی وقوع النسبة فی الخارج تقتضی الجزم بالوقوع،و مقتضی التعریف المذکور هو الشک فی ذلک،و هما لا یجتمعان.

و ثالثا:لو کانت الجمل الخبریة بهیئاتها موضوعة للنسبة الخارجیة لکانت دلالتها علیها قطعیة.کما أن دلالة الألفاظ المفردة علی معانیها التصوریة قطعیة،فإن الشک لا یتطرق إلی الدلالة بعد العلم بالموضوع له و إرادة اللافظ،مع أنه لا یحصل للمخاطب بعد سماع الجمل الخبریة غیر احتمال وقوع النسبة فی الخارج،و قد کان هذا الاحتمال حاصلا قبل سماعها.

لا یقال:قد یحصل العلم بوقوع النسبة فی الخارج من إخبار المتکلم لقوة الوثوق به، فإنه یقال:لیس موضع بحثنا إذا اشتملت الجملة الخبریة علی قرائن خارجیة تدل علی صدقها، بل مورد الکلام هو نفس الخبر العاری عن القرائن،علی أنه لا یتم إلا مع الوثوق بالمتکلم، و مورد البحث أعم من ذلک.

لا یقال:إن المخاطب یحصل له من سماع الخبر ما لم یحصل قبله من العلوم،فکیف یسوغ القول:بأن استماع الخبر لم یفده غیر ما کان یعرفه أولا.

فإنه یقال:إن ما یحصل للمخاطب من المعانی التصوریة و غیرها فیما سنذکره غیر مقصود للقائل بوضع الجمل الخبریة للنسب الخارجیة،و ما هو مقصوده لا یحصل من ذلک.

و عن النظام و من تابعه:إن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر،و کذبه عدمها و إن کان الاعتقاد خطأ،و استدل علیه بآیة المنافقین (1)بدعوی أن اللّه سجل علیهم بأنهم

ص:396


1- 1) سورة المنافقین،آیة:1.

لکاذبون فی قولهم:إنک لرسول اللّه،لعدم اعتقادهم بالرسالة المحمدیة و إن کان قولهم مطابقا للواقع.

و أجابوا عنه بأن المنافقین لکاذبون فی شهادتهم للرسالة،لعدم کونها عن خلوص الاعتقاد.و توضیح ذلک یحتاج الی مقدمتین:

الاولی:أن الشهادة فی العرف و اللغة (1)بمعنی الحضور سواء کان حضورا خارجیا -کقوله تعالی (2): (فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ) .و کقول المسافر:شاهدت البلد الفلانیة و أقمت فیها-أم حضورا ذهنیا،کحضور الواقعة فی ذهن الشاهد.

الثانیة:أن المخبر به قد یکون أمرا خارجیا،و قد یکون أمرا اعتباریا،و قد یکون أمرا ذهنیا کالإخبار عن الصور النفسانیة.

فیتجلی من هاتین المقدمتین أن الأخبار عن الشهادة بالرسالة مبنی علی حضور المخبر به و المشهود به فی صقع الذهن،لأن الشهادة لیست من الأعیان الخارجیة،و حیث إن المنافقین غیر معتقدین بالرسالة،و لم یکن المخبر به و هو الاعتقاد بالنبوة موجودا فی أذهانهم فرماهم اللّه الی الکذب و الفریة،فلا دلالة فی الآیة علی مقصود النظام.

و یضاف الی ذلک انه لو أخبر أحد عن قضیة لم یعتقد بوقوعها فی الخارج و هی واقعة فیه،فإنه علی مسلک النظام خبر کاذب،مع أنه صادق بالضرورة.

و عن الجاحظ أن صدق الخبر مطابقته للواقع و الاعتقاد معا،و کذبه عدم مطابقته لهما معا،و غیر ذلک لا صدق و لا کذب،و استدل علی رأیه هذا بقوله تعالی (3): (أَفْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) .فإن الأخبار حال الجنة غیر الکذب،لأنهم جعلوه قسیما للافتراء و غیر الصدق،لعدم مطابقته للواقع فی عقیدتهم.

و فیه أنا نری بالعیان،و نشاهد بالوجدان و بحکم الضرورة انحصار الخبر بالصدق و الکذب و عدم الواسطة بینهما.و أما الآیة المذکورة فهی غریبة عن مقصود الجاحظ، لأن الظاهر منها أن المشرکین نسبوا أخبار النبی(صلی الله علیه و آله)الی الافتراء الذی هو کذب خاص، أو الی الإخبار حال الجنة الذی لا أثر له عند العقلاء.

و التحقیق أن الجمل بأجمعها خبریة کانت أم إنشائیة قد وضعت بهیئاتها النوعیة لابراز الصور الذهنیة،و إظهار الدعاوی النفسانیة(ما شئت فعبر)فان الواضع(أی شخص کان) إنما تعهد(و تابعه بقیة الناس)بأنه متی أراد ان یبرز شیئا من دعاویه و مقاصده ان یتکلم

ص:397


1- 1) فی المنجد:شهد المجلس حضره.
2- 2) سورة البقرة،آیة:181.
3- 3) سورة سبأ،آیة:8.

بجملة مشتملة علی هیئة خاصة تفی بمراده و أداء دعواه فی مقام المحادثة و المحاورة،و هذه الجهة:أعنی إبراز المقاصد النفسانیة بمظهر إنما هی فی مرحلة دلالة اللفظ علی معناه الموضوع له،فیشترک فیها جمیع الجمل خبریة کانت أم إنشائیة،بل یشترک فیها جمیع الألفاظ الموضوعة مفردة کانت أم مرکبة.

و الوجه فیه أن دلالة اللفظ علی معناه بحسب العلقة الوضعیة أمر ضروری،فلا یعقل الانفکاک بینهما فی مرحلة الاستعمال إلا بانسلاخ اللفظ عن معناه بالقرائن الخارجیة.

و هذه الدعاوی النفسانیة علی قسمین:

الأول:ان تکون أمرا اعتباریا محضا و قائما بنفس المعتبر:بأن یعتبر فی نفسه شیئا ثم یظهره فی الخارج بمبرز من لفظ أو غیره من دون قصد للحکایة عن شیء،و هذا یسمی إنشاء،و لا یتصف بالصدق و الکذب بوجه،لأنه شیء یقوم بالاعتبار الساذج کما عرفت.

الثانی:ان تکون حاکیة عن شیء آخر،سواء کان هذا المحکی من القضایا الخارجیة کقیام زید فی الخارج أم من الأوصاف النفسانیة کالعلم و الشجاعة و السخاوة و نحوها، و هذه الحکایة إن طابقت للواقع المحکی اتصفت الدعاوی المذکورة بالصدق،و إلا فهی کاذبة و أما اتصاف الجمل الخبریة بهما فمن قبیل اتصاف الشیء بحال متعلقة،کرجل منیع جاره و مؤدب خدامه،و رحب فناؤه.

فتحصل من جمیع ما ذکرناه ان المراد من المطابق(بالکسر)هو مراد المتکلم:أی الدعاوی النفسانیة،لا ظهور کلامه کما توهم،و ان المراد من المطابق(بالفتح)هو الواقع و نفس الأمر المحکی بالدعاوی النفسانیة.

و إذا عرفت ما تلوناه علیک فنقول:لا شبهة فی خروج التوریة عن الکذب موضوعا فإنها فی اللغة[1]بمعنی الستر،فکأن المتکلم واری مراده عن المخاطب بإظهار غیره،و خیل إلیه انه أراد ظاهر کلامه،و قد عرفت آنفا ان الکذب هو مخالفة الدعاوی النفسانیة للواقع، لا مخالفة ظاهر الکلام له،و یتفرع علی هذا ان جواز التوریة لا یختص بمورد الاضطرار و نحوه،لأنها لیست من مستثنیات الکذب،بل هی خارجة عنه موضوعا،و من هنا ذهب الأصحاب«فیما سیأتی من جواز الکذب عند الضرورة»إلی وجوب التوریة مع التمکن منها،و عللوا ذلک بتمکن المتکلم مما یخرج به کلامه عن الکذب.

ثم إن الکلام الذی یوری به قد یکون ظاهرا فی بیان مراد المتکلم،و لکن المخاطب

ص:398

لغباوته و قصور فهمه لا یلتفت الیه،و هذا خارج عن التوریة،بل هو کسائر الخطابات الصادرة من المتکلم فی مقام المحادثة و المحاورة،و من هذا القبیل ما نقل عن بعض الأجلة ان شخصا اقترح علیه ان یعطیه شیئا من الدراهم،و کان یراه غیر مستحق لذلک،فألقی السبحة من یده،و قال:و اللّه إن یدی خالیة،و تخیل السائل من کلامه انه غیر متمکن من ذلک و قد یکون الکلام ظاهرا فی غیر ما اراده المتکلم،و هو مورد التوریة،کما إذا أراد احد ان ینکر مقالته الصادرة منه فیقول:علم اللّه ما قلته،و یظهر کلمة الموصول علی صورة أداة النفی،و یخیل الی السامع انه ینکر کلامه.

و من هذا القبیل ما ذکره سلطان المحققین فی حاشیة المعالم فی البحث عن المجمل.من (انه سئل احد العلماء عن علی«ع»و أبی بکر أیهما خلیفة رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)فقال:من بنته فی بیته،و منه قول عقیل«ع»أمرنی معاویة أن ألعن علیا ألا فالعنوه).

و من هذا القبیل أیضا ما سئل بعض الشیعة عن عدد الخلفاء فقال:أربعة أربعة أربعة، و إنما قصد منها الأئمة الاثنی عشر،و زعم السائل انه أراد الخلفاء الأربع.

و مما یدل علی جواز التوریة،و خروجها عن الکذب الأمور:

الأول:نقل ابن إدریس فی آخر السرائر (1)من کتاب عبد اللّه بن بکیر عن أبی عبد اللّه «ع»(فی الرجل یستأذن علیه فیقول للجاریة:قولی لیس هو ههنا؟قال:لا بأس لیس بکذب).

الثانی:روی سوید بن حنظلة[1]:(قال:خرجنا و معنا و إبل بن حجر یرید النبی(صلی الله علیه و آله) فأخذه أعداء له فخرج القوم ان یحلفوا و حلفت باللّه انه أخی فخلی عنه العدو فذکرت ذلک للنبی(صلی الله علیه و آله)فقال:صدقت المسلم أخو المسلم).و هی و إن کانت ظاهرة الدلالة علی جواز التوریة،و عدم کونها من الکذب،و لکنها ضعیفة السند.

الثالث:ما ورد[2]من نفی الکذب عن قول إبراهیم«ع»:(بل فعله کبیرهم هذا).

ص:399


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 141 جواز الکذب فی الإصلاح من عشرة الحج ص 234.

مع أن کبیرهم لم یفعله،و عن قوله«ع»: (إِنِّی سَقِیمٌ) و ما کان سقیما،و عن قول یوسف (أیتها العیر إنکم لسارقون)و ما کانوا سراقا،فیدل ذلک کله علی کون الأقوال المذکورة من التوریة،و أن التوریة خارجة عن الکذب موضوعا.

نعم یمکن أن یقال:إن نفی الکذب عن قول إبراهیم و یوسف«ع»إنما هو بلحاظ نفی الحکم،و أنهما قد ارتکبا الکذب لإرادة الإصلاح.

و یدل علی قوله«ع»فی روایة الصیقل:(إن إبراهیم إنما قال:بل فعله کبیرهم هذا، إرادة الإصلاح و قال یوسف إرادة الإصلاح).و قوله«ع»فی روایة عطا:(لا کذب علی مصلح،ثم تلا:أیتها العیر إلخ).و قد تقدمت الروایتان فی الحاشیة.

و یؤیده ما فی بعض أحادیث العامة (1):(إن إبراهیم کذب ثلاث کذبات:قوله: إِنِّی سَقِیمٌ ،و قوله: بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا ،و قوله فی سارة:إنها أختی).

و لکن الروایات المذکورة کلها ضعیفة السند،کما أن بقیة الأحادیث التی اطلعت علیها فی القصص المزبورة مشتملة علی ضعف فی السند أیضا و جهالة فی الراوی،فلا یمکن الاستناد إلیها بوجه.

ص:400


1- 1) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 198.و ج 4 مجمع البیان ط صیدا ص 450.
رفع غشاوة

قد یتوهم أنه لا محیص أن تکون أقوال إبراهیم و یوسف المذکورة کاذبة،غایة الأمر أنها من الأکاذیب الجائزة،أما قول إبراهیم«ع»: (إِنِّی سَقِیمٌ) .و قول یوسف«ع»:

(أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ) .فصدق الکذب علیهما واضح.

و أما قول إبراهیم«ع»:(بل فعله کبیرهم هذا فاسألوهم إن کانوا ینطقون).فلأن الشرط فیه إما أن یرجع الی السؤال المذکور فیه،و إما أن یرجع الی الفعل،فان کان راجعا إلی السؤال انحلت الآیة الکریمة إلی قضیتین:إحداهما حملیة:و هی قوله تعالی (بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا) و الثانیة إنشائیة مشروطة،و هی قوله تعالی (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ) أما القضیة الأولی فهی کاذبة لکونها غیر مطابقة للواقع.و أما القضیة الثانیة فهی إنشائیة لا تتصف بالصدق و الکذب.

و إن کان راجعا الی الفعل الذی نسبه الی کبیرهم کانت الآیة مسوقة لبیان قضیة شرطیة مقدمها قوله تعالی: (بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا) و تالیها قوله تعالی: (کانُوا یَنْطِقُونَ) فقد دخلت علیها أداة الشرط،و جعلتهما قضیة واحدة شرطیة،و من البدیهی أنها أیضا کاذبة، فإن الصدق و الکذب فی القضایا الشرطیة یدوران مدار صحة الملازمة و فسادها،و لا شبهة أنها منتفیة فی المقام،بداهة أنه لا ملازمة بین نطق کبیر الأصنام و بین صدور الفعل منه، بل الفعل قد صدر من إبراهیم علی کل تقدیر،سواء نطق کبیرهم أم لم ینطق.

أقول:أما رمی قول إبراهیم: (بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا) بالکذب فجوابه أنا قد حققنا فی مبحث الواجب المشروط من علم الأصول أن الشروط فی الواجبات المشروطة إما أن ترجع إلی الإنشاء:أعنی به إبراز الاعتبار النفسانی.و إما أن ترجع الی متعلق الوجوب:أی المادة المحضة کما فی الواجب المعلق علی ما نسب الی المصنف فی التقریرات.و إما أن ترجع إلی المنشأ،و هو ما اعتبره فی النفس ثم أبرزه بالإنشاء،فیکون مرجع القید فی قولنا:إن جاءک زید فأکرمه هو وجوب الإکرام،فیصیر مقیدا بمجیء زید.

أما الأول فهو محال،لأن الإنشاء من الأمور التکوینیة التی یدور أمرها بین الوجود و العدم،فإذا أوجده المتکلم استحال أن یتوقف وجوده علی شیء آخر،لاستحالة انقلاب الشیء عما هو علیه.

و أما الثانی فهو و إن کان ممکنا فی مرحلة الثبوت،و لکنه خلاف ظاهر الأدلة فی مقام

ص:401

الإثبات،و لا یمکن المصیر الیه بدون دلیل و قرینة،و إذن فیتعین الاحتمال الثالث.

و هذا الکلام بعینه جار فی القضایا المشروطة من الجمل الخبریة أیضا،فإن إرجاع القید فیها الی نفس الإخبار:أی الألفاظ المظهرة للدعاوی النفسانیة غیر معقول،لتحققه بمجرد التکلم بالقضیة الشرطیة،و لا یعقل بعد ذلک أن تکون موقوفة علی حصول قید أو شرط.

و اما إرجاعه إلی متعلق الخبر و هو و إن کان سائغا فی نفسه،و لکنه خلاف ظاهر القضایا الشرطیة.و ح فیتعین إرجاعه إلی المخبر به،و هو الدعاوی النفسانیة،مثلا إذا قال أحد:إن کانت الشمس طالعة فالنهار موجود،فان معناه أن دعوی تحقق النهار مقیدة بطلوع الشمس،و مع عدم طلوعها فالدعوی منتفیة.

و علیه فتقدیر الآیة(بل فعله کبیرهم إن نطقوا فاسألوهم)فقد علقت الدعوی علی نطق کبیرهم،و لما استحال نطقه انتفت الدعوی،فلا تکون کاذبة.و نظیر ذلک قولک:

فلان صادق فیما یقول إن لم یکن فوقنا سماء،و کقولک أیضا:لا اعتقد إلاها إن کان له شریک،و لا اعتقد خلیفة للرسول(صلی الله علیه و آله)إن لم یکن منصوبا من اللّه.هذا فاغتنم.

و یؤید ما ذکرناه خبر الاحتجاج[1]عن الصادق«ع»إنه قال:(ما فعله کبیرهم و ما کذب إبراهیم،قیل:و کیف ذلک؟فقال:إنما قال إبراهیم:إن کانوا ینطقون،فان نطقوا فکبیرهم فعل و إن لم ینطقوا فلم یفعل کبیرهم شیئا فما نطقوا و ما کذب إبراهیم).

و قد ذکر المفسرون وجوها لتفسیر الآیة (1)فراجع.

و أما رمی قول إبراهیم:(إنی سقیم)بالکذب فجوابه ان المراد به کونه سقیما فی دینه أی مرتادا و طالبا فی دینه.و یؤیده ما فی خبر الاحتجاج المتقدم عن الصادق«ع»من قوله (ما کان إبراهیم سقیما و ما کذب و إنما عنی سقیما فی دینه:أی مرتادا).و معنی المرتاد فی اللغة هو الطلب و المیل:أی إنی طالب فی دینی و مجد لتحصیل الاعتقاد بالمبدإ و المعاد، فقد خیل بذلک الی عبدة الأصنام و النجوم انه مریض لا یقدر علی التکلم،فتولوا عنه مدبرین،و أخروا المحاکمة إلی وقت آخر،و للعلماء فیه وجوه اخری قد ذکرها المفسرون فی تفاسیرهم.

و أما رمی قول یوسف«ع»:(أیتها العیر انکم لسارقون)بالکذب فقد ذکروا فی الجواب عنه وجوها:أظهرها ان المؤذن لم یقل:أیتها العیر انکم لسرقتم صواع الملک،بل قال:انکم لسارقون،و لعل مراده انکم سرقتم یوسف من أبیه،ألا تری انهم لما سألوا:

ص:402


1- 1) راجع ج 4 مجمع البیان ط صیدا ص 53.

ماذا تفقدون؟قالوا لهم:نفقد صواع الملک،و لم یقولوا:سرقتم ذلک.

و یؤیده ما فی خبر الاحتجاج المتقدم عن الصادق«ع»من قوله انهم سرقوا یوسف من أبیه ألا تری إلخ).

مسوغات الکذب
جواز الکذب لدفع الضرورة

قوله فاعلم انه یسوغ الکذب لوجهین:أحدهما الضرورة إلیه فیسوغ معها بالأدلة الأربعة. أقول:لا شبهة فی کون الکذب حراما فی نفسه و مبغوضا بعینه،لظاهر الأدلة المتقدمة المطبقة علی حرمته.و علی هذا فلا وجه لما زعمه الغزالی (1)من(ان الکذب لیس حراما بعینه،بل فیه من الضرر علی المخاطب أو علی غیره،فإن أقل درجاته أن یعتقد المخبر الشیء علی خلاف ما هو علیه فیکون جاهلا،و قد یتعلق به ضرر غیره).

نعم الظاهر ان حرمة الکذب لیست ذاتیة کحرمة الظلم،و لذا یختلف حکمه بالوجوه و الاعتبارات،و علیه فإذا توقف الواجب علی الکذب،و انحصرت به المقدمة وقعت المزاحمة بین حرمة الکذب و بین ذلک الواجب فی مقام الامتثال،و جرت علیهما أحکام المتزاحمین.

مثلا إذا توقف إنجاء المؤمن و دفع الهلکة عنه علی الکذب کان واجبا.

و قد استدل المصنف علی جواز الکذب فی مورد الاضطرار بالأدلة الأربعة:اما الإجماع فهو و إن کان محققا،و لکنه لیس إجماعا تعبدیا کاشفا عن رأی المعصوم،فان الظاهر ان المجمعین قد استندوا فی فتیاهم بالجواز الی الکتاب و السنة،فلا وجه لجعله دلیلا مستقلا فی المسألة،و قد مر نظیر ذلک مرارا.

و أما العقل فهو و إن کان حاکما بجواز الکذب لدفع الضرورات فی الجملة،کحفظ النفس المحترمة و نحوه،إلا انه لا یحکم بذلک فی جمیع الموارد،فلو توقف علی الکذب حفظ مال یسیر لا یضر ذهابه بالمالک فان العقل لا یحکم بجواز الکذب ح.

و اما الکتاب فقد ذکر المصنف منه آیتین:الاولی قوله تعالی (2): (مَنْ کَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ وَ لکِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ) .و تقریر الاستدلال ان الآیة الشریفة تدل بالمطابقة علی جواز

ص:403


1- 1) راجع ج 3 إحیاء العلوم بیان ما رخص فیه من الکذب ص 121.
2- 2) سورة النحل،آیة:108.

التکلم بکلمة الکفر و الارتداد عن الإسلام عند الإکراه و الاضطرار بشرط ان یکون المتکلم معتقدا باللّه و مطمئنا بالایمان،فتدل علی جواز الکذب فی غیر ذلک للمکره بطریق أولی الثانیة:قوله تعالی (1): (لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أی لا یجوز للمؤمنین أن یتخذوا الکافرین أولیاء لأنفسهم یستعینون بهم،و یلتجؤن إلیهم،و یظهرون المحبة و المودة لهم إلا ان یتقوا منهم تقاة،فإنه ح یجوز إظهار مودتهم تقیة منهم،فتدل هذه الآیة أیضا علی جواز الکذب فی سائر موارد التقیة بالأولی.

و لکن لا دلالة فی الآیتین علی جواز الکذب فی جمیع موارد الاضطرار غیر مورد الخوف و التقیة.

و أما الأخبار المجوزة للکذب فی موارد الخوف و التقیة فهی أکثر من ان تحصی، و قد استفاضت،بل تواترت علی جواز الحلف کاذبا لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو عن أخیه،و ستأتی الإشارة إلی جملة منها.

قوله إنما الاشکال و الخلاف فی انه هل یجب ح التوریة لمن یقدر علیها أم لا؟. أقول:

قد وقع الخلاف بین الاعلام فی ان جواز الکذب هل هو مقید بعدم التمکن من التوریة أم لا؟ فنسب المصنف القول الأول إلی ظاهر المشهور.

و لکن العبارات التی نقلها عنهم إما غیر ظاهرة فی مقصوده،و إما ظاهرة فی خلافه.

أما الأول:فکالمحکی عن الغنیة و السرائر و ئع وعد و اللمعة و شرحها و جامع المقاصد و غیرها من الکتب،فان مفروض الکلام فیها إنما هو اشتراط جواز الحلف الکاذب بعدم التمکن من التوریة.و أما جواز مطلق الکذب فهو خارج عن مورد کلامهم،فإنهم قالوا فی مسألة جواز الحلف لدفع الظالم عن الودیعة:انه یجوز الحلف کاذبا إذا لم یحسن التوریة،و إلا فیوری بما یخرجه عن الکذب.

و اما الثانی:فکالمحکی عن المقنعة حیث قال:(من کانت عنده امانة فطالبها ظالم فلیجحد و إن استحلفه ظالم علی ذلک فلیحلف،و یوری فی نفسه بما یخرجه عن الکذب-الی ان قال-:

فان لم یحسن التوریة و کانت نیته حفظ الأمانة أجزأته النیة و کان مأجورا).

اما ان هذه العبارة ظاهرة فی خلاف مقصود المصنف فلان المذکور فیها أمران:

الأول:إذا طلب الظالم الودیعة من الودعی جاز له إنکارها مطلقا سواء تمکن من التوریة أم لا.

ص:404


1- 1) سورة آل عمران،آیة:27.

الثانی:إذا استحلف الظالم الودعی علی إنکار الودیعة جاز له الحلف مع عدم التمکن من التوریة.و لو کان نظر صاحب المقنعة إلی اعتبار التمکن من التوریة فی جواز مطلق الکذب لم یفصل بین الحلف و غیره.و علی الاجمال فلا دلالة فی شیء من هذه العبارات المنقولة عن الأصحاب علی مقصود المصنف.ثم إن المصنف وجه ما نسبه الی المشهور بوجهین،و سنتعرض لهما فیما بعد إنشاء اللّه.

قوله إلا ان مقتضی إطلاقات أدلة الترخیص فی الحلف کاذبا لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو أخیه عدم اعتبار ذلک) .أقول:بعد ما نسب المصنف القول المذکور الی ظاهر المشهور،و وجهه بوجهین آتیین حاول استفادة حکم المسألة من الاخبار و جعل اعتبار عدم التمکن من التوریة فی جواز الحلف کاذبا موافقا للاخبار و ذکر جملة منها و ترک جملة أخری،و أحال بعضها الی ما یأتی من جواز الکذب فی الإصلاح،و هی بأجمعها[1] ظاهرة فی جواز الحلف الکاذب لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو عن أخیه علی وجه الإطلاق،و لیست مقیدة بعدم التمکن من التوریة،و هی تدل بطریق الأولویة علی جواز الکذب بغیر حلف لدفع الضرر.

و قد استحسن المصنف عدم اعتبار القید المزبور،لأن إیجاب التوریة علی القادر لا یخلو

ص:405

عن الإلزام بالعسر و الخرج(فلو قیل:بتوسعة الشارع علی العباد بعدم ترتیب الآثار علی الکذب فیما نحن فیه و إن قدر علی التوریة کان حسنا).

ثم انه(ره)احتاط فی المسألة،و رجع الی ما نسبه الی ظاهر المشهور،و جعله مطابقا للقاعدة،و قال:(إلا ان الاحتیاط فی خلافه،بل هو المطابق للقواعد لو لا استبعاد التقیید فی هذه المطلقات،لأن النسبة بین هذه المطلقات و بین ما دل کالروایة الأخیرة و غیرها علی اختصاص الجواز بصورة الاضطرار المستلزم للمنع مع عدمه مطلقا عموم من وجه،فیرجع الی عمومات حرمة الکذب فتأمل).فمراده من التقیید ما ذکره قبیل هذا بقوله یصعب علی الفقیه التزام تقییدها بصورة عدم القدرة علی التوریة).و مراده من المطلقات ما ذکره من الأخبار الواردة فی جواز الحلف الکاذب لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو عن أخیه،و ما یأتی من الأخبار الواردة فی جواز الکذب للإصلاح.

و توضیح مرامه:أنه إذا قطعنا النظر عن استبعاد التقیید فی هذه المطلقات فان ما ذهب الیه المشهور هو الموافق للاحتیاط،و المطابق للقواعد،لأن النسبة بین المطلقات المزبورة و بین روایة سماعة[1]و ما فی معناها[2]هی العموم من وجه،فان بعض المطلقات ظاهرة فی جواز الکذب لمجرد إرادة الإصلاح،و بعضها ظاهر فی جواز الحلف الکاذب لدفع الضرر البدنی أو المالی عن نفسه أو عن أخیه،سواء بلغ ذلک حد الاضطرار أم لا،و روایة سماعة و ما یساویها فی المضمون ظاهرة فی اختصاص جواز الحلف کاذبا بصورة الخوف و الاضطرار و الإکراه،فتدل بمفهومها علی حرمته فی غیر الموارد المذکورة.و ح فتقع المعارضة بین مفهوم روایة سماعة و بین مطلقات الحلف الکاذب فی غیر الموارد المذکورة،کما تقع المعارضة بینها و بین مطلقات الکذب لإرادة الإصلاح فی غیر الموارد المذکورة أیضا.فیتساقطان فی مورد الاجتماع،و یرجع الی عمومات حرمة الکذب.

و لا بعد فی تقیید المطلقات،فإنها واردة بلحاظ حال عامة الناس الذین لا یلتفتون إلی التوریة لیقصدوها،و یلتجئوا إلیها عند الخوف و التقیة.و علیه فلا بأس بتقییدها بمن یتمکن من التوریة.

ص:406

و قد أورد المحقق الایروانی علی المصنف بوجهین:

الوجه الأول:أنه لا مفهوم لروایة سماعة،فإنها ناظرة إلی جواز الکذب لأجل الإکراه و الاضطرار.و أما جوازه فی غیر مورد الضرورة أو حرمته فیه فخارج عن الروایة.

و فیه أن الظاهر من المحقق المذکور أنه إنما نفی المفهوم عن الروایة،لأنه لم ینظر إلا الی ذیلها،و هو مسوق لضرب قاعدة کلیة لیس لها مفهوم،و من المعلوم أن المصنف إنما أثبت المفهوم للروایة نظرا الی صدرها،و لا شبهة أنه قضیة شرطیة مشتملة علی عقد شرطی إیجابی،و هو المنطوق،و علی عقد شرطی سلبی و هو المفهوم.

الوجه الثانی:أنا لو سلمنا المعارضة المذکورة التی أبداها المصنف بین مفهوم روایة سماعة و بین المطلقات المزبورة،فإنه لا وجه للرجوع الی مطلقات حرمة الکذب،إذ النسبة بین الإطلاقین هی العموم من وجه،و بعد تعارضهما فی مادة الاجتماع و تساقطهما فیها یرجع الی أصالة الحل.

و فیه أنه لم یظهر لنا مراده من هذا الإشکال،فإن النسبة بین الإطلاقین هی العموم المطلق،لأن ما دل علی جواز الکذب أخص مما دل علی حرمته،و إذن فلا مناص عن تقیید مطلقات حرمة الکذب بما دل علی جوازه فی موارد خاصة.

و التحقیق أنه لا وجه لرفع الید عن المطلقات الدالة علی جواز الحلف کاذبا لإنجاء النفس المحترمة من الهلکة،و لحفظ مال نفسه أو مال أخیه عن التلف،فقد ذکرنا فی مبحث التعادل و الترجیح من علم الأصول أن من المرجحات فی الدلیلین المتعارضین بالعموم من وجه ان یلزم من تقدیم أحدهما إلغاء العنوان المأخوذ فی الدلیل الآخر علی سبیل الموضوعیة بخلاف العکس،و قد مثلنا له فی بعض المباحث السابقة (1)بأمثلة متعددة،و واضح أن ما نحن فیه من هذا القبیل،فان المطلقات المذکورة دلت علی جواز الحلف کاذبا لإنجاء النفس المحترمة،و لحفظ مال نفسه أو مال أخیه،و هی مشترکة مع روایة سماعة و ما فی معناها فی تجویز الحلف کاذبا للإکراه و الاضطرار،و إنما تمتاز المطلقات عن روایة سماعة و ما یساویها فی المضمون باشتمالها علی جواز الحلف الکاذب فی غیر موارد الخوف و الاضطرار أیضا.

و علیه فلو قدمنا روایة سماعة و ما فی مضمونها علی المطلقات المزبورة،و حکمنا لذلک بحرمة الحلف کاذبا فی غیر موارد الإکراه و الاضطرار لکانت العناوین المأخوذة فی تلک

ص:407


1- 1) ص 99 و ص 100.

المطلقات:أعنی حفظ النفس و المال لنفسه أو لأخیه کلها لاغیة.

و اما لو قدمنا المطلقات و حفظنا العناوین المذکورة فیها فإنه لا یلزم منه إلا إلغاء المفهوم فقط عن روایة سماعة و ما فی معناها.و نتیجة ذلک أنه یجوز الحلف کاذبا لإنجاء النفس المحترمة،و لحفظ مال نفسه أو مال أخیه علی وجه الإطلاق،فیقید بها ما دل علی حرمة الکذب علی وجه الإطلاق.

لا یقال:إن حرمة الکذب ذاتیة،لاستقلال العقل بقبحه،فلیست قابلة للتخصیص، و أما ارتکابه فی موارد الضرورة فلأن العقل یستقل بوجوب ارتکاب أقل القبیحین.

فإنه یقال:قد عرفت آنفا أن العقل لا یستقل بقبح الکذب فی نفسه إلا إذا ترتبت علیه المفسدة،فلا تکون حرمته ذاتیة لا تقبل التخصیص،فیکشف من تجویز الشارع الکذب فی بعض الموارد أنه لیس بقبیح،لا أنه من باب حکم العقل بارتکاب أقل القبیحین.

و قد وجه المصنف کلام المشهور بوجهین:الأول:أن الکذب حرام،و مع التمکن من التوریة لا یحصل الاضطرار الیه،فیدخل تحت العمومات.

الثانی:أن قبح الکذب عقلی،فلا یسوغ إلا مع عروض عنوان حسن علیه یغلب علی قبحه،و هذا لا یتحقق إلا مع العجز عن التوریة.و لکن قد ظهراک مما قدمناه آنفا ضعف الوجهین المذکورین.

و أما المطلقات الدالة علی جواز الکذب للإصلاح فلا معارضة بینها و بین روایة سماعة و ما فی معناها،و وجه ذلک أن تلک المطلقات انما دلت علی جواز الکذب للإصلاح، و روایة سماعة و ما فی مضمونها انما دلت علی حرمة الحلف کاذبا فی غیر موارد الإکراه و الاضطرار و الخوف،فلا وجه لوقوع المعارضة بینهما کما یرومه المصنف.

لا یقال:ان ما دل علی جواز الحلف کاذبا لحفظ النفس و المال دل علی جواز الکذب لهما بطریق الأولویة کما أشرنا إلیه سابقا،و علیه فتقع المعارضة بینهما و بین روایة سماعة و ما فی مضمونها فی مطلق الکذب أیضا.

فإنه یقال:لا منافاة بین جواز الکذب لحفظ النفس و المال و بین مفهوم روایة سماعة من تخصیص حرمة الحلف کاذبا بغیر موارد الإکراه و الاضطرار.

قوله ثم ان أکثر الأصحاب مع تقییدهم جواز الکذب بعدم القدرة علی التوریة إلخ) أقول:حاصل کلامه:أن أکثر الأصحاب قیدوا جواز الکذب بعدم التمکن من التوریة و مع ذلک فقد أطلقوا القول بفساد ما اکره علیه من العقود و الإیقاعات،و لم یقیدوا ذلک بعدم القدرة علی التوریة،و صرح الشهید الثانی(ره)فی الروضة و لک فی باب الطلاق

ص:408

بعدم اعتبار العجز عنها،بل فی کلام بعضهم دعوی الاتفاق علیه.

و قد أورد المصنف علی ذلک بأن المکره علی البیع انما أکره علی التلفظ بصیغة البیع،و لم یکره علی حقیقته،فالإکراه علی البیع الحقیقی یختص بغیر القادر علی التوریة،کما ان الاضطرار علی الکذب مختص بالعاجز عنها،و علیه فإذا أکره علی البیع فلم یورّ مع قدرته علی التوریة فقد أوجد البیع بإرادته و اختیاره،فیکون صحیحا.

و أجاب عن هذا الإیراد بوجود الفارق بین المقامین،و حاصله:أن ما أکره علیه فی باب المعاملات إنما هو نفس المعاملة و واقعها،و الأخبار الدالة علی رفع ما استکره علیه کحدیث الرفع و نحوه لم تقید ذلک بعدم القدرة علی التوریة،فإذا أوجد المکره المعاملة فقد أوجد نفس ما أکره علیه،و یرتفع أثره بالإکراه.و هذا بخلاف الکذب،فإنه لا یجوز إلا فی مورد الاضطرار،و من المعلوم أن الاضطرار لا یتحقق مع التمکن من التوریة.

و فیه أولا:أنه لا فارق بین الإکراه و الاضطرار،لأن الإکراه فی اللغة حمل المکره علی أمر و إجباره علیه من غیر رضی منه،و لا شبهة فی أن هذا المعنی لا یتحقق إذا أمکن التفصی،کما هو الحال فی الاضطرار.

و ثانیا:أنا لو لم نعتبر فی مفهوم الإکراه أن لا یتمکن المکره من التفصی فإن لازم ذلک جواز ارتکاب المحرمات إذا أکره علیها و إن کان قادرا علی التخلص،کما إذا أکرهه أحد علی شرب الخمر،و کان متمکنا من هراقتها علی جیبه.و کما إذا أکرهه جائر علی أخذ أموال الناس بالظلم و العدوان،و کان متمکنا من أن یدفع مال الظالم الیه،و یوهمه أنه إنما یعطیه من مال غیره،و لا شبهة فی حرمة الارتکاب فی أمثال هذه الصور.هذا کله بناء علی المشهور،کما نسبه المصنف الی ظاهرهم من تقیید جواز الکذب بعدم القدرة علی التوریة و التحقیق أن یفصل بین الأحکام التکلیفیة و بین الأحکام الوضعیة فی باب المعاملات العقود منها و الإیقاعات.أما الأحکام التکلیفیة وجوبیة کانت أم تحریمیة فان تنجزها علی المکلفین،و وصولها إلی مرتبة الفعلیة لتبعثهم علی الإطاعة و الامتثال مشروطة بالقدرة العقلیة و الشرعیة،و اختلاف الدواعی فی ترک الواجبات و ارتکاب المحرمات لا یؤثر فی تبدیلها أو فی رفعها بوجه.

و مثال ذلک:أن شرب الخمر مع التمکن من ترکه حرام و إن کان شربه بداعی رفع العطش أو غیره من الدواعی عدا الإسکار،کما أن المناط فی رفع الأحکام التکلیفیة هو عدم القدرة علی الامتثال و لو بالتوریة و نحوها.مثلا إذا أکره الجائر أحدا علی شرب الخمر و لم یتمکن المجبور من ترکه بالتوریة أو بطریق آخر،فإن الحرمة ترتفع بحدیث الرفع

ص:409

و نحوه.و أما إذا تمکن من موافقة التکلیف بالتوریة،أو بجهة أخری فلا موجب لسقوط الحرمة.

نعم ظاهر جملة من الروایات الماضیة،و جملة أخری من الروایات الآتیة هو جوار الکذب و الحلف الکاذب فی موارد خاصة علی وجه الإطلاق حتی مع التمکن من التوریة،و علیه فیمتاز حکم الکذب بذلک عن بقیة الأحکام التکلیفیة.و من هنا ظهر ضعف قول المصنف (إن الضرر المسوغ للکذب هو المسوغ لسائر المحرمات).

و أما الأحکام الوضعیة فی المعاملات،کصحة العقود و الإیقاعات أو فسادهما فهی تدور من حیث الوجود و العدم مدار أمرین:الأول:کون المتعاملین قادرین علی المعاملة بالقدرة التی هی من الشرائط العامة المعتبرة فی جمیع الأحکام.

الثانی:صدور إنشاء المعاملة عن الرضی و طیب النفس،لآیة التجارة عن تراض، و الروایات الدالة علی حرمة التصرف فی مال غیره إلا بطیب النفس و الرضی،فإذا انتفی أحد الأمرین فسدت المعاملة،و لم تترتب علیها الآثار.

و علیه فلو أکره الظالم أحدا علی بیع أمواله فباعها بغیر رضی و طیب نفس کان البیع فاسدا سواء تمکن المکره فی دفع الإکراه من التوریة أم لم یتمکن،و إذا باعها عن طیب نفس کان البیع صحیحا.و علی الاجمال فالمناط فی صحة المعاملات صدورها عن طیب النفس و الرضی.

تذییل

لا شبهة فی عدم ثبوت أحکام المکره علی المضطر فی باب المعاملات،و وجه ذلک أن حدیث الرفع إنما ورد فی مقام الامتنان علی الأمة.و علی هذا فلو اضطر أحد إلی بیع أمواله لأداء دینه،أو لمعالجة مریضة،أو لغیرهما من حاجاته فان الحکم بفساد البیع ح مناف للامتنان،و أما الإکراه فلیس کک.کما عرفت.

قوله نعم یستحب تحمل الضرر المالی الذی لا یجحف. أقول:حاصل کلامه:

أنه یستحب تحمل الضرر المالی الذی لا یجحف،و التجنب عن الکذب فی موارد جوازه لحفظ المال،و حمل علیه قول أمیر المؤمنین«ع»فی نهج البلاغة (1):(علامة الإیمان أن تؤثر الصدق حیث یضرک علی الکذب حیث ینفعک).

ص:410


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 141 جواز الکذب فی الإصلاح من عشرة الحج ص 235.

و فیه أنه لا دلیل علی ثبوت هذا الاستحباب،فان الضرر المالی إن بلغ إلی مرتبة یعد فی العرف ضررا جاز الکذب لدفعه،و إلا فهو حرام،لانصراف الأدلة المجوزة عن ذلک، فلا دلیل علی وجوب الواسطة بینهما لکی تکون مستحبة،و أما قوله«ع»فی نهج البلاغة فأجنبی عن الکذب الجائز الذی هو مورد کلامنا،بل هو راجع الی الکذب المحرم،و أن یتخذه الإنسان وسیلة لانتفاعه،و من الواضح جدا أن ترک ذلک من علائم الایمان.

و یؤید ما ذکرناه تقابل الصدق المضر مع الکذب النافع فیه،لأن الظاهر من الکذب النافع هو ما یکون وسیلة لتحصیل المنافع،و یکون المراد من الصدق المصرح عدم النفع، لکثرة إطلاق الضرر علیه فی العرف.

و علیه فشأن الحدیث شأن ما ورد (1)من أنه(لا یزنی الزانی حین یزنی و هو مؤمن و لا یسرق السارق حین یسرق و هو مؤمن).

نعم یمکن الاستدلال علی الاستحباب بناء علی التسامح فی أدلة السنن بقوله«ع» (2):

(اجتنبوا الکذب و إن رأیتم فیه النجاة.فإن فیه الهلکة).و لکن مفاد الحدیث أعم مما ذکره المصنف.

الأقوال الصادرة عن الأئمة(علیهم السلام)تقیة

لا خلاف بین المسلمین،بل بین عقلاء العالم فی جواز الکذب لإنجاء النفس المحترمة.

قال الغزالی (3):(فمهما کان فی الصدق سفک دم امرئ مسلم فالکذب فیه واجب).و قد تقدمت (4)دلالة جملة من الآیات و الروایات علی هذا.بل هو من المستقلات العقلیة،و من الضروریات الدینیة التی لا خلاف فیها بین المسلمین،و علی ذلک فمن أنکره کان منکرا لإحدی ضروریات الدین،و لحقه حکم منکر الضروری من الکفر،و وجوب القتل،و بینونة الزوجة،و قسمة الأموال.

ص:411


1- 1) راجع ج 1 کا باب 40 القمار من المعیشة ص 362.و ج 10 الوافی باب القمار ص 36.و ج 3 ئل باب تحریم الزناء من النکاح المحرم ص 39 و 40.و ج 2 ئل باب 45تعیین الکبائر من جهاد النفس ص 463 و ص 464،و ج 2 مرآة العقول ص 256 و ص 260.
2- 2) مرسلة.راجع ج 2 المستدرک باب 120 تحریم الکذب من عشرة الحج ص 100
3- 3) راجع ج 3 إحیاء العلوم بیان ما رخص فیه من الکذب ص 121.
4- 4) فی البحث عن جواز الکذب لدفع الضرورة ص 403 و ص 404 و 405.

و إذا عرفت ذلک فقد اتضح لک الحال فی الأقوال الصادرة عن الأئمة«ع»فی مقام التقیة،فإنا لو حملناها علی الکذب السائغ لحفظ أنفسهم و أصحابهم لم یکن بذلک بأس،مع أنه یمکن حملها علی التوریة أیضا کما سیأتی.

و بذلک یتجلی لک افتضاح الناصبی المتعصب إمام المشککین،حیث لهج بما لم یلهج به البشر،و قال فی خاتمة محصل الأفکار حاکیا عن الزندیق سلیمان بن جریر:إن أئمة الرافضة وضعوا القول بالتقیة لئلا یظفر معها أحد علیهم،فإنهم کلما(أرادوا شیئا تکلموا به فإذا قیل لهم هذا خطأ أو ظهر لهم بطلانه قالوا:إنما قلناه تقیة).

علی أن التفوه بذلک افتراء علی الأئمة الطاهرین الذین أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا.قال اللّه تعالی (1): (إِنَّما یَفْتَرِی الْکَذِبَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِآیاتِ اللّهِ وَ أُولئِکَ هُمُ الْکاذِبُونَ) .

قوله الأقوال الصادرة عن أئمتنا فی مقام التقیة. أقول:حاصل مراده أن ما صدر عن الأئمة«ع»تقیة فی بیان الأحکام و إن جاز حمله علی الکذب الجائز حفظا لأنفسهم و أصحابهم عن الهلاک.و لکن المناسب لکلامهم و الألیق بشأنهم حمله علی إرادة خلاف ظاهره من دون نصب قرینة علی المراد الجدی،کأن یراد من قولهم (2):لا بأس بالصلاة فی ثوب أصابه خمر جواز الصلاة فی الثوب المذکور مع تعذر غسله و الاضطرار الی لبسه.

و یؤیده تصریحهم«ع»بإرادة المحامل البعیدة فی بعض المقامات،ففی روایة عمار عن أبی عبد اللّه«ع» (3):(فقال له رجل:ما تقول فی النوافل؟قال:فریضة،قال:ففزعنا و فزع الرجل فقال أبو عبد اللّه:إنما أعنی صلاة اللیل علی رسول اللّه«ص»).

و فیه أنک قد عرفت آنفا عدم استقلال العقل بقبح الکذب فی جمیع الموارد،و إنما هو تابع للدلیل الشرعی،و علیه فمهما حرمه الشارع یکشف منه أنه قبیح،و مهما ورد الدلیل علی جوازه یکشف منه أنه لیس بقبیح.و حینئذ فالکذب الجائز و التوریة سواء فی الإباحة و لا ترجیح لحمل الأخبار الموافقة للتقیة علی الثانی.

قوله و من هنا یعلم أنه إذا دار الأمر فی بعض المواضع إلخ. أقول:ملخص کلامه:أنه إذا ورد عن الأئمة«ع»أمر و ترددنا بین أن نحمله علی الوجوب بداعی التقیة

ص:412


1- 1) سورة النحل،آیة:107.
2- 2) راجع ج 1 ئل باب 38 نجاسة الخمر من أبواب النجاسات ص 200.
3- 3) راجع ج 1 ئل باب 16 جواز ترک النوافل من أبواب أعداد الفرائض و النوافل ص 220.و ج 5 الوافی ص 20.

أو علی الاستحباب بداعی بیان الواقع تعین الحمل علی الثانی:بأن یراد من الأمر معناه المجازی أعنی الاستحباب من دون نصب قرینة ظاهرة.

و مثاله أن یرد أمر بالوضوء عقیب ما یعده العامة (1)حدثا و ناقضا للوضوء،کالمذی و الودی و مس الفرج و الأنثیین و غیرها من الأمور التی یراها العامة إحداثا ناقضة للوضوء فإنه یدور الأمر ح بین حمله علی الوجوب بداعی التقیة و بین حمله علی الاستحباب بداعی بیان الواقع،و من المعلوم أن الحمل علی الثانی أولی،إذ لم یثبت من مذهب الشیعة عدم استحباب الوضوء عقیب الأمور المذکورة،و لکن ثبت عندهم أنها لا تنقض الوضوء جزما،و علیه فتتأدی التقیة بإرادة المجاز و إخفاء القرینة.

أقول:للّه در المصنف حیث أشار بکلامه هذا إلی قاعدة کلیة و ضابطة شریفة،تتفرع عنها فروع کثیرة،و من شأنها أن یبحث عنها فی علم الأصول فی فصل من فصول أبحاث الأوامر.

و تحقیق الکلام فیها أن ما یدور أمره بین الحمل علی التقیة و بین الحمل علی الاستحباب علی ثلاثة أقسام،الأول:أن یکون ظهوره فی بیان الحکم الوضعی المحض،کما إذا ورد عنهم«ع»أن الرعاف أو الحجامة مثلا من النواقض للوضوء،فإنه لا ریب فی حمل هذا القسم علی التقیة:بأن یکون المراد أنها ناقضة حقیقة للوضوء،و لکن صدور هذا الحکم بداعی التقیة،لا بداعی الإرادة الجدیة.

الثانی:أن یدل بظهوره علی الحکم التکلیفی المولوی المحض،کما إذا فرضنا أن قراءة الدعاء عند رؤیة الهلال واجبة عند العامة و مستحبة عندنا،و وردت روایة من أئمتنا«ع» ظاهرة فی الوجوب،فإن الأمر حینئذ یدور بین حمل هذه الروایة علی الوجوب بداعی التقیة و بین حملها علی الاستحباب بداعی الجد.غایة الأمر أن الامام«ع»لم ینصب قرینة علی مراده الجدی.

و علی هذا فبناء علی مسلک المصنف من کون الأمر حقیقة فی الوجوب و مجازا فی غیره یدور الأمر بین حمله علی التقیة فی بیان الحکم،و رفع الید عن المراد الجدی:أعنی الاستحباب أو حمله علی الوجوب الخاص أعنی الوجوب حال التقیة،و رفع الید عن ظهور الأمر فی الوجوب المطلق بأن یکون المراد أن قراءة الدعاء عند رؤیة الهلال واجبة حال التقیة،أو حمله علی الاستحباب و رفع الید عن ظهور الکلام فی الوجوب من دون نصب قرینة علی ذلک، و حیث لا مرجح لأحد الأمور الثلاثة بعینه،فیکون الکلام مجملا.

ص:413


1- 1) راجع ج 1 سنن البیهقی جماع أبواب الحدث.

و أما بناء علی ما حققناه فی محله من أن الأمر موضوع لواقع الطلب:أعنی إظهار الاعتبار النفسانی علی ذمة المکلف،فما لم یثبت الترخیص من الخارج فان العقل یحکم بالوجوب و إذا ثبت الترخیص فیه من القرائن الخارجیة حمل علی الاستحباب،و علیه فلا مانع من حمل الأمر بقراءة الدعاء عند رؤیة الهلال علی الاستحباب،للقطع الخارجی بعدم وجوبها عند رؤیة الهلال،فیتعین الاستحباب،إذ لیس هنا احتمال آخر غیره لکی یلزم الاجمال.

الثالث:ان یکون الکلام الصادر عن الامام«ع»ظاهرا فی بیان الحکم التکلیفی،إلا انه فی الواقع بیان للحکم الوضعی الصرف،کما إذا ورد الأمر بالوضوء عقیب المذی و الودی و مس الفرج و الأنثیین أو غیرها من الأمور التی یراها العامة إحداثا ناقضة للوضوء فإن الأمر فی هذه الموارد إرشاد إلی ناقضیة الأمور المذکورة للوضوء،کما ان الأمر بالوضوء عقیب البول و النوم إرشاد الی ذلک أیضا،و ح فیدور الأمر بین حمله علی ظاهره من الناقضیة بداعی التقیة،لا الجد،و بین حمله علی الاستحباب،فالظاهر هو الأول،فإن حمله علی الثانی یستلزم مخالفة الظاهر من جهتین:

الاولی:حمل ما هو ظاهر فی الإرشاد إلی الناقضیة علی خلاف ظاهره من إرادة الحکم التکلیفی.الثانیة:حمل ما هو ظاهر فی الوجوب علی الاستحباب.و أما لو حملناه علی التقیة فلا یلزم منه إلا مخالفة الظاهر فی جهة واحدة،و هی حمل الکلام علی غیر ظاهره من المراد الجدی.

