نبراس الاذهان فی اصول الفقه المقارن جزء3

اشارة

سرشناسه:حسینی گرگانی، سیدمیرتقی، 1330 -

عنوان و نام پدیدآور:نبراس الاذهان فی اصول الفقه المقارن / میرتقی الحسینی الگرگانی.

مشخصات نشر:قم : مرکزالمصطفی(ص) العالمی للترجمه والنشر، 1435 ق.=2014م.= 1392.

فروست:مرکزالمصطفی (ص) العالمی للدراسات والتحقیق؛ 44، 782

شابک:دوره 978-964-195-499-6 : ؛ ج.1 978-964-195-332-6 : ؛ 180000 ریال: ج. 2 978-964-195-491-0 : ؛ ج.3 978-964-195-859-8 : ؛ ج.4 978-964-195-895-6 : ؛ 290000 ریال: ج.5 978-964-195-591-7 : ؛ 345000 ریال (ج.5، چاپ سوم)

وضعیت فهرست نویسی:فاپا (ج.1)

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج.2 (چاپ اول: 1393).

یادداشت:ج.3 و 4 (چاپ اول: 1393) (فیپا).

یادداشت:ج. 5 (چاپ اول: 1393).

یادداشت:ج.5 (چاپ سوم: 1438 ق. = 1396).

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اصول فقه شیعه -- مطالعات تطبیقی

موضوع:Islamic law, shiites -- Interpretation and construction-- Comparative studies

رده بندی کنگره:BP155/ح48ن2 1392

رده بندی دیویی:297/31

شماره کتابشناسی ملی:2490919

ص :1

اشارة

ص:2

نبراس الأذهان فی اصول الفقه المقارن السیّد میرتقی الحسینی الگرگانی

ص:3

ص:4

کلمة الناشر

الحمد لله رب العالمین و الصلاة و السلام علی سیدنا ونبینا محمد وعلی آله الطیبین الطاهرین المعصومین.وبعد.

إنّ التطوّر المعرفی الذی یشهده عالمنا الیوم فی مختلف المجالات،بخاصة بعد ثورة الاتصالات الحدیثة التی هیأت فرصاً فریدة للاطلاع الواسع،ودفعت بعجلة الفکر و الثقافة إلی آفاق رحاب.

فغدا الإنسان یترقّب فی کل یوم تطوّراً جدیداً فی البحوث العلمیة،وفی المناهج التی تنسجم مع هذا التطوّر الهائل.ومع کلّ ذلک بقیت بعض المناهج الدراسیة حبیسة الماضی ومقرراته.

وبعد أن بزغ فجر الثورة الاسلامیة المبارکة بقیادة الإمام الخمینی قدّس سره،انبثقت ثورة علمیة وثقافیة کبری،مما حدا برجال العلم و الفکر فی الجمهوریة الإسلامیة أن یعملوا علی صیاغة مناهج جدیدة لمجمل العلوم الإنسانیة،وللعلوم الإسلامیة بشکل خاص،فأحدث هذا الأمر تغییراً جذریاً وأساسیاً فی المناهج الدراسیة فی الحوزات العلمیة و الجامعات الأکادیمیة،و هذا یستلزم إعادة النظر فی اصول ومصادر الکتب الدراسیة العلمیة المعتبرة،فازدادت العلوم الإسلامیة لذلک نشاطاً وحیویة وعمقاً واتساعاً.

وفی ظل إرشادات قائد الجمهوریة الإسلامیة الإمام الخامنئی(مدّ ظله)،أخذت

ص:5

المؤسسات العلمیة و الثقافیة علی عاتقها تجدید المناهج الدراسیة وتحدیثها علی مختلف الصعد،بخاصة مناهج الحوزة العلمیة،التی هی ثمرة جهود کبار الفقهاء و المفکرین عبر تاریخها المجید.

من هنا بادرت جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة إلی تبنّی المنهج العلمی الجدید فی نظامها الدراسی،وفی التألیف،والتحقیق،وتدوین الکتب الدراسیة لمختلف المراحل الدراسیة،ولجمیع الفروع العلمیة،وفی شتّی الموضوعات بما ینسجم مع المتغیرات الحاصلة فی مجمل دوائر الفکر و المعرفة.

فقامت بمخاطبة العلماء و الأساتذة،لیساهموا فی وضع مناهج حدیثة للعلوم الإسلامیة خاصّة،ولسائر العلوم الإنسانیة:کعلوم القرآن،والحدیث و الفقه،والتفسیر،والاُصول،وعلم الکلام و الفلسفة،والسیرة و التأریخ،والأخلاق،والآداب،والاجتماع،والنفس،وغیرها،حملت هذه المناهج طابعاً أکادیمیاً مع حفاظها علی الجانب العلمی الأصیل المتّبع فی الحوزة العلمیة.

ومن أجل نشر هذه المعارف و العلوم،بادرت جامعة المصطفی العالمیة صلی الله علیه و آله إلی تأسیس «مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر» لتحقیق،وترجمة،ونشر کلِّ ما یصدر عن هذه الجامعة الکبیرة،مما ألّفه أو حقّقه العلماء و الأساتذة فی مختلف الاختصاصات وبمختلف اللغات.

والکتاب الذی بین یدیک أیها القارئ العزیز، نبراس الأذهان فی اصول الفقه المقارن«الجزء الأوّل» هو مفردة من مفردات هذه المنظومة الدراسیة الواسعة،قام بتألیفة الأستاذ الفاضل السید میر تقی الحسینی الگرگانی.

ویحرص مرکز المصطفی العالمی علی تسجیل تقدیره لمؤلفه الجلیل علی ما بذله من جهد وعنایة،کما یشکر کلَّ من ساهم بجهوده لإعداد هذا الکتاب وتقدیمه للقراء الکرام.

وفی الختام نتوجّه بالرجاء إلی العلماء و الأساتذة وأصحاب الفضیلة؛للمساهمة فی

ص:6

ترشید هذا المشروع الإسلامی بما لدیهم من آراء بنّاءة وخبرات علمیة ومنهجیة،وأن یبعثوا إلینا بما یستدرکون علیها من خطأ أو نقص یلازم الإنسان عادة؛لتلافیهما فی الطبعات اللاحقة،نسأله تبارک وتعالی التوفیق و السداد،والله من وراء القصد.

مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی

للترجمة و النشر

ص:7

ص:8

کلمة مرکز المصطفی العالمی للدراسات و التحقیق

وضعت الحوزات العلمیة-عبر تاریخها المجید-مهمّة التربیة و التعلیم علی رأس مهامهّا و جزءاً من رسالاتها الأساسیة،الأمر الذی ضمن إیصال معارف الإسلام السامیة وعلوم أهل البیت علیهم السّلام إلینا خلال الأجیال المتعاقبة بأمانة علمیة صارمة،وفی هذا الإطار جاء اهتمام تلک الحوزة العلمیة بالمناهج الدراسیة التعلیمیة.

وممّا لا شکّ فیه،أنّ التطوّر التکنولوجی الذی شهده عصرنا الحالی وثورة الاتصالات الکبری أفرزتا تحوّلاً هائلاً فی حقل العلم و المعرفة،حتی أصبح بمقدور البشریة فی عالم الیوم أن تحصل علی المعلومات و المعارف اللازمة فی جمیع الفروع بسرعة قیاسیة وبسهولة ویسر.فقد حلّت الأسالیب التعلیمیة الحدیثة و المتطورة محلّ الأسالیب القدیمة و الموروثة کمّا ونوعاً،وسارت هذه التطّورات بسرعة نحو تحقیق الأهداف التعلیمیة المنشودة.

وبرزت جامعة المصطفی العالمیة فی هذا الخضم کمؤسسة حوزویة وأکادیمیة تأخذ علی عاتقها مسؤولیة إعداد الکوادر العلمیة و التعلیمیة غیر الإیرانیة فی مجال العلوم الإسلامیة،حیث تعکف أعداد غفیرة من الطلبة الأجانب الذین ینتمون إلی جنسیات مختلفة علی مواصلة الدراسة فی مختلف المستویات التعلیمیة وضمن العدید من فروع العلوم الإسلامیة و العلوم الإنسانیة التابعة لهذه الجامعة.

ص:9

وبطبیعة الحال،إنّ العلوم و المعارف الإسلامیة التی یتوافر علیها الطلبة الأجانب تتمایز بتمایز البلدان و الأصقاع التی ینتمون إلیها،مما یدفع جامعة المصطفی العالمیة إلی تدوین مناهج حدیثة تستجیب لطبیعة التمایز الذی یفرضه تنوّع البلدان وتنوع حاجات مواطینها.

لطالما أکّد أساتذة الحوزة ومفکّریها ولا سیما الإمام الخمینی رحمه الله،وسماحة قائد الثورة الإسلامیة(دام ظله)علی ضرورة أن یستند التعلیم الحوزوی إلی الأسالیب الحدیثة المستلهمة من مناهج الاستنباط فی الفقه الجواهری،وأن یتمّ سوقه نحو مسارات التألّق والازدهار.وفی هذا السیاق،نشیر إلی مقطع من الکلمة المهمّة التی ألقاها سماحة قائد الثورة السید الخامنئی(دام ظله)فی عام 2007م،مخاطباً فیها رجال الدین الأفاضل:

بالطبع،إنّ حرکة العلم فی العقدین القادمین ستشهد تعجیلاً متسارعاً فی حقول العلم و التکنولوجیا مقارنة بما مرّ علینا فی العقدین المنصرمین...وفیما یتعلّق بالمناهج الدراسیة یجب علینا توضیح العبارات و الأفکار التی تتضمّنها تلک المناهج إلی الدرجة التی تنزاح معها کلّ العقبات التی تقف فی طریق من یرید فهم تلک الأفکار،طبعاً،دون أن نُهبط بمستوی الفکرة.

فی الحقیقة،لقد استطاعت الثورة الإسلامیة المبارکة فی إیران-ولله الحمد-أن تسند المحافل العلمیة و الجامعات بطاقات وإمکانات هائلة لتفعیلها و تطویرها.ومن هذا المنطلق،واستلهاماً من نمیر علوم أهل البیت علیهم السّلام وبفضل الأجواء التی أتاحتها هذه الثورة العظیمة لإحداث طفرة فی النظام التعلیمی،أناطت جامعة المصطفی العالمیة مهمّة ترجمة وطباعة ونشر المناهج الدراسیة التی تنسجم مع النظام المذکور إلی مرکز المصطفی العالمی،وذلک بالاعتماد علی اللجان العلمیة و التربویة الکفوءة،وتنظیم هذه المناهج بالترکیز علی الأهمیة الإقلیمیة و الدولیة الخاصة بها.

وللحقیقة فإنّ جامعة المصطفی العالمیة تملک خبرة عالیة فی مجال تدوین

ص:10

المناهج الدراسیة و البحوث العلمیة،حیث حقّقت تحوّلاً جدیداً فی میدان انتاج المعرفة،وذلک من خلال تجربتها فی تدوین مجموعة المناهج الخاصّة بالمؤسّستین السابقتین التی انبثقت عنهما،وهما:«المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة»و«مؤسسة الحوزات و المدارس العلمیة فی الخارج».

وکانت حصیلة الإنجازات العلمیة لهذه الجامعة فی مجال تدوین المناهج؛إصدار أکثر من مئتی منهجٍ دراسی لداخل البلاد وخارجها،وإعداد أکثر من مئتی منهجٍ وکرّاسةٍ علمیة،والتی نأمل بفضل العنایة الإلهیة وفی ظلّ رعایة الإمام المهدی المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف أن تکون قد ساهمت بقسط ولو غیر قلیل فی نشر الثقافة و المعارف الإسلامیة المحمدیة الأصیلة.

وبدوره یشدّ مرکز المصطفی العالمی علی أیدی الروّاد الأوائل ویثمّن جهودهم المخلصة،کما یعلن عن شکره للتعاون البنّاء للّجان العلمیة التابعة لجامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة علی مواصلة هذه الانطلاقة المبارکة فی تلبیة المتطلبات التربویة و التعلیمیة من خلال توفیر المناهج الدراسیة طبقاً للمعاییر الجدیدة.

والکتاب الذی بین یدی القارئ الکریم الذی یحمل عنوان:نبراس الأذهان فی أُصول الفقه المقارن(الجزء الاوّل)،هو ثمرة جهود الأُستاذ الفاضل السید میرتقی الحسینی الگرگانی،ویحرص مرکز المصطفی العالمی علی تسجیل تقدیره و شکره لمؤلفه الجلیل علی ما بذله من جهد وعنایة،کما یشکر کلّ من ساهم بجهوده لإعداد هذا الکتاب.

کما لا یفوتنا أن نتوجّه بالرجاء إلی العلماء و الأساتذة وأصحاب الفضیلة أن یبعثوا إلینا بإرشاداتهم،وبما یستدرکونه علیه منه خطأ أو اشتباه؛لتلافیه فی الطبعات اللاحقة.

نسأله تعالی التوفیق و السداد،والله من وراء القصد.

مرکز المصطفی العالمی

للدراسات و التحقیق

ص:11

ص:12

الفهرس

المبحث الثالث:الإجماع الدرس الثالث عشر بعد المئة 25

تعریف الإجماع 25

الإجماع فی اللغة 25

الإجماع فی الاصطلاح 27

هدایة 28

تبصرة 30

هل الإجماع أصلٌ مستقلّ؟31

الدرس الرابع عشر بعد المئة 37

إمکان الإجماع 37

هدایة 42

الدرس الخامس عشر بعد المئة 47

الاطّلاع علی الإجماع بعد إمکانه 47

عدم إمکان الاطّلاع 48

رأی بعض الإمامیة 51

تحقیق المسألة 53

الدرس السادس عشر بعد المئة 57

الإجماع المحصّل 57

ص:13

هل الإجماع أصل أو حکایة عن أصل؟58

الدرس السابع عشر بعد المئة 67

الخلاف فی حجّیة الإجماع 67

هل حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة 68

هل اتّفاق المجتهدین بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله یکون حجّة أم لا؟69

اختلاف القائلین بالحجّیة فی الدلیل علی الحجّیة 71

الدرس الثامن عشر بعد المئة 79

هل الشیعة من منکری حجّیة الإجماع؟79

ثمرة الخلاف الماهوی فی حجّیة الإجماع 84

هل یستکشف الحکم الشرعی من اتّفاق الناس علی حکم الشارع 85

الدرس التاسع عشر بعد المئة 91

الإجماع السکوتی 91

تعریف الإجماع السکوتی 91

قیود تحقّق الإجماع السکوتی 92

تبصرة 94

الدرس العشرون بعد المئة 99

حجّیة الإجماع السکوتی 99

الدرس الحادی و العشرون بعد المئة 109

حجّیة الإجماع السکوتی 109

تنبیه 109

حجّیة الإجماع السکوتی عند الإمامیة 110

الدرس الثانی و العشرون بعد المئة 117

تفصیل 117

رأی الزیدیة فی الإجماع السکوتی 118

هل یرجع الإجماع السکوتی إلی الإجماع المطلق 119

أقسام الإجماع عند المصنّف وأنواعه فی الحجّیة 119

توضیح 120

ص:14

الدرس الثالث و العشرون بعد المئة 127

تکفیر من جحد الحکم المجمع علیه 127

إنکار الطریق لا یستلزم إنکار حکم شرعی 131

الدرس الرابع و العشرون بعد المئة 137

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور 137

الاستدلال بالکتاب علی حجیة الإجماع 138

الاستدلال بالآیة الاُولی 138

الدرس الخامس و العشرون بعد المئة 147

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور 147

الاستدلال بالآیة الثانیة 147

الأجوبة عن الاستدلال المذکور 148

الاستدلال بالآیة الثالثة 151

الإیرادات الواردة علی الاستدلال المذکور 152

الدرس السادس و العشرون بعد المئة 159

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور 159

الاستدلال بالسنّة علی حجیة الإجماع 159

تواتر السنّة الدالّة علی حجّیة الإجماع 162

استفاضة السنّة الدالّة علی حجیة الإجماع ومقبولیتها عند الموافقین و المخالفین 164

الدرس السابع و العشرون بعد المئة 171

دلالة الأخبار علی حجیة الإجماع 171

الاُمّة وحدیث:لا تجتمع امّتی علی الخطأ 175

الدرس الثامن و العشرون بعد المئة 181

الدلیل العقلی علی حجیة الإجماع 181

الدرس التاسع و العشرون بعد المئة 193

خلاصة ما مرّ فی دلیل حجّیة الإجماع عند الإمامیة(1)193

المسامحة فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق جماعة علم دخول المعصوم فیها 194

طرق کشف الإجماع عن قول المعصوم 195

ص:15

الطریقة الاُولی:الحسّ 196

تنبیه 196

الطریقة الثانیة:التقریر(الملازمة الشرعیة)198

الدرس الثلاثون بعد المئة 205

الطریقة الثالثة:قاعدة اللّطف(الملازمة بالعقل العملی)205

الطریقة الرابعة:الحدس(الملازمة بالعقل النظری)207

إیقاظ 208

الطریقة الخامسة:مسلک تراکم الظنون 209

الدرس الحادی و الثلاثون بعد المئة 215

الطریقة السادسة:حساب الاحتمالات 215

طرز التطبیق الضعیف 218

طرز التطبیق الصحیح 219

الدرس الثانی و الثلاثون بعد المئة 227

الإجماع المرکّب 227

توضیح 230

اختلاف المجتهدین فی مسألة 233

رأی صدر الشریعة فی المسألة 234

الدرس الثالث و الثلاثون بعد المئة 241

رأی الزیدیة فی المسألة الخلافیة و القول الثالث 241

الإجماع المرکّب عند الإمامیة 242

مخالفة الإجماع البسیط 242

هل یجوز إحداث قول ثالث؟243

تنبیه 243

الحدیث حول القول بعدم الفصل 245

الدرس الرابع و الثلاثون بعد المئة 253

الإجماع المنقول بخبر الواحد 253

نظریة علماء أهل السنّة فی الإجماع المنقول بخبر الواحد 253

ص:16

رأی الزیدیة فی الإجماع المنقول 256

مسلک علماء الإمامیة فی الإجماع المنقول 257

الدرس الخامس و الثلاثون بعد المئة 263

هل الإجماع المنقول بخبر الواحد یکون من مصادیق خبر الواحد؟263

الخلاف فی حجیة الإجماع المنقول 265

اختلاف نقل الإجماع مناط الاختلاف فی حجّیته 266

المبحث الرابع:القیاس الدرس السادس و الثلاثون بعد المئة 277

تمهید 277

ملاحظة مهمّة 279

هل یعمل بالقیاس قبل البحث عن المنصوص 280

الخبر المرسل و الضعیف أولی من القیاس 281

تحریم العمل بالقیاس حتّی مع عدم إمکان العمل بالنصّ 282

الدرس السابع و الثلاثون بعد المئة 289

معنی آخر للقیاس 289

الدرس الثامن و الثلاثون بعد المئة 297

تعریف القیاس 297

تعریف القیاس لغةً 297

تعریف القیاس اصطلاحاً 298

أرکان القیاس 304

الدرس التاسع و الثلاثون بعد المئة 311

بیان أرکان القیاس 311

المراد من الأصل 311

المراد من الفرع 313

نکتة دقیقة 314

المراد من العلّة 315

المراد من الحکم 316

ص:17

تنبیه 317

الدرس الأربعون بعد المئة 323

تعریف العلّة لغةً واصطلاحاً 323

الفرق بین علّة الحکم وحکمته 326

فی بعض تقسیمات العلّة 328

الدرس الحادی و الأربعون بعد المئة 335

شروط صحّة القیاس 335

الشرط الثانی 336

الشرط الثالث 337

الشرط الرابع 339

الشرط الخامس 340

خاتمة 341

الدرس الثانی و الأربعون بعد المئة 347

شروط العلّة 347

تنبیه 349

طرق معرفة العلّة 351

الدرس الثالث و الأربعون بعد المئة 359

القیاس الشرعی 359

تمهید 360

الطریق الأوّل من القسم الأوّل:النصّ 360

الطریق الثانی من القسم الأوّل:الإیماء و التنبیه 364

الدرس الرابع و الأربعون بعد المئة 371

القیاس الشرعی 371

القسم الثانی:الإجماع 371

المناقشة فی الإجماع 373

أنواع القیاس باعتبار حکم المعدّی 374

توضیح 375

ص:18

الدرس الخامس و الأربعون بعد المئة 381

القیاس الشرعی 381

القسم الثالث:الاستنباط 381

تنبیه 382

إثبات العلّة من طریق الاستنباط 383

طرق حذف الوصف غیر الصالح للعلیة 386

الدرس السادس و الأربعون بعد المئة 391

إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم 391

فی معنی المناسبة 391

هل المناسبة بذاتها مفیدة للعلیة 393

1.المناسب المؤثّر 395

الدرس السابع و الأربعون بعد المئة 401

الوصف المناسب وأقسامه 401

2.المناسب الملائم 401

3.المناسب الملغی 403

4.المناسب المرسل 403

تنبیه 404

تنقیح المناط 404

تذکرة 406

الفرق بین تنقیح المناط وتخریج المناط وتحقیق المناط 407

الدرس الثامن و الأربعون بعد المئة 413

أقسام الوصف المناسب وأقسام القیاس 413

تحقیق المناط 413

أقسام القیاس 415

القیاس الأولی 415

القیاس المساوی 415

القیاس الأدنی 416

ص:19

القیاس الجلی 417

القیاس الخفی 418

تبصرة 419

الدرس التاسع و الأربعون بعد المئة 425

تقسیمٌ آخر للقیاس 425

فی حجّیة القیاس المنصوص العلّة 426

الدرس الخمسون بعد المئة 435

قیاس الأولویة 435

هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قیاسیة أو لفظیة 440

الدرس الحادی و الخمسون بعد المئة 447

التعبّد بالقیاس الشرعی عقلاً 447

نسبة بدون استناد 451

الدرس الثانی و الخمسون بعد المئة 459

حجّیة القیاس 459

فی حجّیة القیاس 459

هل القیاس یوجب العلم؟461

الدرس الثالث و الخمسون بعد المئة 471

دلیل الکتاب 471

الآیة الاُولی 471

الآیة الثانیة 474

الآیة الثالثة 475

الآیة الرابعة 477

الدرس الرابع و الخمسون بعدالمئة 483

دلیل السنّة 483

حدیث معاذ بن جبل 483

الدرس الخامس و الخمسون بعدالمئة 495

دلیل السنّة 495

الأحادیث المُشعِرة باستعمال النبی صلی الله علیه و آله للقیاس 496

ص:20

الدرس السادس و الخمسون بعد المئة 505

دلیل الإجماع 505

الاستشکال علی الإجماع 508

الدرس السابع و الخمسون بعد المئة 517

بقیة الاستشکال علی الإجماع 517

تنبیه 521

الدرس الثامن و الخمسون بعد المئة 529

دلیل العقل 529

الوجه الأوّل:وحدة المناط تقتضی وحدة الحکم 530

الوجه الثانی:النصوص متناهیة و الوقائع غیر محدودة 533

الوجه الثالث:الفطرة السلیمة وبداءة العقول تقتضی العمل بالقیاس 536

الوجه الرابع:حصول الظنّ من القیاس و العمل به واجب 536

الدرس التاسع و الخمسون بعد المئة 543

القول فی ردّ القیاس 543

لیس فی الشرع دلیلٌ یجوّز استعمال القیاس 544

إجماع الإمامیة بل ضرورة المذهب علی ترک العمل بالقیاس 544

الأخبار الکثیرة المتواترة علی عدم جواز العمل بالقیاس 547

روایات النبی صلی الله علیه و آله فی ردّ القیاس 548

نصوص أهل البیت علیهم السّلام فی ردّ القیاس 549

الدرس الستون بعد المئة 557

إشارات وتنبیهات حول القیاس 557

التنبیه الأوّل 557

التنبیه الثانی 561

التنبیه الثالث 563

التنبیه الرابع 563

ص:21

ص:22

المبحث الثالث:الإجماع

اشارة

ص:23

ص:24

الدرس الثالث عشر بعد المئة

تعریف الإجماع

الإجماع فی اللغة

قال الرازی فی المحصول:الإجماع یقال بالاشتراک علی معنیین:

أحدهما:العزم،قال الله تعالی: فَأَجْمِعُوا أَمْرَکُمْ . (1)

وقال علیه الصلاة و السلام:لا صیام لمن لم یجمع الصیام من اللیل. (2)

ثانیهما:الاتّفاق،یقال:أجمع الرجل إذا صار ذا جمع،کما یقال:ألْبَنَ وأَتْمَرَ إذا صار ذا لبن وذا تمر،فقولنا:أجمعوا علی کذا أی صاروا ذوی جمع علیه. (3)

وقال الطبرسی:یقال:أجمعت الأمر،وجمعت الأمر،وأجمعت علی الأمر،أی:عزمت علیه.

ص:25


1- (1) .یونس:71.
2- (2) .سنن أبی داود:451/2 ح2454 باب النیة فی الصیام؛سنن الترمذی:625 ح730 باب ما جاء لا صیام لمن لم یعزم من اللیل.ولفظ الحدیث عندما،هو:«من لم یجمع الصیام قبل الفجر،فلاصیام له».و أمّا ما أورده الرازی،فهو محکی قول حفصة.
3- (3) .المحصول:768/3-769؛فواتح الرحموت:394/2؛شرح التلویح:89/2.

قال المؤرج (1):أجمعت الأمر أفصح من أجمعت علیه.

وقال أبو الهیثم (2):أجمع أمره إذا جعله جمعاً بعدما کان متفرِّقاً. (3)

وقال ابن فارس فی المقاییس:أجمعت علی الأمر إجماعاً وأجمعته.نعم،تعدیتُهُ بنفسه أفصح. (4)

وقال الفیومی:أجمعت الأمر وأجمعت علیه،یتعدّی بنفسه وبالحرف عزمت علیه،وفی حدیث:«من لم یجمع الصیام قبل الفجر فلا صیام له».أی:من لم یعزم علیه فینویه.وأجمعوا علی الأمر اتّفقوا علیه. (5)

ص:26


1- (1) .المؤرج:هو مُؤَرَّج-وقیل:مرثد-بن عمرو بن الحارث السدوسی،أبو فَید النحوی البصری.أخذ العربیة عن الخلیل بن أحمد،وروی الحدیث عن شعبة.کان الغالب علیه اللغة و الشعر.له:کتاب الأنواء؛غریب القرآن؛کتاب المعانی؛جماهیر القبائل.رحل مع المأمون إلی خراسان،وسکن مرو.ثم قدم نیسابور فأخذ عنه مشایخها.توفی بالبصرة سنة 195هعلی الأرجح.راجع:فهرست الندیم:53-54 تحقیق رضا تجدد؛تاریخ بغداد:257/13 رقم7211؛الإکمال لابن ماکولا:72/7؛وفیات الأعیان:304/5.
2- (2) .أبوالهیثم:هو أبوالهیثم الرازی،أحد أئمة العربیة-بارع فی الأدب.له:الشامل فی اللغة؛المعانی(زیادات معانی القرآن)؛الأنواء.توفی سنة276ه.والغریب أنّه لم یعرف بأکثر من هذا،رغم أنّه إمام!!فلم تذکره مصادر هذا الفن،عدا بغیة الوعاة للسیوطی(ت911ه):329/2 رقم 2105،والذی لم یعرف حتی اسمه،سوی تاریخ وفاته،وأنّه:«کان إماماً لغویاً،أدرک العلماء وأخذ عنهم،وتصدّر بالری للإفادة». وهکذا تحدّث عنه أقدم من ذکره،و هو:أبوالفرج محمد بن إسحاق الندیم(ت380ه)فی الفهرست:86،فقال بعد کنیته:«یحکی عنه السکری،لا نعلم من أمره غیر هذا». وما فی نزهة الألباء للأنباری:70 من أنّ وفاته 226ه،فبعید عن الواقع.والله العالم.راجع تاریخ الإسلام للذهبی:499/20.وراجع أیضاً:تهذیب اللغة للأزهری:23/1 ففیه مستند استبعاد الوفاة.
3- (3) .مجمع البیان:123/5.
4- (4) .راجع:البحر المحیط:486/3؛إرشاد الفحول:165/1.
5- (5) .المصباح المنیر:133.

والفرق بین المعنی الثانی و الأوّل هو أنّ الأوّل،أی:العزم،یطلق علی عزم الواحد،والثانی،أی:الاتّفاق،لا بدّ فیه من متعدّد.ولکن،کلاهما مأخوذان من الجمع؛لأنّ العزم أیضاً فیه الجمع إذ العزم عبارة عن جمع الخواطر،والاتّفاق فیه جمع الآراء.

قال الفاضل القمّی:الإجماع لغة:العزم والاتّفاق (1).

الإجماع فی الاصطلاح

والمعتبر فی هذا الباب(اصول الفقه)إجماع أهل الرأی والاجتهاد،فلا یعتبر بقول العوام،والمتکلّم،والمحدّث الذی لا بصیرة له فی اصول الفقه. (2)

والإجماع عبارة عن:اتّفاق المجتهدین من امّة محمّد علیه الصلاة و السلام فی عصر علی حکم شرعی. (3)

وقیل فی تعریفه:اتّفاق أهل الحلّ و العقد من امّة محمّد صلی الله علیه و آله علی أمر من الاُمور. (4)

وقال الغزالی،هو:اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة. (5)

**قال فی معالم الاُصول:هو اتّفاق من یعتبر قوله من الاُمّة فی الفتاوی الشرعیة علی أمر من الاُمور الدینیة. (6)

ص:27


1- (1) .قوانین الاُصول:346.وراجع:معارج الاُصول:125؛مفاتیح الاُصول:494؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:255؛معالم الاُصول:239.
2- (2) .اُصول الشاشی:79.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:490/1؛فواتح الرحموت:394/2؛شرح التلویح:88/2-89؛الإحکام:168/1؛الوجیز:179؛تمهید القواعد للشهید الثانی:251؛اُصول الفقه:271؛اُصول الجصّاص:133/2.
4- (4) .شرح المعالم:54/2؛المحصول:770/3؛إرشاد الفحول:165/1؛البحر المحیط:487/3.
5- (5) .المستصفی:505/1.وراجع:نزهة الخاطر:225؛روضة الناظر:82؛المهذّب:845/2؛اُصول الفقه الإسلامی:490/1.
6- (6) .معالم الاُصول:239.وراجع:معارج الاُصول:125؛مفاتیح الاُصول:494.

وقال الشیخ محمّد بن علی الجرجانی الغروی فی شرح المبادئ:الإجماع فی اصطلاح فقهاء أهل البیت علیهم السّلام،هو:اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله علی وجه یشتمل علی قول المعصوم علیه السّلام. (1)

وقال فی الوافیة هو:اتّفاق جمع یعلم به أنّ المتّفق علیه صادر عن رئیس الاُمّة وسیدها وسنامها صلوات الله علیه. (2)

والصواب أن یعرَّف:أنّه عبارة عن اتّفاق جماعة علی حکم دینی یقطع بأنّ المعصوم أحدهم لا بعینه أو یکشف عن قول المعصوم علیه السّلام.وتعریف الجرجانی هو الأخصر و الأجمع.

*** (3)وعرّفه ابن المرتضی بأنّه عبارة عن:اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله فی عصر علی أمر. (4)

کما قال صاحب الفصول:فالصواب أن یعرّف الإجماع علی قول من یعتبر دخول المعصوم علیه السّلام فی المتّفقین علی وجه لا یعرف نسبه بأنّه:اتّفاق جماعة یعتبر قولهم فی الفتاوی الشرعیة علی حکم دینی بحیث یقطع بدخول المعصوم فیهم لا علی التعیین ولو فی الجملة. (5)

هدایة

کما رأیت اختلفت التعبیرات و التعاریف فی بیان المعنی الاصطلاحی للإجماع،لکن اتّفقوا علی دلالته علی الاتّفاق،وأیضاً وقع الخلاف فی متعلّق الاتّفاق،هل هو اتّفاق مطلق الاُمّة،أو خصوص المجتهدین منهم فی عصر واحد،أو جمیع الأعصار،

ص:28


1- (1) .راجع:فرائد الاُصول:184/1-185.
2- (2) .الوافیة:151.وراجع:قوانین الاُصول:349؛رسالة الإجماع للوحید البهبهانی:269.
3- (3) .هذه العلامة للزیدیة.أمّا النجمتان فعلامة للشیعة الإمامیة.و أمّا النجمة الواحدة فهی لبقیة المذاهب الاُخر،کما اشیر إلیها فی أول الأجزاء.
4- (4) .منهاج الوصول:591.
5- (5) .الفصول الغرویة:243.

أو اتّفاق أهل الحرمین(مکّة و المدینة)، (1)أو اتّفاق الخلفاء الأربعة،أو اتّفاق أهل المدینة،وغیرها من التعابیر المذکورة فی المطوّلات؟نعم،مهما اختلفت التعبیرات،إلاّ التعبیر باتّفاق الاُمّة،فإنّها ترمی إلی معنی جامع بینها،و هو:اتّفاق جماعة لاتّفاقهم شأن فی إثبات الحکم الشرعی،وعلی هذا استثنوا من المسلمین عوامهم؛لأنّهم لا شأن لآرائهم فی استکشاف الحکم الشرعی،إذ هم للعلماء تبع وللمجتهدین وأهل الحلّ و العقد مقلّد،ولذلک لا نری وجهاً للإشکال علی تعاریفهم نقضاً وإبراماً.

وحُکی عن النظّام أنّه(أی:الإجماع)قول قامت حجّته،و إن کان قولَ واحدٍ. (2)

واُورد علیه:إنّه علی خلاف اللّغة و العرف،لکنّه سوّاه علی مذهبه،إذ لم یر الإجماع حجّة. (3)

لکن،نقل الزرکشی عن بعض أنّه قال:الصحیح عن النظّام أنّه یقول بتصوّر الإجماع،وأنّه حجّة.ولکن،فسّره بکلّ قول قامت حجّته،و إن کان قولَ واحدٍ.ویسمّی بذلک قول النبی صلی الله علیه و آله إجماعاً،ومنع الحجّیة عن الإجماع الذی نفسّره نحن بما نفسّره.

وقیل:النزاع بین النظّام وسائر العلماء لفظی. (4)

وأیضاً حُکی عن مالک:إجماع أهل المدینة وحدها حجّة.قال الشوکانی:إجماع أهل المدینة علی انفرادهم لیس بحجّة عند الجمهور؛لأنّهم بعض الاُمّة.وقال مالک:إذا أجمعوا لم یعتدّ بخلاف غیرهم،وقال الجرجانی:إنّما أراد مالک الفقهاء السبعة وحدهم،ثمّ نقض الشوکانی علی مالک،بأنّه خالف إجماع أهل المدینة فی الموطّأ فی باب العیب فی الرقیق. (5)

ص:29


1- (1) .راجع:المستصفی:544/1،وغیره.
2- (2) .راجع:المستصفی:505/1؛الإحکام:167/1.
3- (3) .راجع:المستصفی:505/1؛الإحکام:167/1؛البحر المحیط:490/3.
4- (4) .راجع:البحر المحیط:490/3-491.
5- (5) .إرشاد الفحول:185/1-186.وراجع:اُصول الجصّاص:149/2؛المستصفی:544/1.

ونقل عن کتاب اختلاف الحدیث للشافعی أنّه قال بعض أصحابنا:إنّه(أی:إجماع أهل المدینة)حجّة،وما سمعت أحداً ذکر قول مالک إلاّ عابه،و إنّ ذلک عندی معیب. (1)ونقل اتّفاق الأکثر علی أنّ إجماع أهل المدینة وحدهم لا یکون حجّة علی من خالفهم فی حالة انعقاد إجماعهم،خلافاً لمالک. (2)

والمهمّ فی هذا المقام أن یبحث عن اعتباره بعنوان أصل من الاُصول فی مقابل سائر الأدلّة علی الحکم الشرعی،یعنی فی مقابل الکتاب و السنّة ودلیل العقل،ثمّ البحث عن حجّیته.

تبصرة

أرکان الإجماع علی تعاریف علماء أهل السنة عبارة عن:

1.أن یکون الذین حصل منهم الاتّفاق علی حکم الواقعة عدداً من المجتهدین،فلا یتحقّق الإجماع بمجتهد واحد.

2.أن یتحقّق الاتّفاق من جمیع المجتهدین علی الحکم،فلو اتّفق أکثرهم لا ینعقد الإجماع مهما قلَّ عدد المخالفین وکثُر عدد المتّفقین.

3.أن یتوافر الاتّفاق من جمیع المجتهدین فی وقت الحادثة من مختلف الأمصار الإسلامیة،فلا ینعقد إجماع فی بلد أو إقلیم کالحجاز أو العراق أو إیران فحسب.

4.أن یکون الاتّفاق بإبداء کلّ واحد من المجتهدین رأیه صریحاً فی الحادثة أو الحکم الشرعی سواء أکان الإبداء قولاً،أم فعلاً،أم بإبداء رأیهم مجتمعین.

و هذه الأرکان کلّها لیست إلاّ شروطاً أو ضوابط فی تحقّق الإجماع والاتّفاق. (3)

نعم،قال الغزالی:له رکنان:المجمعون،ونفس الإجماع. (4)

ص:30


1- (1) .راجع:البحر المحیط:528/3؛إرشاد الفحول:185186/1.
2- (2) .راجع:الإحکام:206/1.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:537/1؛اُصول الفقه للخضری:271.
4- (4) .المستصفی:525/1.

هل الإجماع أصلٌ مستقلّ؟

قد وقع الخلاف بین الأعیان فی أنّ الإجماع هل له کیانٌ مستقلّ فی الحکایة عن الحکم الواقعی،بمعنی:إنّه لا یحتاج فی الحکایة إلی توسّط الاُصول الثلاثة:الکتاب أو السنّة أو العقل؛لأنّه مستقلّ وفی مقابلها،أو لا استقلال له،بل یحتاج إلی مستند شرعی،و هو الاُصول الثلاثة المذکورة.

*قال الآمدی:اتّفق الکلّ علی أنّ الاُمّة لا تجتمع علی الحکم إلاّ عن مأخذ ومستند یوجب اجتماعها،خلافاً لطائفة شاذّة فإنّهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفیق لا توقیف بأنْ یوفّقهم الله تعالی لاختیار الصواب من غیر مستند،ثمّ ذکر أدلّة النافین و المثبتین إلی أن قال:فالواجب أن یقال:إنّهم إن أجمعوا عن غیر دلیل،فلا یکون إجماعهم إلاّ حقّاً ضرورة استحالة الخطأ علیهم،و أمّا أن یقال:إنّه لا یتصوّر إجماعهم إلاّ عن دلیل أو یتصوّر،فذلک ممّا قد ظهر ضعف المأخذ فیه من الجانبین. (1)

وقال الخضری:لا ینعقد الإجماع إلاّ عن مستند؛لأنّ الفتوی بدون المستند خطأ؛لکونه قولاً فی الدّین بغیر علم،والاُمّة معصومة عن الخطأ،ولقائل أن یقول:إنّما یکون خطأ عند عدم الإجماع علیه،أمّا بعد الإجماع فلا؛لأنّ الإجماع حقّ. (2)

وقال الزرکشی أیضاً فی البحر:ولا بدّ له من مستند؛لأنّ أهل الإجماع لیست لهم رتبة الاستقلال بإثبات الأحکام،و إنّما یثبتونها نظراً إلی أدلّتها ومأخذها،فوجب أن یکون عن مستند؛لأنّه لو انعقد من غیر مستند لاقتضی إثبات الشرع بعد النبی،و هو باطل.