جواز الکذب لإرادة الإصلاح

قوله الثانی من مسوغات الکذب إرادة الإصلاح. أقول:لا شبهة فی جواز الکذب للإصلاح بین المتخاصمین فی الجملة عند الفریقین نصا[1]و فتوی،و تفصیل ذلک

ص:414

ان النزاع و البغضاء بین المتخاصمین تارة یکون من کلا الطرفین:بأن یکون کل منهما حربا للآخر،و قاصدا لإیقاع الضرر به،و اخری یکون الحقد و النفاق من طرف واحد، کأن وشی الیه تمام علی أخیه کاذبا فحقد علیه،و کلا القسمین مشمولان لإطلاق ما دل علی جواز الکذب فی مورد الإصلاح.

و یمکن الاستدلال علی جواز الکذب للإصلاح بقوله تعالی (1): (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ) أی أصلحوا بین المؤمنین إذا تخاصموا و تقاتلوا (وَ اتَّقُوا اللّهَ) فی ترک العدل و الإصلاح (لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ) فإن إطلاق الآیة یشمل الإصلاح بالکذب أیضا و ح فتکون الآیة معارضة لعموم ما دل علی حرمة الکذب بالعموم من وجه،و بعد تساقطهما فی مادة الاجتماع:أعنی الکذب للإصلاح یرجع الی البراءة،أو الی عموم المصلح لیس بکذاب،فإنه ینفی الکذب عن المصلح علی سبیل الحکومة.

و لا فرق فی جواز الکذب للإصلاح بین ان یکون المصلح احد المتخاصمین أو غیرهما، و یدل علی تأکد الحکم فی الأول بعض الأحادیث الواردة فی حرمة هجران المؤمن فوق ثلاثة أیام.کقوله«ع»فی روایة حمران[1]:(ما من مؤمنین اهتجرا فوق ثلاث إلا برأت منهما فی الثالثة قیل:هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟فقال:ما بال المظلوم لا یصیر الی الظالم فیقول:أنا الظالم حتی یصلحا).

و من الواضح جدا ان قول المظلوم:انا الظالم کذب،و قد ذمة الإمام«ع»علی ترکه فیکون مستحبا مؤکدا.

قوله ورد فی أخبار کثیرة جواز الوعد الکاذب مع الزوجة،بل مطلق الأهل) .

أقول:إن کان الوعد علی سبیل الإنشاء فهو خارج عن الکذب موضوعا علی ما عرفته سابقا.و إن کان علی سبیل الإخبار،و لم یحرز المتکلم تحقق المخبر به فی ظرفه فهو

ص:415


1- 1) سورة الحجرات،آیة:10.

کذب محرم علی صورة الوعد،کما عرفت فی البحث عن حکم خلف الوعد.

و لکن ظاهر جملة من الروایات التی تقدم بعضها فی البحث عن جواز الکذب للإصلاح هو جواز الوعد الکاذب للزوجة،بل لمطلق الأهل،و علیه فیقید بها ما دل علی حرمة الکذب،کما یقید بها أیضا ما دل علی وجوب الوفاء بالوعد لو قلنا به،و اللّه العالم.إلا أن یقال بعدم صلاحیة ذلک للتقیید،لضعف السند.

حرمة الکهانة

اشارة

قوله التاسعة عشرة:الکهانة). أقول:ما هی الکهانة؟و ما حکم الرجوع الی الکاهن؟و ما حکم الإخبار عن الأمور المستقبلة؟.

أما الکهانة فهی فی اللغة[1]الإخبار عن الکائنات فی مستقبل الزمان،و قیل هی عمل یوجب طاعة الجان للکاهن،و من هنا قیل:إن الکاهن من کان له رأی من الجن یأتیه الأخبار.و هی قریبة من السحر أو أخص منه.و العراف[2]هو المنجم و الکاهن،و قیل:

العراف کالکاهن،إلا ان العراف یختص بمن یخبر عن الأحوال المستقبلة،و الکاهن بمن یخبر عن الأحوال الماضیة.

و کیف کان فالکهانة علی قسمین:

الأول:ان یخبر الکاهن عن الحوادث المستقبلة لاتصاله بالشیاطین القاعدین مقاعد

ص:416

استراق السمع من السماء،فیطلعون علی إسرارها،ثم یرجعون إلی أولیائهم لکی یؤدوها إلیهم.

الثانی:ان یخبر الکاهن عن الکائنات الأرضیة،و الحوادث السفلیة لاتصاله بطائفة من الجن و الشیاطین التی تلقی إلیه الأخبار الراجعة إلی الحوادث الأرضیة فقط،لأن الشیاطین قد منعت عن الاطلاع الی السماء و أخبارها بعد بعثة النبی(صلی الله علیه و آله).

و فی خبر الاحتجاج[1]أطلق لفظ الکاهن علی کلا القسمین،أما إطلاقه علی القسم الأول فهو صریح جملة من فقراته.و أما إطلاقه علی القسم الثانی فقد وقع منه فی فقرتین:

الأولی:قوله«ع»:(لأن ما یحدث فی الأرض من الحوادث الظاهرة فذلک یعلم الشیاطین و یؤدیه إلی الکاهن و یخبره بما یحدث فی المنازل و الأطراف).

الثانیة:قوله:«ع»بعد ما ذکر أن الشیاطین کانوا یسترقون أخبار السماء،و یقذفونها الی الکاهن:(فمنذ منعت الشیاطین عن استراق السمع انقطعت الکهانة و الیوم إنما یؤدی الشیطان الی کهانها أخبارا للناس مما یتحدثون به-الی أن قال-:ما یحدث فی البعد من الحوادث).

فقد أطلق الکاهن فی هاتین الفقرتین علی المخبر عن الکائنات السفلیة بواسطة الشیاطین.

و لا ینافیه قوله«ع»:(انقطعت الکهانة).فإن المراد منها هو الکهانة الکاملة:أعنی القسم الأول.

و تدل علی حرمة کلا القسمین مضافا الی خبر الاحتجاج المتقدم جملة من الروایات من طرق الخاصة[2].

ص:417

و من طرق العامة (1)و قد تقدم بعضها فی البحث عن حرمة التنجیم و السحر.

حرمة الرجوع الی الکاهن

و أما الرجوع الی الکاهن،و العمل بقوله،و ترتیب الأثر علیه فی الأمور الدینیة، و الاستناد إلیه فی إثبات أمر أو نفیه فلا شبهة فی حرمته،بل لا خلاف فیها بین المسلمین، لکونه افتراء علی اللّه،و عملا بالظن الذی لا یغنی من الحق شیئا.

و تدل علی الحرمة أیضا جملة من روایات الفریقین الناهیة عن إتیان الکاهن و العراف فإن الإتیان إلیهم کنایة عن تصدیقهم،و العمل بقولهم،کما فی تاج العروس قال:(من أتی کاهنا أو عرافا إلخ:أی صدقهم).و قد عرفت أن العراف یصدق علیه الکاهن.

و فی روایة الخصال أن(من تکهن أو تکهن له فقد بریء من دین محمد«ص»):أی من جاء الی الکاهن و أخذ منه الرأی فلیس بمسلم«و قد تقدمت الإشارة الی هذه الروایات فی الحاشیة».

حکم الاخبار عن الأمور المستقبلة

و أما الإخبار عن الأمور المستقبلة جزما فیقع البحث عن حکمه تارة من حیث القاعدة، و اخری من حیث الروایة.

أما الأول فقد یکون المخبر عن الحوادث الآتیة شاکا فی وقوعها فی مستقبل الزمان.

و قد یکون جازما بذلک.أما الأول فلا شبهة فی حرمته،لکونه من الکذب المحرم و من القول بغیر علم.و قد عرفت فی البحث عن حکم خلف الوعد أن المخبر ما لم یکن جازما بوقوع المخبر به فی الخارج فهو کاذب فی إخباره.نعم لو صادف الواقع فی هذه الحال کان حراما من جهة التجری.

و أما الثانی فلا وجه لحرمته،فإنه خارج عن الکذب و عن القول بغیر علم موضوعا و حکما و لکن المصنف التزم بحرمته لأمور:

الأول:خبر الهیثم[1]:(قال:قلت لأبی عبد اللّه«ع»:إن عندنا بالجزیرة رجلا ربما

ص:418


1- 1) راجع ج 8 سنن البیهقی باب ما جاء فی النهی عن الکهانة ص 138.

أخبر من یأتیه یسأله عن الشیء یسرق أو شبه ذلک فنسأله؟فقال:قال رسول اللّه(صلی الله علیه و آله):من مشی الی ساحر أو کاهن أو کذاب یصدقه فیما یقول فقد کفر بما أنزل اللّه من کتاب) بدعوی أن الإخبار عن الغائبات علی سبیل الجزم محرم مطلقا،سواء أ کان بالکهانة أم بغیرها،لأنه«ع»حصر المخبر بالشیء الغائب بالساحر و الکاهن و الکذاب،و جعل الکل حراما.

و فیه أولا:أن الروایة بقرینة السؤال ظاهرة فی الإخبار عن الأمور الماضیة من السرقة و الضالة و نحوها،و لا إشکال فی جواز الإخبار عن الأمور الماضیة إذا کان المخبر جازما بوقوعها،و إنما الکلام فی الإخبار علی سبیل الجزم علی الحوادث الآتیة،فمورد الروایة أجنبی عن محل الکلام.

و ثانیا:لا دلالة فی الروایة علی انحصار المخبر عن الأمور المغیّبة بالکاهن و الساحر و الکذاب،بل الظاهر منها أن الإخبار المحرم منحصر بإخبار هذه الطوائف الثلاث.

فالإمام«ع»بیّن ضابطة حرمة الإخبار عن الغائبات،و نظیره ما إذا سئل أحد عن حرمة شرب العصیر التمری؟فأجاب بأن الحرام من المشروبات إنما هو الخمر و النبیذ و العصیر العنبی إذا غلی،فان هذا الجواب لا یدل علی حصر جمیع المشروبات بالمحرم،و إنما یدل علی حصر المشروبات المحرمة بالأمور المذکورة.و إذن فلا دلالة فی الروایة علی حرمة مطلق الإخبار عن الأمور المستقبلة و لو من غیر الکاهن و الساحر و الکذاب.

و ثالثا:أن غایة ما تدل علیه الروایة أن تصدیق المخبر فی إخباره حرام،لأنه غیر حجة و أما حرمة إخبار المخبر فلا تدل الروایة علی حرمته،کما هو الحال فی إخبار الفاسق و غیره فیما لا یکون قوله حجة.

الثانی:قوله«ع»فی حدیث المناهی المتقدم فی الهامش:(إنه نهی عن إتیان العراف و قال:من أتاه و صدقه فقد بریء مما أنزل اللّه علی محمد«ص»).بدعوی أن المخبر عن الغائبات فی المستقبل کاهن و یختص باسم العراف.

و فیه أولا:أنه ضعیف السند.و ثانیا:أن إتیان العراف کنایة عن العمل بقوله، و ترتیب الأثر علیه،کما عرفته آنفا،فلا دلالة فیه علی حرمة الإخبار عن الأمور المستقبلة بأی نحو کان.

الثالث:قوله«ع»:فی بعض الأحادیث[1]:(لئلا یقع فی الأرض سبب یشاکل الوحی إلخ).فإن الإخبار عن الغائبات و الکائنات فی مستقبل الزمان من الأمور تشاکل الوحی

ص:419

و من المقطوع به أنه مبغوض للشارع.

و فیه أن الممنوع فی الروایة هو الإخبار عن السماء بوساطة الشیاطین،فإنهم کانوا یقعدون مقاعد استراق السمع من السماء،و یطلعون علی مستقبل الأمور،و یحملونها إلی الکهنة،و یبثونها فیهم،و قد منعوا عن ذلک بالشهاب الثاقب لئلا یقع فی الأرض ما یشاکل الوحی.و أما مجرد الإخبار عن الأمور الآتیة بأی سبب کان فلا یرتبط بالکهانة.

قوله فتبین من ذلک إلخ. أقول:حاصل کلامه:أن المتحصل مما ذکرناه هو حرمة الإخبار عن الغائبات من غیر نظر فی بعض ما صح اعتباره،کنبذ من الرمل و الجفر و فیه أن المناط فی جواز الإخبار عن الغائبات فی مستقبل الزمان إنما هو حصول الاطمئنان بوقوع المخبر به کما عرفت.و علیه فلا فرق بین الرمل و الجفر و غیرهما من موجبات الاطمئنان.

ثم إن ظاهر عبارة المصنف هو اعتبار بعض أقسام الرمل و الجفر.و لکنه عجیب منه (ره)!!إذ لم یقم دلیل علی اعتبارهما فی الشریعة المقدسة غایة الأمر أنهما یفیدان الظن، و هو لا یغنی من الحق شیئا.

حرمة اللهو فی الجملة

اشارة

قوله العشرون:اللهو حرام. أقول:لا خلاف بین المسلمین قاطبة فی حرمة اللهو فی الجملة،بل هی من ضروریات الإسلام،و إنما الکلام فی حرمته علی وجه الإطلاق.

فظاهر جملة من الأصحاب،بل صریح بعضهم،و ظاهر بعض العامة أن اللهو حرام مطلقا، فعن المحقق فی المعتبر:(قال علمائنا:اللاهی بسفره کالمتنزه بصیده بطرا لا یترخص،لنا أن اللهو حرام،فالسفر له معصیة).

و قال العلامة (1):حرم الحلبی(الرمی عن قوس الجلاهق و الإطلاق لیس بجید،بل ینبغی التقیید بطلب اللهو و البطر).و فی کلمات غیر واحد من الأصحاب إن من سفر المعصیة طلب الصید للهو و البطر.

و فی الریاض (2)قد استدل علی حرمة المسابقة فی غیر الموارد المنصوصة بما دل علی حرمة مطلق اللهو.

ص:420


1- 1) راجع ج 2 المختلف ص 164.
2- 2) ج 2 ص 41.

و عن المالکیة (1)(إن کان الغرض من المسابقة المغالبة و التلهی فیکون حراما).

و قد استظهر المصنف من الأخبار الکثیرة حرمة اللهو علی وجه الإطلاق،ثم قال:

(و لکن الإشکال فی معنی اللهو فإن أرید به مطلق اللهو کما یظهر من الصحاح و القاموس فالظاهر أن القول بحرمته شاذ مخالف للمشهور و السیرة،فإن اللعب هی الحرکة لا لغرض عقلائی،و لا خلاف ظاهرا فی عدم حرمته علی الإطلاق،نعم لو خص اللهو بما یکون من بطر و فسر بشدة الفرح کان الأقوی تحریمه).

و لکن الأخبار لا دلالة لها علی حرمة اللهو علی وجه الإطلاق فإنها علی أربع طوائف:

الأولی (2):هی الروایات الدالة علی وجوب الإتمام علی المسافر إذا کان سفره للصید اللهوی،فقد یقال:إن هذه الطائفة تدل بالالتزام علی حرمة اللهو أیضا،إذ لا نعرف وجها لإتمام الصلاة هنا إلا کون السفر معصیة للصید اللهوی.

و لکنه ضعیف،إذ غایة ما یستفاد من هذه الأخبار أن السفر للصید اللهوی لا یوجب القصر،فلا دلالة فیها علی کون السفر معصیة،إذ لا ملازمة بین وجوب الإتمام فی السفر و بین کونه معصیة،بل هو أعم من ذلک.و الی هذا ذهب المحقق البغدادی(ره).

الثانیة:ما دل علی أن اللهو من الکبائر،کما فی حدیث شرائع الدین عن الأعمش[1] قال المصنف:(حیث عد فی الکبائر الاشتغال بالملاهی التی تصد عن ذکر اللّه کالغناء و ضرب الأوتار،فإن الملاهی جمع الملهی مصدرا أو الملهی وصفا،لا الملهاة آلة،لأنه لا یناسب التمثیل بالغناء).

و لکن یرد علیه أولا:أن هذه الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:لا دلالة فیها علی حرمة اللهو المطلق،بل الظاهر منها أن الحرام هو اللهو الذی یصد عن ذکر اللّه کالغناء و ضرب الأوتار و نحوهما.

و ثالثا:أن الظاهر من اللغة أن الملاهی اسم الآلات،فالأمر یدور بین رفع الید عن

ص:421


1- 1) راجع ج 2 فقه المذاهب ص 51.
2- 2) راجع ج 5 الوافی باب من کان سفره باطلا ص 32.و ج 1 ئل باب 9 من خرج الی الصید للهو من صلاة المسافر ص 548.و ج 1 التهذیب أبواب الزیادات صلاة المسافر ص 184.و ج 1 المستدرک ص 502.

ظهوره و حملها علی الفعل و بین رفع الید عن ظهور الغناء و حمله علی الغناء فی آلة اللهو،و لا وجه لترجیح أحدهما علی الآخر،فتکون الروایة مجملة.بل ربما یرجح رفع الید عن ظهور الغناء،کما یدل علیه عطف ضرب الأوتار علی الغناء.

ثم إن روایة الأعمش لم یذکر فیها إلا عد الملاهی التی تصد عن ذکر اللّه من الکبائر.

و أما زیادة کلمة الاشتغال قبل کلمة الملاهی فهی من سهو قلم المصنف(ره)،و لو کانت النسخة کما ذکره لما کان له حمل الملاهی علی نفس الفعل،فان الاشتغال بالملاهی من أظهر مصادیق الغناء.

الثالثة:الأخبار المستفیضة.بل المتواترة الدالة علی حرمة استعمال الملاهی و المعازف، و فی روایة العیون[1]:(الاشتغال بها من الکبائر).و فی روایة عنبسة:(استماع اللهو و الغناء ینبت النفاق کما ینبت الماء الزرع).و قد تقدمت الإشارة إلی جملة منها،و الی مصادرها فی مبحث حرمة الغناء.

و فیه أن هذه الروایات إنما تدل علی حرمة قسم خاص من اللهو:أعنی الاشتغال بالملاهی و المعازف و استعمالها،و لا نزاع فی ذلک،بل حرمة هذا القسم من ضروریات الدین،بحیث یعد منکرها خارجا عن زمرة المسلمین،و إنما الکلام فی حرمة اللهو علی وجه الإطلاق، و واضح أن هذه الأخبار لا تدل علی ذلک.

الرابعة:الأخبار الظاهرة ظهورا بدویا فی حرمة اللهو مطلقا،کقوله«ع»فی خبر العیاشی:(کلما ألهی عن ذکر اللّه فهو من المیسر).و فی بعض روایات المسابقة (1):

(کل لهو المؤمن باطل إلا فی ثلاث).و فی روایة أبی عباد:إن السماع فی حیز الباطل و اللهو«و سنذکرها».و فی روایة عبد الأعلی (2)فی رد من زعم ان النبی(صلی الله علیه و آله) رخص فی أن یقال:جئناکم جئناکم إلخ:(کذبوا إن اللّه یقول:لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتّخذناه من لدنا إلخ).و فی جملة من روایات الغناء أیضا ما یدل علی أن اللهو من الباطل فإذا ضممنا ذلک الی ما یظهر من الأدلة من حرمة الباطل کجملة من الروایات الدالة علی حرمة الغناء (3)کانت النتیجة حرمة اللهو مطلقا.

و یرد علیه أن الضرورة دلت علی جواز اللهو فی الجملة،و کونه من الأمور المباحة، کاللعب بالسبحة أو اللحیة أو الحبل أو الأحجار و نحوها،فلا یمکن العمل بإطلاق هذه

ص:422


1- 1) قد تقدما فی ص 370.
2- 2) قد تقدم فی ص 312.
3- 3) قد أشرنا إلی مصادرها فی ص 307.

الروایات علی تقدیر صحتها،و قد أشرنا إلیه فی مبحث حرمة القمار (1)و علیه فلا بد من حملها علی قسم خاص من اللهو أعنی الغناء و نحوه،کما هو الظاهر،أو حملها علی وصول الاشتغال بالأمور اللاغیة إلی مرتبة یصد فاعله عن ذکر اللّه،فإنه ح یکون من المحرمات الإلهیة.

و الحاصل:أنه لا دلیل علی حرمة اللهو علی وجه الإطلاق،و مما ذکرناه ظهر أیضا أنا لا نعرف وجها صحیحا لما ذکره المصنف(ره)من تقویة حرمة الفرح الشدید.

اللعب و اللغو

قوله و اعلم أن هنا عنوانین. أقول:قد فرق جمع من أهل الفروق بین اللهو و اللعب،و لا یهمنا التعرض لذلک،و إنما المهم هو التعرض لحکمهما،و قد عرفت:أنه لا دلیل علی حرمة مطلق اللهو،و أما اللعب فان کان متحدا فی المفهوم مع اللهو فحکمه هو ذلک،و إن کانا مختلفین مفهوما فلا بد من ملاحظة الأدلة الشرعیة،فإن کان فیها ما یدل علی حرمة اللعب أخذ به،و إلا فیرجع الی الأصول العملیة.

و أما اللغو فذکر المصنف(ره)أنه إن أرید به ما یرادف اللهو کما یظهر من بعض الاخبار[1]کان فی حکمه.و إن أرید به مطلق الحرکات اللاغیة فالأقوی فیها الکراهة أقول:لا دلیل علی حرمة مطلق اللغو سواء قلنا بکونه مرادفا للهو و الباطل کما هو الظاهر من أهل اللغة أم لا،لما عرفت من عدم الدلیل علی حرمة اللهو علی وجه الإطلاق و أما ما ذکره من ظهور الروایات فی مرادفة اللغو مع اللهو ففیه أن الروایات المذکورة ناظرة إلی اتحاد قسم خاص من اللغو مع قسم خاص من اللهو،و هو القسم المحرم،فلا دلالة فیها علی اتحاد مفهومهما مطلقا.علی انها ضعیفة السند.

ص:423


1- 1) ص 370.

و قد یقال:بحرمة اللغو علی وجه الإطلاق لروایة الکابلی[1]فإن الإمام(علیه السلام)جعل فیها اللغو المضحک من جملة الذنوب التی تهتک العصم.

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند،و مجهولة الرواة.و ثانیا:أن موضوع التحریم فیها هو اللغو الذی یکون موجبا لهتک عصم الناس و أعراضهم من الاستهزاء و السخریة و التعییر و الهجاء و نحوها من العناوین المحرمة.

علی أنه لا دلیل علی حرمة إضحاک الناس و إدخال السرور فی قلوبهم بالأمور المباحة و الجهات السائغة،بل هو من المستحبات الشرعیة و الأخلاق المرضیة فضلا کونه موجبا لهتک العصم،و إثارة للعداوة و البغضاء.

و قد ذکر ابن أبی الحدید فی مقدمة شرح النهج فی علی بن أبی طالب«ع»:(و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحیا و التبسم فهو المضروب به المثل فیه حتی عابه بذلک أعداؤه).و کان الأصل فی هذا التعییب عمر بن الخطاب و عمرو بن العاص.

و قد ظهر مما ذکرناه أنه لا یمکن الاستدلال علی حرمة اللغو مطلقا بوصیة النبی(صلی الله علیه و آله) لأبی ذر[2].

ثم إن روایة الکابلی عدت شرب الخمر و اللعب بالقمار من جملة الذنوب التی تهتک العصم أما الأول فلأنه یجر الی التعرض لإعراض الناس،بل نفوسهم،فان شارب الخمر فی حال سکره کالمجنون الذی لا یبالی فی أفعاله و حرکاته.

و أما اللعب بالقمار فلأنه یورث العداوة بین الناس،حیث تؤخذ به أموالهم بغیر عوض و استحقاق.و قد أشیر إلی کلا الأمرین فی الآیة[3].

ص:424

مدح من لا یستحق المدح

قوله الحادیة و العشرون:مدح من لا یستحق المدح أو یستحق الذم. أقول:حکی المصنف أن العلامة عد مدح من لا یستحق المدح أو یستحق الذم فی عداد المکاسب المحرمة ثم وجه کلامه بوجوه:

الأول:حکم العقل بقبح ذلک.الثانی:قوله تعالی (1): (وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ) .الثالث:ما رواه الصدوق عن النبی ص[1]:(من عظم صاحب دنیا و أحبه لطمع فی دنیاه سخط اللّه علیه و کان فی درجة مع قارون فی التابوت الأسفل من النار).الرابع:ما فی حدیث المناهی[2]من قوله(صلی الله علیه و آله):(من مدح سلطانا جائرا أو تحفف أو تضعضع له طمعا فیه کان قرینه فی النار).

و لکن الظاهر أن الوجوه المذکورة لا تدل علی مقصود المصنف:أما العقل فإنه لا یحکم بقبح مدح من لا یستحق المدح بعنوانه الأولی ما لم ینطبق علیه عنوان آخر مما یستقل العقل بقبحها،کتقویة الظالم،و إهانة المظلوم و نحوهما.و أما الآیة فهی تدل علی حرمة الرکون الی الظالم و المیل الیه،فلا ربط لها بالمقام.و سیأتی الاستدلال بها علی حرمة معونة الظالمین.

و اما النبوی الذی رواه الصدوق فإنه یدل علی حرمة تعظیم صاحب المال و إجلاله طمعا فی ماله،فهو بعید عما نحن فیه.و اما حدیث المناهی ففیه أولا:انه ضعیف السند.

و ثانیا:انه دال علی حرمة مدح السلطان الجائر،و حرمة تعظیمه طمعا فی ماله،أو تحصیلا لرضاه.

ص:425


1- 1) سورة هود،آیة:115.

و علی الجملة أن الوجوه التی ذکرها المصنف لا تدل علی حرمة مدح من لا یستحق المدح فی نفسه،فإن النسبة بینه و بین العناوین المحرمة المذکورة هی العموم من وجه،و علیه فلا وجه لجعل العنوان المذکور من المکاسب المحرمة،کما صنعه العلامة و تبعه غیره.

ثم إن مدح من لا یستحق المدح قد یکون بالجملة الخبریة،و قد یکون بالجملة الإنشائیة أما الأول فهو کذب محرم إلا إذا قامت قرینة علی إرادة المبالغة.و اما الثانی فلا محذور فیه ما لم ینطبق علیه شیء من العناوین المحرمة المذکورة،أو کان المدح لمن وجبت البراءة منه،کالمبدء فی الدین،و قد تقدم ذلک فی مبحث الغیبة و مبحث حرمة سب المؤمن.

لا یخفی ان حرمة مدح من لا یستحق المدح علی وجه الإطلاق أو فیما انطبق علیه عنوان محرم إنما هی فیما إذا لم یلتجئ الی المدح لدفع خوف أو ضرر بدنی أو مالی أو عرضی، و إلا فلا شبهة فی الجواز.

و یدل علیه قولهم(علیهم السلام)[1]فی عدة روایات:(إن شر الناس عند اللّه یوم القیامة الذین یکرمون اتقاء شرهم).و کک تدل علیه أخبار التقیة،فإنها تدل علی جوازها فی کل ضرورة و خوف.

حرمة معونة الظالمین

اشارة

قوله الثانیة و العشرون:معونة الظالمین فی ظلمهم حرام بالأدلة الأربعة،و هو من الکبائر. أقول:ما هو حکم معونة الظالمین؟و ما هو حکم أعوان الظلمة؟و ما هو حکم إعانتهم فی غیر جهة الظلم من الأمور السائغة کالبنایة و النجارة و الخیاطة و نحوها؟.

أما معونة الظالمین فی ظلمهم فالظاهر انها غیر جائزة بلا خلاف بین المسلمین قاطبة،بل بین عقلاء العالم،بل التزم جمع کثیر من الخاصة و العامة[2]بحرمة الإعانة علی مطلق الحرام،و حرمة مقدماته.

ص:426

و یدل علی حرمته العقل.و الإجماع المستند الی الوجوه المذکورة فی المسألة.و قوله تعالی (1): (وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ) .فان الرکون المحرم هو المیل إلیهم،فیدل علی حرمة إعانتهم بطریق الأولویة.أو المراد من الرکون المحرم هو الدخول معهم فی ظلمهم.

و اما الاستدلال علی حرمتها بقوله تعالی: (وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ) .کما فی المستند و غیره فقد تقدم جوابه فی البحث عن حکم الإعانة علی الإثم،و قلنا:إن التعاون غیر الإعانة،فإن الأول من باب الإفعال،و الثانی من باب التفاعل،فحرمة أحدهما لا تسری الی الآخر.

و تدل علی حرمة معونة الظالمین أیضا الروایات[1]المستفیضة،بل المتواترة.

و اما دخول الإنسان فی أعوان الظلمة فلا شبهة أیضا فی حرمته،و یدل علیها جمیع ما دل علی حرمة معونة الظالمین فی ظلمهم،و غیر ذلک من الأخبار الناهیة عن الدخول فی حزبهم و تسوید الاسم فی دیوانهم.و قد أشرنا إلی مصادرها فی الهامش.

ص:427


1- 1) سورة هود،آیة:115.
حرمة إعانة الظالمین فی غیر جهة ظلمهم

و أما إعانة الظالمین فی غیر جهة ظلمهم.بالأمور السائغة،کالبنایة و الخبازة و نحوهما فلا بأس بها،سواء أ کان ذلک مع الأجرة أم بدونها،بشرط ان لا یعد بذلک من أعوان الظلمة عرفا،و إلا کانت محرمة کما عرفت.

و قد یستدل علی حرمتها بروایات:

منها روایة محمد بن عذافر عن أبیه[1]الظاهرة فی حرمة المعاملة مع الظلمة.

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أن قوله«ع»:(یا عذافر نبئت أنک تعامل أبا أیوب و الربیع فما حالک إذا نودی بک فی أعوان الظلمة).ظاهر فی أن عذافر کان یدأب علی المعاملة مع الظلمة،بحیث ألحقه بأعوانهم،و علیه فمورد الروایة أجنبی عن المقام.

و منها روایة ابن أبی یعفور[2]الظاهرة فی ردع السائل عن إعانة الظالمین فی الجهات السائغة و فیه أن الظاهر من قول السائل:(ربما أصاب الرجل منا الضیق و الشدة فیدعی إلی البناء إلخ).أن الرجل منهم تصیبه الشدة،فیلتجئ الی الظالمین،و یتدرج به الأمر حتی یکون من أعوان الظلمة،بحیث یکون ارتزاقه من قبلهم،و لذلک طبق الامام«ع»علیهم قوله إن أعوان الظلمة یوم القیامة فی سرادق من نار حتی یحکم اللّه بین العباد).فهذه الروایة أیضا خارجة عن مورد الکلام.علی أنها ضعیفة السند.

و مع الإغضاء عن ذلک فقوله«ع»:(ما أحب أنی عقدت لهم عقدة إلخ)لو لم یکن ظاهرا فی الکراهة فلا ظهور له فی الحرمة،فتکون الروایة مجملة.

و منها روایة العیاشی[3]الدالة علی أن السعی فی حوائج الظالمین عدیل الکفر.و النظر إلیهم علی العمد من الکبائر التی یستحق بها النار.

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أن الظاهر من إضافة الحوائج إلی الظالمین و لو بمناسبة الحکم و الموضوع کون السعی فی حوائجهم المتعلقة بالظلم.

ص:428

و من هنا ظهر الجواب عن روایة السکونی[1]عن رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)قال:(إذا کان یوم القیامة نادی مناد أین أعوان الظلمة و من لاق لهم دوات أو ربط کیسا أو مد لهم مدة فاحشروهم معهم).و کک ظهر الجواب عن روایة أبی حمزة عن علی بن الحسین«ع» قال:(إیاکم و صحبة العاصین و معونة الظالمین).و قد تقدمت هذه الروایة فی الحاشیة.

و منها روایة الشیخ[2]عن ابن أبی عمیر عن یونس بن یعقوب قال:قال لی أبو عبد اللّه «ع»:(لا تعنهم علی بناء مسجد).

و فیه أن المنع عن إعانتهم علی بناء المسجد لهم نحو من تعظیم شوکتهم،فیکون کمسجد الضرار الذی ذکره اللّه فی الکتاب[3]و تبعد الروایة عما نحن بصدده.

و منها روایة صفوان[4]الظاهرة فی ردعه عن إکراء الجمال من هارون الرشید.

و فیه أولا:أنها ضعیفة السند.و ثانیا:أن الروایة أدل علی الجواز،فإن الإمام«ع» إنما ردعه عن محبة بقائهم،و یدل علی هذا من الروایة قوله«ع»:(أ تحب بقاءهم حتی یخرج کراؤک؟قلت:نعم،قال:من أحب بقائهم فهو منهم و من کان منهم کان وروده الی النار).

و مع الإغضاء عن جمیع ذلک،و تسلیم دلالة الروایات المذکورة علی الحرمة فالسیرة القطعیة قائمة علی جواز إعانة الظالمین بالأمور المباحة فی غیر جهة ظلمهم،فتکون هذه السیرة قرینة لحمل الروایات علی غیر هذه الصورة.

و الحاصل:أن المحرم من العمل للظلمة علی قسمین،الأول،إعانتهم علی الظلم.و الثانی:

صیرورة الإنسان من أعوانهم،بحیث یعد فی العرف من المنسوبین إلیهم،بأن یقال:هذا کاتب الظالم.و هذا معماره.و ذاک خزانة.و قد عرفت حرمة کلا القسمین بالأدلة المتقدمة.و أما غیر ذلک فلا دلیل علی حرمته.

ثم إن المراد من الظالم المبحوث عن حکم إعانته لیس هو مطلق العاصی الظالم لنفسه، بل المراد به هو الظالم للغیر،کما هو ظاهر جملة من الروایات التی تقدم بعضها،بل هو صریح

ص:429

جملة أخری منها،و علیه فمورد الحرمة یختص بالثانی.

علی أنه قد تقدم فی البحث عن حکم الإعانة علی الإثم أنه لا دلیل علی حرمتها علی وجه الإطلاق ما لم یکن فی البین تسبیب،و قلنا فی المبحث المذکور:إن الإعانة علی الظلم حرام للأدلة الخاصة،فلا ربط لها بمطلق الإعانة علی الإثم.

حرمة النجش

قوله الثالثة و العشرون:النجش بالنون المفتوحة و الجیم الساکنة أو المفتوحة حرام) أقول:الظاهر أنه لا خلاف بین الشیعة و السنة[1]فی حرمة النجش فی الجملة،و قد فسروه بوجهین کما یظهر من أهل اللغة[2]:الأول:أن یزید الرجل فی البیع ثمن السلعة و هو لا یرید شراءها.و لکن لیسمعه غیره.فیزید بزیادته و هذا هو المروی عن الأکثر.

الثانی:أن تمدح سلعة غیرک و تروجها لیبیعها،أو تذمها لئلا تنفق عنه.و ظاهر الوجهین هو تحقق النجش بهما،سواء أ کان ذلک عن مواطاة مع البائع أم لا.

أما الوجه الأول فإن کان غرض الناجش غش المشتری و تغریره فی المعاملة فإن مقتضی القاعدة حینئذ هو حرمة الغش مع تحقق المعاملة فی الخارج.فقد عرفت فی البحث عن

ص:430

حرمة الغش:أن غش المؤمن فی المعاملة حرام،لاستفاضة الروایات علیه،و إن لم تقع المعاملة فی الخارج أو وقعت فیه بغیر غش و تغریر فلا دلیل علی حرمته إلا من حیث التجری و قد یقال بحرمة النجش بهذا المعنی،لکونه إضرارا للمشتری،و هو حرام.

و فیه أولا:أن المشتری إنما أقدم علی الضرر بإرادته و اختیاره و إن کان الدافع له علی الإقدام هو الناجش.

و ثانیا:أن الدلیل أخص من المدعی،فان الناجش إنما یوقع المشتری فی الضرر إذا کان الشراء بأزید من القیمة السوقیة،و أما إذا وقعت المعاملة علی السلعة بأقل من القیمة السوقیة أو بما یساویها فان النجش لا یوجب إضرارا للمشتری.إلا أن یمنع من صدق مفهوم النجش علی ذلک کما یظهر من غیر واحد من أهل اللغة کالمصباح و تاج العروس و غیرهما،و قد تقدمت کلماتهم فی الهامش. و قد یستدل علی حرمة النجش فی هذه الصورة بقول النبی«ص» (1):(لعن الناجش و المنجوش له).و بقوله«ص»:(و لا تناجشوا[1].

و فیه أولا:ان هذین النبویین ضعیفا السند.و دعوی انجبارهما بالإجماع المنقول کما فی المتن دعوی غیر صحیحة،فإنه إن کان حجة وجب الأخذ به فی نفسه،و إلا فإن ضم غیر الحجة إلی مثله لا یفید الحجیة.

و ثانیا:انهما مختصان بصورة مواطاة الناجش مع البائع علی النجش،کما هو الظاهر من لعن المنجوش له فی النبوی الأول،و النهی عن التناجش فی النبوی الثانی،و کلامنا أعم من ذلک.

و اما الوجه الثانی(أعنی مدح السلعة لترغیب الناس فیها)فان کان المدح بما لیس فیها من الأوصاف کان حراما من جهة الکذب،و إن کان مدحه للسلعة بما فیها من الأوصاف و لکن بالغ فی مدحها مع قیام القرینة علی إرادة المبالغة فلا بأس به،فقد ذکرنا فی مبحث حرمة الکذب:أن المبالغة جائزة فی مقام المحاورة و المحادثة ما لم تجر الی الکذب.

و اما الروایتان المتقدمتان فمضافا الی ضعف السند فیهما کما عرفت،انهما راجعتان إلی الصورة الأولی،إذ لا وجه لحرمة مدح السلعة إلا إذا انطبق علیه عنوان محرم من الکذب

ص:431


1- 1) قد تقدم فی البحث عن وصل شعر المرأة بشعر غیرها ص 204.

أو الغش أو غیرهما من العناوین المحرمة.فیکون محرما من تلک الجهة،لا من جهة کونه مدحا للسلعة.

و الحاصل:انه لا دلیل علی حرمة النجش فی نفسه،إلا إذا انطبق علیه عنوان آخر محرم فإنه یکون حراما من هذه الجهة.

حرمة النمیمة

قوله الرابعة و العشرون:النمیمة[1]محرمة بالأدلة الأربعة. أقول:لا خلاف بین المسلمین فی حرمتها،بل هی من ضروریات الإسلام،و هی من الکبائر المهلکة،و قد تواترت الروایات من طرق الشیعة[2]و من طرق العامة (1)علی حرمتها،و علی کونها من الکبائر،بل یدل علی حرمتها جمیع ما دل علی حرمة الغیبة،و قد استقل العقل بحرمتها، لکونها قبیحة فی نظره.

و اما الإجماع فهو بقسمیه و إن کان منعقدا علی حرمتها.و لکن الظاهر ان مدرک المجمعین هو الوجوه المذکورة فی المسألة،و لیس إجماعا تعبدیا.و قد تقدم نظیره مرارا.

و قد یستدل علی حرمتها بجملة من الآیات:منها قوله تعالی (2): «وَ یَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَ یُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ أُولئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ» .بدعوی ان النمام قاطع لما أمر اللّه بصلته،و یفسد فی الأرض فسادا کبیرا،فتلحق له اللعنة و سوء الدار.

و فیه ان الظاهر من الآیة و لو بمناسبة الحکم و الموضوع هو توجه الذم الی الذین أمروا

ص:432


1- 1) راجع ج 10 سنن البیهقی ص 246.
2- 2) سورة الرعد،آیة:25.

بالصلة و التوادد فأعرضوا عن ذلک.و من هنا قیل (1)إن معنی الآیة:أنهم أمروا بصلة النبی و المؤمنین فقطعوهم.و قیل:أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها.و قیل:

أمروا بالایمان بجمیع الأنبیاء و الکتب ففرقوا و قطعوا ذلک.و قیل:أمروا أن یصلوا القول بالعمل ففرقوا بینهما.

و قیل:معنی الآیة أنهم أمروا بوصل کل من أمر اللّه بصلته من أولیائه و القطع و البراءة من أعدائه،و هو الأقوی لأنه أعم،و یدخل فیه جمیع المعانی،و علی کل حال فالنمام لم یؤمر بإلقاء الصلة و التوادد بین الناس لکی یحرم له قطع ذلک فالآیة غریبة عنه.

و أما الاستدلال علی الحرمة بقوله تعالی: (وَ یُفْسِدُونَ فِی الْأَرْضِ إلخ).فإنه و إن کان صحیحا فی الجملة،کما إذا کانت النمیمة بین العشائر و السلاطین،فإنها کثیرا ما تترتب علیها مفسدة مهمة.

و لکن الاستدلال بها أخص من المدعی،إذ لا تکون النمیمة فسادا فی الأرض فی جمیع الموارد و إن أوجبت العداوة و البغضاء غالبا.

و من هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بقوله تعالی (2): (وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .

فإن النمیمة قد تجر الی قتل النفوس المحترمة،و هتک الأعراض،و نهب الأموال.

و لکنها لیست کک فی جمیع الأحوال،بل المراد من الفتنة هو الشرک کما ذکره الطبرسی (3)إنما سمی الشرک فتنة،لانه یؤدی الی الهلاک،کما أن الفتنة تؤدی الی الهلاک ثم إن النسبة بین النمیمة و الغیبة هی العموم من وجه،و یشتد العقاب فی مورد الاجتماع و قد تزاحم حرمة النمیمة عنوان آخر مهم فی نظر الشارع،فتجری فیها قواعد التزاحم المعروفة،فقد تصبح جائزة إذا کان المزاحم أهم منها،و قد یکون واجبة إذا کانت أهمیته شدیدة،و یتضح ذلک بملاحظة ما تقدم (4).

ص:433


1- 1) راجع ج 1 مجمع البیان ط صیدا ص 70.
2- 2) سورة البقرة،آیة:187.
3- 3) راجع ج 1 مجمع البیان ص 286.
4- 4) فی نصح المستشیر من مستثنیات الغیبة ص 348.

النیاحة

قوله الخامسة و العشرون:النوح بالباطل. أقول:اختلفت کلمات الأصحاب فی هذه المسألة علی ثلاثة أقوال،الأول:القول بحرمة النوح مطلقا،و قد ذهب الیه جمع من الأصحاب،الثانی:القول بالکراهة مطلقا،و هو المحکی عن مفتاح الکرامة.الثالث القول بالتفصیل بین النوح بالباطل فیحرم و النوح بالحق فیجوز،و قد اختاره المصنف.

ثم إنه اختلف أصحاب القول بالتفصیل فذهب بعضهم الی جواز النوح بالحق من غیر کراهة،و ذهب بعضهم الی جواز ذلک علی کراهة،و ذهب بعضهم الی أن النوح بالحق إذا اشترطت فیه الأجرة کان مکروها و إلا فلا بأس به.

و التحقیق أن الاخبار الواردة فی مسألة النیاحة علی طوائف شتی،الاولی[1]ما دل علی المنع من النیاحة مطلقا،سواء کانت بالباطل أم بالحق.

الثانیة[2]:ما دل علی جوازها و جواز أخذ الأجرة علیها کک مطلقا.الثالثة[3]:

ص:434

ما دل علی جواز کسب النائحة إذا قالت صدقا و عدم جوازه إذا قالت کذبا.

الرابعة[1]:ما یدل بظاهره علی الکراهة و هی روایتان:تضمنت إحداهما أن السائل سأل عن النیاحة.و الأخری عن کسب النائحة،فکرههما الامام«ع»،علی أنهما غیر ظاهرتین فی الکراهة المصطلحة،فکثیرا ما یراد بالکراهة فی الأخبار التحریم،و ح فتکون هاتان الروایتان من الطائفة الأولی الدالة علی المنع مطلقا.

و مقتضی الجمع بینها حمل الأخبار المانعة علی النوح بالباطل،و حمل الأخبار المجوزة و ما هو ظاهر فی الکراهة علی النوح بالصدق،و علیه فالنتیجة هی جواز النیاحة بالصدق علی کراهة محتملة.

و بتقریب آخر أن قوله«ع»:(لا بأس بکسب النائحة إذا قالت صدقا).و ما فی معناه یدل بالالتزام علی جواز نفس النوح بالحق،فیقید به إطلاق الروایات المانعة.و بعد تقییدها تنقلب نسبتها الی الروایات الدالة بإطلاقها علی الجواز،فتکون مخصصة لها،فیکون النوح بالباطل حراما،و النوح بالحق جائزا علی الکراهة المحتملة،هذا ما یرجع الی حکم النیاحة و قد یقال:بأنها حینئذ معارضة بما دل علی حرمة الکذب،و حرمة الغناء،و حرمة إسماع المرأة صوتها للأجانب،و حرمة النوح فی آلات اللهو،و المعارضة بینها بنحو العموم من وجه.

و لکنها دعوی جزافیة،فإن هذه الروایات تدل علی جواز النوح بعنوانه الأولی،مع قطع النظر عن انطباق العناوین المحرمة علیه،فلا تکون معارضة لها یوجه.

و أما کسب النائحة فما دل علی جوازه مطلقا مقید بمفهوم ما دل علی جوازه إذا کان النیاح بالحق.و لکن هذه الروایة الظاهرة فی تقیید ما دل علی جواز کسب النائحة مطلقا ضعیفة السند.نعم یکفی فی التقیید ما تقدم مرارا من أن حرمة العمل بنفسه یکفی فی حرمة الکسب،مع قطع النظر عن الأدلة الخارجیة.

و قد یقال بتقیید المطلقات بقوله«ع»فی روایة حنان بن سدیر[2]:(لا تشارط و تقبل ما أعطیت).و علیه فالنتیجة أن کسب النائحة جائز إذا قالت حقا،و لم تشارط.

ص:435

و فیه أنه قد تقدم فی البحث عن کسب الماشطة أن النهی عن الاشتراط فی أمثال هذه الصنائع،و الأمر بقبول ما یعطی صاحبها إنما هو إرشاد الی أن الاشتراط فیها لا یناسب شؤون نوع الناس،و أن المبذول لهؤلاء لا یقل عن أجرة المثل،و هذا لا ینافی جواز رد المبذول إذا کان أقل من أجرة المثل،و علی هذا فلا دلالة فیها علی التقیید.

هذا کله مع الإغضاء عن أسانید الروایات و صونها عن الطرح،و إلا فإن جمیعها ضعیف السند غیر ما هو ظاهر فی جواز النیاح علی وجه الإطلاق،و ما هو ظاهر فی الکراهة،و ما هو ظاهر فی جواز کسب النائحة إذا لم تشارط،کروایة حنان المتقدمة.و إذن فتبقی هذه الروایات سلیمة عن المعارض.

حرمة الولایة من قبل الجائر

اشارة

قوله السادسة و العشرون:الولایة من قبل الجائر،و هی صیرورته والیا علی قوم منصوبا من قبله محرمة. أقول:الظاهر أنه لا خلاف بین الأصحاب فی حرمة الولایة من قبل الجائر فی الجملة.

و تدل علیها الأخبار المستفیضة،بل المتواترة (1)و قد تقدم بعضها فی البحث عن حرمة معونة الظالمین،کقوله«ع»:(من سود اسمه فی دیوان ولد سابع«مقلوب عباس» حشره اللّه یوم القیامة خنزیرا).و غیر ذلک من الروایات.

و یدل علی الحرمة أیضا ما فی روایة تحف العقول من قوله«ع»:(إن فی ولایة الوالی الجائر دروس (2)الحق کله و إحیاء الباطل کله و إظهار الظلم و الجور و الفساد و إبطال الکتب و قتل الأنبیاء و هدم المساجد و تبدیل سنة اللّه و شرائعه فلذلک حرم العمل معهم و معونتهم و الکسب معهم إلا بجهة الضرورة نظیر الضرورة إلی الدم و المیتة).و هذه الروایة و إن کانت ضعیفة السند،کما تقدم الکلام علیها فی أول الکتاب،إلا أن تلک التعلیلات المذکورة فیها تعلیلات صحیحة،فلا بأس بالتمسک بها.

ثم إن ظاهر جملة من الروایات کون الولایة من قبل الجائر بنفسها محرمة،و هی أخذ

ص:436


1- 1) راجع ج 1 کا باب 30 عمل السلطان من المعیشة ص 257.و ج 2 التهذیب ص 100.و ج 10 الوافی ص 25.و ج 2ئل باب 74 تحریم الولایة من قبل الجائر مما یکتسب به ص 549.و ج 2 المستدرک ص 438.
2- 2) فی نسخة تحف العقول ص 80:(دوس الحق):أی وطئه برجله.

المنصب منه،و تسوید الاسم فی دیوانه و إن لم ینضم إلیها القیام بمعصیة عملیة أخری من الظلم و قتل النفوس المحترمة،و إصابة أموال الناس و أعراضهم،و غیرها من شؤون الولایة المحرمة،فأی وال من ولاة الجور ارتکب شیئا من تلک العناوین المحرمة یعاقب بعقابین:

أحدهما من جهة الولایة المحرمة.و ثانیهما:من جهة ما ارتکبه من المعاصی الخارجیة.

و علیه فالنسبة بین عنوان الولایة من قبل الجائر و بین تحقق هذه الأعمال المحرمة هی العموم من وجه،فقد یکون أحد والیا من قبل الجائر،و لکنه لا یعمل شیئا من الأعمال المحرمة و إن کانت الولایة من الجائر لا تنفک عن المعصیة غالبا،و قد یرتکب غیر الوالی شیئا من هذه المظالم الراجعة إلی شؤون الولاة تزلفا إلیهم،و طلبا للمنزلة عندهم،و قد یجتمعان بأن یتصدی الوالی نفسه لأخذ الأموال و قتل النفوس،و ارتکاب المظالم.

ما استثنی من حرمة الولایة
منها

أخذها للقیام بمصالح العباد

قوله ثم إنه یسوّغ الولایة المذکورة أمران:أحدهما القیام بمصالح العباد بلا خلاف إلخ. أقول:قد استثنی من الولایة المحرمة أمران،الأول:أن یتولاها للقیام بمصالح العباد.الثانی:أن یتولاها مکرها علی قبولها و العمل بأعمالها.

أما الأمر الأول فقد استدل المصنف علیه بوجوه:

الأول:(أن الولایة إن کانت محرمة لذاتها کان ارتکابها لأجل المصالح و دفع المفاسد التی هی أهم من مفسدة انسلاک الشخص فی أعوان الظلمة بحسب الظاهر و ان کانت لاستلزامها الظلم علی الغیر فالمفروض عدم تحققه هنا).

و فیه إن کان المراد من المصالح حفظ النفوس و الأعراض و نحوهما فالمدعی أعم من ذلک و إن کان المراد منها أن القیام بأمور المسلمین،و الاقدام علی قضاء حوائجهم،و بذل الجهد فی کشف کرباتهم من الأمور المستحبة،و الجهات المرغوب بها فی نظر الشارع المقدس فلا شبهة أن مجرد ذلک لا یقاوم الجهة المحرمة،فإن المفروض أن الولایة من قبل الجائر حرام فی نفسها،و کیف ترتفع حرمتها لعروض بعض العناوین المستحبة علیها.

علی أنه(ره)قد اعترف آنفا بأن الولایة عن الجائر لا تنفک عن المعصیة،و علیه فلا یجوز الإقدام علی المعصیة لرعایة الأمور المستحبة.و قد اعترف أیضا فی البحث عن جواز الغناء فی قراءة القرآن بأن أدلة الأحکام الإلزامیة لا تزاحم بأدلة الأحکام الترخیصیة،و قد

ص:437

أوضحنا المراد فی المبحث المذکور.