وحکی عبد الجبّار عن قوم أنّه یجوز أن یحصل بالبخت و المصادفة،بأن یوفّقهم الله

ص:31


1- (1) .الإحکام:221/1-224.وراجع:اُصول الفقه الإسلامی:558560/1؛فواتح الرحموت:439/2؛شرح التلویح علی التوضیح:110/2؛المهذّب:900902/2.
2- (2) .اُصول الفقه:282.وراجع:الوجیز:188.

لاختیار الصواب من غیر مستند،و هو ضعیف لا یجوز القول فی دین الله تعالی بغیر دلیل.

وذکر الآمدی:إنّ الخلاف فی الجواز لا فی الوقوع، (1)ولیس کما قال،إذ الخصوم ذکروا صوراً وادّعوا وقوع الإجماع فیها من غیر مستند.

وحُکی عن إمام الحرمین أنّ الشافعی قال:لا ینعقد الإجماع بغیر مستند. (2)

***قال ابن المرتضی:قال الأکثر من العلماء ویقطع أنّه لا بدّ لهم(أی للمجمعین)من مستند،أی:إذا أجمعوا علی حکم فلا بدّ لهم من طریق إلیه:أمّا دلالة قاطعة،وهی النصّ المتواتر،أو القیاس القطعی الذی علم أصله،وعلّته وفرعه بدلیل قاطع أو ضرورة،أو یکون مستندهم أمارة ظنّیة کظاهر آیة أو نصّ آحادی. (3)

**قال المحقّق الحلّی:الإجماع لا یصدر عن مستند ظنّی؛لأنّ معتمد المعصوم علیه السّلام الدلیل القطعی،لا الحجّة الظنّیة.نعم،یجوز أن تکون أقوال باقی الإمامیة مستندة إلی الظنّ،کخبر الواحد منضمّاً إلی قوله الصادر عن الدلالة. (4)

والتحقیق أن یقال:إنّ المجمعین إمّا أن یکون رأیهم الذی اتّفقوا علیه بغیر مستند ودلیل أو عن مستند ودلیل،والأوّل لا یصحّ؛لأنّ ذلک مستحیل عادةً فی حقّهم،ولو جاز ذلک فی حقّهم فلا تبقی قیمة لآرائهم حتّی یستکشف منها الحقّ،فیتعین الثانی،و هو أن یکون لهم مدرک خفی علینا وظهرَ لهم.

ص:32


1- (1) .خلط الزرکشی علی الظاهر بین مبحث لزوم انعقاد الإجماع عن المستند وبین مبحث جواز انعقاده عن الاجتهاد و القیاس،إذ الآمدی صرّح فی الأوّل بالبحث عن الوقوع حیث قال:المسلک الثانی استدلالهم بالواقع،و هو أنّهم قالوا،قد انعقد الإجماع من غیر دلیل کإجماعهم علی اجرة الحمّام وناصب الحباب(جمع حُبّ:الجرّة الضخمة)علی الطریق،واُجرة الحلاّق،وأخذ الخراج،ونحوه.وقال فی المسألة الثامنة عشرة:القائلون بأنّه لا ینعقد الإجماع إلاّ عن مستند اختلفوا فی جواز انعقاده عن الاجتهاد و القیاس،فجوّزه الأکثرون،لکن اختلفوا فی الوقوع نفیاً وإثباتاً.راجع:الإحکام:223/1-224.
2- (2) .البحر المحیط:499500/3.
3- (3) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:636.
4- (4) .معارج الاُصول:130.

الخلاصة

الإجماع فی اللّغة یقال بالاشتراک علی معنیین:العزم،ومنه قوله تعالی: فَأَجْمِعُوا أَمْرَکُمْ وثانیهما الاتّفاق،کما فی أجمع الرجل إذا صار ذا جمع.

قال الفیومی:أجمعت الأمر وأجمعت علیه،یتعدّی بنفسه وبالحرف،وقال ابن فارس:أجمعت علی الأمر إجماعاً وأجمعته.نعم،تَعدیتُهُ بنفسه أفصح.

والفرق بین المعنی الأوّل و الثانی هو أنّ الأوّل،أی:العزم،یطلق علی عزم الواحد،و أمّا الثانی،أی:الاتّفاق،فلا بدّ فیه من متعدّد.ولکن،کلاهما مأخوذان من الجمع؛لأنّ العزم أیضاً فیه الجمع،إذ العزم عبارة عن جمع الخواطر،والاتّفاق فیه جمع الآراء.

و أمّا الإجماع فی التعریف الاصطلاحی،فهو عبارة عن اتّفاق المجتهدین من امّة محمّد صلی الله علیه و آله فی عصر علی حکم شرعی.

قال الغزالی،هو:اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة.

وقال الشیخ محمّد بن علی الجرجانی:الإجماع فی اصطلاح فقهاء أهل البیت علیهم السّلام،هو:اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله علی وجه یشتمل علی قول المعصوم علیه السّلام.

اتّفق العلماء علی دلالة الإجماع علی الاتّفاق،ولکن الخلاف بینهم فی متعلّق الاتّفاق،هل هو اتّفاق مطلق الاُمّة،أو خصوص المجتهدین منهم فی عصر واحد،أو جمیع الأعصار،وغیرها من التعابیر المذکورة فی الکتب المطوّلة؟وکلّ التعابیر ترمی إلی معنی جامع بینها،و هو:اتّفاق جماعة لاتّفاقهم شأن فی إثبات الحکم الشرعی.

وأرکان الإجماع عبارة عن:أن یکون الذین حصل منهم الاتّفاق علی حکم الواقعة عدداً من المجتهدین،وأن یتحقّق الاتّفاق من جمیع المجتهدین علی الحکم،وأن یتوافر الاتّفاق من جمیع المجتهدین فی وقت الحادثة من مختلف الأمصار الإسلامیة،وأن یکون الاتّفاق بإبداء کلّ واحد من المجتهدین رأیه صریحاً فی الحادثة

ص:33

أو الحکم الشرعی سواء أکان الإبداء قولاً،أم فعلاً،أم بإبداء رأیهم مجتمعین.

قیل:هذه الأرکان کلّها لیست إلاّ شروطاً أو ضوابط فی تحقّق الإجماع والاتّفاق.

قد وقع الخلاف بین الأعیان فی أنّ الإجماع هل له کیانٌ مستقلّ فی الحکایة عن الحکم الواقعی،بمعنی:أنّه لا یحتاج فی الحکایة إلی توسّط الکتاب أو السنّة أو العقل أو لا استقلال له،بل یحتاج إلی مستند شرعی،و هو الاُصول الثلاثة المذکورة.

قال الآمدی:اتّفق الکلّ علی أنّ الاُمّة لا تجتمع علی الحکم إلاّ عن مأخذ ومستند یوجب اجتماعها.وقال الخضری:لا ینعقد الإجماع إلاّ عن مستند؛لأنّ الفتوی بدون المستند خطأ؛لکونه قولاً فی الدّین بغیر علم،والاُمّة معصومة عن الخطأ.وقال الزرکشی فی البحر:إنّ أهل الإجماع لیست لهم رتبة الاستقلال بإثبات الأحکام،و إنّما یثبتونها نظراً إلی أدلّتها ومأخذها،فوجب أن یکون عن مستند؛لأنّه لو انعقد من غیر مستند لاقتضی إثبات الشرع بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله،و هو باطل.وحکی عبد الجبّار عن قوم أنّه یجوز أن یحصل بالبخت و المصادفة،بأن یوفّقهم الله لاختیار الصواب من غیر مستند.وقال الشافعی:لا ینعقد الإجماع بغیر مستند.

وقال المحقّق الحلّی:الإجماع لا یصدر عن مستند ظنّی؛لأنّ معتمد المعصوم علیه السّلام الدلیل القطعی،لا الحجّة الظنّیة.نعم،یجوز أن تکون أقوال باقی الإمامیة مستندة إلی الظنّ،کخبر الواحد منضمّاً إلی قوله الصادر عن الدلالة.

والتحقیق أن یقال:إنّ المجمعین أمّا أن یکون رأیهم الذی اتّفقوا علیه بغیر مستند ودلیل أو عن مستند ودلیل،والأوّل لا یصحّ؛لأنّ ذلک مستحیل عادةً فی حقّهم،فیتعین الثانی،و هو أن یکون لهم مدرک خفی علینا وظهر لهم.

ص:34

الأسئلة

1.اُذکر المعنی اللّغوی للإجماع مع ذکر المثال.

2.ما هو الفرق بین المعانی اللّغویة؟

3.اُذکر تعریف الغزالی و الشیخ الجرجانی للإجماع.

4.بین موارد الاتّفاق و الخلاف فی تعریف الإجماع.

5.ما هو المعنی الجامع بین التعابیر المذکورة؟

6.ما هی أرکان الإجماع؟

7.لماذا یحتاج انعقاد الإجماع إلی مستند؟

8.لماذا لا یصدر الإجماع عن مستند ظنّی؟

9.لِمَ لا یصحّ الاتّفاق بغیر مستند ودلیل؟

ص:35

ص:36

الدرس الرابع عشر بعد المئة

إمکان الإجماع

*لا یخفی أنّ البحث عن إمکان الإجماع فرع لتعریفه،بأنّه اتّفاق مجتهدی امّة محمّد صلی الله علیه و آله بعد وفاته،أو اتّفاق امّة محمّد خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة.ویؤید التعریف الأوّل إیراد الآمدی علی تعریف الغزالی:«اتّفاق امّة محمّد خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة»،بقوله:إنّه مدخول من ثلاثة أوجه:

الأوّل:إنّ ما ذکره یشعر بعدم انعقاد الإجماع إلی یوم القیامة،فإنّ امّة محمّد صلی الله علیه و آله جملة من اتّبعه إلی یوم القیامة،ومن وجد فی بعض الأعصار منهم إنّما یعمّ بعض الاُمّة لا کلّها ولیس ذلک مذهباً له،ولا لمن اعترف بوجود الإجماع. (1)

وعلی هذا أضاف کثیر من الأعیان قید:فی عصر من الأعصار،فی تعریف الإجماع؛لئلاّ یرد علیهم الإیراد المذکور کما صرّح به الزرکشی،حیث قال:وقولنا:فی عصر من الأعصار لیرفع وهم من یتوهّم أنّ المراد بالمجتهدین من یوجد إلی یوم القیامة،و هذا التوهّم باطل،فإنّه یؤدّی إلی عدم تصوّر الإجماع،والمراد بالعصر من

ص:37


1- (1) .الإحکام:167/1-168.وراجع:کشف الأسرار:337/3.

کان من أهل الاجتهاد فی الوقت الذی حدثت فیه المسألة وظهر الکلام فیه،فهو من أهل ذلک العصر،ومن بلغ هذا بعد حدوثها فلیس من أهل ذلک العصر. (1)

الثانی:و هو أنّ الإجماع لا یتصوّر؛لأنّ اتّفاق من سیجیء لم یعلم بعد أنّه لا یطرد إن لم یکن فیهم مجتهد،ووقع اتّفاق من عدا المجتهد،فإنّه یصدق علیه اتّفاق الاُمّة ولیس إجماعاً. (2)

الثالث:أنّ هذا التعریف وما بمعناه غیر تامّ؛لأنّ اتّفاقهم علی الحکم الواحد مع انتشارهم فی الأقطار غیر ممکن عادةً،ولو اجیب بمنع کون الانتشار مانعاً مع جدّهم فی الطلب وبحثهم عن الأدلّة؛لأنّ الوقوف علی آرائهم وعقائدهم بحیث لا یشذّ واحد عنهم ولو کان فی البلدة البعیدة أو قریة غیر معروفة. (3)

لا بأس بتحقّق الإجماع إن عرّف باتّفاق مجتهدی امّة محمّد صلی الله علیه و آله بعد وفاته فی عصر من الأعصار علی أمر من الاُمور الدینیة.نعم،الإحاطة بتمام الأقوال و العقائد فی أقطار البلاد الإسلامیة فی الوقت الذی حدثت فیه المسألة إن لم تکن بمتعذّر تکون متعسّراً سیما فی القرون الماضیة مع عدم تمکّن الارتباط بین المسلمین،بحیث یحیطون علی تمام الأقطار إذ هم منتشرون فی الأقطار. (4)

قال الشوکانی:العلم باتّفاق الاُمّة لا یحصل إلاّ بعد معرفة کلّ واحد منهم،وذلک متعذّر قطعاً،ومَن ذلک الذی یعرف جمیع المجتهدین من الاُمّة فی الشرق و الغرب وسائر البلاد الإسلامیة؟فإنّ العمر یفنی دون مجرّد البلوغ إلی کلّ مکان من الأمکنة التی یسکنها أهل العلم فضلاً عن اختبار أحوالهم،ومعرفة من هو من أهل الإجماع

ص:38


1- (1) .البحر المحیط:487/3.وراجع:إرشاد الفحول:165/1؛الإحکام:168/1؛نزهة الخاطر:225.
2- (2) .راجع:فواتح الرحموت:394/2.
3- (3) .المصدر:395/2.
4- (4) .راجع:روضة الناظر:84؛نزهة الخاطر:236.

منهم،ومن لم یکن من أهله،ومعرفة کونه قال بذلک أو لم یقل به،والبحث عمّن هو خامل من أهل الاجتهاد بحیث لا یخفی علی الناقل فرد من أفرادهم،فإنّ ذلک قد یخفی علی الباحث فی المدینة الواحدة فضلاً عن الإقلیم الواحد،وفضلاً عن جمیع الأقالیم التی فیها أهل الإسلام،ومن أنصف من نفسه علم أنّه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب و العکس،فضلاً عن العلم بکلّ واحد منهم علی التفصیل،وبکیفیة مذهبه،وبما یقوله فی تلک المسألة بعینها.

وأیضاً قد یعمل بالتقیة،والخوف علی نفسه فی عدم إظهاره الخلاف،کما أنّ ذلک معلوم فی کلّ طائفة من طوائف أهل الإسلام،فإنّهم قد یعتقدون شیئاً إذا خالفهم فیه مخالف خشی علی نفسه من مضرّتهم.وعلی تقدیر إمکان معرفة ما عند کلّ واحد من أهل بلد،وإجماعهم علی أمر،فیمکن أن یرجعوا عنه أو یرجع بعضهم قبل أن یجمع علیه أهل بلدة اخری.

بل لو فرضنا اجتماعهم بأسرهم فی موضع واحد،ورفعوا أصواتهم دفعةً واحدة قائلین:قد اتّفقنا علی الحکم الفلانی،فإنّ هذا مع امتناعه،لا یفید العلم بالإجماع؛لاحتمال أن یکون بعضهم مخالفاً فیه،وسکت تقیةً وخوفاً علی نفسه. (1)

إلی هنا،وفی ضوء ما ذُکر،قال أحمد بن حنبل:من ادّعی وجود الإجماع،فهو کاذب. (2)

وفصّل الجوینی بین کلیات الدِّین،فلا یمتنع الإجماع علیها،وبین المسائل المظنونة،فلا یتصوّر الإجماع علیها. (3)

ص:39


1- (1) .إرشاد الفحول:167/1.وراجع:المهذّب:848/2؛الوجیز:189190؛شرح المعالم:95/2 و63/1؛اُصول الجصّاص:127/2؛فواتح الرحموت:395396/2؛اُصول الفقه:283284؛اُصول الفقه الإسلامی:568570/1.
2- (2) .راجع:إرشاد الفحول:168/1.
3- (3) .المصدر.

واُورد علی تفصیل الجوینی بأنّ النزاع إنّما هو فی المسائل التی دلیلها الإجماع،وکلیات الدِّین معلومة بالأدلّة القطعیة من الکتاب و السنّة.

لکن،احتجّ جمهور علماء أهل السنة بأنّ ما قاله المانعون مجرّد تشکیک بأمر ممکن الوقوع،فلا یلتفت إلیه،ودلیل إمکان وقوعه أنّه وقع فی عصر الصحابة،ونقلت لنا عنهم إجماعات کثیرة،کإجماعهم علی أنّ للجدّة السُّدس فی المیراث،وإجماعهم علی بطلان زواج المسلمة بغیر المسلم،وإجماعهم علی عدم قسمة الأراضی المفتوحة(عنوة)علی الفاتحین،وإجماعهم علی أنّ الابن الصلبی یحجب ابن الابن إلی غیر ذلک من الإجماعات الکثیرة المنقولة فی الکتب الفقهیة وغیرها.

قال زیدان:والحقّ فی هذا أن یقال:إنّ عصور السلف تنقسم إلی عصرین:الأوّل:عصر الصحابة.والثانی:عصر ما بعدهم.ففی عصر الصحابة کان المجتهدون قلیلین ومعروفین بأعیانهم،وموجودین کلّهم تقریباً فی المدینة،أو فی مکان یسهل الوصول إلیهم ومعرفة آرائهم،ففی هذا العصر یسهل جدّاً انعقاد الإجماع،و قد وقع فعلاً ونقلت إلینا إجماعات کثیرة عنهم.

أمّا بعد عصر الصحابة،فمن العسیر جدّاً التسلیم بانعقاد الإجماع؛لتفرّق الفقهاء فی البلاد النائیة وأمصار المسلمین العدیدة،وکثرة عددهم،واختلاف مشاربهم.نعم،أقصی ما یمکن أن یقال:إنّ أحکاماً اجتهادیة فی بعض المسائل وجدت واشتهرت ولم یعرف لها مخالف،ولکن عدم معرفة المخالف-والحال کما وصفنا-لا یدلّ علی عدم وجود المخالف،وبالتالی لا نستطیع اعتباره إجماعاً،بل ولا إجماعاً سکوتیاً. (1)

وقال النملة:لا خلاف بین العلماء فی إمکان الإجماع عقلاً؛لأنّ اتّفاق المجتهدین فی عصر علی حکم لا یمتنع عقلاً،ولا خلاف فی تصوّره وإمکانه فی ضروریات

ص:40


1- (1) .الوجیز:191-192.وراجع:الإحکام:169/1؛المستصفی:506/1؛اُصول الجصّاص:121124/2؛فواتح الرحموت:397/2؛شرح المعالم:6264/1.

الأحکام،و أمّا فی غیر ذلک فقد اختلف العلماء فی إمکانه علی مذهبین:الأوّل:إنّ الإجماع ممکن،و هو مذهب جمهور العلماء،و هو الصحیح للأدلّة التالیة:

الدلیل الأوّل:الوقوع،حیث إنّ الإجماع وقع فعلاً،ولا أدلّ علی الإمکان من الوقوع وأمثلة الوقوع کثیرة.

الدلیل الثانی:إنّ الأصل الإمکان،فیستمرّ هذا الأصل،ویتمسّک به؛لعدم وجود ما یمنعنا من استصحابه.

الدلیل الثالث:إنّه کما لا یمتنع اتّفاقهم علی الأکل و الشرب،فکذلک لا یمتنع اتّفاقهم علی حکم معین لحادثة حدثت فی عصرهم ولا فرق،والجامع هو توافق الدواعی لکلّ منهما.

نعم،إذا کثر علماء العصر،بحیث یتعذّر أو یتعسّر الاطّلاع علیهم حسّاً حتّی یقطع بعموم وجود فرد آخر سواهم ولو فی أقصی البلاد الإسلامیة،لکن هذا الأمر لا یقدح علی مبنی علماء الإمامیة فی حجّیة الإجماع،و هو الکشف عن قول الإمام أو رأیه علیه السّلام؛لأنّه یمکن الاطّلاع و الإحاطة علی رأیه،فیدّعی الإجماع.

**قال المحقّق الشیخ أسد الله الکاظمی الدزفولی:تعذّر الإحاطة فی زمن الغیبة بجمیع الأقوال المنتشرة،فیتعذّر العلم بالإجماع،حیث یتوقّف علیها؛وذلک لأنّ من المعلوم أنّه لا سبیل إلی معرفة آراء الناس وأقوال العلماء من جهة العقل منفرداً ولا سیما مع ملاحظة عدم عصمتهم من الفسق و الکفر،وخفاء ما فی النفس،ونفس الأمر.

ثمّ نقل عن الشیخ المفید بأنّه قال:لا یمکن العلم بتحقّق الإجماع من علماء العصر بأجمعهم فضلاً عن غیرهم إلاّ إذا فرض وجود سلطان قادر ینفذ عزائمه فی أهل خطّة الإسلام أمّا باحتوائه واستیلائه علیهم،أو بعلوّ قدره الموجب لجریان جوازم أوامره وإراداته وکان یعرفهم جمیعاً بنفسه أو بمعرّف،فیجمعهم فی صعید واحد،ویسألهم ویجیبونه مجتمعین بلا تقیة وخوف علی وجه ینکشف به ما فی ضمائرهم،ویتبین أنّه

ص:41

الثابت المستقرّ عن اجتهاد معتدّ به فی سرائرهم،وأنّه لم یرجع أحد من أوائلهم فی رأیه خاصّة أو فی قوله أیضاً بلا فصل،أو معه قبل تحقّق الإجماع بتلاحق فتاوی أواخرهم،و هذا مجرّد فرض. (1)

هدایة

وفی ضوء ما ذکرنا آنفاً إذا قلنا:إنّ الإجماع عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ و العقد فی عصر من الأعصار فی الحکم الشرعی،أو ما یقرب هذا التعریف،فلا ریب فی إمکانه؛لأنّ الوقوع دلیل علیه،ضرورة وجود الاتّفاق علی کثیر من مسائل الفقه؛ولأنّ ما قاله المانعون مجرّد تشکیک بأمر ممکن الوقوع،بل محقّق الوقوع،إذ وقع الإجماع فی عصر الصحابة و التابعین،ونقلت لنا عنهم إجماعات کثیرة،فراجع الکتب المطوّلة.فانعقاد الإجماع فیما مضی دلیلٌ قاطع علی وقوعه،فکیف یقال:إنّه لم یقع ولن یقع؟ (2)

***وقال ابن المرتضی من الزیدیة:إنّ الجماعة الکبیرة لا یمتنع إجماعها علی رأی إذا کان ثَمَّ ما یقتضی ذلک فی حقّهم،ألا تری أنّ النصاری علی کثرتهم مجمعون علی صلب المسیح علیه السّلام؛لِشُبَه طرق علیهم،وکذلک کلّ مذهب باطل مع کثرتهم یجمعون علیه لشُبَه انتشرت فیهم أو تقلید،وکذلک العدلیة لا یحصرهم عدد ولا بلد مع اتّفاقهم علی العدل،ونظائر هذه کثیرة،فما أجابوا به،فجوابنا مثله. (3)

وقیل:یجوز وقوع الإجماع عن أمارة،و هو لیس بمستحیل،ولکنه لا یقع؛لأنّ الاجتهاد مختلف فیه،فمنهم من أجازه،ومنهم من منعه،فکیف یصحّ أن یقال إنّهم أجمعوا؟

ص:42


1- (1) .کشف القناع:37.وراجع:الذریعة إلی اصول الشریعة:621623/2؛قوانین الاُصول:366-367.
2- (2) .قوانین الاُصول:366.وراجع:مفاتیح الاُصول:495.وقال الفاضل القمّی:ونمنع استحالة الاتّفاق علی الظنّ سیما إذا کان جلیاً واضح الدلالة معلوم الحجّیة،مع أنّا سنثبت إمکان العلم به،فکیف یمکن التشکیک فی إمکانه؟
3- (3) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:637.

وقیل:یجوز فی الأمارة الجلیة أن یصدر عنها الإجماع،و إن لم تکن جلیة،فلا یقع الإجماع علیها بالقیاس الخفی،و هذا القول لبعض أصحاب الشافعی،حجّتهم فی ذلک:منع توارد خواطرهم مع تنائی دیارهم،وکثرة عددهم علی استنباط الأمارة الخفیة،والإجماع لأجلها.

وقیل فی جوابه:إنّ ذلک غیر ممتنع،کما ذکرنا آنفاً.

ص:43

الخلاصة

إنّ البحث عن إمکان الإجماع فرع لتعریفه،بأنّه اتّفاق مجتهدی امّة محمّد صلی الله علیه و آله بعد وفاته،أو اتّفاق امّة محمّد خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة.ویؤید التعریف الأوّل إیراد الآمدی علی تعریف الغزالی،بأنّه:«اتّفاق امّة محمّد خاصّة علی أمر من الاُمور الدینیة»،بقوله:إنّه مدخول من ثلاثة أوجه:

الأوّل:إنّ ما ذکره یشعر بعدم انعقاد الإجماع إلی یوم القیامة،فإنّ جملة من اتّبعه بعض الاُمّة لا کلّها،إذ من وجد فی بعض الأعصار یشمل بعض الاُمّة،ومعلوم أنّ هذا لیس مذهباً له،ولا لمن اعترف بوجود الإجماع.وعلی هذا أضاف کثیر من الأعیان قید:فی عصر من الأعصار،فی تعریف الإجماع.

والثانی:إنّ الإجماع لا یتصوّر؛لأنّ اتّفاق من سیجیء لم یعلم بعد.

والثالث:هذا التعریف وما بمعناه غیر تامّ؛لأنّ اتّفاقهم علی الحکم الواحد مع انتشارهم فی الأقطار غیر ممکن عادةً.

قال الشوکانی:العلم باتّفاق الاُمّة لا یحصل إلاّ بعد معرفة کلّ واحد منهم،وذلک متعذّر قطعاً،فإنّه لا یمکن العلم بکیفیة مذهبه،وبما یقوله فی تلک المسألة بعینها،إذ یحتمل أنّه قد یعمل بالتقیة و الخوف علی نفسه فی عدم إظهاره الخلاف،کما أنّ ذلک معلوم فی کلّ طائفة من طوائف أهل الإسلام.

وفی ضوء ما ذکر،قال أحمد بن حنبل:من ادّعی وجود الإجماع،فهو کاذب.

لکنّ جمهور علماء أهل السنة احتجوا بأنّ ما قاله المانعون مجرّد تشکیک بأمر ممکن الوقوع،فلا یلتفت إلیه،ودلیل إمکان وقوعه،أنّه وقع فی عصر الصحابة،ونقلت لنا عنهم إجماعات کثیرة.قال زیدان:والحقّ فی هذا أن یقال:إنّ عصور السلف تنقسم إلی عصرین:الأوّل:عصر الصحابة.والثانی:عصر ما بعدهم.ففی عصر الصحابة کان المجتهدون قلیلین

ص:44

ومعروفین بأعیانهم،وموجودین کلّهم تقریباً فی المدینة أو فی مکان یسهل الوصول إلیهم.ففی هذا العصر یسهل جدّاً انعقاد الإجماع،أمّا بعد عصر الصحابة،فمن العسیر جدّاً انعقاد الإجماع؛لتفرّق الفقهاء فی البلاد النائیة وأمصار المسلمین العدیدة،وکثرة عددهم مع اختلاف مشاربهم.نعم،أقصی ما یمکن أن یقال:إنّ أحکاماً اجتهادیة فی بعض المسائل وجدت واشتهرت ولم یعرف لها مخالف،ولکنّ عدم معرفة المخالف لا یدلّ علی عدم وجود المخالف.

وقال النملة:لا خلاف بین العلماء فی إمکان الإجماع عقلاً؛لأنّ اتّفاق المجتهدین فی عصر علی حکم لا یمتنع عقلاً،ولا خلاف فی تصوّره وإمکانه فی ضروریات الأحکام،و أمّا فی غیر ذلک فقد اختلف العلماء فی إمکانه علی مذهبین:الأوّل:و هو مذهب جمهور العلماء أنّه ممکن،و هو الصحیح.

وقال الشیخ أسد الله الکاظمی:تعذّر الإحاطة فی زمن الغیبة بجمیع الأقوال المنتشرة فیتعذّر العلم بالإجماع،حیث یتوقّف علیها؛وذلک لأنّ من المعلوم أنّه لا سبیل إلی معرفة آراء الناس وأقوال العلماء من جهة العقل منفرداً مع عدم عصمتهم من الفسق و الکفر،وخفاء ما فی النفس.ونقل عن الشیخ المفید بأنّه قال:لا یمکن العلم بتحقّق الإجماع من علماء العصر بأجمعهم.

إذا قلنا:إنّ الإجماع عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ و العقد فی عصر من الأعصار فی الحکم الشرعی،أو ما یقرب هذا التعریف،فلا ریب فی إمکانه،إذ الوقوع دلیلٌ علیه ضرورة وجود الاتّفاق علی کثیر من مسائل الفقه؛ولأنّ ما قاله المانعون مجرّد تشکیک بأمر ممکن الوقوع بل محقّق الوقوع.

نعم،إذا کثر علماء العصر فی البلاد النائیة،بحیث یتعذّر أو یتعسّر الاطّلاع علیهم حسّاً حتّی یقطع بعدم وجود فرد آخر سواهم،فعلی مبنی علماء الإمامیة فی حجّیة الإجماع،و هو الکشف عن قول المعصوم أو رأیه،یمکن الاطّلاع و الإحاطة علی رأیهم الکاشف.

وقال ابن المرتضی:إنّ الجماعة الکبیرة لا یمتنع إجماعها علی رأی إذا کان ثَمَّ ما یقتضی ذلک فی حقّهم،ألا تری أنّ النصاری علی کثرتهم مجتمعون علی صلب المسیح.

ص:45

الأسئلة

1.اُذکر الإیراد الأوّل الذی اورد علی تعریف الغزالی.

2.لماذا یکون تعریف الغزالی غیر تامّ؟

3.لماذا یکون العلم باتّفاق الاُمّة متعذّراً أو متعسّراً؟

4.لأی شیء قال أحمد بن حنبل:«من ادّعی وجود الإجماع فهو کاذب»؟

5.اُذکر رأی جمهور علماء أهل السنة فی إمکان الإجماع.

6.اُذکر نظریة المحقّق عبد الکریم زیدان فی إمکان الإجماع.

7.اُذکر بعض أدلّة الاُستاذ النملة فی إمکان الإجماع.

8.ما هو رأی الشیخ أسد الله الکاظمی فی إمکان الإجماع؟

9.لماذا لا ریب فی إمکان الإجماع إذا عرّف بأنّه عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ و العقد فی عصر من الأعصار فی الحکم الشرعی؟

10.لماذا لا یقدح تعذّر أو تعسّر الاطّلاع علی رأی جمیع العلماء فی تمام بلاد المسلمین علی مبنی علماء الإمامیة فی حجّیة الإجماع؟

ص:46

الدرس الخامس عشر بعد المئة

الاطّلاع علی الإجماع بعد إمکانه

*قال الزرکشی:والصحیح إمکانه عادةً،فقد اجتمع علی الشُّبَه خلقٌ کثیرون زائدون علی عدد أهل الإسلام،فالإجماع علی الحقّ مع ظهور أدلّته أولی.نعم،العادة منعت اجتماع الکافّة،فأمّا الخلق الکثیر،فلا تمنع العادة اتّفاقهم بوجه ما. (1)

و هذا کما تری ظاهر فیما ذکرنا سابقاً من أنّ إجماع الاُمّة غیر ممکن عادةً،فإذا فسّر الإجماع باتّفاق أهل عصر من الأعصار وفرضنا المجمعین الکثیرین محدودین،فالاطّلاع به ممکن.

ونقل عن الأکثر أنّه من الممکن معرفة الإجماع،بأن یجمعهم ولی الأمر فی بلدة معینة،أو أن یکتب إلی کلّ واحد منهم لاستطلاع رأیه،أو أن توجّه الدعوی الیوم بعد انقسام دولة الإسلام بطریق حکومة کلّ بلد إلی علماء ذلک البلد،فتعرف آراؤهم بطریق رسمی.

قال الغزالی:إذا انحصر أهل الحلّ و العقد،فکما یمکن أن یعلم قول واحد،أمکن أن یعلم قول الثانی إلی العشرة و العشرین.وأیضاً قال:یتصوّر معرفة إجماعهم بأخبار

ص:47


1- (1) .البحر المحیط:489/3.

التواتر عنهم کما عرفنا أنّ مذهب جمیع أصحاب الشافعی منع قتل المسلم بالذمّی،وبطلان النکاح بلا ولی،و أنّ جمیع الحنفیة نقیض ذلک. (1)

فهذا دلیل من الواقع،والواقع أصدق شاهد. (2)

عدم إمکان الاطّلاع

قال الرازی فی المحصول:ومن الناس من سلّم إمکان هذا الاتّفاق فی نفسه،لکنّه قال:لا طریق لنا إلی العلم بحصوله؛لأنّ العلم بالأشیاء إمّا أن یکون وجدانیاً أو لا یکون.أمّا الوجدانی،فکما یجد کلّ واحد منّا فی نفسه من جوعه وعطشه ولذّته وألمه،ولا شکّ أنّ العلم بحصول اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله لیس من هذا الباب.

و أمّا الذی لا یکون وجدانیاً،فقد اتّفقوا علی أنّ الطریق إلی معرفته إمّا الحسّ و إمّا الخبر،و إمّا النظر العقلی.أمّا النظر العقلی،فلا مجال له فی أنّ الشخص الفلانی قال بهذا القول،أو لم یقل به.بقی أن یکون الطریق إلیه إمّا الحسّ و إمّا الخبر،لکن من المعلوم أنّ الإحساس بکلام الغیر أو الإخبار عن کلامه لا یمکن إلاّ بعد معرفته،فإذن العلم باتّفاق الاُمّة لا یحصل إلاّ بعد معرفة کلّ واحد من الاُمّة،لکنّ ذلک متعذّر قطعاً،فمن ذا الذی یعرف جمیع الناس الذین هم بالشرق و الغرب؟وکیف الأمان من وجود إنسان مطمور لا خبر عندنا منه؟إلی أن قال:لا یمکننا معرفة اتّفاقهم؛لأنّه لا یمکن ذلک إلاّ بالرجوع إلی کلّ واحد منهم،وذلک لا یفید الاتّفاق لاحتمال أنّ بعضهم أفتی بذلک علی خلاف اعتقاده تقیةً أو خوفاً أو لأسباب اخر مخفیة عنّا،وإلی أن قال:وعلی هذا التقدیر لا یحصل الاتّفاق،فمع قیام هذا الاحتمال کیف یحصل الیقین بحصول الإجماع؟

ص:48


1- (1) .المستصفی:507/1.
2- (2) .راجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:128/1-129؛اُصول الفقه الإسلامی:572/1؛الوجیز:192؛اُصول الفقه:284.

وفی آخر البحث،قال:والإنصاف:أنّه لا طریق لنا إلی معرفة حصول الإجماع إلاّ فی زمان الصحابة حیث کان المؤمنون قلیلین یمکن معرفتهم بأسرهم علی التفصیل. (1)

وقال الزرکشی:اختلفوا فی إمکان الاطّلاع علیه بعد القول بأنّه ممکن فی نفسه،فمنعه قوم لاتّساع خطّة الإسلام،وانتشارهم فی أقطار الأرض،وتهاون الفطن،وتعذّر النقل المتواتر فی تفاصیل لا تتوافر الدواعی علی نقلها،ولتعذّر العلم ببقاء المعنی الأوّل،ونقل عن الإمام أحمد ما یقتضی إنکاره،قال فی روایة ابنه عبد الله:من ادّعی الإجماع فقد کذب،لعلّ الناس قد اختلفوا.و قد حاول أصحابه توجیه قوله،بأنّه إنّما قال هذا علی جهة الورع؛لجواز أن یکون هناک خلاف لم یبلغه،أو قال هذا فی حقّ من لیس له معرفة بخلاف السلف؛لأنّ أحمد قد أطلق القول بصحّة الإجماع فی مواضع کثیرة.

وجعل الإصفهانی (2)موضع الخلاف فی غیر إجماع الصحابة،فقال:الحقّ،تعذّر الاطّلاع علی الإجماع،لا إجماع الصحابة،حیث کان المجمعون-وهم العلماء-فی قلّة،و أمّا الآن وبعد انتشار الإسلام،وکثرة العلماء،فلا مطمع للعلم به. (3)

ص:49


1- (1) .المحصول:771777/2.
2- (2) .هو الشیخ محمّد بن محمود بن محمّد بن عبد الکافی،أبو عبدالله-فی هدیة العارفین:136/2؛ولغت نامه دهخدا:2789/2:أبو حامد-شمس الدِّین الأصفهانی:من فقهاء الشافعیة بأصفهان.ولد بها سنة 616ه،وتعلم.رحل إلی بغداد،ثم الروم،ودخل الشام بعد سنة 650ه،فولی قضاء منبج،ثم إلی مصر وولی قضاء قوص،فالکرک.استقر فی القاهرة مدرساً حتی توفی بها سنة 688ه..له مصنفات منها:شرح المحصول للرازی؛القواعد(فی فنون:اٌصول الفقه،واُصول الدین،والمنطق،والخلاف)،و هو أحسن تصانیفه؛العقیدة الأصفهانیة،شرحها ابن تیمیة؛الجامع بین التفسیر الکبیر و الکشاف؛الحکمة الرشیدیة؛الحکمة المنیعة؛غایة المطلب فی المنطق،وغیرها. راجع:الأعلام:87/7؛الوافی بالوفیات:9/5؛فوات الوفیات للکتبی:436/2 رقم 495؛تاریخ الإسلام للذهبی:348/51 رقم 531،وغیرها.
3- (3) .البحر المحیط:488489/3؛إرشاد الفحول:168/1؛الإحکام:169/1-170؛فواتح الرحموت:396/2؛المهذّب:850/2.

وقال الزحیلی:و هذا هو رأی ابن تیمیة ومختار الإمام أحمد و الظاهریة. (1)

وقال الشیخ الخضری:أمّا بعد ذلک العصر(أی:عصر الصحابة)و هو عصر اتّساع المملکة وانتقال الفقهاء إلی أمصار المسلمین،ونبوغ فقهاء آخرین من تابعیهم،ومع الاختلاف فی المنازع السیاسیة و الأهواء المختلفة،فلا نظنّ دعوی وقوع الإجماع إذ ذاک مع ما یسهل علی النفس قبوله مع تسلیم أنّه وجدت مسائل کثیرة فی هذا العصر أیضاً لا یعلم أنّ أحداً خالف فی حکمها،ومن هنا نفهم عبارة الإمام أحمد بن حنبل:من ادّعی الإجماع فهو کاذب،لعلّ الناس قد اختلفوا،ولکن یقول:لا نعلم الناس اختلفوا إذا لم یبلغه،وبعض فقهاء الحنابلة یری أنّ الإمام أحمد یرید غیر إجماع الصحابة،أمّا إجماع الصحابة فحجّة،معلوم تصوّره لکون المجمعین ثمّة فی قلّة و الآن فی کثرة وانتشار،قال الإصفهانی:والمنصف یعلم أنّه لا خبر له من الإجماع إلاّ ما یجد مکتوباً فی الکتب،ومن البین أنّه لا یحصل الاطّلاع علیه بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر ولا سبیل إلی ذلک إلاّ فی عصر الصحابة،و أمّا بعضهم فلا.

وقال البیضاوی فی منهاجه:قیل:یتعذّر الوقوف علیه؛لانتشارهم،وجواز إخفاء واحد منهم خموله وکذبه خوفاً أو رجوعه قبل فتوی الآخر.

واُجیب:بأنّه لا یتعذّر فی أیام الصحابة،فإنّهم کانوا محصورین قلیلین.