الثانی:الإجماع.و فیه أنه و إن کان موجودا فی المقام،و لکنه لیس بتعبدی.

الثالث:و هو العمدة الأخبار[1]المتظافرة الظاهرة فی جواز الولایة من الجائر للوصول الی قضاء حوائج المؤمنین.و بعضها و إن کان ضعیف السند،و لکن فی المعتبر منها غنی و کفایة،و بهذه الأخبار نقید المطلقات الظاهرة فی حرمة الولایة من قبل الجائر علی وجه الإطلاق.

لا یقال:إن الولایة عن الجائر محرمة لذاتها کالظلم و نحوه،فلا تقبل التخصیص بوجه و لا ترفع الید عنها إلا فی موارد الضرورة.

فإنه یقال:إن غایة ما یستفاد من الأدلة هی کون الولایة بنفسها محرمة،و أما الحرمة الذاتیة فلم یدل علیها دلیل من العقل أو النقل،و إن ذهب إلیه العلامة الطباطبائی فی محکی الجواهر.

و قد یستدل علی جواز الولایة عن الجائر فی الجملة بقوله تعالی (1)حاکیا عن یوسف«ع» (اجْعَلْنِی عَلی خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّی حَفِیظٌ عَلِیمٌ) .

و فیه أولا:أنه لم یظهر لنا وجه الاستدلال بهذه الآیة علی المطلوب.

و ثانیا:أن یوسف«ع»کان مستحقا للسلطنة،و إنما طلب منه حقه،فلا یکون والیا من قبل الجائر.

ص:438


1- 1) سورة یوسف،آیة:55.
أقسام الولایة من قبل الجائر

إذا جازت الولایة عن الجائر فهل تتصف بالکراهة و الرجحان أم هی مباحة؟فنقول:

قد عرفت:أنه لا إشکال فی جواز الولایة عن الجائر إذا کان الغرض منه الوصول الی قضاء حوائج المؤمنین،فشأنها ح شأن الکذب للإصلاح علی ما تقدم الکلام علیه،و إنما الکلام فی اتصافها بالرجحان تارة،و بالمرجوحیة أخری.

الذی ظهر لنا من الاخبار:أن الولایة الجائزة قد تکون مباحة،و قد تکون مکروهة و قد تکون مستحبة،و قد تکون واجبة.

أما المباح فهو ما یظهر من بعض الروایات[1]المسوغة للولایة عن الجائر فی بعض الأحوال،کما ذکره المصنف.

و أما المکروه فیستفاد من روایة أبی نصر[2]الدالة علی أن الوالی عن الجائر الذی یدفع اللّه به عن المؤمنین أقل حظا منهم یوم القیامة.فإن الظاهر منها أن الولایة الجائزة عن الجائر مکروهة مطلقا.

و أما المستحب فتدل علیه جملة من الروایات،إذ الظاهر من روایة محمد بن إسماعیل[3]

ص:439

و غیرها أن الولایة الجائزة عن الجائر مستحبة علی وجه الإطلاق،فیقع التنافی بینها و بین ما تقدم من دلیل الکراهة.

و جمعهما المصنف(ره)بحمل روایة أبی نصر علی(من تولی لهم لنظام معاشه قاصدا للإحسان فی خلال ذلک الی المؤمنین و دفع الضرر عنهم)و حمل ما هو ظاهر فی الاستحباب علی(من لم یقصد بدخوله إلا الإحسان إلی المؤمنین).إلا أنه لم یذکر وجهه.

و التحقیق أن روایة أبی نصر ظاهرة فی مرجوحیة الولایة الجائزة مطلقا،سواء کانت لنظام المعاش مع قصد الإحسان إلی المؤمنین،أم کانت لخصوص إصلاح شئونهم،و روایة محمد بن إسماعیل ظاهرة فی محبوبیة الولایة عن الجائر إذا کانت لأجل إدخال السرور علی المؤمنین من الشیعة،و یدل علی ذلک من الروایة قوله«ع»:(فهنیئا لهم ما علی أحدکم أن لو شاء لنال هذا کله،قال:قلت:بما ذا جعلنی اللّه فداک؟قال:تکون معهم فتسرنا بإدخال السرور علی المؤمنین من شیعتنا فکن معهم یا محمد).

و علیه فتقید هذه الروایة روایة أبی نصر و ح فتختص الکراهة بما إذا قصد بالولایة عن الجائر حفظ معاشه،و کان قصد الإحسان إلی الشیعة ضمنا فی خلال ذلک،و إذا فتنقلب النسبة،و تصبح روایة أبی نصر مقیدة لما هو ظاهر فی رجحان الولایة الجائزة، سواء کانت لحفظ المعاش،أم لدفع الضرر عن المؤمنین من الشیعة،کروایتی المفضل و هشام ابن سالم[1]و تکون النتیجة أن الولایة من قبل الجائر إن کانت لحفظ المعاش مع قصد الإحسان إلی المؤمنین فهی مکروهة،و إن کانت للإحسان إلیهم فقط فهی مستحبة هذا.

و لکن روایة أبی نصر لضعف سندها قاصرة عن إثبات الکراهة،إلا علی القول بشمول

ص:440

قاعدة التسامح لأدلة الکراهة.و أما روایتا المفضل و هشام فإنهما و إن کانتا ضعیفتی السند إلا أنهما لا تقصران عن إثبات الاستحباب علی وجه الإطلاق،بناء علی قاعدة التسامح فی أدلة السنن المعروفة.

و قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه ما فی کلام المحقق الایروانی حیث حمل الروایات الدالة علی أن فی أبواب السلاطین و الجائرین من یدفع اللّه بهم عن المؤمنین علی غیر الولاة(من وجوه البلد و أعیانه الذین یختلفون إلیه لأجل قضاء حوائج الناس)!.

و أعجب من ذلک دعواه أن العمال فی الغالب لا یستطیعون التخطی عما نصبوا لأجله و فوض إلیهم من شؤون الولایة!!.

و وجه العجب أنه لا شبهة فی تمکنهم من الشفاعات و اقتدارهم علی المسامحة فی المجازات و اطلاعهم علی طریق الإغماض عن الخطیئات،و لا سیما من کان من ذوی المناصب العالیة و أما الواجب من الولایة فهو علی ما ذکره المصنف ما یتوقف علیه الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر الواجبان،فان ما لا یتم الواجب إلا به واجب مع القدرة.ثم استظهر من کلمات جماعة عدم الوجوب فی هذه الصورة أیضا،بل فی الجواهر إنه لم یحک عن أحد التعبیر بالوجوب إلا عن الحلی فی سرائره.

و الذی یهمنا فی المقام هو بیان مدرک الحکم بالوجوب،و الکلام یقع فیه تارة من حیث القواعد،و اخری من حیث الروایات:أما الناحیة الأولی ففی الجواهر یمکن أن یقال و لو بمعونة کلام الأصحاب بناء علی حرمة الولایة فی نفسها:(إنه تعارض ما دل علی الأمر بالمعروف و ما دل علی حرمة الولایة من الجائر و لو من وجه،فیجمع بینهما بالتخییر المقتضی للجواز رفعا لقید المنع من الترک مما دل علی الوجوب و المنع من الفعل مما دل علی الحرمة).

و فیه أن ملاک التعارض بین الدلیلین هو ورود النفی و الإثبات علی مورد واحد بحیث یقتضی کل منهما نفی الآخر عن موضوعه.و مثاله أن یرد دلیلان علی موضوع واحد، فیحکم أحدهما بوجوبه و الآخر بحرمته،و حیث إنه لا یعقل اجتماع الحکمین المتضادین فی محل واحد،فیقع بینهما التعارض،و یرجع الی قواعده.و من المقطوع به أن الملاک المذکور لیس بموجود فی المقام.

و الوجه فیه أن موضوع الوجوب هو الأمر بالمعروف أو النهی عن المنکر،و موضوع الحرمة هو الولایة من قبل الجائر،و کل من الموضوعین لا مساس له بالآخر بحسب طبعه الأولی،فلا شیء من أفراد أحد الموضوعین فردا للآخر.

ص:441

نعم المقام من قبیل توقف الواجب علی مقدمة محرمة،و علیه فیقع التزاحم بین الحرمة المتعلقة بالمقدمة و بین الوجوب المتعلق بذی المقدمة،نظیر الدخول إلی الأرض المغصوبة لإنقاذ الغریق،أو إنجاء الحریق،و یرجع الی قواعد باب التزاحم المقررة فی محله،و علی هذا فقد تکون ناحیة الوجوب أهم فیؤخذ بها،و قد تکون ناحیة الحرمة أهم فیؤخذ بها، و قد تکون إحدی الناحیتین بخصوصها محتمل الأهمیة فیتعین الأخذ بها کذلک،و قد یتساویان فی الملاک،فیتخیر المکلف فی اختیار أی منهما شاء،هذا ما تقتضیه القاعدة،إلا أن کشف أهمیة الملاک و العلم بوصوله الی حد الإلزام فی غایة الصعوبة.

و أما الکلام فی الناحیة الثانیة فقد دلت الآیات المتظافرة و الروایات المتواترة من الفریقین علی وجوب الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و کک دلت الروایات المستفیضة،بل المتواترة علی أنه لا بأس بالولایة من قبل الجائر إذا کانت لإصلاح أمور المؤمنین من الشیعة و قد تقدم بعضها،و بها قیدنا ما دل علی حرمة الولایة عن الجائر مطلقا،و من الواضح أن الأمور الجائزة إذا وقعت مقدمة للواجب کانت واجبة شرعا،کما هو معروف بین الأصولیین،أو عقلا کما هو المختار،و علیه فلا مانع من اتصاف الولایة الجائزة بالوجوب المقدمی إذا توقف علیها الواجب،کالأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.

علی أنه إذا جازت الولایة عن الجائر لا صلاح أمور المؤمنین جازت أیضا للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،إما بالفحوی،أو لأن ذلک من جملة إصلاح أمورهم،و قد أشار المحقق الایروانی الی هذا.و قد اتضح ان المقام من صغریات باب التزاحم دون التعارض،کما یظهر من صاحب الجواهر بعد کلامه المتقدم.

ثم إن الظاهر من بعض الروایات ان الدخول فی الولایة غیر جائز ابتداء،إلا أن الإحسان إلی المؤمنین یکون کفارة له.و مما یدل علی ذلک قوله«ع»فی مرسلة الصدوق (1)عن الصادق«ع»قال:(کفارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان).و قوله«ع» فی روایة زیاد بن أبی سلمة[1]:(فإن ولیت شیئا من أعمالهم فأحسن إلی إخوانک تکون واحدة بواحدة).

و لکن هذا الرأی علی إطلاقه ممنوع،فان الظاهر من هاتین الروایتین و من غیرهما من

ص:442


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 75 جواز الولایة من قبل الجائر مما یکتسب به ص 550.

الاخبار هو اختصاص ذلک بما إذا کان الدخول فی الولایة حراما ابتداء ثم أصبح جائزا بعد ذلک،ثم تبدل قصده إلی إصلاح أمور المؤمنین و الإحسان إلی إخوانه فی الدین، کیف و قد عرفت إطباق الروایات علی استحباب الولایة عن الجائر لقضاء حوائج المؤمنین و إصلاح شؤونهم.علی أن الروایتین ضعیفتا السند.

و لا یخفی ان کلمات الأصحاب هنا فی غایة الاختلاف،حیث ذهب بعضهم الی الوجوب و بعضهم الی الاستحباب،و بعضهم الی مطلق الجواز،و قد جمع المصنف(ره)بین شتات آرائهم بأن من عبر بالجواز مع التمکن من الأمر بالمعروف إنما أراد به الجواز بالمعنی الأعم، فلا ینافی الوجوب،و من عبر بالاستحباب إنما أراد به الاستحباب التعیینی،و هو لا ینافی الوجوب الکفائی،نظیر قولهم:یستحب تولی القضاء لمن یثق بنفسه مع انه واجب کفائی أو کان مرادهم ما إذا لم یکن هنا معروف متروک أو منکر مفعول لتجب الولایة مقدمة للأمر بالمعروف أو النهی عن المنکر.و علی الجملة لا شبهة فی وجوب الولایة عن الجائر إذا توقف علیها الأمر بالمعروف أو النهی عن المنکر الواجبین.

قبول الولایة من قبل الجائر مکرها

و أما الأمر الثانی و هو قبول الولایة من قبل الجائر مکرها فلا خلاف فیه،و لا شبهة فی أن هذه المسألة من المسائل المهمة التی یبتلی بها أکثر الناس،و یتفرع عنها فروع کثیرة و هی من صغریات جواز مخالفة التکلیف بالإکراه أو الاضطرار بحیث یشق علی المکره أو المضطر ان یتحمل الضرر المتوعد به،سواء کان مالیا أم عرضیا أم نفسیا أم اعتباریا و سواء تعلق بنفسه أم بعشیرته الأقربین.

و هذه الکبری مما لا خلاف فیها بین الفریقین نصا و فتوی.و یدل علی صدقها فی الجملة قوله تعالی: (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) .و قوله تعالی: (إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ) .و قد تقدم الکلام علیهما فی البحث عن جواز الکذب لدفع الضرورة.

أما الصغری فتدل علیها جملة من الروایات الخاصة (1)الواردة فی قبول الولایة عن الجائر مکرها.

ص:443


1- 1) راجع ج 1 کا باب 30 عمل السلطان من المعیشة ص 357.و ج 2 التهذیب ص 113.و ج 10 الوافی ص 26.و ج 2 ئل باب 77 جواز قبول الولایة من الجائر مع الخوف مما یکتسب به ص 551.
تنبیهات المسألة
حکم الإضرار بالناس مع الإکراه

قوله و ینبغی التنبیه علی أمور:الأول. أقول:قد عرفت انه لا شبهة فی أن الإکراه یسوغ الدخول فی الولایة من قبل الجائر،و کذلک لا شبهة فی جواز العمل للمکره بما یأمره الجائر من المحرمات ما عدا هراقة الدم،فإن التقیة إنما شرعت لتحقن بها الدماء فإذا بلغت الدم فلا تقیة فیه،و إنما الإشکال فی انه هل یجوز الإضرار بالناس إذا أکره علی الإضرار بهم،کنهب أموالهم،و هتک أعراضهم،و إیقاع النقص فی شؤونهم و عظائم أمورهم،سواء کان الضرر الذی توعد به المکره أقل من الضرر الذی یوجهه الی الغیر أم أکثر،أو لا بد من الإقدام علی أقل الضررین و ترجیحه علی الآخر.

ذکر المصنف(ره)انه قد یقال بالأول استنادا إلی أدلة الإکراه،و لأن الضرورات تبیح المحظورات،و قد یقال بالثانی،إذ المستفاد من أدلة الإکراه ان تشریع ذلک إنما هو لدفع الضرر،و واضح انه لا یجوز لأحد ان یدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغیره حتی فیما إذا کان ضرر الغیر أقل فضلا عما إذا کان أعظم.

و الوجه فی ذلک ان حدیث رفع الإکراه و الاضطرار مسوق للامتنان علی الأمة، و من المعلوم ان دفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغیره علی خلاف الامتنان،فلا یکون مشمولا للحدیث،ثم إنه(ره)اختار الوجه الأول،و استدل علیه بوجوه سنذکرها.

و تحقیق المقام یقع فی ثلاث نواحی،الناحیة الاولی:ان یتوجه الضرر ابتداء الی أحد من غیر ان یکون لفعل الآخر مدخل فیه،کتوجه السیل الی داره أو بستانه، و کتوجه الظلمة أو السراق الی نهب أمواله أو هتک إعراضه،و لا شبهة فی ان هذا القسم من الضرر لا یجوز دفعه بالإضرار بغیره تمسکا بأدلة نفی الإکراه و الضرر و الحرج،بداهة انها مسوقة للامتنان علی جنس الأمة،و بدیهی ان دفع الضرر المتوجه الی احد بالإضرار بغیره خلاف الامتنان علی الأمة،فلا یکون مشمولا للأدلة المذکورة.

علی انه لو جاز لأحد ان یدفع الضرر عن نفسه و لو بالإضرار بالغیر لجاز للآخر ذلک أیضا،لشمول الأدلة لهما معا،فیقع التعارض فی مضمونها،و ح فالتمسک بها لدفع الضرر عن احد الطرفین بالإضرار بالآخر ترجیح بال مرجح،و علیه فلا بد من رفع الید عن إطلاقها فی مورد الاجتماع،و یرجع فیه الی أدلة حرمة التصرف فی أموال الناس و اعراضهم و شؤونهم.

ص:444

نعم إذا کان الضرر المتوجه الی الشخص مما یجب دفعه علی کل احد،کقتل النفس المحترمة و ما یشبهه،و أمکن دفعه بالإضرار بالغیر کان المقام حینئذ من صغریات باب التزاحم فیرجع الی قواعده.

الناحیة الثانیة:أن یتوجه الضرر ابتداء الی الغیر علی عکس الصورة السابقة،و قد ظهر حکم ذلک من الناحیة الأولی کما هو واضح.

الناحیة الثالثة:أن یتوجه الضرر الی الغیر ابتداء،و الی المکره علی تقدیر مخالفته لما أمر به الجائر،و کان الضرر الذی توعده المکره(بالکسر)أمرا مباحا فی نفسه،کما إذا أکرهه الظالم علی نهب مال غیره و جلبه الیه،و إلا فیحمل أموال نفسه الیه،و فی هذه الصورة لا بد للمکره من تحمل الضرر بترک النهب،و من الواضح أن دفع المکره أمواله للجائر مباح فی نفسه حتی فی غیر حال الإکراه،و نهب أموال الناس و جلبه إلی الجائر حرام فی نفسه،و لا یجوز رفع الید عن المباح بالإقدام علی الحرام.

و قد استدل المصنف(ره)علی عدم وجوب تحمل الضرر بوجوه،الأول:أن دلیل نفی الإکراه یعم جمیع المحرمات حتی الإضرار بالغیر ما لم یجر إلی إراقة الدم.الثانی:

أن تحمل الضرر حرج عظیم،و هو مرفوع فی الشریعة المقدسة.و جواب الوجهین یتضح مما قدمناه فی الجهة الاولی.

الثالث:الأخبار[1]الدالة علی أن التقیة إنما جعلت لتحقن بها الدماء،فإذا بلغت الدم فلا تقیة،فإن ظاهرها جواز التقیة فی غیر الدماء بلغت ما بلغت.

و فیه أن الظاهر من هذه الأخبار أن التقیة إنما شرعت لحفظ بعض الجهات المهمة، کالنفوس و ما أشبهها،فإذا أدت الی إتلاف ما شرعت لأجله فلا تقیة،لأن ما یلزم من وجوده

ص:445

عدمه فهو محال،و لیس مفاد الروایات المذکورة هو جواز التقیة فی غیر تلف النفس لکی یترتب علیه جواز إضرار الغیر لدفع الضرر عن نفسه.

و الغرض من تشریع التقیة قد یکون حفظ النفس،و قد یکون حفظ العرض،و قد یکون حفظ المال و نحوه،و ح فلا یشرع بها هتک الأعراض،و نهب الأموال،لانتهاء آمادها بالوصول الی هذه المراتب.و بعبارة أخری المستفاد من الروایات المذکورة أن الغرض من التقیة هو حفظ الدماء و إن توقف ذلک علی ارتکاب بعض المعاصی ما لم یصل الی مرتبة قتل النفس.

علی أنه لو جازت التقیة بنهب مال الغیر و جلبه الی الظالم لدفع الضرر عن نفسه لجاز للآخر ذلک أیضا،لشمول أدلة التقیة لهما معا،فیقع التعارض فی مضمونها،و ح فلا یجوز الاستناد إلیها فی دفع الضرر عن أحد الطرفین بإیقاع النقص بالطرف الآخر،لانه ترجیح بلا مرجح،و علیه فنرفع الید عن إطلاقها فی مورد الاجتماع،و یرجع فیه الی عموم حرمة التصرف فی مال الغیر و شؤونه.

الرابع ما ذکره من الفرق بین الإکراه و الاضطرار،حیث التزم بحرمة دفع الضرر عن نفسه بالإضرار بغیره فی مورد الاضطرار دون الإکراه،و حاصل کلامه:أن الضرر فی موارد الاضطرار قد توجه ابتداء الی الشخص نفسه،کما إذا توجه السیل الی داره فلا یجوز له دفعه بالإضرار بغیره،لأن دفع الضرر عن النفس بالإضرار بالغیر قبیح،و لا یصح التمسک بعموم رفع ما اضطروا إلیه،فإن حدیث الرفع قد ورد فی مورد الامتنان، و لا شبهة أن صرف الضرر عن نفسه الی غیره مناف له،فیختص الحدیث بغیر الإضرار بالغیر من المحرمات.

و أما فی موارد الإکراه فإن الضرر قد توجه الی الغیر ابتداء بحسب إلزام الظالم و إکراهه و من المعلوم أن مباشرة المکره(بالفتح)لإیقاع الضرر بالغیر لیست مباشرة استقلالیة لیترتب علیها الضمان،کما یترتب علی بقیة الأفعال التولیدیة،بل هی مباشرة تبعیة،و فاعلها بمنزلة الآلة،فلا ینسب الیه الضرر،نعم لو تحمل الضرر و لم یضر بالغیر فقد صرف الضرر عن الغیر الی نفسه عرفا.و لکن الشارع لم یوجب هذا.

و لکن ما أفاده المصنف غیر تام صغری و کبری،أما عدم صحة الصغری فلأن الضرر فی کلا الموردین إنما توجه الی الشخص نفسه ابتداء،فإن الإکراه لا یسلب الاختیار عن المکره لیکون بمنزلة الآلة المحضة،بل الفعل یصدر منه بإرادته و اختیاره،و یکون فعله کالجزء الأخیر من العلة التامة لنهب مال الغیر مثلا حتی أنه لو لم یأخذه و لم یجلبه الی الظالم

ص:446

لکان المال مصونا،و ان توجه الضرر ح الی نفسه فمباشرته للإضرار بالغیر لدفع الضرر المتوعد به عن نفسه مباشرة اختیاریة.فتترتب علیها الأحکام الوضعیة و التکلیفیة.

و بعبارة اخری أن مرجع الإکراه إلی تخییر المکره بین نهب مال الغیر و بین تحمل الضرر فی نفسه علی فرض المخالفة،و حیث کان الأول حراما وضعا و تکلیفا فتعین علیه الثانی.نعم لو کان الضرر متوجها الی الغیر ابتداء،و لم یکن له مساس بالواسطة أصلا فلا یجب علیه دفعه عن الغیر بإضرار نفسه،و من هنا ظهر الجواب عما ذکره المصنف أخیرا من أن الفارق بین المقامین هو أدلة الحرج.

و أما عدم صحة الکبری فلأنه لا وجه للمنع عن وجوب دفع الضرر عن الغیر بإیقاعه بنفسه بل قد یجب ذلک فیما إذا أوعده الظالم بأمر مباح فی نفسه و کان ما أکرهه علیه من إضرار الغیر حراما،فإنه ح یجب دفع الضرر عن غیره بالإضرار بنفسه کما عرفته آنفا،لأنه بعد سقوط أدلة نفی الضرر و الإکراه و الحرج فأدلة حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه محکمة.

الخامس:ما أفاده المصنف أیضا من أن أدلة نفی الحرج کافیة فی الفرق بین المقامین، فان الضرر إذا توجه الی المکلف ابتداء،و لم یرخص الشارع فی دفعه عن نفسه بتوجیهه إلی غیره فان هذا الحکم لا یکون حرجیا،أما إذا توجه الضرر الی الغیر ابتداء فإن إلزام الشارع بتحمل الضرر لدفعه عن الغیر حرجی قطعا،فیرتفع بأدلة نفی الحرج.

و فیه أنه ظهر جوابه مما ذکرناه من المناقشة فی الصغری،و وجه الظهور هو عدم الفارق بین توجه الضرر الی الغیر ابتداء و عدمه.

الناحیة الرابعة:أن یتوجه الضرر ابتداء الی الغیر،و الی المکروه علی تقدیر مخالفته حکم الظالم،کما إذا أکرهه علی أن یلجئ شخصا آخر الی فعل محرم کالزنا،و إلا أجبره علی ارتکابه بنفسه،و حینئذ فلا موضع لأدلة نفی الإکراه و الاضطرار و الحرج و الضرر بداهة أن الإضرار بأحد الطرفین مما لا بد منه جزما،فدفعه عن أحدهما بالإضرار بالآخر ترجیح بلا مرجح،و إذن فتقع المزاحمة و یرجع الی قواعد باب التزاحم.

الناحیة الخامسة:أن یتوجه الضرر الی أحد شخصین ابتداء،و الی المکروه علی فرض مخالفته الظالم،و لکن فیما إذا کان الضرر المتوعد به أعظم مما یترتب علی غیره،کما إذا أکرهه علی أن یأخذ له ألف دینار إما من زید،و إما من عمرو،و إلا أجبره علی إراقة دم محترم مثلا،و فی هذه الصورة یجب علی المکروه أن یدفع الضرر عن نفسه بالإضرار بأحد الشخصین،فان حفظ النفس المحترمة واجب علی کل احد،و یدور الأمر بین الإضرار

ص:447

بأحد الشخصین،و یرجع فی ذلک الی قواعد باب التزاحم.

جواز قبول الولایة من الجائر

لدفع الضرر عن الغیر

قوله الثانی:أن الإکراه یتحقق بالتوعد بالضرر. أقول:الکراهة فی اللغة هی ضد الحب،و الإکراه هو حمل الرجل علی ما یکرهه،و هذا المعنی یتحقق بحمل الشخص علی کل ما یکرهه بحیث یترتب علی ترکه ضرر علیه،أو علی عشیرته،أو علی الأجانب من المؤمنین،و إذا انتفی التوعد بما یکرهه انتفی الإکراه،و علیه فلا نعرف وجها صحیحا لما ذکره المصنف من تخصیص الإکراه ببعض ما ذکرناه.

قال:(إن الإکراه یتحقق بالتوعد بالضرر علی ترک المکره علیه ضررا متعلقا بنفسه أو ماله أو عرضه،أو بأهله ممن یکون ضررا راجعا الی تضرره و تألمه،و أما إذا لم یترتب علی ترک المکره علیه إلا الضرر علی بعض المؤمنین ممن یعد أجنبیا من المکره بالفتح فالظاهر أنه لا یعد ذلک إکراها عرفا،إذ لا خوف له یحمله علی فعل ما أمر به).

نعم یختلف موضوع الکراهة باختلاف الأشخاص و الحالات،فان بعض الأشخاص یکره مخالفة أی حکم من الأحکام الإلهیة فی جمیع الحالات،و بعضهم یکره ذلک فی الجهر دون الخفاء،و بعضهم یکره مخالفة التکالیف المحرمة دون الواجبات،و بعضهم بالعکس، و بعضهم لا یکره شیئا من مخالفة التکالیف حتی قتل النفوس فضلا عن غیره.

ثم إن الفارق بین الأمرین أن الضرر المتوعد به متوجه الی المکره(بالفتح)فی الأول و الی غیره من الأجانب فی الثانی الذی أنکر المصنف(ره)تحقق مفهوم الإکراه فیه.

و تحقیق الکلام هنا فی جهات ثلاث،کلها مشترکة فی عدم ترتب الضرر علی المکره لو ترک ما اکره علیه،ولایة کانت أم غیرها.

الجهة الاولی:ان یخشی من توجه الضرر الی بعض المؤمنین،و یتوقف دفعه علی قبول الولایة من الجائرین،و الدخول فی أعمالهم،و الحشر فی زمرتهم للتقیة فقط،من دون ان یکون هناک إکراه علی قبول الولایة،و لا ضرر یتوجه علیه لو لم یقبلها،و من دون ان یتوقف دفع الضرر عن المؤمنین علی ارتکاب أمر محرم.

و الظاهر أنه لا شبهة فی جواز الولایة عن الجائر حینئذ تقیة،فإن التقیة شرعت لحفظ المؤمنین عن المهالک و المضرات،بل تعد التقیة فی مواردها من جملة العبادات التی یترتب

ص:448

علیها الثواب،و لا ریب أن تلک الغایة حاصلة فی المقام،و مما یدل علی جواز الولایة هنا لأجل التقیة الروایات الکثیرة (1)الآمرة بالتقیة صونا لنفوس المؤمنین و أعراضهم و أموالهم عن التلف،بل ورد فی عدة من الروایات (2)جواز التقیة بالتبری عن الأئمة«ع»لسانا إذا کان القلب مطمئنا بالایمان،و مما یدل علی ذلک أیضا تجویز الأئمة«ع»فی جملة من الأحادیث (3)لعلی بن یقطین و غیره أن تقلبوا الولایة عن الجائر تقیة لإصلاح أمور المؤمنین و دفع الضرر عنهم.

و یضاف الی ذلک کله أن ظاهر غیر واحدة من الروایات مشروعیة التقیة لمطلق التوادد و التحبب و إن لم یترتب علیها دفع الضرر عن نفسه أو عن غیره،فیدل بطریق الأولویة علی جواز الولایة عن الجائر تقیة لدفع الضرر عن المؤمنین.

قوله لکن لا یخفی أنه لا یباح بهذا النحو من التقیة الإضرار بالغیر. أقول:الوجه فیه هو ما تقدم آنفا من کون الأدلة الواردة فی نفی الإکراه و شبهه واردة فی مقام الامتنان علی الأمة بعمومها،فلا یصح التمسک بها لدفع الضرر عن أحد بتوجیه الضرر الی غیره،لأن ذلک علی خلاف الامتنان فی حق ذلک الغیر،و لیس الوجه فیه هو ما ذکره المصنف من عدم تحقق الإکراه إذا لم یتوجه الضرر علی المکره،فقد عرفت أن مفهوم الإکراه أوسع من ذلک الجهة الثانیة:أن یکون قبول الولایة من الجائر عاصما عن توجه الضرر إلی المؤمنین، و سببا لنجاح المکروبین منهم من دون أن یلحق المکره ضرر لو لم یقبلها و مثاله ما لو أکره الجائر علی قبول الولایة من قبله،و أوعده علی ترکها بإضرار المؤمنین و هتکهم و التنکیل بهم و ما أشبه ذلک،و لا شبهة هنا أیضا فی جواز الولایة عن الجائر لدفع الضرر عن المؤمنین.

و تدل علی الروایات المقدمة الدالة علی جواز الولایة عن الجائر لإصلاح أمور المؤمنین، بل دلالتها علی الجواز هنا أولی من وجهین،الأول:وجوده الإکراه.و الثانی:القطع بتوجه الضرر علی المؤمنین مع رد الولایة.

الجهة الثالثة:أن یکره الظالم أحدا علی ارتکاب شیء من المحرمات الإلهیة،سواء کانت هی الولایة أم غیرها من غیر أن یترتب علیه فی ترکها ضرر أصلا،و لکن الظالم أو عده علی ترک ذلک العمل بإجبار غیره علی معصیة من حرمات اللّه،و مرجع ذلک فی الحقیقة إلی دوران

ص:449


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلی مصادرها فی ص 445.
2- 2) راجع ج 2 ئل باب 29 جواز التقیة فی إظهار کلمة الکفر من الأمر بالمعروف ص 504.
3- 3) قد تقدمت الإشارة إلیها و الی مصادرها فی ص 438.

الأمر بین إقدام المکره(بالفتح)علی معصیة لا یتضرر بترکها،و بین إقدام شخص آخر علیها.

و مثاله ما إذا أکرهه الجائر علی شرب الخمر،و إلا أکره غیره علیه،و الظاهر أنه لا ریب فی حرمة ارتکاب المعصیة فی هذه الصورة فإنه لا مجوز للإقدام علیها من الأدلة العقلیة و النقلیة،إلا أن یترتب علی ارتکاب المعصیة حفظ ما هو أهم منها،کصیانة النفس عن التلف و ما أشبه ذلک،و ح یکون المقام من صغریات باب التزاحم،فتجری فیه قواعده.

قوله و کیف کان فهنا عنوانان:الإکراه و دفع الضرر المخوف إلخ. أقول:

توضیح کلامه:أن الشارع المقدس قد جعل الإکراه موضوعا لرفع کل محرم عدا إتلاف النفوس المحترمة کما تقدم،بخلاف دفع الضرر المخوف علی نفسه أو علی غیره من المؤمنین، فإنه من صغریات باب التزاحم،و لکنک قد عرفت أن دلیل الإکراه لا یسوغ دفع الضرر عن النفس بالإضرار بغیره،و علیه فکاد العنوانین من صغریات باب التزاحم،و علی کل حال فتجوز الولایة عن الجائر فی کلا المقامین لدفع الضرر عن نفسه و عن سائر المؤمنین.

و أما إحراز ملاکات الأحکام و کشف أهمیة بعضها من بعض فیحتاج الی الاطلاع علی أبواب الفقه،و الإحاطة بفروعه و أدلته،و قد تعرض الفقهاء رضوان اللّه علیهم لعدة من فروع المزاحمة فی الموارد المناسبة،و لا یناسب المقام ذکره.

حکم اعتبار العجز عن التفصی فی الإکراه

قوله الثالث:أنه قد ذکر بعض مشایخنا المعاصرین إلخ. أقول:حاصل کلامه أن بعض المعاصرین استظهر من کلمات الأصحاب فی اعتبار العجز عن التخلص أن لهم فی ذلک أقوالا ثلاثة،ثالثها التفصیل بین الإکراه علی الولایة فلا یعتبر فیه العجز عن التخلص و بین غیرها من المحرمات،فیعتبر فیه ذلک.و لعل منشأ الخلاف ما ذکره فی لک فی شرح قول المحقق:(إذا أکراه الجائر علی الولایة جاز له الدخول،و العمل بما یأمره مع عدم القدرة علی التفصی).

و حاصل ما ذکره فی لک:أنه یمکن أن یکون غرض المحقق هو تعدد الشرط و المشروط بأن تکون الولایة عن الجائر بنفسها مشروطة بالإکراه فقط و یکون العمل بما یأمر الجائر بانفراده مشروطا بعدم قدرة المأمور علی التفصی.

و یرد علیه أنه لا وجه لاشتراط الولایة مطلقا بالإکراه،فإن جواز قبولها لا یتوقف

ص:450

علی الإکراه إذا انفردت عن العمل بما یأمره الجائر،و لذا قد تکون مباحة،و قد تکون مستحبة،و قد تکون مکروهة،و قد تکون واجبة،و أما العمل بما یأمر به الجائر فقد صرح الأصحاب فی کتبهم أنه مشروط بالإکراه خاصة،و لا یشترط فیه الإلجاء إلیه بحیث لا یقدر علی خلافه.

و یمکن أن یکون المشروط فی کلام المحقق أمرا وحدانیا مرکبا من أمرین(الولایة و العمل بما یأمره الجائر)و یکون مشروطا بشرطین:(الإکراه و عدم القدرة علی التفصی) و یرد علیه أنه یکفی الإکراه بانفراده فی امتثال أمر الجائر مع خوف الضرر حتی فی فرض التمکن من التخلص،فلا وجه للشرط الثانی.

و قد تجلی من ذلک أن مرجع ما ذکره فی لک إلی ثلاثة محتملات،الأول:أن الولایة عن الجائر غیر مشروطة بالإکراه،و إنما المشروط به هو العمل بما یأمره الجائر.الثانی:

أن المجموع المرکب من الأمرین مشروط بالإکراه فقط دون العجز عن التخلص بحیث لا یقدر علی خلافه.الثالث:التفصیل بین الولایة و بین العمل بما یأمره الجائر،فیقید الأول بالإکراه و الثانی بالإلجاء الیه،و العجز عن التخلص،و کأن المتوهم جعل کل محتمل قولا برأسه.

أقول:یرد علی هذا المتوهم أولا:أن مجرد الاحتمال لا یستلزم وجود القائل به.

و ثانیا:أنا لا نعرف وجها صحیحا للقول بالتفصیل.فان الظاهر من کلمات الفقهاء رضوان اللّه علیهم فی باب الإکراه أنه لا خلاف بینهم فی اعتبار العجز عن التفصی فی ترتب أحکام الإکراه،أما إذا أمکن التفصی فلا تترتب تلک الأحکام،إلا إذا کان التفصی حرجیا، و لم یفرقوا فی ذلک بین الولایة المحرمة،و بین العمل بما یأمره الجائر من الأعمال المحرمة المترتبة علی الولایة،و بین بقیة المحرمات،فإن أدلة المحرمات محکمة،و لا تحتمل أن یجوز أحد شرب الخمر بمجرد الإکراه حتی مع القدرة علی التخلص،و کذلک لا خلاف بین الفقهاء أیضا فی أنه لا یعتبر فی باب الإکراه العجز عن التفصی إذا کان فی التفصی ضرر کثیر علی المکره،کما انهم لم یشترطوا فی ترتب الأحکام أن یلجأ إلی المکره علیه بحیث لا یقدر علی خلافه کما صرح به فی المسالک،فان مرجع ذلک الی العجز العقلی،و لم یعتبره أحد فی الإکراه جزما.

نعم قد تترتب علی المعصیة التی أکره علیها مصلحة هی أهم منها،و لا یعتبر فی هذه الصورة العجز عن التفصی.و مثاله ما إذا أکره الجائر أحدا علی معصیة،و کان المجبور متمکنا من التخلص منها بخروجه عن المکان الذی یعصی اللّه فیه،إلا ان ارتکابه لتلک

ص:451

المعصیة مع الظالم یتیح له الدخول فی أمر یترتب علیه حفظ الإسلام،أو النفس المحترمة، أو ما أشبه ذلک.

ان جواز الولایة عن الجائر

مع الضرر المالی رخصة لا عزیمة قوله الرابع:ان قبول الولایة مع الضرر المالی الذی لا یضر بالحال رخصة لا عزیمة) أقول:إذا أجبر الجائر أحدا علی الولایة من قبله،أو علی عمل محرم،و کان المجبور متمکنا من التخلص و لو بتحمل الضرر المالی و إن بلغ ما بلغ جاز له ذلک.فإن أدلة نفی الإکراه إنما هی مسوقة لرفع الإلزام فقط عن مورد الإکراه،و لیست ناظرة إلی بیان حکم المورد.

و علیه فلا بد من تعیین حکمه من الرجوع الی القواعد الأخری،فقد یکون المکره علیه من قبیل قتل النفس و ما یشبهه،فیحرم الإقدام علیه،و قد یکون من قبیل الضرر المالی علی نفسه فیجوز تحمله،لأن الناس مسلطون علی أموالهم (1).و من هنا یعلم ان تقیید الضرر المالی بعدم إضراره بالحال کما فی المتن لا یخلو عن مسامحة.

و بعبارة اخری:ان أدلة الإکراه لا تشمل المقام،و علیه فان کان المورد کقتل النفوس و نحوه مما اهتم الشارع بحفظه فیحرم الاقدام علیه،بل یجب دفعه،و إن کان من قبیل الضرر المالی فیجوز التحمل به لدلیل السلطنة.

لا یقال:إن بذل المال للجائر دفعا للولایة المحرمة إعانة علی الإثم.

فإنه یقال:لا وجه له صغری و کبری،أما الاولی فلأن ذلک من قبیل مسیر الحاج و الزوار و تجارة التجار مع إعطاء المکوس و الکمارک و الضرائب،و لا یصدق علی شیء منها عنوان الإعانة علی الإثم،و اما الثانیة فقد تقدم فی البحث عن بیع العنب ممن یجعله خمرا أنه لا دلیل علی حرمة علی الإعانة علی الإثم.

ص:452


1- 1) راجع ج 1 البحار ص 154.
حرمة قتل المؤمن بالإکراه أو بالتقیة

قوله:الخامس:لا یباح بالإکراه قتل المؤمن و لو توعد علی ترکه بالقتل إجماعا).

أقول:هل یشرع بالتقیة أو بالإکراه قتل النفوس المحترمة أو لا؟اما التقیة فهی فی اللغة اسم لا تقی یتقی بمعنی الخوف و التحذیر و التجنب،و المراد بها هنا التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته فی فعل أو قول مخالف للحق.

و الظاهر انه لا خلاف فی جوازها لحفظ الجهات المهمة الشرعیة،بل قد عرفت فی مبحث الکذب عند البحث عن أقوال الأئمة الصادرة تقیة إجماع الفریقین و ضرورة العقلاء و تظافر الآیات و الروایات علی جواز الکذب لانجاء النفس المحترمة.

علی انه ورد فی بعض الأحادیث (1):(إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدم فإذا بلغت التقیة الدم فلا تقیة).فإن الظاهر من ذلک انه إذا توقف حفظ النفس علی ارتکاب أی محرم فإنه یصبح مباحا مقدمة لصیانة النفس المحترمة عن التلف،إلا ان التقیة إذا اقتضت إراقة دم محترم لحفظ دم آخر فإنها لا تشرع ح،لما عرفت آنفا ان کلا من الشخصین مشمول للحدیث،فترجیح أحدهما علی الآخر ترجیح بلا مرجح.

بل قد عرفت سابقا ان الغرض الأقصی من جعل التقیة فی الشریعة المقدسة إنما هو حفظ أموال المؤمنین و اعراضهم و نفوسهم و ما أشبه ذلک من شؤونهم،فإذا توقف حفظ شیء منها علی إتلاف عدیله من شخص آخر ارتفعت التقیة ح لارتفاع الغایة منها.

و مثاله ما إذا اقتضت التقیة إتلاف مال شخص لحفظ مال شخص آخر فإنه لا یجوز إتلافه تقیة.و الوجه فیه ان شمول أخبار التقیة لهما علی حد سواء،و إذن فترجیح أحدهما علی الآخر ترجیح بلا مرجح کما عرفت،فیرجع فی ذلک الی الأدلة الدالة علی حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه،و هکذا الحال فی جمیع الموارد التقیة.

غایة الأمر ان ما دل علی ان التقیة إنما شرعت لیحقن به الدم ناظر الی بیان المرتبة العلیا من التقیة،و لیس فیه ظهور فی اختصاص الحکم بهذه المرتبة فقط.

و من هنا ظهر ما فی کلام المحقق الایروانی،حیث قال:(و یقرب عندی ان المراد من هذه الأحادیث أمر وجدانی یدرکه العقل،و هو ان التقیة لما شرعت لغایة حفظ النفس فإذا لم تکن هذه الغایة موجودة،بل کان الشخص مقتولا لا محالة اتقی أو لم یتق فلا تقیة

ص:453


1- 1) قد تقدمت الروایة فی البحث عن الإضرار بالناس مع الإکراه علیه ص 445.

لانتفاء ما هو الغرض من تشریع التقیة).

و مع الإغضاء عما ذکرناه فان ما أفاده إنما یلائم قوله«ع»فی روایة محمد بن مسلم:(إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلیس تقیة).فإنه یمکن ان یتوهم منها أن الغایة من التقیة هی حفظ الدم و إذا کان لا بد للظالم من إراقة الدم فلا موضوع للتقیة.

و لکن یباینه قوله«ع»فی روایة أبی حمزة الثمالی:(إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدم فإذا بلغت التقیة الدم فلا تقیة).فإن هذه الروایة ظاهرة،بل صریحة فی أن التقیة إذا توقفت علی إراقة الدم فلا تقیة،فتکون هذه الروایة قرینة لبیان المراد من الروایة الأولی أیضا.

ثم إنه لا فرق بین افراد المؤمنین من حیث الصغر و الکبر،و لا من حیث الرجولة و الأنوثة،و لا من حیث العلم و الجهل،و لا من حیث الحریة و العبودیة،لإطلاق قوله«ع» (إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدم فإذا بلغت التقیة الدم فلا تقیة).

و أما الإکراه-و قد تقدم معناه فی الأمر الثانی-فهو لا یسوغ قتل النفس المحترمة بلا خلاف بین الفریقین،و الوجه فیه هو ما تقدم من أن الأدلة الدالة علی نفی الإکراه و الضرر و الحرج واردة فی مقام الامتنان،و من الواضح ان الإضرار بالغیر مناف للامتنان،فلا یکون مشمولا لها،فتبقی الأدلة الدالة علی حرمة قتل النفس المحترمة سلیمة عن المزاحم.

نعم إذا أجبر الظالم أحدا علی قتل أحد شخصین محقونی الدم،أو اضطر الیه نفسه، کما إذا وقع من شاهق،و کان لا بد له من الوقوع علی رأس أحدهما،فلا بد حینئذ من الرجوع الی قواعد التزاحم،و یتضح ذلک بلحاظ ما حققناه فی دوران الأمر بین إنقاذ أحد الغریقین،فإنه لم یستشکل أحد فی وجوب المبادرة لإنقاذ الأهم منهما و ترک الآخر.

و هذا نظیر الإکراه علی إیقاع الضرر المالی علی أحد الشخصین،و قد تقدم الکلام فیه.

لا یقال:قد نطق القرآن الکریم فی آیة محکمة[1]بالتکافؤ بین الدماء المحترمة و معه فأی معنی لملاحظة الأهم و المهم فی ذلک،و قد ورد ذلک فی الاخبار المستفیضة المذکورة فی أبواب القصاص.

فإنه یقال:نعم و لکن مورد التکافؤ الذی دلت علیه الآیة و الروایات إنما هو القصاص فقط،فلا مساس له بما نحن فیه،و من هنا اتضح حکم ما لو أکره الجائر أحدا إما علی قتل نفسه و إما علی قتل غیره.و قد انجلی الصبح،و انکشف الظلام،و ظهر الفارق بین التقیة و الإکراه موضوعا و حکما،و الله العالم بالحقائق و الاسرار.

ص:454

ان المستحق للقتل قصاصا

محقون الدم بالنسبة الی غیر ولی الدم

قوله و أما المستحق للقتل قصاصا فهو محقون الدم بالنسبة الی غیر ولی الدم).

أقول:مستحق القتل قد یکون مهدور الدم لکل أحد،لکونه مسلوب الاحترام، کالنواصب الذین یظهرون العداوة و البغضاء لآکل محمد(صلی الله علیه و آله)،و قد یکون مهدور الدم بالنسبة الی جمیع الناس،و لکن بإجازة حاکم الشرع،کمن ثبت علیه الحد الشرعی الموجب للقتل،و قد یکون مهدور الدم لفریق معین،کمن قتل مؤمنا عن عمد و اختیار.

أما الأول فلا شبهة فی خروجه عن حد النفوس المحترمة قطعا،لأن الشارع المقدس سلب احترام دمه عند کل من اطلع علی خبثه و رذالته،فیکون مهدور الدم لجمیع الناس و لا یکون مشمولا لقوله«ع»:(فإذا بلغت التقیة الدم فلا تقیة).و علیه فلو اقتضت التقیة أو الإکراه قتل ناصبی فلا محذور فی الاقدام علیه،لثبوت جوازه قبل التقیة و الإکراه فمعهما یکون أولی بالجواز،إلا أن تترتب الفتنة علی قتله،فإنه لا یجوز ح الاقدام علی قتله،لوجوب سد أبواب الفتن.

و أما الثانی فحکمه حکم بقیة النفوس المحترمة،فلا یجوز قتله بدون إذن الحاکم الشرعی حتی مع التقیة و الإکراه،لکونه محقون الدم بالنسبة الی غیر الحاکم الشرعی،و من هنا یعلم حکم الثالث أیضا.فإن الکتاب العزیز[1]إنما أثبت السلطنة علی دم القاتل لولی المقتول،فلا یسوغ لغیره الاقدام علیه فی حال من الحالات،إلا مع الإذن الشرعی،و قد انجلی مما ذکرناه ما فی کلام المحقق الایروانی،فإنه(ره)استظهر من الروایات أن المراد من محقون الدم ما یکون محقونا بقول مطلق،و یرجع فی غیره الی عموم رفع ما استکرهوا علیه (1).

ص:455


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 55 جملة مما عفی عنه من جهاد النفس ص 469.
حکم التقیة و الإکراه فی قتل المخالفین

قوله و مما ذکرنا ظهر سکوت الروایتین عن حکم دماء أهل الخلاف. أقول:

قد أشرنا آنفا الی أن الغرض الأقصی من التقیة هو حفظ دماء الشیعة،و إن حدها بلوغ التقیة إلی الدم،و حینئذ فما دل علی عدم جریان التقیة فی الدماء المحترمة ساکت عن حکم التقیة فیما إذا أدت إلی قتل غیر الشیعة من أی فرق المسلمین،و علیه فحکم قتل المخالفین بالتقیة أو بالإکراه حکم سائر المحرمات التی ترتفع حرمتها بهما.

قوله بقی الکلام فی أن الدم یشمل الجرح و قطع الأعضاء أو یختص بالقتل وجهان) أقول:إن الظاهر من قوله«ع»:(إنما جعلت التقیة لیحقن بها الدم).و إن کان هو الدم الذی کان علة لبقاء الحیاة،إلا أنه مع ذلک لا یمکن الحکم بجواز جرح الغیر أو قطع أعضائه للتقیة،فإن دلیل جواز التقیة کدلیل رفع المستکره علیه إنما ورد فی مقام الامتنان فلا یشمل ما إذا کان شموله منافیا له،و علیه فیجری فی موردها ما ذکرناه فی مورد الإکراه فراجع.

قوله فیما ینبغی للوالی العمل به فی نفسه و فی رعیته. أقول:قد ورد فی الروایات الکثیرة[1]حکم الوالی فی نفسه،و حکمه مع رعیته،فلا بد و أن یلاحظها المتقمص بمنصب الولایة لکی لا یکون فی عداد الظالمین،بل یتصدی لإعمال الولایة بالقسط و العدل

حرمة هجاء المؤمن

قوله السابعة و العشرون:هجاء المؤمن حرام بالأدلة الأربعة. أقول:الهجو فی اللغة عد معائب الشخص،و الوقیعة فیه،و شتمه،و لا خلاف بین المسلمین فی حرمة هجاء المؤمن،و إن اختلفت الشیعة مع غیرهم فی ما یراد بکلمة المؤمن،بل فی کلام بعض العامة (1)تعمیم الحرمة إلی هجاء أهل الذمة أیضا.

ص:456


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 78 ما ینبغی للوالی العمل به فی نفسه مما یکتسب به ص 552 و ج 2 المستدرک باب 42 ما ینبغی للوالی العمل به نفسه مما یکتسب به ص 441.

و قد استدل المصنف علی حرمته بالأدلة الأربعة بدعوی أنه ینطبق علیه عنوان الهمز و اللمز و أکل اللحم و التعییر و إزاعة الستر،و کل ذلک کبیرة موبقة،و جریمة مهلکة، بالکتاب و السنة و العقل و الإجماع.

و تحقیق المقام أن الهجو قد یکون بالجملة الإنشائیة،و قد یکون بالجملة الخبریة،أما الأول فلا شبهة فی حرمته،لکونه من اللمز و الهمز،و الإهانة و الهتک،و قد دلت الروایات (1)المتواترة علی حرمة هتک المؤمن و إهانته،و نطق القرآن الکریم بحرمة الهمز و اللمز (2).

و أما الثانی فإن کان الخبر مطابقا للواقع کهجو المؤمن بما فیه من المعایب کان حراما من جهة الغیبة و الهتک و الإهانة و التعییر و الهمز،و إن کان الخبر مخالفا للواقع کان حراما أیضا من نواحی شتی،لکونه کذبا و بهتا،و إهانة و ظلما،و همزا و لمزا.

و لا فارق فی أفراد المؤمن بین العادل و الفاسق غیر المعلن و قد تقدم الکلام علیه فی مبحث الغیبة،بل یمکن أن یقال بحرمة هجو الفاسق المعلن بفسقه،فقد تقدم فی البحث عن مستثنیات الغیبة أن عمدة الدلیل علی جواز غیبة المتجاهر فی الفسق خروج ذلک عن دائرة الغیبة موضوعا،فإنها أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه،و ما ارتکبه الفاسق المتجاهر الهجو لانتقاص المتجاهر،و ذکره بما فیه من العیوب عدا ما دل علی حرمته من حیث کونه غیبة.

نعم یجوز هجو الفاسق المتجاهر فی الفسق إذا ترتبت علی هجوه مصلحة أهم من مصلحة احترامه،أو کان ممن لا یبالی بما قیل فیه،و بذلک یحمل ما ذکره المصنف من الخبر(محصوا ذنوبکم بذکر الفاسقین).

و أما هجو المخالفین أو المبدعین فی الدین فلا شبهة فی جوازه،لأنه قد تقدم فی مبحث الغیبة (3)أن المراد بالمؤمن هو القائل بإمرة الأئمة الاثنی عشر،و کونهم مفترضی الطاعة و من الواضح أن ما دل علی حرمة الهجو مختص بالمؤمن من الشیعة،فیخرج غیرهم عن حدود حرمة الهجو موضوعا،و قد تقدم فی المبحث المذکور ما یرضیک فی المقام،و یقنعک

ص:457


1- 1) راجع ج 2 ئل أبواب عشرة الحج.و ج 3 الوافی الفصل الثانی أبواب ما یجب علی المؤمن اجتنابه فی المعاشرة.
2- 2) سورة الهمزة آیة:1،قوله تعالی: (وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) .
3- 3) فی البحث عن اشتراط الایمان فی حرمة الغیبة ص 323.

بتخصیص حرمة الهجو بما ذکرناه.

و هل یجوز هجو المبدع فی الدین أو المخالفین بما لیس فیهم من المعایب أو لا بد من الاقتصار فیه علی ذکر العیوب الموجودة فیهم؟هجوهم بذکر المعایب غیر الموجودة فیهم من الأقاویل الکاذبة،و هی محرمة بالکتاب و السنة،و قد تقدم ذلک فی مبحث حرمة الکذب،إلا أنه قد تقتضی المصلحة الملزمة جواز بهتهم و الإزراء علیهم،و ذکرهم بما لیس فیهم افتضاحا لهم،و المصلحة فی ذلک هی استبانة شؤونهم لضعفاء المؤمنین حتی لا یغتروا بآرائهم الخبیثة و أغراضهم المرجفة،و بذلک یحمل قوله«ع» (1):(و باهتوهم کی لا یطمعوا فی الإسلام) و کل ذلک فیما إذا لم تترتب علی هجوهم مفسدة و فتنة،و إلا فیحرم هجوهم حتی بالمعائب الموجودة فیهم.

و قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه أن هجو المخالفین قد یکون مباحا،و قد یکون مستحبا و قد یکون واجبا و قد یکون مکروها،و قد یکون حراما،و بهذا الأخیر یحمل قوله«ع»فی روایة أبی حمزة (2)عن قذف المخالفین:(الکف عنهم أجمل).

حرمة الهجر

قوله الثامنة و العشرون:الهجر. أقول:الهجر بالضم هو الفحش،و القبیح من القول،و لا خلاف بین المسلمین،بل بین العقلاء فی مبغوضیته و حرمته،و قد ورد فی الروایات المتواترة (3)إن البذاء و الفحش علی المؤمن حرام،و فی روایة سلیم بن قیس:

(إن اللّه حرم الجنة علی کل فحاش بذیء قلیل الحیاء لا یبالی ما قال و لا ما قیل له).و فی

ص:458


1- 1) قد تقدمت هذه الروایة فی البحث عن حرمة سب المؤمن ص 281،و فی البحث عن جواز الاغتیاب لحسم مادة الفساد ص 354.
2- 2) فی ج 1 کا کتاب الخمس باب أن الأرض کلها للإمام«ع»ص 427.و ج 6 الوافی باب 39 تحلیل الخمس للشیعة من أبواب الخمس ص 45.عن أبی حمزة عن أبی جعفر«ع»قال:قلت له:إن بعض أصحابنا یفترون و یقذفون من خالفهم؟فقال لی:الکف عنهم أجمل،الحدیث.مجهولة للحسن بن عبد الرحمن،و ضعیفة لعلی بن العباس.
3- 3) راجع ج 3 الوافی ص 160.و ج 2 ئل باب 69 تحریم السفه،و باب 70 تحریم الفحش،و باب 71 تحریم البذاء من جهاد النفس ص 476.و ج 2 المستدرک ص 339. و کا بهامش ج 2 مرآة العقول ص 312 و 313 و 314.

صحیحة عبد اللّه بن سنان(و من خاف الناس لسانه فهو فی النار).و فی صحیحة أبی عبیدة(البذاء من الجفاء و الجفاء فی النار).و فی موثقة ابن فضال(من علامات شرک الشیطان الذی لا شک فیه أن یکون فحاشا لا یبالی ما قال و لا ما قیل فیه).و فی بعض الأحادیث:(من فحش علی أخیه المسلم نزع اللّه منه برکة رزقه و وکله الی نفسه و أفسد علیه معیشته).

و فی أصول الکافی بسند صحیح عن أبی عبد اللّه«ع»قال:(کان فی بنی إسرائیل رجل فدعا اللّه أن یرزقه غلاما ثلاث سنین،فلما رأی أن اللّه لا یجیبه فقال:یا رب أ بعید أنا منک فلا تسمعنی،أم قریب أنت منی فلا تجیبنی؟؟قال:فأتاه آت فی منامه فقال:إنک تدعو اللّه منذ ثلاث سنین بلسان بذیء و قلب عات«الجبار المتجاوز عن حده فی الاستکبار» غیر تقی،و نیة غیر صادقة،فأقلع عن بذائک،و لیتق اللّه قلبک،و لتحسن نیتک قال:ففعل الرجل ذلک،ثم دعا اللّه فولد له غلام).

و فی وصیة النبی(صلی الله علیه و آله)لعلی«ع»قال:(یا علی أفضل الجهاد من أصبح لا یهم بظلم أحد،یا علی من خاف الناس لسانه فهو من أهل النار،یا علی شر الناس من أکرمه الناس اتقاء شره و أذی فحشه،یا علی شر الناس من باع آخرته بدنیاه و شر منه من باع آخرته بدنیا غیره).

النوع الخامس:مما یحرم التکسب به أخذ الأجرة علی الواجبات

اشارة

قوله:الخامس:مما یحرم التکسب به ما یجب علی الإنسان فعله عینا أو کفایة تعبدا أو توصلا علی المشهور. أقول:اختلفت کلمات الأصحاب فی هذه المسألة علی أقوال:

الأول:ما ذکره المصنف من المنع مطلقا.الثانی:ما حکاه المصنف عن المصابیح عن فخر المحققین من التفصیل بین التعبدی فلا یجوز،و بین التوصلی فیجوز.الثالث:ما نقله المصنف عن فخر المحققین فی الإیضاح من التفصیل بین الکفائی التوصلی فیجوز و بین غیره فلا یجوز.

الرابع:ما ذکره فی متاجر الریاض من التفصیل بین الواجبات التی تجب علی الأجیر عینا أو کفایة وجوبا ذاتیا فلا یجوز،و بین الواجبات الکفائیة التوصلیة فیجوز کالصناعات الواجبة کفایة لانتظام المعاش.الخامس:ما نسب الی السید المرتضی من القول بالجواز فی الکفائی کتجهیز المیت،و هذه النسبة موهونة بما ذکره المصنف من أن السید مخالف فی وجوب تجهیز المیت علی غیر الولی،لا فی حرمة أخذ الأجرة علی تقدیر الوجوب علیه،فهو

ص:459

مخالف فی الموضوع،لا فی الحکم.

السادس:التفصیل بین ما کان الغرض الأهم منه الآخرة فلا یجوز،و بین ما کان الغرض الأهم منه الدنیا فیجوز،و قد ذهب الیه مفتاح الکرامة.

السابع:ما حکاه فی البلغة عن جده فی المصابیح من التفصیل بین التعبدی منه و التوصلی فمنع فی الأول مطلقا،و فصل فی الثانی بین الکفائی منه و العینی،فجوز فی الأول مطلقا، و فصل فی الثانی بین ما کان وجوبه للضرورة أو لحفظ النظام،فجوز فی الأول،و منع فی الثانی مطلقا،سواء کان الواجب ذاتیا أم غیریا.

الثامن:ما یظهر من المصنف من التفصیل بین العینی التعیینی و الکفائی التعبدی،فلا یجوز و بین الکفائی التوصلی و التخییری،فیجوز و یظهر منه التردد فی التخییری التعبدی.

التاسع:ما هو المختار عندنا من جواز أخذ الأجرة علی الواجب مطلقا،و قد وقع الخلاف أیضا فی هذه المسألة بین فقهاء العامة[1].

و لا یخفی أن غیر واحد من أرباب الأقوال المذکورة قد ادعی الإجماع علی رأیه، و لکنه لیس من الإجماع التعبدی،فإنه من المحتمل القریب إن المجمعین قد استندوا فی فتیاهم بالحرمة الی غیر الإجماع من الوجوه المقررة فی المسألة.

علی أنه یصعب علی الفقیه دعوی الإجماع علی نحو الموجبة الکلیة،مع ما اطلعت علیه من الاختلافات و التفاصیل.نعم قد نقل الإجماع تلویحا أو تصریحا فی بعض الموارد الجزئیة، کالقضاء و الشهادة و تعلیم صیغة النکاح أو إلقائها علی المتعاقدین.

ص:460

مقدمة نافعة

فی بیان موضوع أخذ الأجرة علی الواجب

قبل التعرض لحکم المسألة،و بیان الحقیقة فیها تقدم أمرا لبیان موضوعها،و إجماله أن موضوع البحث فی المقام إنما هو جهة العبادة،و جهة الوجوب فقط،و مانعیتهما عن صحة الإجارة و عدمها بعد الفراغ عن سائر الجهات و الحیثیات التی اعتبرها الشارع المقدس فی عقد الإجارة،کأن لا یکون العمل المستأجر علیه مما اعتبرت المجانیة فیه عند الشارع.

و هذا لا یختص بالواجب،بل یجری فی المستحبات أیضا،کاستئجار المؤذن للأذان، و استئجار المعلم للتدریس،و استئجار الفقیه للإفتاء،و استئجار القاری لقراءة القرآن.

و قد یجری فی المکروهات أیضا،کاستئجار فحل الضراب للطروقة.و هذه الأمثلة مبنیة علی تعلق غرض الشارع بمجانیة الأمور المذکورة،و حرمة أخذ الأجرة علیها، أو کراهته.

ثم إن بعضهم ذکر أن من شرائط الإجارة أن تکون منفعة العین المستأجرة عائدة إلی المستأجر،و رتب علیه بطلان إجارة المکلف لامتثال فرائضه من الصلاة و الصوم و الحج و غیرها،و بطلان الإجارة للإتیان بالمستحبات لنفسه،کالنوافل الیومیة و اللیلیة،و غیر ذلک من الموارد التی یکون النفع فیها راجعا إلی الأجیر أو الی شخص آخر غیر المستأجر.

و الوجه فی ذلک أن حقیقة الإجارة هی تبدیل منفعة معلومة بعوض معلوم،فلا بد من وصول المنفعة إلی المستأجر،لأنه الدافع للعوض المعلوم،و إلا انتفت حقیقة الإجارة، إذ یعتبر فی التبدیل أن یقوم کل من العوض و المعوض مکان الآخر بحیث یدخل کل منهما فی المکان الذی خرج منه الآخر،و سیأتی اعتبار ذلک أیضا فی حقیقة البیع.

و فی البلغة أن الإجارة بدون هذا الشرط سفهیة،و أکل للمال بالباطل،و لذا لا تصح الإجارة علی الأفعال العبثیة،و إبداء الحرکات اللاغیة،کالذهاب إلی الأمکنة الموحشة، و رفع الأحجار الثقیلة،انتهی ملخص کلامه.

و التحقیق أن یقال:إن حقیقة الإجارة لا تقتضی إلا دخول العمل فی ملک المستأجر قضاء لقانون المبادلة،و أما کون المنفعة راجعة إلیه فلا موجب له.

و أما حدیث سفهیة المعاملة فیرد علیه أولا:أنک قد عرفت مرارا،و ستعرف فی مبحث البیع إنشاء اللّه:أنه لا دلیل علی بطلان المعاملة السفهیة،و إنما الدلیل علی بطلان

ص:461

معاملة السفیه،و الدلیل هو کونه محجور التصرف فی أمواله.

و ثانیا:قد تقدم فی البحث عن بیع الأبوال و غیره،و سنعود علیه فی مبحث البیع أن آیة التجارة غریبة عن شرائط العوضین،بل هی راجعة إلی حصر أسباب المعاملة فی الصحیح و الباطل.هذا مع أن الدلیل أخص من المدعی،فان المستأجر قد ینتفع بعود النفع الی غیره،کما إذا استأجر شخصا علی امتثال فرائض نفسه لکی یتعلم المستأجر منه أحکام فرائضه،أو کان المستأجر من الآمرین بالمعروف،و الناهین عن المنکر،و أراد باستئجار المکلفین علی امتثال فرائضهم إظهار عظمة الإسلام و إخضاع المتمردین و العاصین.

و علی الجملة أن البحث هنا یتمحض لبیان أن صفة الوجوب أو صفة العبادیة مانعة عن انعقاد الإجارة أم لا،بعد الانتهاء عن سائر النواحی التی اعتبرت فی عقد الإجارة.

ان صفة العبادیة لا تنافی الإجارة

مقتضی القاعدة جواز أخذ الأجرة علی مطلق العبادات،سواء أ کان الأخذ بعنوان الإجارة أم بعنوان الجعالة إذا تم سائر الشروط المعتبرة فیهما،و لا شبهة أن صفة العبادیة لا تنافی الإجارة،و الجعالة،و إذن فعمومات صحة المعاملات محکمة.

و قد أورد علی هذا الرأی بوجوه:

الوجه الأول:أن العبادات لا بد و أن تؤتی بقصد القریة،و أخذ الأجرة علیها ینافی القربة و الإخلاص.

و الوجه فیه أن عقد الإجارة یوجب انقلاب داعی الإخلاص فی العمل المستأجر علیه إلی داعی أخذه الأجرة،و من الواضح أن قید الإخلاص مأخوذ فی العمل المستأجر علیه فیلزم من صحة الإجارة فسادها.

و فیه أن هذا الوجه لا یرجع عند التحقیق الی محصل،و توضیح ذلک:أنه یدعی تارة أن العمل الخارجی إنما یؤتی به بداعی تملک الأجرة و هو ینافی قصد الإخلاص.و اخری یدعی أنه یؤتی به بداعی تسلم الأجرة خارجا.و ثالثة:یدعی أنه یؤتی به بداعی استحقاق مطالبتها.

أما الدعوی الأولی فهی واضحة البطلان ضرورة ان تملک الأجرة إنما یکون بنفس الإیجار،لا بالعمل الخارجی،فالعمل أجنبی عنه بالمرة.

ص:462

و أما الدعوی الثانیة فهی أیضا کک ضرورة أنه یتمکن الأجیر من التسلم بغیر العمل فی بعض الموارد،و بالعمل الخالی من قصد القربة فی جمیعها،فلا یکون الداعی إلی العمل بما هو عبادی غیر قصد القربة و لو من جهة خوفه من العذاب لأجل عدم تسلیمه العمل الی مالکه.

و أما الدعوی الثالثة فهی و إن کانت صحیحة فی بعض الموارد،و هو ما إذا امتنع المستأجر من التسلیم قبل العمل،إلا ان الإتیان به لأجل ذلک(أی لأجل أن یستحق المطالبة شرعا)لا ینفک عن قصد القربة فی العمل،و ذلک من جهة تمکن المکلف من الإتیان به بغیر قصد القربة و إلزامه المستأجر تسلیم الأجرة،فإتیانه بالعمل لأجل الاستحقاق شرعا لا ینفک عن قصد القربة.

و علی الجملة بعد ما کان الأجیر متمکنا من المطالبة و تسلیم الأجرة بغیر العمل الصحیح فلا یکون داعیه الی الإتیان بالعمل الصحیح غیر قصد القربة،و لعله الی ذلک نظر من أجاب عن الاشکال المزبور بأن دعوة أخذ الأجرة فی طول دعوة الأمر لغو من باب الداعی إلی الداعی.

الوجه الثانی:أنه یعتبر فی دواعی امتثال العبادات کونها جهات قریبة بحیث تنتهی سلسلة العلل و الدواعی فیها بجمیع حلقاتها الی اللّه تعالی،و متی کان فیها داعی غیر قربی خرج العمل عن العبادیة و عن تمحضه للّه و إن لم یکن الداعی غیر القربی فی عرض الداعی الإلهی.

الوجه الثانی:أنه یعتبر فی دواعی امتثال العبادات کونها جهات قربیة بحیث تنتهی سلسلة العلل و الدواعی فیها بجمیع حلقاتها الی اللّه تعالی،و متی کان فیها داعی غیر قربی خرج العمل عن العبادیة و عن تمحض للّه و إن لم یکن الداعی غیر القربی فی عرض الداعی الإلهی.

و فیه أنا قد حققنا فی مبحث النیة من کتاب الصلاة أنه یشذ فی العباد من یأتی بالعبادة بجمیع مقدماتها و مقارناتها و مؤخراتها و دواعیها خالصة لوجه اللّه الکریم،و طلبا لرضاه، و کونه أهلا للعبادة و الإطاعة،بل یقصد غالب الناس فی عباداتهم الجهات الراجعة إلیهم من المنافع الدنیویة و الأخرویة،و لا تنافی هذه الدواعی الراجعة إلیهم عبادیة العبادة، إلا إذا دل دلیل علی إبطال بعضها للعبادة کما فی الریاء،فقد ورد فی الاخبار المتظافرة (1)ان الریاء لا یدخل عملا إلا و أفسده.

و توضیح الجواب إجمالا:ان الغایة القصوی من العبادة قد تکون هی اللّه فقط من دون ان یشوبها غرض آخر من الأغراض الدنیویة أو الجهات الأخرویة،و ضروری ان هذا النمط من الامتثال منحصر فی الأئمة الطاهرین«ع»و الأنبیاء المرسلین(صلی الله علیه و آله).

ص:463


1- 1) راجع ج 1 ئل باب 12 بطلان العبادة بالریاء من مقدمة العبادة ص 11.و ج 1 المستدرک ص 11.

فقد قال أمیر المؤمنین«ع» (1):(ما عبدتک خوفا من نارک و لا طمعا فی جنتک لکن وجدتک أهلا للعبادة فعبدتک).

و قد تکون الغایة من العبادة هی اللّه،و لکن بداعی التملق و الخضوع لحفظ الجهات الدنیویة،بأن یجعلها العبد وسیلة لازدیاد النعمة و العزة،و سببا لارتفاع الشأن و المنزلة، و ترسا لدفع النقمة و الهلکة،و قد أشیر الی هذا فی الکتاب بقوله تعالی (2): (لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ وَ لَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ) .

و قد تکون الغایة من العبادة هی اللّه بداعی الخشیة من غضبه و الخوف من ناره التی أعدت للعاصین،و بداعی التعرض لرحمته الواسعة،و الوصول الی الحور و القصور و الجنة التی عرضها کعرض السماوات و الأرض،و هذه المرتبة أرقی من المرتبة الثانیة.

و قد أشار الی هذا بقوله تعالی (3): (وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً) .و بقوله تعالی (4):

(وَ یَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً) .

و قد ورد فی کثیر من الأدعیة کدعاء أبی حمزة الثمالی و غیره تعلیل الایمان باللّه و العبادة له بالخوف و الخشیة و الطمع،و هذا واضح لا غبار علیه.

و قد تکون الغایة من العبادة هی التقرب الی اللّه،و تحصیل رضاه من غیر ان یقترن بها غرض آخر من الأغراض الدنیویة أو الأخرویة،و هذه المرتبة أرقی من المرتبة الثانیة و الثالثة،و هی مختصة بالعارفین باللّه و السالکین الیه،و لا یناله إلا القلیل من الموحدین، کسلمان و المقداد و ابی ذر و فریق من الأکابر.

و قد اتضح مما ذکرنا ان الغرض من العبادة فی هذه الدرجات الثلاث الأخیرة هو انتفاع العبد حتی فی الدرجة الأخیرة:أعنی المرتبة الرابعة،فإن مآل تحصیل رضی اللّه و التقرب الیه هو صیرورة العبد محبوبا لدی اللّه لکی یجیب دعوته و یدفعه شدته و یقضی حوائجه.

و علی هذه المناهج المذکورة فی السیر الی الله و التوجه الی رحمته و غفرانه و الفوز بنعمة و رضوانه لا تخلو عبادة إلا و قد قصد العبد فیها ان یصل الیه نفع من المنافع حسب اختلافها باختلاف الأغراض و قد عرفتها.نعم الدرجة الاولی و هی عبادة الأئمة خالیة عن هذا القصد.و لکنها مختصة بهم علیهم السلام.

و قد انجلی ان رجوع شیء من دواعی العبادة لغیر اللّه لا ینافی الإخلاص فیها،

ص:464


1- 1) راجع ج 2 مرآة العقول ص 101.و ج 15البحار کتاب الخلق ص 82.
2- 2) سورة إبراهیم آیة:7.
3- 3) سورة الأعراف آیة:54.
4- 4) سورة الأنبیاء آیة:90.

و التقرب الی اللّه بها.و یشیر الی ما ذکرناه ما رواه الکلینی[1]عن أبی عبد اللّه«ع»(قال:العباد ثلاثة:

قوم عبدوا اللّه عز و جل خوفا فتلک عبادة العبید.و قوم عبدوا اللّه تبارک و تعالی طلب الثواب فتلک عبادة الأجراء.و قوم عبدوا اللّه حبا له فتلک عبادة الأحرار و هی أفضل العبادة).و من هنا اتضح بطلان ما ذهب الیه بعضهم[2]من فساد العبادة المأتی بها لأجل الثواب و دفع العقاب.

الوجه الثالث:أن دلیل صحة الإجارة هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،و یستحیل شموله للمقام لأن الوفاء بالشیء عبارة عن إتمامه و إنهائه،فالوفاء بعقد الإجارة هو الإتیان بالعمل المستأجر علیه أداء الحق المستأجر،و واضح أن هذا لا یجتمع مع الإتیان به أداء لحق اللّه و امتثالا لأمره،و إذن فلا بد من قصد أحد الأمرین:إما الوفاء بالعقد.أو الامتثال لأمر المولی و حیث لا یعقل اجتماعهما فی محل واحد فلا بد من رفع الید من الأمر بالوفاء فتصبح الإجارة بلا دلیل علی الصحة.

و فیه أولا:أن الوفاء بالعقد و إن کان عبارة عن إتمامه و إنهائه،إلا أن هذا المعنی لا یتوقف علی عنوان خاص،بل یکفی فیه إیجاد متعلق العقد فقط فی الخارج بأی نحو اتفق و علیه فلا مانع فی کون العمل الواحد الذی تعلقت به الإجارة مصداقا لعنوانی العبادة و العمل المستأجر علیه معا،نعم لو کان الظاهر من دلیل وجوب الوفاء بالعقد هو إیجاد العمل المستأجر علیه فی الخارج بداعی اختصاصه بالمستأجر من جمیع الجهات لاستحال اجتماع قصد الوفاء بالعقد مع قصد التقرب الی اللّه،و لکنه دعوی جزافیة.

و ثانیا:ان دلیل صحة الإجارة لا ینحصر بآیة الوفاء بالعقد لکی یلزم من عدم شمولها للمقام بقاؤه خالیا عن دلیل الصحة،بل فی آیة التجارة عن تراض غنی و کفایة.

ص:465

فان قیل:إن الأمر الإجاری المتعلق بالفعل المستأجر علیه توصلی،و الأمر العبادی المتعلق به عبادی،و علیه فیلزم أن یکون فعل واحد مأمورا به بأمرین متخالفین و هو محال قلنا:إن الأمر الإجاری المتعلق بالعبادة أیضا أمر عبادی،فإن وجوب تسلیم العمل المستأجر علیه الی مالکه حکم کلی انحلالی من غیر أن یکون له شأن من التعبدیة أو التوصلیة بل یتصف بهما بلحاظ وصف متعلقة،و علیه فان کان متعلق الأمر الإجاری توصلیة فهو توصلی،و إن کان تعبدیا فهو تعبدی،و علی هذا فإذا تعلقت الإجارة بعبادة کان الأمر الناشئ منها عبادیا أیضا،فأصبح مؤکدا للأمر العبادی المتعلق بها فی نفسها مع قطع النظر عن الإیجار،کما ذهب الیه کاشف الغطاء و تلمیذه صاحب الجواهر.

و توضیح ذلک:أنا قد ذکرنا فی البحث عن التعبدی و التوصلی من علم الأصول أن قصد القربة مأخوذ فی متعلق الأمر الأول علی ما قویناه،و فی متعلق الأمر الثانی علی ما اختاره شیخنا الأستاذ،و علی کل حال فالأمر قد تعلق بامتثال العمل بقصد القربة،و من الواضح ان الأمر الإجاری قد تعلق بهذا أیضا،إذ المفروض کون العمل المذکور موردا للإجارة،فمتعلق الأمرین شیء واحد،فلا محالة یندک أحدهما فی الآخر و یکون الوجوب مؤکدا کما فی غیر المقام.

و قد اتضح مما ذکرناه انه فلا وجه لما ذکره بعض مشایخنا المحققین من استحالة التأکد حتی فی النذر و نحوه.و حاصل ما ذکره:ان الأمر الصلاتی متعلق بذات العمل،و الأمر الإجاری أو النذری أو نحوهما متعلق بالعمل الواجب المقید بقصد القربة و الامتثال،و من الواضح انه لا یعقل التأکد فی ذلک(الذی معناه خروج الطلب فی موضوعه عن مرتبة الضعف إلی مرتبة الشدة)لأن الالتزام به یستلزم تعلق الأمر بالوفاء بما هو غیر وفاء، بداهة انه لا یعقل ان یکون الأمر الإجاری بمنزلة صلّ،بل هو بمنزلة صل عن قصد القربة فیکون توصلیا دائما.

و یدل علی ما اخترناه من صحة تعلق الإجارة بالعبادة أمور:

الأول:ان الموجر کما عرفت إنما یملک الأجرة بعقد الإجارة من غیر ان یتوقف ذلک علی إیجاد العمل المستأجر علیه فی الخارج،و إنما اشتغلت ذمة الأجیر بإیجاد متعلق الإجارة و لو کان الغرض فی الإتیان بالعمل المستأجر علیه هو تملک الأجرة فقط لکان إیجاد العمل لأجل ذلک تحصیل للحاصل.

و علیه فالداعی إلی الإتیان بما اشتغلت به ذمة الأجیر من العبادة لیس إلا أمر المولی و الخوف الإلهی،دون تملک الأجرة.و لا یفرق فی ذلک بین مراقبة المستأجر علی الأجیر

ص:466

للإتیان بالعمل و عمل مراقبته علیه،فان شأن العبادات لیس شأن الأفعال الخارجیة المحضة کالخبازة و البنایة و النجارة و نحوها لکی یکون حضور المستأجر دخیلا فی تحقق العمل و إتقانه،بل العبادات مشروطة بالنیة،و هی أمر قلبی لا یطلع علیها فی أفق النفس إلا علام الغیوب،أو من ارتضاه لغیبة.

الثانی:انه لا شبهة فی صحة تعلق النذر أو العهد أو الیمین بالنوافل،و صیرورتها لازمة بذلک،کما لا شبهة فی صحة اشتراطها فی العقود اللازمة و کونها واجبة بذلک،و لم یستشکل أحد فی کون هذه الأوامر الطاریة علیها منافیة للإخلاص المعتبر فیها،و واضح انه لا فارق بین ذلک و بین ما نحن فیه.

الرابع:قد ورد فی الاخبار المستفیضة،بل المتواترة الترغیب الی العبادات بذکر فوائدها و مثوباتها،و الترهیب عن ترکها بذکر مستتبعاتها من الهلکة و العقوبة،و یتجلی لک من هذه الاخبار انه لا بأس بامتثال العبادات الجلب المنافع المترتبة علی فعلها و دفع المضرات المترتبة علی ترکها،و لا فرق فی هذه الجهة بین المقام و بینها.

و من هذا القبیل ما وردت فی الشریعة المقدسة عبادات من الأدعیة و النوافل لشتی الأغراض الدنیویة،کسعة الرزق،و قضاء الحوائج،و أداء الدین،و ارتزاق الولد، و دفع الشرور،و علاج المصاب.و غیرها من الجهات الدنیویة،و لم یتوهم احد منافاتها للإخلاص،مع انها من المنافع الدنیویة.و الظاهر انه لا فارق بینها و بین المقام.

و قد أشکل علیه المصنف(ره)بأنه(فرق بین الغرض الدنیوی المطلوب من الخالق الذی یتقرب الیه بالعمل،و بین الغرض الحاصل من غیره،و هو استحقاق الأجرة،فإن طلب الحاجة من اللّه سبحانه و لو کانت دنیویة محبوب عند اللّه،فلا یقدح فی العبادة، بل ربما یؤکدها).و قد سجل هذا الإشکال غیر واحد من الأعاظم کصاحب البلغة و غیره.

و فیه ان غرض المکلف من الإتیان بالصلاة مثلا قد یکون سعة الرزق و غیرها بحیث لا یتوسط التقرب فی البین أصلا،فلا شبهة فی بطلان هذا النحو من العبادة من غیر فرق بین ما نحن فیه،و بین العبادات ذات النتائج الدنیویة کصلاة جعفر«ع»و غیرها.و قد تکون غایة المکلف غایة من العبادة و التقرب من اللّه بحیث یکون طالبا لها بعبادته و تقربه من المولی،فهذا لا ینافی العبادیة،و ما نحن فیه من هذا القبیل،و علیه فلا فارق بین المقامین.

و قد یتوهم أن قصد التقرب إنما یتمشی فی خصوص الإجارة،لأنک قد عرفت أن الأجرة فیها تملک بمجرد العقد،و أن امتثال العبادات المستأجر علیها یستند إلی أمر المولی

ص:467

إلا أن ذلک لا یجری فی الجعالة،إذ العامل فیها لا یستحق الجعل،و لا یملکه إلا بإتمام العمل فیستند امتثال العبادة إلی داعی تحصیل الجعل و هو مناف للإخلاص فیها.

و جوابه یظهر مما تقدم،فان تحصیل الجعل و إن کان داعیا الی الامتثال،و لکن الداعی إلی الإتیان بالعبادة علی وجهها الصحیح هو أمر الشارع،و الخوف الإلهی،إذ لو لا ذلک فان العامل یمکنه أن یأتی بالعمل خالیا عن بعض الشرائط التی لا یطلع علیها غیر علام الغیوب،و یخیل الی الجاعل انه امتثله علی وجه صحیح.

و علی الجملة لا نعرف وجها صحیحا لبطلان العبادات التی تنتهی بالآخرة إلی استحقاق الأجرة،و لا نری فیها جهة مخالفة للإخلاص و التقرب.

ان صفة الوجوب لا تنافی الإجارة

قد انقسم الواجب إلی تخییری،و کفائی،و عینی،فإن وقع احد القسمین الأولین موضوعا للإجارة أو الجعالة،و کان مصب الإجارة أو الجعالة هو مصب الوجوب کان المقام من صغریات أخذ الأجرة علی الواجب،و سیتضح لکم حکمه،و إن کان مصب الإجارة أو الجعالة هو خصوص الفرد بحیث یعین فرد من أفراد التخییری أو شخص من أشخاص المکلفین للامتثال فإنه لا شبهة فی جواز أخذ الأجرة و الجعل علیه،بل هو خارج عن موضوع أخذ الأجرة علی الواجب.

و الوجه فی ذلک أن ما تعلق به الوجوب فی الواجبین التخییری و الکفائی إنما هو الجامع أعنی عنوان أحد الأفراد فی الأول،و عنوان أحد المکلفین فی الثانی،و من الواضح أن إیقاع الإجارة أو الجعالة علی الإتیان بفرد خاص،أو علی مباشرة شخص معین،و أخذ الأجرة أو الجعل علی تلک الخصوصیة لیس من قبیل أخذ الأجرة علی الواجب،فان ما أخذت علیه الأجرة لیس بواجب،و ما هو واجب لم تؤخذ علیه الأجرة.

و بما ذکرناه یظهر الحال فیما إذا انحصر الواجب الکفائی فی شخص أو الواجب التخییری فی نوع،فإنهما و إن تعینا فی ذلک النوع،أو علی ذلک الشخص حینئذ،و لکن الواجب علی المکلف هو طبیعی الدفن مثلا فی الکفائی و طبیعی العتق مثلا فی التخییری بحیث له أن یدفن المیت فی أی مکان یرید،و له أن یعتق أی فرد من أفراد الرقاب،فإذا وقعت الإجارة أو الجعالة علی تعیین فرد خاص منهما صح ذلک،و لم یکن أخذ الأجرة علیه من قبیل أخذ الأجرة علی الواجب.

ص:468

ثم إنه لا فارق فیما ذکرناه بین کونهما تعبدیین،و کونهما توصلیین،و قد اتضح من ذلک کله أنه لا جدوی لتطویل الکلام فی تحقیق الواجبین التخییری و الکفائی،کما فعله بعض مشایخنا المحققین و غیره.

و قد یقال:إن الخصوصیات الفردیة و إن لم تکن واجبة بالأصالة علی الفرض،إلا أنها واجبة بوجوب تبعی مقدمی،فیکون أخذ الأجرة علیها من قبیل أخذ الأجرة علی الواجب و فیه أنا قد حققنا فی علم الأصول أن وجوب المقدمة إنما هو وجوب عقلی،فلا یقاس بالوجوب الشرعی،و یضاف الی ذلک أن مقدمیة الفرد للکلی لیست من المقدمیة المصطلحة کما هو واضح.

و أما الواجب العینی فإن کان مصب الإجارة أو الجعالة فیه الخصوصیة الفردیة صح ذلک بلا شبهة،و قد تقدم نظیره فی الواجبین:التخییری و الکفائی،و إن کان مصبهما مصب الوجوب فقد علمت اختلاف فقهائنا و فقهاء العامة فی حکم أخذ الأجرة علی الواجب فمقتضی القاعدة هو الجواز مطلقا،للعمومات الدالة علی صحة العقود و المعاملات.

و لکن أشکل علیه بوجوه:

الأول:أن عمل الحرفی حد ذاته لیس بمال،و إنما یقابل بالمال لاحترام عمل المسلم و مع الوجوب یسقط عن الاحترام.

و لکنک قد عرفت فی أول الکتاب:أن أعمال کل شخص مملوکة له ملکیة ذاتیة تکوینیة،و له واجدیة له فوق مرتبة الواجدیة الاعتباریة،و دون مرتبة الواجدیة الحقیقیة لمکون الموجودات،و علیه فدعوی أن عمل الحر لیس بملک دعوی جزافیة،و لا شبهة أن هذه الأعمال المضافة إلی الحر موضع لرغبات العقلاء و منافساتهم،فتکون أموال فی نفسها،و تجوز مقابلتها بالمال،و مع الإغضاء عن ذلک فإنها تکون أموال بمجرد وقوع المعاملة علیها،و شأنها ح شأن الکلی،إذ الکلی قبل إضافته إلی شخص خاص لا یتصف بالمملوکیة و المالیة کلتیهما،و إذا أضیف الیه و لو حین قوله بعتک منا من الحنطة مثلا أنصف الکلی بالمالیة و الملکیة،و من هنا یجوز بیع الکلی فی الذمة،و یحکم بضمان عمل الحر إذا فوته أحد بعد أن ملکه الغیر بالإجارة و غیرها.

الثانی:ما ذکره المصنف من أن عمل الحر و إن کان مالا،و لکن الإنسان إذا تکلف بذلک العمل من قبل الشارع فقد زال احترامه،لأنه عامله مقهور علی إیجاده،فیکون أخذ الأجرة علیه أکلا للمال بالباطل.

و فیه أولا:أن آیة النهی عن أکل المال بالباطل غریبة عن شرائط العوضین،

ص:469

و قد تقدم بیان ذلک مرارا عدیدة.

و ثانیا:أن المقهوریة علی الفعل من قبل الشارع و کونه واجبا بأمره لا تنافی المقهوریة علیه من قبل الإجارة أیضا،فیکون لازم الامتثال من ناحیتین،و هذا نظیر شرط امتثال الواجب فی ضمن العقد،و تظهر الثمرة فیما إذا خالف الأجیر عن أمر ربه،و لم یمتثل الواجب و لم یمکن إجباره علی الامتثال من ناحیة الأمر بالمعروف،فإنه یجوز للمستأجر أن یجبره علی الامتثال و لو بمراجعة المحاکم المختصة.

الثالث:ما أفاده شیخنا الأستاذ من أن الإجارة و الجعالة قد اعتبر فیهما أن لا یکون العامل أو الأجیر مسلوب الاختیار بإیجاب أو تحریم شرعی،بل لا بد من أن یکون الفعل أو الترک تحت سلطنته و اختیاره،و إلا فلا یکون مالا فی نظر العرف.

و لکنک قد عرفت فی البحث عن معنی حرمة البیع:أنه لا تجوز المعاملة علی الأفعال المحرمة،کالکذب و الغیبة و الزناء و غیرها،فإن الأدلة الدالة علی حرمتها لا تجتمع مع العمومات الدالة علی صحة المعاملات و لزومها،فان مقتضی هذه العمومات نفوذ المعاملة الواقعة علی الأفعال المحرمة و لزومها،و أدلة المحرمات تقتضی المنع عن إیجادها فی الخارج، فهما متناقضان،و مع الإغضاء عن ذلک فهما لا یجتمعان فی نظر العرف.

و هذا المحذور لا یجری فی الواجبات.فإنه لا تنافی بینهما و بین العمومات المذکورة،کما لا منافاة بینها و بین الأوامر العبادیة،و قد أوضحنا ذلک آنفا،و علیه فالتکالیف التحریمیة و إن کانت تسلب القدرة الشرعیة عن المکلف،و لکن التکالیف الوجوبیة لا تنافیها،بل تساعدها و تضاعفها.

و قد یتوهم أنه لا فارق فی عدم القدرة علی التسلیم بین تعلق الإجارة بالمحرمات و الواجبات فان المکلف فی کلیهما یکون عاجزا شرعا عن إیجاد متعلق التکلیف،إذ القدرة لا بد و أن تکون متساویة النسبة إلی الطرفین:الفعل أو الترک.

و فیه أن اعتبار القدرة علی التسلیم إن کان مدرکه الإجماع فإنه علی فرض تحققه فان المتیقن منه إمکان وصول العمل المستأجر علیه إلی المستأجر،فلا یدل علی اشتراط کونه تحت اختیار الأخیر فعلا و ترکا،و إن کان مدرکه اقتضاء العقد بداهة وجوب الوفاء بتسلیم العمل فقد عرفت أن الوجوب لا ینافیه،بل یتأکد کل منهما بالآخر،و إن کان مدرکه النبوی المشهور(نهی النبی عن بیع الغرر).

ففیه أولا:أن الاستدلال به غیر تام من حیث السند و الدلالة،و سیأتی بیان ذلک فی البحث عن بیع الغرر.

ص:470

و ثانیا:أنه لا غرر فی المقام،لأن العمل ممکن الوصول إلی المستأجر،و لا دلیل علی اعتبار القدرة علی التسلیم أزید من ذلک.

الرابع:ما نسب الی شیخ المشایخ کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد من أن التنافی بین صفة الوجوب و أخذ العوض علی الواجب ذاتی،لأن العمل الواجب مملوک للّه،کالعمل المملوک للغیر،فلا یصح أن یکون موردا للإجارة،لأن تملیک المملوک ثانیا غیر معقول، و لذا لا یجوز أخذ الأجرة علی عمل خاص قد وقعت علیه الإجارة قبل ذلک.

و فیه أنا لو سلمنا استحالة توارد الملکین علی مملوک واحد فإنما هی فی الملکیتین العرضیتین بأن یکون شیء واحد مملوکا لاثنین فی زمان واحد علی نحو الاستقلال.و لا تجری هذه الاستحالة فی الملکیتین الطولیتین:بأن تکون سلطنة أحد الشخصین فی طول سلطنة الآخر،فان هذا لا محذور فیه،بل هو واقع فی الشریعة المقدسة،کسلطنة الأولیاء و الأوصیاء و الوکلاء علی التصرف فی مال المولی علیهم و الصغار و الموکلین،فإن ملکیة هؤلاء فی طول ملکیة الملاک و من هذا القبیل مالکیة العبید علی أموالهم بناء علی جواز تملک العبد فان مالکیتهم فی طول مالکیة موالیهم.و کذلک فی المقام،فإن مالکیة المستأجر للعمل المستأجر علیه فی طول مالکیته تعالی لها،بل مالکیة الملاک لأموالهم فی طول مالکیته تعالی لها،فإنه تعالی مالک لجمیع الموجودات ملکیة تکوینیة إیجادیة،و هی المعبر عنها فی اصطلاح الفلاسفة بالإضافة الإشراقیة،و قد سلط الإنسان علی سائر الموجودات،و جعله مالکا لها،إما مالکیة ذاتیة کملک الشخص لأعماله و ذمته،و إما مالکیة اعتباریة،کمالکیته لأمواله، و لعل الی ما ذکرناه یرجع ما أفاده المصنف(ره)من أنه(لیس استحقاق الشارع للفعل و تملکه المنتزع من طلبه من قبیل استحقاق الآدمی و تملکه الذی ینافی تملک الغیر و استحقاقه) الخامس:ما نسب الی الشیخ الکبیر أیضا،و هو أن من لوازم الإجارة أن یملک المستأجر العمل المستأجر علیه،بحیث یکون له الإبراء و الإقالة و التأجیل،لدلیل السلطنة و کل ذلک مناف لوجوب العمل المستأجر علیه.

و فیه أنک قد عرفت من مطاوی ما ذکرناه:أن للواجب المستأجر علیه ناحیتین، إحداهما:حیثیة وجوبه من قبل اللّه بأمر مولوی تکلیفی.و ثانیتهما حیثیة تعلق الأمر الإجاری به،و من المقطوع به أن عدم صحة الإقالة و الإبراء و التأجیل فی الواجب إنما هو من ناحیته الاولی،و لا ینافی ذلک أن تجری فیه تلک الأمور من ناحیته الثانیة.

السادس:ما ذکره شیخنا الأستاذ ثانیا من أن الإجارة أو الجعالة الواقعة علی الواجب العینی من المعاملات السفهیة،فتکون باطلة من هذه الجهة،فإن من شرائط الإجارة أو الجعالة

ص:471

ان یکون العمل ممکن الحصول للمستأجر،و فی الواجب العینی لیس کذلک.

و لکنک قد عرفت مرارا:انه لا دلیل علی بطلان المعاملة السفهیة،فتکون العمومات محکمة،علی انه لا شبهة فی إمکان الانتفاع بالواجب المستأجر علیه،و إذن فتخرج المعاملة عن السفهیة،و قد تقدم بیان ذلک فی المقدمة التی مهدناها للبحث عن أخذ الأجرة علی الواجب السابع:ما احتمله بعض مشایخنا المحققین،و نسبه الی أستاذه فی مبحث القضاء،و هو أن بذل العوض بإزاء ما تعین فعله علی الأجیر لغو محض،فلا یکون مشمولا للعمومات الثامن:ما نسبه الی بعض الاعلام من ان الإیجاب ینبعث عن مصلحة تعود الی المکلف و أخذ الأجرة علی ما یعود نفعه إلیه أکل للمال بالباطل.

و قد ظهر جواز هذین الوجهین من الأجوبة المتقدمة.و قد تجلی مما حققناه أن الإشکالات المذکورة لا ترجع الی معنی محصل ترکن الیه النفس.و العجب من هؤلاء الأعلام،فإنهم ناقشوا فی جواز أخذ الأجرة علی الواجب،و أضافوا إلیه شبهة بعد شبهة و نقدا بعد نقد حتی تکونت منها أمواج متراکمة.و یندهش منها الناقد البصیر فی نظرته الاولی!!(فأما الزید فیذهب جفاء و اما ما ینفع الناس فیمکث فی الأرض).و قد ظهر من جمیع ما ذکرناه سقوط جمیع الأقوال المتقدمة غیر ما بنینا علیه من القول بالجواز علی وجه الإطلاق.و اللّه العالم.

قوله ثم إن صلح ذلک الفعل المقابل بالأجرة لامتثال الإیجاب المذکور أو إسقاطه به أو عنده سقط الوجوب مع استحقاق الأجرة،و إن لم یصلح استحق الأجرة و بقی الواجب فی ذمته لو بقی وقته،و إلا عوقب علی ترکه) .أقول:لا یخفی ما فی هذه العبارة من القلق و الاضطراب،و حاصل مرامه:ان الإتیان بالواجب المستأجر علیه قد یترتب علیه امتثال أمر المولی و استحقاق الأجرة کلاهما،کما إذا استأجر أحدا لتطهیر المسجد فطهره بقصد امتثال أمر المولی،فإنه ح یستحق الأجرة،و یعد ممتثلا،و کذلک الحال فی الواجبات التعبدیة علی مسلکنا،إذ قد عرفت ان أخذ الأجرة علیها لا ینافی جهة عبادیتها و قد یکون الإتیان بالواجب المستأجر علیه موجبا لاستحقاق الأجرة و سقوط الوجوب بغیر امتثال،کتطهیر المسجد و إنقاذ الغریق و الجهاد و غیرها من الواجبات التوصلیة فإن الأجیر حین ما یأتی بها بغیر داعی الأمر یستحق الأجرة.و لا یکون عمله هذا امتثاله للواجب علی الفرض،نعم یسقط عنه الواجب،لفرض کونه توصلیا،کما انه یسقط عن بقیة المکلفین إذا کان الواجب کفائیا.

و قد یکون الإتیان بذلک العمل موجبا لاستحقاق الأجرة و سقوط الوجوب لا من

ص:472

جهة الإتیان بالواجب،بل لارتفاع موضوع الوجوب،کما إذا أوجب الشارع عملا بعنوان المجانیة فأتی به العبد مع الأجرة،و هذا کدفن المیت بناء علی أنه واجب علی المکلفین مجانا فلو أتی به لا مجانا لم یتحقق الواجب،فلا یکون مصداقا للواجب فی الخارج،لأن المفروض أنه مقید بالمجانیة،و قد أتی به مع الأجرة،إلا أن الوجوب یسقط عند ذلک، لارتفاع موضوعه،ففی جمیع هذه الصور یتحقق سقوط الوجوب،و استحقاق الأجرة.

و هناک صورة رابعة لا یسقط الوجوب بالإتیان بالعمل المستأجر علیه فیها و إن کان الآتی بالعمل مستحقا لأخذ الأجرة علی عمله،لکونه محترما،و هذا کالعبادات الواجبة علی المکلفین عینا،فإنه إذا أتی بها المکلف بإزاء الأجرة و قلنا بمنافاتها لقصد القربة و الإخلاص کما علیه المصنف و جمع آخر لم یمتثل الواجب و ان کان یستحق الأجرة لاحترام عمله،و علیه فان بقی وقت الواجب وجبت علیه الإعادة و إلا عوقب علی ترکه إذا لم یدل دلیل علی تدارکه بالقضاء.

حقیقة النیابة علی العبادات

قد ذکرنا فی مبحث التعبدی و التوصلی من علم الأصول أن الأصول اللفظیة و العملیة تقتضی عدم سقوط التکالیف العبادیة عن کل مکلف بإتیان غیره بها،فلا بد لکل مکلف أن یمتثل تکالیفه العبادیة بالمباشرة.

و علیه فنیابة الشخص عن غیره فی امتثال عباداته مع التقرب و الإخلاص تحتاج الی الدلیل و إن ثبت إمکانها فی مقام الثبوت،و لا شبهة فی وقوع النیابة فی العبادات الواجبة و المستحبة بضرورة الفقه نصا و فتوی،و لا بأس بالتعرض للبحث عن تصویر إمکانها فی ذلک دفعا لما توهمه بعض الأجلة من استحالة التقرب من النائب و حصول القرب للمنوب عنه،نظرا الی أن التقرب المعنوی کالتقرب الحسی المکانی لا یقبل النیابة.

و قد ذکر غیر واحد من الأعلام وجوها فی تصویر النیابة عن الغیر فی امتثال وظائفه بقصد التقرب و الإخلاص:

الأول:ما ذکره المصنف و حاصله:أن الأجیر یجعل نفسه بدلا عن المیت فی الإتیان بتکالیفه متقربا بها الی اللّه تعالی،فالمنوب عنه یتقرب الیه تعالی بفعل نائبه و تقربه،و لا شبهة أن هذا التنزیل فی نفسه مستحب،و إنما یصیر واجبا بالإجارة وجوبا توصلیا من غیر أن یعتبر فیه قصد القربة فی ذاته،بل اعتباره فیه من جهة اعتباره فی وظیفة المنوب عنه،

ص:473

لأن الأجیر لا یخرج عن عهدة التکلیف إلا بالإتیان بالعمل المستأجر علیه بقصد الإخلاص فالأجیر یجعل نفسه نائبا عن الغیر فی امتثال وظائفه متقربا بها الی اللّه،و إنما یأخذ الأجرة للنیابة فقط دون الإتیان بالعبادات،فان للنائب حین ما یأتی بالعمل فعلین:أحدهما قلبی من أفعال الجوانح،و هو النیابة.و ثانیهما خارجی من أفعال الجوارح،و هو العمل المنوب فیه کالصلاة مثلا،و إذا تعدد الفعل ذاتا و وجودا فإنه لا بأس بتعدد الغایة المترتبة علیهما،و لا تنافی بین أخذ الأجرة علی النیابة و بین الإتیان بالعبادات متقربا بها الی اللّه تعالی.

و فیه أن أخذ الأجرة إما لتنزیل نفسه منزلة المیت و نیابته عنه فی الإتیان بوظائفه، و إما للإتیان بالعمل فی الخارج،فعلی الأول یلزم استحقاق الأجرة بمجرد النیابة القلبی، سواء أتی بالعمل فی الخارج أم لا،و هو بدیهی البطلان.و علی الثانی فیعود المحذور، و هو أخذ الأجرة علی الأمر العبادی،فإن الموجود فی الخارج لیس إلا نفس العبادة.

الثانی:ما ذکره المصنف فی رسالة القضاء من أن(النیة مشتملة علی قیود منها کون الفعل خالصا للّه سبحانه،و منها کونه أداء و قضاء عن نفسه أو عن الغیر بأجرة أو بغیرها،و کل من هذه القیود غیر مناف لقصد الإخلاص،و الأجرة فیما نحن فیه إنما وقعت أولا و بالذات بإزاء المقید الثانی،أعنی النیابة عن زید،بمعنی أنه مستأجر علی النیابة عن زید بالإتیان بهذه الفریضة المتقرب بها،و قید القربة فی محله علی حاله،لا تعلق للإجارة إلا من حیث کونه قیدا للفعل المستأجر علیه،نعم لو اشتراط فی النیابة عن الغیر التقرب زیادة علی التقرب المشروط فی صحة العبادة اتجه منافاة الأجرة لذلک،إلا أنه لیس بشرط إجماعا).