وقال الإمام الرازی:والإنصاف أنّه لا طریق لنا إلی معرفته إلاّ فی زمان الصحابة. (2)

لکن قال القاضی عبد الوهّاب:یصحّ أن یعلم بوقوع الإجماع،ومن الناس مَن منع أن یکون للعلم به طریق یعلم به حصوله،(ثمّ بعد تزویقه القول المذکور،قال:)والطریق شیئان:أحدهما:المشاهدة،والآخر:النقل.فإن کان الإجماع متقدّماً فلیس إلاّ

ص:50


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:572/1؛الوسیط:128/1.
2- (2) .اُصول الفقه:285.

النقل؛لتعذّر المشاهدة.و إن کان فی الوقت،فالأمران طریق إلیه،ووجه الحصر أنّه لا یمکن أن یعلم بالعقل،ولا بخبر من الله تعالی ورسوله علیه السّلام؛لتعذّره،فتعین ما قلناه. (1)

رأی بعض الإمامیة

**قال السید المرتضی علم الهدی:و أمّا قول من نفی الإجماع؛لتعذّر الطریق إلیه،فجهالة؛لأنّا قد نعلم اجتماع الخلق الکثیر علی المذهب الواحد،وترتفع عنّا الشبهة فی ذلک،إمّا بالمشاهدة أو النقل،ونعلم من إجماعهم واتّفاقهم علی الشیء الواحد ما یجری فی الجلاء و الظهور مجری العلم بالبلدان و الأمصار و الوقائع الکبار،ونحن نعلم أنّ المسلمین کلّهم متّفقون علی تحریم الخمر..إلی أن قال:ومن دفع العلم بما ذکرناه،کان مکابراً مباهتاً. (2)

وقال صاحب المعالم:الحقّ،امتناع الاطّلاع عادةً علی حصول الإجماع فی زماننا هذا وما ضاهاه من غیر جهة النقل،إذ لا سبیل إلی العلم بقول الإمام علیه السّلام،کیف و هو موقوف علی وجود المجتهدین المجهولین لیدخل فی جملتهم،ویکون قوله مستوراً بین أقوالهم؟و هذا ممّا یقطع بانتفائه(یعنی:یمتنع الاطّلاع علی الإجماع الحاصل فی زماننا وما شابهه من الأزمنة من غیر جهة النقل،إذ لا سبیل إلی العلم بقول الإمام علیه السّلام)فکلّ إجماع یدّعی فی کلام الأصحاب،ممّا یقرب من عصر الشیخ الطوسی إلی زماننا هذا،ولیس مستنداً إلی نقل متواتر أو آحاد،حیث یعتبر أو مع القرائن المفیدة للعلم،فلا بدّ من أن یراد به ما ذکره الشهید من الشهرة.

و أمّا الزمان السابق علی ما ذکرناه،المقارب لعصر الأئمّة علیهم السّلام،وإمکان العلم بأقوالهم،فیمکن فیه حصول الإجماع و العلم به بطریق التتبّع،وإلی مثل هذا نظر بعض علماء أهل

ص:51


1- (1) .راجع:البحر المحیط:489490/3،الإحکام:169/1 حیث قال:إنّ معرفة اتّفاقهم علی الحکم الواحد متوقّف علی سماع الأخبار بذلک من کلّ واحد من أهل الحلّ و العقد،أو مشاهدة فعل أو ترک منه یدلّ علیه.
2- (2) .الذریعة إلی اصول الشریعة:622623/2.

السنّة(کالفخر الرازی)حیث قال:الإنصاف أنّه لا طریق إلی معرفة حصول الإجماع إلاّ فی زمن الصحابة،حیث کان المؤمنون قلیلین یمکن معرفتهم بأسرهم علی التفصیل.

واعترض العلاّمة الحلّی علیه:بأنّا نجزم بالمسائل المجمع علیها جزماً قطعیاً،ونعلم اتّفاق الاُمّة علیها علماً وجدانیاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار علیه.

وأنت بعد الإحاطة بما قرّرناه خبیرٌ بوجه اندفاع هذا الاعتراض عن ذلک القائل(الفخر الرازی)لأنّ ظاهر کلامه أنّ الوقوف علی الإجماع و العلم به ابتداءً من غیر جهة النقل غیر ممکن عادةً،لا مطلقاً،وکلام العلاّمة إنّما یدلّ علی حصول العلم به من طریق النقل کما یصرّح به قوله:«علماً وجدانیاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار». (1)

وقال المحقّق الفاضل القمّی:إنّ هذه شبهة فی مقابل البدیهة لحصول العلم بمذهب جمیع علماء الإسلام،بأنّ رأیهم وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحوهما،ومذهب علماء الشیعة،بأنّ رأیهم حلّیة المتعة ومسح الرجلین،فإذا أمکن حصول العلم برأیهم علی سبیل البدیهة،فکیف لا یمکن حصول الیقین بالنظر مع أنّ مرتبة البداهة متأخّرة عن النظر؟

ولا ریب أنّ أعیان العلماء غیر معروفة بأجمعهم فی ذلک فضلاً عن حصول الاستماع منهم،ولیس الداعی إلی ذلک أمرٌ عقلی حتّی یقال:إنّ العلم باجتماعهم إنّما هو بحکم العقل بأنّ العقلاء یجتمعون علی ذلک لأجل عقلهم،مع أنّ العقلیات أیضاً ممّا وقع فیه الاختلاف کثیراً کما لا یخفی علی المطّلع بها. (2)

ونقل السید المجاهد عن و الده أنّه قال:والطریق إلی العلم بالإجماع تتبّع الفتوی،والعمل و النقل المتواتر و المحفوف بقرائن العلم،وتصفّح الأخبار و الآثار،وکثرة

ص:52


1- (1) .معالم الدِّین:242243.وراجع:رسالة الإجماع للوحید البهبهانی(الرسائل الاُصولیة):280-282 وص266؛الوافیة:151153؛الذریعة إلی اصول الشریعة:623/2؛الفصول الغرویة:251252.
2- (2) .قوانین الاُصول:367.

المزاولة وطول المراجعة،وتواتر الخلف عن السلف،وتناول الأمر یداً بید،وحصول التسامع و التظافر بالتدریج و إن لم یتمیز عنه طریق دون طریق و هو أقوی العلم،ولا یمنع من ذلک کثرة الفقهاء وانتشارهم فی الآفاق،ولا عدم الإحاطة بأعیانهم وأسمائهم کما لا یمنع کثرة النحاة وغیرهم من أرباب العلوم عن العلم باتّفاقهم علی کثیر من المسائل،والمنکر یدفع باللِّسان لما ینکر به الوجدان..إلی أن قال:وبالجملة،لا یقوم للفقه عمود،ولا یخضرّ له عود إلاّ بهذا الأصل،ومن استغنی عنه حیناً،فیحتاج وقتاً مّا،وما أنکره أحد فی الاُصول إلاّ و قد التجأ إلیه فی الفروع،و قد وجدنا کثیراً من الناس ینکرونه فی السعة،ویقرّون به عند الضیق،ولیس ذلک إلاّ من قلّة التحقیق. (1)

تحقیق المسألة

والتحقیق أن یقال:إنّ الاطّلاع علی الإجماع فی غیر زمن الصحابة بالوقوف علی أقوال المعروفین،ولو بطریق النقل،وعلی أقوال الباقین،ولو بطریق الحدس،من حیث وضوح المدرک وظهور المسألة ممّا لا یکاد تناله ید التشکیک،فمنعه شبهة فی مقابلة الضرورة،فلا یلتفت إلیها.

و أمّا الإجماع الذی یمکن الاطّلاع علیه هو الاتّفاق الکاشف عن موافقة المعصوم ورأیه،و هذا ممّا لا یختلف الحال فیه بالنسبة إلی زمن ظهور الإمام وخفائه،إذ الإجماع المعتبر عند الإمامیة عبارة عن الاتّفاق الکاشف عن رأی المعصوم أو قوله،فلا یلزم اتّفاق الکلّ حتّی یضرّ وجود المجهولین فی تحقّقه.فعلی هذا،تعلیل امتناع الاطّلاع علی الإجماع فی زمن الغیبة بانتفاء وجود المجتهدین المجهولین علیل،إذ لا بُعد فی وجودهم عقلاً وعادةً.

ص:53


1- (1) .مفاتیح الاُصول:495496.

الخلاصة

قال الزرکشی:والصحیح إمکانه عادةً،فقد اجتمع علی الشُّبَه خلقٌ کثیرون،فالإجماع علی الحقّ مع ظهور أدلّته أولی.ونقل عن الأکثر أنّه من الممکن معرفة الإجماع،بأن یجمعهم ولی الأمر فی بلدة معینة،أو أن یکتب إلی کلّ واحد منهم لاستطلاع رأیه.

وقال الرازی فی المحصول:ومن الناس من سلّم إمکان هذا الاتّفاق فی نفسه،لکنّه قال:لا طریق لنا إلی العلم بحصوله؛لأنّ العلم بالأشیاء إمّا یکون وجدانیاً أو لا یکون.أمّا الوجدانی،فکما یجد کلّ واحد منّا من نفسه من جوعه وعطشه ولذّته وألمه،ولا شکّ أنّ العلم بحصول اتّفاق امّة محمّد صلی الله علیه و آله لیس من هذا الباب.و أمّا الذی لا یکون وجدانیاً،فقد اتّفقوا علی أنّ الطریق إلی معرفته إمّا الحسّ و إمّا الخبر و إمّا النظر العقلی.أمّا النظر العقلی،فلا مجال له فی أنّ الشخص الفلانی قال بهذا القول أو لم یقل به.و أمّا الحسّ و الخبر،فلا یمکن إلاّ بعد معرفة الشخوص،فالعلم-إذاً-باتّفاق الاُمّة لا یحصل إلاّ بعد معرفة کلّ واحد من الاُمّة،وذلک متعذّر قطعاً.

وقال الإصفهانی:الحقّ،تعذّر الاطّلاع علی الإجماع،لا إجماع الصحابة.

قال السید المرتضی علم الهدی:و أمّا قول من نفی الإجماع لتعذّر الطریق إلیه،فجهالة؛لأنّا قد نعلم اجتماع الخلق الکثیر علی المذهب الواحد،وترتفع عنّا الشبهة فی ذلک أمّا بالمشاهدة أو النقل.

وقال صاحب المعالم:الحقّ،امتناع الاطّلاع عادةً علی حصول الإجماع فی زماننا هذا،وما ضاهاه من غیر جهة النقل،إذ لا سبیل إلی العلم بقول الإمام علیه السّلام،کیف و هو موقوف علی وجود المجتهدین المجهولین لیدخل فی جملتهم،ویکون قوله مستوراً بین أقوالهم؟و هذا ممّا یقطع بانتفائه فی زماننا من غیر جهة النقل.و أمّا الزمان السابق

ص:54

علی ما ذکرناه،المقارب لعصر الأئمّة علیهم السّلام،وإمکان العلم بأقوالهم،فیمکن فیه حصول الإجماع و العلم به بطریق التتبّع،وإلی مثل هذا نظر بعض علماء أهل السنّة(الفخر الرازی)،واعترض العلاّمة الحلّی علیه:بأنّا نجزم بالمسائل المجمع علیها جزماً قطعیاً،ونعلم اتّفاق الاُمّة علیها علماً وجدانیاً حصل بالتسامع وتظافر الأخبار علیه.

وقال المحقّق الفاضل القمّی:إنّ هذه شبهة فی مقابل البدیهة لحصول العلم بمذهب جمیع علماء الإسلام،بأنّ رأیهم وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان.ومذهب علماء الشیعة علی حلّیة المتعة ومسح الرجلین.

ونقل السید المجاهد عن و الده أنّه قال:والطریق إلی العلم بالإجماع تتبّع الفتوی،والعمل و النقل المتواتر و المحفوف بقرائن العلم،وتصفّح الأخبار و الآثار،وتواتر الخلف عن السلف،وتناول الأمر یداً بید،ولا یمنع من ذلک کثرة الفقهاء وانتشارهم فی الآفاق،ولا عدم الإحاطة بأعیانهم وأسمائهم.

والتحقیق أن یقال:إنّ الاطّلاع علی الإجماع فی غیر زمن الصحابة بالوقوف علی أقوال المعروفین،ولو بطریق النقل،وعلی أقوال الباقین،ولو بطریق الحدس،من حیث وضوح المدرک وظهور المسألة ممّا لا یکاد تناله ید التشکیک،فمنعه شبهة فی مقابلة الضرورة،فلا یلتفت إلیها،إذ الإجماع الذی یمکن الاطّلاع علیه هو الاتّفاق الکاشف عن قول المعصوم أو موافقته،و هذا ممّا لا یختلف الحال فیه بالنسبة إلی زمن ظهور الإمام وخفائه.

ص:55

الأسئلة

1.اُذکر رأی الرازی فی المحصول.

2.ما هی المحاولة التی ذکرها أصحاب الإمام أحمد بن حنبل فی قوله؟

3.اُذکر رأی الشیخ الخضری فی إمکان الاطّلاع علی الإجماع.

4.لماذا قال صاحب المعالم بامتناع الاطّلاع عادةً علی حصول الإجماع فی عصره وماضاهاه؟

5.لماذا لا یرد إیراد العلاّمة الحلّی علی الرازی؟

6.اُذکر نظر و الد السید المجاهد فی الاطّلاع علی الإجماع،ولماذا لا یمنع انتشار الفقهاء فی الآفاق عن العلم باتّفاقهم؟

7.ما هو التحقیق فی مسألة الاطّلاع علی الإجماع؟

8.لماذا لا یختلف الحال فی الاطّلاع علی الاتّفاق الکاشف عن موافقة المعصوم ورأیه بالنسبة إلی زمن الظهور و الغیبة؟

ص:56

الدرس السادس عشر بعد المئة

الإجماع المحصّل

**بعد فرض إمکان الاتّفاق والاطّلاع علی الإجماع،فإنّ الکلام کلّ الکلام فی وقوعه،والطرق إلی إثباته.نعم،دعاوی الوقوع کثیرة علی ألسنة الفقهاء،ولهم إلی إثبات ذلک طریقان:أولاهما:تحصیل الإجماع بالمباشرة،و قد أسموه الإجماع المحصّل،وثانیهما:بلوغه من طریق النقل.

فالإجماع المحصّل:هو ما ثبت واقعاً،وعُلم بلا واسطة النقل،و إن استند إلیه فی الأصل. (1)والمراد من کلام المحقّق التستری هو أن یتولّی المجتهد نفسه مؤونة البحث عن هؤلاء المجمعین،والتعرّف علی هویاتهم وآرائهم فی المسألة التی یرید معرفة حکمها،حتّی یحصل له العلم بالاتّفاق علی الحکم.

فقد عرفت أنّ الإجماع إمّا محصّل و إمّا منقول.والأوّل:هو ما إذا حصل القطع بقول الإمام علیه السّلام أو برضائه،من تتبّع أقوال العلماء،و هذا ممّا لا إشکال فی حجّیته،و إنّما الکلام فی حجّیة الظنّ الحاصل من الإجماع بقول الإمام علیه السّلام،والثانی:إمّا متواتر و إمّا واحد.

ص:57


1- (1) .راجع:کشف القناع:4.

قال فی أوثق الوسائل:قد جعل المصنّف عند الاستدلال علی حجّیة أخبار الآحاد بالإجماع المنقول بالتواتر من قبیل:المحصّل، (1)ولذا خصّصوا النزاع بالمنقول بخبر الواحد.

فالحقّ کما علمت سابقاً أنّ تحصیل الإجماع بمفهومه الواسع أمرٌ متعذّر فیما عدا الضروریات الدینیة أو العقلیة،و أمّا إذا ضیقنا فی مفهومه إلی ما یخصّ مجتهدی مذهب معین أو جماعة یعلم بدخول الإمام فی ضمنهم،فقد یقال بإمکانه مع جُهد الفحص،ولا یبعد وقوع ذلک أحیاناً.فعلی هذا،فالمبانی فیه مختلفة ومتوقّفة علی تتبّع المبانی فی إمکان العلم به وعدمه.

هل الإجماع أصل أو حکایة عن أصل؟

*لا ینعقد الإجماع إلاّ عن مستند؛لأنّ الفتوی بدون المستند خطأ؛لکونه قولاً فی الدِّین بغیر علم،وبعبارة اخری لا بدّ له من مستند؛لأنّ أهل الإجماع لیست لهم رتبة الاستقلال بإثبات الأحکام،و إنّما یثبتونها نظراً إلی أدلّتها ومأخذها،فوجب أن یکون عن مستند؛لأنّه لو انعقد من غیر مستند لاقتضی إثبات الشرع بعد النبی،و هو باطل.

وحکی الآمدی وغیره عن طائفة من الاُصولیین أنّهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفیق لا توقیف،بأن یوفّقهم الله تعالی لاختیار الصواب من غیر مستند.

أقول:یعنی أنّهم یقولون:بأنّه یجوز أن یحصل بالبخت و المصادفة،بأن یوفّقهم الله لاختیار الصواب من غیر مستند بدلیل شرعی دلّهم علی ذلک،بل یکون التوفیق بالإلهام مثلاً،ولا یتوقّف حصول الإجماع بتوقیف ومستند شرعی. (2)

ص:58


1- (1) .أوثق الوسائل:104.راجع:منتهی الدرایة:345/4.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:558560/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:114/1؛الإحکام:221/1؛البحر المحیط:499/3؛اُصول الفقه للخضری:282؛فواتح الرحموت:439/2؛اُصول السرخسی:301/1؛إرشاد الفحول:179/1؛المهذّب:900902/2؛المحصول:875881/3؛شرح المعالم:98/2؛شرح التلویح علی التوضیح:110/2.

واستُدلّ للقول الأوّل بأنّ الفتوی بلا دلیل شرعی حرام،وبأنّه یلزم الدور،إذ قول کلّ یتوقّف علی قول الکلّ وبالعکس،فهذا دورٌ محال.

واختلف القائلون بجواز انعقاد الإجماع عن غیر دلیل،هل یکون حجّة؟فذهب الجمهور إلی أنّه حجّة،وحُکی عن جماعة أنّه لا یکون حجّة. (1)

***قال ابن المرتضی:قال أکثر العلماء:إنّه لا بدّ لهم-إذا أجمعوا علی حکم-من طریق إلیه،إمّا دلالة قاطعة وهی النصّ المتواتر،أو القیاس القطعی الذی علم أصله وعلّته وفرعه بدلیل قاطع أو ضرورة،أو یکون مستندهم أمارة ظنّیة کظاهر آیة،أو نصّ آحادی،أو إجماع آحادی،أو قیاس أو اجتهاد. (2)

وقال عبد الله بن حمزة من الزیدیة:لا یجوز عندنا انعقاد إجماع الاُمّة إلاّ عن دلالة أو أمارة،وحُکی عن بعض الناس أنّه یجوز انعقاد الإجماع عن توفیق لا توقیف..إلی أن قال:و هذا یقرب قول موسی بن عمران الفقیه المعتزلی أنّ المجتهد یجوز أن یبلغ فی الاجتهاد إلی رتبة یجوز له الفتوی بما یخطر بباله من غیر اعتبار دلالة ولا أمارة،و هذا باطل. (3)

**قال العلاّمة الحلّی:لا یجوز الإجماع إلاّ عن دلیل،وإلاّ لزم الخطأ فی کلّ الاُمّة؛لأنّ القول فی الدِّین من غیر دلیل ولا أمارة خطأ،ولا تجمع الاُمّة علی خطأ،وأیضاً:فإنّه یستحیل وقوع ذلک عادةً. (4)

أقول:نرید بالأصل الذی ذکرناه فی العنوان،أن یکون للإجماع کیان مستقلّ فی الحکایة عن الحکم الواقعی،أی:لا یحتاج إلی توسّط فی عالم الحکایة من قبل أصل

ص:59


1- (1) .راجع:إرشاد الفحول:180/1؛البحر المحیط:502/3.
2- (2) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:636.
3- (3) .صفوة الاختیار:272273.
4- (4) .مبادئ الوصول إلی علم الاُصول:195.

من الاُصول الثلاثة،فهو لا یحکی عن الکتاب أو السنّة أو العقل،و إنّما هو مستقلّ فی مقابلها فی عوالم الحکایة عن الأحکام.

قال الاُصولیون من أهل السنّة:إنّ الإجماع أحد الأدلّة الأربعة أو الثلاثة علی الحکم الشرعی فی مقابل الکتاب،والسنّة،یعنی:جعلوه أصلاً مستقلاً له کیان مستقلّ فی الحکایة عن الأحکام.و أمّا الإمامیة فقد جعلوه أیضاً أحد الأدلّة علی الحکم الشرعی،ولکن من ناحیة شکلیة واسمیة فقط،مجاراةً للنهج الدراسی فی اصول الفقه عند علماء أهل السنّة،أی:إنّهم لا یعتبرونه دلیلاً مستقلاً فی مقابل الکتاب و السنّة،بل إنّما یعتبرونه إذا کان کاشفاً عن السنّة،أی:عن قول المعصوم.فالحجّیة و العصمة لیستا للإجماع،بل الحجّة فی الحقیقة هو قول المعصوم الذی یکشف عنه الإجماع عندما تکون له أهلیة هذا الکشف.

وفی ضوء ما ذکرنا،صار قول الإمامیة موافقاً لقول من ذهب إلی أنّ الإجماع حجّة فی الفتوی،و إنّما الخلاف بینهم یکون فی التعلیل أو الدلالة; لأنّ الإمامیة تعلّل کون الإجماع حجّةً،بأنّ العلّة فیه اشتماله علی قول معصوم،قد علم الله تعالی أنّه لا یفعل القبیح منفرداً ولا مجتمعاً،وأنّه لو انفرد لکان قوله الحجّة،و إنّما هم یفتون بأنّ قول الجماعة التی قول المعصوم فیها موافق لها لأجل قوله،لا لشیء یرجع إلی الاجتماع معهم،ولا یتعلّق بهم،وأهل السنة یعلّلون مذهبهم،بأنّ الله تعالی علم أنّ جمیع هذه الاُمّة لا تتّفق علی خطأ،و إن جاز الخطأ علی کلّ واحد منها بانفراده،فللإجماع تأثیر،بخلاف قول الإمامیة إنّه لا تأثیر له.هذا علی ما ذهب إلیه السید المرتضی من وجه حجّیة الإجماع.وقریب منه ما ذکره الشیخ الطوسی علی طریقة قاعدة اللّطف.ولکن علی ما ذکره جماعة من محقّقی المتأخّرین،وهی طریقة الحدس،هی أن یقطع بکون ما اتّفق علیه فقهاء الإمامیة وصل إلیهم من رئیسهم و إمامهم یداً بید،فإنّ اتّفاقهم مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعلم منه أنّ الاتّفاق

ص:60

کان مستنداً إلی رأی إمامهم لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتّباعاً للأهواء أو استقلالاً بالفهم،کما یکون ذلک فی اتّفاق أتباع سائر ذوی الآراء و المذاهب،فإنّه لا نشکّ فیها أنّها مأخوذة من متبوعهم ورئیسهم الذی یرجعون إلیه.

وببیان آخر:إنّ العقل یدلّ علی أنّ الاتّفاق یکشف عن وجود المستند القاطع للعذر؛لأنّ فتوی الواحد من علمائنا الثقات یفید الظنّ بوقوفه علی دلیل الحکم،فإذا وافقه فتوی مثله أو من هو أعلم منه وأوثق قَوِی الظنّ بذلک قطعاً،وکلّما انضمّ إلیه مثله تقوّی وتضاعف حتّی یحصل الیقین باتّفاق الجمیع کالأخبار المتواترة،فإنّ أصلها الآحاد التی لا تفید علماً بالانفراد،و إن حصل لها ذلک بواسطة التعاضد والاجتماع

و هذا المسلک،وهی طریقة الحدس الصائب و الذهن الثاقب،قوی متین کما علیه جماعة من المحقّقین المتأخّرین،لیس التعویل فیه علی مجرّد اجتماع الآراء کما هو مذهب أهل السنّة،بل لکشف اتّفاق أهل الحقّ عن إصابة المدرک و الوقوف علی الحجّة الواصلة إلیهم من الحجج ممّن لا یجوز علیهم الخطأ. (1)

ص:61


1- (1) .راجع:مفاتیح الاُصول:496497؛قوانین الاُصول:354355؛الذریعة إلی اصول الشریعة:605/2؛اُصول الفقه للمظفّر:361/2؛فرائد الاُصول:199/1؛الفصول الغرویة:247.

الخلاصة

الإجماع المحصّل:هو ما ثبت واقعاً،وعلم بلا واسطة النقل،واستند إلیه فی الأصل،یعنی:أن یتولّی المجتهد نفسه مؤونة البحث عن هؤلاء المجمعین،والتعرّف علی هویاتهم وآرائهم فی المسألة التی یرید معرفة حکمها،حتّی یحصل له العلم بالاتّفاق علی الحکم.و هذا ممّا لا إشکال فی حجّیته،و إنّما الکلام فی حجّیة الظنّ الحاصل من الإجماع بقول الإمام علیه السّلام.

والمنقول:إمّا بالتواتر و إمّا واحد.قال الشیخ الأنصاری:المنقول بالتواتر من قبیل:المحصّل،ولذا خصّصوا النزاع بالمنقول بخبر الواحد.

لا ینعقد الإجماع إلاّ عن مستند؛لأنّ الفتوی بدون المستند خطأ؛لکونه قولاً فی الدِّین بغیر علم؛ولأنّه لو انعقد من غیر مستند لاقتضی إثبات الشرع بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله،و هو باطل.وحُکی عن طائفة من الاُصولیین أنّهم قالوا بجواز انعقاد الإجماع عن توفیق لا توقیف،بأن یوفّقهم الله تعالی لاختیار الصواب من غیر مستند.وبعبارة اخری،أنّه یجوز أن یحصل الاتّفاق علی الحکم بالبخت و المصادفة بدون استناد إلی دلیل شرعی یدلّهم علی ذلک،بل یکون التوفیق بالإلهام مثلاً.

واختلف القائلون بجواز انعقاد الإجماع عن غیر دلیل،هل یکون حجّة؟فذهب الجمهور إلی أنّه حجّة،وحُکی عن جماعة أنّه لا یکون حجّة.

وقال ابن المرتضی وغیره من الزیدیة:إنّه لا بدّ للمجمعین علی حکم من طریق إلیه،إمّا بدلالة قاطعة وهی النصّ المتواتر،أو یکون مستند أمارة ظنّیة کظاهر آیة أو نصّ آحادی أو إجماع آحادی.

والمراد بالأصل الذی ذکرناه فی العنوان،هو أن یکون للإجماع کیان مستقلّ فی الحکایة عن الحکم الواقعی أی:لا یحتاج إلی توسّط فی عالم الحکایة من قبل أصل

ص:62

من الاُصول الثلاثة،فهو لا یحکی عن الکتاب أو السنّة أو العقل،و إنّما هو مستقلّ فی مقابلها فی عوالم الحکایة عن الأحکام.

قال الاُصولیون من أهل السنّة:إنّ الإجماع أحد الأدلّة الأربعة أو الثلاثة علی الحکم الشرعی فی مقابل الکتاب،والسنّة،والقیاس.و أمّا الإمامیة فقد جعلوه أیضاً أحد الأدلّة علی الحکم الشرعی،لکن من ناحیة شکلیة واسمیة فقط،مجاراةً للنهج الدراسی فی اصول الفقه عند علماء أهل السنّة،أی:إنّهم لا یعتبرونه دلیلاً مستقلاً فی مقابل الکتاب و السنّة،بل إنّما یعتبرونه إذا کان کاشفاً عن السنّة،أی:عن قول المعصوم.فالحجّیة و العصمة لیستا للإجماع،بل الحجّة فی الحقیقة هو قول المعصوم الذی یکشف عنه الإجماع عندما تکون له أهلیة هذا الکشف.فعلی هذا صار قول الإمامیة موافقاً لقول من ذهب إلی أنّ الإجماع حجّة فی الفتوی،و إنّما الخلاف بینهم یکون فی التعلیل أو الدلالة؛لأنّ الإمامیة تعلّل کون الإجماع حجّةً،بأنّ العلّة فیه اشتماله علی قول المعصوم،و إنّما یفتون علی وفق الإجماع؛لأنّ قول المعصوم فیه،لا لشیء یرجع إلی الاجتماع،وأهل السنة یعلّلون مذهبهم،بأنّ الله تعالی علم أنّ جمیع هذه الاُمّة لا تتّفق علی خطأ،و إن جاز الخطأ علی کلّ واحد منها بانفراده،فللإجماع تأثیر،بخلاف قول الإمامیة،فإنّ الإجماع لا تأثیر له عندهم.هذا علی نظریة السید المرتضی،والشیخ الطوسی علی طریقة إجماع الدخولی وقاعدة اللّطف.

و أمّا علی طریقة محقّقی المتأخّرین،وهی طریقة الحدس،بأن یقطع بکون ما اتّفق علیه فقهاء الإمامیة وصل إلیهم من رئیسهم و إمامهم یداً بید،فإنّ اتّفاقهم مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعلم منه أنّ الاتّفاق کان مستنداً إلی رأی إمامهم،لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتّباعاً للأهواء أو استقلالاً بالفهم.

أو یقال:أنّ العقل یدلّ علی إنّ الاتّفاق یکشف عن وجود المستند القاطع للعذر؛

ص:63

لأنّ فتوی الواحد من علمائنا الثقات یفید الظنّ بوقوفه علی دلیل الحکم،فإذا وافقه فتوی مثله أو من هو أعلم منه وأوثق،قوی الظنّ بذلک قطعاً،وکلّما انضمّ إلیه مثله تقوّی وتضاعف حتّی یحصل الیقین باتّفاق الجمیع کالأخبار المتواترة،فإنّ أصلها الآحاد التی لا تفید علماً بالانفراد،و إن حصل لها ذلک بواسطة التعاضد والاجتماع.

ص:64

الأسئلة

1.اُذکر تعریف الإجماع المحصّل.

2.لماذا یکون الفتوی بدون المستند خطأً وقولاً بغیر علم؟

3.ما هو المراد بالأصل الذی ذکر فی عنوان البحث؟

4.لماذا جعل الإمامیة الإجماع أحد الأدلّة الأربعة علی الحکم الشرعی من ناحیة شکلیة،ومجاراةً للنهج الدراسی فی اصول الفقه؟

5.اُذکر الخلاف الذی یکون بین الإمامیة ومن ذهب إلی أنّ الإجماع حجّة فی الفتوی.

6.ما هی طریقة الحدس التی تکون عند المتأخّرین من علماء الإمامیة؟

7.اُذکر دلالة العقل علی أنّ الاتّفاق یکشف عن وجود المستند القاطع للعذر.

ص:65

ص:66

الدرس السابع عشر بعد المئة

الخلاف فی حجّیة الإجماع

**ذهب المتکلّمون بأجمعهم،والفقهاء بأسرهم علی اختلاف مذاهبهم إلی أنّ الإجماع حجّة،وحُکی عن النظّام وبعض الخوارج إلی أنّه لیس بحجّة.اختلف العلماء فی بیان مقصود النظّام،فقیل:إنّه خالف فی ثبوت الإجماع،وقیل:خالف فی حجّیته. (1)

*قال الزرکشی:قال بعضهم:الصحیح عن النظّام أنّه یقول بتصوّر الإجماع،وأنّه حجّة.ولکن،فسّره بکلّ قول قامت حجّیته،و إن کان قولاً واحداً،ویسمّی بذلک قول النبی علیه السّلام إجماعاً،ومنع الحجّیة عن الإجماع الذی نفسّره نحن بما نفسّره...وقال ابن دقیق العید فی شرح العنوان:نقل عن النظّام إنکار حجّیة الإجماع،إلی أن قال:وحکی الجاحظ فی کتاب(الفُتیا)عن النظّام أنّه قال:الحکم یعلم بالعقل أو الکتاب أو إجماع النقل،لکن قیل:إنّه عنی به التواتر. (2)

ص:67


1- (1) .العُدّة فی اصول الفقه:601/2؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:257.
2- (2) .راجع:کشف الأسرار:373/3؛المهذّب:863/2؛المهارة الاُصولیة وأثرها:92؛البحر المحیط:490491/3؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:93/1؛إرشاد الفحول:169/1؛اُصول الفقه الإسلامی:539/1؛المستصفی:505/1؛نزهة الخاطر العاطر:227/1.

نقل ابن المرتضی عن النظّام أنّه قال:الإجماع کلّ خبر یوجب العلم الضروری،قلّ عدد الناقلین أم کثُر،هذا لفظه و هو یقتضی أنّ الإجماع(المفسّر باتّفاق أهل الحلّ و العقد أو المجتهدین)لیس بحجّة،لکنّه لم یجعل الحجّة منه إلاّ ما أفاد العلم الضروری،والإجماع المعتبر لا یفیده. (1)

استدلّ النظّام علی قوله،بأنّه یساوی بین قول جمیع الاُمّة وبین قول آحادها فی جواز الخطأ علی الجمیع،وأیضاً هو لا یری الإجماع حجّة فإنّ الحجّة فی مستنده إن ظهر لنا،و إن لم یظهر،لم یقدّر له دلیلاً تقوم به الحجّة. (2)

وقال أبو بکر السرخسی:قال النظّام:لا یکون الإجماع حجّة للعلم بحال؛لأنّه لیس فیه إلاّ اجتماع الأفراد،و إذا کان قول کلّ فرد غیر موجب للعلم؛لکونه غیرمعصوم عن الخطأ،فکذلک أقاویلهم بعدما اجتمعوا؛لأنّ توهّم الخطأ لا ینعدم بالاجتماع. (3)

هل حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة

*اختلف علماء أهل السنّة فی أنّ حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة،أو کان حجّة فی الاُمم السابقة أیضاً.قال بعضهم:إنّه کان حجّة،قال الزرکشی:الأصحّ کما قاله الصیرفی وابن القطّان،ونقله الاُستاذ أبو منصور و الشیخ أبو إسحاق الشیرازی فی اللمع عن أکثر الأصحاب أنّه لیس بحجّة فی الاُمم السابقة،وحجّة کون الإجماع من خصائص هذه الاُمّة إنّ الدلیل إنّما قام علی عصمة هذه الاُمّة دون غیرها.

وأیضاً قال:والسرّ فی اختصاص هذه الاُمّة بالصواب فی الإجماع أنّهم الجماعة بالحقیقة

ص:68


1- (1) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:592.
2- (2) .راجع:البحر المحیط:490/3.
3- (3) .اُصول السرخسی:295/1.

لأنّ النبی صلی الله علیه و آله بعث إلی الکافّة،والأنبیاء قبله إنّما بعث النبی لقومه وهم بعضٌ من کُلّ. (1)

وتوقّف بعض کالآمدی فی الإحکام و القاضی،وقال الأبیاری:(التوقّف)هو المختار،لا بالنظر إلی طریقه،بل لأنّه لم یثبت عندنا استحالة الغلط فی مستند فهم الحکم عند أهل الشرائع المتقدّمة. (2)

*قال الشاشی:إجماع هذه الاُمّة بعدما توفّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی فروع الدِّین حجّة موجبة للعمل بها شرعاً،کرامةً لهذه الاُمّة. (3)

یعنی:یشترط أن یکون أهل الإجماع من المسلمین وهم کلّ من أجاب دعوة رسول الله صلی الله علیه و آله وآمن بما جاء به،فلذا لا عبرة بالکافر فی هذا الموضوع،ولا عبرة أیضاً باتّفاق الاُمم السابقة من الیهود و النصاری؛لأنّ الکافر غیر مقبول القول فی مسائل دیننا،فهو متّهم بقوله بسبب مخالفته فی الدِّین. (4)

**قال المحقّق التستری:ولمّا کان إجماع سائر الاُمم الماضیة المرضیة قبل بعثة نبینا صلی الله علیه و آله ممّا لم یقم الدلیل علی حجّیته،وعلی تقدیر حجّیته کان ککتب أنبیائهم وسنّتهم فی الاختصاص لهم،والخروج من الأدلّة الشرعیة المعتبرة عندنا،فلذلک کان العبرة بإجماع هذه الاُمّة المنتجبة خاصّة. (5)

هل اتّفاق المجتهدین بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله یکون حجّة أم لا؟

*قال الشاشی:إجماع هذه الاُمّة بعدما توفّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی فروع الدین حجّة موجبة للعمل بها شرعاً. (6)

ص:69


1- (1) .راجع:البحر المحیط:497/3؛الإحکام:240/1؛الوسیط فی اصول الفقه:78/1؛المحصول:883/3؛اُصول الفقه الإسلامی:524/1.
2- (2) .راجع:البحر المحیط:498/3؛الإحکام:241/1.
3- (3) .اُصول الشاشی:78.
4- (4) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:524/1؛الوجیز:181182؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:78/1.
5- (5) .کشف القناع:8.
6- (6) .اُصول الشاشی:78.وراجع:إرشاد الفحول:165/1.

وقال الزحیلی:لا عبرة بالإجماع فی عصره صلّی اللّه علیه و آله؛لأنّه إذا وافق الرسول المجمعین،فالحجّة هو قوله صلّی اللّه علیه و آله،و إن خالفهم،فلا عبرة بما أجمعوا علیه؛لأنّه صاحب التشریع.وعلیه،لا ینعقد الإجماع فی عهد الرسول صلّی اللّه علیه و آله. (1)

قال الزرکشی:لا ینعقد الإجماع فی زمانه صلی الله علیه و آله کما ذکره القاضی أبو بکر و الإمام فخر الدِّین وغیرهما؛لأنّ قولهم دونه لا یصحّ،و إن کان معهم،فالحجّة فی قوله. (2)

وقال الزرکشی فی مسألة النسخ:إذا جوّزنا لهم الاجتهاد فی زمانه صلی الله علیه و آله کما هو الصحیح فلعلّهم اجتهدوا فی مسألة وأجمعوا علیها من غیر علمه صلّی اللّه علیه و آله.

وقال أبو الحسین البصری فی المعتمد:نعم،یجوز أن ینسخ الله حکماً أجمعت علیه الاُمّة علی عهده،ثمّ قال:فإن قیل:یجوز أن ینسخ إجماع وقع فی زمانه،قلنا:یجوز،و إنّما منعنا الإجماع بعده أن ینسخ،و أمّا فی حیاته فالمنسوخ الدلیل الذی أجمعوا علیه لا حکمه.

والقائلون بجواز انعقاد الإجماع فی زمانه استدلّوا علی أنّ شهادة الرسول صلی الله علیه و آله لهم بالعصمة متناولة لما فی زمانه وما بعده،لکنّ المشهور الأوّل. (3)

وقال بعضهم:إنّ الإجماع ینعقد فی عهده صلی الله علیه و آله کما ینعقد بعد وفاته،ویکون الإجماع حجّة،وقول الرسول صلی الله علیه و آله حجّة اخری،ولا مانع من اجتماع حجّتین علی قضیة واحدة. (4)

ص:70


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:525/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:79/1.
2- (2) .البحر المحیط:537/3.وراجع:إرشاد الفحول:63/2؛فواتح الرحموت:145/2؛الإحکام:144/3؛المحصول:750/2؛المهذّب:610/2؛اُصول السرخسی:66/2؛اُصول الجصّاص:417/1؛شرح المعالم:52/2؛کشف الأسرار:263/3؛روضة الناظر:61؛نزهة الخاطر العاطر:154155/1؛اُصول الفقه الإسلامی:525/1.
3- (3) .البحر المحیط:203/3و537.
4- (4) .الوسیط فی اصول الفقه:79/1؛اُصول الفقه الإسلامی:525.

**أمّا الإمامیة:فلمّا لم یثبت عندهم عصمة الاُمّة عن الخطأ،و إنّما أقصی ما یثبت عندهم من اتّفاق الاُمّة أنّه یکشف عن رأی من له العصمة،فالعصمة فی المنکشف لا فی الکاشف،یعنی:الحجّة هو قول المعصوم الذی یکشف عنه الإجماع عندما تکون له أهلیة هذا الکشف لأنّ عندهم لا یخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع یکون قوله حجّیة یجب الرجوع إلیه،کما یجب الرجوع إلی قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله،و إذا ثبت ذلک،فمتی اجتمعت الاُمّة علی قول،فلا بدّ من کونها حجّة؛لأنّها تکشف عن قول المعصوم،فلذا یجوز إمکان وقوع الاتّفاق فی زمن الرسول صلی الله علیه و آله وبعدما توفّی. (1)

قال المحقّق التستری:إنّ حکم الإجماع فی الأعصار المتأخّرة عن النبی صلی الله علیه و آله هو حکمه بعینه فی عصره،و أنّ وجود خلیفته المتّصف بالشرائط اللاّزمة للإمام،کوجوده حیاً بین امّته إلی آخر الدهر،فکلّ ما یحکم به ویجری فی شأنه بالنظر إلی الإجماع الواقع فی زمانه،والحالات المتحقّقة و الممکنة فی حقّه من ظهوره وتمکّنه وخفائه وغیبته،أو ظهوره وخیفته قبل إعلام الله له بعصمته من الناس وحمایته،فمثله جار فی حقّ الإمام بالنظر إلی اختلاف حالاته فإنّهما فی ذلک شرعٌ سواء لا تفاوت بینهما أصلاً. (2)

اختلاف القائلین بالحجّیة فی الدلیل علی الحجّیة

*اختلف القائلون بالحجّیة،هل الدلیل علی حجّته العقل و السمع أم السمع فقط؟فذهب أکثرهم إلی أنّ الدلیل علی ذلک إنّما هو السمع فقط،ومنعوا ثبوته من جهة العقل؛لأنّ العدد الکثیر و إن بُعد فی العقل اجتماعهم علی الکذب،فلا یبعد اجتماعهم علی الخطأ،کاجتماع الکفّار علی جحد النبوّة. (3)

ص:71


1- (1) .راجع:العدّة فی اصول الفقه:602/2؛معارج الاُصول:126.
2- (2) .کشف القناع:16.
3- (3) .راجع:إرشاد الفحول:169/1؛اُصول الجصّاص:107/2.

لکنّ فخر الإسلام البزدوی استدلّ بالمعقول علی حجّیة الإجماع،وقال علاء الدِّین البخاری فی تقریره:إنّه ثبت بالدلیل العقلی القطعی أنّ نبینا علیه السّلام خاتم الأنبیاء،وشریعته دائمة إلی قیام الساعة،فمتی وقعت حوادث لیس فیها نصّ قاطع من الکتاب و السنّة،وأجمعت الاُمّة علی حکمها،ولم یکن إجماعهم موجباً للعلم،وخرج الحقّ عنهم،ووقعوا فی الخطأ أو اختلفوا فی حکمها،وخرج الحقّ عن أقوالهم،فقد انقطعت شریعته فی بعض الأشیاء،فلا تکون شریعته کلّها دائمة،فیؤدّی إلی الخلف فی إخبار الشارع،وذلک محال یوجب القول بکون الإجماع حجّة قطعیة؛لتدوم الشریعة بوجوده،حتّی لا یؤدّی إلی المحال. (1)

نعم،عبّر الغزالی عن هذا الاستدلال فی المستصفی:المسلک الثالث:التمسّک بالطریق المعنوی. (2)

و قد اورد علیه،بأنّ الاستدلال بالمعقول علی حجّیة الإجماع ضعیف،إذ العدد الکثیر و إن بعُدَ فی العقل اجتماعهم علی الکذب،فلا یبعد اجتماعهم علی الخطأ،کاجتماع الکفّار علی جحد نبوّة سیدنا محمّد صلّی اللّه علیه و آله (3)

**اختلفوا فی مدرک حجّیته،فالجمهور علی أنّه للآیة و الروایة،والخاصّة علی أنّه دخول المعصوم فیهم،یعنی مع وجوده علیه السّلام الإجماع یکون حجّة للأمن علی قوله من الخطأ.وعلی هذا،فالإجماع کاشف عن قول الإمام،لا أنّ الإجماع حجّة فی نفسه من حیث هو إجماع،و قد تقدّم أنّ الإجماع بما هو إجماع لا قیمة علمیة له عند الإمامیة ما لم یکشف عن قول المعصوم،فالحجّة فی الحقیقة هو المنکشف لا الکاشف.

قال الشیخ الطوسی:اختلف من قال إنّه حجّة،فمنهم من قال:إنّه حجّة من جهة

ص:72


1- (1) .کشف الأسرار:383/3؛البحر المحیط:495/3؛المحصول:825/3؛الإحکام:189190/1.
2- (2) .المستصفی:520/1.
3- (3) .الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:94/1؛اُصول الفقه الإسلامی:539540/1.

العقل وهم الشذاذ،وذهب الجمهور الأعظم و السواد الأکثر إلی أنّ طریق کونه حجّة السمع دون العقل..إلی أن قال:والذی نذهب إلیه:إنّ الاُمّة لا یجوز أن تجتمع علی خطأ و أنّ ما یجمع علیه لا یکون إلاّ حجّة؛لأنّ عندنا أنّه لا یخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع یکون قوله حجّة یجب الرجوع إلیه،کما یجب الرجوع إلی قول الرسول صلّی اللّه علیه و آله. (1)

ص:73


1- (1) .العدّة فی اصول الفقه:602/2.وراجع:معارج الاُصول:126 و 127؛تمهید القواعد:251؛اُصول الفقه للمظفّر:351/2و352؛کشف القناع:16؛قوانین الاُصول:349؛مفاتیح الاُصول:494؛الذریعة إلی اصول الشریعة:605/2؛الفصول الغرویة:243.

الخلاصة

ذهب المتکلّمون بأجمعهم،والفقهاء بأسرهم علی اختلاف مذاهبهم إلی أنّ الإجماع حجّة،وحُکی عن النظّام وبعض الخوارج إلی أنّه لیس بحجّة.

قال الزرکشی:قال بعضهم:إنّ النظّام:خالف فی ثبوت الإجماع،وقیل:خالف فی حجّیته،وقیل:إنّه یقول:إنّه حجّة.ولکن،فسّره بکلّ قول قامت حجّیته،و إن کان قول واحد،ومنع الحجّیة عن الإجماع الذی نفسّره نحن بما نفسّره،وقیل:إنّه عنی بإجماع النقل التواتر.

وقال ابن المرتضی:إنّ النظّام قال:الإجماع کلّ خبر یوجب العلم الضروری،قلّ عدد الناقلین أم کثر.واستدلّ للنظّام علی قوله،بأنّه یساوی بین قول جمیع الاُمّة وبین قول آحادها فی جواز الخطأ علی الجمیع.

وقال أبو بکر السرخسی:قال النظّام:لا یکون الإجماع حجّة للعلم بحال؛لأنّه لیس فیه إلاّ اجتماع الأفراد،و إذا کان قول کلّ فرد غیر موجب للعلم؛لکونه غیر معصوم عن الخطأ فکذلک أقاویلهم بعدما اجتمعوا؛لأنّ توهّم الخطأ لا ینعدم بالاجتماع.

واختلف علماء أهل السنّة فی أنّ حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة،أو کان حجّة فی الاُمم السابقة أیضاً.قال بعضهم:إنّه کان حجّة،قال الزرکشی:الأصحّ کما قاله الصیرفی وابن القطّان أنّه لیس بحجّة فی الاُمم السابقة،بل یکون من خصائص هذه الاُمّة؛لأنّ الدلیل إنّما قام علی عصمة هذه الاُمّة دون غیرها.

وتوقّف بعض کالآمدی فی الإحکام و القاضی والابیاری؛لأنّه لم یثبت عندنا استحالة الغلط فی مستند فهم الحکم عند أهل الشرائع المتقدّمة.

وقال المحقّق التستری:ولمّا کان إجماع سائر الاُمم الماضیة المرضیة قبل بعثة نبینا صلی الله علیه و آله ممّا لم یقم الدلیل علی حجّیته،وعلی تقدیر حجّیته کان ککتب أنبیائهم

ص:74

وسنّتهم فی الاختصاص لهم،والخروج من الأدلّة الشرعیة المعتبرة عندنا،فکذلک کان العبرة بإجماع هذه الاُمّة المنتجبة خاصّة.

قال الشاشی:إجماع هذه الاُمّة بعدما توفّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی فروع الدین حجّة موجبة للعمل بها شرعاً.

وقال الزحیلی:لا عبرة بالإجماع فی عصره؛صلی الله علیه و آله لأنّه إذا وافق الرسول المجمعین،فالحجّة هو قوله صلّی اللّه علیه و آله،و إن خالفهم،فلا عبرة بما أجمعوا علیه؛لأنّه صاحب التشریع.وعلیه،لا ینعقد الإجماع فی عهد الرسول صلّی اللّه علیه و آله.

والقائلون بجواز انعقاد الإجماع فی زمانه استدلّوا علی أنّ شهادة الرسول صلی الله علیه و آله لهم بالعصمة متناولة لما فی زمانه وما بعده.

وقال بعضهم:إنّ الإجماع ینعقد فی عهده صلی الله علیه و آله کما ینعقد بعد وفاته،ویکون الإجماع حجّة،وقول الرسول صلی الله علیه و آله حجّة اخری،ولا مانع من اجتماع حجّتین علی قضیة واحدة.

أمّا الإمامیة:فنکتفی بذکر کلام المحقّق التستری،حیث قال فی کشف القناع:إنّ حکم الإجماع فی الأعصار المتأخّرة عن النبی صلی الله علیه و آله هو حکمه بعینه فی عصره،و أنّ وجود خلیفته المتّصف بالشرائط اللاّزمة للإمام،کوجوده حیاً بین امّته إلی آخر الدهر،فکلّ ما یحکم به ویجری فی شأنه بالنظر إلی الإجماع الواقع فی زمانه،والحالات المتحقّقة و الممکنة فی حقّه من ظهوره وتمکّنه وخفائه وغیبته،أو ظهوره وخیفته قبل إعلام الله له بعصمته من الناس وحمایته،فمثله جار فی حقّ الإمام بالنظر إلی اختلاف حالاته،فإنّهما فی ذلک شرعٌ سواء لا تفاوت بینهما أصلاً.

واختلف القائلون بالحجّیة،هل الدلیل علی حجّته العقل و السمع أم السمع فقط؟فذهب أکثرهم إلی أنّ الدلیل علی ذلک إنّما هو السمع فقط،ومنعوا ثبوته من جهة العقل؛لأنّ العدد الکثیر و إن بعُد فی العقل اجتماعهم علی الکذب،فلا یبعد اجتماعهم

ص:75

علی الخطأ،کاجتماع الکفّار علی جحد النبوّة.

لکنّ فخر الإسلام البزدوی و البخاری قالا:إنّه ثبت بالدلیل العقلی القطعی أنّ نبینا علیه السّلام خاتم الأنبیاء،وشریعته دائمة إلی قیام الساعة،فمتی وقعت حوادث لیس فیها نصّ قاطع من الکتاب و السنّة،وأجمعت الاُمّة علی حکمها،ولم یکن إجماعهم موجباً للعلم،وخرج الحقّ عنهم ووقعوا فی الخطأ أو اختلفوا فی حکمها وخرج الحقّ عن أقوالهم فقد انقطعت شریعته فی بعض الأشیاء فلا تکون شریعته کلّها دائمة فیؤدّی إلی الخلف فی إخبار الشارع،وذلک محال یوجب القول بکون الإجماع حجّة قطعیة؛لتدوم الشریعة بوجوده،حتّی لا یؤدّی إلی المحال.

و قد اورد علیه:بأنّ الاستدلال بالمعقول علی حجّیة الإجماع ضعیف،إذ العدد الکثیر و إن بعُدَ فی العقل اجتماعهم علی الکذب،فلا یبعد اجتماعهم علی الخطأ،کاجتماع الکفّار علی جحد نبوّة سیدنا محمّدصلّی اللّه علیه و آله.

أمّا الإمامیة،فیقولون:إنّه حجّة لدخول المعصوم فیهم،فیکون الإجماع حجّة للأمن علی قوله من الخطأ.وعلی هذا،فالإجماع کاشف عن قول الإمام،فعلی هذا یکون حجّة،لا أنّ الإجماع حجّة فی نفسه من حیث هو إجماع،إذ قد تقدّم أنّ الإجماع بما هو إجماع لا قیمة علمیة له عند الإمامیة ما لم یکشف عن قول المعصوم،فالحجّة فی الواقع هو المنکشف لا الکاشف.

ص:76

الأسئلة

1.لماذا قال النظّام:إنّ الإجماع لیس بحجّة؟

2.لماذا تکون حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة؟

3.اُذکر استدلال المحقّق التستری بکون حجّیة الإجماع من خصائص هذه الاُمّة المنتجبة.

4.لماذا لا عبرة بالإجماع فی عصره صلی الله علیه و آله ولا بدّ من کونه بعد وفاة الرسول؟

5.اُذکر استدلال القائلین بجواز انعقاد الإجماع فی زمانه صلّی اللّه علیه و آله.

6.لِمَ لم یفرّق الإمامیة بین حکم الإجماع فی عصره صلی الله علیه و آله و الأعصار المتأخّرة عنه صلّی اللّه علیه و آله؟

7.لماذا ذهب أکثر القائلین بالحجّیة إلی أنّ الدلیل علی حجّیة الإجماع هو السمع فقط؟

8.اُذکر استدلال فخر الإسلام البزدوی و البخاری فی کشف الأسرار علی حجّیة الإجماع بالدلیل العقلی،ثمّ اذکر الإیراد علیه.

9.اُذکر دلیل علماء الإمامیة علی حجّیة الإجماع.

ص:77

ص:78

الدرس الثامن عشر بعد المئة

هل الشیعة من منکری حجّیة الإجماع؟

قبل الورود فی بیان نظریة علماء الشیعة فی حجّیة الإجماع،لا بدّ من ذکر کلام بعض الأعلام من علماء أهل السنّة،حیث أسندوا إنکار حجّیة الإجماع إلی الإمامیة.

*قال الآمدی:اتّفق أکثر المسلمین علی أنّ الإجماع حجّة شرعیة یجب العمل به علی کلّ مسلم،خلافاً للشیعة و الخوارج و النظّام من المعتزلة. (1)

وقال أبو بکر السرخسی:وقال النظّام،وقوم من الإمامیة:لا یکون الإجماع حجّة موجبة للعلم بحال؛لأنّه لیس فیه إلاّ اجتماع الأفراد،و إذا کان قول کلّ فرد غیر موجب للعلم لکونه غیر معصوم عن الخطأ،فکذلک أقاویلهم بعدما اجتمعوا؛لأنّ توهّم الخطأ لا ینعدم بالاجتماع. (2)

قال فی کشف الأسرار:والحاصل أنّ الإجماع حجّة مقطوع بها عند عامّة المسلمین.ومن أهل الأهواء،من لم یجعله حجّة مثل:إبراهیم النظّام،والقاشانی من

ص:79


1- (1) .الإحکام:170/1.
2- (2) .اُصول السرخسی:295/1.

المعتزلة،والخوارج،وأکثر الروافض،وقالت الإمامیة منهم:إنّه لیس بحجّة من حیث الإجماع،ولکنّه حجّة من حیث إنّ الإمام داخل فیهم. (1)

وقال فی فواتح الرحموت:مسألة:بعض النظّامیة و الشیعة قالوا:إنّه محال.وبعد أسطر قال:الإجماع حجّة قطعاً،ویفید العلم الجازم عند الجمیع من أهل القبلة،ولا یعتدّ بشرذمة من الخوارج،والشیعة؛لأنّهم حادثون بعد الاتّفاق،یشککون فی ضروریات الدّین. (2)

وقال الرازی:إجماع أُمّة محمّد صلی الله علیه و آله حجّة خلافاً للنظام،والشیعة،والخوارج. (3)

وقال ابن التلمسانی فی شرح المعالم:و أمّا کونه حجّة،فقد أنکره النظّام،والخوارج و الشیعة و إن سلّموا فی الظاهر کونه حجّة،فهم منازعون فی الباطن؛لاعتقادهم إنّه إنّما کان حجّة لاشتماله علی قول الإمام المعصوم،ونحن ندّعی أنّه حجّة مع نفی الإمام المعصوم،فهم مخالفون لنا فی الحقیقة. (4)

وقال الزرکشی:واذا ثبت إمکان العمل به،فهو حجّة شرعیة،ولم یخالف فیه غیر النظّام و الإمامیة.قال إمام الحرمین:أوّل من باح بردّه النظّام،ثُمَّ تابعه بعض الروافض،أمّا الإمامیة فالمعتبر عندهم قول الإمام دون الاُمّة. (5)

وقال الشوکانی:فذهب الجمهور إلی کونه حجّة،وذهب النظّام،والإمامیة،وبعض الخوارج إلی إنّه لیس بحجّة،و إنّما الحجّة فی مستنده إن ظهر لنا،و إن لم یظهر لم نقدّر للإجماع دلیلاً تقوم به الحجّة. (6)

ص:80


1- (1) .کشف الأسرار:373/3.
2- (2) .فواتح الرحموت:395/2 و397.
3- (3) .المحصول:777/3.وراجع:المهذّب:863/2.
4- (4) .شرح المعالم فی اصول الفقه:56/2.
5- (5) .البحر المحیط:490/3.
6- (6) .إرشاد الفحول:169/1.

وقال الزحیلی:وقال النظّام،والشیعة،والخوارج:إنّ الإجماع لیس بحجّة.و أمّا الشیعة،فإنهم یقولون:إنّ الإجماع حجّة لا لکونه إجماعاً،بل لاشتماله علی قول الإمام المعصوم،وقوله بانفراده عندهم حجّة؛لأنّه رأس الاُمّة ورئیسها،لا لکونه إجماعاً. (1)

وتبعهم علی ذلک بعض الزیدیة کابن المرتضی فی منهاج الوصول، (2)وعبدالله بن حمزة فی صفوة الاختیار. (3)

قد علمت أنّ أکثر الخلف منهم تابع السلف عنهم فی استناد عدم حجیة الإجماع إلی الشیعة تارةً وإلی الإمامیة اخری وإلی الروافض ثالثةً،غیر أنّ بعضهم أشار إلی جهة مخالفة الشیعة معهم فی الحجّیة،فمثلاً ابن التلمسانی أشار إلی ماهیة المخالفة،بمعنی أنّ ماهیة الإجماع عند الإمامیة غیرها عند علماء السنة،وإلاّ فجمیع علماء الاُمّة قائلون بأنّ الإجماع حجّة کما أشار إلی ذلک الشیخ الطوسی؛لأنّه حکی الخلاف عن النظّام و الجعفرین،حیث قال:ذهب المتکلّمون بأجمعهم،والفقهاء بأسرهم علی اختلاف مذاهبهم إلی أنّ الإجماع حجّة،وحُکی عن النظّام وجعفر بن حرب (4)وجعفر بن مبشّر (5)أنّهم قالوا:الإجماع لیس بحجّة. (6)

وصرّح الشهید الثانی،حیث قال بعد تعریف الإجماع،بأنّه اتّفاق المجتهدین من امّة النبی صلی الله علیه و آله علی حکم:و هو حجّة عند العلماء إلاّ من شذّ. (7)

ص:81


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:539/1؛والوسیط فی اصول الفقه:93/1.
2- (2) .منهاج الوُصول إلی معیار العقول:591.
3- (3) .صفوة الاختیار:244.
4- (4) .هو أبو الفضل جعفر بن حَرْب الهمدانی من کبار المتکلّمین وأئمّة الاعتزال،أخذ الکلام عن أبی الهُذیل العلاّف بالبصرة،له مصنّفات عدیدة،منها:(الإیضاح)؛و(المسترشد)،توفّی سنة 236ه.
5- (5) .هو أبو محمّد جعفر بن مُبشِّر بن أحمد الثقفی،متکلّم ومن کبار مدرسة الاعتزال،کان ورعاً،زاهداً،مجانباً لأبواب السلاطین.توفّی سنة 234ه.
6- (6) .العدة فی اصول الفقه:601/2؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:257.
7- (7) .تمهید القواعد:251.

وصرّح المحقّق التستری بذلک أیضاً،حیث قال:إعلم أنّ الأدلّة العقلیة و النقلیة تضافرت علی حجیته فی الأحکام الشرعیة و المطالب الدینیة،واتّفق علیها جمهور علماء الاُمّة من الخاصّة و العامّة،وخالف فیها شذوذ منهم لا یعبأ بخلافهم،ولا غرض لنا هنا بنقل کلامهم. (1)

والشأن کلّ الشأن فی بیان ماهیة الخلاف ووجهها ثمّ بیان ثمرة الخلاف التی تنشأ منها،قال المحقّق التستری:و إنّما الخلاف المعتدّ به فی علّة ذلک ودلیله ومن هذا نشأ الخلاف فی تحقیق من یعتبر قوله فی ماهیته وتحصیله. (2)

یعنی أنّ نقطة الخلاف هی:وجود المعصوم علیه السّلام فی کلّ جماعة هو أحدهم کما علیه بعض قدماء الإمامیة،أو هی:إنّ اتّفاق المجمعین بحیث یکشف کشفاً قطعیاً عن قول المعصوم،فیکون له حکم الإجماع.

وعلی ما ذکر،قال السید المرتضی:إذا کان علّة کون الإجماع حجّةً کون الإمام فیه،فکلّ جماعة کثرت أو قلّت کان قول الإمام فی جملة أقوالها،فإجماعها حجّة؛لأنّ الحجّة إذا کانت هو قوله،فبأی شیء اقترن لا بدّ من کونه حجّة لأجله لا لأجل الإجماع،إلی أن قال:والذی یجب أن نعوّل علیه فی هذه المسألة أن نقول:لیس یخلو الواحد و الإثنان المخالفان لما علیه الجماعة من أن یکون إمام الزمان المعصوم أحدهما قطعاً أو تجویزاً،أو یعلم أنّه لیس بأحدهما قطعاً ویقیناً،والقسم الأوّل یقتضی أن یکون قول الجماعة و إن کثرت هو الخطأ،وقول الواحد والاثنین لأجل اشتماله علی قول الإمام هو الحقّ و الحجّة،فأمّا القسم الثانی فأنّا لا نعتدّ فیه بقول الواحد والاثنین لعلمنا بخروج قول الإمام عن قولهما،و أنّ قوله فی أقوال تلک الجماعة،بل نقطع علی أنّ إجماع تلک الجماعة،و إن لم تکن جمیع الاُمّة،هو الحقّ و الحجّة؛لکون الإمام فیهم. (3)

ص:82


1- (1) .کشف القناع:4.
2- (2) .کشف القناع:4.
3- (3) .الذریعة إلی اصول الشیعة:630/2-632.وراجع:المعتبر:31/1؛معالم الدّین:240241؛معارج الاُصول:132133؛فرائد الاُصول:185/1.

وقال العلاّمة المحقّق المظفّر:ولذا توسّع الإمامیة فی إطلاق کلمة الإجماع علی اتّفاق جماعة قلیلة لا یسمّی اتّفاقهم فی الاصطلاح إجماعاً،باعتبار أنّ اتّفاقهم یکشف کشفاً قطعیاً عن قول المعصوم،فیکون له حکم الإجماع،بینما لا یعتبرون الإجماع الذی لا یکشف عن قول المعصوم و إن سمّی إجماعاً بالاصطلاح،و هذه نقطة خلاف جوهریة فی الإجماع. (1)یعنی نقطة الخلاف فی ماهیة الإجماع بین الإمامیة ومخالفیهم من أهل السنّة و الزیدیة و الخوارج،فإنّ لها کلّ الأثر فی تقییم الإجماع من حجیته وعدمها.

نعم،قال الشیخ الأعظم الأنصاری:یمکن أن یقال:إنّهم قد تسامحوا فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق الجماعة التی علم دخول الإمام علیه السّلام فیها لوجود مناط الحجّیة فیه،وکون وجود المخالف غیر مؤثّر شیئاً. (2)

أقول:هذا الکلام منه مبنی علی کون الإجماع الاصطلاحی هو اتّفاق جمیع العلماء فی عصر،و أمّا علی اصطلاح الخاصّة،فلا مسامحة فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق طائفة من الإمامیة کما أشار نفسه إلیه.

*ویؤید ما ذکرناه ما ذکره العالمان المحقّقان لکتاب(المحصول)ذیل البحث عن حجّیة الإجماع،حیث قالا:و أمّا بعض الشیعة فإنّهم یقولون:إنّ إجماع المجمعین حجّة إذا کان فیهم الإمام المعصوم،و هذا یقتضی إنّهم یوافقون الجمهور فی حجیة الإجماع،لکنهم عند التحقیق مخالفون؛لأنّهم لا یقولون بحجیته لکونه إجماعاً،بل لاشتماله علی قول الإمام المعصوم،وقوله بانفراده عندهم حجّة. (3)

ص:83


1- (1) .اُصول الفقه:352/2.
2- (2) .فرائد الاُصول:187/1.
3- (3) .المحصول:778/3.

ثمرة الخلاف الماهوی فی حجّیة الإجماع

وتظهر الفائدة فیما لو خالف غیر المعصوم من المجتهدین،فإنّه لا یقدح فی حجّیة ما وافق هو علیه عند الخاصّة؛لأنّ العبرة بقوله،لکن یصدق معه إنّ الإجماع حجّة و إن لم یکن من حیث هو إجماع،ومن هنا نسب بعضهم(أی علماء أهل السنّة)إلینا القول بأنّ الإجماع لیس بحجّة،ولیس بصحیح،و إنّما الاختلاف فی الحقیقة،وعند الجمهور تقدح مخالفة غیر النادر. (1)

وکذا لو علم بدخول المعصوم فیهم بعینه-کما فی زمان الظهور-ولم یکن لقولهم مدخل فی الکشف عن قوله علیه السّلام،فإنّ ذلک لا یسمّی إجماعاً عند الإمامیة،و قد نبّه علی ذلک صاحب المعالم،حیث قال:إنّ فائدة الإجماع تعدم عندنا إذا علم الإمام بعینه.نعم،یتصوّر وجودها حیث لا یعلم بعینه،ولکن یعلم کونه فی جملة المجمعین. (2)

وبناءً علیه،فقد ذکرنا فی تعریف الإجماع،وقلنا:والصواب أن یعرّف الإجماع-علی قول من یعتبر دخول المعصوم فی المجمعین-بأنّه:اتّفاق جماعة یعتبر قولهم فی الفتاوی الشرعیة علی حکم دینی،بحیث یقطع بدخول المعصوم فیهم لا علی التعیین ولو فی الجملة،أو اتّفاق جماعة علی حکم دینی یقطع بأنّ المعصوم أحدهم لا علی التعیین.

فعلی هذا التعریف،لا یسمّی اتّفاق المعصومین صلوات الله علیهم أجمعین إجماعاً؛لأنّ المعصوم یعرف فیهم بعینه،وإلاّ کانت جمیع الأحکام علی الواقع إجماعیاً.

ومن الثمرات أیضاً:إنّ الإجماع علی مبنی الإمامیة دلیل علی الدلیل علی الحکم،وعلی مبنی الجمهور،فهو دلیل علی الحکم،إذ الإجماع عند علماء الشیعة منزلته منزلة الخبر المتواتر الکاشف بنحو القطع عن قول المعصوم،فکما أنّ الخبر المتواتر لیس

ص:84


1- (1) .راجع:تمهید القواعد:251252.
2- (2) .معالم الدّین:240.وراجع:الفصول الغرویة:244.

بنفسه دلیلاً علی الحکم الشرعی رأساً،بل هو دلیل علی الدلیل علی الحکم،فکذلک الإجماع لیس بنفسه دلیلاً،بل هو دلیل علی الدلیل،غایة الأمر أنّ هناک فرقاً بین الإجماع و الخبر المتواتر،و هو أنّ الخبر دلیل لفظی علی قول المعصوم،والإجماع دلیل قطعی علی نفس رأی المعصوم لا علی لفظ خاص له،ولأجل هذا یسمّی الإجماع بالدلیل اللبّی نظیر الدلیل العقلی،یعنی:إنّه یثبت بهما نفس المعنی و المضمون من الحکم الشرعی الذی هو کاللّب بالنسبة إلی اللّفظ الحاکی عنه الذی هو کالقشر له. (1)

ما ذکرناه یؤیده ما ذکره الزرکشی،حیث قال:إذا انعقد الإجماع بأحد هذه الدلائل،فهل یکون منعقداً علی الحکم الثابت بالدلیل،أو منعقداً علی الدلائل الموجبة للحکم؟فیه خلاف،حکاه صاحب القواطع،قال:فذهب بعض المتکلّمین و الأشعریة إلی أنّه ینعقد علی الدلائل الموجبة للحکم،وذهب أکثر الفقهاء و المتکلّمین إلی أنّه ینعقد علی المستخرج من الدلائل الصحیحة؛لأنّ الحکم هو المطلوب من الدلیل،ولأجله انعقد الإجماع. (2)

هل یستکشف الحکم الشرعی من اتّفاق الناس علی حکم الشارع

إنّ الناس أو أی امّة من الاُمم إذا أجمعوا علی شیء،هل یکون لإجماعهم واتّفاقهم قیمة علمیة یستکشف عنه حکم الله؟بمعنی:إنّ إجماع الناس جمیعاً علی شیء بما هو إجماع لا ملازمة بینه وبین حکم الله تعالی،فالعلم بالشیء المذکور لا یستلزم العلم بحکم الله بأی وجه من وجوه الملازمة،أعنی:الملازمة العقلیة أو اللّفظیة البینة بالمعنی الأخصّ أو الأعمّ؛لأنّ اتّفاقهم قد یکون بدافع العادة أو العقیدة أو

ص:85


1- (1) .راجع:اُصول الفقه:358/2؛شرح الحلقة الثالثة:4748/2.
2- (2) .البحر المحیط:504/3.

الانفعال النفسی أو الشبهة أو نحو ذلک،وکلّ هذه الدوافع من خصائص البشر،لا یشارکهم الشارع المقدّس فیها لتنزهّه عنها،فإذا حکموا بشیء بأحد هذه الدوافع لا یجب أن یحکم الشارع بحکمهم،فلا یستکشف من اتّفاقهم علی حکم،بما هو اتّفاق،أنّ هذا الحکم واقعاً هو حکم الشارع.

ولو أنّ إجماع الناس،بما هو إجماع کیفما کان،وبأی دافع کان،هو حجّة ودلیل لوجب أن یکون إجماع الاُمم الاُخری غیر المسلمة أیضاً حجّة ودلیلاً،والحال لا یقول بذلک واحد ممّن یری حجّیة الإجماع. (1)

ص:86


1- (1) .راجع:اُصول الفقه:352/2-353.

الخلاصة

اسند بعض الأعلام من علماء أهل السنّة إنکار حجّیة الإجماع إلی الإمامیة،منهم:الآمدی حیث قال:اتّفق أکثر المسلمین علی أنّ الإجماع حجّة شرعیة یجب العمل به علی کلّ مسلم،خلافاً للشیعة و الخوارج و النظّام من المعتزلة.

وقال أبوبکر السرخسی:وقال النظّام وقوم من الإمامیة لا یکون الإجماع حجّة موجبة للعلم بحال؛لأنّه لیس فیه إلاّ اجتماع الأفراد،و إذا کان قول کلّ فرد غیر موجب للعلم لکونه غیر معصوم عن الخطأ،فکذلک أقاویلهم بعد ما اجتمعوا؛لأنّ توهّم الخطأ لا ینعدم بالاجتماع.

وقال فی کشف الأسرار:والحاصل أنّ الإجماع حجّة مقطوع بها عند عامّة المسلمین.ومن أهل الأهواء،من لم یجعله حجّة مثل:إبراهیم النظّام،والقاشانی من المعتزلة،والخوارج،وأکثر الروافض،وقالت الإمامیة منهم:إنّه لیس بحجّة من حیث الإجماع ولکنّه حجّة من حیث إنّ الإمام داخل فیهم.

وتبعهم علی ذلک بعض الزیدیة کابن المرتضی فی منهاج الوصول،وعبدالله بن حمزة فی صفوة الاختیار.

أشار ابن التلمسانی إلی ماهیة المخالفة،بمعنی أنّ ماهیة الإجماع عند الإمامیة غیرها عند الجمهور،وإلاّ فجمیع علماء الاُمّة قائلون بأنّ الإجماع حجّة کما أشار إلی ذلک الشیخ الطوسی،وصرّح الشهید الثانی،والمحقّق التستری.والکلام کلّ الکلام فی بیان ماهیة الخلاف ووجهها،ثمّ بیان ثمرة الخلاف.

قال المحقّق التستری:و إنّما الخلاف المعتدّ به فی علّة ذلک ودلیله،ومن هذا نشأ الخلاف فی تحقیق من یعتبر قوله فی ماهیته وتحصیله.یعنی أنّ نقطة الخلاف ورکیزته هی وجود المعصوم فی کل جماعة هو أحدهم،کما علیه بعض قدماء

ص:87

الإمامیة،أو هی أنّ اتّفاق المجمعین بحیث یکشف کشفاً قطعیاً عن قول المعصوم،فیکون له حکم الإجماع.وبناءً علی ما ذُکر قال،السید المرتضی:إذا کان علّة کون الإجماع حجّة کون الإمام فیه،فکلّ جماعة کثرت أو قلّت کان قول الإمام فی جملة أقوالها،فإجماعها حجّة؛لأنّ الحجّة إذا کانت هو قوله،فبأیّ شیء اقترن لا بدّ من کونه حجّة لأجله لا لأجل الإجماع.

وقال العلاّمة المظفّر:ولذا توسّع الإمامیة فی إطلاق کلمة الإجماع علی اتّفاق جماعة قلیلة لا یسمّی اتّفاقهم فی الاصطلاح إجماعاً،باعتبار أنّ اتّفاقهم یکشف کشفاً قطعیاً عن قول المعصوم،فیکون له حکم الإجماع،بینما لا یعتبرون الإجماع الذی لا یکشف عن قول المعصوم،و إن سمّی إجماعاً بالاصطلاح،و هذه نقطة خلاف جوهریة فی الإجماع.

وقول الشیخ الأعظم الأنصاری:یمکن أن یقال:إنّهم قد تسامحوا فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق الجماعة التی علم دخول الإمام فیها لوجود مناط الحجّیة فیه،وکون وجود المخالف غیر مؤثّر شیئاً،قوله مبنی علی کون الإجماع الاصطلاحی هو اتّفاق جمیع العلماء فی عصر،و أمّا علی اصطلاح الخاصّة،فلا مسامحة فیه.

وتظهر الفائدة فیما لو خالف غیر المعصوم من المجتهدین،فإنّه لا یقدح فی حجّیة ما وافق هو علیه عند الخاصّة،ومن هنا نسب بعض أهل السنّة إلینا القول بأنّ الإجماع لیس بحجّة،ولیس بصحیح؛لأنّ الاختلاف فی الحقیقة،و أمّا عند الجمهور تقدح مخالفة غیر النادر.

وکذا لو عُلم بدخول المعصوم فیهم بعینه-کما فی زمان الظهور-ولم یکن لقولهم مدخل فی الکشف عن قوله علیه السّلام،فإنّ ذلک لا یسمّی إجماعاً عند الإمامیة.

وهکذا،فإنّ اتّفاق المعصومین صلوات الله علیهم أجمعین لا یسمّی إجماعاً؛لأنّ المعصوم معروف بعینه،وإلاّ کانت جمیع الأحکام علی الواقع إجماعیاً.

ص:88

ومن الفوائد أیضاً:إنّ الإجماع علی مبنی الإمامیة دلیل علی الدلیل علی الحکم،وعلی مبنی الجمهور،فهو دلیل علی الحکم.

إنّ الناس أو أی أمة من الاُمم إذا أجمعوا علی شیء،هل یکون لإجماعهم واتّفاقهم قیمة علمیة یستکشف عنه حکم الله؟جوابه:إنّ إجماع الناس جمیعاً علی شیء بما هو إجماع لا قیمه له؛لأنّه لا ملازمة بینه وبین حکم الله تعالی،فالعلم بالشیء المذکور لا یستلزم العلم بحکم الله بأی وجه من وجوه الملازمة؛لأنّ اتّفاقهم قد یکون بدافع العادة أو العقیدة أو الأنفعال النفسی أو الشبهة أو نحو ذلک،وکلّ هذه الدوافع من خصائص البشر،لا یشارکهم الشارع المقدّس فیها لتنزهّه عنها.

ولو أنّ إجماع الناس بما هو إجماع کیفما کان وبأی دافع کان،هو حجّة ودلیل لوجب أن یکون إجماع الاُمم الاُخری غیر المسلمة أیضاً حجّة ودلیلاً،والحال لا یقول بذلک واحد ممّن یری حجیة الإجماع.

ص:89

الاسئلة

1.علی رأی أبی بکر السرخسی لِمَ لا یکون الإجماع عند الإمامیة حجّة موجبة للعلم بحال؟

2.ما هی نقطة الخلاف فی حجیة الإجماع وعدمها عند الإمامیة وعند الجمهور؟

3.لماذا یکون کلّ جماعة کثُرت أو قلّت کان قول الإمام فی جملة أقوالها حجّةً؟

4.لماذا توسّع الإمامیة فی إطلاق کلمة الإجماع علی اتّفاق جماعة قلیلة لا یسمّی اتّفاقهم فی الاصطلاح إجماعاً؟

5.إذکر فائدتین من الفوائد التی تترتّب علی الاختلاف الماهوی فی حقیقة الإجماع.

6.لماذا لا یکون لإجماع الناس قیمة علمیة بحیث یستکشف عنه حکم الله تعالی؟

7.لماذا یجب أن یکون إجماع الاُمم الاُخری غیر المسلمة حجّة لو کان إجماع الناس بما هو إجماع وبأی دافع کان؟

ص:90

الدرس التاسع عشر بعد المئة

الإجماع السکوتی

*ثمّ إجماعهم(الصحابة)بنصّ البعض،وسکوت الباقین عن الردّ. (1)

الإجماع بحسب طریقة تکوینه نوعان:إجماع صریح أو نطقی،وإجماع سکوتی.فالإجماع الصریح مرّ تعریفه بأنّه عبارة عن:اتّفاق آراء المجتهدین علی حکم فی مسألة.

تعریف الإجماع السکوتی

الإجماع السکوتی عُرّف بتعاریف من قبیل:قد یکون القول من بعضهم وسکوت الباقین بعد انتشاره من غیر أن یظهر معهم اعتراف أو رضاً به، (2)وقال الزحیلی:هو أن یقول بعض المجتهدین فی العصر الواحد قولاً فی مسألة،ویسکت الباقون بعد اطّلاعهم علی هذا القول من غیر إنکار. (3)

ص:91


1- (1) .اُصول الشاشی:79.
2- (2) .البحر المحیط:538/3.
3- (3) .الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:107/1.وراجع:اُصول الفقه الإسلامی:552/1؛إرشاد الفحول:190/1؛اُصول الفقه:273.