و فیه أولا:أن أخذ الأجرة فی مقابل العمل المقید بقصد القربة یستلزم وقوع الأجرة بإزاء نفس العمل أیضا،و علیه فیعود المحذور المذکور.

و ثانیا:ما ذکره بعض مشایخنا المحققین من(أن الفعل القلبی و الفعل الخارجی و إن کانا متغایرین ماهیة و وجودا،و لکل منهما غایة خاصة،إلا أنه لا شک فی أنه لو لا الفعل القلبی بما له من الغایة و هی استحقاق الأجرة لم یصدر الفعل الخارجی بما له من الغایة،و هی القربة فالإخلاص الطولی غیر محفوظ بمجرد تعدد الفعل مع ترتب الفعل الخارجی بغایته علی الفعل القلبی بغایته.

الثالث:ما ذکره شیخنا الأستاذ توجیها لکلام المصنف فی المکاسب.و ملخصه:أنه لا شبهة فی عدم اعتبار المباشرة فی فعل المنوب عنه،بل جاز للغیر الإتیان بالفعل عنه نیابة، و یجوز التبرع عنه فی ذلک من دون أن یعتبر قصد القربة فی الأمر التبرعی،بل اعتباره فی فعل النائب لأجل اعتباره فی المنوب فیه.

ص:474

ثم إنه لا ریب فی أن هذا الأمر التبرعی یصبح واجبا إذا وقعت علیه الإجارة،و ح لا یخرج النائب عن عهدته بامتثاله بقصد القربة و الإخلاص،و واضح أنه لا تنافی بین اعتبار التقرب فیه،و بین جواز أخذ الأجرة للنیابة،فإن الأجرة إنما هی بإزاء قصد النائب النیابة فی عمله عن المنوب عنه،لا علی نفس العمل بحیث إذا قصد النائب الإتیان بذات العمل المستأجر علیه للأجرة،أو قصد الإتیان به بداعی أمره سبحانه بإزاء الأجرة کان عمله باطلا و لکن یرد علیه أولا:ما ذکرناه فی جواب المصنف.و ثانیا:أن الأوامر المتوجهة إلی شخص غریبة عن شخص آخر،و علیه فلا معنی لسقوطها عن المنوب عنه بامتثال النائب کما أنه لا معنی لاعتبار قصد التقرب فی الأمر المتوجه إلی النائب بلحاظ اعتباره فی الأمر المتوجه الی المنوب عنه.و التوجیه المذکور أشبه شیء بدعوی سقوط الأمر بالصوم بامتثال الأمر المتعلق بالصلاة،و أشبه شیء أیضا بدعوی اعتبار قصد التقرب فی الأمر بغسل الثوب بلحاظ الأمر العبادی المتعلق بالحج.

و ثالثا:أنا لو سلمنا صحة ذلک،و لکنه إنما یجری فی النیابة عن الاحیاء،فان الأوامر المتوجهة إلی الأموات فی حیاتهم قد انقطعت بالموت.فلا یبقی هنا أمر لکی یقصد النائب فی امتثال العمل المنوب فیه،و یأتی به بقصد التقرب و الإخلاص،و هذا لا ینافی اشتغال ذمة المیت بالعبادات الفائتة کما هو واضح.

و رابعا:أنا لو أغمضنا عن ذلک أیضا،و لکنه إنما یتم مع توجه الأمر إلی المنوب عنه مع أنا نری بالعیان،و نشاهد بالوجدان صحة النیابة عنه حتی فیما لم یتوجه إلیه أمر أصلا، کنیابة أشخاص غیر محصورین عن المیت أو عن غیره فی جهات مستحبة،کالطواف و نحوه،بداهة انتفاء الأمر ح عن المنوب عنه،فان توجهه علیه مشروط بالقدرة،و واضح أن المنوب عنه لا یقدر علی الإتیان بأمور غیر محصورة،و کک تجوز النیابة فی الحج عمن لا یقدر علیه،مع أنه لا أمر حینئذ للمنوب عنه أصلا.

و التحقیق أن الأمر الاستحبابی (1)متوجه الی جمیع الناس للنیابة فی العبادة عن المیت بل الحی فی بعض الموارد،و لا شبهة أن هذا الأمر الاستحبابی المتوجه الی کل أحد أمر عبادی،فیعتبر فیه قصد التقرب و الإخلاص،و قد یکون واجبا إذا تعلقت به الإجارة، و قد تقدم بیان ذلک آنفا،و علیه فالنائب عن الغیر فی امتثال عباداته إنما یتقرب الی اللّه تعالی بالأمر المتوجه الی نفسه من دون أن یکون له مساس بالأمر العبادی المتوجه الی

ص:475


1- 1) راجع ج 1 ئل باب 12 استحباب التطوع بجمیع العبادات عن المیت من أبواب القضاء من کتاب الصلاة ص 520.

المنوب عنه،بل لا یعقل أن یقصد النائب تقرب المنوب عنه،و یمتثل أمره،أو یتقرب الی اللّه بأمر المنوب عنه،و یمتثله،و علی ما ذکرناه فمورد الإجارة هو الواجبات،أو العبادات المنوب فیها،و قد تقدم أن صفة الوجوب أو صفة العبادة لا تنافی الإجارة

جواز أخذ الأجرة علی المستحبات

قوله و أما المستحب. أقول:العمل المستأجر علیه قد یکون حراما،و قد یکون واجبا،و قد یکون مکروها،و قد یکون مباحا،و قد یکون مستحبا.أما الحرام و الواجب فقد تقدم الکلام علیهما،و أما المکروه و المباح فلم یستشکل أحد فی صحة الإجارة لهما.

و أما المستحب فالمعروف بین الشیعة و السنة[1]هو جواز أخذ الأجرة علیه،بل هو مقتضی القاعدة الأولیة،إذ لا نری مانعا عن شمول العمومات الدالة علی صحة المعاملات لذلک،فقد عرفت آنفا:أن صفة العبادیة و کذا صفة الوجوب لا تنافی الإجارة أو الجعالة و کذلک صفة الاستحباب،فإنها لا تنافیهما بطریق الأولویة.

و علی هذا فلا وجه لتطویل الکلام فی تصویر النیابة فی المستحبات،کما لا وجه للفرق فیها بین ما یتوقف ترتب الثواب علی قصد التقرب و الإخلاص،کالاتیان بالنوافل و الزیارات و بین ما لا یتوقف ترتب الثواب علی ذلک،کبناء المساجد و القناطر و نحوهما.

من کان أجیرا لغیره فی الطواف

لم یجز له أن یقصده لنفسه

قوله فلو استؤجر لإطافة صبی أو مغمی علیه فلا یجوز الاحتساب فی طواف نفسه. أقول:قد ذکر الأصحاب هنا وجوها،بل أقوالا:الأول:جواز الاحتساب

ص:476

مطلقا،و قد استظهره المصنف من الشرائع و القواعد علی الإشکال فی الثانی.الثانی:عدم جواز الاحتساب مطلقا حتی فی صورة التبرع،و قد حکاه بعض الأعاظم عن بعض الشافعیة الثالث:عدم جواز الاحتساب عن نفسه فیما إذا استؤجر للإطافة بغیره،أو لحمله فی الطواف،و قد نسبه المصنف إلی جماعة منهم الإسکافی.الرابع ما ذکره العلامة فی المختلف من الفرق بین الاستئجار للطواف به،و بین الاستئجار لحمله فی الطواف،فإنه منع عن احتساب ذلک لنفسه فی الأول دون الثانی.و الخامس:ما ذکره فی المسالک من انه إذا کان الحامل متبرعا أو حاملا بجعالة أو کان مستأجرا للحمل فی طوافه أمکن ان یحتسب کل منهما طوافه عن نفسه.و أما لو کان مستأجرا للحمل مطلقا لم یحتسب،لأن الحرکة المخصوصة قد صارت مستحقة علیه لغیره،فلا یجوز صرفها الی نفسه.

و التحقیق ان المؤجر قد یکون أجیرا عن الغیر فی الطواف و نائبا عنه فی إیجاد العمل المعین فی الخارج،و قد یکون أجیرا للإطافة به،و قد یکون أجیرا لحمله فی الطواف.

أما الصورة الأولی فإنه لا یجوز للأجیر ان یقصد الطواف لنفسه حین ما یأتی بالعمل المستأجر علیه،لأن الإجارة تقتضی اختصاص العمل المستأجر علیه بالمستأجر،و لذا لو فوته احد یضمنه له،و الأمر بالطواف المتوجه إلی الأجیر یقتضی الإتیان به عن نفسه و عدم إجزائه عن غیره،کما هو مقتضی القاعدة فی جمیع الأوامر المسوقة لبیان الأحکام التکلیفیة.

و بعبارة اخری ان المستأجر إنما یستحق الحرکات المخصوصة علی الأجیر،لکونها مملوکة له،فلا یجوز للأجیر أن یحتسبها عن نفسه.و لعله الی هذا أشار فی المسالک فی عبارته المتقدمة.

و اما إذا کان أجیرا لحمل غیره فی الطواف أو للإطافة به فهل یجوز له ان یقصد الطواف لنفسه حین ما یحمل المستأجر للطواف أم لا؟فقد یقال بالثانی،لأن الحرکات المخصوصة الصادرة من الأجیر مملوکة للمستأجر،فلا تقع عن الأجیر،نظیر الصورة السابقة.

و لکن الظاهر هو الجواز تبعا لجم غفیر من الأصحاب،و قد تقدم رأیهم.و الوجه فی ذلک أن ما یستحق به المستأجر علی الأجیر إنما هو الحمل فقط،و من الواضح أنه حاصل علی کل حال،لأن شأن الأجیر فی هذه الصورة شأن الدابة التی یرکبها العاجز عن المشی للطواف،و علیه فلا تنافی بین کون شخص أجیرا لحمل غیره فی الطواف،و بین أن یقصد الطواف لنفسه فی هذه الحالة.

و الذی یدلنا علی ذلک أمران:الأول:أنه إذا لم یتصف الحامل فی هذه الصورة بما

ص:477

اعتبر فی الطائف من الشرائط-کالمشی علی القهقری مثلا-لم یضر بطواف المحمول إذا کان واجدا لشرائط الطواف،و من المقطوع به أنه لو کان مصب الإجارة هو الطواف عن الغیر بعنوان النیابة لما حصل العمل المستأجر علیه فی الخارج.

الثانی:أنه ورد فی جملة من الاخبار[1]جواز حمل الغیر فی الطواف مع العجز عنه، فهی بإطلاقها تدل علی ما ذکرناه.علی أنه لو کان مورد هذه الاخبار غیر الإجارة فإنها تدل أیضا علی صحة ذلک،لأنها ظاهرة فی أن حمل غیره فی الطواف لا ینافی قصد الحامل الطواف لنفسه،لکون کل منهما بعیدا عن الآخر

حرمة أخذ الأجرة علی الأذان

قوله لا یجوز أخذ الأجرة علی أذان المکلف لصلاة نفسه. أقول:المعروف بین الأصحاب حرمة أخذ الأجرة علی الأذان،بل فی المستند حکی الإجماع علیها،و علی هذا النهج بعض فقهاء العامة (1).

و التحقیق أن مقتضی القاعدة هو جواز أخذ الأجرة علی الواجبات و علی المستحبات تعبدیة کانت أم توصلیة،لکونها من الأعمال المحترمة التی تقابل بالمال،فتکون المعاملة علیها مشمولة للعمومات،و أن صفة الوجوب أو صفة العبادیة أو اقتران العمل العبادی بالدواعی غیر القریبة لا تنافی التقرب و الإخلاص إلا مع الدلیل الخارجی،کامتثال العبادات بداعی الریاء،و قد عرفت ذلک کله آنفا.

ص:478


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلی آرائهم فی ص 460

و من هنا یتجلی لک جواز أخذ الأجرة علی الأذان و علی الإمامة إذا کانا مما یرجع نفع من ذلک الی الغیر بحیث یصح لأجله الاستئجار،کالاعلام بدخول الوقت أو الاجتزاء به فی الصلاة،و الاقتداء بالإمام.

و لکن قد سمعت فی مقدمة البحث عن أخذ الأجرة علی الواجب أن مورد الکلام فیما إذا کان العمل المستأجر علیه حاویا لشرائط الاستئجار مع قطع النظر عن کونه واجبا أو مستحبا و عن کونه تعبدیا أو توصلیا،و علیه فلو منع الشارع عن أخذ الأجرة علی عمل خاص، و تعلق غرضه بکونه مجانیا فإنه خارج عن حریم البحث،و لا یختص ذلک بالعبادات،و لا بالواجبات و المستحبات،و من الواضح جدا أنه ثبت فی الشریعة المقدسة[1]عن أهل بیت العصمة«ع»حرمة أخذ الأجرة علی الأذان و علی الإمامة.

قوله و علی الأشهر کما فی الروضة. أقول:هذا سهو من قلمه الشریف،فإنه ذکر الشهید(ره)فی الروضة:(و الأجرة علی الأذان و الإقامة علی أشهر القولین).

ص:479

أخذ الأجرة علی الشهادة

قوله ثم إن من الواجبات التی یحرم أخذ الأجرة علیه عند المشهور تحمل الشهادة بناء علی وجوبه. أقول:ذهب المشهور من فقهائنا و فقهاء العامة إلی وجوب الشهادة تحملا و أداء کما یظهر لمن یراجع الی کلماتهم فی مواردها.و هذا هو الظاهر من الکتاب الکریم[1]و من الروایات المذکورة فی أبواب الشهادات،و علیه فأخذ الأجرة علی الشهادة من صغریات أخذ الأجرة علی الواجب،و قد عرفت سابقا ذهاب المشهور إلی حرمة أخذها علیه.

و لکن قد علمت فیما تقدم أن مقتضی القاعدة هو جواز أخذ الأجرة علی الواجبات مطلقا ما لم یثبت منع من الخارج،و من المعلوم أنا لم نجد فی أدلة وجوب الشهادة ما یمنع عن ذلک.

بل الظاهر من بعض الروایات (1)الواردة فی قوله تعالی: (وَ لا یَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) .أن المنفی فی الآیة هو ان یقول المدعو إلی الشهادة:لا أشهد علی الواقعة، و واضح ان هذا لا ینافی جواز أخذ الأجرة علی الشهادة.نعم لو امتنع المشهود له عن إعطاء الأجرة وجب علی الشاهد ان یشهد بالواقعة مجانا.

هذا کله إذا کان تحمل الشهادة أو أدائها واجبا عینیا.و اما إذا کان کل منهما واجبا کفائیا فقد تقدم ان أخذ الأجرة علی الواجب الکفائی مع عدم الانحصار خارج عن محل الکلام،فإنه واجب علی جمیع المکلفین،لا علی شخص واحد معین.ثم إنه لا یستفاد من أدلة وجوب الشهادة إلا کونها واجبة علی نهج بقیة الأحکام التکلیفیة الکفائیة أو العینیة من غیر ان یستفاد منها کون التحمل أو الأداء حقا للمشهود له.

ثم إنه قد یقال بحرمة أخذ الأجرة علی مطلق التعلیم أو علی تعلیم القرآن.و لکنه فاسد.

فقد ثبت جواز ذلک فی جملة من الاخبار[2]و فی بعضها وقع الإزراء علی القائلین بالحرمة

ص:480


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 1 وجوب تحمل الشهادة من أبواب الشهادات ص 407.

و رمیهم الی الکذب و عداوة الحق.نعم لا نضایق من القول بالکراهة،لورود النهی عن ذلک فی بعض الأخبار المحمول علی الکراهة،و علی هذا المنهج المشهور من العامة (1)علی أن الروایات الواردة فی حرمة کسب المعلم و جوازه ضعیفة السند،فیرجع الی عمومات ما دل علی جواز الکسب.

ثم إنه لا یجوز أخذ الأجرة علی القضاء للروایات الخاصة[1]و أن الظاهر من آیة.النفر (2)الآمرة بالتفقه فی الدین،و إنذار القوم عند الرجوع إلیهم أن الإفتاء أمر مجانی فی الشریعة المقدسة.فیحرم أخذ الأجرة علیه.و یؤیده قوله تعالی (3): (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) .

ص:481


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلی آرائهم فی ص 48
2- 2) سورة التوبة،آیة:123.
3- 3) سورة الشوری،آیة:22.

الارتزاق من بیت المال

قوله بقی الکلام فی شیء إلخ. أقول:حاصل کلامه أن معظم الأصحاب قد صرحوا بجواز الارتزاق من بیت المال لکل من یحرم علیه أخذ الأجرة علی الإتیان بالواجبات کالقضاء و الإفتاء و تجهیز المیت،أو الإتیان بالمستحبات کالأذان و نحوه.و الوجه فی ذلک أن بیت المال معد لمصالح المسلمین،و هذه الموارد من جملتها،لعود النفع إلیهم،فإن أی شخص إذا أتی بأی شیء یرجع الی الجهات الراجعة إلی مصالح المسلمین کالأمور المذکورة و غیرها جاز لولی الأمر أن یدر علیه من بیت المال ما یرفع به حاجته.

و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون المقدار المقرر لهم أقل من أجرة المثل أو مساویا لها أو أکثر منها،و لا بین أن یکون تعیین ذلک قبل قیام هؤلاء بالوظائف المقررة علیهم أو بعده،بل یجوز لولی المسلمین أن یقول لأحد منهم:اقض فی البلد،أو أذن و أنا أکفیک مؤنتک من بیت المال،و لا یکون ذلک إجارة و لا جعالة.

نعم یشترط فی جواز الارتزاق من بیت المال أن یکون المتصدی للمناصب المذکورة و الوظائف المقررة من ناحیة الشرع محتاجا الیه بحیث لا یقدر علی قوت نفسه و عیاله و لو بالتکسب،و إلا فلا یجوز له الارتزاق من بیت المال،فإنه تضییع لحقوق المسلمین.

أقول:لو قلنا بحرمة أخذ الأجرة علی الواجبات أو المستحبات فإن الأدلة الدالة علی الحرمة مختصة بعنوان الأجرة و الجعل فقط،فلا تشمل بقیة العناوین المنطبقة علی المتصدین لتلک الوظائف،کالارتزاق من بیت المال،فإنه معد لمصالح المسلمین،فیجوز صرفه فی أی جهة ترجع إلیهم و تمس بهم،بل یجوز لهؤلاء المتصدین للجهات المزبورة أن یمتنعوا عن القیام بها بدون الارتزاق من بیت المال إذا کان العمل من الأمور المستحبة،و علیه فلا وجه لاعتبار الفقر و الاحتیاج فی المرتزقة کما ذهب الیه جمع کثیر من أعاظم الأصحاب.

لا یقال:إذا صار القضاء و أمثاله من الواجبات العینیة کان شأن ذلک شأن الواجبات العینیة الثابتة علی ذمم أشخاص المکلفین،کالصلاة و الصوم و الحج و نحوها،و من الواضح جدا أنه لا یجوز الارتزاق من بیت المال بإزائها.

فإنه یقال:إن القضاوة و نحوها و ان کانت من الواجبات العینیة فیما إذا انحصر القاضی بشخص واحد،و لکنها مما یقوم به نظام الدین،فتکون من الجهات الراجعة إلی مصالح المسلمین،فقد عرفت:أن مصرف بیت المال إنما هو تلک المصالح،فلا یقاس القضاء و أمثاله

ص:482

بالواجبات العینیة ابتداء خصوصا إذا أراد القاضی أن ینتقل من بلده الی بلد آخر،بل الأمر کذلک فی جمیع الواجبات العینیة إذا توقف علی الإتیان بها ترویج الدین و مصلحة المسلمین

خاتمة تشتمل علی مسائل

الأولی بیع المصحف

اشارة

قوله خاتمة تشتمل علی مسائل:الأولی-صرح جماعة. أقول:ذهب المشهور من أکابر أصحابنا إلی حرمة بیع المصحف،و ذهب جمع آخر کصاحب الجواهر و غیره الی الجواز.و المراد بالمصحف الأوراق المشتملة علی الخطوط،کبقیة الکتب،دون الخط فقط،کما اختاره المصنف(ره)تبعا للدروس،فان الخط بما هو خط غیر قابل للبیع، لکونه عرضا محضا تابعا لمعروضه،فلا یمکن انفکاکه عنه حتی یبحث فیه بأنه یقابل بالثمن أم لا.و علی تقدیر کونه من قبیل الجواهر،کالخطوط المخطوطة بالحبر و نحوه، فإنه لا یقبل النقل و الانتقال،و کیف کان فلا وجه للبحث عن جواز بیع الخط الخالی عن الأوراق و عدم جوازه.

نعم شأن الخطوط بالنسبة إلی الأوراق شأن الصور النوعیة العرفیة التی یلزم من انتفائها انتفاء المبیع رأسا کما سیأتی.

و أما حسن الخط و جودته فذلک من قبیل الأوصاف الکمالیة،فتوجب زیادة فی الثمن و لا یلزم من انتفائها انتفاء المبیع لکی یترتب علیه بطلان البیع،بل یثبت الخیار للمشروط له،إلا إذا کان الخط بمرتبة من الجودة صار مباینا لسائر الخطوط فی نظر العرف،کخط المیر المعروف،و ح فتکون صفة الحسن أیضا من الصور النوعیة العرفیة،و یلزم من انتفائها انتفاء المبیع،فیحکم ببطلان البیع.

و نظیر ذلک ما إذا باع فراشا علی أنه منسوج بنسج قاسان فبان أنه منسوج بنسج آخر فإن الأول لجودة نساجته یعد فی نظر العرف مباینا للثانی،فیبطل البیع،لان ما جری علیه العقد غیر واقع،و ما هو واقع غیر ما جری علیه العقد.و علی الجملة متعلق البحث فی بیع المصحف أما الأوراق المجردة عن الخطوط،أو العکس،أو هما معا،و حیث لا سبیل إلی الأول و الثانی فیتعین الثالث.

ثم إن الروایات الواردة فی بیع المصحف علی طائفتین:

الأولی:ما دل[1]علی حرمة بیعه،أی الأوراق المقیدة بالخطوط،و تدل هذه الطائفة

ص:483

علی جواز بیع غلافه و حدیدته و حلیته.الثانیة ما دل[1]علی جواز بیعه فتقع المعارضة بینهما.

و قد جمع المصنف بینهما بأن الطائفة المجوزة و ان کانت ظاهرة فی جواز البیع،و لکنها

ص:484

لم تتعرض لبیان کیفیته،فلا تعارض ما دل علی حرمة بیعه المتضمن للبیان.

و احتمل فی الجواهر حمل الأخبار المجوزة(علی إرادة شراء الورق قبل أن یکتب بها علی أن یکتبها،فیکون العقد فی الحقیقة متضمنا لمورد البیع و مورد الإجارة بقرینة قوله علیه السلام:و ما عملته یدک بکذا،ضرورة عدم صلاحیة العمل موردا للبیع،فلا بد من تنزیله علی الإجارة).

و یرد علی الوجهین أن کلا من النفی و الإثبات فی الروایات الواردة فی بیع المصاحف إنما ورد علی مورد واحد،و علیه فلا ترتفع المعارضة بین الطائفتین بشیء من الوجهین،لأنهما من الجمع التبرعی المحض،و لا شاهد لهما من العقل و النقل.

و یرد علی خصوص ما فی الجواهر أنه لا وجه لجعل العقد الواحد متضمنا لموردی الإجارة و البیع معا تمسکا بروایة عبد الرحمن بن سلیمان المذکورة فی الحاشیة،فإنه مضافا الی کونها ضعیفة السند.أنه لا دلالة فیها علی مقصود صاحب الجواهر،إذ الظاهر من عمل الید فی قوله(علیه السلام):(فقل إنما أشتری منک الورق و ما فیه من الأدم و حلیته و ما فیه من عمل یدک بکذا و کذا).هو الأثر الحاصل من العمل،لا نفس الفعل،فإنه لا وجه لکون العمل بعد وقوعه متعلقا للإجارة.

و التحقیق أن تحمل الطائفة المانعة من الروایات علی الکراهة بدعوی أن الغایة القصوی من النهی عن بیع المصحف إنما هو التأدب و الاحترام لکلام اللّه عز و جل،فإنه أجل من أن یجعل موردا للبیع،کسائر الکتب و الأمتعة،و أرفع من أن یقابل بثمن بخس دراهم معدودة،إذ الدنیا و ما فیها لا تساوی عند الله جناح بعوضة،فکیف یمکن أن یقع جزء من ذلک ثمنا للقرآن الذی اشتمل علی جمیع ما فی العالم و یدور علیه مدار الإسلام!! و من هنا تعارف من قدیم الأیام أن المسلمین یعاملون علی المصاحف معاملة الهدایا، و یسمون ثمن القرآن هدیة،و علیه فیحمل النهی الوارد عن بیعه علی الکراهة،لإرشاده الی ما ذکرناه.

و یدلنا علی ذلک قوله(علیه السلام)فی روایة روح بن عبد الرحیم:(أشتری أحب إلی من أن أبیعه).و قوله(علیه السلام)فی صحیحة أبی بصیر:(أشتریه أحب إلی من أن أبیعه).و قد ذکرناهما فی الهامش.فان کون الشراء أحب عند الإمام من البیع یدل علی کراهة البیع و کونه منافیا لعظمة القرآن،و لو کان النهی تکلیفیا لم یفرق فیه بین البیع و الشراء.

و لو سلمنا دلالة الروایات المانعة علی الحرمة،و لکنها ظاهرة فی الحرمة التکلیفیة،فلا دلالة فیها علی الحرمة الوضعیة:أعنی فساد البیع و عدم نفوذه،لعدم الملازمة بینهما.و قد تقدم ذلک

ص:485

مرارا.و یضاف الی جمیع ما ذکرناه أن الطائفة المانعة کلها ضعیفة السند.و غیر منجبرة بشیء،فلا یجوز الاستناد إلیها.

لا یقال:إن ما دل علی جواز بیع الورق أیضا معارض بما دل علی عدم جواز بیعه کروایة سماعة المتقدمة فی الحاشیة المصرحة بحرمة بیع الورق الذی فیه القرآن،فإنه یرد علیه مضافا الی ضعف السند فی روایة سماعة أنها صریحة فی المنع عن بیع الورق الذی فیه القرآن،لا الورق المجرد،فلا معارضة بینهما.

ثم إذا قلنا بحرمة بیع المصحف أو بکراهته،للروایات المتقدمة فإنه لا إشعار فیها بأن القرآن لا یملک،و أنه لا یقبل النقل و الانتقال مطلقا،و علیه فمقتضی القاعدة أنه کسائر الأموال یجری علیه حکمها من أنحاء النقل و الانتقال حتی الهبة المعوضة،لوقوع العوض فی مقابل الهبة دون المصحف،إلا البیع فقط.

و یدل علی ما ذکرناه جریان السیرة القطعیة علی معاملة المصاحف معاملة بقیة الأموال، و تدل علی ذلک أیضا الروایات (1)الدالة علی أن المصحف من الحبوة ینتقل الی الولد الأکبر بموت الوالد،و إذا لم یکن للمیت ولد أکبر ینتقل إلی سائر الورثة،فلو لم یکن المصحف مملوکا،أو لم یکن قابلا للانتقال لم تصح الأحکام المذکورة،و یدل علی ما ذکرناه أیضا أنه لو أتلف أحد مصحف غیره،أو أحدث فیه نقصا ضمن ذلک لصاحبه.و من الواضح أنه لو لم یکن مملوکا فإنه لا وجه للحکم بالضمان.

و مما تقدم یظهر ضعف ما قاله المحقق الایروانی:من أن(مورد الأخبار المانعة هو البیع و یمکن جعلها کنایة عن مطلق النواقل الاختیاریة،بل إشارة الی عدم قبوله للنقل و لو بالأسباب الغیر الاختیاریة کالإرث).

ثم إنه علی القول:بحرمة بیع المصحف،أو بکراهته فلا یجری ذلک فی مبادلة مصحف بمصحف آخر،لانصراف أدلة المنع عن هذه الصورة کما ذکره السید(ره)،لإمکان منعه بإطلاق الأدلة،علی أنه لا منشأ للانصراف المذکور.بل لما عرفت سابقا من أن المنع عن بیع القرآن إنما هو لعظمته،و أنه یفوت عن الإنسان متاع ثمین بإزاء ثمن بخس،فإذا کانت المبادلة بین المصحفین لم یجر ذلک المحذور موضوعا.

ثم إنه لا ملازمة بین بیع المصحف،و بین أخذ الأجرة علی کتابته،فلا یلزم من حرمة

ص:486


1- 1) راجع ج 2 کا باب 12 ما یرث الکبیر من الولد دون غیره ص 258.و ج 13 الوافی باب 121 ما یختص به الکبیر ص 114.و ج 3 ئل باب 3 ما یحبی به الولد الذکر الا کبر من ترکة أبیه دون غیره.من أبواب میراث الأبوین و الأولاد ص 343.

الأول أو کراهته حرمة الثانی أو کراهة،بل مقتضی القاعدة هو الإباحة.و تدل علیه جملة من الروایات[1].

معنی حرمة بیع المصحف و شرائه

قوله بقی الکلام فی المراد من حرمة البیع و الشراء. أقول:حاصل کلامه:انه لا شبهة فی أن القرآن یملک و لو بکتابته فی الأوراق المملوکة،و علیه فاما ان تکون النقوش من الأعیان المملوکة أولا،و علی الثانی فلا حاجة الی النهی عن بیع الخط،إذ لم یقع بإزائه جزء من الثمن لیکون ذلک بیعا،و علی الأول فاما ان یبقی الخط فی ملک البائع أو ینتقل إلی المشتری و علی الأول فیلزم ان یکون المصحف مشترکا بین البائع و المشتری، و هو بدیهی البطلان،و مخالف للاتفاق.و علی الثانی فإن انتقلت هذه النقوش إلی المشتری فی مقابل جزء من الثمن فهو البیع المنهی عنه،و إن انتقلت الیه تبعا لغیره-کسائر ما یدخل فی المبیع قهرا من الأوصاف التی تتفاوت قیمته بوجودها و عدمها-فهو خلاف مفروض المتبایعین و التحقیق ان نقوش القرآن و خطوطه من قبیل الصور النوعیة العرفیة،و هی مملوکة للمالک الأوراق ملکیة تبعیة،و دخیلة فی مالیة الورق کبقیة الأوصاف التی هی من الصور النوعیة فی نظر العرف،و علیه فمورد الحرمة أو الکراهة هو بیع الورق الذی کتب فیه کلام اللّه.

و توضیح ذلک انک قد عرفت فی بعض المباحث السابقة و ستعرف إنشاء اللّه تعالی فی مبحث الشروط ان کیفیات الأشیاء و ان کانت بحسب الدقة الفلسفیة من مقولة الاعراض و لکنها تختلف فی نظر أهل العرف،فقد یکون نظرهم إلی الأشیاء أنفسها بالأصالة و الی أوصافها بالتبع،کالأوصاف التی هی من لوازم الوجود.و قد یکون نظرهم فیها إلی الهیئة بالأصالة و الی المادة بالتبع.لکون الهیئة من الصور النوعیة فی نظرهم،کما فی الکأس و الکوز المصنوعین من الخزف،فإنهما فی نظر العرف نوعان متباینان و إن کانا من مادة واحدة،و قد یکون نظرهم الی کلتیهما کالفراش المنسوج من الصوف،فان الاعتبار فی

ص:487

نظر أهل العرف بمادته و هیئته،فهو مباین فی نظرهم مع العباءة المنسوجة من الصوف، و مع الفراش المنسوخ من القطن.

أما القسم الأول فالمالیة فیه من ناحیة المواد لخروج أوصافها عن الرغبات،و أما القسم الثانی فالمالیة فیه لخصوص الهیئات لکون المادة ملحوظة بالتبع،و أما القسم الثالث فالمالیة فیه للهیئة و المادة معا،فان النظر فیه الی کل منهما،و علیه فإذا تخلفت أوصاف المبیع فان کانت من الصور النوعیة بطل البیع،کما إذا باع کوزا فبان کأسا،أو باع فراشا فظهر عبادة، و وجه البطلان هو أن الواقع غیر مقصود و المقصود غیر واقع،و ان کانت من الأوصاف الکمالیة فإن کان لوجودها دخل فی زیادة الثمن ثبت عند تخلفها الخیار،و إلا فلا یترتب علیه شیء،نعم لا یجوز للبائع تغییر الهیئة،لکونه تصرفا فی مال الغیر بدون إذنه،و هو حرام،إلا إذا کانت الهیئة مبغوضة،کهیاکل العبادة الباطلة.

و إذا عرفت ذلک فنقول:إن النقوش فی المصاحف سواء کانت من الاعراض الصرفة أم من الجواهر و إن لم تکن مالا،و لا مملوکة بنفسها،و لکنها دخیلة فی مالیة الأوراق، فإن هذه النقوش فی نظر أهل العرف من الصور النوعیة التی یدور علیها مدار التسمیة، بحیث لو باع احد مجموع ما بین الدفتین علی أنه مصحف فبان أوراقا خالیة عن الخطوط، أو کتاب آخر بطل البیع،لعدم وجود المبیع فی نظر العرف،فالمصحف و کتاب المفاتیح مثلا نوعان،و الجواهر و البحار متباینان،و قد ظهر من جمیع ما ذکرناه ان مورد الحرمة أو الکراهة فی بیع المصحف هو الورق المنقوش الذی یسمی مصحفا،و یؤید ذلک ما فی روایة سماعة من قوله(علیه السلام):(و إیاک ان تشتری الورق و فیه القرآن مکتوب).

ثم إذا قلنا بحرمة بیع المصحف فیمکن توجیه المعاملات الواقعة علیه فی الخارج بأحد وجهین،و هما اللذان یمکن استفادتهما من الروایات المانعة:

الأول:ان یکون المبیع هو الجلد و الغلاف و الحدید و الحلییة،و لکن یشترط المشتری علی البائع فی ضمن العقد ان یملکه الأوراق-التی کتب فیه القرآن-مجانا،و لا یلزم التصریح بذلک الشرط،فإنه بعد البناء علی حرمة بیعه فالقرینة القطعیة قائمة علی اعتبار ذلک الشرط فی العقد،بداهة ان غرض المشتری لیس هو شراء الأدیم و الحدید و الغلاف فقط، و إلا لا اشتری غیرها،بل غرضه تملک المصحف.

الثانی:ان یکون المبیع بالأصالة هو الأمور المذکورة،و لکن تنتقل الخطوط إلی المشتری تبعا و قهرا،فتکون مملوکة له ملکیة تبعیة،إذ لا یعقل انفکاک الصورة عن المادة لکی تبقی الهیئة فی ملک البائع و تنتقل المادة إلی المشتری.

ص:488

لا یقال:إذا کان المبیع هو الأمور المذکورة لزم القول بصحة بیع المصحف و لزومه علی وجه الإطلاق حتی إذا ظهر عیب فی النقوش الموجودة فی الأوراق.

فإنه یقال:لا بأس بالالتزام بذلک إلا إذا اشترط المشتری علی البائع صحة الخطوط، فیثبت للمشتری حینئذ خیار تخلف الشرط.

حکم بیع أبعاض المصحف

إذا قلنا بحرمة بیع المصحف أو بکراهته فهل یختص الحکم بمجموع ما بین الدفتین، أو یسری إلی الأبعاض أیضا؟ربما قیل بالثانی،لقوله«ع»فی روایة سماعة المتقدمة:

(و إیاک أن تشتری الورق و فیه القرآن مکتوب فیکون علیک حراما و علی من باعه حراما فان هذه الروایة ظاهرة فی شمول الحکم لأی ورق کتب فیه القرآن،و علیه فیشمل الحکم لکتب التفسیر،و لکل کتاب رقم فیه بعض الآیات للاستشهاد و الاستدلال،ککتب الفقه و اللغة و النحو و غیرها،أو ذکرت فیه لمناسبة الأبواب،کبعض کتب الحدیث.

و لکن الذی یسهل الخطب أن السیرة القطعیة قائمة علی جواز بیع الکتب المزبورة و شرائها من غیر نکیر حتی من المتورعین فی أفعالهم و معاملاتهم.بل لم نر و لم نسمع من متفقة أنه أفتی فیها بکراهة البیع فضلا عن الفقیه،و إذن فلا بأس بالالتزام بجواز بیع کل کتاب مشتمل علی الآیات القرآنیة،کالکتب المزبورة و غیرها،بل قد یقال:إنه إذا جاز بیع کتاب مشتمل علی أبعاض القرآن جاز بیع أبعاض القرآن بنفسها،لاتحاد الملاک فیهما،بل یجوز بیع مجموع القرآن ح،فان دلیل المنع:أعنی به روایة سماعة لم یفرق فیه بین مجموع القرآن و أبعاضه،و حیث قامت السیرة القطعیة علی جواز البیع فی الأبعاض کان ذلک کاشفا عن جواز بیع المجموع،و یکون ذلک وجها آخر لحمل الأخبار المانعة علی الکراهة.

و لکن الذی یعظم الخطب أن السیرة دلیل لبی فیؤخذ منها بالمقدار المتیقن،فلو تمت الأدلة المانعة عن بیع المصحف لم یجز الخروج عنها إلا بمقدار ما قامت علیه السیرة:أعنی به الکتب المشتملة علی الآیات القرآنیة،و لا یمکن التعدی منها إلی الأبعاض المأخوذة من المصحف فضلا عن التعدی إلی مجموع ما بین الدفتین و الحکم بجواز بیعه

ص:489

بیع المصحف من الکافر

قوله ثم إن المشهور بین العلامة ره و من تأخر عنه عدم جواز بیع المصحف من الکافر علی الوجه الذی یجوز بیعه من المسلم. أقول:تحقیق الکلام هنا یقع فی ناحیتین:

الاولی:جواز تملک الکافر للمصحف و عدم جوازه.الثانیة:أنه بناء علی جواز بیعه من المسلم فهل یجوز بیعه من الکافر أولا؟و أما علی القول بحرمة بیعه منه فیحرم بیعه من الکافر بالأولویة القطعیة.

إما الناحیة الأولی فالظاهر هو الجواز للأصل،فان مقتضاه جواز تملک کل شخص لأی شیء إلا ما خرج بالدلیل،و من الواضح جدا أنا لم نجد ما یدل علی حرمة تملک الکافر للمصحف،بل الظاهر مما ذکرناه آنفا هو جواز ذلک لأی أحد من الناس.

و یلوح ذلک أیضا من کلام الشیخ(ره)فی فصل ما یغنم و ما لا یغنم من المبسوط،أن ما یوجد فی دار الحرب من المصاحف و الکتب التی لیست بکتب الزندقة و الکفر داخل فی الغنیمة،و یجوز بیعها.إذ مع عدم تملک الکافر للمصاحف فلا وجه لدخولها فی الغنیمة، بل تکون من قبیل مجهول المالک.و أما الوجوه المذکورة لحرمة بیع المصحف من الکافر فلا دلالة فیها علی عدم تملکه إیاه،کما سیأتی.

و أما الناحیة الثانیة فقد استدل المصنف علی حرمة بیع المصحف من الکافر بوجوه:

الأول:فحوی ما دل علی عدم تملک الکافر للمسلم.

و فیه أولا:أنه لا دلیل علی ذلک،بل ما دل علی وجوب بیعه یدل بالالتزام علی تملکه إیاه،إذ لا بیع إلا فی ملک،و أیضا ذکر الفقهاء أنه لو اشتری الکافر أحد عمودیه المسلم فإنه ینعتق علیه،مع أنه لا عتق إلا فی ملک،و سیأتی تفصیل ذلک فی البحث عن شرائط العوضین.

و ثانیا:لو سلمنا ثبوت الحکم فی العبد المسلم فلا نسلم قیاس المصحف علیه،فإنه مضافا الی بطلان القیاس فی نفسه،أن فی تملک الکافر للمسلم ذلا علیه،بخلاف تملکه للمصحف فإنه ربما یزید فی احترامه،کما إذا جعله فی مکتبة نظیفة للاطلاع علی آیاته و براهینه،بل قد تترتب علی ذلک هدایته إلی الإسلام.

الثانی:النبوی (1)المعروف(الإسلام یعلو و لا یعلی علیه).بدعوی أن تملک الکافر

ص:490


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 1 ان الکافر لا یرث المسلم من کتاب الإرث.و رواه فی کنز العمال ج 1 ص 17 عن الدارقطنی و البیهقی و الضیاء عن عائذ بن عمر.

للمصحف یوجب الاستعلاء علی الإسلام،فلا یجوز.

و فیه أولا:أن النبوی المذکور ضعیف السند.و ثانیا:أنه مجمل فلا یجوز الاستدلال به علی المطلوب،إذ یمکن أن یراد به أن الإسلام یغلب علی بقیة الأدیان فی العالم.و یمکن أن یراد به أن الإسلام أشرف من سائر المذاهب.و یمکن أن یراد به علو حجته و سمو برهانه،لأن حقیقة الإسلام مستندة الی الحجج الواضحة و البراهین اللائحة بحیث یفهمها کل عاقل ممیز حتی الصبیان،و یتضح ذلک جلیا لمن یلاحظ الآیات القرآنیة،و کیفیة استدلاله تعالی علی المبدء و المعاد و غیرهما ببیان واضح یفهمه أی أحد،بلا احتیاج الی مقدمات بعیدة بخلاف سائر الأدیان،فإنها تبتنی علی خیالات واهیة.و توهمات باردة تشبه بأضغاث الأحکام الثالث:أن بیع المصحف من الکافر یوجب هتکه،لعدم مبالاته بهتک حرمات اللّه.

و فیه أن بین هتک القرآن،و بین بیعه من الکافر عموما من وجه،فقد لا یوجب بیعه من الکافر هتکا له،کما إذا اشتراه و جعله فی مکتبة نظیفة،و احترامه فوق ما یحترمه نوع المسلمین.و قد یتحقق الهتک حیث لا یتحقق بیعه من الکافر،کما إذا کان تحت ید مسلم لا یبالی بهتک حرمات اللّه،فیجعله فی مکان لا یناسبه،و یعامله معاملة المجلات و القراطیس الباطلة،و قد یجتمعان،کما إذا اشتراه الکافر و نبذه وراء ظهره.

علی أن الهتک إنما یترتب علی تسلیط الکافر علی المصحف خارجا،لا علی مجرد بیعه منه، و علیه فإذا و کل مسلما فی بیعه و شرائه و التصرف فیه و الانتفاع به فإنه لا یترتب علیه الهتک من ناحیة تملک الکافر إیاه.

الرابع:أن بیع المصحف من الکافر یستلزم تنجسه،للعلم العادی بمس الکافر إیاه بالرطوبة،فیکون حراما من هذه الجهة.

و فیه أولا:أن بیعه منه لا یلازم تنجسه،فان بینهما عموما من وجه،کما هو واضح.

و ثانیا:أن ذلک من صغریات الإعانة علی الإثم،و قد علمت فی البحث عن بیع العنب ممن یجعله خمرا أنه لا دلیل علی حرمتها إلا فی موارد خاصة.

و یضاف الی جمیع ما ذکرناه أن المستفاد من الوجوه المذکورة هو حرمة البیع تکلیفا، و قد تقدم مرارا أنه لا ملازمة بینها و بین الحرمة الوضعیة.

ثم إن الوجوه المذکورة لو تمت دلالتها علی حرمة بیع المصحف من الکافر فإنها تقتضی حرمة بیع الأدعیة و الروایات منه أیضا،خصوصا إذا کانت مشتملة علی أسماء اللّه و أسماء الأنبیاء و الأئمة.

ص:491

ثم إن المصنف(ره)ذکر:(أن أبعاض المصحف فی حکم الکل إذا کان مستقلا،و أما المتفرقة فی تضاعیف غیر التفاسیر من الکتب للاستشهاد بلفظه أو معناه فلا یبعد عدم اللحوق،لعدم تحقق الإهانة و العلو).

و یرد علیه أن لازم ذلک جواز بیع المصحف منه تماما إذا کان جزء من کتاب آخر، و المفروض حرمته.

الثانیة جوائز السلطان

جواز أخذ المال منه مع الشک فی وجود الحرام فی أمواله

قوله الثانیة:جوائز السلطان و عماله،بل مطلق المال المأخوذ منهم مجانا أو عوضا) أقول:إن مورد البحث هنا کل مال أخذ من أی شخص یأکل فریقا من أموال الناس بالظلم و العدوان،و تخصیص الکلام بجوائز السلطان و عماله إنما هو من جهة الغلبة،و علیه فیعم البحث المال المأخوذ منهم بعنوان المعاملة،و المال المأخوذ ممن یأخذ أموال الناس بالسرقة و الغصب.

ثم إن المال المأخوذ من الجائر لا یخلو من أربعة أقسام،لأن الآخذ إما أن لا یعلم-و لو إجمالا-بوجود مال محرم فی أموال الجائر أو هو یعلم بذلک،و علی الثانی فاما أن لا یعلم بوجود الحرام فی خصوص المال المأخوذ،أو هو یعلم بذلک،و علی الثانی فاما أن یعلم بوجود الحرام فیه تفصیلا أو إجمالا،فهنا أربع صور:

الصورة الاولی:أن یأخذ المال من الظالم مع الشک فی وجود الحرام فی أمواله،و لا شبهة فی جواز ذلک،لعموم قاعدة الید المتصیدة من الاخبار الکثیرة الواردة فی موارد عدیدة،و للروایات الخاصة[1]الواردة فی خصوص المقام.

ص:492

و قد استدل المصنف(ره)علی ذلک مضافا الی الروایات الخاصة بالأصل و الإجماع،أما الإجماع فیحتمل قریبا أن یکون مستنده قاعدة الید،و الاخبار الخاصة الواردة فی المقام، فلا یکون إجماعا تعبدیا.

و أما الأصل فإن کان المراد به قاعدة الید-و إنما عبر عنها بالأصل للمساهلة و المسامحة- فهو متین،لأنها من القواعد المسلمة بین الفقهاء،فحال الجائر فی هذه الصورة حال بقیة الناس فان الاحتمال المذکور موجودة حتی فی أموال العدول من المسلمین،بل یمکن شمول قاعدة الید للکفار أیضا،و إن أراد بالأصل غیر قاعدة الید فلا نعلم له وجها صحیحا.

و قد یقال:إن المراد به أصالة الصحة،فإن القاعدة تقتضی حمل فعل المسلم علی الصحة، و المفروض أن الجائر من المسلمین،فیعامل معاملة بقیة المسلمین.

و لکن یرد علیه أنه لم یقم دلیل لفظی علی اعتبار أصالة الصحة،لکی یتمسک بإطلاقه فی کل مورد یشک فیه،و دلیلها إنما هو السیرة،و هی من الأدلة اللبی،فیؤخذ بالمقدار المتیقن منها،و هو نفس العقود و الإیقاعات.مع إحراز أهلیة المتصرف للتصرف،و علیه المتیقن منها،و هو نفس العقود و الإیقاعات.مع إحراز أهلیة المتصرف للتصرف،و علیه فإذا شک فی أن العقد الفلانی تحقق صحیحا أو فاسدا لخلل فی إیجابه أو قبوله فإنه یحمل علی الصحة،و أما إذا شک فیه من جهة أخری فلا دلیل علی حمل فعل المسلم علی الصحة.

و من هنا لو أشار أحد إلی دار معینة و قال بعتک هذه الدار بکذا فإنه لا یمکن الحکم بصحة هذه المعاملة اعتمادا علی أصالة الصحة إذا انتفت قاعدة الید،أو إذا قطعنا النظر عنها.

و من هنا أیضا لو شک فی أن البائع أصیل أو فضولی فإنه لا وجه لحمله علی الأول بمقتضی أصالة الصحة.

و قد یقال:إن المراد بالأصل هو أصالة الإباحة الثابتة بالأدلة العقلیة و النقلیة.و فیه أن أصالة الإباحة إنما تجری فی الأموال إذا لم تکن مسبوقة بید اخری،کالمباحات الأصلیة التی ملکها الجائر بالحیازة.و أما إذا کانت مسبوقة بید أخری فإن أصالة الإباحة محکومة بأصل آخر،و هو عدم انتقال الأموال المذکورة إلی الجائر من مالکها السابق،فیحرم تناول تلک الأموال من الجائر،إذ لیس هنا أصل موضوعی یثبت مالکیته لما فی یده إلا

ص:493

قاعدة الید،و المفروض أنها لا تجری فی المقام.

و قد احتمل المصنف(ره)أنه لا یجوز أخذ الجوائز من الجائر إلا مع العلم باشتمال أمواله علی مال حلال لکی یحتمل أن یکون المال المأخوذ من المال الحلال،و قد استند فی ذلک الی روایة الحمیری[1].

و یرد علیه أولا:أن الروایة مرسلة فلا یجوز الاستناد إلیها.و ثانیا:إنها غریبة عن محل البحث،فان مورد کلامنا هی الصورة الاولی،و هی ما إذا لم یعلم باشتمال أموال الجائر علی مال محرم.و مفروض الروایة عکس ذلک.فتکون راجعة إلی الصورة الآتیة.

و لعل ذلک اشتباه من الناسخ فکتبها فی غیر موضعها،و قد وقع نظیره فی کتب الشیخ و اللّه العالم.

جواز أخذ المال من الجائر

اشارة

مع العلم الإجمالی بوجود الحرام فی أمواله

الصورة الثانیة:أن یعلم الآخذ إجمالا باشتمال أموال السلطان علی الحرام،و لکن لا یعلم باشتمال الجائزة علیه،فیقع الکلام هنا فی ناحیتین:

الاولی:أن لا تکون الأصول و الأمارات معارضة فی أطراف العلم الإجمالی.و الثانیة:

أن تقع المعارضة بینهما فی ذلک.

أما الناحیة الاولی فذکر المصنف ان التصرف فی المال المأخوذ من السلطان الجائر فی هذه الصورة جائر بأحد شرطین علی سبیل مانعة الخلو،الأول:أن تکون الشبهة فی أطراف العلم الإجمالی غیر محصورة.و الثانی:أن یکون أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء و ان کانت الشبهة محصورة،کما إذا دفع الجائر الی أحد جاریة،و علم المدفوع إلیه بأن إحدی الجاریتین مغصوبة إما هذه الجاریة و إما الجاریة الأخری التی اختص بها الجائر بحیث أصبحت أم ولد له و من خواص نسائه،و من الواضح أن أم ولد الجائر خارجة عن

ص:494

محل ابتلاء غیره فلا یکون العلم الإجمالی منجزا فی أمثال ذلک.

و قد استدل علی هذا الرأی فی فرائده بوجوده شیء،و أشار هنا الی واحد منها.

و حاصله:أن العلم الإجمالی إنما یوجب التنجیز إذا کان التکلیف المتعلق بالواقع فعلیا علی کل تقدیر من غیر ان یکون مشروطا بالابتلاء فی بعض الأطراف،و إلا فتکون الشبهة بدویة بالنسبة الی ما هو فی معرض الابتلاء.