وقال أبو إسحاق الشیرازی فی تعریفه:إذا قال الصحابی قولاً وظهر ذلک فی علماء الصحابة وانتشر ولم یعرف له مخالف،کان ذلک إجماعاً مقطوعاً به. (1)

**قال الفاضل القمّی فی تعریفه:إذا قال بعض المجتهدین بقول،وشاع بین الباقین من غیر إنکار له،فهو المسمّی بالإجماع السکوتی.

وقیل:إنّه ما أفتی بعض أهل العصر فی حضور الباقین فسکتوا عن الإنکار.

وأیضاً قیل فی تعریفه:إنّه ما أفتی الواحد أو الأکثر وعرف الباقون واطّلعوا فسکتوا. (2)

هذا أعمّ من سابقه،ولکن ما ذکره الفاضل القمّی أعم منهما،ومع هذا ما ذکره القمّی صغروی،و هو أنّ سکوت الباقین وعدم إنکارهم للفتوی علی المفتی هل یکشف عن رضاهم بها وموافقتهم له فیها أم لا؟

أقول:أحسن التعاریف وأجمعها،تعریف عبدالکریم زیدان فی الوجیز،و هذا لفظه:هو أن یبدی المجتهد رأیه فی مسألة،ویعرف هذا الرأی ویشتهر،ویبلغ الآخرین،فیسکتوا ولا ینکروه صراحة،ولا یوافقوا علیه صراحة مع عدم المانع من إبداء الرأی،بأن تمضی مدّة کافیة للنظر فی المسألة،ولا یوجد ما یحمل المجتهد علی السکوت من خوف من أحد أو هیبة له أو غیر ذلک من الموانع. (3)

قیود تحقّق الإجماع السکوتی

*قال المحقّق الاُصولی بدر الدّین محمّد الزرکشی:لا بدّ فی البحث عن الإجماع السکوتی من القیود التی لا بدّ منها:

الأوّل:أن یکون فی مسائل التکلیف،فقول القائل:عمّار أفضل من حذیفة،لا یدلّ

ص:92


1- (1) .التبصرة فی اصول الفقه:391.
2- (2) .قوانین الاُصول:368.
3- (3) .الوجیز:184.

السکوت فیه علی شیء،إذ لا تکلیف علی الناس فیه.قاله ابن الصبّاغ فی العُدّة،وابن السمعانی فی القواطع،وأبو الحسین فی المعتمد،وغیرهم.

القید الثانی:أن یعلم أنّه بلغ جمیع أهل العصر،ولم ینکروا،وإلاّ فلا یکون إجماعاً سکوتیاً.

القید الثالث:کون المسألة مجرّدة عن الرضی و الکراهة،فإن ظهر علیهم الرضا بما ذهبوا إلیه،فهو إجماع بلا خلاف...وقضیته أنّه إن ظهرت أمارات السُّخط لم یکن إجماعاً قطعاً.

القید الرابع:مضی زمن یسع قدر مهلة النظر عادة فی تلک المسألة،فلو احتمل أنّ الساکتین کانوا فی مهلة النظر لم یکن إجماعاً سکوتیاً.

القید الخامس:أن لا یتکرّر ذلک مع طول الزمان،فإن تکرّرت الفتیا،وطالت المدّة مع عدم المخالفة،فإنّ ظنّ مخالفتهم یترجّح،بل یقطع بها.قال إلکیا الطبری:قول الشافعی:لا ینسب إلی ساکت قول،أراد به ما إذا کان السکوت فی المجلس،ولا یتصوّر السکوت إلاّ کذلک،وفی غیره لا سکوت علی الحقیقة،وصرّح بذلک أیضاً التلمسانی فی شرح المعالم، (1)وأنّه لیس من محلّ الخلاف،بل هو إجماع وحجّة عند الشافعی،قال:ولهذا استدلّ علی إثبات القیاس وخبر الآحاد بذلک؛لکونه فی وقائع.

وقال الرازی فی المعالم:إنّ ذلک تناقض من الشافعی،ولیس کذلک،ولذلک جعل إمام الحرمین صورة المسألة ما إذا لم یطل الزمان مع تکرّر الوقائع،فإن تکرّرت مع الطول،فقضیة کلام القاضی جریان الخلاف فیه.

القید السادس:أن یکون قبل استقرار المذاهب،فأمّا بعد استقرارها،فلا أثر

ص:93


1- (1) .شرح المعالم:124/2.

للسکوت قطعاً،کإفتاء مقلّد سکت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم ومذهبه،ذکر هذا القید إلکیا الطبری وغیره. (1)

وزاد ابن السبکی شرطاً سابعاً للخلاف فی هذه المسألة،و هو أن یکون القائل فی محلّ الاجتهاد، (2)وبعبارة اخری أن تکون المسألة اجتهادیة. (3)

تبصرة

*اختلف العلماء فی تصویر المسألة علی قولین:

أحدهما:جعلوا ذلک عاماً فی حقّ کلّ عصر من المجتهدین،و هو الذی صرّح به الحنفیة فی کتبهم،و إمام الحرمین فی البرهان،والفخر الرازی فی کتبه،والآمدی،وابن الحاجب،والقرافی من المالکیة،وزیدان فی الوجیز،والزحیلی فی الوسیط واُصول الفقه الإسلامی.

ثانیهما:من خصّ هذه المسألة بعصر الصحابة دون من بعدهم کالشاشی،والقدماء من أصحاب الشافعی،وغیرهم،منهم:الماوردی فی الحاوی،والشیخ أبو حامد الإسفراینی فی تعلیقه،والشیخ أبو إسحاق الشیرازی فی التبصرة وإلکیا الطبری،والغزالی فی المستصفی و المنخول،والقاضی عبدالوهاب من المالکیة،والموفّق الحنبلی فی الروضة. (4)

**لکنّ المتعرّضین علی المسألة من الإمامیة کالسید المرتضی،والعلاّمة الحلّی،والفاضل القمّی،وغیرهم،عممّوا البحث حیث لم یقیدوه بعصر الصحابة إلاّ العلاّمة،

ص:94


1- (1) .البحر المحیط:547549/3.وراجع:اُصول الفقه الإسلامی:533/1؛اُصول الفقه:275.
2- (2) .راجع:التبصرة فی اصول الفقه:391 تعلیقة رقم 2.
3- (3) .اُصول الفقه الإسلامی:553/1.
4- (4) .اُصول الشاشی:79؛البحر المحیط:550/3؛التبصرة فی اصول الفقه:391 تعلیقة رقم 2.

فإنّه قال:ولو قال بعض أهل العصر قولاً،وسکت الحاضرون،فالحقّ أنّه لیس بإجماع؛لاحتمال السکوت غیر الرضا.ولو قال بعض الصحابة قولاً،ولم یوجد له مخالف،لم یکن إجماعاً. (1)

أقول:إنّ سکوت الساکتین من غیر الصحابة لا یدلّ علی الرضا،وبالنتیجة لا یتحقّق الإجماع،وأیضاً عدم وجدان مخالف من الصحابة لا یدلّ علی کون قول بعضهم إجماعاً؛لأنّ ما قاله البعض إمّا أن یکون ممّا تعمّ به البلوی أو لا،فالأوّل:لا بدّ أن یکون للباقین فیه قول،إمّا مخالف أو موافق و إن لم یظهر فجری ذلک مجری السکوت و قد تقدّم وسیأتی فی الدرس الآتی وتالیه إنّه لا یدلّ علی الرضا؛لاحتمال امور مختلفة متباینة.والثانی:یحتمل أن لا یکون للباقین فیه قول،وحینئذٍ لم یکن إجماعاً.

ص:95


1- (1) .مبادئ الوصول إلی علم الاُصول:194.

الخلاصة

الإجماع بحسب طریقة تکوینه نوعان:إجماع صریح أو نطقی،وإجماع سکوتی،والإجماع السکوتی عرّف بتعاریف،منها:قد یکون القول من بعضهم وسکوت الباقین بعد انتشاره من غیر أن یظهر معهم اعتراف أو رضاً به،وقیل:هو أن یقول بعض المجتهدین فی العصر الواحد قولاً فی مسألة،ویسکت الباقون بعد اطّلاعهم علی هذا القول من غیر إنکار.

وأیضاً قیل:إذا قال بعض المجتهدین بقول،وشاع بین الباقین من غیر إنکار له،فهو المسمّی بالإجماع السکوتی.

أمّا أحسن التعاریف وأجمعها:هو أن یبدی المجتهد رأیه فی مسألة،ویعرف هذا الرأی ویشتهر،ویبلغ الآخرین فیسکتوا ولا ینکروه صراحةً،ولا یوافقوا علیه صراحة مع عدم المانع من إبداء الرأی،بأن تمضی مدّة کافیة للنظر فی المسألة،ولا یوجد ما یحمل المجتهد علی السکوت من خوف من أحد أو هیبة له أو غیر ذلک من الموانع.

وذُکر فی تحقّق الإجماع السکوتی قیود:

الأوّل:أن یکون فی مسائل التکلیف،فقول القائل:عمّار أفضل من حذیفة،لا یدلّ السکوت فیه علی شیء.

والثانی:أن یعلم أنّه بلغ جمیع أهل العصر ولم ینکروا.

الثالث:کون المسألة مجرّدة عن الرضا و الکراهة،فإن ظهر علیهم الرضا بما ذهبوا إلیه،فهو إجماع بلا خلاف.

الرابع:مضی زمن یسع قدر مهلة النظر عادة فی تلک المسألة.

الخامس:أنّ لا یتکرّر ذلک مع طول الزمان،فإن تکرّرت الفتیا،وطالت المدّة مع عدم المخالفة،فإنّ ظنّ مخالفتهم یترجّح،بل یقطع بها،وقول الشافعی:لا ینسب إلی

ص:96

ساکت قول،أراد به ما إذا کان السکوت فی المجلس،ولا یتصوّر السکوت إلاّ کذلک،وفی غیره لا سکوت علی الحقیقة.

السادس:أن یکون قبل استقرار المذاهب،فأمّا بعد استقرارها،فلا أثر للسکوت قطعاً.وزید فی المسألة شرط سابع،و هو:أن تکون المسألة اجتهادیة.

اختلف العلماء فی تصویر المسألة علی قولین:

أحدهما:جعلوا ذلک عاماً فی حقّ کلّ عصر من المجتهدین،و هو الذی صرّح به الحنفیة فی کتبهم.

والثانی:من خص هذه المسألة بعصر الصحابة دون من بعدهم.

والمتعرضون علی المسألة من الإمامیة عمّموا البحث،حیث لم یقیدوه بعصر الصحابة.أقول:إنّ سکوت الساکتین من غیر الصحابة لا یدلّ علی الرضا،وبالنتیجة لا یتحقّق الإجماع،وأیضاً عدم وجدان مخالف من الصحابة لا یدلّ علی کون قول بعضهم إجماعاً؛لأنّ ما قاله البعض إمّا أن یکون ممّا تعمّ به البلوی أو لا،

فالأوّل:لا بدّ أن یکون للباقین فیه قول أمّا مخالف أو موافق،و إن لم یظهر فجری ذلک مجری السکوت،والسکوت لا یدلّ علی الرضا؛لاحتمال امور مختلفة،کما یأتی فی الدرس الآتی وتالیه.والثانی:أن لا یکون للباقین فیه قول،وحینئذٍ لم یکن إجماعاً.

ص:97

الأسئلة

1.اُذکر تعریف الإجماع السکوتی.

2.ما هو أحسن التعاریف وأجمعها اذکره؟

3.اُذکر قیود تحقّق الإجماع السکوتی.

4.اُذکر الأقوال فی تصویر مسألة الإجماع السکوتی.

5.لماذا لا یدلّ عدم وجدان المخالف من الصحابة علی کون قول البعض إجماعاً؟

ص:98

الدرس العشرون بعد المئة

حجّیة الإجماع السکوتی

*قال الشاشی:ثمّ الإجماع بنصّ البعض وسکوت الباقین،فهو بمنزلة المتواتر. (1)

قال الغزالی:إنّ السکوت لیس کالنطق،و إنّ انقراض العصر لیس بشرط،و إنّ الإجماع قد ینعقد عن اجتهاد،فهذه ثلاث مسائل.

مسألة:إذا أفتی بعض الصحابة بفتوی وسکت الآخرون،لم ینعقد الإجماع،ولا ینسب إلی ساکت قولٌ،وقال قوم:إذا انتشر وسکتوا،فسکوتهم کالنطق حتّی یتمّ به الإجماع،وشرط قوم انقراض العصر علی السکوت،وقال قوم:هو حجّة ولیس بإجماع،وقال آخرون:لیس بحجّة ولا إجماع،ولکنّه دلیل تجویزهم الاجتهاد فی المسألة.

والمختار أنّه لیس بإجماع،ولا حجّة،ولا هو دلیل علی تجویز الاجتهاد فی المسألة إلاّ إذا دلّت قرائن الأحوال علی أنّهم سکتوا مضمرین الرضا،وجواز الأخذ به عند السکوت.والدلیل علیه أنّ فتواه إنّما تُعلم بقوله الصریح الذی لا یتطرّق إلیه احتمال وتردّد،والسکوت تردّد،فقد یسکت من غیر إضمار الرضا لسبعة أسباب:

ص:99


1- (1) .اُصول الشاشی:79.

الأوّل:أن یکون فی باطنه مانع من إظهار القول،ونحن لا نطلع علیه،و قد تظهر قرائن السخط علیه مع سکوته.

الثانی:أن یسکت؛لأنّه یراه قولاً سائغاً لمن أدّاه إلیه اجتهاده،و إن لم یکن هو موافقاً علیه،بل کان یعتقد خطأه.

الثالث:أن یعتقد أنّ کلّ مجتهد مصیب،فلا یری الإنکار فی المجتهدات أصلاً،ولا یری الجواب إلاّ فرض کفایة،فإذا کفاه من هو مصیب سکت،و إن خالف اجتهاده.

الرابع:أن یسکت و هو منکر،لکن ینتظر فرصة الإنکار،ولا یری البدار مصلحة.

الخامس:أن یعلم أنّه لو أنکر لم یلتفت إلیه،وناله ذلّ و هوان،کما قال ابن عبّاس فی سکوته عن إنکار العول فی حیاة عمر:کان رجلاً مهیباً فهبته.

السادس:أن یسکت؛لأنّه متوقّف فی المسألة؛لأنّه بعدُ فی مهلة النظر.

السابع:أن یسکت؛لظنّه أنّ غیره قد کفاه الإنکار،وأغناه عن الإظهار،ثمّ یکون قد غلط فیه فترک الإنکار عن توهّم،إذ رأی الإنکار فرض کفایة،وظنّ أنّه قد کُفی،و هو مخطئ فی وهمه.

فإنّ قیل:لو کان فیه خلاف لظهر.

قلنا:ولو کان فیه وفاق لظهر. (1)

وقال الشوکانی:وفیه مذاهب:

الأوّل:إنّه لیس بإجماع ولا حجّة،قاله داود الظاهری،وابنه،والمرتضی،وعزاه القاضی إلی الشافعی واختاره،وقال:إنّه آخر أقوال الشافعی.وقال الغزالی،والرازی،والآمدی:إنّه نصّ الشافعی فی الجدید،وقال الجوینی:إنّه ظاهر مذهبه.

الثانی:إنّه إجماع وحجّة،وبه قال جماعة من الشافعیة،وجماعة من أهل الاُصول،

ص:100


1- (1) .المستصفی:555559/1.وراجع:اُصول الفقه:274.

وروی نحوه عن الشافعی.قال الاُستاذ أبو إسحاق:اختلف أصحابنا فی تسمیته إجماعاً،مع اتّفاقهم علی وجوب العمل به.وقال أبو حامد الإسفرایینی:هو حجّة مقطوع بها،وفی تسمیته إجماعاً وجهان:أحدهما:المنع،و إنّما هو حجّة کالخبر.والثانی:یسمّی إجماعاً،و هو قولنا.انتهی.

واستدلّ القائلون بهذا القول،بأنّ سکوتهم ظاهر فی الموافقة،إذ یبعد سکوت الکلّ مع اعتقاد المخالفة عادةً،فکان ذلک محصّلاً للظنّ بالاتّفاق.واُجیب:باحتمال أن یکون سکوت من سکت عن الإنکار لتعارض الأدلّة عنده،أو لعدم حصول ما یفیده الاجتهاد فی تلک الحادثة إثباتاً أو نفیاً،أو للخوف علی نفسه،أو نحو ذلک من الاحتمالات.

الثالث:إنّه حجّة ولیس بإجماع،قاله أبو هاشم،و هو أحد الوجهین عند الشافعی کما سلف،وبه قال الصیرفی،واختاره الآمدی.

قال الصفی الهندی:ولم یصر أحد إلی عکس هذا القول،یعنی:إنّه إجماع ولا حجّة،ویمکن القول به کالإجماع المروی بالأحادیث عند من لم یقل بحجیته.

الرابع:إنّه إجماع بشرط انقراض العصر؛لأنّه یبعد مع ذلک أن یکون السکوت لا عن رضاً،وبه قال أبو علی الجبائی،وأحمد فی روایة عنه،ونقله ابن فورک فی کتابه(لعلّه شرحه علی أوائل الأدلّة،فی اصول الدّین للإمام أبی القاسم البلخی الذی أملاه ابن فورک إملاءً) (1)عن أکثر أصحاب الشافعی،ونقله الاُستاذ أبو طاهر البغدادی عن الحذّاق منهم،واختاره ابن القطان و الرویانی.

قال الرافعی:إنّه أصحّ الأوجه عند أصحاب الشافعی،وقال الشیخ أبو إسحاق الشیرازی فی اللمع:إنّه المذهب،وقال:فأمّا قبل الانقراض ففیه طریقان إحداهما:إنّه لیس بحجّة قطعاً،والثانیة:علی وجهین.

ص:101


1- (1) .راجع:کشف الظنون:200/1.

الخامس:إنّه إجماع إن کان فُتیاً لا حکماً،وبه قال ابن أبی هریرة،کما حکاه عنه الشیخ أبو إسحاق،والماوردی،والرافعی،وابن السمعانی،والآمدی،وابن الحاجب،ووجه هذا القول:إنّه لا یلزم من صدوره عن الحاکم أن یکون قاله علی وجه الحکم.

وقیل:وجهه أنّ الحاکم لا یعترض علیه فی حکمه،فلا یکون السکوت دلیل الرضا،ونقل ابن السمعانی عن ابن أبی هریرة أنّه احتجّ لقوله هذا بقوله:إنّا نحضر مجلس بعض الحکام،ونراهم یقضون بخلاف مذهبنا،ولا ننکر ذلک علیهم،فلا یکون سکوتنا رضاً منّا بذلک.

السادس:إنّه إجماع إن کان صادراً عن حکم لا إن کان صادراً عن فتیاً،قاله أبو إسحاق المروزی،وعلّل ذلک بأنّ الأغلب أنّ الصادر من الحاکم یکون عن مشاورة،وحکاه ابن القطان عن الصیرفی.

السابع:إنّه إن وقع فی شیء یفوت استدراکه من إراقة دم،أو استباحة فرج،کان إجماعاً،وإلاّ فهو حجّة،وفی کونه إجماعاً وجهان،حکاه الزرکشی ولم ینسبه إلی قائل.

الثامن:إن کان الساکتون أقلّ،کان إجماعاً،وإلاّ فلا،قاله أبوبکر الرازی،وحکاه شمس الأئمّة السرخسی عن الشافعی،قال الزرکشی:و هو غریب لا یعرفه أصحابه.

التاسع:إن کان فی عصر الصحابة،کان إجماعاً،وإلاّ فلا،قال الماوردی فی الحاوی،والرویانی فی البحر:إن کان فی عصر الصحابة،فاذا قال الواحد منهم قولاً أو حکم به،فأمسک الباقون،فهذا ضربان:

أحدهما:ممّا یفوت استدراکه کإراقة دم،واستباحة فرج،فیکون فیکون إجماعاً؛لأنّهم لو اعتقدوا خلافه لأنکروه،إذ لا یصحّ منهم أن یتّفقوا علی ترک إنکار منکر.والثانی:إن کان ممّا لا یفوت استدراکه،کان حجّة؛لأنّ الحقّ لا یخرج عن غیرهم،وفی کونه إجماعاً یمنع الاجتهاد،وجهان لأصحابنا،أحدهما:أن یکون إجماعاً لا یسوغ معه الاجتهاد.

ص:102

والثانی:لا یکون إجماعاً سواء کان القول فتیاً أو حکماً علی الصحیح.

العاشر:إنّ ذلک إن کان ممّا یدوم ویتکرّر وقوعه و الخوض فیه،فإنّه یکون السکوت إجماعاً،وبه قال إمام الحرمین الجوینی،وقال الغزالی فی المنخول:المختار أنّه لا یکون حجّة إلاّ فی صورتین:أحداهما:سکوتهم،و قد قطع بین أیدیهم قاطع لا یکون فی مظنة القطع،والدواعی تتوفر علی الردّ علیه،الثانیة:ما یسکتون علیه علی استمرار العصر،وتکون الواقعة بحیث لا یبدی أحد خلافاً،فأمّا إذا حضروا مجلساً،فأفتی واحد وسکت آخرون،فذلک اعتراض؛لکون المسألة مظنونة،والأدب یقتضی أن لا یعترض علی القضاة و المفتین.

الحادی عشر:إنّه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا،وذلک بأن یوجد من قرائن الأحوال ما یدلّ علی رضا الساکتین بذلک القول،واختار هذا الغزالی فی المستصفی،وقال بعض المتأخّرین:إنّه أحقّ الأقوال؛لأنّ إفادة القرائن العلم بالرضا،کافادة النطق له،فیصیر کالإجماع القطعی.

الثانی عشر:إنّه یکون حجّة قبل استقرار المذاهب لا بعدها،فإنّه لا أثر للسکوت،لما تقرّر عند أهل المذاهب من عدم إنکار بعضهم علی بعض إذا أفتی أو حکم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غیره،و هذا التفصیل لا بدّ منه علی جمیع المذاهب السابقة.هذا فی الإجماع السکوتی إذا کان سکوتاً عن قول لمذهب. (1)

ص:103


1- (1) .إرشاد الفحول:190193/1.وراجع:المحصول:855857/3؛البحر المحیط:538547/3؛الإحکام:214216/1؛شرح المعالم:121124/2؛اُصول الفقه:273275؛شرح التلویح علی التوضیح:8992/2؛کشف الأسرار:339348/3؛اُصول الجصاص:128/2-131؛فواتح الرحموت:428432/2؛روضة الناظر:9192؛نزهة الخاطر العاطر:257-260؛مذکرة فی اصول الفقه:151152؛المهذّب فی علم اصول الفقه المقارن:933941/2؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:107114/1؛الوجیز:191192؛اُصول الفقه الإسلامی:552558/1؛التبصرة فی اصول الفقه:391394.

الخلاصة

إنّ السکوت لیس کالنطق،و إنّ انقراض العصر لیس بشرط،و إنّ الإجماع قد ینعقد عن اجتهاد.إذا أفتی بعض الصحابة بفتوی وسکت الآخرون،لم ینعقد الإجماع،ولا ینسب إلی ساکت قول.

وقال قوم:إذا انتشر الفتوی وسکت الآخرون،فسکوتهم کالنطق حتی یتمّ به الإجماع،وشرط قوم انقراض العصر علی السکوت،وقال قوم:هو حجّة ولکن لیس بإجماع،وقال بعض آخر:لیس بحجّة ولا إجماع،ولکنّه دلیل تجویزهم الاجتهاد فی المسألة.

وقال الغزالی:المختار:أنّه لیس بإجماع،ولا حجّة،ولا هو دلیل علی تجویز الاجتهاد فی المسألة إلاّ إذا دلّت قرائن الأحوال علی أنّهم سکتوا مضمرین الرضا،والدلیل علی ذلک أنّ فتواه إنّما تُعلم بقوله الصریح الذی لا یتطرّق إلیه احتمال وتردّد،والسکوت فیه تردّد.

و قد یسکت الشخص لسبعة أسباب.

ونقتصر هنا علی کلام الشوکانی حیث قال:الإجماع السکوتی هو أن یقول بعض أهل الاجتهاد بقول،وینتشر ذلک فی المجتهدین من أهل ذلک العصر فیسکتون،ولا یظهر منهم اعتراف،ولا إنکار،وفیه مذاهب:

الأوّل:إنّه لیس بإجماع ولا حجّة،و هذا مذهب داود الظاهری،والشافعی،والغزالی،والرازی،والآمدی.

الثانی:إنّه إجماع وحجّة،وبه قال جماعة من الشافعیة،وجماعة من أهل الاُصول،واستدلّ القائلون بهذا القول،بأنّ سکوتهم ظاهر فی الموافقة،إذ یبعد سکوت الکل مع اعتقاد المخالفة عادةً.

واُجیب:باحتمال أن یکون سکوت من سکت عن الإنکار لتعارض الأدلّة عنده،أو

ص:104

لعدم حصول ما یفیده الاجتهاد فی تلک الحادثة إثباتاً أو نفیاً،أو نحو ذلک من الاحتمالات.

الثالث:إنّه حجّة ولیس بإجماع،قاله أبو هاشم،واختاره الآمدی،ولم یصر أحد إلی عکس هذا القول.

الرابع:إنّه إجماع بشرط انقراض العصر؛لأنّه یبعد مع ذلک أن یکون السکوت لا عن رضاً،وبه قال أبو علی الجبّائی،وأحمد فی روایة عنه،ونقله ابن فورک عن أکثر أصحاب الشافعی.

الخامس:إنّه إجماع إن کان فُتیاً لا حکماً،وبه قال ابن أبی هریرة،واحتجّ لقوله هذا فقال:إنّا نحضر مجلس بعض الحکام،ونراهم یقضون بخلاف مذهبنا،ولا ننکر ذلک علیهم،فلا یکون سکوتنا رضاً منّا بذلک.

السادس:إنّه إجماع إن کان صادراً عن حکم لا إن کان صادراً عن فتیاً.

السابع:إنّه إن وقع فی شیء یفوت استدراکه من إراقة دم،أو استباحة فرج،کان إجماعاً،وإلاّ فهو حجّة،وفی کونه إجماعاً وجهان،حکاه الزرکشی.

الثامن:إن کان الساکتون أقلّ،کان إجماعاً،وإلاّ فلا،قاله أبو بکر الرازی.

التاسع:إن کان فی عصر الصحابة،کان إجماعاً،وإلاّ فلا،قال الماوردی،والرویانی:إن کان فی عصر الصحابة،فإذا قال الواحد منهم قولاً أو حکم به،فأمسک الباقون،فهذا ضربان:

أحدهما:ممّا یفوت استدراکه کاراقة دم،واستباحة فرج،فیکون إجماعاً؛لأنّهم لو اعتقدوا خلافه لأنکروه.والثانی:إن کان ممّا لا یفوت استدراکه،کان حجّةً؛لأنّ الحقّ لا یخرج عن غیرهم،وفی کونه إجماعاً یمنع الاجتهاد،وجهان:

أحدهما:أن یکون إجماعاً لا یسوغ معه الاجتهاد.والثانی:لا یکون إجماعاً.

العاشر:إنّ ذلک إن کان ممّا یدوم ویتکرّر وقوعه و الخوض فیه،فإنّه یکون السکوت إجماعاً.

ص:105

قال الغزالی:المختار أنّه لا یکون حجّة إلاّ فی صورتین:إحداهما سکوتهم،و قد قطع بین أیدیهم قاطع،لا یکون فی مظنّة القطع،والدواعی تتوفّر علی الردّ علیه.

الثانیة:ما یسکتون علیه علی استمرار العصر،وتکون الواقعة بحیث لا یبدی أحد خلافاً،فإمّا إذا حضروا مجلساً،فأفتی واحد وسکت آخرون،فذلک اعتراض؛لکون المسألة مظنونة.

الحادی عشر:إنّه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا،وذلک بأن یوجد من قرائن الأحوال ما یدلّ علی رضا الساکتین بذلک القول،واختار هذا الغزالی فی المستصفی.

الثانی عشر:إنّه یکون حجّة قبل استقرار المذاهب لا بعدها،فإنّه لا أثر للسکوت،لما تقرّر عند أهل المذاهب من عدم إنکار بعضهم علی بعض إذا أفتی أو حکم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غیره،و هذا التفصیل لا بدّ منه علی جمیع المذاهب السابقة.

ص:106

الأسئلة

1.اُذکر مختار الغزالی فی الإجماع السکوتی.

2.اُذکر بعض أسباب سکوت الساکتین عن الإظهار.

3.لم لا یکون السکوت حجّةً عند ابن التلمسانی؟

4.اُذکر استدلال القائلین بأنّ السکوت إجماع وحجّة.

5.لماذا اشترط الجبائی وأحمد فی روایة انقراض العصر فی کون السکوت إجماعاً؟

6.لماذا یکون السکوت إجماعاً إن کان صادراً عن حکم لا عن فُتیاً؟

7.اُذکر القول الحادی عشر مع ذکر التوضیح.

8.لماذا یکون السکوت حجّة قبل استقرار المذاهب لا بعدها؟

ص:107

ص:108

الدرس الحادی و العشرون بعد المئة

حجّیة الإجماع السکوتی

تنبیه

*قال ابن التلمسانی:إذا أفتی بعض أو عمل،وعرفوا ذلک وسکتوا،ولم ینکروا،ولم یتکرّر،فمذهب الشافعی إنّه لیس بإجماع ولا حجّة،وقال أحمد،وأکثر الحنفیة،وبعض أصحاب الشافعی:إنّه إجماع وحجّة،وقال الجبّائی:إنّه إجماع بشرط انقراض العصر.

وقال أبو هاشم:إنّه حجّة ولیس بإجماع،وقال(أبو علی الحسن بن الحسین)بن أبی هریرة(البغدادی الشافعی):إنّه إجماع فی الفتوی دون الحکم. (1)

وقال أبو إسحاق المروزی:هو إجماع فی القضاء لا فی الفتیا،وقال أکثر المتکلّمین:إنّه لیس بإجماع ولا حجّة. (2)

نقل الزرکشی عن الباجی أنّه قال:(الإجماع السکوتی)إجماع وحجّة،و هو قول أکثر أصحابنا المالکیین،والقاضی أبی الطیب.

ص:109


1- (1) .شرح المعالم:122/2و940.
2- (2) .اُصول الفقه:273.

وقال ابن برهان:وإلیه ذهب کافّة العلماء،منهم:الکرخی،والدبوسی فی التقویم. (1)

ولکنّ الزحیلی یقول:مذهب الشافعی،وعیسی بن أبان،والباقلانی،والمالکیة:إنّه لا یکون إجماعاً ولا حجّة.ومذهب أکثر الحنفیة،والإمام أحمد:إنّه إجماع وحجّة قطعیة،وأیضاً یصرّح بأنّ القائلین بحجیة الإجماع السکوتی همّ الحنفیة و الحنابلة،وفی مقابل هذا الرأی فی الجملة مذهب المالکیة و الشافعیة الذین یقولون بأنّه لیس بحجّة. (2)

حجّیة الإجماع السکوتی عند الإمامیة

**قال السید المرتضی علم الهدی:إذا انتشر القول ولم یکن فیه إلاّ قائل به،أو ساکت عن النکیر علیه،فقد اختلف الناس فیه،فذهب أکثر الفقهاء،وأبو علی الجبّائی إلی أنّه إجماع وحجّة،وذهب أبو هاشم وجماعة من الفقهاء إلی أنّ ذلک حجّة و إن لم یکن إجماعاً،وقال آخرون من الفقهاء:لیس ذلک بحجّة،ولا إجماع،وإلیه ذهب کثیر من أهل الظاهر،و هو مذهب أبی عبید الله البصری،و هو الصحیح الذی لا شبهة فیه.

الصحیح دون ما عداه؛لأنّ السکوت عن الإنکار لا یدلّ علی الرضا به؛لأنّه قد یکون لاُمور مختلفة،ودواع متباینة من تقیة،ورهبة،وهیبة،وغیر ذلک من الأسباب المعتادة فی مثله،و إنّما یقتضی الرضا إذا علمنا أنّه لا وجه له إلاّ الرضا،ولا سبب له یقتضیه سواه،و إذا لم یدلّ الإمساک عن النکیر علی الرضا،فلا دلالة فیه علی وقوع الإجماع.ومن رأی أنّ کلّ مجتهد مصیب،یقول:إنّ الإمساک عن النکیر إنّما یدلّ علی أنّ ذلک الفعل أو القول لیس بمنکر،و قد یجوز أن لا ینکر القول علی قائله لأجل أنّه صواب من القائل،و إن لم یکن عند من أمسک عن النکیر صواباً فی حقّه وما یرجع إلیه.

ومن لا یری صحّة الاجتهاد،لا یفصّل بهذا التفصیل،فإذا کان ترک النکیر لا یدلّ

ص:110


1- (1) .البحر المحیط:539/3.
2- (2) .اُصول الفقه الإسلامی:552/1-553؛الوسیط فی اصول الفقه:107/1-108.

علی الرضا،فلا یجب أن نستفیده منه،ولذا لم یقطع علیه،فلا إجماع ولا حجّة. (1)

مع إنّ الإمساک عن النکیر لا یدلّ علی التصویب؛لأنّه غیر منکر أن یکون الممسک شاکّاً فی کون ذلک منکراً،أو متوقّفاً فی ذلک،و إنّما یجب أن ینکر المنکر إذا علمه منکراً.

وقال المحقّق الفاضل القمّی:إذا قال بعض المجتهدین بقول وشاع بین الباقین من غیر إنکار له،و هو المسمّی بالإجماع السکوتی،فهو لیس بحجّة خلافاً لبعض أهل الخلاف؛لأنّ الإجماع هو الاتّفاق،ولم یعلم؛لاحتمال التصویب-یعنی أنّ الباقین الساکتین عن الإنکار لو کانوا من المخالفین،یحتمل کون عدم إظهار المخالفة علی المفتی لأجل کونهم من المصوّبة،فیکون المفتی فی رأیه مصیباً،و إن کان مخالفاً،فلا یجب علیهم الردّ و الإنکار؛لأنّ قول المخالف لا یکون خطأً،فلا یجب الردّ-علی مذهب المخالفین،واحتمال التوقّف و التمهّل للنظر أو لتجدید النظر؛لیکون ذا بصیرة فی الردّ علی مذهبنا فی غیر المعصوم،ولاحتمال خوف الفتنة بالإنکار،أو غیر ذلک من الاحتمالات،فلا یکشف السکوت عن الرضا.نعم،إذا تکرّر ذلک فی وقائع متعدّدة کثیرة فی الاُمور العامّة البلوی بلا نکیر،بحیث یحکم العادة بالرضا،فهو حجّة. (2)

وقال المحقّق صاحب الفصول:إذا أفتی جماعة،وسکت الباقون،أو لم یعلم مخالفتهم،ولم یحصل الاستکشاف عن قول المعصوم،فلا ریب فی عدم کونه إجماعاً.وتسمیة النوع الأوّل بالإجماع السکوتی أمّا مجاز،والوصف قرینة علیه،أو حقیقة باعتبار الترکیب أو التقیید.واختلفوا فی حجیته،فعن الشهید فی الذکری اختیار حجیته،لکنّ المصرح به فی کلامه هو النوع الثانی،ویستفاد منه حجیة النوع الأوّل بالفحوی...إلی أن قال:والتحقیق إنّه إن کان بحیث یسکتشف به عن وجود دلیل معتبر عندنا کروایة ولو ضعیفة،إن صلح قولهم لجبرها،کان حجّة،وإلاّ فلا،أمّا حجیته فی الصورة الاُولی،فظاهرة،و قد سبق التنبیه علیه،

ص:111


1- (1) .الذریعة إلی اصول الشریعة:651653/2؛مبادئ الوصول إلی علم الاُصول:194.
2- (2) .قوانین الاُصول:368369.وراجع:تمهید القواعد:252؛قاعدة 93؛کشف الغطاء:34.

و أمّا عدم حجیته فی الثانیة،فللأصل وضعف مستند القول بحجیته.

واحتجّ الشهید فی الذکری بأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام علی الإفتاء بغیر علم،وأنّه لا یلزم من عدم الظفر بالدلیل،عدم الدلیل.

والجواب:إنّ عدالتهم إنّما تمنع عن الإفتاء من غیر دلیل معتبر عندهم،ولا یلزم من کون دلیل معتبراً عندهم أن یکون معتبراً عندنا؛لوقوع الاختلاف فی الأدلّة کوقوعه فی الأحکام.و قد یستدل للشهید بأنّ قولهم یفید الظنّ و إن قلّوا؛لخلوّه عن المعارض،وأنّه حجّة عند انسداد باب العلم،وبأنّ الأصحاب کانوا یأخذون بما یجدونه فی شرائع الصدوق عند إعواز النصوص؛لحسن ظنّهم به،وعدّ فتواه کروایته.

والجواب:إنّ انسداد باب العلم إنّما یوجب حجیة الظنّ فی الأدلّة لا فی الأحکام،و إنّ عمل الأصحاب بما کانوا یجدونه فی الشرائع غیر ثابت علی وجه یصحّ الاستناد إلیه،مع أنّ تعویلهم علیه لم یکن من جهة کونه قولاً لم یعثروا المخالف له،وإلاّ لما اقتصروا علی الشرائع،ولما تعدّوا إلی المواضع التی عثروا فیها بالمخالف،بل من حیث وثوقهم بأنّ فتاویه متون الأخبار المعوّل علیها،و قد عرفوا ذلک منه بالتتبّع فی کلماته،أو بتصریحه بذلک،فلا تعلّق له بالمقام. (1)

وقال الشهید فی الذکری:إذا أفتی جماعة من الأصحاب ولم یعلم لهم مخالف،فلیس إجماعاً قطعاً،وخصوصاً مع علم العین(أی:الأشخاص المجمعین)للجزم بعدم دخول الإمام حینئذٍ،ومع عدم علم العین،لا یعلم أنّ الباقی موافقون،ولا یکفی عدم علم خلافهم،فإنّ الإجماع هو الوفاق،لا عدم علم الخلاف،وهل هو حجّة مع عدم متمسّک ظاهر من حجّة نقلیة أو عقلیة؟الظاهر ذلک؛لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام علی الإفتاء بغیر علم،ولا یلزم من عدم الظفر بالدلیل عدم الدلیل،خصوصاً و قد تطرّق فی الدروس إلی کثیر من الأحادیث لمعارضة دول المخالفة،ومباینة الفرق المنافیة،وعدم

ص:112


1- (1) .الفصول الغرویة:252.

تطرّق الباقین إلی الردّ له،مع أنّ الظاهر وقوفهم علیه،وأنّهم لا یقرّون ما یعلمون خلافه.

فإن قلت:لعلّ سکوتهم؛لعدم الظفر بمستند من الجانبین.

قلت:فیبقی قول اولئک سلیماً عن المعارض،ولا فرق بین کثرة القائل بذلک أو قلّته مع عدم المعارض.

و قد کان الأصحاب یتمسّکون بما یجدونه فی شرائع الشیخ أبی الحسن بن بابویه عند اعواز النصوص؛لحسن ظنّهم به،و إنّ فتواه کمرویاته،وبالجملة تنزل فتاویهم منزلة روایتهم. (1)

اورد علیه:بأنّ هذا الکلام ضعیف؛لأنّ العدالة إنّما یؤمن معها تعمّد الإفتاء بغیر ما یظنّ بالاجتهاد دلیلاً،ولیس الخطأ بمأمون علی الظنون. (2)

وأیضاً أورد علیه صاحب الفصول بما مرّ آنفاً.