و یرد علیه ما ذکرناه مفصلا فی علم الأصول،و حاصله:أن کون الشبهة محصورة أو غیر محصورة،أو خروج بعض أطرافها عن محل الابتلاء لیس مناطا فی تنجیز العلم الإجمالی،لعدم الدلیل علیه من العقل أو النقل،بل الحجر الاساسی فی تنجیزه ان یکون ارتکاب کل فرد من أطراف الشبهة مقدورا للمکلف بالقدرة العقلیة،و إلا فهو لا یوجب التنجیز،لقبح التکلیف بأمر غیر مقدور للمکلف،و علیه فان کان جمیع أطراف الشبهة هنا مقدورا للمکلف کان العلم الإجمالی منجزا للتکلیف،و إلا فلا،سواء أ کانت الشبهة محصورة أم غیر محصورة،و سواء أ کان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أم لا، و علی هذا فلا وجه لتفصیل المصنف فی المقام.

و التحقیق أنه لا مانع من التصرف فی هذه الصورة أیضا سواء کان أخذ المال من الجائر مجانا أم مع العوض،و ذلک من جهة الاعتماد علی قاعدة الید،فان من المحتمل ان یکون الحرام منطبقا علی ما بید الجائر دون ما أعطاه للغیر،و لا فرق فیما ذکرناه بین ما کان المناط فی تنجیز العلم الإجمالی نفس العلم أو تعارض الأصول.

و الوجه فی ذلک ان جریان قاعدة الید فی المال المأخوذ لا مانع عنه.و أمال المال الآخر الباقی تحت ید الجائر فهو غیر مشمول للقاعدة للعلم بحرمة التصرف فیه علی کل من تقدیری کونه غصبا و عدمه،و سیجیء بیان ذلک قریبا،و من هنا ظهر انه لو کان للجائر مرکوبان،و کان أحدهما غصبا فأباح أحدهما لشخص و أبقی الآخر فی یده فإنه جاز للمباح له ان یتصرف فی ذلک،و اما لو أباح أحدهما و ملکه الآخر ببیع و نحوه فإنه یحرم علیه التصرف فی کلیهما.

ص:495

ما استدل به علی کراهة أخذ المال

من الجائر مع العلم بوجود الحرام فی أمواله و الجواب عنه

قوله ثم إنه صرح جماعة بکراهة الأخذ. أقول:کره جماعة أخذ الجائزة من الجائر مع قیام الحجة علی الجواز،و استدلوا علیه بوجوه:

الأول:انه یحتمل ان یکون المأخوذ منه حراما واقعا،لکن قام الدلیل علی جواز

تناوله ظاهرا،فیکون مکروها.

و فیه انه لو کان الاحتمال موجبا لکراهة التصرف فی المأخوذ من الجائر لوجب الالتزام بکراهة التصرف فیما أخذ من أی أحد من الناس حتی المتورعین فی أمورهم،لوجود الاحتمال المذکور فی أموالهم،مع انه لم یلتزم بها أحد فی غیر جوائز السلطان.

الوجه الثانی:الاخبار الکثیرة الدالة علی حسن الاحتیاط،

(1)

کقوله«ع»:(دع ما یریبک الی مالا یریبک)و قولهم«ع»:(فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات)و کقوله «ع»:(الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة)و کقول علی«ع»لکمیل بن زیاد:(أخوک دینک فاحتط لدینک بما شئت).و فی الحدیث(إن لکل ملک حمی و حمی اللّه محارمه فمن رتع حول الحمی أو شک ان یقع فیه).و غیر ذلک من الروایات.

و فیه انه إن کان المراد بالریب أو الشبهة التی جعلت موضوعا للحکم فی هذه الاخبار الریب فی الحکم الظاهری-بأن کانت واقعة خاصة مشتبهة فی حکمها الظاهری-فهو ممنوع فی المقام،لارتفاعه بقاعدة الید التی ثبت اعتبارها فی الشریعة المقدسة،و ان کان المراد به الریب فی الحکم الواقعی فالاموال کلها إلا ما شذ و ندور مشتبهة من حیث الحکم الواقعی حتی الأموال المشتبهة فی أیدی عدول المؤمنین،لوجود احتمال الحرمة الواقعیة فی جمیع ذلک،و لازم ذلک ان یحکم بکراهة التصرف فی جمیع الأموال غیر ما أخذ من المباحات الأصلیة،و علی هذا فطریق التخلص من الکراهة ان یعامل بها معاملة مجهول المالک،کما کان ذلک دأب بعض الاعلام من السادة.

نعم یختلف الاحتیاط من حیث الشدة و الضعف بحسب الموارد،فالاحتیاط فی أموال الجائرین أشد من الاحتیاط فی أموال بقیة الناس.و علی الجملة لا طریق لنا إلی إثبات

ص:496


1- 1) راجع ج 3 ئل باب 12 وجوب التوقف و الاحتیاط من أبواب صفات القاضی ص 387-389.

الکراهة فی جوائز السلطان،لأنه إن کان المراد بالکراهة الکراهة الشرعیة فالأخبار المذکورة غریبة عنها،و إن کان المراد بها الکراهة الإرشادیة الناشئة من حسن الاحتیاط فلا اختصاص لها بالمقام.

الوجه الثالث:أن أخذ المال منهم یوجب محبتهم،

فان القلوب مجبولة علی حب من أحسن إلیها.و قد نهی فی الاخبار المتواترة عن موادتهم و معاشرتهم،و قد أشرنا إلیها فی البحث عن حرمة معونة الظالمین.

و فیه أنه لا شبهة فی ورود النهی-إما تحریمیا کما فی جملة من الاخبار أو تنزیهیا کما فی جملة أخری منها-عن صحبة الظالمین و موادتهم و مجالستهم،و لکن بین ذلک و بین أخذ جوائزهم عموما من وجه،إذ قد یکون احد محبا للظلمة و أعوانهم من دون ان یأخذ شیئا منهم،کالذین استحوذ علیهم الشیطان فأنساهم ذکر اللّه حتی صاروا من أولیاء الظلمة و محبیهم،و قد یأخذ أحد جوائزهم و أموالهم،و هو لا یحبهم،بل ربما أوجب ذلک بغضهم و عدائهم،کما إذا کان أجیرا للظالم و أعطاه أقل من اجرة المثل.و دعوی کون الإجارة خارجة عن مورد البحث دعوی جزافیة.فقد عرفت أن مورد البحث أعم من ان یکون الأخذ مجانا أو مع العوض.

الوجه الرابع:قوله«ع»فی روایة الفضل1:(و اللّه لو لا اننی أری من أزوجه بها من

عزاب بنی أبی طالب لئلا ینقطع نسله ما قبلتها ابدا).

فان هذه الروایة صریحة فی ان الإمام(علیه السلام)إنما قبل هدیة الرشید لیزوج بها العزاب من آل أبی طالب لئلا ینقطع نسله و لو لا هذه الناحیة المهمة لکان الرد أولی،فتدل علی الکراهة ما لم تکن فی الأخذ مصلحة راجحة.

و لکن یرد علیه ان اشمئزاز الإمام(علیه السلام)عن قبول هدیة الرشید لیس من جهة کونها من أموال الظلمة،بل لاستلزامها المنة،فإن من أشق الأحوال ان یغصب احد حق غیره، ثم یهدی الیه هدیة بعنوان التفضل و إظهار العظمة.

و الوجه فیما ذکرناه ان ما أعطاه الرشید للإمام(علیه السلام)لا یخلو إما ان یکون من أمواله الشخصیة،أو من بیت المال،أو من مجهول المالک،أو من معروف المالک،فان کان من الأول فلا شبهة فی جواز أخذه،و هو واضح،و کذلک إن کان من الثانی أو الثالث، فإن ولایة بیت المال و مجهول المالک للإمام(علیه السلام)،و إن کان من الرابع فللإمام(علیه السلام)،

ص:497

ان یأخذه و یوصله الی مالکه،و له ان لا یأخذه أصلا.اما ان یأخذه و یزوج به عزاب بنی أبی طالب فذلک غیر جائز،اللهم إلا ان یقال:إنه من جهة کون الامام(علیه السلام)أولی بالمؤمنین من أنفسهم،و لکن هذا بعید عن مراد الامام(علیه السلام)فی الروایة.

ما استدل به علی رفع الکراهة

عن جوائز السلطان و الجواب عنه

قوله ثم إنهم ذکروا ارتفاع الکراهة بأمور:منها إخبار المجیز). أقول:ذکر الفقهاء رضوان اللّه علیهم موارد لارتفاع الکراهة بناء علی ثبوتها فی جوائز الظالمین.منها إخبار الظالم بحلیة الجائزة و کونها من أمواله الشخصیة،کأن یقول:هذه الجائزة من تجارتی أو من زراعتی أو نحو ذلک مما یحل للآخذ التصرف فیه.

و یرد علیه أن ارتفاع الکراهة بذلک بناء علی ثبوتها و إن کان مشهورا بین الأصحاب، بل مما لا خلاف فیه علی ما حکاه المصنف عن ظاهر الریاض تبعا لظاهر الحدائق،إلا أنا لم نجد له مستندا صحیحا،و قد اعترف بذلک صاحب المناهل.

و قد یتوهم أن المستند فی رفع الکراهة هنا ما دل علی حجیة قول ذی الید،فیکون إخباره بذلک کسائر الأمارات المعتبرة شرعا.

و فیه أن إخباره بحلیة ماله لا یزید علی یده،فکما أن إخباره یدل علی الملکیة الظاهریة فکذلک یده.و احتمال مخالفة الواقع متحقق فی کلیهما،و علیه فحسن الاحتیاط یقتضی الاجتناب فی کلا الموردین،و لکنه لا تثبت به الکراهة المصطلحة الناشئة من الحزازة فی الفعل.الثانی:إخراج الخمس،نقل المصنف حکایته عن المنتهی و المحقق الأردبیلی،بل عن ظاهر الریاض عدم الخلاف فیه.و قد استدل علی کونه رافعا للکراهة عن الجوائز بوجوه الوجه الأول:فتوی النهایة و السرائر باستحباب الخمس فی الجوائز،بدعوی أن أخبار من بلغ تشمل ما کان بلوغه بفتوی الفقیه،بل ذکر المصنف أن فتوی النهایة و السرائر کالروایة و علیه فلا نحتاج الی ذلک التعمیم.

و فیه أن استحباب الخمس فیها لا یلازم رفع الکراهة عن التصرف فی البقیة.

الوجه الثانی:ما حکاه المصنف عن المنتهی من أن المال الذی اختلط بالحرام قطعا یطهر بالتخمیس،فما احتمل وجود الحرام فیه یطهر به بالأولویة القطعیة.

و یرد علیه أولا:ما ذکره المصنف من أن إخراج الخمس من المال المختلط بالحرام بمنزلة

ص:498

البدل عن الحرام الواقعی،فیکون ذلک نظیر المصالحة فی نظر الشارع فیرتفع به أثر الحرام أعنی به وجوب الاجتناب.و أما المال الذی یحتمل أن یکون حراما کله و قذرا فی ذاته فلا معنی لتطهره بإخراج خمسة،فإنه لو کان المال بمجموعه حراما فی الواقع لم یصح أن یکون الخمس بدلا عنه لکی یکون ذلک بمنزلة المصالحة فی نظر الشارع.

و ثانیا:أن مقتضی القیاس هو وجوب الخمس فیما یشک فی حرمته و حلیته من الأموال لا استحبابه،فان اتحاد الملاک فی الموردین یقتضی اتحاد الحکم فیهما،و علیه فتوهم وجوب الخمس فی مورد و استحبابه فی مورد آخر مع فرض وحدة الملاک فیهما شبیه بالمتناقضین.

و ثالثا:أن هذا الوجه قیاس لا یفید إلا الظن بالواقع،و هو لا یغنی من الحق شیئا.

و رابعا:لو سلمنا جمیع ذلک فإنما یدل علی طهارة المال بإخراج الخمس،و لا منافاة بین ذلک،و بین کراهة التصرف فی الباقی.

الوجه الثالث:الأخبار الدالة علی وجوب الخمس فی مطلق الجوائز،و حیث إن المشهور لم یلتزموا بوجوب الخمس فیها فتحمل تلک الأخبار علی الاستحباب.

و فیه أولا:أن اعراض المشهور عن الروایة المعتبرة لا یوجب رفع الید عنها،و علیه فمقتضی العمل بتلک الروایات إنما هو وجوب الخمس فی الجائزة،لا استحبابه.

و ثانیا:أن الظاهر من هذه الأخبار إنما هو وجوب الخمس فی الهدایا،لکونها من الغنائم و الفوائد و الأرباح التی تحصل للإنسان یوما فیوما.فشأنها شأن أرباح المکاسب التی یجب فیها الخمس بعد إخراج المؤنة و مضی السنة،و لازم ذلک أن نقول بوجوب الخمس أو باستحبابه فی الجائزة بعنوانها،لا من حیث اندراجها فی الأرباح،فلا بد من الالتزام بثبوته فیها مرتین،و لم یلتزم بذلک فقیه.

علی أن إخراج الخمس عن الجوائز لا یرفع احتمال الحرمة عن الباقی إلا مع الالتزام بکون التخمیس بمنزلة المصالحة فی نظر الشارع،و قد عرفت جوابه آنفا.

و یضاف الی ما ذکرناه أنا لم نجد فی الروایات ما یدل علی وجوب الخمس فی الجائزة بعنوانها حتی نحمله علی الاستحباب،نعم ذکرت الجائزة و الهدیة فی بعض الأحادیث[1]

ص:499

و لکن لا علی نحو الموضوعیة،بل لکونهما من أفراد الغنائم و الفوائد و من الأرباح الحاصلة یوما فیوما.و من جمیع ما ذکرناه ظهر الجواب عن الموثقة[1]الدالة علی وجوب الخمس فیما حصل للإنسان من خصوص عمل السلطان.

الوجه الرابع:ما ذکره المصنف من(أن المستفاد مما تقدم-من اعتذار الکاظم(علیه السلام) من قبول الجائزة بتزویج عزاب الطالبیین لئلا ینقطع نسلهم،و من غیره-أن الکراهة ترتفع بکل مصلحة هی أهم فی نظر الشارع من الاجتناب عن الشبهة).و قد تقدم أن الوجه فی إبائه(علیه السلام)عن قبول هدیة الرشید لزوم المنة،و إلا فلا شبهة فی جواز أخذ الإمام علیه السلام إیاها.

ثم إنا لو سلمنا کراهة أخذ الجائزة من الجائر فلا رافع لها إلا معاملتها معاملة مجهول المالک،کما هو کک فی جمیع الأموال التی لم تثبت حلیتها بالعلم الوجدانی،و قد کان ذلک دأب بعض الأعاظم من السادة(ره).

و أما الناحیة الثانیة-و هی ما کانت الأصول معارضة فی أطراف الشبهة-فتفصیل الکلام فیها یقع تارة من حیث القواعد،و اخری من حیث الروایات،أما من حیث القواعد أن الجائر قد یحیز التصرف فی شیء معین من أمواله أو یعطیه لأحد مجانا أو مع العوض، و قد یجیز التصرف فی جمیع أمواله علی نحو العموم الاستیعابی،و قد یجیز التصرف فی شیء منها علی نحو العموم البدلی.

أما القسم الأول فلا شبهة فی انحلال العلم الإجمالی فیه الی شک بدوی و علم تفصیلی،لأن الآخذ یعلم تفصیلا بحرمة التصرف فی بقیة أموال الجائر،إما لکونها مغصوبة،أو لأنه لم یجز التصرف فیها.و أما خصوص ما أخذه من الجائر فیجوز له التصرف فیه استنادا الی ید الجائر التی هی أمارة الملکیة،و لا تکون معارضة بیده فی الطرف الآخر،لما عرفت

ص:500

من حرمة التصرف فیه علی کل تقدیر،و مع الإغضاء عن الاستناد إلی قاعدة الید فلا بد من التفصیل بین الأموال التی کانت مسبوقة بید اخری،و بین الأموال التی أخذت من المباحات الأصلیة،فإن أصالة عدم الانتقال فی الأول حاکمة علی أصالة الحل.

و أما القسم الثانی فلا ریب فی تنجیز العلم الإجمالی فیه،لتعارض الأصول و تساقطها فی أطرافه،و کون التکلیف منجزا علی کل تقدیر.کما إذا کان للجائر عشرون دینارا فأجاز لأحد ان یتصرف فی جمیعها،و کان المجاز یعلم ان احد هذه الدنانیر حرام،فإنه یحرم علیه التصرف فی جمیعها.

و أما القسم الثالث فقد یتوهم فیه انحلال العلم الإجمالی إلی شک بدوی و علم تفصیلی علی التقریب المتقدم فی القسم الأول و مثاله إذا أعطی الجائر کیسه لشخص،و قال له:خذ منه دینارا،و کان الآخذ یعلم إجمالا باشتمال الکیس علی دینار محرم،فان اختیاره دینارا خاصا إنما یعین متعلق إذن الجائر،فکأنه من الأول إنما أذن فی التصرف فی ذلک الدینار المعین، فیجری فی هذا القسم جمیع ما ذکرناه فی القسم الأول.

و لکن التحقیق انه لا فرق فی تنجیز العلم الإجمالی بین القسم الثانی و الثالث.و الوجه فی ذلک ما فصلناه فی علم الأصول.و مجملة ان العلم الإجمالی بالتکلیف الثابت بین الأطراف المعینة التی هی بأجمعها فی معرض الابتلاء یقتضی الاجتناب عن الجمیع،و علیه فالترخیص فی ارتکاب ما یختاره المکلف ترخیص فی مخالفة الحکم المنجز من غیر وجود مؤمن فی البین، و أصالة عدم کون ما یختاره المجاز حراما معارضة بأصالة عدم کون الباقی حراما،و إذن فیجب الاجتناب عن الجمیع.

و بعبارة اخری ان المناط فی تنجیز العلم الإجمالی إنما هو تعارض الأصول فی أطرافه، سواء أ کان المکلف مع ذلک متمکنا من ارتکابها علی نحو العموم الشمولی،أو علی نحو العموم البدلی:بأن لا یتمکن من ارتکاب المجموع،کما إذا قال المولی لعبده:یحرم علیک السکنی فی الدار المعینة عند طلوع الفجر فاشتبه علیه متعلق التکلیف بین دارین فإنه یجب علیه الاجتناب من کلتا الدارین،مع أنه غیر متمکن من السکنی فیهما معا عند طلوع الفجر، فان عدم تمکن المکلف من ارتکاب مجموع الأطراف لا یمنع عن تنجیز العلم الإجمالی إذا تمکن من ارتکابها علی البدل.

و قد یقال بانحلال العلم الإجمالی أیضا فی هذا القسم لوجوه:

الأول:قاعدة الید،و فیه أن قاعدة الید إنما توجب الانحلال إذا أجاز الجائر التصرف فی مال معین کما تقدم فی القسم الأول،و أما إذا أذن فی التصرف فی مال غیر معین علی نحو

ص:501

العموم البدلی فإن قاعدة الید فی أی فرد اختاره المجاز معارضة لها فی الطرف الآخر،فلا توجب انحلال العلم الإجمالی.

الثانی:قاعدة من ادعی شیئا و لم یعارضه أحد فی دعواه یحکم بکون الشیء ملکا له.

و فیه أن القاعدة المذکورة و إن وردت فی بعض الأحادیث[1]و لکنها غریبة عن المقام للعلم بوجود الحرام فیما بید الجائر.علی أن الروایة واردة فی قضیة شخصیة،فلا یمکن التعدی منها الی غیرها،للجهل بخصوصیاتها.

الثالث:أن حمل فعل المسلم علی الصحة یقتضی معاملة ما بید الجائر معاملة الملکیة.و فیه مضافا الی ما أوردناه علی الوجه الأول.أنه قد یراد من أصالة الصحة حمل فعل المسلم علی الصحیح فیما إذا کان ذا وجهین(الحلال و الحرام)و لا شبهة أن حمله علی الوجه الحلال لا یوجب ترتب آثاره علیه،کما إذا تکلم المسلم بکلام احتملنا أنه سلام أو سباب،فحمل فعله علی الصحة یقتضی أن لا یکون سبابا،و لکن ذلک لا یثبت کونه سلاما فیجب رد جوابه،فإذا حملنا فعل الجائر علی الصحة بهذا المعنی لم یفد ذلک شیئا و لم تترتب علیه آثار الصحة من الحکم بملکیة المأخوذ،و جواز التصرف فیه.

و قد یراد بها أصالة الصحة فی العقود،و لا ریب أنها لا تثبت کون العوضین ملکا للمتبایعین،و إنما تثبت بها صحة العقود إذا شک فیها لأمر یرجع الی الصیغة،لعدم الدلیل عن أزید من ذلک،فأصالة الصحة إما أن لا تکون جاریة،أو لا نثبت بها لوازمها.

و أما من حیث الروایات فقد استدل علی جواز التصرف فی المأخوذ إذا علم إجمالا باشتمال مال الجائر علی الحرام بطوائف من الروایات،الأولی:الأخبار (1)الواردة فی باب الربا الدالة علی وجوب رد الزائد عن رأس المال الی مالکه إذا کان معلوما،و أما إذا کان المالک مجهولا فهو حلال للآخذ.

و قد استدل بها السید فی حاشیته علی جواز التصرف فی الجائزة و لو مع العلم إجمالا باشتمالها علی الحرام.

ص:502


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 5 حکم من أکل الربا بجهالة ثم تاب من أبواب الربا ص 598 و ج 10 الوافی باب 55 الربا ص 53.و ج 1 کا باب 51 من المعیشة ص 369.

و فیه أن هذه الأخبار غریبة عما نحن فیه،لأنها راجعة إلی حلیة الربا بعد التوبة، و دالة علی عفو اللّه عن ذلک تسهیلا للمکلفین و ترغیبا فی التوبة.و علیه فالتوبة شرط متأخر لحلیة الربا مع الجهل بصاحبه.و قد ورد (1)فی تفسیر قوله تعالی (2): (فَلَهُ ما سَلَفَ) ما یدل علی العفو عن الربا وضعا و تکلیفا بعد التوبة.و ح فشأن الربا شأن الموارد التی أذن الشارع فی التصرف فی أموال الناس بدون إذنهم،کأکل طعام الغیر فی المجاعة،و التصرف فی اللقطة بعد التعریف،و فی الأراضی المتسعة و الأنهار الکبار، و کالتصرف فی الأراضی المغصوبة لإنقاذ الغریق،الی غیر ذلک من الموارد.

الطائفة الثانیة:الأخبار (3)الدالة علی حلیة الأشیاء ما لم تثبت حرمتها،فإنها تدل بإطلاقها علی جواز التصرف فیما أخذ من الظالم ما لم تعلم حرمته تفصیلا.

و لکن یرد علیها أن العمل بإطلاقها یقتضی الحکم بجواز ارتکاب جمیع الشبهات،سواء کانت مقرونة بالعلم الإجمالی أم لا،و سواء کانت الشبهة محصورة أم لا،و من الضروری أن هذا مما لا یمکن الالتزام به،و علیه فلا بد من حمل تلک الأخبار علی فرض کون الشبهة بدویة.

و بعبارة اخری أن تلک الأخبار منصرفة عن موارد العلم الإجمالی إذا کانت فی معرض الابتلاء،فان شمولها لجمیع الأطراف یستلزم المخالفة القطعیة،و لأحدهما المعین ترجیح بلا مرجح،و عنوان أحدهما من غیر تعیین لیس له مصداق غیر الأفراد الخارجیة،و الفرد المردد لا وجود له حتی فی علم اللّه،علی أن القائلین بجواز أخذ الجائزة من الجائر کالشهیدین و المحقق و غیرهم لم یقولوا بجواز المخالفة القطعیة فی أطراف العلم الإجمالی.

قوله و قد تقرر حکومة قاعدة الاحتیاط علی ذلک. أقول:العجب من المصنف فإنه قد أسس المبانی الأصولیة،و شید أساس تقدیم أدلة البراءة علی أدلة الاحتیاط،و مع ذلک التزم هنا بحکومة قاعدة الاحتیاط علی البراءة.

قوله علی أن الید لا تؤثر فیه. أقول:الوجه فی ذلک ما تقدم من أن جریان قاعدة الید فی بعض الأطراف معارض بجریانها فی الطرف الآخر،للعلم بمخالفتها للواقع فی أحد الطرفین.

ص:503


1- 1) راجع البابین المتقدمین من الوافی و ئل.
2- 2) سورة البقرة،آیة:276.
3- 3) راجع ج 3 ئل باب 35 حکم السمن و الجبن و غیرهما من أبواب الأطعمة المحرمة ص 262.و ج 2 التهذیب ص 302.و ج 1 البحار ص 156.و ج 2 ئل باب 31 عدم جواز الإنفاق من الحرام مما یکتب به ص 537.

قوله فهو علی طرف النقیض مما تقدم عن لک. أقول:الوجه فیه أن القول بعدم وجوب الاحتیاط یناقض القول بوجوبه،کما أن القول بخروج جوائز الظالم عن مورد الشبهة المحصورة تخصصا یناقض القول بخروجها عن ذلک تخصیصا.

الطائفة الثالثة:الأخبار الدالة علی جواز أخذ الجوائز من الجائر سواء کان الأخذ مع العوض أم بدونه،و قد تقدمت (1)جملة من هذه الروایات.

و فیه أن المستدل بهذه الاخبار إما ان یدعی ظهورها فی الحلیة الواقعیة،أو یدعی ظهورها فی الحلیة الظاهریة أما الدعوی الاولی فحاصلها ان الشارع قد حکم بأن أخذ المال من الجائر یوجب حلیته واقعا نظیر تخمیس المال المختلط بالحرام بناء علی کونه مطهرا للمال المذکور واقعا و هذه الدعوی و إن کانت لا غرابة فیها فی نفسها لأن الشارع قد أباح التصرف فی مال الغیر بدون إذنه إباحة واقعیة فی موارد کثیرة،کأکل طعام الغیر فی المجاعة،و التصرف فی أرضه لإنجاء الغریق،و أکل المارة من ثمرته،و أکل اللقطة بعد التعریف المقرر فی الشریعة،و التصرف فی الأراضی المتسعة و الأنهار الکبار،و کالتصرف فیما یؤخذ ممن لا یعتقد الخمس،فإن الأئمة قد جعلوا شیعتهم فی حل من ذلک واقعا لیطیب نسلهم و لکن لا یمکن الذهاب الی ذلک فی مقام الإثبات إلا فیما دل الدلیل علیه کما فی الموارد المذکورة.نعم یظهر ذلک من إطلاق جملة من الروایات،کقوله«ع»فی روایة أبی ولاد المتقدمة (2):(فلک المهنأ و علیه الوزر)و غیر ذلک من الاخبار.و لکن العمل بإطلاقها یقتضی إباحة أخذ الجائزة من الجائر حتی مع العلم التفصیلی باشتمالها علی الحرام،و لم یتفوه به احد،و علیه فلا بد من رفع الید عن إطلاقها و حمله علی الشبهات البدویة،أو المقرونة بالعلم الإجمالی الذی لا یوجب التنجیز.

و لنا ان نمنع دلالة تلک الروایات علی جواز أخذ الجائزة من الجائر مطلقا،فإن السؤال فیها من جهة ما هو مرتکز فی أذهان الناس من أن الجائر لا یبالی بالحرام،و ح فتکون أمواله مشتبهة بالحرام،إذ لیست أموال الجائرین مقطوعة الحرمة لیکون ذلک احتمالا موهونا فی حقهم.

و یلوح هذا المعنی من بعض تلک الروایات،کصحیحة أبی ولاد التی تقدمت،بل الظاهر من بعضها تقیید الحکم بصورة الشک فقط،کروایة إسحاق بن عمار[1].

ص:504


1- 1) فی البحث عن أخذ المال من الجائر مع الشک فی وجود الحرام فی أمواله ص 492
2- 2) فی ص 492.

و أما الدعوی الثانیة فحاصلها أن المال المأخوذ من الجائر علی تقدیر کونه حراما فهو باق علی حرمته الواقعیة،و لکنه حلال فی الظاهر بترخیص الشارع،کبقیة الأحکام الظاهریة.

و یرد علی ذلک أن تلک الأخبار لا یمکن شمولها لجمیع الأطراف،فإنه ترخیص فی مخالفة حکم الشارع فهو حرام،و لبعضها دون بعض ترجیح بلا مرجح،و إذن فتخرج موارد العلم الإجمالی الذی یوجب التنجیز عن حدود تلک الأخبار تخصصا.

فیما علم تفصیلا کون الجائزة محرمة

اشارة

الصورة الثالثة:و هی ما علم تفصیلا بکون الجائزة محرمة،و قد ظهر حکمها من الصورة السابقة،فلا تحتاج إلی الإعادة،و إنما المهم هو التعرض للأمور التی ذکرها المصنف فی ذیل هذه الصورة.

الأمر الأول:ما هو حکم الجائزة إذا علم الآخذ تفصیلا بأنها مغصوبة؟أقول:إن علم الآخذ بحرمة الجائزة تارة یکون قبل استقرارها فی یده و اخری بعده.أما الجهة الأولی فیحرم علیه أخذها اختیارا بقصد التملک،للعلم بکونها مال الغیر،و أنه یحرم التصرف فی مال الغیر بدون إذن صاحبه،بل یحرم التصرف حتی مع قصد إرضاء مالکه بعده،فان التصرف فی مال الغیر إنما یجوز إذا کان المالک راضیا به حال التصرف.و أما الرضاء المتأخر فلا یؤثر فی مشروعیة التصرف المتقدم،فیکون الآخذ ضامنا للمالک مع التلف،لأن یده ید عدوان.نعم یجوز أخذه لإیصاله إلی مالکه إذا کان معلوما،أو لیطبق علیه حکم مجهول المالک إذا کان المالک مجهولا.هذا کله إذا لم یخش ضررا من الجائر لعدم أخذه،و إلا فلا شبهة فی جوازه،للأخبار (1)الدالة علی مشروعیة التقیة عند کل ضرورة.

ثم إنه هل یجوز أخذ الجائزة عند التقیة مطلقا،أم لا یجوز أخذها إلا بنیة الرد الی مالکها؟ذهب المصنف الی الثانی بدعوی أن أخذه بغیر نیة الرد تصرف فی مال الغیر بدون إذنه.و أما التقیة فلا ریب أنها تتأدی بقصد الرد.

و توضیح مرامه:أن عدم المندوحة و إن لم یعتبر فی التقیة بالنسبة إلی أصل العمل، و لکن لا شبهة فی اعتباره حال العمل،مثلا إذا اقتضت التقیة أن یکفر فی صلاته مع سعة

ص:505


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلی مصادرها فی ص 445.

الوقت،و تمکن المکلف من الإتیان بها بغیر تکفیر فی بیت مظلم لا یراه أحد لصحت صلاته لإطلاق الروایات الدالة علی مشروعیة التقیة،فإن موضوعها متحقق حین الإتیان بالعمل علی وجه التقیة.

و أما إذا کانت له مندوحة حال العمل،فتمکن من إیقاعه علی غیر وجه التقیة فلا شبهة فی فساد عمله إذا أوقعه علی وجه التقیة،فإذا تمکن المصلی مثلا من السجود علی الأرض و علی الفراش کلیهما فلا ریب فی وجوب السجود علی الأرض،و عدم کفایة السجود علی الفراش،و کذلک إذا تمکن المتوضی من المسح علی الرجل و علی الخف کلیهما،بأن کانت عنده فرقتان من العامة،فرقة تجوّز المسح علی الخف،و فرقة لا تجوزه علیه،فإنه لا ریب فی وجوب المسح علی الرجل،لوجود المندوحة.و الوجه فی ذلک أنه لا یکون مشمولا لأخبار التقیة،لعدم تحقق موضوعها إذا وجدت المندوحة حال العمل.

و أما الإکراه علی أخذ الجائزة من الجائر فقد تقدم فی البحث عن الإکراه علی الولایة من الجائر أن الإکراه لا یتحقق مع وجود المندوحة،فإذا أکره الجائر شخصا علی شرب أحد إنائین:أحدهما خل،و الآخر خمر،فإنه لا یجوز للمکره(بالفتح)أن یشرب الخمر بتوهم أنه مکره علیه،إذ الإکراه إنما هو علی الجامع،لا علی الفرد الخاص.و من هنا ظهر حکم الاضطرار أیضا.

و علی هذا فإذا اقتضت التقیة،أو الإکراه و الاضطرار أخذ الجائزة من الجائر مع العلم التفصیلی بکونها مغصوبة جاز أخذها،بل وجب فی بعض الأحیان،و لکن التقیة و أمثالها تتأدی بأخذها بنیة الرد الی مالکها،فلا یسوغ أخذها بغیر هذه النیة.

ثم إذا أخذت لا بنیة الرد ضمن الآخذ ما أخذه و وجب علیه عند التلف أداء مثلها أو قیمتها لمالکها،لأن یده مشمولة لقاعدة الید الحاکمة بضمان ما أخذت.

و أما إذا کان الأخذ بنیة الرد الی المالک فهو لا یخلو عن إحدی ثلاث صور،لأن الآخذ قد یکون عالما بعدم رضاء المالک بأخذ ماله من الجائر،و قد یکون عالما برضاه بذلک و قد یکون شاکا فیه،فعلی الأول لا یجوز أخذ المال من الجائر،فإن دلیل سلطنة الناس علی أموالهم یقتضی کون زمام المال بید مالکه،و لیس لغیره أن یعارضه فی سلطنته علی ماله،مثلا إذا أطلق أحد عنان فرسه لیذهب الی البیداء لغرض عقلائی،و لم یرض برده فإنه لا یجوز لأحد أن یأخذه و یحفظه لمالکه بزعم أنه إحسان إلیه،لأنه تصرف فی مال الغیر بدون إذنه،فهو حرام.و علی هذا فلو أخذه أحد وجب علیه أن یرده الی صاحبه، لقاعدة ضمان الید.

ص:506

و علی الثانی لا شبهة فی جواز الأخذ بنیة الرد الی المالک،و لا یکون الأخذ حینئذ منافیا لسلطنته،و یکون المال المأخوذ أمانة مالکیة،لا شرعیة کما یظهر من المصنف.و الوجه فی ذلک أن أخذ المال من الجائر مع العلم برضاء المالک یکون شأنه شأن الودیعة المأخوذة من نفس المالک.

ثم لا یخفی أنه لیس لقصد الرد الی المالک و عدمه موضوعیة لعنوانی الإحسان و الظلم، کسائر الموارد التی یکون القصد موضوعا للحکم،و لیس مأخوذا علی نحو الطریقیة کما هو واضح.

و علی الثالث لا ریب فی جواز الأخذ بنیة الرد الی صاحبه،لکونه عدلا و إحسانا.

و یکون المأخوذ ح أمانة شرعیة عند الآخذ،فلا یضمنه مع التلف بغیر تفریط،لأنه محسن،و ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ ،و لا یکون المورد مشمولا لقاعدة ضمان الید،لا من جهة اعتبار التعدی فی مفهوم الأخذ،کما ذهب الیه شیخنا الأستاذ،لکون مفهوم الأخذ أوسع من ذلک،بل من جهة تخصیص القاعدة بالروایات الدالة علی عدم الضمان فی الأمانة، نعم لو أخذه بغیر قصد الرد الی المالک فتلف عند الآخذ ضمن للمالک،لأن الأخذ ح تعد علی مال الغیر،و معارضة لسلطانه،فهو حرام وضعا و تکلیفا.

و قد یقال:بحرمة التصرف فیما أخذ من الجائر مع العلم بکونه مغصوبا،سواء کان الأخذ بنیة الرد الی المالک أم لا،لقوله لا یحل دم امرئ مسلم و لا ماله إلا بطیبة نفس منه).و لقوله«ع»:(فلا یحل لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه) (1).فان الأخذ تصرف فی مال الغیر مع عدم إحراز إذنه فیه،فهو حرام و ظلم،لا عدل و إحسان.

و نظیر ذلک ما إذا أراد المالک بیع متاعه من شخص بخمسة دنانیر،و أراد غیره بیع ذلک المتاع من شخص آخر بثمانیة دنانیر مع عدم رضی المالک فان ذلک لا یجوز بزعم أنه إحسان الیه و هو ضعیف،أما الروایة الأولی فإن الحلیة و الحرمة فیها حکمان لموضوع واحد، و سبب الاختلاف إنما هو إذن المالک و عدمه،و من الواضح أن الموضوع المذکور إنما هو منافع المال التی تعود الی المتصرف من الأکل و الشرب و البیع و الهبة و نحوها،فوضع الید علی مال الغیر بنیة الرد الی المالک خارج عن حدود الروایة،فإنه لیس من المنافع العائدة إلی الآخذ،بل هو من المنافع التی تعود الی المالک،و لیس للآخذ منها إلا العناء و الکلفة.

و أما الروایة الثانیة فإنا نمنع صدق التصرف علی مجرد الأخذ بنیة الرد الی المالک، إذ التصرف عبارة عن التقلیب و التقلب،و لا نسلم صدقه علی ذلک،و إذا سلمنا صدقه علیه

ص:507


1- 1) قد تقدمت الروایتان فی ص 144.

لغة،فإنه منصرف عنه عرفا،فیکون المأخوذ أمانة شرعیة عند الآخذ،فتترتب علیه أحکامها الوضعیة و التکلیفیة.

و علی الجملة إن وضع الید علی مال الغیر لحفظه و إیصاله إلی مالکه خارج عن الروایتین موضوعا و حکما،و هذا معنی یحکم به الوجدان و أهل العرف،و یؤیده ما فی موثقة أبی بصیر (1)من أن(حرمة مال المؤمن کحرمة دمه).نعم إذا منع المالک عن وضع الید علی ماله حتی بقصد الرد الیه کان ذلک حراما أیضا.کما أن دق أبواب الناس جائز للسیرة القطعیة فإذا منع المالک عنه کان حراما.و أما قیاس المقام ببیع مال الغیر بدون إذنه فواضح البطلان و أما الجهة الثانیة:-و هی ما إذا أخذ المال من الجائر ثم علم بعد ذلک بکونه مغصوبا- فظاهر المصنف و صریح السید فی حاشیته أن هنا مسألتین،الأولی:هل الأخذ من الجائر بنیة التملک مع الجهل بکون المأخوذ من أموال الغیر موجبا للضمان أم لا.الثانیة:إذا حکمنا بالضمان بذلک فهل یبقی هذا الحکم حتی إذا نوی الآخذ حفظ المال و إیصاله إلی مالکه بعد العلم بالحال،أم لا یبقی ذلک الحکم،بل یتغیر بتغیر العنوان.

أما المسألة الأولی فالظاهر أن القول بالضمان هو المشهور بین الأصحاب،و ظاهر المسالک عدم الضمان مع القبض جاهلا،قال:(لأنه ید أمانة فیستصحب).إلا أنه لا یفهم وجها صحیحا لهذا الاستصحاب،إذ لیس ذلک مسبوقا بید الامانة حتی نستصحبها.

و یمکن توجیه کلامه بأحد وجهین،الأول:أن معنی الضمان عندنا عبارة عن انتقال القیمة أو المثل إلی ذمة الضامن،و من الضروری أن هذا المعنی لا یتحقق إلا بالتلف،و حیث إن ید الآخذ کانت ید أمانة لا توجب الضمان،لکونه جاهلا بالحال،فإذا شک فی تغیر الحکم بعد حصول العلم کان مقتضی القاعدة هو الاستصحاب.

و هذا التوجیه بدیهی البطلان،و لا یناسب مقام الشهید،بداهة أن الضمان یتحقق بالاستیلاء علی مال الغیر بدون سبب شرعی من غیر فرق بین العلم و الجهل.و بین کون المستولی کبیرا أو صغیرا،عاقلا أو مجنونا،نعم تنتقل العین الی المثل أو القیمة حین التلف و لکن هذا الانتقال أجنبی عن أصل الضمان،و لم یثبت فی المقام کون الید ید أمانة حتی تستصحب.

الوجه الثانی:أن الشارع قد رخص فی أخذ الجائزة عند الجهل بکونها مغصوبة، فتکون ید الآخذ ید أمانة شرعیة،فإذا شک فی ضمان العین بعد تلفها کان المرجع هو استصحاب ید الامانة.

ص:508


1- 1) قد تقدم هذه الروایة فی البحث عن حرمة سب المؤمن ص 278.

و لکن یرد علیه أن ترخیص الشارع فی ذلک ترخیص ظاهری فی ظرف الجهل لا ترخیص واقعی،أما حکم الشارع بالضمان فهو حکم واقعی ثابت فی حالتی العلم و الجهل،و لا منافاة بین الحکمین علی ما حققناه فی علم الأصول،و علیه فوضع الید علی مال الغیر بنیة التملک یوجب الضمان.فإذا انکشف الواقع فان کانت العین باقیة فلا بد من ردها الی مالکها،و إلا فلا بد من رد مثلها،أو قیمتها الیه.و یدل علی ما ذکرناه حکمهم بالضمان فی مسألة تعاقب الأیدی علی المال المغصوب مع الجهل بالحال،و لم یقل أحد فیها بعدم الضمان حتی صاحب المسالک(ره) و أما المسألة الثانیة:-و هی أنه إذا کان وضع الید علی المال موجبا للضمان-فهل یرتفع هذا الحکم بنیة الرد الی المالک بعد العلم بالحال أم لا؟فیه وجهان:الضمان،کما ذهب الیه المصنف (ره).و عدمه،کما ذهب الیه السید فی حاشیته.

و قد استدل المصنف(ره)علی الضمان بما حاصله:أن أخذ الجائزة من الجائر بنیة التملک و إن کان جائزا بمقتضی الحکم الظاهری،إلا أنه یوجب الضمان واقعا،لقاعدة ضمان الید، فإذا انکشف الخلاف-و تبدل قصد الآخذ.و بنی علی حفظ المال للمالک و رده الیه- شککنا فی ارتفاع الضمان الثابت بقاعدة ضمان الید و عدمه،فنستصحب بقاءه.

و أشکل علیه السید بأن علة الضمان و إن کانت هی الأخذ العدوانی،إلا أنها قد زالت بنیة الرد الی المالک فی مسألتنا و أمثالها،لأن الید قد انقلبت من العدوان و الخیانة إلی الإحسان و الامانة،فیکون المال أمانة شرعیة عند الآخذ،فلا یترتب علیه الضمان عند التلف،لأن قاعدة ضمان الید مخصصة بما دل علی عدم الضمان فی الامانة،و بأن الودعی محسن،و ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ ،و علیه فلا مجال لاستصحاب الضمان لعدم بقاء موضوعه و التحقیق هو ما ذکره المصنف(ره)من الضمان،و لیس الوجه فیه هو الاستصحاب، لما بنینا علیه من عدم جریانه فی الشبهات الحکمیة،بل الوجه فی ذلک أن وضع الید علی مال الغیر بقصد التملک علة لحدوث الضمان و بقائه،سواء تبدلت بعد ذلک بید الامانة أم لا،لان ضمان الید لا یرتفع إلا بحصول غایته،و هی الأداء،فما لم تتحقق الغایة لم یسقط الضمان.

و علیه فکون الید الفعلیة الحادثة ید أمانة لا تزاحم الید السابقة المقتضیة للضمان بقاء،فان ید الأمین لا تقتضی الضمان،لا أنها تقتضی عدم الضمان،و من البدیهی أن مالا اقتضاء له لا یزاحم ماله الاقتضاء،و مجرد نیة الرد الی المالک لا یرفع الضمان الثابت بالید ابتداء،کما أن الاحکام الثابتة علی الأشیاء بعناوینها الأولیة لا تنافی الأحکام الثابتة علیا بعناوینها الثانویة

ص:509

رد المأخوذ من الجائر إلی أهله

الأمر الثانی:فی رد ما أخذ من الجائر إلی أهله.و تحقیق الکلام هنا یقع فی ناحیتین:

الاولی:أن یکون المأخوذ من الجائر معلوم المالک.و الثانیة:أن یکون مجهول المالک.

أما الناحیة الاولی فلا شبهة فی وجوب رد المأخوذ منه الی مالکه المعلوم،لکونه أمانة فی ید الآخذ،و قد دلت الآیة[1]علی وجوب رد الأمانات إلی أهلها،و لا یفرق فی ذلک بین أن یکون علم الآخذ بالحال قبل وقوع المال فی یده أو بعده و إنما الکلام فی معنی الأداء فهل هو مجرد إعلام المالک بذلک و التخلیة بینه و بین ماله،أم حمله الیه و إقباضه منه.

قد یستظهر الثانی من الآیة،فإن الظاهر من رد الأمانات إلی أهلها هو الرد الحقیقی، أی حملها إلیهم و إقباضها منهم و لکن المرتکز فی أذهان عامة أهل العرف،و الظاهر من ملاحظة موارد الأمانات أن المراد بأداء الأمانة إنما هو التخلیة بینها و بین صاحبها،کما علیه أکثر الفقهاء.

و یؤید ما ذکرناه،بل یدل علیه أن المودع إذا طلب من الودعی حمل الودیعة إلیه ذمه العقلاء،خصوصا إذا بعد موضع أحدهما عن الآخر،و احتاج النقل الی المؤنة،بل ربما یستلزم الحمل الحرج و الضرر،و هما منفیان فی الشریعة المقدسة.فافهم.

نعم لو نقلها الودعی من بلد الإیداع إلی بلد آخر بغیر داعی الحفظ،و بدون إذن المالک وجب علیه ردها الی بلد الودیعة.

و أما الناحیة الثانیة:-أعنی ما إذا کان المالک مجهولا-فیقع الکلام فیها من جهات شتی الجهة الأولی:هل یجب الفحص عن المالک أم لا؟قد یقال بعدم الوجوب،کما احتمله المصنف،فیجوز التصدق بمجهول المالک بغیر فحص عن مالکه،استنادا إلی إطلاق جملة من الروایات[2].

ص:510

وجوب الفحص عن المالک

و قد یقال بوجوب الفحص لوجهین:الوجه الأول:الاخبار الدالة علی وجوب الفحص عن المالک،فان مقتضی القاعدة تقیید المطلقات بهذه الاخبار.

ص:511

فمنها ما ورد[1]فی إبداع اللص دراهم أو متاعا عند مسلم،فإنه دل علی أن الودیعة بمنزلة اللقطة،فیعرفها الودعی حولا،فإن أصاب صاحبها ردها الیه،و إلا تصدق بها عنه و منها ما دل[2]علی وجوب الفحص عن الأجیر لإیصال حقه الیه.و منها الأخبار (1)الواردة فی وجوب تعریف اللقطة.و منها ما دل[3]علی وجوب الفحص عن رجل کان له علی رجل حق ففقده الرجل المدیون.

ص:512


1- 1) راجع ج 10 الوافی باب 51 اللقطة ص 47.و ج 1 کا باب 49 اللقطة ص 367 و ج 3 ئل باب 2 وجوب تعریف اللقطة من کتابها ص 330.و ج 2 التهذیب ص 116.

و منها روایة یونس بن عبد الرحمن[1]:(قال:سئل أبو الحسن الرضا«ع»و أنا حاضر الی أن قال:فقال:رفیق کان لنا بمکة فرحل منها إلی منزله لو رحلنا الی منازلنا فلما أن صرنا فی الطریق أصبنا بعض متاعه معنا فأی شیء نصنع به؟قال:تحملونه حتی تحملوه إلی الکوفة،قال:لسنا نعرفه و لا نعرف بلده و لا نعرف کیف نصنع؟قال:إذا کان کذا فبعه و تصدق بثمنه،قال له:علی من جعلت فداک؟قال:علی أهل الولایة).فإن قوله(علیه السلام):(إذا کان کذا فبعه و تصدق بثمنه)مترتب علی الیأس من الوصول الی المالک و یدل مفهومه علی عدم جواز التصدق به قبل الیأس.و هذه الروایات و إن کانت خاصة بحسب الموارد،إلا أن الملاک فیها هو عدم إمکان إیصال المال الی مالکه،فیتعدی منها الی مطلق مجهول المالک.

و لکن الظاهر أنها بعیدة عما نحن فیه،أما ما ورد فی قضیة إیداع اللص ففیه أولا:

أنه ضعیف السند،و دعوی انجباره بعمل المشهور کما فی الجواهر دعوی غیر صحیحة، لما حققناه فی علم الأصول،و أشرنا إلیه مرارا فیما تقدم من أن الشهرة الفتوائیة لا تجبر ضعف الروایة.و ثانیا:أنه وارد فی قضیة خاصة،فلا وجه للتعدی منها الی غیرها.

و أما ما ورد فی تعریف اللقطة حولا،و التصدق بها بعده فهو مخصوص باللقطة،و لا یعم غیرها.و أما بقیة الروایات فهی واردة فی معلوم المالک الذی یتعذر الوصول الیه، و مورد بحثنا إنما هو مجهول المالک.و علی الجملة لا نعرف وجها للتعدی عن مورد الروایات الی غیره.و دعوی اتحاد الملاک بین مواردها و بین مجهول المالک-و هو عدم الوصول الی المالک-دعوی جزافیة،إذ لا طریق لنا الی کشف ذلک.

الوجه الثانی:أن الآیة المتقدمة فی أول المسألة تقتضی وجوب الفحص عن المالک مقدمة للرد الواجب،سواء أ کانت الأمانة مالکیة،کالودیعة و العاریة و نحوهما أم شرعیة،کاللقطة و مجهول المالک،و مال السرقة و الخیانة و الغصب،و المال المأخوذ من الجائر مع العلم بکونه مغصوبا،و لکنه مقید بالتمکن العقلی من الأداء و الفحص،لقبح التکلیف بغیر المقدور، و علیه فلا یجب الفحص مع عدم التمکن منه،و المطلقات المتقدمة ظاهرة فی وجوب التصدق بمجهول المالک علی وجه الإطلاق حتی مع التمکن من الفحص،و إذن فالنسبة بینهما هی العموم من وجه،فإن الآیة أعم من حیث المورد،لشمولها الأمانات المالکیة و الشرعیة،و أخص

ص:513

من حیث وجوب الفحص،لاختصاصها بصورة التمکن منه،و المطلقات المتقدمة أعم من جهة الفحص،لشمولها صورتی التمکن من الفحص و عدمه،و أخص من حیث المورد، لاختصاصها بمجهول المالک،فتقع المعارضة بینهما فی مجهول المالک مع التمکن من الفحص، فمقتضی الآیة هو وجوب الفحص عن المالک مع التمکن منه،و مقتضی الروایات هو جواز التصدق به قبل الفحص عنه،سواء تمکن منه أم لا،و قد حققنا فی مبحث التعادل و الترجیح من علم الأصول أنه إذا تعارض الخبر مع الکتاب معارضة العموم من وجه ترفع الید عن الخبر،و یؤخذ بعموم الکتاب أو بإطلاقه،و علیه فلا بد من الأخذ بإطلاق الآیة و الحکم بوجوب الفحص مع التمکن منه،و رفع الید عن المطلقات الظاهرة فی عدم وجوبه.و مع الإغضاء عما ذکرناه،و الحکم بالتساقط یرجع الی ما دل علی حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه.

لا یجوز إعطاء مجهول المالک لمن یدعیه

إلا بعد الثبوت شرعا

الجهة الثانیة:هل یجوز أو یجب إعطاء مجهول المالک لمن یدعیه بعد الفحص عن مالکه، و الیأس من العلم به استنادا الی ما دل علی سماع قول المدعی إذا لم یعارضه أحد فی دعواه، أو لا یجوز إعطاؤه إلا مع التوصیف إلحاقا له باللقطة،أو یعتبر الثبوت الشرعی،لبطلان الوجهین المتقدمین،فإنه بعد وضع الید علی مال لا یجوز دفعه إلا الی مالکه الواقعی،أو الی مالکه الشرعی،و الوجهان المذکوران لا یفیدان ذلک.

أما الوجه الأول:فیرده أن ترتیب الأثر علی دعوی المدعی إذا کانت بلا معارض إنما هو فیما لم تثبت ید علی المال،أما إذا ثبتت علی المال ید فلا تسمع دعوی أحد علیه إلا بالطرق الشرعیة،ضرورة أن ذا الید قد اشتغلت ذمته بالمال بمجرد وضع یده علیه،فلا یخرج من عهدته إلا بإیصاله إلی مالکه،أو صرفه فیما قرره الشارع،و علی هذا جرت السیرة القطعیة.

علی أنه لا دلیل علی هذه القاعدة إلا روایة منصور (1)و قد تقدم الاشکال فیها.

و أما الوجه الثانی:فیرده أن التوصیف لیس له موضوعیة لإعطاء اللقطة لمن یدعیها.

بل هو لحصول الاطمئنان بصدق المدعی فی دعواه.

و أما الاکتفاء بالتوصیف أو بالدعوی المجردة و إن لم تقارن بالتوصیف فلا دلیل علیه،

ص:514


1- 1) قد تقدمت الروایة و الجواب عن الاستدلال بها فی ص 502.

و ح فلا یترتب الأثر علی توصیف المدعی إلا بعد حصول الاطمئنان بصدق دعواه.

و أما حمل فعل المسلم علی الصحة فغایة ما یفیده أن لا یعامل المدعی معاملة الکاذب،لا أن تترتب علی دعواه آثار الواقع.

و أما الوجه الأخیر فهو الموافق للتحقیق،لاشتغال ذمة ذی الید بمجرد وضع یده علی مال الغیر،فلا تبرأ ذمته إلا بإیصاله إلی مالکه الواقعی أو الشرعی،و قد عرفت ذلک کله آنفا

مقدار الفحص عن المالک و کیفیته

الجهة الثالثة:فی مقدار الفحص عن المالک،و بیان کیفیته،أما مقدار الفحص فهل یکفی فیه طبیعی الفحص عن المالک،أم یجب ذلک بمقدار یقطع الواجد أو یطمئن بعدم إمکان الوصول الیه،أو یجب الفحص عنه سنة کاملة؟.

أما الوجه الأول فهو و إن کان غیر بعید فی نفسه،لکفایة الإتیان بصرف الوجود من الطبیعة فی امتثال الأمر،و لکنه بعید عن المتفاهم العرفی و المرتکز الشرعی،علی أن الأمر قد ورد بتکرار الطلب عن المالک فی روایة ابن وهب المتقدمة (1).

و أما تقدیر الفحص بالسنة و بالأقل فلا موجب له بعد وجود الإطلاقات الواردة فی جواز التصدق بمجهول المالک أو وجوبه.علی أن تقدیره بزمان خاص دون غیره ترجیح بلا مرجح.نعم ورد تحدید التعریف بالنسبة فی جملة من روایات اللقطة و فی روایة حفص المتقدمة (2).

إلا أنها غریبة عن مطلق مجهول المالک،أما روایات اللقطة فهی مختصة بها،فلا یجوز التعدی منها الی غیرها.و أما روایة حفص بن غیاث ففیها أولا:أنها ضعیفة السند،و غیر منجبرة بشیء کما تقدم.

و ثانیا:أنها واردة فی خصوص إیداع اللص،فلا یتعدی إلی غیره.و إن سلمنا عدم اختصاصها بموردها فإنه لا یجوز التعدی عنه إلا الی خصوص إیداع الغاصب،أو الی کل ما یؤخذ منه و لو بغیر عنوان الودیعة،و أما التعدی عن موردها الی مطلق مجهول المالک فلا وجه له أصلا.

ص:515


1- 1) ص 512.
2- 2) ص 512.
تنبیه

قد ذکرنا أنه ورد فی جملة من روایات اللقطة وجوب التعریف بها سنة کاملة،و قد أفیدت ههنا أمور ثلاثة،الأول:ما ذکره السید فی حاشیته من أن تحدید الفحص بالسنة تحدید للمنتهی،بمعنی أنه لا یجب الفحص أکثر من سنة و إن لم یحصل الیأس من وجدان المالک، و علیه فلو حصل الیأس من الأول،أو فی أثناء التعریف لم یجب الفحص.

الوجه الثانی:أن المناط فی تعریف اللقطة إنما هو حصول الیأس عن الوصول الی المالک.و أما التحدید بالسنة فمحمول علی الغالب،لحصول الیأس عن الوصول الی المالک بعد السنة غالبا.

الوجه الثالث:أن التحدید بالسنة أمر تعبدی،فلا بد من العمل به سواء حصل الیأس عن الظفر بالمالک قبل مضی السنة أم بعده.

أما الأول و الثانی فلا وجه لهما،إذ لا مجوز لرفع الید عن الروایة الظاهرة فی اعتبار السنة فی تعریف اللقطة.و إذن فیتعین الوجه الثالث،سواء حصل الاطمئنان بالیأس عن الظفر بالمالک قبل مضی السنة أم بعده،فإن الاطمئنان حجة عقلائیة فیما إذا لم تقم أمارة شرعیة علی خلافه.و قد عرفت أن الشارع قد اعتبر السنة فی وجوب الفحص عن مالک اللقطة.

ثم إنه قد ذکر فی بعض الروایات[1]أن اللقطة یعرف بها ثلاثة أیام،و ظاهره المعارضة مع الروایات الدالة علی اعتبار السنة،و لکن لا بد من جمله إما علی صورة الیأس عن المالک أو علی جواز التصدق به مع الالتزام بالمال،و وجوب التعریف به الی سنة،فإذا مضت السنة و لم یجد المالک سقط الضمان عنه.و یمکن أن یقال:إن تعریفها ثلاثة أیام مقدمة للتصدیق و وجوب التعریف إلی سنة کاملة مقدمة لجواز التملک.علی أن ما دل علی کفایة ثلاثة أیام فی التعریف ضعیف السند.

ص:516

ان اجرة الفحص عن المالک

هل هی علی ذی الید أو علی المالک؟

الجهة الرابعة:إذا احتاج الفحص عن المالک الی بذل أجرة فهل هی علی من وضع یده علی مجهول المالک،أو علی المالک؟قال المصنف:(لو احتاج الفحص الی بذل کأجرة دلال صائح علیه فالظاهر عدم وجوبه علی الواجد،بل یتولاه الحاکم ولایة عن صاحبه، و یخرج عن العین أجرة الدلال،ثم یتصدق الباقی إن لم یوجد صاحبه،و یحتمل وجوبه علیه،لمتوقف الواجب علیه).

و تحقیق المسألة أن الاستیلاء علی مجهول المالک قد یستند إلی أسباب غیر شرعیة:بأن یأخذ أحد أموال الناس بغیر سبب شرعی،کالغصب و السرقة و الخیانة و نحوها ثم یندم، و لکن لا یقدر علی إیصاله إلی ملاکه.و قد یستند الی وجه شرعی،کأخذ المال من السارق،أو الجائر،أو الصبی الذی لا یعرف له ولی،و کأخذ المال المشرف علی التلف، و کاللقطة و نحوها.فإن أخذ المال فی جمیع هذه الموارد لحفظه لمالکه و إیصاله إلیه جائز من جهة الحسبة.

أما الصورة الاولی فلا شبهة فی أن مؤنة الفحص علی الغاصب،لوجوب رد المغصوب الی مالکه و إن توقف ذلک علی بذل الأجرة.و دعوی أن إیجاب أجرة الفحص علی ذی الید ضرر علیه،و هو منفی فی الشریعة دعوی جزافیة،لأن حدیث نفی الضرر إنما ورد فی مقام الامتنان،و من الضروری أن کون مؤنة الفحص علی المالک علی خلاف الامتنان فلا یکون مشمولا للحدیث.و حیث إن الغاصب وضع یده علی مال الغیر بسوء اختیاره علی سبیل الظلم و العدوان فان الشارع یلزمه رغما لأنفه برد المغصوب الی مالکه حتی مع الاحتیاج الی بذل الأجرة.و قد ورد فی بعض الروایات[1]أنه لو غصب أحد حجرا و وضعه فی أساس البناء فإنه یجب علیه رده الی مالکه و إن توقف ذلک علی هدم البناء و تضرر الغاصب و من هنا اشتهر أن الغاصب یؤخذ بأشق الأحوال.

و أما الصورة الثانیة-و هی أن یستند الاستیلاء علی مجهول المالک الی سبب شرعی- فالظاهر أن مؤنة الفحص علی المالک،بمعنی أن الواحد یصرفها من کیسه عن المالک،فإذا

ص:517

وجده أخذها منه،و إلا فمن المال الذی فی یده.و الوجه فیه أن یده ید أمانة و إحسان و ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ .علی أن کون اجرة الفحص علی الواجد ضرر علیه،و هو منفی و لا یقاس ذلک بالصورة الأولی،فإن الید فیها کانت ید عدوان،لا ید أمانة و إحسان کما عرفت.

لا یقال:إن الفحص عن المالک واجب علی الواجد،و من الواضح أن إعطاء و الأجرة من مقدماته،فتحسب علیه.

فإنه یقال:الفحص واجب علی الواجد،و مقدمته طبیعی بذل المال،سواء کان من کیسه،أم من کیس المالک.و إذن فلا یتعین البذل علی الواجد إلا بدلیل خاص،و هو منفی فی المقام،و علیه فإذا بذل الواجد اجرة الفحص من کیسه رجع علی المالک مع الإمکان و إلا أخذها من المال الذی هو تحت یده،و إن امتنع الواجد من بذل اجرة الفحص رجع الی الحاکم الشرعی،فیعطیها من بیت المال،أو من مجهول المالک.

هذا مع ان دلیل المقدمیة المذکور لو تم فإنما یتم فیما لو کان الفحص یتوقف دائما علی بذل المال،مع أنه لیس کذلک،بل هو أمر قد یکون،و قد لا یکون،و علیه فإذا توقف الفحص علی بذل المال ارتفع وجوبه عن الواجد بدلیل نفی الضرر،کسائر التکالیف الضرریة التی ترتفع به.

هذا کله إذا لم تقم قرینة علی عدم رضاء المالک بأخذ ماله و حفظه له،و إلا فلا یجوز لأحد ان یضع یده علیه،و یحفظه لمالکه،لأن الناس مسلطون علی أموالهم.

مصرف مجهول المالک

الأمر الثالث:ما هو مصرف مجهول المالک؟فهل یتصدق به،أو یحفظه الواجد ما دام حیا لمالکه،و یوصی به بعد مماته،أو یتملکه،أو یعطیه للحاکم الشرعی،أو هو للإمام«ع»؟؟ وجوه:الأول:ان یکون ذلک للإمام،لقوله«ع»فی روایة بن أبی یزید (1):(و اللّه ماله صاحب غیری).

و فیه أولا:أن الروایة ضعیفة السند.و ثانیا:أنها وردت فی قضیة شخصیة،فلا تکون مستندا لکبری کلیة،إذ من المحتمل ان یکون المال فی تلک الواقعة مفقودا من

ص:518


1- 1) راجع ج 10 الوافی باب 51 اللقطة ص 48.و ج 3 ئل باب 7 جواز الصدقة باللقطة من أبوابها ص 331.و ج 1 کا باب 49 اللقطة من المعیشة ص 367

الإمام نفسه.فیکون حلفه«ع»فی محله،لکون المال له واقعا.و أما أمره(علیه السلام) بتقسیم ذلک المال فلعله دفع للتهمة عن نفسه،أو إحسان منه الی الفقراء.و یحتمل أن یکون حلفه علی ان المال له،لعلمه بموت مالکه،و أنه لم یترک وارثا غیر الامام،و یحتمل ان یکون المال المذکور من صفو دار الحرب الذی هو خاص للإمام(علیه السلام)،و من الواضح انه مع هذه الاحتمالات لا یبقی مجال للاستدلال بهذه الروایة علی المقصود.

الوجه الثانی:ان یکون مجهول المالک لمن وضع یده علیه،لقوله(علیه السلام)فی صحیحة علی بن مهزیار (1)التی تبین موارد الخمس:(و مثل مال یؤخذ و لا یعرف له صاحب).

و قد استظهر هذا الرأی من الروایة المذکورة المحقق الهمدانی،بل ذکر المحقق الایروانی أن(هذه الصحیحة صریحة فی جواز تملک مجهول المالک بعد إخراج الخمس).

و فیه أولا:ان هذه الروایة واردة فی بیان موارد الخمس علی نحو القضیة الحقیقیة، فیکون مفادها انه کلما تحقق شیء من تلک الموارد وجب فیه الخمس.و علیه فلا دلالة فیها علی جواز تملک مجهول المالک لکی یتمسک بإطلاقها،نعم لا ننکر دلالتها علی وجوب إخراج الخمس فیما جاز فیه تملک المجهول المالک کباب اللقطة.فقد دلت الروایات الکثیرة المذکورة فی أبواب اللقطة علی ان واجدها مخیر بین تملکها،و بین التصدق بها عن مالکها بعد ان یعرف بها سنة واحدة.

و من هذا القبیل ما ورد فی بعض الروایات (2)من انه إذا وجد المشتری مالا فی بطن حیوان اشتراه من شخص،فإنه یرجع فی ذلک المال إلی البائع،و إذا لم یدعه لنفسه تملکه المشتری،و اعطی خمسه،و کذلک ما ورد فی جملة من الأحادیث (3)من انه إذا وجد مالا فی بطن سمک اشتراه من الصیاد فإنه یتملکه و یعطی خمسه من غیر مراجعة إلی المالک.

و ثانیا:انا إذا لو سلمنا کون الروایة فی مقام البیان من هذه الجهة أیضا فلا نسلم کونها صریحة فی جواز تملک مجهول المالک بعد إخراج خمسه،و إنما هی مطلقة بالنسبة إلیه، فتقید بالروایات الدالة علی لزوم التصدق بمجهول المالک.

الوجه الثالث:انه یجوز للواجد ان یعمل فی مجهول المالک،و یخرجه صدقه قلیلا قلیلا

ص:519


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 8 وجوب الخمس فیما یفضل عن مؤنة السنة من کتاب الخمس ص 61.
2- 2) راجع ج 3 ئل باب 9 من أبواب اللقطة ص 331.و ج 10 الوافی باب 51 اللقطة ص 48.و ج 1 کا باب 49 اللقطة من المعیشة ص 367.
3- 3) راجع ج 3 ئل باب 10 من وجد مالا فی جوف سمکة من اللقطة ص 332.

حتی یخرج،و یدل علیه بعض الأحادیث[1].

و فیه انه لا دلالة فی هذه الروایة علی جریان الحکم المذکور فی مجهول المالک،فمن المحتمل ان صاحب المال قد مات،و لم یترک وارثا غیر الإمام،فانتقل میراثه الیه، و أنه(علیه السلام)بما هو وارث و مالک أجاز لصاحب الخان ان یتصرف فی ذلک المال،و یتصدق به قلیلا قلیلا حتی یخرج،و احتمال وجود وارث له غیر الأب و الأم مدفوع بالأصل.

و جریانه فی الشبهات الموضوعیة غیر محتاج الی فحص،و أما احتمال وجود الأب و الأم فلعله کان مقطوع العدم،لمضی مدة لا یحتمل بقاؤهما فیها،و لذا لم یأمر الإمام(علیه السلام) بالفحص عنهما،و یؤید ما ذکرناه قول السائل فی هذه الروایة:(و لم أعرف له ورثة) فإن ظاهر هذه العبارة أنه تفحص عن الوارث،و لم یجده فافهم.و مع الإغضاء عما ذکرناه و تسلیم دلالتها علی المقصود فالنسبة بینها،و بین الروایات الدالة علی التصدق بمجهول المالک هی العمومات المطلق،فلا بد من تقییدها بهذه الروایات.

لا یقال:إن هذه الروایة تنافی روایة الهیثم[2]صاحب الفندق الدالة علی عدم جواز التصرف فی مال مات عنه صاحبه.

فإنه یقال:لا منافاة بینهما،فان الظاهر من هذه الروایة أن صاحب الفندق لم یفحص عن ورثة المیت،و هذا بخلاف الروایة الأولی،فإنک قد عرفت ظهورها فی أن السائل تفحص عن الورثة،و لم یصل إلیهم،فمورد کل من الخبرین غیر مورد الآخر.و الذی یسهل الخطب أن کلتا الروایتین مجهولة.

ص:520

الوجه الرابع:انه یجب حفظ مجهول المالک لمالکه،و الإیصاء به عند الوفاة للروایات (1)الواردة فی مستأجر فقد أجیره،و لم یقدر علی إیصال حقه الیه.

و یرد علیه أولا:أن هذه الروایات إنما وردت فی معلوم المالک الذی لا یمکن الوصول الیه،فلا صلة لها بمجهول المالک.و دعوی أن الملاک بین الموردین واحد-و هو تعذر إیصال المال الی مالکه-دعوی جزافیة،فإنه لا طریق لنا الی کشف هذا الملاک کما عرفت.

و ثانیا:أنها وردت فی الحق الکلی الثابت فی الذمة،و هو لیس فی معرض التلف لکی یخاف علیه من بقائه،و کلامنا فی العین الخارجیة.

و ثالثا:أنها وردت فی قضیة شخصیة،فلا یمکن التعدی عن موردها الی غیرها.

و إذن فلا دلالة فیها علی وجوب حفظ مجهول المالک لصاحبه و لو بالإیصاء به.نعم لا بأس بالالتزام بذلک قبل الیأس عن الوصول الی المالک.

لا یقال:إن التصرف فی مال الغیر حرام مطلقا،فیکون الأمر بالتصدق بمجهول المالک قد وقع بعد الحظر،فلا یدل علی الوجوب.و علیه فلا مانع من کون الواجد مخیرا بین التصدق به،و بین حفظه لصاحبه و لو بالإیصاء به عند الموت.

فإنه یقال:المیزان فی ورود الأمر مورد توهم الحظر هو ان یتعلق الأمر بعنوان تعلق به النهی،أو کان معرضا له کالصید الذی نهی عنه فی الإحرام،و أمر به بعد الإحلال و ما نحن فیه لیس کذلک،فإن النهی قد تعلق بالتصرف فی أموال الناس بدون إذنهم، و الأمر قد تعلق بالتصدق بمجهول المالک بعد الفحص و الیأس من الظفر بصاحبه،فلا یرتبط أحد الأمرین بالآخر.

و لئن سلمنا ذلک فی الروایات التی وقع السؤال فیها ابتداء عن الصدقة فهو لا یجری فی روایة ابن أبی حمزة التی وردت فی قصة الفتی الذی کان من کتاب بنی أمیة،فإنها صریحة فی عدم ورود الأمر بالتصدق فی مقام توهم الحظر،إذ الفتی انما طلب التخلص عما اشتغلت به ذمته من أموال الناس،فأجاب الإمام(علیه السلام)بقوله فاخرج من جمیع ما اکتسبت من دیوانهم فمن عرفت منهم ردت علیه ماله و من لم تعرف تصدقت به).و لکن قد عرفت انها ضعیفة السند.

الوجه الخامس:وجوب التصدق بمجهول المالک،و هذا الوجه هو الموافق للتحقیق، و تدل علیه المطلقات المتقدمة،بل الروایات الخاصة الواردة فی موارد عدیدة التی تقدمت الإشارة إلیها آنفا.لأنها و إن وردت فی المال المفقود صاحبه إلا انها تدل علی ثبوت

ص:521


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلی مصادرها فی ص 512.

التصدق بمجهول المالک بالأولویة القطعیة.و لا بد من تقییدها بالیأس عن الوصول الی المالک فقد عرفت فیما سبق ان مقتضی الآیة وجوب رد الأمانة إلی أهلها مع التمکن منه.

و أما صورة الیأس عن الظفر بالمالک فلا تکون مشمولة للآیة،بل تبقی تحت الروایات المذکورة.

الوجه السادس:وجوب دفعه الی الحاکم،فإنه ولی الغائب،و قد استقربه المصنف(ره) و لکن قد عرفت أن الروایات المتقدمة ظاهرة فی أن من وضع یده علی مجهول المالک ابتداء وجب علیه التصدق به،و إذا تصرف فیه تصرفا آخر و لو بدفعه الی الحاکم ضمنه.و دعوی أن الحاکم ولی الغائب دعوی غیر صحیحة،لأن ولایته علی الغائب إنما هی من جهة الحسبة، فلا بد من الاقتصار فیها علی المورد المتیقن،و هو ما إذا لم یکن له ولی آخر غیر الحاکم و قد عرفت أن الروایات المتقدمة قد أثبت ولایة مجهول المالک لمن وضع یده علیه،فلا تصل النوبة إلی غیره،کما أنه لا تثبت للحاکم ولایة علی الیتیم مع وجود الجد له.

لا یقال:یجب دفع مجهول المالک الی الحاکم من حیث إن مصرفه الفقراء و المساکین، و من الواضح أن الحاکم ولیهم.أو من حیث إنه أعرف بموارده من وضع یده علیه.

فإنه یقال:أما الاحتمال الأول فلا دلیل علیه خصوصا مع ما عرفت من دلالة الروایات هنا علی ثبوت الولایة للواجد.و أما الاحتمال الثانی فإن کان المراد أن الحاکم أعرف بمصرف مجهول المالک من حیث الشبهة الحکمیة فهو مسلم،لأن ذلک وظیفة العالم،إلا أن ذلک لا یدل علی وجوب دفعه الیه،بل الواجب علی العامی أن یسأل العالم عن حکم الواقعة،و یعمل علی طبق ما أفتی به.و إن کان المراد کونه أعرف من حیث الشبهة الموضوعیة فهو ممنوع، إذ قد یکون الواجد أعرف به لکثرة معاشرته للفقراء،و اطلاعه علی أحوالهم.و کما لا یجب دفع مجهول المالک الی الحاکم،فکذلک لا یجب تحصیل الإجازة منه فی إیصاله إلی موارده،لإطلاق الروایات المتقدمة.نعم الأولی اختیار أحد الأمرین،لوجود القائل بوجوبه.لکن لا بد و أن یکون الدفع الی الحاکم بعنوان أنه یوصله الی موارده،و إلا ضمنهم الواجد کما عرفت.

و قد یتوهم وجود الفرق بین الحق الکلی،فیجب إما دفعه الی الحاکم،و إما تحصیل الإذن منه فی التصدق به عن المالک،لأن الکلی لا یتعین إلا بإذن المالک أو ولیه،و بین الحق الشخصی،فلا یجب فیه ذلک،لتعینه فی نفسه.

و لکنه توهم فاسد،لأن مقتضی الإطلاقات المتقدمة هو عدم الفرق بینهما،و أن الولایة لمن علیه الحق علی وجه الإطلاق.

ص:522

قوله ثم إن حکم تعذر الإیصال إلی المالک. أقول:المال الذی لا یمکن إیصاله الی صاحبه قد یکون مجهول المالک من جمیع الجهات،و هو مورد المطلقات المتقدمة (1)، و قد یکون معلوم المالک مع کونه مشتبها بین أفراد غیر محصورین.و هو أیضا مورد روایات اخری قد تقدمت (2)و حکم کلا القسمین قد تقدم مفصلا.و قد یکون المالک معلوما من جمیع الجهات.و لکن یتعذر إیصال المال الیه لمانع خارجی،فأن یکون المالک فی سجن،أو مکان بعید یتعذر الوصول الیه.و یجری علیه حکم القسم الثانی،للروایات المتقدمة أیضا،لأن المستفاد منها أن المناط فی ذلک إنما هو تعذر إیصال المال الی مالکه.

قوله ثم إن مستحق هذه الصدقة هو الفقیر. أقول:حکی عن صاحب الجواهر جواز التصدق بمجهول المالک علی الفقراء و غیرهم عملا بإطلاق الروایات المتقدمة.و بهذا المناط جواز إعطاء مال الإمام«ع»للفقراء و الأغنیاء،بدعوی أن الإمام و إن کان معلوما إلا أنه یتعذر إیصال ماله الیه،للعوارض الخارجیة.و قد عرفت أن حکمه حکم مجهول المالک.

و فیه أولا:أن المتبادر من مفهوم الصدقة و إطلاق الأمر بها أنه لا یجوز إعطاؤها للأغنیاء،کما ذهب الیه المصنف.

و ثانیا:أن قوله تعالی (3): (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ) قد بین مصرف الصدقات و لم یجعل الغنی من ذلک،فیکون خارجا عن حدود أخبار التصدق موضوعا.

ثم إن وجوب التصدق بمجهول المالک إنما هو مع عدم التمکن من تحصیل رضی المالک بصرف ماله فی مورد خاص،و إلا فلا تصل النوبة إلی التصدق به.و علیه فلا وجه لقیاس مال الإمام«ع»بمجهول المالک،لأنا نقطع برضاء الإمام بإعطاء ماله لأهل العلم و الجهات التی توجب ترویج الدین،و مع ذلک لا یمکن صرفه فیما نشک فی رضاه.

قوله و فی جواز إعطائها للهاشمی قولان. أقول:لا دلیل علی حرمة مطلق الصدقات علی الهاشمیین،و إنما تحرم علیهم الصدقة الخاصة،أعنی زکاة المال و البدن،و لا یبعد أن تحرم علیهم أیضا الصدقات التی تعطی لدفع البلاء ورد القضاء،فان فی ذلک مذلة و مهانة لا تناسب الذریة الطاهرة.و من هنا کانت زینب الکبری علیها السلام تأخذ الطعام من أطفال أبی عبد اللّه«ع»و ترمیه الی أهل الکوفة و تقول:ویلکم یا أهل الکوفة إن الصدقة علینا حرام.و علیه فلا بأس بالتصدق بمجهول المالک علی الهاشمیین،لکونه خارجا عن

ص:523


1- 1) ص 510.
2- 2) ص 512.
3- 3) سورة التوبة،آیة:60.

القسمین المذکورین.و یضاف الی ما ذکرناه أن قوله«ع»فی روایة ابن أبی یزید المتقدمة (1)قسم بین إخوانک).یقتضی عدم الفرق بین الهاشمی و غیره.و أما الصدقة التی تحرم علی بنی هاشم فهی الصدقة الخاصة،أعنی بها الزکاة المفروضة.

التصدق بمجهول المالک لا یوجب الضمان

قوله ثم إن فی الضمان لو ظهر المالک. أقول:هل یضمن مجهول المالک لصاحبه إذا ظهر بعد التصدق به أم لا؟فیه وجوه،ثالثها:التفصیل بین ما إذا طلب المالک ماله من المتصدق فیضمن له،و بین ما إذا لم یطلبه فلا ضمان.و رابعها:التفصیل بین ما یکون المال مسبوقا بالید العادیة،فیحکم بالضمان،و بین عدمه،فیحکم بعدمه.

و قبل التعرض للوجوه المذکورة لا بأس بالإشارة إلی الفرق بین اللقطة و مجهول المالک.

فنقول:الفارق بین مجهول المالک و اللقطة جهات کثیرة،و نحن نشیر هنا الی جهتین منها:

الاولی:أنه یجوز للملتقط أن یقصد حین الالتقاط تملک المال بعد انتهاء مدة الفحص عن المالک.و قد دلت الروایات الکثیرة المذکورة فی أبواب اللقطة علی أن آخذ اللقطة یعرفها سنة فان جاء لها طالب،و إلا فهی کسبیل ماله.و لا یجوز ذلک فی مجهول المالک،فقد عرفت:أنه لا یجوز أخذه ابتداء إلا بنیة الإحسان إلی المالک بحفظه له و إیصاله إلیه،ثم یتصدق به عن مالکه بعد التعریف.و من هنا یتجلی لک أنه لا یجوز أخذ المغصوب من الغاصب إلا بنیة الرد الی المالک.

الثانیة:أن اللاقط إذا تملک اللقطة بعد التعریف،أو تصدق بها عن مالکها ضمنها له مع المطالبة بها،للروایات الکثیرة المذکورة أیضا فی أبواب اللقطة الدالة علی ذلک.أما مجهول المالک فقد عرفت أن فیه وجوها شتی تقدمت الإشارة إلیها.

إذا عرفت ذلک فاعلم أن الکلام هنا یقع فی مقامین،الأول:أن تکون الید الموضوعة علی مجهول المالک ابتداء ید أمانة.الثانی:أن تکون هذه الید مسبوقة بالضمان،ثم تنقلب الی ید أمانة و إحسان،کمن أخذه بنیة التملک،ثم نوی بعد ذلک حفظه لمالکه،و کمن غصبه من المالک،ثم تاب،و عزم علی إیصاله الیه،و لم یتمکن من ذلک،لفقد المالک، أو لکونه مجهولا بین أشخاص غیر محصورین.

أما المقام الأول فالظاهر هو عدم الضمان فیها،و لیس ذلک من جهة أن الشارع قد أذن

ص:524


1- 1) ص 518.

فی التصدق بمجهول المالک،و هو ینافی الحکم بالضمان،لأن إذن الشارع فی التصرف بمال الغیر یرفع حرمته التکلیفیة،و لا ینافی ذلک ضمانه.بل من جهة أن دلیل الضمان هو أحد الأمور الثلاثة:إما قاعدة ضمان الید،و إما قاعدة الإتلاف،و إما قیام دلیل خاص علیه.

أما الأولی فهی منتفیة هنا قطعا،إذ المفروض أن الید کانت ید أمانة و إحسان،و ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ .

و أما قاعدة الإتلاف فهی مردودة لوجوه عدیدة،الأول:أنها لیست بروایة لکی یتمسک بها و إنما هی قاعدة متصیدة من موارد شتی.فلا یمکن التمسک بها فی غیر الموارد المسلمة.الثانیة:أن الإتلاف إنما یقتضی الضمان إذا لم یکن التصرف لنفع المالک،و إلا فلا یوجب الضمان،و من هنا إذا أشرف أحد علی الهلکة،و توقف إنجاؤه منها علی بذل مقدار من ماله فان ذلک یکون واجبا من غیر ضمان.الثالث:أن التصدق بمجهول المالک لو کان موجبا للضمان ببدله لکان البدل أیضا مجهول المالک و مشمولا لما دل علی وجوب التصدق به و هکذا،فیلزم التسلسل،و من الضروری أن ذلک مقطوع العدم.

و أما الدلیل الخاص فلم نجد فی المقام ما یدل علی الضمان إلا روایة حفص المتقدمة الواردة فی إیداع اللص،فإنها ظاهرة فی أن التصدق بالودیعة التی هی بمنزلة اللقطة یوجب الضمان مع مطالبة المالک،إلا أنها ضعیفة السند،و واردة فی قضیة شخصیة،فلا یمکن التعدی منها الی غیرها،کما عرفته سابقا.

و الحاصل أن التصدق بمجهول المالک لا یوجب الضمان.علی أن الإطلاقات الدالة علی وجوب التصدق به بعد التعریف تقتضی عدم الضمان.و مع الشک فی الإطلاق یرجع الی البراءة.

و أما المقام الثانی-أعنی ما إذا کانت ید الأمانة مسبوقة بالضمان-فقد یقال:إن الید الموضوعة ابتداء علی مجهول المالک حیث کانت ید ضمان،کما هو المفروض فتکون موجبة للضمان بقاء أیضا ما لم تؤد،لما ذکرناه سابقا من أن الشارع قد جعل ضمان الید منوطا بالأداء،فما لم تتحقق الغایة لم یسقط الضمان.و عرفت أیضا أن نیة الرد الی المالک و إن کانت توجب صیرورة الید ید أمانة،إلا أنه هذه الید لا توجب ضمانا،لا أنها لا تقتضی عدم الضمان.و واضح أن مالا اقتضاء فیه لا یزاحم ما فیه الاقتضاء.

و لکن یرد علیه أولا:ما عرفته آنفا من أن التصدق بمجهول المالک لو کان موجبا للضمان للزم منه التسلسل فیکون ذلک تخصیصا عقلیا لقاعدة ضمان الید.و ثانیا:أن روایة

ص:525

ابن أبی حمزة المتقدمة (1)کالصریحة فی عدم الضمان،فان الفتی قد طلب المخرج عما أخذه من أموال الناس،فأجابه الإمام«ع»بالتصدق بجمیع ما تحت یده،و ضمن له بذلک الجنة، و لو کان التصدق به موجبا للضمان لما جعله الامام مخرجا له عن ظلامته،و قد جعل اللّه التصدق بمجهول المالک وسیلة للتوبة و سببا لفراغ الذمة تسهیلا للأمر علی الغاصبین التائبین و لکن الروایة ضعیفة السند.

و یدل علی عدم الضمان أیضا إطلاق الروایات المتقدمة-کروایة ابن أبی حمزة و غیرها- الآمرة بالتصدق بمجهول المالک،و لا فرق فی ذلک بین ما کان مجهول المالک عینا خارجیة أو دینا ثابتا فی الذمة،فإن الدین و ان کان کلیا فی الذمة،إلا أنه یتشخص بالتصدق، و تبرأ به ذمة المدیون.و توهم أن نفوذ التصدق یتوقف علی إذن المالک،توهم فاسد، لإطلاق تلک الروایات المتقدمة،ثم إنه لا یجوز للمالک أن یرجع علی الفقیر لو کانت العین باقیة عنده،لأن آخذ الصدقة هو اللّه،و ما کان للّه لا یرجع.

و علی الجملة لا یجری علی مجهول المالک حکم اللقطة لعدم الدلیل علیه،إلا فی إیداع اللص و قد عرفت أن النص الوارد فیه ضعیف السند،و وارد فی قضیة شخصیة.

و من جمیع ما ذکرناه ظهر ضعف ما ذهب الیه المصنف من أن الأوجه هو الضمان مطلقا (إما تحکیما للاستصحاب حیث یعارض البراءة و لو بضمیمة عدم القول بالفصل،و إما للمرسلة المتقدمة عن ئر)و هی ما روی من أنه بمنزلة اللقطة(و إما لاستفادة ذلک من خبر الودیعة).

و وجه الضعف أنه لا موضوع للأصل بعد أمر الشارع بالتصدق بمجهول المالک،و أنک قد عرفت أنه لا دلیل علی الضمان فیما کانت الید مسبوقة به فضلا عن إثباته فی مطلق مجهول المالک بعدم القول بالفصل.و أما استفادة حکم المسألة مما ورد فی إیداع اللص فقد عرفت جوابه.و أما مرسلة السرائر فهی غیر قابلة للاعتماد علیها.علی أن من المظنون أنها بعینها روایة حفص الواردة فی إیداع اللص.فیتوجه علیه ما وجهناه علی الاستدلال بهذه الروایة قوله ثم الضمان هل یثبت بمجرد التصدق) ،أقول:قد ظهر مما تقدم أن التصدق بمجهول المالک لا یوجب الضمان.فإذا أغمضنا النظر عن ذلک و قلنا بالضمان،أو ثبت ذلک بدلیل خاص کما فی اللقطة فهل یحکم بثبوته من حین الأخذ،أو من حین التصدق،أو من حین مطالبة المالک بماله و عدم رضاه بالتصدق؟وجوه.

و التحقیق أن یقال:إن الحکم بالضمان ان کان لقاعدة الضمان بالإتلاف فاللازم هو الحکم

ص:526


1- 1) فی ص 510 الواردة فی قصة الفتی الذی کان من کتاب بنی أمیة.

بثبوته من حین التصدق،إلا أنک قد عرفت آنفا أن القاعدة لا تشمل المقام.و ان کان مدرک الضمان هو ما ورد فی اللقطة من أن المالک إذا جاء و طلب ماله فله الغرم،أو الرضا بالأجر فاللازم هو ثبوته من حین مطالبة المالک.و ان کان مدرک الضمان هو قاعدة ضمان الید فاللازم ثبوته من حین الأخذ إذا کانت الید الموضوعة علیه ید ضمان.

قوله و لو مات المالک. أقول:توضیح المقام أن الکلام قد یقع فی موت المالک، و قد یقع فی موت المتصدق.و علی الأول فقد یکون موت المالک بعد التصدق،و قد یکون قبل التصدق،فإذا کان التصدق بعد موت المالک فإذا جاء الوارث،و لم یرض بالتصدق خیره المتصدق بین الغرم و الأجر،لقوله(علیه السلام)فی روایة حفص المتقدمة فی البحث عن رد المأخوذ من الظالم إلی أهله:(فإن جاء طالبها بعد ذلک خیره بین الأجر و الغرم).

و ان کان التصدق قبل موت المالک فإنه لا شیء للورثة إذا المالک لم یبق حیا بعد التصدق حتی یتخیر بین الغرم و الأجر،و الورثة لیسوا بملاک حتی یجری فیهم هذا الحکم.

لا یقال:إذا وجد المالک بعد التصدق کان مخیرا بین الغلام و الأجر،فیکون هذا حقا من حقوقه،فإذا مات انتقل إلی الورثة،لأن ما ترکه المیت لوارثه.

فإنه یقال:لا دلیل علی أن کل حق یقبل النقل و الانتقال أو الإسقاط،إلا فی موارد خاصة،و مع الشک فی ذلک فالأصل عدمه.

و أما إذا مات المتصدق ثم وجد المالک فالظاهر من قوله(علیه السلام):(خیره بین الأجر و الغرم).أنه لا شیء للمالک ح إذ لا وجود للمتصدق حتی یخیر المالک بین الأمرین.

نعم یمکن أن یقال:بخروج الغرامة من ترکته،لان ضمان الصدقة من الحقوق المالیة اللازمة علیه بفعله،و لا غرامة فی ذلک فقد ثبت نظیره فی الفقه کثیرا کما إذا رمی أحد رجلا بحجر و مات الرامی قبل وصول الحجر،ثم أصاب الحجر الرجل فقتله،فإن دیة المقتول تؤخذ من ترکة القاتل،لاستناد القتل الیه.بل قد یملک المیت من جهة إیجاده سبب الملک قبل موته،کما إذا نصب شبکة،و وقع فیها السمک بعد موته،فإنه یکون من ترکته.

قوله و لو دفعه الی الحاکم فتصدق به بعد الیأس. أقول:ظاهر کلام المصنف أن دفع المال الی الحاکم إن کان بعنوان کونه وکیل الغائب،أو ولیه فلا ضمان علی الدافع لأن دفعه الی الولی،أو الوکیل کدفعه الی نفس الأصیل.و ان کان دفعه الیه بعنوان أنه کبقیة الناس فلا تبرأ ذمته بذلک.

و تحقیق الکلام هنا یکون فی جهتین،الاولی:هل للحاکم ولایة علی الغائب أم لا؟ الثانیة:إذا ثبت للحاکم ولایة علی الغائب فهل یعتبر قصد هذا العنوان فی دفع مال الغائب إلیه

ص:527

أم لا؟أما الجهة الأولی فهی ممنوعة صغری و کبری،أما الصغری فلأنه لم یحرز کون المالک غائبا،بل یحتمل کونه حاضرا عند الواجد.و ان لم یعرفه بعینه.و یتفق کثیرا أن الملتقط یتفحص عن المالک،و هو ینادی یا صاحب المال،و یسمعه المالک،و لا یلتفت الی کون اللقطة له.و أما الکبری فلعدم الدلیل اللفظی علی ولایة الحاکم علی الغائب لکی یتمسک بإطلاقه،و إنما هی ثابتة بالحسبة،فلا بد من الاقتصار علی المقدار المتیقن،و هو أخذ مال الغائب لحفظه و إیصاله الیه،و لا یجوز إتلافه و لو بالتصدق عنه.

و ان سلمنا ولایة الحاکم علی الغائب مطلقا فإنما هی فیما لم یکن للغائب ولی خاص، و الظاهر من الروایات أن من وضع یده علی اللقطة له الولایة علی مالکها فی التصدق بها.

و أما الجهة الثانیة فإذا سلمنا ثبوت ولایة الحاکم علی الغائب فإنه لا دلیل علی دخل قصد الولایة فی دفع اللقطة إلی الحاکم،فان اعتبار القصد فی ذلک کاعتبار قصد المالک فی دفع ماله الیه،و لا نحتمل أن یلتزم بذلک أحد.

و یتضح ما ذکرناه بمراجعة الوجدان،و بالنظر الی سیرة العقلاء،فإنهم لا یعتبرون القصد المذکور فی دفع أموال الموکلین و المولی علیهم إلیهم،أو الی و کلائهم و أولیائهم.

ثم إنه إذا جاز دفع اللقطة إلی الحاکم کان الحاکم مکلفا بجمیع أحکاها من وجوب الفحص و غیره.و إذا ظهر مالکها بعد التصدق أعطی بدلها من بیت المال.فقد ثبت فی الشریعة أن ما أخطأت القضاة فهو من بیت المال،و ما نحن فیه من صغریاته.

فیما علم إجمالا اشتمال الجائزة

اشارة

علی الحرام

الصورة الرابعة:ما علم إجمالا اشتمال الجائزة علی الحرام.قد ذکر المصنف هنا أن ما علم إجمالا اشتمال الجائزة علی الحرام یقع علی وجوه،لأن الاشتباه إما أن یکون موجبا للشرکة و الإشاعة،کخلط الخل بالخل و السمن بالسمن و الحنطة بالحنطة،و إما أن لا یکون موجبا لذلک،کما إذا اشتری فراشا و غصب فراشا آخر و اشتبه أحدهما بالآخر.و علی الأول فإما ان یکون المالک و مقدار المال معلومین،و إما ان یکونا مجهولین،و إما ان یکونا مختلفین.فإذا کانا معلومین فلا شبهة فی وجوب رد المال الی صاحبه.و ان کانا مجهولین فالمورد من صغریات المال الحلال المختلط بالحرام،فیجب فیه الخمس.و إن کانا مختلفین فان کان القدر معلوما و المالک مجهولا فقد تقدم تفصیله فی الصورة السابقة.

ص:528

و ان کان القدر مجهولا و المالک معلوما وجب التخلص عن اشتغال الذمة بالمصالحة مع المالک و علی الثانی-و هو ما لا یوجب الاشتباه الشرکة-فلا بد من الرجوع الی القرعة، لأنها لکل أمر مشکل.أو یباع المأخوذ من الحائر،و یشترک فی ثمنه.ثم ذکر ان تفصیل ذلک کله فی کتاب الخمس.

أقول:فی کلامه نظر من وجهین،الأول:أنه لا وجه للرجوع إلی المصالحة مطلقا فیما إذا کان المالک معلوما و القدر مجهول،لأن المال المذکور قد یکون فی ید أحد،و قد لا یکون کذلک.و علی الأول فالمقدار الذی یعلم صاحبه یرد الیه،و المقدار الذی لا یعلم صاحبه فهو لذی الید،لأنها أمارة الملکیة.و علی الثانی فما هو معلوم المالک أیضا یرد الی صاحبه،و فی المقدار المشتبه یرجع الی القرعة.و یحتمل الحکم بالتنصیف للمصالحة القهریة و یستأنس حکم ذلک مما ورد (1)فی الودعی.و لکن الظاهر أن الروایة غیر نقیة السند.

الثانی:أن ظاهر کلام المصنف عدم جریان التقسیم المذکور فی القسم الثانی-أعنی ما لا یکون الاشتباه موجبا للشرکة و الإشاعة-و لذا اکتفی فیه بالرجوع إلی القرعة، أو بیع المال المشتبه و الاشتراک فی ثمنه.و لکن الظاهر أن الأقسام المذکورة کلها جاریة فی القسم الثانی أیضا.و تقریبه أن المأخوذ من الجائر إذا کان مشتبها بالحرام مع عدم کونه موجبا للشرکة فاما أن یکون المالک و القدر کلاهما معلومین،فلا بد من رد المال الی صاحبه و إما أن یکون القدر معلوما و المالک مجهولا،و قد تقدم حکمه فی الصورة الثالثة.و إما أن یکون القدر مجهولا و المالک معلوما،فیرجع الی القرعة،أو یباع،و یشترک فی ثمنه، کما ذکره المصنف.و إما أن یکون القدر و المالک کلاهما مجهولین،فیجب فیه الخمس علی المشهور،و ذکرنا تفصیل ذلک فی کتاب الخمس،و ظاهر المصنف عدم وجوبه هنا.و لکنه مدفوع بإطلاق ما دل (2)علی وجوب الخمس فی المال المختلط بالحرام علی القول به،و دعوی اختصاصه بصورة الإشاعة لا شاهد له

ص:529


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 12 حکم من أودعه إنسان دینارین من الصلح ص 633.
2- 2) راجع ج 2 ئل باب 1 وجوب الخمس فی الحلال إذا اختلط بالحرام من الخمس ص 61.
فرع

قال السید(ره)فی حاشیته:(مقتضی إطلاق أخبار الخمس عدم الفرق بین ما لو شک فی کون الحرام بمقدار الخمس،أو أقل أو أکثر.و ما لو علم بنقصانه عنه أو زیادته علیه مع عدم العلم بمقداره،و هو الأقوی وفاقا لسید المناهل علی ما نقل.و ذهب بعضهم الی الاختصاص بالصورة الاولی،و أنه لو علم النقص لا یجب إعطاء الخمس،و لو علم الزیادة لا یکفی،بل یجب دفع الأزید) و لکن الظاهر هو ما ذهب الیه ذلک البعض،لأن مورد ما دل علی ثبوت الخمس فی المختلط بالحرام إنما هو ما لم یعلم کون الحرام زائدا علی مقدار الخمس،أو ناقصا عنه،أما فی صورة العلم بالنقصان فلأن الظاهر من قوله«ع»فی روایة الحسن بن زیاد (1):(فان اللّه تعالی قد رضی من ذلک المال بالخمس).أن الرضا بالخمس للامتنان علی العباد،و التسهیل علیهم، و من الواضح أنه لا امتنان الا مع احتمال زیادة الحرام علی الخمس،و یضاف الی ذلک أنه لا قائل بوجوب الخمس فی هذه الصورة،ذکر ذلک المحقق الهمدانی قدس سره.

و أما فی صورة العلم بزیادة الحرام عنه فان الجزء الزائد کبقیة المحرمات،فلا ترتفع الحرمة عنه،و إلا کان ذلک حلیة لأکل أموال الناس.و یضاف الی ذلک عدم القول بالفصل بین صورتی العلم بالزیادة و العلم بالنقیصة،و حیث عرفت عدم وجوب الخمس مع العدم بالنقیصة فلا بد من القول بعدم وجوبه أیضا مع العلم بالزیادة.

و علی الجملة إن ظاهر الروایة وقوع المصالحة الشرعیة بین الحرام و الخمس،و لا یجری ذلک إلا مع احتمال کونه بمقدار الحرام.

أخذ المال من الجائر

لیس له بنفسه حکم من الأحکام الخمسة

قوله و اعلم أن أخذ ما فی ید الظالم ینقسم باعتبار نفس الأخذ إلی الأحکام الخمسة) أقول:حاصل کلامه:أن أخذ المال من الجائر ینقسم بلحاظ نفس الأخذ إلی الأحکام

ص:530


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 1 وجوب الخمس فی الحلال إذا اختلط بالحرام من الخمس ص 61

الخمسة،و بلحاظ نفس المال الی المحرم و المکروه و الواجب.فالحرم ما علم أنه مال الغیر مع عدم رضاه بأخذه.و المکروه هو المال المشتبه.و الواجب هو ما یجب استنقاذه من ید الجائر من حقوق الناس،و حقوق السادة و الفقراء و لو کان ذلک بعنوان المقاصة.

أقول:الظاهر أن الأخذ بنفسه لا یتصف بشیء من الأحکام الخمسة حتی بالإباحة،بل شأنه شأن سائر الأفعال التی لا تتصف بها إلا باعتبار العوارض و الطوارئ،فإن الأخذ قد یتصف بالحرمة،کأخذ مال الغیر بدونه إذنه،و قد یتصف بالوجوب،کأخذ حقوق الناس من الجائر،و قد یتصف بالکراهة،کأخذ المال المشتبه منه بناء علی کراهته،کما ذهب الیه بعض الأصحاب،و قد تقدم ذلک فی البحث عن کراهة أخذ الجائزة من الجائر مع عدم اشتمال أمواله علی الحرام و قد یتصف بالاستحباب،کأخذ المال منه مع عدم العلم بحرمته لزیارة المشاهد و التوسعة علی العیال و نحو ذلک من الغایات المستحبة.و قد یتصف بالإباحة،کأخذ المال منه لغیر الدواعی المذکورة.

وظیفة الجائر فی نفسه

بالنسبة الی ما أخذه من أموال الناس

قوله و کیف کان فالظاهر أنه لا إشکال فی کون ما فی ذمته من قیم المتلفات غصبا من جملة دیونه). قد فصلنا الکلام فی حکم أخذ المال من الجائر.و أما وظیفته فی نفسه فلا شبهة فی اشتغال ذمته بما أتلفه من أموال الناس،لقاعدة الضمان بالإتلاف،فیجب علیه أن یخرج من عهدته.و لا شبهة أیضا فی أن ما أخذه من الناس بالظلم یجب علیه رده إلیهم لقاعدة ضمان الید.هذا إذا کان الجائر حیا.و أما إذا مات کانت الأموال المذکورة من جملة دیونه،فتخرج من أصل الترکة،لقوله تعالی (1): (مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصِی بِها أَوْ دَیْنٍ) و للروایات الواردة فی هذه المسألة.

و قد خالف فی ذلک الشیخ الکبیر کاشف الغطاء(ره)،فحکم بکونه من الثلث مع الإیصاء به،و منع کونه من الدیون.و استدل علی رأیه هذا بعدم المقتضی،و بوجود المانع،أما الأول فبأن ذمة الظالم و إن اشتغلت بالحقوق،و وجب علیه الخروج من عهدتها إلا ان الدین الذی یخرج من أصل الترکة منصرف الی الدیون المتعارفة،فلا یکون مورد البحث مشمولا للآیة و ما بمعناها.

ص:531


1- 1) سورة النساء،آیة:12.

و أما المانع فلأن الآیة الشریفیة و إن دلت علی إخراج دیون المیت من أصل الترکة، و بها خصص ما دل علی أن ما ترکه المیت ینتقل الی وارثة.و لکن السیرة القطعیة قائمة علی أن الضمانات الثابتة بقاعدة ضمان الید لا تخرج من أصل الترکة،بل تخرج من الثلث مع الإیصاء به،و إلا بقی المیت مشغول الذمة به الی یوم القیامة.و علیه فالآیة قد خصصت بالسیرة.

أقول:أما منع المقتضی فقد أشکل علیه المصنف بوجوه،الأول:(منع الانصراف، فإنا لا نجد بعد مراجعة العرف فرقا بین ما أتلفه هذا الظالم عدوانا،و بین ما أتلفه شخص آخر من غیر الظلمة)فکما أن الأول یخرج من أصل الترکة فکذا الثانی.

و ثانیا:أنه(لا إشکال فی جریان أحکام الدین علیه فی حال حیاته من جواز المقاصة من ماله کما هو المنصوص (1)و عدم تعلق الخمس و الاستطاعة و غیر ذلک).