أقول:قوله:«الظاهر ذلک؛لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام علی الإفتاء بغیر علم»،معارض بقوله حیث قال:الأوّل:الإجماع السکوتی لیس إجماعاً ولا حجّة؛لاحتماله غیر الرضا. (3)

وقال المحقّق فی المعتبر:إحداها أن یفتی جماعة،ثمّ لا یعلم من الباقین مخالفاً،فالوجه أنّه لیس حجّة؛لأنّا کما لا نعلم مخالفاً،لا نعلم أن لا مخالف،ومع الجواز(أی:احتمال وجود المخالف)لا یتحقّق دخول المعصوم فی المفتین. (4)

وقال المحقّق الشیخ جعفر کاشف الغطاء:السکوت من حیث هو هو لا یعرف به مذهب ولا تثبت به شهرة ولا إجماع بسیطان ولا مرکبان؛لأنّ العام لا یدلّ علی الخاصّ.وقال أیضاً:لا معنی لترکیب الإجماع و الشهرة من سکوت وقول. (5)

ص:113


1- (1) .ذکری الشیعة:51/1؛معالم الاُصول:243244.
2- (2) .معالم الاُصول:244.
3- (3) .ذکری الشیعة:50/1.
4- (4) .المعتبر فی شرح المختصر:31/1.
5- (5) .کشف الغطاء:197/1.

الخلاصة

قالن ابن التلمسانی:إذا أفتی بعض أو عمل،وعرفوا ذلک وسکتوا،ولم ینکروا،ولم یتکرّر،فمذهب الشافعی إنّه لیس بإجماع ولا حجّة،وقال أحمد،وأکثر الحنفیة،وبعض أصحاب الشافعی:إنّه إجماع وحجّة،وقال الجبّائی:إنّه إجماع بشرط انقراض العصر،وقال أبو هاشم:إنّه حجّة ولیس بإجماع،وقال ابن أبی هریرة:إنّه إجماع فی الفتوی دون الحکم،وقال أبو إسحاق المروزی:هو إجماع فی القضاء لا فی الفتیا.ونُقل عن الباجی قوله:إنّه إجماع وحجّة،و هو قول أکثر المالکیین،وإلیه ذهب العلماء کافة،ومنهم الکرخی،والدبّوسی.ولکن الزحیلی یقول:مذهب الشافعی،وعیسی بن أبان،والمالکیة:إنّه لا یکون إجماعاً ولا حجّة.ومذهب أکثر الحنفیة،وأحمد:إنّه إجماع وحجّة قطعیة.

وقال علم الهدی السید المرتضی:إذا انتشر القول ولم یکن فیه إلاّ قائل به،أو ساکت عن النکیر علیه،فقد اختلف الناس فیه،فذهب أکثر الفقهاء إلی أنّه إجماع وحجّة وذهب أبو هاشم وجماعة أنّ ذلک حجّة و إن لم یکن إجماعاً،وقال آخرون:لیس ذلک بحجّة ولا إجماع،وإلیه ذهب کثیر من أهل الظاهر،و هو الصحیح الذی لا شبهة فیه؛لأنّ السکوت عن الإنکار لا یدلّ علی الرضا یکون لاُمور مختلفة،ودواع متباینة،و إنّما یقتضی الرضا إذا علمنا أنّه لا وجه له إلاّ الرضا،ولا سبب له یقتضیه سواه.

ولان الإجماع هو الوفاق،ولم یعلم؛لاحتمال التصویب،بمعنی أنّ الباقین الساکتین عن الإنکار لو کانوا من المخالفین،فیحتمل کون عدم إظهار المخالفة علی المفتی لأجل کونهم من المصوّبة،فیکون المفتی فی رأیه مصیباً،و إن کان مخالفاً،فلا یجب علیهم الردّ و الإنکار؛لأنّ قول المخالف لا یکون خطاءً،فلا یجب الردّ.

ولاحتمال التوقّف و التمهّل للنظر أو لتجدید النظر؛لیکون ذا بصیرة فی الردّ علی مذهبنا فی غیر المعصوم،ولأنّ الإجماع السکوتی لا یحصل منه الاستکشاف عن قول

ص:114

المعصوم،فلا ریب فی عدم کونه إجماعاً.فعلی هذا،تسمیة ترکیب الفتوی مع السکوت إجماعاً أمّا مجاز،والوصف قرینة علیه،أو حقیقة باعتبار الترکیب أو التقیید.

احتجّ الشهید فی الذکری علی حجّیته بأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام علی الإفتاء بغیر علم،وأنّه لا یلزم من عدم الظفر بالدلیل،عدم الدلیل.

والجواب:إنّ عدالتهم إنّما تمنع عن الإفتاء من غیر دلیل معتبر عندهم ولا یلزم من کون دلیل معتبراً عندهم،أن یکون معتبراً عندنا؛لوقوع الاختلاف فی الأدلّة کوقوعه فی الأحکام.

و قد یستدلّ للشهید بأنّ قولهم یفید الظنّ و إن قلّوا؛لخلّوه عن المعارض،وأنّه حجّة عند انسداد باب العلم،وبأنّ الأصحاب کانوا یأخذون بما یجدونه فی شرائع الصدوق عند إعواز النصوص؛لحسن ظنّهم به،وعدّ فتواه کروایته.

والجواب:إنّ انسداد باب العلم إنّما یوجب حجّیة الظنّ فی الأدلّة لا فی الأحکام،و إنّ عمل الأصحاب بما کانوا یجدونه فی الشرائع غیر ثابت علی وجه یصحّ الاستناد إلیه،مع أنّ تعویلهم علیه لم یکن من جهة کونه قولاً لم یعثروا له علی لمخالف،وإلاّ لما اقتصروا علی الشرائع،ولما تعدّوا إلی المواضع التی عثروا فیها بالمخالف،بل من حیث وثوقهم بأنّ فتاویه متون الأخبار المعوّل علیها.

وقال الشهید:إذا أفتی جماعة من الأصحاب ولم یعلم لهم مخالف،فلیس إجماعاً قطعاً،وخصوصاً مع علم العین للجزم بعدم دخول الإمام،ومع عدم علم العین،لا یعلم أنّ الباقی موافقون،ولا یکفی عدم علم خلافهم،فإنّ الإجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف،وهل هو حجّة مع عدم متمسّک ظاهر من حجّة نقلیة أو عقلیة؟الظاهر ذلک؛لأنّ عدالتهم تمنع من الاقتحام علی الإفتاء بغیر علم.

اورد علیه،بأنّ هذا الکلام ضعیف؛لأنّ العدالة إنّما یؤمن معها تعمّد الإفتاء بغیر ما یظنّ بالاجتهاد دلیلاً،ولیس الخطأ بمأمون علی الظنون.مع أنّ قوله معارض بقوله حیث قال:الأوّل:الإجماع السکوتی لیس إجماعاً ولا حجّة لاحتماله غیر الرضا.

ص:115

الأسئلة

1.لماذا لا یدلّ السکوت علی الرضا؟

2.ما هو المراد من القول:«لاحتمال التصویب»؟

3.لماذا یکون تسمیة ترکیب الفتوی مع السکوت إجماعاً،مجازاً؟

4.اُذکر الجواب عن احتجاج الشهید الأوّل فی الذکری.

5.اُذکر الجواب عن الاسدلال الذی استُدلّ للشهید.

6.لماذا یکون کلام الشهید عند المستشکل ضعیفاً؟

7.اُذکر استدلال الشهید علی عدم کون الإجماع السکوتی إجماعاً.

8.لماذا قال الشهید:الظاهر حجیة فتوی جماعة من الأصحاب مع عدم العلم بالمخالف؟

ص:116

الدرس الثانی و العشرون بعد المئة

اشارة

استکمالاً لما بدأناه فی الدرس السابق من البحث فی عدم حجیة الإجماع السکوتی عند الإمامیة،نقول:

**قال المحقّق التستری:لیس سکوت من عداهم إن علم أو عدم العلم بخلافهم دلیلاً علی موافقتهم واتّفاقهم سواء استقصی ما صدر،أو بلغ عنهم فی ذلک أم لا،ولذلک ذهب المحقّقون إلی عدم حجّیة الإجماع السکوتی وما فی حکمه. (1)

تفصیل

قیل:یجب التفصیل علی مذهب قدماء الإمامیة بین کون الساکت معلوم النسب،فلا یقدح سکوته،وبین کونه مجهول النسب،فلا یتحقّق الإجماع،و أمّا علی طریقة المتأخّرین فالمدار فی الحجّیة علی کشف اتّفاق الجماعة عن قول المعصوم،ولا یقدح سکوت الباقین،بل ومخالفتهم.

و أمّا علی مذهب الشیخ الطوسی فیفصّل أیضاً بأنّ المراد من السکوت أمّا عدم الإفتاء أو عدم العلم بما فی ضمیرهم،فعلی الأوّل:یجب القول بحجیته مطلقاً إن کان

ص:117


1- (1) .کشف القناع:38 و 54.

وجه الحجیة عنده وجوب الإرشاد،أو القول بحجیته إذا وافق عمل الساکتین مع المفتین إن کان وجههما وجوب الردع عن الإجماع علی الباطل،وعلی الثانی:فلیس بحجّة لعدم العلم بالإجماع علی الخطأ. (1)

وفصّل الفاضل القمّی فی الحجیة وعدمها بین تکریر ذلک فی وقائع متعدّدة وعدمه حیث قال:إذا تکرّر ذلک فی وقائع متعدّدة کثیرة فی الاُمور العامّة البلوی بلا إنکار بحیث یحکم العادة بالرضا فهو حجّة. (2)

وممّا ذکر إلی هنا یعلم وجه النظر فی تفصیل الفاضل القمّی.

أقول:تحقیق المقام یقتضی عدم کون الإجماع السکوتی إجماعاً ولا حجّة،فإن انضمام سکوت الساکتین إلی قول المفتین أو عملهم لا یقتضی تحقّق الإجماع؛لأنّه عبارة عن الاتّفاق و الوفاق،والسکوت لیس بقول ولا رأی،فلذا قیل فی وجیز العبارة:لا ینسب إلی ساکت قول.

مع أنّه لا یعلم أنّ السکوت هو الرضا؛لأنّه قد یکون لاُمور مختلفة کما مرّت الإشارة إلیها.وعلی هذا الاساس،لا یحصل من الإجماع السکوتی الاستکشاف عن قول المعصوم علیه السّلام،فلا ریب فی عدم کونه إجماعاً ولا حجّة.

رأی الزیدیة فی الإجماع السکوتی

***قال بعض علماء الزیدیة،کأبی طالب فی المجزی،وأبی الحسین،وأبی عبد الله البصری وغیرهم:إنّه لیس بإجماع،إذا السکوت هنا لا یقتضی الرضا لتصویب المجتهدین،وقال ابن المرتضی:بل هو حجّة ظنّیة-کالخبر الآحادی،والقیاس الظنّی-لا إجماع،أی:حجّة قطعیة،إذ العادة تقتضی مع عدم التقیة أن ینکره المخالف ویظهر

ص:118


1- (1) .حاشیة القوانین:369.
2- (2) .قوانین الاُصول:369.وراجع:فواتح الرحموت:428/2.

حجّته،فیغلب فی الظنّ أنّ سکوتهم سکوت الرضا(یعنی یکون سکوتهم ظاهراً فی موافقتهم،إذ یبعد سکوت الکلّ مع اعتقاد المخالفة فیفید ذلک الظنّ بأنّ سکوتهم سکوت رضاً)،فیکون کالإجماع الآحادی (1)فی وجوب العمل به.

هل یرجع الإجماع السکوتی إلی الإجماع المطلق

أمّا ما احتجّ بعض العلماء علی حجّیة الإجماع السکوتی بأنّ السکوت دلیل الرضا و القبول،وعلی هذا یرجع الإجماع السکوتی إلی الإجماع المطلق،فالجواب عنه:المنع من الرجوع،إذ السکوت أعمّ من الرضا لاحتماله التوقّف أو التمهّل للنظر أو لتجدیده من غیر المعصوم،أو التقیة لخوف الفتنة بالإنکار،أو غیر ذلک.

وفی ضوء ما ذکرنا ینقدح أنّ تسمیة من لا یراه إجماعاً،بالإجماع جری علی ممشی من یراه إجماعاً مطلقاً أو فی الجملة،ووجهه علی ما ظهر أنّ الإجماع عبارة عن اتّفاق الآراء و الأقوال.فعلی هذا،فالوصف احترازی یفید أنّ المراد به حیث اطلق هذا النوع،لا ما علم بصراحة فتوی الجمیع،فإنّ الإطلاق مجازی بقول مطلق،والوصف قرینة علیه،لا أنّ المجموع المرکّب اسم خاص للإجماع السکوتی.

وعلیه،یصرّح المحقّق صاحب الفصول،حیث یقول:وتسمیة النوع الأوّل(اذا أفتی جماعة وسکت الباقون)بالإجماع السکوتی امّا مجاز،والوصف قرینة علیه،أو حقیقة باعتبار الترکیب أو التقیید. (2)

أقسام الإجماع عند المصنّف وأنواعه فی الحجّیة

*قال الشاشی فی اصوله:الإجماع علی أربعة أقسام:

ص:119


1- (1) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:631632.
2- (2) .الفصول الغرویة:252.

1.إجماع الصحابة علی حکم الحادثة نصّاً.

2.ثمّ إجماعهم بنصّ البعض وسکوت الباقین عن الردّ.

3.ثمّ إجماع من بعدهم فیما لم یوجد فیه قول السلف.

4.ثمّ الإجماع علی أحد أقوال السلف.

أمّا الأوّل،فهو بمنزلة آیة من کتاب الله تعالی،ثمّ الإجماع بنصّ البعض وسکوت الباقین فهو بمنزلة المتواتر،ثمّ إجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأخبار،ثمّ إجماع المتأخّرین علی أحد أقوال السلف بمنزلة الصحیح من الآحاد. (1)

توضیح

قول المصنّف:«فهو بمنزلة المتواتر»یعنی فی الحجّیة ووجوب العمل،به ولکن لا یکفر جاحده ومنکره؛لأنّه متفاوت عن الأوّل،نظراً إلی أنّ السکوت محتمل فی نفسه،إذ یحتمل أن یکون لمهابة،أو تفکّر فی المسألة،أولالتباس الأمر لعدم التیقّن بالنفی و الإثبات،أو للتصویب کما علمت سابقاً،والمحتمل لا یکون حجّة علی رأی غیر المصنّف،ولکن عنده حجّة بمنزلة الخبر فی الرتبة و القطعیة.والأوّل فی المرتبة والاعتقاد و العمل به بمنزلة آیة من کتاب الله تعالی،فردّه کفر،لکنّ الفرق إنّما هو اعتباری؛لأنّ الأوّل کتاب الله تعالی،فهو أعظم من الثانی،والثالث بمنزلة المشهور،أی:فی أنّه یوجب الطمأنینة دون علم الیقین،والرابع بمنزلة خبر الصحیح من الآحاد حتّی یوجب العمل به دون العلم بشرط أن لا یکون مخالفاً للاُصول،فکان هذا الإجماع حجّة عند قائلیه علی أدنی المراتب.فعلی هذا،یکون مقدماً علی القیاس کخبر الواحد.

قال الزحیلی:اختلف القائلون بحجیة الإجماع،هل هو حجّة قطعیة أو ظنّیة؟فقال الاکثرون و هو المشهور:إنّه حجّة قطعیة،بحیث یکفّر مخالفه أو یضلل ویبدّع،و هذا

ص:120


1- (1) .اُصول الشاشی:7879.

إذا نقل إلینا نقلاً متواتراً،أمّا إذا نقل إلینا بطریق الآحاد أو کان إجماعاً سکوتیاً،فإنّه لا یفید إلاّ الظنّ بالحکم دون القطع به.

وقال الرازی:إنّه لا یفید إلاّ الظنّ،وقال جماعة بالتفصیل:هو حجّة قطعیة إذا اتّفق علیه المعتبرون،وحجّة ظنّیة إذا لم یتفقوا علیه،کالإجماع السکوتی وما ندر مخالفه.

وقال جماعة من الحنفیة،منهم:البزدوی،(والمصنّف کما مرّ):الإجماع مراتب:فإجماع الصحابة مثل الکتاب و السنّة المتواترة،وإجماع من بعدهم من التابعین وتابعیهم بمنزلة المشهور،والإجماع الذی سبق فیه الخلاف فی العصر السابق بمنزلة خبر الواحد.

ثمّ قال-الزحیلی-:إنّ إطلاق القول بتکفیر منکر حکم الإجماع لیس بصحیح،بل یحتاج إلی تفصیل:فإن کان من إجماع الصحابة المنقول إلینا بطریق التواتر،فإنّه یحکم بکفر منکره عند من یعتقد أنّه حجّة قطعیة کالنصّ القطعی و الخبر المتواتر،ومنکر کلیهما کافر لا محالة،ولا یحکم بکفر من أنکره عند من یری أنّه حجّة ظنیة،فیکون کإنکار الحکم الثابت بخبر الواحد أو بالقیاس.

وقال ابن الحاجب:إنّ إنکار الإجماع الظنّی لیس بکفر،وفی القطعی ثلاثة مذاهب:المختار إن کان مشهوراً للعوام کالعبادات الخمس،ونحوها من ضروریات الدّین کفر،وإلاّ فلا. (1)

**قال المحقّق فی معارج الاُصول:جاحد الحکم المجمع علیه کافر؛لأنّه یجحد ما یعلم حقیقة من الشرع. (2)

ص:121


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:549551/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:104105/1.وراجع:إرشاد الفحول:178179؛البحر المحیط:492493/3؛الإحکام:239/1؛کشف الأسرار:386/3؛شرح التلویح علی التوضیح:102/2؛فواتح الرحموت:447/2.
2- (2) .معارج الاُصول:129.

وفی قباله قال المحقّق الأردبیلی:ولیس کلّ من أنکر مجمعاً علیه یکفر،بل المدار علی حصول العلم و الإنکار وعدمه،إلاّ إنّه لمّا کان حصوله فی الضروری غالباً،جعل ذلک مداراً وحکموا به،فالمجمع علیه ما لم یکن ضروریاً لم یؤثّر،وصرّح به التفتازانی فی شرح الشرح مع أنّه ظاهر. (1)

ونقل الشیخ الأعظم فی ذیل کلامه کلام التفتازانی،حیث قال:ذکر التفتازانی فی مسألة مثل المجمع علیه...أمّا القطعی فکفّر به بعض،وأنکره بعض،والظاهر إنّ نحو العبادات لخمس و التوحید ممّا لا یختلف فی حکمها.

قال:و هو صریح فی أنّ الخلاف فی کفر منکر الإجماع إنّما هو فی غیر الضروریات. (2)

وقال الشیخ الأنصاری:و أمّا النظریة فلا إشکال فی عدم کفر منکرها،إذ لم یرِد دلیل علی کفره بالخصوص. (3)

کما قال صاحب الجواهر:فالحاصل إنّه متی کان الحکم المنکر فی حدّ ذاته ضروریاً من ضروریات الدّین،ثبت الکفر بإنکاره ممّن اطلع علی ضروریته عند أهل الدّین سواء کان ذلک الإنکار لساناً خاصّةً عناداً أو لساناً وجناناً.

ومنه یظهر الفرق حینئذٍ بین الضروری وغیره من القطعی کالمجمع علیه ونحوه،فإنّه لا یثبت الکفر بالثانی إلاّ مع حصول العلم ثمّ الإنکار،بخلافه فی الضروری،فیثبت و إن لم یکن إنکار کذلک. (4)

ص:122


1- (1) .مجمع الفائدة و البرهان:199/3؛مفتاح الکرامة:143/1؛کتاب الطهارة للشیخ الأعظم الأنصاری:131/5.
2- (2) .کتاب الطهارة للشیخ الأعظم الأنصاری:131/5.
3- (3) .کتاب الطهارة للشیخ الأعظم الأنصاری:142/5.
4- (4) .جواهر الکلام:48/6-49.

الخلاصة

ذهب المحقّقون إلی عدم حجّیة الإجماع السکوتی وما فی حکمه لأنّ السکوت لیس دلیلاً علی موافقتهم واتّفاقهم سواء استقص ما صدر أو بلغ عنهم فی ذلک أم لا.

وقیل:یجب التفصیل علی مذهب قدماء الإمامیة بین کون الساکت معلوم النسب فلا یقدح سکوته وبین کونه مجهول النسب فلا یتحقّق الإجماع،و أمّا علی طریقة المتأخّرین فالمدار فی الحجّیة علی کشف اتّفاق الجماعة عن قول المعصوم،ولا یقدح سکوت الباقین،بل ومخالفتهم.

و أمّا علی مذهب الشیخ الطوسی فیفصّل أیضاً بأنّ المراد من السکوت إمّا عدم الإفتاء أو عدم العلم بما فی ضمیرهم،فعلی الأوّل:یجب القول بحجیته مطلقاً إن کان وجه الحجیة عنده وجوب الإرشاد أو القول بحجیته إذا وافق عمل الساکتین مع المفتین إن کان وجههما وجوب الردع عن الإجماع علی الباطل،وعلی الثانی:فلیس بحجّة لعدم العلم بالإجماع علی الخطأ.

تحقیق المقام یقتضی عدم کون الإجماع السکوتی إجماعاً ولا حجّة،فإنّ انضمام سکوت الساکتین إلی قول المفتین أو عملهم لا یقتضی تحقّق الإجماع؛لأنّه عبارة عن الاتّفاق و الوفاق،والسکوت لیس بقول ولا رأی،فلذا قیل:لا ینسب إلی ساکت قول،مع إنّه لا یعلم إنّ السکوت هو الرضا لاحتمال امور متباینة،وعلی هذا الاساس لا یحصل من الإجماع السکوتی الاستکشاف عن قول المعصوم،فلا ریب فی عدم کونه إجماعاً ولا حجّة.

وقال ابن المرتضی:الإجماع السکوتی لیس بإجماع،بل هو حجّة ظنیة کالخبر الآحادی،إذ العادة تقتضی مع عدم التقیة أن ینکره المخالف ویظهر حجّته،فیغلب فی الظنّ أنّ سکوتهم سکوت الرضا،فیکون کالإجماع الآحادی فی وجوب العمل به.

ص:123

و أمّا ما احتجّ بعض العلماء علی حجّیة الإجماع السکوتی،بأنّ السکوت دلیل الرضا و القبول،وعلی هذا یرجع الإجماع السکوتی إلی الإجماع المطلق،فالجواب عنه:المنع من الرجوع،إذ السکوت أعمّ من الرضا لاحتماله التوقّف أو غیره.

وفی ضوء ما ذکرنا ینقدح أنّ تسمیة من لا یراه إجماعاً،بالإجماع جری علی ممشی من یراه إجماعاً مطلقاً أو فی الجملة.فعلی هذا،فالوصف احترازی یفید أنّ المراد به حیث اطلق هذا النوع،لا ما علم بصراحة فتوی الجمیع.

والإجماع علی أربعة أقسام:إجماع الصحابة علی حکم الحادثة نصّاً،ثمّ إجماعهم بنصّ البعض وسکوت الباقین عن الردّ،ثمّ إجماع من بعدهم فیما لم یوجد فیه قول السلف،ثمّ الإجماع علی أحد أقوال السلف.أمّا الأوّل،فهو بمنزلة آیة من کتاب الله تعالی،ثمّ الإجماع بنصّ البعض وسکوت الباقین،فهو بمنزلة المتواتر.

یعنی أنّ الأوّل فی الحجّیة ووجوب العمل به بمنزلة آیة من کتاب الله،فردّه کفر،والثانی بمنزلة المتواتر فی الحجّیة ووجوب العمل به،ولکن لا یکفر جاحده ومنکره.

اختلف القائلون بحجیة الإجماع،هل هو حجّة قطعیة أو ظنّیة؟فقال الأکثرون،و هو المشهور:إنّه حجّة قطعیة،بحیث یکفر مخالفه أو یضلل ویبدّع،و هذا إذا نقل إلینا نقلاً متواتراً،أمّا إذا نقل إلینا بطریق الآحاد أو کان إجماعاً سکوتیاً،فإنّه لا یفید إلاّ الظنّ بالحکم دون القطع به.

وقال الرازی:ولا یفید إلاّ الظنّ،وقال جماعة بالتفصیل:هو حجّة قطعیة إذا اتّفق علیه المعتبرون،وحجّة ظنّیة إذا لم یتفقوا علیه کالإجماع السکوتی وما ندر مخالفه.

وقال جماعة من الحنفیة:الإجماع مراتب:فإجماع الصحابة مثل الکتاب و السنّة المتواترة،وإجماع من بعدهم من التابعین وتابعیهم بمنزلة المشهور،والإجماع الذی سبق فیه الخلاف فی العصر السابق بمنزلة خبر الواحد.

قال الزحیلی:إنّ إطلاق القول بتکفیر منکر حکم الإجماع لیس بصحیح،بل

ص:124

یحتاج إلی تفصیل:فإن کان من إجماع الصحابة المنقول إلینا بطریق التواتر،فإنّه یحکم بکفر منکره عند من یعتقد إنّه حجّة قطعیة کالنصّ القطعی و الخبر المتواتر،ومنکر کلیهما کافر لا محالة،ولا یحکم بکفر من أنکره عند من یری أنّه حجّة ظنیة،فیکون کإنکار الحکم الثابت بخبر الواحد أو بالقیاس.

وقال ابن الحاجب:إنّ إنکار الإجماع الظنّی لیس بکفر،وفی القطعی ثلاثة مذاهب:المختار إن کان مشهوراً للعوام کالعبادات الخمس،ونحوها من ضروریات الدّین کفر،وإلاّ فلا.

ص:125

الأسئلة

1.اُذکر التفصیل فی حجیة الإجماع السکوتی علی طریقة المتأخّرین.

2.لماذا یقتضی تحقیق المقام عدم کون الإجماع السکوتی إجماعاً ولا حجّةً؟

3.لِمَ قال ابن المرتضی:إنّ الإجماع السکوتی لیس بإجماع،بل هو حجّة ظنّیة؟

4.لماذا لا یرجع الإجماع السکوتی إلی الإجماع المطلق؟

5.لماذا یکون تسمیة النوع الأوّل:«اذا أفتی جماعة وسکت الباقون»بالإجماع السکوتی مجازاً أو حقیقةً؟

6.ما هو المراد بقوله:ثمّ الإجماع بنصّ البعض وسکوت الباقین»بمنزلة المتواتر؟

7.اُذکر مراتب الإجماع علی رأی البزدوی وغیره من الحنفیة.

8.لماذا یکون إطلاق القول بتکفیر مُنکر حکم الإجماع غیر صحیح؟

9.لیس کلّ من أنکر مجمعاً علیه بکافر،لماذا؟

10.ما هو الفرق بین الضروری وغیره فی الإنکار؟

ص:126

الدرس الثالث و العشرون بعد المئة

تکفیر من جحد الحکم المجمع علیه

*حکی فی کشف القناع عن إمام الحرمین أنّه قال:فشا فی لسان الفقهاء أنّ خارق الإجماع یکفّر،و هذا باطل قطعاً،فإنّ من ینکر أصل الإجماع لا یکفّر. (1)

وصرّح الغزالی فی المنخول بأنّه لا یکفّر خارق الإجماع؛لأنّ الخلاف قد کثر فی أصل الإجماع لأهل الإسلام،والفقهاء إذا أطلقوا التکفیر لخارقه،أرادوا به إجماعاً یستند إلی أصل مقطوع،نصٌّ أو خبر متواتر. (2)

ولقد أجاد الرازی حیث قال:والعجب من الفقهاء أنّهم اثبتوا حجّیة الإجماع بعموم الآیات و الأخبار،وأجمعوا علی أنّ المنکر لما تدلّ علیه هذه العمومات لا یکفّر ولا یفسّق،إذا کان[ذلک]الإنکار لتأویل،ثمّ یقولون:الحکم الذی دلّ علیه الإجماع مقطوع به،ومخالفه کافر وفاسق،فکأنّهم قد جعلوا الفرع أقوی من الأصل،وذلک غفلة عظیمة. (3)

ص:127


1- (1) .کشف القناع:13.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .المصدر:14.ولقد قال فی ذیله:قلت:وأعجب من هذا اعتماده علی جمیع اولئک بعد علمه بذلک،فإنّه غفلة أعظم من غفلتهم،وأعجب منهما ما صدر من صاحب المواقف حیث ادّعی فیه أنّ کونه

وقال القاضی عضد الدین الإیجی،والشریف الجرجانی:وخرق الإجماع مطلقاً لیس بکفر،بل خرق الإجماع القطعی الذی صار من ضروریات الدّین. 1

*قال الرازی:جاحد الحکم المجمع علیه لا یکفّر،خلافاً لبعض الفقهاء.لنا:إنّ أدلّة أصل الإجماع لیست مفیدة للعلم،فما تفرّع علیها أولی أن لا یفید العلم،بل غایته الظنّ،ومنکر المظنون لا یکفّر بالإجماع. 2

واختار الآمدی التفصیل،حیث قال بعد ذکر الاختلاف فی تکفیر جاحد الحکم المجمع علیه:والمختار إنّما هو التفصیل:و هو أنّ حکم الإجماع أمّا أن یکون داخلاً فی مفهوم اسم الإسلام کالعبادات الخمس،ووجوب اعتقاد التوحید،والرسالة،أو لا یکون کذلک کالحکم بحلّ البیع،وصحّة الإجازة،ونحوها،فإن کان الأوّل،فجاحده کافر؛لمزایلة حقیقة الإسلام له،و إن کان الثانی،فلا.

ثمّ قال:اتّفق الفقهاء علی أنّ إنکار حکم الإجماع الظنّی غیر موجب للتکفیر. 3

و قد اورد علیه،بأنّ کلامه فی غایة القلق،حیث إنّه بعد حکایته مذاهب منکر حکم الإجماع القطعی،قال:المختار أنّ نحو 4العبادات الخمس یکفّر،و هذا یقتضی أنّ له قولاً بالتکفیر فی الأمر الخفی،وقولاً بعدمه فی نحو العبادات الخمس،ولیس کذلک. 5

ثمّ قال الزرکشی:وعبارة الهندی فی النهایة هنا فی غایة الحسن،فإنّه قال:جاحد الحکم المجمع علیه من حیث إنّه مجمع بإجماع قطعی لا یکفّر عند الجماهیر خلافاً

ص:128

لبعض الفقهاء،و إنّما قیدنا بقولنا:من حیث إنّه مجمع علیه؛لأنّ من أنکر وجوب الصلوات الخمس ونحوها یکفر،و هو مجمع علیه،لکن لا لأنّه مجمع علیه،بل لأنّه معلوم بالضرورة من دین محمّدصلّی اللّه علیه و آله،و إنّما قیدنا بالإجماع القطعی؛لأنّ جاحد حکم الإجماع الظنّی لا یکفر وفاقاً.انتهی. (1)

وفصّل إمام الحرمین تفصیلاً آخر،حیث قال:من اعترف بالإجماع واقرّ بصدق المجمعین فی النقل،ثمّ أنکر ما أجمعوا علیه،کان هذا التکذیب آیلاً إلی الشارع،ومن کذّب الشارع کفر.

والقول الضابط فیه:إنّ من أنکر طریقاً فی ثبوت الشرع لم یکفر،ومن اعترف بکون الشیء من الشرع،ثمّ جحده کان منکراً للشرع،وإنکار جزء من الشرع کإنکارکلّه. (2)

ومن المفصّلین ابن دقیق العید قال:أمّا من قال:إنّ دلیل الإجماع ظنّی،فلا سبیل إلی تکفیر مخالفه کسائر الظنّیات.

و أمّا من قال:إنّ دلیله قطعی،فالحکم المخالف فیه إمّا أن یکون طریق إثباته قطعیاً أو ظنّیاً،فإنّ کان ظنّیاً،فلا سبیل إلی التکفیر،و إن کان قطعیاً،فقد اختلفوا فیه،ولا یتوجّه الخلاف فیما تواتر من ذلک عن صاحب الشرع بالنقل،فإنّه یکون تکذیباً موجباً للکفر بالضرورة،و إنّما یتوجّه الخلاف فیما حصل فیه الإجماع بطریق قطعی،أعنی أنّه ثبت وجود الإجماع به إذا لم ینقل أهل الإجماع الحکم بالتواتر عن صاحب الشرع،فتلخّص أنّ الإجماع تارة یصحبه التواتر بالنقل عن صاحب الشرع،وتارة لا.فالأوّل:لا یختلف فی تکفیره،والثانی:قد یختلف فیه،فلا یشترط فی النقل عن صاحب الشرع لفظ معین،بل قد یکون ذلک معلوماً بالقطع باُمور خارجة عن الحصر کوجوب الأرکان الخمسة. (3)

ص:129


1- (1) .البحر المحیط:568/3.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:551/1؛اُصول الفقه:288.
3- (3) .راجع:البحر المحیط:568569/3.

وقال فی مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت:إنکار حکم الإجماع القطعی و هو المنقول متواتراً من غیر استقرار خلاف سابق علیه کفر عند أکثر الحنفیة،وطائفة ممّن عداهم لأنّه إنکار لما یثبت قطعاً إنّه حکم الله تعالی،خلافاً لطائفة قالوا:حجیته و إن کان قطعیاً،لکنّها نظریة،فدخل فی حیز الإشکال من حیز الظهور کالبسملة.ومن هاهنا،أی:من أجل أنّ إنکار حکمه لیس کفراً لم تکفر الروافض مع کونهم منکرین لخلافة خلیفة رسول الله صلی الله علیه و آله حقّاً،و قد انعقد علیه الإجماع من غیر ارتیاب،و هذا بظاهره یدل علی أنّ عدم تکفیرهم مخصوص بمن لا یری انکار حکم الإجماع کفراً،و أمّا عند من یری إنکاره کفراً،فهم کافرون،ولیس الأمر کذلک،فانّ الصحیح عند الحنفیة أنّهم لیسوا بکفار حتّی لا تقبل شهادتهم إلاّ الخطابیة،و قد نصّ الإمام(أبو حنیفة)علی عدم تکفیر أحد من أهل القبلة. (1)

**اعلم أنّ کفر منکر المجمع علیه أو عدمه محل خلاف بین الأعیان،وبعض منهم یقول بکفره کالمحقّق فی المعارج،والوحید البهبهانی فی رسالة الإجماع،وکاشف الغطاء فی کشفه، (2)والشهید الثانی فی الروض،حیث قال:وفی حکم استحلال الصلاة استحلال شرط مجمع علیه،کالطهارة أو جزء کالرکوع دون المختلف فیه کتعیین الفاتحة ووجوب الطمأنینة. (3)

نعم،وجّه صاحب الجواهر کلام الشهید الثانی بما إذا علم وتحقّق له أنّه من الدّین،حیث کان ناشئاً فی بلاد الإسلام،ولا یحتمل فی حقّه الشبهة،فبمجرّد ظهور الإنکار منه یحکم بکفره ولو کان بإنکار غیر الضروری کالمقطوع به،بخلاف النظری،فلا یحکم بکفره بمجرد ذلک حتّی یعلم أنّه أنکر حال کونه قاطعاً به.ویومئ

ص:130


1- (1) .فواتح الرحموت:445446/2 و راجع:کشف الأسرار:385386/3.
2- (2) .معارج الاُصول:129؛الرسائل الاُصولیة:269؛کشف الغطاء:33.
3- (3) .روض الجنان:354؛مفتاح الکرامة:143/1.

إلیه تقیید کشف اللّثام کفر منکر الضروری بما إذا علم إنّه من ضروریاته. (1)

ویشهد له أیضاً مکاتبة عبد الرحیم القصیر للإمام الصادق علیه السّلام المرویة فی باب الإیمان و الکفر من الکافی،قال فیها:

لا یخرجه-أی المسلم-إلی الکفر إلاّ الجحود والاستحلال،أن یقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا حلال،ودان بذلک،فعندها یکون خارجاً من الإسلام و الإیمان،داخلاً فی الکفر. (2)

إنکار الطریق لا یستلزم إنکار حکم شرعی

أقول:إنکار الطریق لا یستلزم إنکار حکم شرعی ثبت بالضرورة،بخلاف الاعتراف به وجحوده و التنکّر له؛لانتهائه إلی إنکار ما ثبت من الشریعة قطعاً.وإلی ما ذکرنا یشیر کلام التفتازانی،حیث قال:و أمّا الحکم الشرعی المجمع علیه،فإن کان إجماعاً ظنیاً لا یکفر جاحده،و إن کان قطعیاً فقیل:یکفر،وقیل:لا یکفر،والحقّ إنّ نحو العبادات الخمس ممّا علم بالضرورة کونه من الدّین یکفر جاحده اتّفاقاً،و إنّما الخلاف فی غیره. (3)

ویرد علی کلام عبدالعلی الأنصاری فی شرح مسلم الثبوت:

أوّلا:إنّ الأدلّة التی اقیمت علی حجیة الإجماع قابلة للمناقشة کما سیأتی الإشارة إلیها.فعلی هذا،لا مبرّر لمن یذهب إلی تکفیر منکری حجیة الإجماع کما ذهب إلیه بعض الاُصولیین،کما علمت سابقاً.

وثانیاً:لا إجماع؛لأنّ المراد من قوله صلّی اللّه علیه و آله:لا تجتمع امّتی علی الخطأ، (4)وقوله صلّی اللّه علیه و آله:

ص:131


1- (1) .جواهر الکلام:49/6؛کشف اللّثام:47/1.
2- (2) .اُصول الکافی:2728/2 ح1،باب أن الإسلام قبل الإیمان.
3- (3) .شرح التلویح:102/2.
4- (4) .سنن الترمذی:862 ح2167 کتاب الفتن.وراجع:المحصول:813/3.

لا تجتمع علی ضلال، (1)إنّما هو نفی الخطأ و الضلال عن الأمر الذی اشتورت فیه الاُمّة فقرّرته باختیارها،واتّفاق آرائها،و هذا هو المتبادر من السنن لا غیر،أمّا الأمر الذی یراه نفر من الاُمّة فینهضون به،ثمّ یتسنّی لهم إکراه أهل الحلّ و العقد علیه،فلا دلیل علی صوابه.

وثالثاً:إنّ بیعة السقیفة لم تکن عن مشورة،و إنّما قام بها الخلیفة الثانی وأبو عبیدة الجراج ونفر معهما،ثمّ فاجأوا بها أهل الحلّ و العقد وساعدتهم تلک الظروف علی ماأرادوا.

ورابعاً:إنّ أبا بکر یصرّح بأنّ بیعته لم تکن عن مشورة،ولا عن رویة،وذلک حین خطب الناس فی أوائل خلافته معتذراً إلیهم،فقال:إنّ بیعتی کانت فلتة وقی الله شرّها،وخشیت الفتنة. (2)

وعمر یشهد بذلک علی رؤوس الاشهاد فی خطبة خطبها علی المنبر النبوی،وأخرجها البخاری فی صحیحه. (3)

ص:132


1- (1) .کنز العمال:206/1 ح1029 و 1030.
2- (2) .شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید:50/2.
3- (3) .صحیح البخاری:1662 ح6830 باب رجم الحبلی من الزنا إذا احصنت.

الخلاصة

قال الرازی:جاحد الحکم المجمع علیه لا یکفّر،خلافاً لبعض الفقهاء.لنا:إنّ أدلّة أصل الإجماع لیست مفیدة للعلم،فما تفرّع علیها أولی أن لا یفید العلم،بل غایته الظنّ،ومنکر المظنون لا یکفر بالإجماع.

وفصّل الآمدی بأنّ حکم الإجماع إمّا أن یکون داخلاً فی مفهوم اسم الإسلام کالعبادات الخمس،أو لا یکون کذلک کالحکم بحلّ البیع ونحوه.فإن کان الأوّل،فجاحده کافر،و إن کان الثانی،فلا.

و قد اورد علیه،بأنّ کلامه فی غایة القلق،حیث إنّه بعد حکایته مذاهب منکر حکم الإجماع القطعی قال:المختار أنّ نحو العبادات الخمس یکفر،و هذا یقتضی أنّ له قولاً بالتکفیر فی الأمر الخفی،وقولاً بعدمه فی نحو العبادات الخمس،ولیس کذلک.

وحکی الزرکشی عن الهندی أنّه قال:جاحد الحکم المجمع علیه من حیث إنّه مجمع بإجماع قطعی لا یکفر عند الجماهیر خلافاً لبعض الفقهاء،و إنّما قیدنا بقولنا من حیث إنّه مجمع علیه؛لأنّ من أنکر وجوب الصلوات الخمس ونحوها یکفر،و هو مجمع علیه،بل لأنّه معلوم بالضرورة من الدین،و إنّما قیدنا بالإجماع القطعی؛لأنّ جاحد حکم الإجماع الظنّی لا یکفر وفاقاً.

وفصّل إمام الحرمین تفصیلاً آخر،حیث قال:من اعترف بالإجماع وأقرّ بصدق المجمعین فی النقل،ثمّ أنکر ما أجمعوا علیه،کان هذا التکذیب آیلاً إلی الشارع،ومن کذّب الشارع کفر.والضابط:إنّ من أنکر طریقاً فی ثبوت الشرع لم یکفر،ومن اعترف بکون الشیء من الشرع،ثمّ جحده کان منکراً للشرع،وإنکار جزء من الشرع کإنکار کلّه.

کما فصّل ابن دقیق العید بین کون دلیل الإجماع ظنّیاً وقطعیاً،فإنّ کان ظنیاً،فلا سبیل إلی تکفیر مخالفه،و إن کان قطعیاً،فقد اختلفوا فیه،ولا یتوجّه الخلاف فیما

ص:133

تواتر من ذلک عن صاحب الشرع بالنقل،فإنّه یکون تکذیباً موجباً للکفر بالضرورة.

وقال فی فواتح الرحموت:إنکار حکم الإجماع القطعی و هو المنقول متواتراً من غیر استقرار خلاف سابق علیه کفر عند أکثر الحنفیة،وطائفة ممّن عداهم؛لأنّه إنکار لما یثبت قطعاً إنّه حکم الله تعالی،خلافاً لطائفة قالوا:حجیتة و إن کان قطعیاً،لکنّها نظریة.ومن هاهنا،لم تکفر الروافض مع کونهم منکرین لخلافة خلیفة رسول الله صلّی اللّه علیه و آله حقّاً،و قد انعقد علیه الإجماع من غیر ارتیاب.

اعلم أنّ کفر منکر المجمع علیه أو عدمه محلّ خلاف بین الأعیان،وبعض منهم یقول بکفره.

أقول:إنکار الطریق لا یستلزم إنکار حکم شرعی ثبت بالضرورة،بخلاف الاعتراف به وجحوده و التنکّر له لانتهائه إلی إنکار ما ثبت من الشریعة قطعاً.وإلی ما ذکرنا یشیر کلام التفتازانی،حیث قال:والحقّ،إنّ نحو العبادات الخمس ممّا علم بالضرورة کونه من الدّین یکفر جاحده اتّفاقاً،و إنّما الخلاف فی غیره.

ویرد علی کلام الأنصاری فی فواتح الرحموت:

أوّلا:إنّ الأدلّة التی اقیمت علی حجیة الإجماع قابلة للمناقشة کما سیأتی.فعلی هذا،لا مبرّر لمن یذهب إلی تکفیر منکری حجیة الإجماع.

وثانیاً:لا إجماع؛لأنّ المراد من قوله صلّی اللّه علیه و آله:لا تجتمع امّتی علی الخطأ،إنّما هو نفی الخطأ و الضلال عن الأمر الذی اشتورت فیه الاُمّة فقرّرته باختیارها،واتّفاق آرائها،و هذا هو المتبادر من السنن لا غیر.

وثالثاً:بیعة السقیفة لم تکن عن مشورة،و إنّما قام بها الخلیفة الثانی وأبو عبیدة الجرّاح ونفر معهما،ثمّ فاجؤوا بها أهل الحل و العقد،وساعدتهم تلک الظروف علی ما أرادوا.

ورابعاً:إنّ أبابکر صرّح بقوله:إنّ بیعتی کانت فلتة وقی الله شرّها.وعمر یشهد بذلک علی رؤوس الأشهاد فی خطبته علی المنبر النبوی علی ما أخرجه البخاری فی صحیحه.

ص:134

الأسئلة

1.علی رأی الفخر الرازی لِمَ لا یکفّر جاحد الحکم المجمع علیه؟

2.اُذکر تفصیل الآمدی فی المسألة.

3.من اعترف بالإجماع وأقرّ بصدق المجمعین،ثم أنکره،یکون کافراً،لماذا؟

4.اُذکر تفصیل ابن دقیق العید فی جاحد الحکم المجمع علیه.

5.اُذکر التوجیه الذی ذکره صاحب الجواهر لکلام الشهید الثانی.

6.اُذکر الإیراد الأوّل و الثانی علی کلام العلاّمة الأنصاری صاحب فواتح الرحموت.

ص:135

ص:136

الدرس الرابع و العشرون بعد المئة

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور

بعد وضوح ما ذکرناه فی الدروس السابقة من أنّه کیف اتّخذ الاُصولیون إجماع المسلمین بالخصوص حجّة؟وما هو دلیلهم علی ذلک؟ثم إنّهم اعتبروا الإجماع دلیلاً فی المسائل الشرعیة الفرعیة،فسلکوا لإثبات حجیته ثلاثة مسالک:الکتاب،والسنّة،والعقل،ولم یجعلوا الإجماع من مسالک إثباته؛لأنّه یؤدّی إلی إثبات الشیء بنفسه،و هو دور باطل.

*قال الزحیلی:لا یصحّ الاستدلال علی ثبوت الإجماع بالإجماع؛لأنّ ذلک دور،وإثبات للشیء بنفسه،و هو باطل،ولا یصحّ أیضاً الاستدلال علیه بالقیاس؛لأنّ القیاس حجّة ظنیة،ولا یحتج بالمظنون علی القطعی. (1)

و قد تقدّم سابقاً أنّ الجمهور یعلّلون علی مذهبهم بأنّ الله تعالی علم أنّ جمیع هذه الاُمّة لا تتّفق علی خطأ،و إن جاز الخطأ علی کلّ واحد منها بانفراده،فللإجماع تأثیر علی مذهبهم.

ص:137


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:540/1؛الوسیط:94/1.

و قد صرّح بما ذکرناه الزرکشی،حیث قال:أجمعوا علی أنّه لا یجوز أن تجتمع الاُمّة علی الخطأ فی مسألة واحدة،و إنّما اختلفوا فی طریقه.

ثمّ حُکی عن ابن فورک أنّه قال:قال أصحابنا:إنّ الله عزّ وجلّ لمّا ختم أمر الرسالة بنبینا محمّدصلّی اللّه علیه و آله،عصم جملة أُمّته من الإجماع علی الخطأ فی کلّ عصر،حتّی یکونوا معصومین فی التبلیغ و الأداء،ویکونوا کنبی جدّد شریعةً،وزاد فی آخر کلام ابن فورک:وقُبِلَ قولهم کقول المعصوم. (1)

و قد علمت أنّ مرمی أدلّة الجمهور علی حجیة الإجماع،هو عصمة هذه الاُمّة من الخطأ و أنّ الاُمّة لا تجتمع علی خطأ،و أنّ الإجماع هو الدلیل القطعی فی قبال الکتاب و السنّة،استدلّ القائلون بالإجماع علی حجیته بالکتاب و السنّة و العقل.

الاستدلال بالکتاب علی حجیة الإجماع

أمّا الکتاب،فاستدلّوا منه بخمس آیات،ونحن ذاکرون ثلاثة من أهمها:

الاستدلال بالآیة الاُولی

قوله تعالی: وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّی وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِیراً . (2)

*قال الشوکانی فی وجه الاستدلال بهذه الآیة:إنّه سبحانه جمع بین مشاقة الرسول واتّباع غیر سبیل المؤمنین فی الوعید،فلو کان اتّباع غیر سبیل المؤمنین مباحاً لما جمع بینه وبین المحظور،فثبت أنّ متابعة غیر سبیل المؤمنین محظورة،ومتابعة غیر سبیل المؤمنین عبارة عن متابعة قول،أو فتوی یخالف قولهم،أو فتواهم،واذا کانت

ص:138


1- (1) .البحر المحیط:495/3.
2- (2) .النساء:115.

تلک محظورة،وجب أن تکون متابعة قولهم وفتواهم واجبة. (1)

وقال الرازی:وجه الاستدلال به:إنّه تعالی حرّم متابعة غیر سبیل المؤمنین،وترک متابعة سبیل المؤمنین متابعة لغیر سبیل المؤمنین؛لأنّ متابعة الغیر عبارة عن الإتیان بمثل فعل المتبوع،ولمّا دلّت الآیة علی أنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین حرام،وثبت بالعقل أنّ ترک متابعة المؤمنین متابعة لغیر سبیل المؤمنین،وجب أن یحرم ترک متابعة سبیل المؤمنین،فاذا حرم ترک متابعتهم،وجب متابعتهم،فیکون الإجماع حجّة. (2)

وقال عبدالکریم زیدان:إنّ الله تعالی توعّد علی مخالفة سبیل المؤمنین،فیکون سبیلهم هو الحقّ الواجب الاتّباع،وغیره هو الباطل الواجب ترکه،وما یتّفقون علیه یکون هو سبیلهم قطعاً،فیکون هو الحقّ قطعاً،فیکون هو الواجب الاتّباع حتماً،ولیس معنی الإجماع إلاّ هذا،و هو المطلوب. (3)

***استدلّ ابن المرتضی بهذه الآیة علی کون الإجماع حجّة،وقال:أوّل من احتجّ بهذه الآیة الکریمة عیسی بن أبان و الشافعی،ثمّ تابعهما فی الاحتجاج بها خلق کثیر،ووجه الاحتجاج بها أنّه تعالی توعّد علی اتّباع سبیل غیر المؤمنین کما توعّد علی مشاقة الرسول صلّی اللّه علیه و آله،فوجب کونه حجّة. (4)

ص:139


1- (1) .إرشاد الفحول:169/1-170.وراجع:المحصول:780781/3؛کشف الأسرار:374/3؛الإحکام:170171/1؛اُصول الجصاص:111/2؛التوضیح علی التنقیح:102/2؛والتلویح علی التوضیح:102/2؛شرح المعالم:56/2؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:95/1؛اُصول الفقه الإسلامی:541/1؛المهذّب:852/2.
2- (2) .شرح معالم الدّین:56/2.
3- (3) .الوجیز:182.وراجع:فواتح الرحموت:399/2؛المستصفی:509/1؛نزهة الخاطر العاطر:227/1؛اُصول السرخسی:296/1؛اُصول الفقه للخضری:286.
4- (4) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:592.وراجع:صفوة الاختیار:244.

ویرد علیه:

أوّلاً:إنّ ظهور تعدد الشرط مع وحدة الجزاء،اشتراکهما فی علّة التحریم،ولازمه أنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین من دون مشاقة للرسول لا یدلّ علی الحرمة،فلا یتمّ المطلوب. (1)

وثانیاً:قال الغزالی فی ضمن الإیراد علی الاستدلال بالآیة المذکورة:والذی نراه أنّ الآیة لیست نصّاً فی الغرض،بل الظاهر أنّ المراد بها أنّ من یقاتل الرسول ویشاقّه،ویتبع غیر سبیل المؤمنین فی مشایعته،ونصرته ودفع الأعداء عنه،نولّه ما تولّی،فکأنّه لم یکتف بترک المشاقة حتّی تنضم إلیه متابعة سبیل المؤمنین فی نصرته،والذبّ عنه،والانقیاد له فیما یأمر وینهی،و هذا هو الظاهر السابق إلی الفهم،فإن لم یکن ظاهراً،فهو محتمل. (2)

ومعلوم أنّه إذا احتمل الدلیل لمعنیین سقط الاستدلال به،فلا تصلح الآیة دلیلاً علی حجّیة الإجماع؛لأنّ الدلالة فیها علی الاتّفاق ظنّیة،فلا یثبت بها حجیة الإجماع القطعی؛لأنّه لم یتعین أنّ المراد بسبیل المؤمنین فی الآیة هو إجماعهم،لاحتمال أن یکون المراد سبیلهم فی متابعة الرسول صلی الله علیه و آله أو فی مناصرته،أو فی الاقتداء به،أو فیما صاروا مؤمنین و هو الایمان به،ومع الاحتمال لا یتمّ الاستدلال. (3)

وثالثاً:إنّا لا نسلّم أنّه یلزم من تحریم اتّباع غیر المؤمنین وجوب اتّباع سبیل المؤمنین؛لأنّ بینهما واسطة و هو عدم اتّباعهم،وحینئذٍ یسقط الاستدلال.قال الشیخ الطوسی فی توضیح ذلک:لیس لهم(أی الجمهور)أن یقولوا:إنّ من لم یتّبع غیر سبیل

ص:140


1- (1) .راجع:مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت:399/2؛المهذّب:853/2؛المحصول:781/3؛العدّة فی اصول الفقه:612/2؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:258؛الإحکام:171/1؛کشف الأسرار:374/3.
2- (2) .المستصفی:509510/1.وراجع:کشف الأسرار:376/3؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:258؛اُصول الفقه الإسلامی:541/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:96/1؛اُصول الفقه للخضری:286؛اُصول الفقه للمظفر:354/2؛معارج الاُصول:128.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:541542/1؛الوسیط:96/1؛المحصول:790/3؛إرشاد الفحول:172/1.

المؤمنین،فلا بدّ من أن یکون متّبعاً لسبیلهم،فمن هاهنا حکمنا بأنّ النهی عن أحد الأمرین إیجاب للآخر،وذلک أنّ بین الأمرین واسطة،و قد یجوز أن یخرج المکلّف من اتّباع غیر سبیلهم واتّباع سبیلهم معاً بأن لا یکون متّبعاً سبیل أحد. (1)

ورابعاً:لو سلّمنا دلالة الآیة علی وجوب متابعة مؤمنی کلّ عصر،لکنّ المراد متابعة کلّ مؤمنی ذلک العصر أو بعضهم،والأوّل باطل وإلاّ لاعتبر فی الإجماع قول العوام،بل الأطفال و المجانین.والثانی نقول به؛لأنّ عندنا یجب فی کلّ عصر متابعة بعض من کان فیه من المؤمنین،و هو الإمام المعصوم. (2)

وخامساً:قال الشیخ الطوسی:إنّا لو تجاوزنا عن جمیع ما ذکرناه،لم یکن فی الآیة دلالة تتناول الخلاف فی الحقیقة؛لأنّه جاز أن یکون تعالی أمر باتّباع المؤمنین من حیث إنّه ثبت بالعقول أنّ فی جملة المؤمنین فی کلّ عصر إماماً معصوماً لا یجوز علیه الخطأ،و إذا جاز ما ذکرناه سقط غرضهم فی الاستدلال علی صحّة الإجماع؛لأنّهم إنّما أجروا بذلک إلی أن یصحّ الإجماع وتنحفظ الشریعة،ویستغنی به عن الإمام،واذا کان ما استدلّوا به علی صحّة الإجماع یحتمل ما ذکرناه،بطل الاستدلال به. (3)

وسادساً:سلّمنا لحوق الذمّ باتباع غیر سبیل المؤمنین علی انفراده،لکنّه متردّد بین أن یراد به عدم متابعة سبیل المؤمنین،وتکون(غیر)بمعنی إلاّ،وبین أن یراد به متابعة سبیل غیر المؤمنین،وتکون(غیر)هاهنا صفة لسبیل غیر المؤمنین،ولیس أحد الأمرین أولی من الآخر،وبتقدیر أن تکون(غیر)صفة لسبیل غیر المؤمنین،فسبیل غیر

ص:141


1- (1) .العدة فی اصول الفقه:606/2؛شرح المعالم:57/2-58؛إرشاد الفحول:170/1؛المحصول:781/3؛الذریعة إلی اصول الشریعة:611/2.
2- (2) .راجع:المحصول:788/3-789؛الذریعة إلی اصول الشریعة:612/2-614؛الإحکام:172/1؛معارج الاُصول:128.
3- (3) .العدة فی اصول الفقه:612/2.وراجع:الإحکام:172/1.

المؤمنین هو الکفر،ونحن نسلّم أن من شاقق الرسول وکفر به،فإنّه یکون متوعّداً بالعقاب،وذلک لا یدلّ علی وجوب اتّباع سبیل المؤمنین.سلّمنا أنّ سبیل غیر المؤمنین لیس هو الکفر،ولکنّ ذلک لا یدلّ علی التوعّد علی عدم اتّباع سبیل المؤمنین،بل غایة ما یلزم من تخصیص اتّباع سبیل غیر المؤمنین بالتوعّد،عدم التوعّد علی اتّباع سبیل المؤمنین بمفهومه،ولا نسلّم أنّ مفهوم الوصف حجّة. (1)

وفی الختام نذکر کلام ابن التلمسانی،و هو بعین لفظه:قولهم:هذه الاحتمالات جائزة الإرادة،وهی مانعة من الجزم،قلنا:لا ننکر أنّ کلّ لفظ احتجّ به علی صحّة الإجماع لو جرّد النظر إلیه من حیث هو؛لتطرّق إلیه وجوه من الاحتمالات. (2)

ص:142


1- (1) .راجع:الإحکام:171/1؛العدة فی اصول الفقه:606607/2.
2- (2) .شرح المعالم:60/2.

الخلاصة

اعتبر الاُصولیون الإجماع دلیلاً مستقلاً فی المسائل الشرعیة الفرعیة،فسلکوا الإثبات حجیته ثلاثة مسالک:الکتاب،والسنّة،والعقل،ولم یجعلوا الإجماع من أدلّة إثباته؛لأنّه یؤدّی إلی إثبات الشیء بنفسه،و هو دور باطل.

و قد تقدّم سابقاً أنّ الجمهور یعلّلون علی مذهبهم بأنّ الله تعالی عصم هذه الاُمّة من الاتفاق علی خطأ،إذ بذلوا تمام همّهم أن یثبتوا صون الإجماع عن الخطأ.

وحکی عن ابن فورک أنّه قال:قال أصحابنا:إنّ الله عزّ وجلّ لمّا ختم أمر الرسالة بنبینا محمّد صلی الله علیه و آله عصم جملة امّته من الإجماع علی الخطأ فی کلّ عصر،حتّی یکونوا معصومین فی التبلیغ و الأداء،وقُبِلَ قولهم کقول المعصوم.

ومن أهمّ أدلّتهم من الکتاب قوله تعالی: وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُ الْهُدی وَ یَتَّبِعْ غَیْرَ سَبِیلِ الْمُؤْمِنِینَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّی وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِیراً .

قیل فی وجه الاستدلال بهذه الآیة:إنّه سبحانه جمع بین مشاقة الرسول واتّباع غیر سبیل المؤمنین فی الوعید،فلو کان اتّباع غیر سبیل المؤمنین مباحاً لما جمع بینه وبین المحظور،فثبت أنّ متابعة غیر سبیل المؤمنین عبارة عن متابعة قول،أو فتوی یخالف قولهم،أو فتواهم،واذا کانت تلک محظورة،وجب أن تکون متابعة قولهم وفتواهم واجبة.

وقیل:إنّ ترک متابعة سبیل المؤمنین متابعة لغیر سبیل المؤمنین؛لأنّ متابعة الغیر عبارة عن الإتیان بمثل فعل المتبوع،ولمّا دلّت الآیة علی أنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین حرام،وثبت بالعقل أنّ ترک متابعة المؤمنین متابعة لغیر سبیل المؤمنین،وجب أن یحرم ترک متابعة سبیل المؤمنین،فاذا حرم ترک متابعتهم،وجب متابعتهم،فیکون الإجماع حجّة.

کما أنّ الله تعالی توعّد علی مخالفة سبیل المؤمنین،فیکون سبیلهم هو الحقّ الواجب الاتّباع،وغیره هو الباطل الواجب ترکه،وما یتّفقون علیه یکون هو سبیلهم

ص:143

قطعاً،فیکون هو الحقّ قطعاً،فیکون هو الواجب الاتّباع حتماً.

ویرد علیه:

أولاً:إنّ ظهور تعدّد الشرط مع وحدة الجزاء،اشتراکهما فی علّة التحریم،ولازمه أنّ اتّباع غیر سبیل المؤمنین من دون مشاقّة للرسول لا یدلّ علی الحرمة،فلا یتمّ المطلوب.

وثانیاً:إنّ الآیة لیست نصّاً فی الغرض،بل الظاهر أنّ المراد بها ان من یقاتل الرسول ویشاقّه،ویتبع غیر سبیل المؤمنین فی مشایعته،ونصرته ودفع الأعداء عنه صلّی اللّه علیه و آله،ومعلوم انّه إذا احتمل الدلیل لمعنیین سقط الاستدلال به.

وثالثاً:إنّا لا نسلّم أنّه یلزم من تحریم اتّباع غیر المؤمنین وجوب اتّباع سبیل المؤمنین؛لأنّ بینهما واسطة و هو عدم اتّباعهم،وحینئذٍ یسقط الاستدلال.

ورابعاً:لو سلّمنا دلالة الآیة علی وجوب متابعة مؤمنی کلّ عصر،لکنّ المراد متابعة بعضهم،إذ متابعة کلّ مؤمنی ذلک العصر باطل،وإلاّ لاعتبر فی الإجماع قول العوام و المجانین،لما ثبت بالعقل أن کلّ عصر لا یخلو من إمام معصوم.وعلیه،فالمراد بالبعض من المؤمنین،هو الإمام المعصوم.

وخامساً:جاز أن یکون تعالی أمر باتباع المؤمنین من حیث إنّه ثبت بالعقول أنّ فی جملة المؤمنین فی کلّ عصر إماماً معصوماً لا یجوز علیه الخطأ،و إذا جاز ما ذکرناه سقط الاستدلال علی صحّة الإجماع بهذه الآیة.

وسادساً:إنّ کلمة(غیر)یحتمل أن یراد بها الاستثناء،وبمعنی(إلاّ)،وأن یراد أن تکون صفة لسبیل غیر المؤمنین،ولیس أحد الأمرین أولی من الآخر،و إذا کانت کلمة(غیر)صفة لسبیل غیر المؤمنین،فسبیل غیر المؤمنین هو الکفر،ونحن نسلّم أن من شاقق الرسول وکفر به،فإنّه یکون متوعّداً بالعقاب،وذلک لا یدلّ علی وجوب اتّباع سبیل المؤمنین.

وفی الختام نذکر کلام ابن التلمسانی حیث قال:إنّا لا ننکر أنّ کلّ لفظ احتجّ به علی صحّة الإجماع لو جرّد النظر إلیه من حیث هو؛لتطرّق إلیه وجوه من الاحتمالات.

ص:144

الأسئلة

1.لماذا لم یستدلّوا علی حجیة الإجماع بالإجماع و القیاس؟

2.اُذکر استدلال الجمهور علی حجیة الإجماع بالآیة المبارکة وَ مَنْ یُشاقِقِ الرَّسُولَ... .

3.لماذا یکون ترک متابعة سبیل المؤمنین متابعة لغیر سبیل المؤمنین؟

4.اُذکر الإیراد الأوّل علی استدلال الجمهور بالآیة المذکورة.

5.اُذکر الإیراد الثانی علی استدلال الجمهور.

6.لماذا لا یلزم من تحریم اتّباع غیر سبیل المؤمنین،وجوب اتّباع سبیل المؤمنین؟

7.اُذکر الإیراد الرابع و الخامس علی استدلال الجمهور.

8.لماذا لا تکون کلمة غیر بمعنی إلاّ؟

9.إذا کانت کلمة غیر صفة لسبیل غیر المؤمنین،فلماذا لا تدلّ الآیة علی وجوب اتّباع سبیل المؤمنین؟

ص:145

ص:146

الدرس الخامس و العشرون بعد المئة

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور

الاستدلال بالآیة الثانیة

وهی قوله تعالی: وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ . (1)

*قال الشوکانی فی تقریر استدلاله بالآیة:أخبر سبحانه عن کون هذه الاُمّة وسطاً،والوسط من کلّ شیء خیاره،فیکون تعالی أخبر عن خیریة هذه الاُمّة،فلو أقدموا علی شیء من المحظورات لما اتّصفوا بالخیریة،واذا ثبت أنّهم لم یقدموا علی شیء من المحظورات،وجب أن یکون قولهم حجّة.

لا یقال:الآیة متروکة الظاهر؛لأنّ وصف الاُمّة بالعدالة یقتضی اتّصاف کلّ واحد منهم بها،وخلاف ذلک معلوم بالضرورة.

لأنّا نقول:یتعین تعدیلهم فیما یجتمعون علیه،وحینئذٍ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً.

واُجیب:بأنّ عدالة الرجل عبارة عن قیامه بأداء الواجبات واجتناب المقبحات،

ص:147


1- (1) .البقرة:143.

و هذا من فعله،و قد أخبر سبحانه أنّه جعلهم وسطاً،فاقتضی ذلک أنّ کونهم وسطاً من فعل الله،وذلک یقتضی أن یکون غیر عدالتهم التی لیست من فعل الله.

واُجیب أیضاً:بأنّ الوسط اسم لما یکون متوسّطاً بین شیئین،فجعله حقیقة فی العدل یقتضی الاشتراک،و هو خلاف الأصل. (1)

وبعبارة اخری:إنّ الوسط هو العدل و الخیار،والعدل و الخیار لا یصدر عنه إلاّ الحقّ،والإجماع صادر عن هذه الاُمّة العدول الخیار،فلیکن حقّاً. (2)

الأجوبة عن الاستدلال المذکور

**و قد اورد علی الاستدلال بالآیة:

أوّلا:لو تمّت هذه الدلالة للآیة المذکورة،فهی لا تزید علی أکثر من إثبات العدالة لهم لا العصمة،والذی ینفع فی المقام إنّما هو إثبات العصمة لهم لا العدالة،لیتمّ حکایتها عن الحکم الواقعی،إذ العدل لا یمتنع صدور غیر الحقّ منه،ولو فرض فإنّما یلزم صدور الحقّ منه بطریق الظاهر فیما طریقه الصدق و الکذب،و هو نقل الأخبار وأداء الشهادات،أمّا فیما طریقه الخطأ و الصواب فی استخراج الأحکام والاجتهاد فیها،فلا. (3)

ص:148


1- (1) .إرشاد الفحول:174/1.راجع:المحصول:804805/3؛شرح المعالم:6067/2؛کشف الأسرار:378379/3؛التوضیح لمتن التنقیح وشرحه التلویح:104/2؛مسلم الثبوت:403/2؛الفصول الغرویة:250.
2- (2) .راجع:الاُصول العامّة للفقه المقارن:259؛اُصول السرخسی:297/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:9495/1؛اُصول الفقه الإسلامی:540/1؛المهذّب:855/2؛اُصول الجصاص:107111/2؛کشف الأسرار:378/3؛العدّة فی اصول الفقه:613614/2؛الإحکام:180/1؛شرح المعالم:6061/2.
3- (3) .راجع:الاُصول العامّة للفقه المقارن:259؛الإحکام:180/1؛التلویح علی التوضیح:106/2؛مسلم الثبوت:403/2.

وثانیاً:إنّ الآیة قد قیدت عدالة الاُمّة فی یوم القیامة فقط؛لأنّ التعدیل من الله للاُمّة معلّل بقبول شهادتها یوم القیامة علی الاُمم السابقة،والعدالة تعتبر وقت أداء الشهادة،و هو یوم القیامة. (1)

وثالثاً:سلمّنا أنّ العدالة لهم فی الدنیا،ولکن العدالة التی وردت فی الآیة إنّما هی لجمیع الاُمّة.وعلی هذا،فلا خصوصیة للمجتهدین منهم.إذن،لا تثبت حجّیة الإجماع إلاّ بانتهاء الاُمّة،وبانتهائها لا تحتاج إلیه،فلا تصلح الآیة للاستدلال بها علی حجیة الإجماع. (2)

ورابعاً:قال الآمدی:سلّمنا إنّه تعالی وصفهم بذلک فی الدنیا،ولکن لیس فی قوله تعالی لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ لفظ عموم یدلّ علی قبول شهادتهم فی کلّ شیء،بل هو مطلق فی المشهود به،و هو غیر معین،فکانت الآیة مجملة،ولا حجّة فی المجمل. (3)

وخامساً:قال الفخر الرازی:سلّمنا أنّ الوسط من کلّ شیء خیاره،فَلِمَ قلتم:بأنّ خبر الله تعالی عن خیریة قوم یقتضی اجتنابهم عن کلّ المحظورات؟ولم لایجوز أن یقال:إنّه یکفی فیه اجتنابهم عن الکبائر،فأمّا عن الصغائر،فلا؟و إذا کان کذلک،فیحتمل أنّ الذی أجمعوا علیه و إن کان خطأ،لکنّه من الصغائر،فلا یقدح ذلک فی خیریتهم.وممّا یؤکّد هذا الاحتمال إنّه تعالی حکم بکونهم عدولاً لیکونوا شهداء علی الناس،وفعل الصغائر لا یمنع الشهادة. (4)

وسادساً:أجاب به السید المرتضی علم الهدی فی ذریعته،حیث قال:هذه الآیة یقتضی ظاهرها وصف الاُمّة بالعدالة و الشهادة،و هذا الوصف یقتضی ظاهره أن یکون کلّ واحد منهم بهذه الصفة،ومعلوم بیننا خلاف ذلک،فإذا حملوا الآیة علی بعض

ص:149


1- (1) .راجع:المهذّب:856/2؛الإحکام:180/1؛شرح المعالم:63/2؛إرشاد الفحول:175/1؛المحصول:805/3؛اُصول الجصاص:109/2؛قوانین الاُصول:361.
2- (2) .راجع:المهذّب:856/2؛الإحکام:180/1؛اُصول الجصاص:108/2؛الفصول الغرویة:250.
3- (3) .الإحکام:180/1.
4- (4) .المحصول:805/3.راجع:إرشاد الفحول:174/1.

الاُمّة دون بعض الذین هم العدول،لم یکونوا بذلک أولی منّا إذا حملناها علی المعصومین من الأئمّة،فإن قالوا:لم نحملها علی الجمیع للوصف الذی لا یلیق بالجمیع،فحملناها-نحن-علی کلّ من یلیق به الوصف.

قلنا:لیس هاهنا لفظ عموم کما کان فی الآیة الاُولی،واللّفظ محتمل للأمرین،فإذا جاز أن یحملوه علی بعض دون بعض،جاز لنا مثل ذلک وقمنا فیه مقامکم. (1)

نختم الجواب عن هذه الآیة بکلمات بعض الأفاضل من الجمهور.

قال الشوکانی:وعلی کلّ حال،فلیس فی الآیة دلالة علی محلّ النزاع أصلاً،فإنّ ثبوت کون أهل الإجماع بمجموعهم عدولاً لا یستلزم أن یکون قولهم حجّة شرعیة تعمّ بها البلوی،فإنّ ذلک أمر متروک إلی الشارع لا إلی غیره،وغایة ما فی الآیة أن یکون قولهم مقبولاً إذا أخبرونا عن شیء من الأشیاء،و أمّا کون اتّفاقهم علی أمر دینی یصیره دیناً ثابتاً علیهم،وعلی من بعدهم إلی یوم القیامة،فلیس فی الآیة ما یدلّ علی هذا،ولا هی مسوقة لهذا المعنی،ولا تقتضیه بمطابقة ولا تضمّن ولا التزام. (2)

وقال فی فواتح الرحموت:لکن بقی أنّ الآیة ظنیة غیر صالحة لإثبات القاطع،وأیضاً لو تمّ لدل علی حجیة إجماع الصحابة لا الإجماع مطلقاً،فإنّ الخطاب الشفاهی لا یتناول المعدوم زمن الخطاب. (3)

***قد حکی ابن المرتضی عن أبی هاشم أنّه اعترض علی هذا الدلیل،حیث قال:إنّ الشاهد لا تعتبر فیه العدالة عند تحمّله الشهادة،و إنّما تعتبر عند أدائها،وأداء هذه الشهادة إنّما یکون فی الآخرة،فلا یدلّ علی عدالتهم فی الدنیا،فیبطل الاستدلال بها.

ص:150


1- (1) .الذریعة إلی اصول الشریعة:614/2.وراجع:العدّة فی اصول الفقه:614/2؛شرح المعالم:61/2؛المحصول:805/3؛التلویح علی التوضیح:106/2؛قوانین الاُصول:361؛الفصول الغرویة:250.
2- (2) .إرشاد الفحول:175/1.
3- (3) .فواتح الرحموت:404/2.

ثمّ قال السید أحمد بن یحیی بن المرتضی:لو سلّمنا بعدالة الشاهد،فإنّ ذلک لا یوجب تحریم مخالفته فی جمیع أفعاله وأقواله بجواز الصغائر علیه،فلا نأمن أن نتابعه فی خطأ. (1)

الاستدلال بالآیة الثالثة

*الآیة الثالثة وهی قوله تعالی: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْکِتابِ لَکانَ خَیْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَکْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ . (2)

قیل فی تقریب الاستدلال بها:إنّه سبحانه وصفهم بالخیریة المفسّرة علی طریق الاستدلال بالأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و هذه الخیریة توجب الحقّیة لما أجمعوا علیه،وإلاّ کان ضلالاً،فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال.

وقیل أیضاً:لو أجمعوا علی الخطأ لکانوا آمرین بالمنکر وناهین عن المعروف،و هو خلاف المنصوص. (3)

وقال الشیخ الطوسی فی العدّة فی تقریب الاستدلال بها:قالوا:وصف الله تعالی الاُمّة بأنّها خیر امّة،وأنّها تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر،فلا یجوز أن یقع منها خطأ؛لأنّ ذلک یخرجها من کونها خیاراً،ویخرجها أیضاً من کونها آمرة بالمعروف وناهیة عن المنکر،إلاّ أن تکون آمرة بالمنکر وناهیة عن المعروف،ولا ملجأ من ذلک إلاّ بالامتناع من وقوع شیء من القبائح من جهتهم. (4)

ص:151


1- (1) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:595.
2- (2) .آل عمران:110.
3- (3) .راجع:إرشاد الفحول:175/1؛المهذّب:857/2؛المحصول:809/3؛الإحکام:182/1؛مع اختلاف یسیر فی التعبیر؛اُصول السرخسی:296/1؛اُصول الجصاص:112/2؛کشف الأسرار:377/3؛التوضیح لمتن التنقیح:104/2.
4- (4) .العدة فی اصول الفقه:621/2.وراجع:الفصول الغرویة:249.

الإیرادات الواردة علی الاستدلال المذکور

**یرد علیه کما قیل:

أوّلا:إنّه لا وجه للملازمة التی ذکروها فی تقریب دلالة الآیة بین عدم جواز وقوع الخطأ منهم وبین ما علّل به من لزوم خروجها عن کونها خیاراً؛لأنّ الخیار یخطؤون و إن کانوا معذورین،کما هو الشأن فی غیر المعصومین من العدول،فإثبات العصمة للاُمّة بهذه الآیة لا یتّضح له وجه. (1)

وثانیاً:إنّ لفظة(الاُمّة)تشتمل جمیع أهل الأعصار دون أهل کلّ عصر،وأیضاً:إنّ الاُمّة لا یجوز أن یوصفوا بأنّهم خیار إلاّ وکلّ واحد منهم یکون بهذه الصفة. (2)

وثالثاً:إنّ الآیة إن حملت علی ظاهرها دلّت علی عصمة جمیع الاُمّة،و هو مخالف للواقع بالضرورة،فلا بدّ من تأویلها بتنزیلها علی بیان إنّه تعالی أکرمهم بهذه الأهلیة من بین الأنام،أو أنّ الخطاب مخصوص ببعض هذه الاُمّة وهم الأئمّة علیهم السّلام،و أمّا حملها علی أنّ ما تجتمع الاُمّة علی الأمر به فهو معروف،وما تجتمع علی النهی عنه فهو منکر،فأبعد من الوجهین المذکورین لو سلّمنا،لکنّ وقوع الخطأ بعد الاجتهاد وبذل الوسع لا ینافی الخیریة ولا عموم کلّ معروف وکلّ منکر؛لأنّ ما أدّی اجتهادهم إلی کونه معروفاً،فهو معروف و إن کان منکراً فی الواقع،وما أدّی اجتهادهم إلی کونه منکراً،فهو منکر و إن کان معروفاً فی الواقع.

مع إنّ الخیریة لا تستلزم عصمتهم کما ذکر فی الإیراد الأوّل،بل یکفی کونهم أقلّ خطأ،ومع أنّ الآیة اخص من المقصود،حیث إنّها لا تدلّ علی خطئهم فیما عدا الوجوب و التحریم من حکم الوضع و الإباحة و المندوب و المکروه،أمّا الأوّلان فواضح،و أمّا الأخیران فلعدم صدق الأمر و النهی فی حقّهما.

ص:152


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة للفقه المقارن:260.
2- (2) .راجع:العدّة فی اصول الفقه:621/2.

ولکان مفادها أیضاً أخصّ من المطلوب من حیث عدم دلالتها علی عدم وقوع الخطأ منهم فی الواجب بالحکم بندبیته،أو فی المندوب بالحکم بوجوبه،أو فی المحرّم بالحکم بکراهیته،أو فی المکروه بحرمته. (1)

ونجفّ القلم بذکر کلام الشوکانی حیث قال:ولا یخفاک إنّ الآیة لا دلالة لها علی محلّ النزاع البتّة،فإنّ اتّصافهم بکونهم یأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر لا یستلزم أن یکون قولهم حجّة شرعیة تصیر دیناً ثابتاً علی کلّ الاُمّة،بل المراد أنّهم یأمرون بما هو معروف فی هذه الشریعة وینهون عمّا هو منکر فیها،فالدلیل علی کون ذلک الشیء معروفاً أو منکراً هو الکتاب أو السنّة لا إجماعهم،غایة ما فی الباب أنّ إجماعهم یصیر قرینة علی أنّ فی الکتاب و السنّة ما یدلّ علی ما أجمعوا علیه،و أمّا أنّه دلیل بنفسه،فلیس فی هذه الآیة ما یدلّ علی ذلک. (2)

ص:153


1- (1) .راجع:الفصول الغرویة:249250؛المحصول:809810/3؛الذریعة إلی اصول الشریعة:616/2؛کشف الأسرار:377/3؛إرشاد الفحول:175176/1؛التلویح علی التوضیح:106/2؛اُصول السرخسی:296/1.
2- (2) .إرشاد الفحول:176/1.