و ثالثا:انه(لو تم الانصراف لزم إهمال الأحکام المنوطة بالدین وجودا من غیر فرق بین حیاته و موته).و دعوی إطلاق الغنی علیه عرفا لا شاهد علیها لأن أهل العرف لیسوا مشرعین لکی تکون إطلاقاتهم حجة شرعیة.کما أنهم یرون القمار و بیع المنابذة و الحصاة و المعاملة الربویة من المعاملات الصحیحة،و قد نهی الشارع عنها،و أزری علیهم بها.

و أما وجود المانع فأشکل علیه المصنف أیضا بأن السیرة المذکورة ناشئة(من قلة مبالاة الناس،کما هو دیدنهم فی أکثر السیر التی استمروا علیها،و لذا لا یفرقون فی ذلک بین الظلمة و غیرهم ممن علموا باشتغال ذممهم بحقوق الناس من جهة حق السادة و الفقراء، أو من جهة العلم بفساد أکثر معاملاته).و غیرها من حقوق الناس.فلا یمکن رفع الید عن القواعد المنصوصة المجمع علیها فی الشریعة المقدسة بمثل هذه السیر الواهیة،بل سیرة المتدینین علی عکس السیرة المذکورة فإنهم لا یفرقون فی الدیون بین المظالم و غیرها.

ما یأخذه الجائر من الناس

اشارة

یجوز احتسابه من الزکاة

قوله.(الثالثة:ما یأخذه السلطان المستحل لأخذ الخراج. أقول:الحقوق الشرعیة الثابتة فی أموال الناس،أو فی ذممهم أربعة:الخمس و الزکاة و الخراج و المقاسمة.و لا بأس

ص:532


1- 1) راجع ج 2 ئل باب 112 جواز استیفاء الدین من مال الغریم الممتنع مما یکتسب به ص 561 و ج 2 التهذیب ص 105.

یجعل الأخیرین قسما واحدا،و إذن فهی ثلاثة.أما الخمس فقد أسقطه عمر بن الخطاب، و تبعه قومه.و ذکر بعض المفسرین من العامة أن عمر قد أسقط الخمس فی شریعة الإسلام و تبعه أصحابه،فصارت المسألة إجماعیة،و علی ذلک فلا جدوی فی البحث عن الخمس لعدم اعتقاد الجائر به لکی یأخذه من الناس حتی نبحث فی أحکامه،فیختص الکلام ببقیة الحقوق ثم لا یخفی أن مورد تلک الحقوق الثلاثة هی الغلات الأربع،و الأنعام الثلاثة،و أراضی المسلمین.و أما الأراضی التی أحیاها العامل فلا شیء علیه و إن کان المحبی من غیر المسلمین علی ما ذهب الیه بعض الأصحاب.

ثم إن الکلام هنا یقع فی ثلاث نواحی:

الناحیة الأولی:إذا أخذ الجائر الحقوق المذکورة من المسلمین فهل تبرء دممهم عنها أم لا؟

مقتضی القاعدة الأولیة هو العدم،فان الشارع قد حکم بثبوت تلک الحقوق فی ذم هؤلاء فلا تبرء عنها إلا بصرفها فیما عینه الشارع.و واضح أن الجائر خارج عنه.علی أنها لا تتعین فی خصوص ما یأخذه الجائر حتی تسقط عن ذممهم،إلا أن الظاهر من الروایات الآتیة فی الناحیة الثالثة هو جواز أخذ الصدقات و المقاسمات من الجائر،بل الظاهر من السؤال فی روایة الحذاء الآتیة هو جواز أخذ الصدقات و المقاسمات من الجائر،بل الظاهر من السؤال فی روایة الحذاء الآتیة أن ذلک من المسلمات،فتدل تلک الروایات بالملازمة علی أن الأموال التی یأخذها الجائر من الناس یجوز احتسابها من الصدقات و المقاسمات،و إلا لکان علی الآخذ أن یرده الی صاحبه.فیدل ذلک علی تنزیل ید الجائر فی زمان الغیبة منزلة ید السلطان العادل و یضاف الی ما ذکرناه ما فی جملة من الروایات[1]من أن العشور التی تؤخذ من الرجل یجوز احتسابها من الزکاة،إلا إذا استطاع الرجل دفع الظالم،کما أشار إلیه الإمام«ع» فی روایة عیص ب قوله لا تعطوهم شیئا ما استطعتم).و أما ما ورد فی صحیحة أبی أسامة زید الشحام (1)من منع الاحتساب،لأنهم قوم غصبوا ذلک فیمکن حمله علی استحباب الإعادة،کما صنعه الشیخ فی التهذیب.

ص:533


1- 1) راجع البابین المزبور بن من ج 2 ئل ص 33.و ج 6الوافی ص 21.
لا یجوز للجائر أخذ الصدقات و المقاسمات

من الناس

الناحیة الثانیة:هل یجوز للجائر أخذ الصدقة و الخراج و المقاسمة من الناس أم لا؟ و علی القول بالجواز فهل تبرء ذمته إذا أعطاها لغیر أهلها أم لا؟قد یقال:إن الولایة فی زمان الغیبة و ان کانت راجعة إلی السلطان العادل الذی وجبت علی الناس طاعته،و حرمت علیهم معصیته،فإذا غصبها غاصب و تقمصها متقمص کان عاصیا و آثما،إلا أن هذه الولایة الجائرة تترتب علیها الأحکام الشرعیة المترتبة علی الولایة الحقة من حفظ حوزة الإسلام،و جمع الحقوق الثابتة فی أموال الناس،و صرفها فی محلها،و غیر ذلک،لأن موضوع تلک الاحکام هو مطلق السلطنة،سواء أ کانت حقة أم باطلة،کما إذا وقف أحد أرضا،و جعل تولیتها لسلطان الوقت.

و علی الجملة إن المحرم إنما هو تصدی الجائر لمنصب السلطنة،لا الأحکام المترتبة علیها، فإنها لا تحرم علیه بعد غصبه الخلافة و تقمصها،هذا غایة ما یمکن أن یقال فی جواز تصدی الجائر للأمور العامة.

و لکن یرد علیه أن هذا الاحتمال و ان کان ممکنا فی مقام الثبوت إلا أنه لا دلیل علیه، و علی هذا فالجائر مشغول الذمة بما یأخذه من حقوق المسلمین ما لم یخرج من عهدتها.

و ذهب السید فی حاشیته إلی براءة ذمة الجائر لوجه آخر و حاصله:أن الأئمة«ع» -و هم الولاة الشرعیون-قد أذنوا لشیعتهم فی شراء الصدقة و الخراج و المقاسمة من الجائر و یکون تصرفه فی هذه الحقوق الثلاثة کتصرف الفضولی فی مال الغیر إذا انضم إلیه إذن المالک،و ح فیترتب علیه أمران،أحدهما:براءة ذمة الزارع بما دفع الی الجائر من الحقوق المذکورة.و ثانیهما:براءة ذمة الجائر من الضمان و إن ترتب علیه الإثم من جهة العصیان و العدوان،و نظیر ذلک ما إذا غصب الغاصب مال غیره فوهبه لآخر،و أجازه المالک.

و یرد علیه أولا:أن إذن الشارع فی أخذ الحقوق المذکورة من الجائر إنما هو لتسهیل الأمر علی الشیعة لئلا یقعوا فی المضیقة و الشدة،فإنه یأخذون الأموال المذکورة من الجائر،و أن إذنه هذا و إن کان یدل بالالتزام علی براءة ذمة الزارع و إلا لزم منه العسر و الحرج المرفوعین فی الشریعة،إلا أنه لا اشعار فیه ببراءة ذمة الجائر فضلا عن الدلالة علیها،و علی هذا فتصدیه لأخذ تلک الحقوق ظلم و عدوان،فتشمله قاعدة ضمان الید

ص:534

و تلحقه جمیع تبعات الغصب وضعا و تکلیفا.

و أما تنظیر المقام بهبة الغاصب المال المغصوب مع لحقوق إجازة المالک فهو قیاس مع الفارق،إذ المفروض أن الجائر لم یعط الحقوق المذکورة لأهلها حتی تبرء ذمته بل أعطاها لغیرهم إما مجانا،أو مع العوض،و علی الأول فقد أتلف المال،فیکون ضامنا له و إن جاز للآخذ التصرف فیه،و علیه فالعوض یکون للآخذ،و ینتقل المال إلی ذمة الجائر،و علی الثانی فالمعاملة و إن صحت علی الفرض،إلا أن ما یأخذه الجائر بدلا عن الصدقة یکون صدقة،و یضمنه الجائر لا محالة.

و نظیر ذلک أن الأئمة قد أذنوا لشیعتهم فی أخذ ما تعلق به الخمس أو الزکاة ممن لا یعطیها أو لا یعتقد بهما مع ان ذلک یحرم علی المعطی وضعا و تکلیفا.

جواز أخذ الصدقات و المقاسمات

من الجائر المستحل لذلک

الناحیة الثالثة:هل یجوز أخذ مال الصدقة و الخراج و المقاسمة من الجائر المستحل لذلک أم لا یجوز؟و علی القول بالجواز فهل یملکها الآخذ أم لا؟.المشهور،بل المجمع علیه بین الأصحاب هو الأول.و عن المسالک انه أطبق علیه علمائنا،و لا نعلم فیه مخالفا.و عن المفاتیح انه لا خلاف فیه.و فی الریاض انه استفاض نقل الإجماع علیه.و قد خالف فی ذلک الفاضل القطیفی.و المحقق الأردبیلی.

و لکن التحقیق یقتضی الأول،لإطلاق الروایات الکثیرة الدالة علی إباحة أخذ الجوائز من الجائر،و قد تقدمت الإشارة إلیها فی البحث عن جوائز السلطان.و تدل علیه أیضا الروایات الخاصة الواردة فی خصوص المقام،منها روایة الحذاء[1]و هی تدل علی المقصود بثلاث فقرات:الفقرة الاولی:ان السائل جعل جواز أخذ الصدقات من السلطان الجائر مفروغا عنه،و إنما سأل عما إذا أخذ الجائر من الناس أکثر من الحق الذی یجب علیهم.فقال الامام«ع»:(لا بأس به حتی تعرف الحرام بعینه).

و قد أورد علیه المحقق الأردبیلی فی محکی کلامه(بأن قوله«ع»:لا بأس به حتی نعرف الحرام منه لا یدل إلا علی جواز شراء ما کان حلالا،بل مشتبها،و عدم جواز

ص:535

ما کان معروفا أنه حرام بعینه،و لا تدل علی جواز شراء الزکاة بعینها صریحا.نعم ظاهرها ذلک.لکن لا ینبغی الحمل علیه،لمنافاته العقل و النقل.و یمکن ان تکون سبب الإجمال منه التقیة).

و یرد علیه أولا:ان الروایة صریحة فی المطلوب،فان الضمیر فی قوله«ع»:(لا بأس به)یرجع الی شراء إبل الصدقة و غیرها،فلا وجه لإنکار الأردبیلی صراحة هذه الفقرة فی المقصود.

و ثانیا:ان حکم العقل بقبح التصرف فی مال الغیر بدون إنه و ان کان ما لا ریب فیه و کذا لا شبهة فی دلالة جملة من الروایات (1)علی حرمته،إلا ان إذن الشارع فیه أحیانا یوجب ارتفاع القبح،و تخصیص العمومات،و علیه فجواز أخذ الصدقات من الجائر لا ینافی حکم العقل و النقل،لأن أخذ الجائر هذه الحقوق من المسلمین و ان کان علی وجه الظلم و العدوان،إلا ان الشارع أجاز لغیر الجائر ان یأخذها منه،و من هنا لم یتوهم احد ان إذن الشارع فی التصرف فی الأراضی المتسعة و الأنهار الکبار و غیرهما ینافی حکم العقل و النقل و ثالثا:انه لا وجه لإنکاره صراحة هذه الفقرة فی المطلوب،و دعواه ظهورها فیه، ثم إنکاره الظهور أیضا،لمنافاته العقل و النقل.نعم له إنکار حجیتها من الأول سواء کانت صریحة فی المطلوب أم ظاهرة فیه،کما هو کک فی کل دلیل ینافی العقل و النقل.

و رابعا:انه لا وجه لاحتمال التقیة فی الروایة و جعلها سبب الاجمال فیها،لأن مجرد معارضة الروایة لعموم آیة أو روایة،أو إطلاقهما لا یسوغ حملها علی التقیة،بل یلتزم بالتخصیص أو التقیید.

لا یقال:لا وجه لحمل لفظ السلطان الوارد فی الروایة علی السلطان الجائر،و لماذا لا یحمل علی السلطان العادل،فتعبد الروایة عما نحن فیه.

فإنه یقال:ظاهر قول السائل:(و هو یعلم انهم یأخذون منهم أکثر من الحق الذی یجب علیهم)انه فرض الکلام فی الجائر،لأن العادل لا یعمل ذلک.و یضاف الی ما ذکرناه انا لم نسمع بوجود السلطان العادل فی زمان السائل و ما یقاربه.

الفقرة الثانیة:ان السائل قد احتمل حرمة شراء الإنسان صدقات نفسه من الجائر.

مسائل الامام«ع»عنها،فقال«ع»:(إن کان قد أخذها و عزلها فلا بأس)فهذه الفقرة أیضا صریحة فی المطلوب.و إنما قید الإمام«ع»جواز شراء الصدقات بالأخذ و العزل معا،و لم یکتف بالعزل فقط،لأن الصدقات لا تتعین بأمر الجائر بالعزل،فإذا

ص:536


1- 1) قد تقدم التعرض لها فی ص 144

اشتراها قبل الأخذ و العزل فقد اشتری مال نفسه،و هو بدیهی البطلان،فان البیع تبدیل المالین فی طرفی الإضافة،و هو غیر معقول فی شراء الإنسان مال نفسه.و سنتعرض لذلک فی أوائل البیع إنشاء اللّه.

و قد یقال:إن المراد من المصدق فی قول السائل:(فما تری فی مصدق یجیئنا إلخ).

هو العامل من قبل السلطان العادل،و وجه السؤال هو احتمال أن لا یکون العامل وکیلا فی بیعها،فتکون الروایة أجنبیة عن المقام.و یرده أن الروایة واردة فی الجائر،و قد تقدم ما یدل علی ذلک.

الفقرة الثالثة:أن السائل قد احتمل عدم کفایة الکیل السابق فی الشراء،فسأل الإمام«ع»عن ذلک فقال:(إن کان قبضه بکیل و أنتم حضور ذلک فلا بأس بشرائه منه من غیر کیل).لأن الکیل إنما اعتبر طریقا الی تعیین مقدار المکیل بأی نحو اتفق، و لا دلیل علی اعتباره عند البیع.فهذه الفقرة أیضا صریحة فی جواز شراء الصدقات من الجائر و لا یقال:المراد من القاسم المذکور فی السؤال هو المزارع أو وکیله،فلا مدخل للروایة فیما نحن فیه.

فإنه یقال:اتحاد السیاق یقتضی أن یراد من القاسم عامل الصدقة،لا المزارع أو وکیله علی أن الظاهر من إطلاق لفظ القاسم(الذی هو من المشتقات)هو من کانت القسمة حرفة له،و لا یطلق ذلک علی المزارع للأرض بقسمة حاصله.

و قد یتوهم أن الروایة إنما تعرضت لحکم الصدقة فقط،فلا تشمل الخراج و المقاسمة.

و لکن یرد علیه أولا:أن مقابلة القاسم بالمصدق فی الروایة تدل علی إرادة کل من المقاسمة المصطلحة و الصدقات.و ثانیا:أن إطلاق لفظ القاسم یشمل الخراج و المقاسمة الزکاتیة، فلا وجه لصرفه الی الثانی.و ثالثا:یکفینا تعرض الروایة لخصوص الصدقات،فیثبت الحکم فی غیرها بعدم القول بالفصل،لأن کل من قال بجواز أخذ الصدقات من الجائر قال:

بجواز أخذ الخراج و المقاسمة منه.

و منها روایة إسحاق بن عمار (1)قال:سألته عن الرجل یشتری من العامل و هو یظلم قال:(یشتری منه ما لم یعلم أنه ظلم فیه أحدا).فإن ظاهر الشراء من العامل هو شراء الحقوق المذکورة منه،فتدل هذه الروایة أیضا علی المطلوب.

و أشکل علیها الفاضل القطیفی بأن المراد من العامل هو عامل الظلمة،و قد عرفت فیما سبق أنه لا مانع من أخذ أموالهم ما لم یعلم أنها من الحرام،فتکون الروایة بعیدة عن المقام

ص:537


1- 1) قد ذکرنا هذه الروایة فی ص 504.

و فیه أن هذه الدعوی و ان لم تکن بعیدة فی نفسها،و لکن یدفعها إطلاق الروایة،و عدم تفصیل الامام«ع»بین المقامین.

و منها روایة أبی بکر الحضرمی[1]فإنها ظاهرة فی حل ما یعطیه الجائر للناس من بیت المال،سواء کان ذلک بعنوان البذل،أم الأجرة علی عمل.و قد ذکر المحقق الکرکی أن هذا الخبر نص فی الباب.و قد تعجب منه الأردبیلی و قال:(أنا ما فهمت منه دلالة ما، و ذلک لأن غایتها ما ذکر ذلک،و قد یکون شیء من بیت المال،و یجوز أخذه و إعطاؤه للمستحقین،بأن یکون منذورا،أو وصیة لهم،و یعطیهم ابن أبی شمال و غیر ذلک).

و لکن یرد علیه أنه إذا تحقق للروایة ظهور فان مجرد الاحتمال علی خلافه لا یسوغ رفع الید عنه،و إلا لانسد باب الاجتهاد،فان کان ظاهر یحتمل خلافه،نعم لا یجوز الاستدلال بالروایة المذکورة علی المقصود من جهة أخری،و هی أن الامام«ع»قد علل التعریض علی ابن أبی شمال بأنه لم یبعث الی أبی بکر الحضرمی بعطائه حیث قال:(أما علم أن لک فی بیت المال نصیبا).و ظاهر هذا التعلیل أن جواز الأخذ من جهة ثبوت الحق فی بیت المال،فیجوز له الأخذ بمقدار حقه،إلا أنه لا دلالة فیها علی جواز أخذ الحقوق الثلاثة من الجائر مطلقا،لکون الدلیل أخص من المدعی.

و منها الأخبار[2]الواردة فی جواز تقبل الأراضی الخراجیة،و تقبل خراجها،

ص:538

و خراج الرجال و الرؤوس من الجائر،فإنها تدل بالملازمة علی جواز شراء الخراج و المقاسمة و الصدقة منه.

و توضیح الدلالة أن التقبل قد یتعلق بالأرض،و قد یتعلق بالخراج.أما الأول فتشهد به جملة من الروایات.و لعل الوجه فی تجویز الشارع ذلک أن لا تبقی الأرض معطلة، و لا شبهة أن هذه الجهة لا ترتبط بما نحن فیه.و أما تقبل الخراج فتدل علیه جملة أخری من الرایات.و لا ریب فی دلالة هذه الجملة علی المطلوب،إذ لا فارق بین شراء الحقوق المذکورة من الجائر،أو أخذها منه مجانا،و بین تقبلها،فان الغرض هو مطلق الأخذ، و لذا نوهنا فی صدر المسألة بأن الأخذ أعم من أن یکون مع العوض أو بدونه.

تنبیهات المسألة

لا یجوز للجائر قطاع شخص خاص شیئا

من الأراضی الخراجیة

و ینبغی التنبیه علی أمور،الأول:هل یجوز للجائر إقطاع شخص خاص شیئا من الأراضی الخراجیة و تخصیصها به أم لا؟الظاهر هو الثانی،لدلالة الأخبار (1)الکثیرة علی أن الأراضی الخراجیة للمسلمین،فلا یجوز لأحد أن یتولی التصرف عنهم،إلا الإمام«ع» أو من کان مأذونا من قبله.و علیه فان قلنا بکون الجائر ولی الأمر فی زمان الغیبة، أو قلنا بکونه مأذونا من قبل الامام(علیه السلام)فی التصدی للأمور العامة فلا بأس بتصرفه فی تلک الأراضی من قبل المسلمین علی أی نحو شاء،و ان لم نقل بهما کما هو الظاهر لعدم الدلیل علیهما فیحرم علیه التصرف فیها وضعا و تکلیفا.

ص:539


1- 1) راجع ج 10 الوافی ص 133.و ج 2 ئل باب 71 شراء أرض الخراج من الجهاد ص 438.
شراء الصدقات من الجائر

قبل أخذه إیاها من الناس

الأمر الثانی:هل یجوز شراء الصدقات مر الجائر قبل أخذها إیاها من الناس أم لا یجوز ذلک إلا بعد الأخذ؟ظاهر عبارات الأکثر،بل الکل أن الحکم مختص بما یأخذه السلطان من المسلمین،فلا یجوز شراء ما فی ذمة مستعمل الأراضی الخراجیة أو الحوالة علیه، و صریح جماعة جواز ذلک لأخبار الواردة فی تقبل الأراضی الخراجیة و تقبل خراجها و جزیة الرؤوس من الجائر قبل أخذه إیاها(و قد تقدمت الإشارة إلیها آنفا)فان تقبل الخراج من الجائر لیس إلا شراؤه منه.

و أما اختصاص عبارات الفقهاء بصورة الشراء بعد الأخذ فمبنی علی الغالب.

لا یقال:ان قوله(علیه السلام)فی روایة الحذاء المتقدمة:(ان کان قد أخذها و عزلها فلا بأس).یدل علی حرمة الشراء قبل الأخذ و العزل،و لا اختصاص لذلک بالصدقات، لعدم القول بالفصل بینهما،و بین الخراج و المقاسمة.

فإنه یقال:ان الروایة و ان کانت ظاهرة فی ذلک،الا أنه ظهور بدوی یزول بالتأمل فیها،فإنها بعیدة عما نحن فیه.لأن الظاهر من قول السائل:(فما تری فی مصدق یجیئنا فیأخذ منا صدقات أغنامنا فنقول:بعناها إلخ).أن الجابی هو العامل من قبل الجائر، إذ لم یتعارف تصدی الجائر لذلک بنفسه،و علی هذا فکلما أخذه العامل من حقوق المسلمین جاز شراؤه منه،لقاعدة الید المقتضیة لحمل معاملاته علی الصحة،فإنه من المحتمل أن یکون العامل مأذونا فی البیع کما هو مأذون فی الجبایة.

و لکن ذلک لا یجری فیما قبل الأخذ،لأن حمل فعل المسلم علی الصحة فی المعاملات إنما هو فی الشرائط العائدة إلی العقد فقط.و أما شرائط العوضین و أشباهها فلا بد من إحرازها بدلیل آخر من قاعدة الید و نحوها،و هی منتفیة فی هذه الصورة،فإذا باع أحد شیئا،و لم نحرز مالکیته له،أو کونه وکیلا مفوضا فی البیع فإن الأثر لا یترتب علی بیعه،و قد ظهر مما تقدم أن الروایة إنما وردت علی طبق القواعد.و یضاف الی ذلک ما تقدم سابقا من أن الروایة ناظرة الی عدم جواز الشراء قبل الأخذ،لأن الصدقات لا تتعین بأمر الجائر بالعزل فإذا اشتراها قبل الأخذ فقد اشتری مال نفسه،و هو واضح البطلان.

ص:540

حکم الأراضی الخراجیة حال الغیبة

الأمر الثالث:لا شبهة فی أن الأراضی الخراجیة ملک لجمیع المسلمین،کما عرفت فی الأمر الأول،فلا بد من صرف أجرتها فی مصالحهم العامة،کما لا شبهة فی أن أمر التصرف فیها و فی خراجها الی الامام(علیه السلام)،و إنما الإشکال فی حکم حال الغیبة.و قد اختلفوا فی ذلک علی أقوال قد تعرض لها السید فی حاشیته،و لا یهمنا ذکره،و الذی یهمنا أمره أنه لم یستشکل أحد من الأصحاب فی أن السلطان الجائر غاصب للخلافة.و قائم فی صف المعاندة للّه،إلا أنه ذهب جمع منهم إلی حرمة التصرف فی تلک الأراضی و فی خراجها بدون إذنه بتوهم أنه ولی الآمر فی ذلک بعد غصبه الخلافة،لأن موضوع التصرف فیها هو السلطنة و ان کانت باطلة فإذا تحققت یترتب علیها حکمها.

إلا أنک قد عرفت سابقا عدم الدلیل علی ذلک،بل غایة ما ثبت لنا من الأخبار الکثیرة -التی تقدم بعضها-هو نفوذ تصرفات الجائر فیما أخذه من الناس باسم الخراج و المقاسمة و الصدقة،بمعنی أن الشارع قد حکم بجواز فیما أخذها منه،و ببراءة ذمة الدافع منها و ان بقی الجائر مشغول الذمة بها ما لم یؤدها إلی أهلها،و قد عرفت ذلک فیما سبق.

و تقدم أیضا أن حکم الشارع بنفوذ معاملة الجائر علی النحو المذکور إنما هو لتسهیل الأمر علی الشیعة لکیلا یقعوا فی العسر و الحرج فی معاملاتهم،و أمور معاشهم،و لم یدل دلیل علی أزید من ذلک حتی أنه لو أمکن إنقاذ الحقوق المذکورة من الجائر و لو بالسرقة و الخیانة،و إیصالها إلی أهلها وجب ذلک فضلا عن أن ترد الیه.

ثم لا یخفی أن المستفاد من بعض الاخبار (1)إنما هو حرمة دفع الصدقات إلی الجائر اختیارا،و بعدم القول بالفصل بینها و بین الخراج و المقاسمة نحکم بحرمة دفعهما إلیه أیضا اختیارا،بل یمکن استیناس التعمیم من روایة علی بن یقطین[1]حیث انه کان یأخذ أموال الشیعة علانیة،و یردها إلیهم سرا.و أیضا یمکن استیناس التعمیم من صحیحة زرارة (2)فإنها تدل علی أنه اشتری ضریس من هبیرة أرزا بثلثمائة ألف،و أدی المال إلی

ص:541


1- 1) قد تقدمت الإشارة إلیها فی ص 523.
2- 2) راجع ج 2 ئل باب 81 شراء ما یأخذه الظالم باسم المقاسمة مما یکتسب به ص 554.

بنی أمیة،و عض الإمام«ع»إصبعه علی ذلک،لأن أمرهم کان فی شرف الانقضاء،و کان أداء المال إلیهم بغیر إکراه منهم،بل کان ذلک باختیار ضریس،فیستفاد من ذلک أنه لا یجوز دفع الخراج إلی الجائر مع الاختیار.و قال المصنف:(فإن أوضح محامل هذا الخبر أن یکون الأرز من المقاسمة)

حکم شراء ما یأخذه الجائر

من غیر الأراضی الخراجیة

الأمر الرابع:هل یختص جواز شراء الخراج و المقاسمة بما أخذه الجائر من الأراضی الخراجیة،أو یعم مطلق ما أخذه من الأراضی باسم الخراج و المقاسمة و ان لم تکن الأرض خراجیة،و توضیح ذلک أن الأرض قد تکون خراجیة،کالأراضی التی فتحت عنوة أو صلحا.فهی لجمیع المسلمین.و قد تکون شخصیة،کالأراضی المحیاة،فإنها ملک للمحیی،و کالأراضی التی أسلم أهلها طوعا،فإنها لمالکها الأول،و قد تکون من الأنفال، کالجبال،و بطون الأودیة و نحوها.

أما القسم الأول فلا ریب فی کونه مشمولا للأخبار المتقدمة الدالة علی جواز شراء الحقوق الثلاثة من الجائر علی النحو الذی عرفته آنفا.

و أما القسم الثانی فهو خارج عن حدود تلک الاخبار قطعا،و لم یقل أحد بثبوت الخراج فیها.و علیه فإذا أخذ الجائر منها الخراج کان غاصبا جزما،و لا یجوز شراؤه منه.

و أما القسم الثالث فهو و ان لم یکن من الأراضی الخراجیة،إلا أن ما یأخذه الجائر من هذه الأراضی لا یبعد أن یکون محکوما بحکم الخراج المصطلح،و مشمولا للروایات الدالة علی جواز شراء الخراج من الجائر بعد ما کان أخذ الجائر إیاه بعنوان الخراج و لو کان ذلک بجعل نفسه.

و یرد علیه أن هذه القسم خراج عن موضوع الأخبار المذکورة،فإنها مسوقة لبیان جواز المعاملة علی الحقوق الثلاثة من التقبل و الشراء و نحوهما،و لیس فیها تعرض لموارد ثبوت الخراج و کیفیته و مقداره،بل لا بد فی ذلک کله من التماس دلیل آخر،و لا دلیل علی إمضاء ما جعله الجائر خراجا و ان لم یکن من الخراج فی الشریعة المقدسة.

ص:542

اختصاص الحکم بالسلطان المدعی للرئاسة العامة

الأمر الخامس:ذکر المصنف أن(ظاهر الأخبار و منصرف کلمات الأصحاب الاختصاص بالسلطان المدعی للرئاسة العامة و عماله،فلا یشمل من تسلط علی قریة أو بلدة خروجا علی سلطان الوقت،فیأخذ منهم حقوق المسلمین).فلا یکون ذلک مشمولا للأخبار المتقدمة،و لا یجوز شراؤها منه.و الوجه فی ذلک أن الاخبار المذکورة لم ترد علی سبیل القضایا الحقیقیة،فلیس مفادها أن کل متصد لمنصب الخلافة و السلطنة تترتب علی دعواه الأحکام المزبورة،بل موردها القضایا الخارجیة،أعنی السلاطین الذین یرون أنفسهم أولیاء الأمور للمسلمین بحیث لا یمکن التخلص عن مکرهم،و یدعون علیهم الولایة العامة فی الظاهر و ان کانت عقیدتهم علی خلاف دعواهم،کجملة من الخلفاء السابقین.و من الواضح أن المسؤول عنه فی تلک الروایات إنما هو تصرفات هؤلاء الخلفاء فی الحقوق الثابتة علی المسلمین و علیه فلیس فی تلک الروایات عموم،و لا إطلاق لکی یتمسک به فی الموارد المشکوکة و فی کل متزعم أطلق علیه لفظ السلطان،و ح فلا بد من الاقتصار فی الأحکام المذکورة علی المقدار المتیقن،و هی القضایا الشخصیة الخارجیة،و لا یجوز التعدی منها إلا الی ما شاکلها فی الخصوصیات.و من هنا یظهر عدم شمول الأخبار المزبورة لسلاطین الشیعة الذین اتصفوا بأوصاف المخالفین فضلا عن شمولها لمن تسلط علی قریة أو بلدة خروجا علی سلطان الوقت،و أخذ من أهلها أموالهم باسم الخراج و المقاسمة و الصدقة،فلا تبرء بذلک ذمم الزارعین،و لا یجوز شراؤها من هؤلاء الظالمین،لأن ذلک یدخل فیما أخذ علی سبیل الظلم و العدوان.

و قد یقال بشمول الأحکام المتقدمة لکل من یدعی الرئاسة و منصب الخلافة و لو علی علی قریة أو بلدة،لقاعدة نفی العسر و الحرج.و لکن یرد علیه أنه قد یراد بذلک لزوم الحرج علی الذین یأخذون الأموال المذکورة من هؤلاء الظلمة المدعین للخلافة،و هو واضح البطلان،و أی حرج فی ترک شراء ما فی ید السراق و الغصاب مع العلم بکونه غصبا و سرقة.علی أن ذلک لو صح لجاز أخذ الأموال المحرمة من أی شخص کان،و هو بدیهی البطلان.

و قد یراد بذلک لزوم الحرج علی الزارعین و أولیاء الأراضی،إذا وجب علیهم أداء تلک الحقوق ثانیا،فیرتفع بدلیل نفی الحرج،و لکنه أیضا بین الخلل،فان لازم ذلک أن

ص:543

الإنسان إذا أجبره سارق أو غاصب علی إعطاء حقوق اللّه أو حقوق الناس أن تبرء ذمته بالدفع الیه،لتلک القاعدة،و لم یلتزم بذلک فقیه،و لا متفقة.

عدم اختصاص الحکم بمن یعتقد

کون الجائر ولی الأمر

الأمر السادس:قد عرفت أنه لا شبهة فی جواز أخذ الصدقة و الخراج من الجائر، فهل یختص ذلک بالحقوق التی أخذها من المعتقدین بخلافته و ولایته،أم یعم غیرها؟الظاهر أنه لا فارق بینهما،لإطلاق الروایات المتقدمة،بل ورد بعضها فیما کان المأخوذ منه مؤمنا کروایتی الحذاء و إسحاق بن عمار،و بعض ما ورد فی تقبل الأرض-و قد تقدمت الإشارة الی هذه الروایات آنفا-و من الواضح أن المؤمن لا یعتقد بخلافة الجائر و کونه ولی أمر المسلمین.

تقدیر الخراج منوط برضی الموجر و المستأجر

الأمر السابع:لیس للخراج قدر معین،بل المناط فیه ما رضی به السلطان و مستعمل الأرض بحیث لا یکون فیه ضرر علی مستعمل الأرض،فإن الخراج هو اجرة الأرض، فیناط تقدیره برضی الموجر و المستأجر،کالنصف و الثلث و الرابع و نحوها،فان زاد علی ذلک فالزائد غصب یحرم أخذه من الجائر.و یدل علی ما ذکرناه قوله«ع»فی مرسلة حماد الطویلة (1)(و الأرضون التی أخذت عنوة بخیل و رجال فهی موقوفة متروکة فی ید من یعمرها و یحییها و یقوم علیها علی صلح ما یصالحهم الوالی علی قدر طاقتهم من الحق:النصف و الثلث و الثلثین و علی قدر ما یکون صالحا و لا یضرهم).

شراء الصدقة من الجائر علی

علی وجه الإطلاق

الأمر الثامن:المستفاد من الروایات المتقدمة هو جواز شراء الصدقة و الخراج و المقاسمة من الجائر علی وجه الإطلاق،سواء کان المأخوذ بقدر الکفاف و الاستحقاق،أم أزید.

ص:544


1- 1) راجع ج 1 کا ص 424.و ج 6 الوافی ص 40.

و أما الأخذ المجانی فیحرم من أصله إن کان الآخذ غیر مستحق لذلک،و إلا یحرم الزائد علی قدر الاستحقاق.و یشعر بما ذکرناه قوله«ع»فی روایة الحضرمی(أما علم أن لک فی بیت المال نصیبا).و قد تعرضنا لها سابقا (1)و رمیناها إلی الجهالة.

نعم لا بأس بأخذها للاستنقاذ،و ح فلا بد من إیصالها إلی الحاکم الشرعی مع التمکن منه،و إلا أوصلها إلی المستحقین.

و قد یتوهم جواز الأخذ مطلقا،للأخبار الدالة علی حلیة أخذ الجوائز من السلطان.

و قد تقدمت جملة منها فی البحث عن ذلک.و لکن هذا التوهم فاسد،فان تلک الأخبار غیر متعرضة لحکم الحقوق الثلاثة نفیا و إثباتا.

شرائط الأراضی الخراجیة

الأمر التاسع:الأراضی الخراجیة إنما تثبت بشرائط ثلاثة،

الشرط الأول:أن تکون

الأرض مفتوحة عنوة أو صلحا أو تکون من الأنفال علی الاحتمال المتقدم

(2)

و یثبت ذلک بالشیاع المفید للعلم،و بشهادة العدلین،و کذا یثبت بالشیاع المفید للظن المتاخم للعلم إذا قلنا بکفایته فی کل ما تعسرت إقامة البینة علیه،کالنسب و الوقف و الملک المطلق و نحوها، و بقول العدل الواحد إذا قلنا بحجیته فی الموضوعات،و هذه الأمارات حاکمة علی أصالة عدم کون الأرض مفتوحة عنوة.

و قد یقال بثبوت الفتح عنوة بالسیرة و بحمل فعل الجائر علی الصحة فإن أصالة الصحة لا تختص بفعل العادل،أما السیرة فإن کان المراد بها سیرة الجائرین فهی مقطوعة البطلان لأنهم لا یلتزمون بالأحکام الشرعیة،بل یرتکبون الأفعال الشنیعة،و لا یفرقون بین الحلال و الحرام، فکیف یبقی مع ذلک اطمئنان بالسیر الدائرة بینهم،و یزداد ذلک وضوحا بمراجعة التواریخ و ملاحظة أحوال الخلفاء السابقین و أفعالهم.

و إن کان المراد بها سیرة الفقهاء علی معاملة جملة من الأراضی کمعاملة الأراضی الخراجیة فهو متین.و لکن الإشکال فی الصغری،فأی أرض ثبتت کونها مفتوحة عنوة أو صلحا لکی یحکم بکونها خراجیة.

و من هنا یتضح أن البحث فی ذلک خال عن الفائدة،فان الجائرین فی یومنا هذا لا یأخذون الخراج بعنوان الولایة و الاستحقاق،بل لا یعتقدون بذلک،و معه یأخذون

ص:545


1- 1) فی ص 545.
2- 2) فی ص 542.

فریقا من أموال الناس باسم الخراج،کالمکوس و الکمارک و غیرهما.

و أما حمل فعل الجائر علی الصحة فسیأتی التعرض له عند بیان الضابطة للأراضی.

و التحقیق أن تحریر البحث فی المقام یقع فی ثلاث نواحی،الناحیة الاولی:أن الأرض التی تکون بید الزارع قد توجد فیها علامة تدل علی کونها مسبوقة بالید،و قد لا تکون کذلک،و علی الأول فقد تمضی مدة یطمئن الزارع بعدم بقاء المالک عادة،و قد لا یکون کذلک.فعلی الأول تکون الأرض و خراجها للإمام«ع»لأنه وارث من لا وارث له،و مع الشک فی وجود الوارث فالأصل عدمه إذا کان هنا علم عادی بموت الأبوین.

و علی الثانی تعامل الأراضی و خراجها معاملة مجهول المالک،و من هنا یتضح ما فی کلام المصنف من إثبات عدم الفتح عنوة،و عدم تملک المسلمین و غیرهم بأصالة العدم.و وجه الضعف هو أن کون الأرض معلمة بما یدل علی أنها مسبوقة بالید مانع عن الرجوع الی الأصل.

و علی الثالث-و هو ما إذا لم تکن فی الأرض علامة تدل علی کونها مسبوقة بالید-فان ثبت کونها خراجیة فلا کلام لنا فیه،و إن لم یثبت ذلک فهل یمکن إثبات ذلک بحمل فعل الجائر علی الصحة أم لا؟الظاهر هو الثانی،فقد عرفت فیما سبق أن معنی حمل فعل المسلم علی الصحة فی غیر المعاملات هو أن لا یعامل معاملة الکاذب،و من المعلوم أنه لا دلالة فی ذلک علی ترتیب آثار الصدق علیه.

علی أن الحمل علی الصحة إنما هو فیما إذا کان الفاعل علی الصلاح و السداد،و إلا فلا موجب له،کما فی الخبر[1]و لکنه ضعیف السند.

و قد یقال بحمل فعل الجائر علی الصحة من ناحیة وضع یده علیها و أخذه الخراج منها.

و لکن یرد علیه أن وضع الید إنما یحمل علی الصحة فیما إذا احتملت صحته،و أحرز واضع الید جواز ذلک،و من المعلوم جزما أن الجائر لم یحرز کون الأراضی التی هی تحت تصرفه خراجیة،فتکون یده علیها ید غصب و عدوان.و علی هذا فمقتضی القاعدة أن الأرض ملک للزارع،لأن من أحیی أرضا فهی له.

الناحیة الثانیة:أن الأرض التی بید الزارع إما أن تکون معمورة قبل أخذها من

ص:546

الجائر أو مواتا،و علی الثانی فهی لمن أحیاها،للأخبار الدالة علی أن من أحیی أرضا فهی له(و قد ذکرت هذه الاخبار فی کتاب إحیاء الموات)و علی الأول فاما أن یحتمل بقاء المالک أولا،و علی الأول تکون الأرض من مجهول المالک،و علی الثانی فهی ملک للإمام لأنه وارث من لا وارث له،و احتمال وجود وارث غیره مدفوع بالأصل،إلا إذا احتمل بقاء العمودین فتکون الأرض أیضا من مجهول المالک.

الناحیة الثالثة:أخذ الخراج ممن أخذه من الجائر حکمه حکم أخذه من نفس الجائر فإن احتمل فی حقه أنه یعرف الأراضی الخراجیة،و یعلم أن ما أخذه الجائر من تلک الأراضی حمل فعله علی الصحة،و عوامل معاملة المالک،و إلا کان المقام من قبیل تعاقب الأیدی علی المال المغصوب.

الشرط الثانی:أن یکون الفتح بإذن الإمام(علیه السلام)،

و اعتبار هذا الشرط هو المشهور بین الفقهاء،و ذهب صاحب المستند و بعض آخر الی عدم اعتباره فی کون الأرض خراجیة.و تحقیق ذلک أن الکلام قد یقع فی الشبهة الحکمیة،بمعنی أنه هل یعتبر إذن الإمام(علیه السلام)فی الفتح أم لا؟و قد یقع فی الشبهة الموضوعیة،و أنه بعد اعتبار إذن الامام فی ذلک فبأی طریق یثبت کون الأرض خراجیة عند الشک فی ذلک.

أما اعتبار إذن الإمام(علیه السلام)فی الفتح فتدل علیه روایة الوراق[1].

و یرد علیه أولا:أن الروایة مرسلة لا یصح الاعتماد علیها.و ثانیا:أن النسبة بینها و بین الروایات (1)الدالة علی أن الأرض الخراجیة التی فتحت بالسیوف للمسلمین هی العموم من وجه،لأن المرسلة أعم من حیث شمولها للمنقولات،و تلک الروایات أعم،لإطلاقها من ناحیة إذن الامام(علیه السلام)،فتقع المعارضة بینهما فی الأراضی التی أخذت بغیر إذن الإمام فتکون بمقتضی المرسلة ملکا للإمام(علیه السلام)،و بمقتضی تلک الروایات ملکا للمسلمین،فیحکم بالتساقط،و یرجع الی عموم قوله تعالی (2): (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ) و الحاصل أنه لا دلیل علی اعتبار الشرط الثانی فی کون الأراضی المفتوحة للمسلمین.

و یضاف الی ذلک خبر محمد بن مسلم[2]فان ظاهرها أن الأراضی المفتوحة بعد رسول اللّه(صلی الله علیه و آله)

ص:547


1- 1) تقدمت الإشارة إلیها فی ص 539.
2- 2) سورة الأنفال،آیة:42.

حکمها حکم أرض العراق،و أنها ملک للمسلمین.

و أما الکلام من حیث الشبهة الموضوعة فمقتضی الأصل هو عدم کون الفتح بإذن الإمام«ع»،و لا یکون هذا مثبتا،فان الفتح محرز بالوجدان،و عدم کونه بإذن الإمام محرز بالأصل،فیترتب الأثر علی الموضوع المرکب.نعم لو قلنا بأن الأثر-أعنی کون المفتوح ملکا للمسلمین-یترتب علی الفتح المستند إلی إذن الامام«ع»کان الأصل مثبتا.

و نتمسک مع ذلک بالعدم الأزلی،و نقول:إن الأصل عدم الاستناد.

و قد ذکرت وجوه للخروج عن الأصل المذکور.الوجه الأول:أن المفتوحات الإسلامیة کلها کانت بإذن الإمام«ع».و تدل علی ذلک روایة الخصال[1]الدالة علی أن عمر کان یشاور أمیر المؤمنین(علیه السلام)فی غوامض الأمور،و من الواضح أن الخروج الی الکفار،و دعائهم إلی الإسلام من أعظم تلک الأمور،بل لا أعظم منه.

و یرد علی هذا الوجه أولا:أن الروایة ضعیفة السند فلا یصح الاعتماد علیها.و ثانیا:

أن عمر کان مستقلا فی رأیه،و لم یشاور الإمام فی کثیر من الأمور المهمة بل فی جمیعها الراجعة إلی الدین.و ثالثا:أن هذا الوجه إنما یجری فی الأراضی التی فتحت فی خلافة عمر و لا یجری فی غیرها.

الوجه الثانی:أن الأئمة(علیهم السلام)راضون بالفتوحات الواقعة فی زمن خلفاء الجور،لکونها موجبة لقوة الإسلام و عظمته.

و فیه أن هذه الدعوی و ان کانت ممکنة فی نفسها،إذ المناط فی ذلک هو الکشف عن رضاء المعصوم(علیهم السلام)بأی طریق کان،و لا موضوعیة للاذن الصریح.و لکنها أخص من المدعی،فإنه لیس کان فتح مرضیا للأئمة حتی ما کان من الفتوح موجبا لکسر الإسلام و ضعفه

ص:548

الوجه الثالث:ما ذکره المصنف من أنه(یمکن أن یقال بحمل الصادر من الغزاة من فتح البلاد علی وجه الصحیح،و هو کونه بأمر الإمام).

و فیه مضافا الی أن مورد حمل فعل المسلم علی الصحة ما إذا کان الفعل ذا وجهین:الصلاح و الفساد،و دار الأمر بین حمله علی الصحیح أو الفاسد فإنه یحمل علی الأول،للقاعدة المذکورة،و أما إذا کان کلا وجهی الفعل صحیحا کما فی المقام فلا مورد لها أصلا،فإن الغزوات الواقعة إن کانت بإذن الإمام«ع»فالغنائم للمسلمین،و إلا فهی لإمام،و لا شبهة أن کلا الوجهین صحیح،فلا مورد لنفی أحدهما و إثبات الآخر بتلک القاعدة.

الشرط الثالث:أن تکون الأراضی المفتوحة محیاة حال الفتح لتدخل فی الغنائم،

و یخرج منها الخمس أولا علی المشهور،و یبقی الباقی للمسلمین،و إن کانت مواتا حین الفتح فهی للإمام(علیه السلام)،و قد أباحها للمسلمین.

و یدل علی ذلک مضافا الی الشهرات و الإجماعات المنقولة أمران،الأول:أنه ورد فی الشریعة المقدسة أن أموال الکفار الحربیین من الغنائم،فیخرج منها الخمس،و یبقی الباقی للمسلمین،و لا شبهة أن هذا الحکم لا یشمل أموال المسلمین المودعة عند الکفار،أو المعامرة لهم،أو المغصوبة عندهم،لأنها لیست من أموالهم،و قد ثبت أیضا أن الأراضی الموات للإمام(علیه السلام)،و قد أباحها للمسلمین،أو لمن أحیاها و لو کان کافرا.و نتیجة المقدمتین أن الأراضی المفتوحة إنما تکون ملکا للمسلمین إذا کانت محیاة حال الفتح،و إلا فهی للإمام(علیه السلام).

الأمر الثانی:أن الأراضی کلها کانت بید الکفار،و قد أخذها المسلمون بالحرب و نحوه فلو لم تکن الموات من تلک الأراضی ملکا للإمام(علیه السلام)لم یبق مورد للروایات الدالة علی أن موات الأرض للإمام فتکون ملغاة.(و قد ذکرت هذه الاخبار فی أبواب الأنفال).

قوله نعم لو مات المحیاة حال الفتح فالظاهر بقاؤها علی ملک المسلمین. أقول:

الأراضی الموات علی ثلاثة أقسام،الأول:ما کانت مواتا فی الأصل بحیث لم تکن محیاة فی وقت ما.الثانی:ما کانت محیاة حال الفتح،ثم ماتت بعد و لم یحیها أحد.الثالث:

ما کانت مواتا حال الفتح،ثم أحیاها أحد المسلمین،ثم ترکها فصارت مواتا.

و الظاهر أن هذه الأقسام کلها مشمولة للأخبار الدالة علی أن الأراضی الموات کلها للإمام ضرورة صدق المیت بالفعل علیها من غیر فرق بین ما کان میتا بالأصل أو بالعرض.

لا یقال:الأراضی التی کانت محیاة حال الفتح باقیة فی ملک المسلمین،سواء عرضها الموت بعد ذلک أم لا،کما أن کل أرض کانت مواتا حال الفتح،ثم أحیاها أحد فهی باقیة فی

ص:549

ملک من أحیاها و إن عرضها الموت بعد ذلک،لأن خروجها بالموت عن ملکه یحتاج الی دلیل،و مع الإغضاء عن ذلک یرجع الی الاستصحاب.

فإنه یقال:الأحکام المجعولة علی الموضوعات المقدرة إنما تکون فعلیة بفعلیة موضوعاتها فإذا انتفی الموضوع سقط الحکم عن الفعلیة،کما ینعدم المعلول بانعدام علته.و من الواضح أن موضوع الملکیة الفعلیة حدوثا و بقاء فیما دل علی أن من أحیی أرضا فهی له إنما هو الأرض مع قید الحیاة،فإذا زالت الحیاة زالت الملکیة أیضا.فلا یشمل إطلاق ذلک لما بعد الموت أیضا.و اما الاستصحاب فهو محکوم بالإطلاقات الدالة علی أن کل أرض میت فهی للإمام(علیه السلام)مع أنه لا یجری فی الشبهات الحکمیة،کما حققناه فی علم الأصول.

علی أن شمول بعض الروایات-الدالة علی أن موات الأرض للإمام-للأراضی التی کانت محیاة ثم ماتت بالعموم،و شمول الروایات-الدالة علی أن من أحیی أرضا فهی له-لذلک بالإطلاق،فیتعارضان بالعموم من وجه،فیقدم ما کانت دلالته بالعموم علی ما کانت دلالته بالإطلاق،و قد حققنا ذلک فی علم الأصول.

ثم إن الأمور التی تثبت بها الحیاة حال الفتح من الشیاع المفید للعلم و غیره مما قدمناه آنفا یثبت بها الفتح عنوة.و مع الشک فی ذلک یرجع الی الأصل.

ثم إذا علم إجمالا باشتمال الأراضی التی بید أحد المسلمین علی أرض محیاة حال الفتح بأن کانت لأحد أراضی متعددة فی نقاط العراق،کالبصرة و الکوفة و کربلاء،و علم إجمالا باشتمالها علی أرض محیاة حال الفتح-فان ادعی من بیده الأراضی ملکیة جمیعها مع احتمال کونها له عوامل معاملة المالک،إذ یحتمل أن المحیاة حال الفتح ماتت بعد ذلک،ثم طرأت علیها الحیاة ثانیا و إن لم یدع ملکیة کلها،أو بعضها رجع فیها الی حکام الشرع.إلا أنه لا یوجد لهذه الصورة مصداق فی الخارج.

ثم إذا أحرزنا کون أرض مفتوحة عنوة بإذن الإمام(علیه السلام)و کانت محیاة حال الفتح فإنه لا یمکن الحکم أیضا بکونها أرض خراج و ملکا للمسلمین مع ثبوت الید علیها،لأنا تحتمل خروجها عن ملکهم بالشراء و نحوه.و علی هذا فلا فائدة لتطویل البحث فی المقام إذ لا یترتب علیه أثر مهم.و قد تم الجزء الأول من کتاب مصباح الفقاهة فی المعاملات بعون اللّه و حسن توفیقه،و یتلوه الجزء الثانی إنشاء اللّه.و الحمد للّه أولا و آخرا و ظاهرا و باطنا،و صلی اللّه علی محمد و آله الطیبین الطاهرین المعصومین،و لعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین إلی یوم الدین.و کان الفراغ من ذلک صبیحة یوم الثلاثاء 16 ربیع الأول سنة 1373 ه.

ص:550

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.