الخلاصة

استدلّوا أیضاً علی حجیة الإجماع بقوله تعالی: وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ .

وقیل فی تقریبه:أخبر سبحانه عن کون هذه الاُمّة وسطاً،والوسط من کلّ شیء خیاره،فیکون الله تعالی قد أخبر عن خیریة هذه الاُمّة،فلو أقدموا علی شیء من المحظورات لما اتّصفوا بالخیریة،واذا ثبت أنّهم لم یقدموا علی شیء من المحظورات،وجب أن یکون قولهم حجّة.

لا یقال:الآیة متروکة الظاهر؛لأنّ وصف الاُمّة بالعدالة یقتضی اتّصاف کلّ واحد منهم بها،وخلاف ذلک معلوم بالضرورة؛لأنّا نقول:یتعین تعدیلهم فیما یجتمعون علیه،وحینئذٍ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً.

وبعبارة اخری:إنّ الوسط هو العدل و الخیار،والعدل و الخیار لا یصدر عنه إلاّ الحقّ،والإجماع صادر عن هذه الاُمّة العدول الخیار،فلیکن حقّاً.

و قد اورد علی الاستدلال المذکور:

أوّلا:لو تمّت هذه الدلالة للآیة المذکورة،فهی لا تزید علی أکثر من إثبات العدالة لهم لا العصمة،والذی ینفع فی المقام إنّما هو إثبات العصمة لهم لا العدالة،لیتمّ حکایتها عن الحکم الواقعی،إذ العدل لا یمتنع صدور غیر الحقّ منه،ولو فرض فإنّما یلزم صدور الحقّ منه بطریق الظاهر فیما طریقه الصدق و الکذب،و هو نقل الأخبار وأداء الشهادات،و أمّا فیما طریقه الخطأ و الصواب فی استخراج الأحکام والاجتهاد فیها،فلا.

وثانیاً:إنّ الآیة قد قیدت عدالة الاُمّة فی یوم القیامة فقط؛لأنّ التعدیل من الله للاُمّة معلّل بقبول شهادتها یوم القیامة.

ص:154

وثالثاً:إنّ العدالة التی وردت فی الآیة إنّما تکون لجمیع الاُمّة.وعلی هذا،فلا خصوصیة للمجتهدین منهم.

ورابعاً:علی فرض تسلیم توصیفهم بالعدالة فی الدنیا،ولکن لیس فی قوله تعالی: لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ لفظ عموم یدلّ علی قبول شهادتهم فی کلّ شیء،بل هو مطلق فی المشهود به،و هو غیر معین،فکانت الآیة مجملة.

وخامساً:سلّمنا أنّ الوسط من کلّ شیء خیاره،و هو یکفی فیه اجتنابهم عن الکبائر،فأمّا عن الصغائر فلا.و إذا کان کذلک،فیحتمل أنّ الذی أجمعوا علیه و إن کان خطأ،لکنّه من الصغائر،فلا یقدح ذلک فی خیریتهم.

وسادساً:إنّ ظاهر هذه الآیة،کما مرّ،یقتضی وصف کلّ واحد من هذه الاُمّة بالعدالة و الشهادة،ومعلوم بالضرورة خلاف ذلک،فاذا حملوا علی بعض الاُمّة دون بعض الذین همّ العدول،فإنّا حملناها علی المعصومین من الأئمّة.

وقال الشوکانی:وعلی کلّ حال،فلیس فی الآیة دلالة علی محلّ النزاع أصلاً،فإنّ ثبوت کون أهل الإجماع بمجموعهم عدولاً لا یستلزم أن یکون قولهم حجّة شرعیة تعمّ بها البلوی،فإنّ ذلک أمر متروک إلی الشارع،وغایة ما فی الآیة أن یکون قولهم مقبولاً إذا أخبرونا عن شیء من الأشیاء،و أمّا کون اتّفاقهم علی أمر دینی یصیره دیناً ثابتاً علیهم،وعلی من بعدهم إلی یوم القیامة،فلیس فی الآیة ما یدلّ علی هذا،ولا هی مسوقة لهذا المعنی،ولا تقتضیه بمطابقة ولا تضمّن ولا التزام.

وقال فی فواتح الرحموت:لکن بقی أنّ الآیة ظنیة غیر صالحة لإثبات القاطع،وأیضاً لو تمّ لدل علی حجیة إجماع الصحابة لا الإجماع مطلقاً.

والآیة الثالثة،وهی قوله تعالی: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ قیل فی تقریب الاستدلال بها:إنّه سبحانه وصفهم بالخیریة المفسّرة علی طریق الاستدلال بالأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و هذه الخیریة

ص:155

توجب الحقّیة لما أجمعوا علیه،وإلاّ کان ضلالاً،وقیل أیضاً:لو أجمعوا علی الخطأ لکانوا آمرین بالمنکر وناهین عن المعروف،و هو خلاف المنصوص.

ویرد علیه،کما قیل:

أوّلا:إنّه لا وجه للملازمة التی ذکروها فی تقریب دلالة الآیة بین عدم جواز وقوع الخطأ منهم وبین ما علّل به من لزوم خروجها عن کونها خیاراً؛لأنّ الخیار یخطؤون و إن کانوا معذورین،کما هو الشأن فی غیر المعصومین من العدول،فإثبات العصمة للاُمّة بهذه الآیة لا یتّضح له وجه.

وثانیاً:إنّ لفظة(الاُمّة)تشتمل جمیع أهل الأعصار دون أهل کلّ عصر،وأیضاً:إنّ الاُمّة لا یجوز أن توصف بالخیار إلاّ وکلّ فرد من أفرادها یکون بهذه الصفة.

وثالثاً:إنّ الآیة إن حملت علی ظاهرها دلّت علی عصمة جمیع الاُمّة،و هو مخالف للواقع بالضرورة،فلا بدّ من تأویلها بتنزیلها علی بیان إنّه تعالی أکرمهم بهذه الأهلیة من بین الأنام،أو أنّ الخطاب مخصوص ببعض هذه الاُمّة،وهم الأئمّة.و أمّا حملها علی أنّ ما تجتمع الاُمّة علی الأمر به فهو معروف،وما تجتمع علی النهی عنه فهو منکر،فأبعد من الوجهین المذکورین لو سلّمنا،لکنّ وقوع الخطأ بعد الاجتهاد وبذل الوسع لا ینافی الخیریة ولا عموم کلّ معروف وکلّ منکر.

مع أنّ الخیریة لا تستلزم عصمتهم،ومع أنّ الآیة أخصّ من المقصود،حیث إنّها لا تدلّ علی خطئهم فیما عدا الوجوب و التحریم من حکم الوضع و الإباحة و المندوب و المکروه،وأیضاً یکون مفادها أخصّ من المقصود من حیث عدم دلالتها علی عدم وقوع الخطأ منهم فی الواجب بالحکم بندبیته،أو فی المندوب بالحکم بوجوبه.

وقال الشوکانی:إنّ الآیة لا تدلّ علی محلّ النزاع البتّة؛لأنّ اتّصافهم بکونهم یأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر لا یستلزم أن یکون قولهم حجّة شرعیة تصیر دیناً ثابتاً علی کلّ الاُمّة.

ص:156

الأسئلة

1.اُذکر تقریب الاستدلال بالآیة الثانیة علی حجیة الإجماع.

2.اُذکر الإیراد الأوّل علی الاستدلال المذکور.

3.لماذا لا یمنع العدل صدور غیر الحقّ منه؟

4.اُذکر الإیراد الرابع علی الاستدلال المذکور.

5.اُذکر الإیراد السادس علیه.

6.اُذکر کلام الشوکانی فی الاستدلال علی الآیة الثانیة.

7.اُذکر تقریب الاستدلال بالآیة الثالثة.

8.لماذا لا تکون الملازمة بین عدم جواز وقوع الخطأ وبین ما علّل به من لزوم خروجها عن کونها خیاراً؟

9.اُذکر الإیراد الثالث بتمامه علی الاستدلال المذکور.

10.لماذا تکون الآیة أخصّ من المطلوب؟ولماذا یکون مفادها أخصّ من المقصود؟

11.اُذکر إیراد الشوکانی علی الاستدلال بالآیة الثالثة.

ص:157

ص:158

الدرس السادس و العشرون بعد المئة

أدلّة حجیة الإجماع عند الجمهور

لمّا ثبت أنّ الآیات المذکورة لم تدلّ علی حجّیة الإجماع-حیث إنّها کانت مفیدة للظنّ،وغیر مفیدة للقطع.ومن زعم أنّ المسألة قطعیة،فاحتجاجه فیها بأمر ظنّی غیر مفید للمطلوب (1)-تمسّکوا بالسنّة النبویة.

الاستدلال بالسنّة علی حجیة الإجماع

*استدلّوا بعدّة من الأحادیث التی وردت عن رسول الله صلی الله علیه و آله علی لسان جماعة من الصحابة کعمر،وابن مسعود،وأبی سعید الخدری،وأنس بن مالک،وابن عمر،وأبی هریرة،وحذیفة بن الیمّان،وغیرهم من نحو قوله:

إنّ امّتی لا تجتمع علی ضلالة،فإذا رأیتم اختلافاً فعلیکم بالسواد الأعظم. (2)

ص:159


1- (1) .راجع:الإحکام:186/1؛المستصفی:509/1 و 510؛اُصول الفقه للخضری:286؛اُصول الفقه الإسلامی:541/1؛الوسیط فی اصول الفقه:96/1؛اُصول الفقه للمظفر:354/2؛التوضیح لمتن التنقیح:105/2.
2- (2) .سنن ابن ماجه:605/4 ح395 باب الفتن؛جامع الاُصول:746/5.

وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

إنّ الله لا یجمع امّتی-أو قال-اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله علی ضلالة أبداً،وید الله علی الجماعة،ومن شذّ شذّ إلی النار. (1)

وعن أنس بن مالک عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه...وسأل ربّه أن لا یجتمعوا علی ضلالة،فاُعطی ذلک. (2)

وعن حذیقة بن الیمّان،قال:سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول:

من فارق الجماعة واستذل الأمارة لقی الله ولا حجّة له عند الله. (3)

قال الحاکم:فقد ذکرنا تسعة أحادیث بأسانید صحیحة یستدلّ بها علی الحجّة بالإجماع واستقصیت فیه تحریاً لمذاهب الأئمّة المتقدّمین. (4)

وعن حذیفة بن الیمّان:...قال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:

تلزم جماعة المسلمین و إمامهم. (5)

قال الحاکم فی ذیل الحدیث المذکور:هذا حدیث مخرج فی الصحیحین هکذا،و قد خرّجاه أیضاً مختصراً من حدیث الزهری،عن أبی إدریس الخولانی،و إنّما خرجته فی کتاب العلم لأنّی لم أجد للشیخین حدیثاً یدل علی أنّ الإجماع حجّة غیر هذا. (6)

**أقول:هذا الخبر بحث علی إطاعة السلطان ولزوم جماعته.فعلی هذا،فهو أجنبی عن محلّ النزاع،فعلی هذا لم یذکر الشیخان حدیثاً دالاً علی أنّ الإجماع حجّة.

ص:160


1- (1) .سنن الترمذی:862 ح2167؛المستدرک علی الصحیحین للحاکم النیسابوری:167/1-168 ح391-397.
2- (2) .المستدرک:171/1 ح400.
3- (3) .المصدر:174 ح409-410.
4- (4) .المصدر:176.
5- (5) .المصدر:164165.
6- (6) .المصدر.

ونقل المحقّق السید الحکیم عن الطوفی إنّه یقول:فأمّا نحو قوله علیه السّلام:

اتّبعوا السواد الأعظم فإنّه من شذّ شذّ فی النار،وید الله مع الجماعة.

فانّما المراد به طاعة الأئمّة والاُمراء،وترک الخروج علیهم بدلیل قوله علیه السّلام:

اسمعوا وأطیعوا و إن تأمّر علیکم عبد حبشی.وقوله علیه السّلام:من مات تحت رأیة عصبیة مات میتة جاهلیة. (1)

وفی ضوء ما ذکرناه تعلم أنّ هذه الروایات المذکورة هاهنا وفی بعض الکتب الاُصولیة لعلماء أهل السنة و المستدرک للحاکم،علی طوائف بعضها أجنبی عن عوالم جعل العصمة لرأی الاُمّة،کالأخبار الداعیة إلی الاُلفة و التجمّع،وکالأخبار الحاثّة علی إطاعة السلطان ولزوم جماعته،وقسمٌ منها یحثّ علی صلاة الجماعة،ولم یبق إلاّ أحادیث إنّ امّتی لا تجتمع علی ضلالة وما فی معناها.

هذا،مع أنّ فی إسناد بعضها ضعف کما قال البوصیری فی الزوائد رقم 1987،هذا إسناد ضعیف لضعف أبی خلف الأعمی واسمه حازم بن عطّار،و قد روی هذا الحدیث من حدیث أبی ذر وأبی مالک الأشعری وابن عمر وأبی بصرة(الغفاری)،و قدامة بن عبد الله الکلابی،وفی کلّها نظر،قاله شیخنا العراقی. (2)

وقال الحاکم:فقد استقرّ الخلاف فی إسناد هذا الحدیث علی المعتمر بن سلیمان و هو أحد أرکان الحدیث من سبعة أوجه،لا یسعنا أن نحکم أنّ کلّها محمولة علی الخطأ،إلی أن قال:ثمّ وجدنا للحدیث شواهد من غیر حدیث المعتمر لا ادّعی صحّتها ولا أحکم بتوهینها،بل یلزمنی ذکرها لإجماع أهل السنّة علی هذه القاعدة من قواعد الإسلام (3).

ص:161


1- (1) .الاُصول العامّة:261262.ولمزید الاطلاع راجع:إرشاد الفحول:177/1.
2- (2) .راجع:جامع الاُصول:747/5،ذیل رقم 1.
3- (3) .المستدرک علی الصحیحین:170/1.

وقال العجلونی أیضاً:هذا الحدیث(لا تجتمع امّتی علی ضلالة)فیه اضطراب وخلاف فی صحّته. (1)

وفیه:إنّ الحاکم بعد اعترافه بضعف الإسناد والاختلاف فیه التجأ لذکر الأحادیث التسعة إلی الإجماع،و هذا هو المصادرة إلی المطلوب إذا أثبت حجیة الإجماع بالأحادیث التی أثبت حجیتها بالإجماع.

وحُکی عن السبکی أنّه قال:و أمّا الحدیث،فلا شکّ أنّه الیوم غیر متواتر،بل ولا یصحّ. (2)

لکنّ المحقّق التستری فی کشفه فی باب تثبیت إسناده وقوّة دلالته قال:وأقوی ما ینبغی أن یعتمد علیه من النقل حدیث:

لا تجتمع امّتی علی الخطأ

وما فی معناه لاشتهاره وقوّة دلالته وتعویل معظمهم ولا سیما أوائلهم علیه،وتلقّیهم له بالقبول لفظاً ومعنی،وادّعاء جماعة منهم تواتره معنیً،وموافقة العلاّمة من أصحابنا لهم علی ذلک فی أوائل المنتهی،وادّعائه فی آخر المئة الاُولی من کتاب الألفین:إنّه متّفق علیه،أی:بین الفریقین،وتعداده فی القواعد من خصائص نبینا صلی الله علیه و آله عصمة امّته بناءً علی ظاهرها وکذا فی التذکرة مع التصریح بعصمتهم من الاجتماع علی الضلالة،ووروده من طرق أصحابنا أیضاً. (3)

تواتر السنّة الدالّة علی حجّیة الإجماع

*قد ادّعی بعض تواترها المعنوی کالزحیلی،حیث قال:إنّ کثرة الأحادیث بألفاظها المختلفة و إن لم تتواتر آحادها،لکنّ القدر المشترک بینها،و هو عصمة

ص:162


1- (1) .أسنی المراتب:252.وراجع:اُصول الفقه الإسلامی:545/1.
2- (2) .راجع:العدّة فی اصول الفقه:625/2.
3- (3) .کشف القناع عن وجوه حجیة الإجماع:6.وراجع:مفاتیح الاُصول:494.

الاُمة من الخطأ،متواتر لوجوده فی هذه الأخبار الکثیرة،و هذا هو التواتر المعنوی،والمتواتر المعنوی کالمتواتر اللّفظی فی إفادة العلم بما یدلّ علیه. (1)کما ادّعی التواتر المعنوی کلّ من:الشیخ محبّ الله بن عبد الشکور،وعبد العلی محمّد الأنصاری فی مسلم الثبوت وفواتح الرحموت، (2)وعبدالکریم زیدان فی الوجیز، (3)والآمدی فی الإحکام، (4)وابن التلمسانی فی شرح المعالم (5)والشیخ عبدالقادر الرومی فی نزهة الخاطر العاطر، (6)والنملة فی المهذّب، (7)وابن قُدامة المقدسی فی روضة الناظر، (8)والغزالی فی المستصفی و المنخول. (9)

وفی الختام،فقد حُکی عن أبی بکر السرخسی أنّه قال:والآثار فی هذا الباب کثیرة تبلغ حدّ التواتر؛لأنّ کلّ واحد منهم إذا روی حدیثاً فی هذا الباب سمعه فی جمع،ولم ینکر علیه أحد من ذلک الجمع،فذلک بمنزلة المتواتر،کالإنسان إذا رأی القافلة بعد انصرافها من مکّة وسمع من کلّ فریق واحداً یقول:قد حججنا،فإنّه یثبت له علم الیقین بأنّهم حجّوا فی تلک السنة. (10)

وعن أبی بکر الرازی قال:ویدلّ علی صحّة حجّة الإجماع من جهة السنّة،الأخبار

ص:163


1- (1) .الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:97/1؛اُصول الفقه الإسلامی:542/1.
2- (2) .فواتح الرحموت فی شرح مسلم الثبوت:402/2.
3- (3) .الوجیز فی اصول الفقه:182.
4- (4) .الإحکام:184/1-185.
5- (5) .شرح المعالم:75/2-76.
6- (6) .نزهة الخاطر العاطر:232/1.
7- (7) .المهذّب:859/2.
8- (8) .روضة الناظر:83.
9- (9) .المستصفی:510/1؛المنخول:402.
10- (10) .اُصول السرخسی:299/1.وراجع:اُصول الجصاص:115/2؛المحصول:818/3.

التی قد ثبت ورودها من طریق التواتر من جهات قد علمنا أنّها تشتمل علی صدقٍ بخبرٍ عن رسول الله صلی الله علیه و آله بشهادته للاُمّة بصحّة إجماعها،ولزوم اتباعها. (1)

استفاضة السنّة الدالّة علی حجیة الإجماع ومقبولیتها عند الموافقین و المخالفین

وفی قبال هؤلاء ادّعی غیر واحد من الأعلام علی أنّها مشهورة،ولا أقلّ من استفاضتها.

قال الغزالی:و هذا من حیث اللّفظ أقوی وأدلّ علی المقصود،ولکن لیس بالمتواتر کالکتاب،والکتاب متواتر،لکن لیس بنصّ،فطریق تقریر الدلیل أن نقول:تظاهرت الروایة عن رسول الله صلی الله علیه و آله بالفاظ مختلفة مع اتّفاق المعنی فی عصمة هذه الاُمّة من الخطأ،واشتهر علی لسان المرموقین و الثقات من الصحابة،إلی أن قال:بل هی مقبولة من موافقی الاُمّة ومخالفیها،ولم تزل الاُمّة تحتجّ بها فی اصول الدّین وفروعه. (2)

وحکی عن الطوفی أنّه قائل بعدم تواترها،بل قائل بمقبولیتها عند الاُمّة،حیث قال:إنّ هذا الخبر وان تعدّدت ألفاظه وروایاته لا نسلّم أنّه بلغ رتبة التواتر المعنوی؛لأنّه إذا عرضنا هذا الخبر علی أذهاننا،وسخاء حاتم وشجاعة علی علیه السّلام،ونحوهما من المتواترات المعنویة،وجدناها قاطعة بثبوت الرأی فی الثانی،وغیر قاطعة بالأوّل،فهو إذن فی القوّة دون سخاء حاتم وشجاعة علی،وهما متواتران،وما دون المتواتر لیس بمتواتر،فهذا الخبر لیس بمتواتر،لکنّه فی غایة الاستفاضة. (3)

وقال الفخر الرازی:أمّا الطریق الأوّل،و هو ادّعاء التواتر،فبعید،فإنّا لا نسلّم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلی حدّ التواتر; لأنّ العشرین،بل الألف لا یکون متواتراً؛لأنّه لیس یستبعد فی العرف اقدام عشرین إنساناً علی الکذب فی واقعة معینة،وبالجملة فهم مطالبون

ص:164


1- (1) .اُصول الجصاص:112113/2 و 115.
2- (2) .المستصفی:510/1-511؛اُصول الفقه للخضری:286-287.
3- (3) .الاُصول العامّة للفقه المقارن:262263.

باقامة الدلالة علی أنّ مجموع هذه الروایات یستحیل صدوره عن الکذب. (1)

وقال أیضاً فی المعالم:إن قالوا:الأخبار الکثیرة وردت فی هذا الباب وهی بأسرها دالّة علی أنّ الإجماع حجّة،فصارت هذه الأخبار الکثیرة جاریة مجری الأخبار الکثیرة الواردة فی شجاعة علی علیه السّلام وسخاء حاتم،فإنّ کلّ واحد منها و إن کان من باب الآحاد،إلاّ أنّ مجموعها یفید العلم،فنقول:إمّا أن یقال بأنّ القدر المشترک بین هذه الأخبار هو أنّ الإجماع حجّة،أو القدر المشترک بینها شیء یلزم من ثبوته أنّ الإجماع حجّة،أو لا ذلک ولا هذا.فإنّ کان الأوّل،وجب أن یحصل التواتر فی کون الإجماع حجّة،وذلک باطل؛لأنّ المخالفین نازعوا فیه،والموافقین إنّما أثبتوا کونه حجّة بالدلیل،فلو حصل النقل المتواتر فیه لکان جاریاً مجری العلم بشجاعة علی وسخاء حاتم،ومعلوم أنّ ذلک باطل.وبهذا الحرف یظهر الفرق بین هذه الأخبار وبین الأخبار الواردة فی شجاعة علی علیه السّلام وسخاء حاتم؛لأنّ القدر المشترک بین هذه الأخبار هو شجاعة علی علیه السّلام وسخاء حاتم،لأنّه لمّا کان الأمر کذلک،لا جرم صار هذا المعنی معلوماً متواتراً،فلو کان الأمر مسألتنا کذلک،لوجب حصول التواتر عن الرسول صلی الله علیه و آله فی أنّ الإجماع حجّة،ومعلوم أنّ أحداً لم یقل بذلک. (2)

وقال السید المرتضی علم الهدی:فلا شبهة فی أنّ هذا الخبر إنّما رواه الآحاد،ولیس من الأخبار الموجبة للعلم،و إنّما یفزع مخالفونا فی تصحیحه إلی امور کلّها عند التأمّل مبنیة علی أنّ إجماعهم حجّة،وقبولهم للشیء یقتضی صحّته وما أشبه ذلک،و هذا هو استدلال علی الشیء بنفسه. (3)

ص:165


1- (1) .المحصول:819820/3.
2- (2) .شرح المعالم فی اصول الفقه:7174/2.وراجع:نزهة الخاطر العاطر:232/1.
3- (3) .الذریعة إلی اصول الشریعة:616617/2.وراجع:العدّة فی اصول الفقه:625/2؛الفصول الغرویة:250؛قوانین الاُصول:361.

أقول:قد عرفت ممّا ذکرناه من الأعلام أنّ التمسّک بهذه الأخبار فی إثبات مثل هذا الأصل الذی بنوا علیه اصول دینهم فضلاً عن فقههم غیر جائز،إذ لم یثبت دلالتها علی القدر المشترک علی سبیل القطع بحیث یفید المطلوب یقیناً،بل تکون ظنیة.

وأیضاً عرفت أنّ ادّعاء التواتر المعنوی لا وجه له،بل قیل:عناد ومکابرة،واعترف غیر واحد من أعلام أهل السنّة کالحاجبی و العضدی ومن مرّ ذکرهم بعدهم کونها متواترة معنی،فکأنّ من شرایط التواتر المعنوی توافقها فی المعنی المدّعی تواترها فیه،وانتفائه فی المقام واضح لا غبار فیه.

ویؤید ما ذکرناه بکلام صدر الشریعة،حیث قال:وما ذکر من أخبار الآحاد فبلوغ مجموعها إلی حدّ التواتر غیر معلوم،والإجماع دلیل قاطع یکفر جاحده،فیجب أن تکون الدلائل الدالّة علی أنّه دلیل قاطع قطعیة الدلالة علی هذا المدلول المطلوب. (1)

بل قال المحقّق فی المعارج فی الجواب عن الحدیث المذکور:نمنع أصله،ولو سلّمنا تواتره لقلنا بموجبه من حیث إنّ امّته صلی الله علیه و آله لا تخلو عن المعصوم،فیکون قولها حجّة لدخول قوله فی الجملة. (2)

ص:166


1- (1) .التوضیح لمتن التنقیح:105/2.
2- (2) .معارج الاُصول:129.

الخلاصة

لمّا ثبت أنّ الآیات المذکورة لم تدلّ علی حجیة الإجماع،استدلّوا بالأحادیث المرویة عن رسول الله صلی الله علیه و آله مثل قوله صلّی اللّه علیه و آله:إنّ امّتی لا تجتمع علی ضلالة،وقوله صلّی اللّه علیه و آله:إنّ الله لا یجمع امّتی علی ضلالة،وید الله علی الجماعة،ومن شذّ شذّ إلی النار،وقوله صلّی اللّه علیه و آله:تلزم جماعة المسلمین و إمامهم،وقوله صلّی اللّه علیه و آله:لا تجتمع امّتی علی خطأ.

معلوم أنّ هذه الروایات وغیرها التی استدلّوا بها علی حجیة الإجماع علی طوائف،بعضها أجنبی عن عوالم جعل العصمة لرأی الاُمّة،کالأخبار الداعیة إلی الألفة و التجمع،وکالأخبار الحاثّة علی إطاعة السلطان ولزوم جماعته،وقسم منها یحثّ علی صلاة الجماعة،ولم یبق إلاّ أحادیث إنّ امّتی لا تجتمع علی ضلالة وما فی معناها.

هذا،مع أنّ فی إسناد بعضها ضعف کما قال البوصیری،وقال الحاکم:فقد استقرّ الخلاف فی إسناد هذا الحدیث علی المعتمر بن سلیمان.وقال فی حقّ الأحادیث التی ذکرها بعنوان الشاهد لمتن خبر المعتمر بن سلیمان:لا أدّعی صحّتها ولا أحکم بتوهینها،لکنّ المحقّق التستری قال:أقوی ما ینبغی أن یعتمد علیه من النقل حدیث:لا تجتمع امّتی علی الخطأ.وما فی معناه لاشتهاره،وقوّة دلالته،وتعویل معظمهم ولا سیما اوائلهم علیه،وتلقّیهم له بالقبول لفظاً ومعنی،وادّعاء جماعة منهم تواترة معنی،وموافقة العلاّمة الحلّی من أصحابنا علی ذلک.

قد ادّعی بعض-کالزحیلی-تواترها المعنوی.وقال أبو بکر السرخسی:والآثار فی هذا الباب کثیرة تبلیغ حدّ التواتر؛لأنّ کلّ واحد منهم إذا روی حدیثاً فی هذا الباب سمعه فی جمع،ولم ینکر علیه أحد من ذلک الجمع،فذلک بمنزلة المتواتر.

وفی قِبال هؤلاء ادّعی غیر واحد من الأعلام علی أنّها مشهورة،ولا أقلّ من استفاضتها،وحُکی عن الطوفی أنّه قال:إنّ هذا الخبر و إن تعدّدت ألفاظه وروایاته لا نسلّم

ص:167

أنّه بلغ رتبة التواتر المعنوی؛لأنّه إذا عرضنا هذا الخبر علی أذهاننا،وسخاء حاتم وشجاعة علی علیه السّلام،ونحوهما من المتواترات المعنویة،وجدناها قاطعة بثبوت الرأی فی الثانی،وغیر قاطعة بالأوّل،فهو إذن فی القوّة دون سخاء حاتم وشجاعة علی،وهما متواتران،وما دون المتواتر لیس بمتواتر،فهذا الخبر لیس بمتواتر،لکنّه فی غایة الاستفاضة.

وقال الرازی:وادّعاء التواتر،فبعید،فإنّا لا نسلّم بلوغ مجموع هذه الأخبار إلی حدّ التواتر؛لأنّ العشرین،بل الألف لا یکون متواتراً؛لأنّه لیس یستبعد فی العرف اقدام عشرین إنساناً علی الکذب فی واقعة معینة،وبالجملة فهم مطالبون باقامة الدلالة علی أنّ مجموع هذه الروایات یستحیل صدوره عن الکذب.

وقال أیضاً فی المعالم:إمّا أن یقال بأنّ القدر المشترک بین هذه الأخبار هو أنّ الإجماع حجّة،أو القدر المشترک بینها شیء یلزم من ثبوته أنّ الإجماع حجّة،أو لا ذلک ولا هذا.فإنّ کان الأوّل،وجب أن یحصل التواتر فی کون الإجماع حجّة،وذلک باطل؛لأنّ المخالفین نازعوا فیه،والموافقین إنّما أثبتوا کونه حجّة بالدلیل،فلو حصل النقل المتواتر فیه لکان جاریاً مجری العلم بشجاعة علی علیه السّلام وسخاء حاتم،ومعلوم أنّ ذلک باطل.وبهذا الحرف یظهر الفرق بین هذه الأخبار وبین الأخبار الواردة فی شجاعة علی وسخاء حاتم،فلو کان الأمر کذلک لا جرم صار هذا المعنی معلوماً متواتراً،فلو کان الأمر مسألتنا کذلک،لوجب حصول التواتر عن الرسول صلی الله علیه و آله فی أنّ الإجماع حجّة،ومعلوم أنّ أحداً لم یقل بذلک.

وممّا ذکرناه من الأعلام عرفت أنّ التمسّک بهذه الأخبار علی حجیة الإجماع غیر جائز،إذ لم یثبت دلالتها علی القدر المشترک علی سبیل القطع بحیث یفید المطلوب یقیناً،فإنّه فرض دلالتها علی المدّعی،فیکون ظنیاً،والظنّی لا یثبت الأمر القطعی،و قد عرفت أنّ ادّعاء التواتر المعنوی لا وجه له.

ص:168

الأسئلة

1.لماذا لا تدلّ جمیع الأحادیث المذکورة علی حجیة الإجماع؟

2.اُذکر رأی المحقّق التستری فی حدیث:«لا یجتمع امّتی علی الخطأ».

3.اُذکر کلام الاُصولی الکبیر أبی بکر السرخسی.

4.لماذا لم یبلغ هذا الخبر(لا تجتمع امّتی علی الخطأ)إلی رتبة التواتر المعنوی؟

5.اُذکر رأی العلاّمة الرازی حول أخبار صحة حجیة الإجماع،هل بلغت حدّ التواتر أم لا؟

6.اُذکر الاستدلال الذی ذکره الرازی فی المعالم علی عدم بلوغ هذا الخبر إلی رتبة التواتر المعنوی.

7.لماذا لا یجوز التمسّک بهذه الأخبار علی حجیة الإجماع إذا کانت غیر متواترةً؟

ص:169

ص:170

الدرس السابع و العشرون بعد المئة

دلالة الأخبار علی حجیة الإجماع

*الأخبار الواردة هی أدلّ علی الفرض من نصوص الکتاب،و إن کانت دونها من جهة التواتر،وتقریر هذا الدلیل:إنّ الروایات تظاهرت عن الرسول صلی الله علیه و آله بعصمة هذه الاُمّة عن الخطأ بألفاظ مختلفة علی لسان الثقات من الصحابة کعمر،وابنه،وابن مسعود،وأبی سعید الخدری،وأنس بن مالک،وأبی هریرة،وحذیفة بن الیمان،وغیرهم مع اتّفاق المعنی،ولم تزل کانت ظاهرة مشهورة بین الصحابة و التابعین إلی زماننا هذا،لم یدفعها أحد من أهل النقل من سلف الاُمّة وخلفها من موافقی الاُمّة ومخالفیها،ولم تزل الاُمّة تحتجّ بها فی اصول الدّین وفروعه،ثمّ الاستدلال بهذا الدلیل من وجهین:

أحدهما:حصول العلم الضروری،فإنّ کلّ من سمع هذه الأحادیث یجد من نفسه العلم الضروری بأنّ قصد رسول الله صلی الله علیه و آله من جملة هذه الأخبار،و إن لم یتواتر آحادها،تعظیم شأن هذه الاُمّة،والإخبار بعصمتها عن الخطأ کما علم بالضرورة شجاعة علی وسخاء حاتم،ونحوهما.

وثانیهما:حصول العلم الاستدلالی،و هو أنّ هذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة بین الصحابة و التابعین ومن بعدهم،متمسّکاً بها فی إثبات الإجماع من غیر خلاف فیها ولا

ص:171

نکیر إلی زمان المخالف،والعادة قاضیة بإحالة اتّفاق مثل هذا الخلق الکثیر و الجمّ الغفیر-مع تکرّر الأزمان واختلاف مذاهبهم ودواعیهم،مع کونها مجبولة علی الخلاف-علی الاحتجاج بما لا أصل له فی إثبات أصل من الشریعة،و هو الإجماع المحکوم به علی الکتاب و السنّة من غیر أن ینبّه أحد علی فساده وإبطاله وإظهار النکیر فیه. (1)

اورد علی الدلیل المذکور:

أوّلاً:إنّ الظاهر من الاجتماع هو التجامع الإرادی لا محض حصول الموافقة اتّفاقاً،فلا یثبت حجّیة جمیع الإجماعات،إذ لا یتوقّف تحقّق الإجماع علی اجتماع آرائهم علی سبیل اطّلاع کلّ منهم علی رأی الآخر،واختیاره موافقة الآخر،وتتمیمه بالإجماع المرکّب أو بعدم القول بالفصل دور،و هذا واضح،إلاّ أن یقال مرادهم إثبات الحجّیة فی الجملة لا مطلقاً،وبه یبطل السلب الکلّی الذی یدّعیه الخصم. (2)

وثانیاً:إنّ الألف و اللاّم الداخلتان علی الخطأ تکونان للجنسیة لما حقّقناه سابقاً فی محلّه من أنّ اللاّم حقیقة فی الجنس،ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم علی جنس الخطأ،و هو قد یحصل بأن یختار کلّ واحد من الاُمّة خطأ غیر خطأ الآخر،وذلک یوجب عصمتهم،ولا یقولون به،فهذا من أدلّة الشیعة علی القول بوجوب وجود الإمام المعصوم.

ولو جعل اللاّم للعهد الذهنی،فیصیر من باب النکرة المنفیة مفیداً للعموم،إذ یصیر معنی الروایة حینئذٍ أنّهم لا یجتمعون علی فرد من أفراد الخطأ،بل کلّ ما اجتمعوا علیه فهو صواب،لکنّه معنی مجازی للّفظ،فیکون معنی الروایة،سیما علی القول بکون الاجتماع بمعنی التجامع الإرادی،أنّ اجتماع الاُمّة لا یحصل علی ما خطأیته ثابتة قبل الاجتماع،

ص:172


1- (1) .راجع:المستصفی:510513/1؛اُصول الفقه للخضری:286287؛کشف الأسرار:380381/3؛الإحکام:187188/1؛روضة الناظر:83؛نزهة الخاطر:232233/1؛المهذّب:859860/2؛شرح المعالم:75/2.
2- (2) .راجع:قوانین الاُصول:362.

فالغرض نفی اجتماع الاُمّة علی ما هو خطأ،لا أنّ ما اجتمعوا علیه یعلم أنّه لیس بخطأ. (1)

وثالثاً:یمکن أن یقال:لعلّ هذا الحدیث ورد علی صیغة النهی،وکانت العین من لفظة(یجتمع)ساکنه،ویسئل عنهم:من الذی ضبط فی إعرابه الرفع دون السکون یعنی ذلک نهیاً منه صلی الله علیه و آله لاُمّته فاشتبه ذلک علی الراوی. (2)

ورابعاً:یحتمل أنّه أراد بالخطأ و الضلالة عن الاُمّة عصمة جمیعهم عن الکفر لا بتأویل ولا شبهة،ویحتمل أنّه أراد عصمتهم عن الخطأ فی الشهادة فی الآخرة أو فیما یوافق النصّ المتواتر أو دلیل العقل،دون ما یکون بالاجتهاد،سلّمنا دلالة هذه الأخبار علی عصمتهم عن کلّ خطأ وضلال،لکن یحتمل أنّه أراد بالاُمّة کلّ من آمن به إلی یوم القیامة،وأهل کلّ عصر لیسوا کلّ الاُمّة،فلا یلزم امتناع الخطأ و الضلال علیهم. (3)

وخامساً:یقال فی جواب الاستدلال المذکور:إنکم استدللتم بالخبر علی الإجماع،ثمّ استدللتم بالإجماع علی صحّة الخبر. (4)

وسادساً:قال الشیخ عبد القادر الرومی:ولو سلّمنا صحّة هذه الأحادیث ودلالتها علی عصمة الاُمّة،فهی معارضة بما یناقضها ممّا حاله فی الصحّة و الشهرة مثل حالها،و هو ما روی أبو هریرة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

تفرّقت الیهود علی إحدی وسبعین فرقة،أو اثنتین وسبعین فرقة،والنصاری مثل ذلک،وتتفرق امّتی علی ثلاث وسبعین فرقة. (5)

ص:173


1- (1) .راجع:قوانین الاُصول:362؛الفصول الغرویة:250.
2- (2) .راجع:الذریعة إلی اصول الشریعة:619/2؛المحصول:824/3.
3- (3) .راجع:الإحکام:187/1؛کشف الأسرار:382/3 و 383؛نزهة الخاطر العاطر:232/1؛اُصول الفقه الإسلامی:544/1؛المنخول:403.
4- (4) .راجع:کشف الأسرار:382/3؛المستصفی:514/1؛المهذّب:860/2.
5- (5) .سنن الترمذی:1029 ح2640،کتاب الإیمان؛سنن أبی داود:261/4 ح4596،کتاب السنة-باب1؛سنن ابن ماجه:621/4 ح3991-3992،کتاب الفتن.

رواه أبو داود،وابن ماجه،وقال الترمذی:حدیث حسن صحیح.وله،من حدیث عبدالله بن عمرو:إنّ بنی إسرائیل تفرّقت علی اثنتین وسبعین،ملّة وتفرّقت امّتی علی ثلاث وسبعین ملّة کلّهم فی النار إلاّ ملّة واحدة،قالوا:من هی یا رسول الله؟قال:ما أنا علیه وأصحابی.

قال الترمذی:حدیثٌ غریب. (1)

فقد أخبر النبی صلی الله علیه و آله أنّ امّته تفترق علی ثلاث وسبعین فرقة کلّهم فی النار إلاّ واحدة،فالأحادیث الاُول لو دلّت علی عصمة الاُمّة لکانت أمّا أن تدل علی عصمة جمیعها أو علی عصمة بعضها،والأوّل باطل؛لأنّ هذا الحدیث قد دل علی خطأ أکثرها،و هو اثنتان وسبعون من ثلاث وسبعین کلّهم فی النار إلاّ واحدة،ومن یستحقّ النار لا یکون صالحاً فضلاً عن معصوم،والثانی أیضاً باطل؛لأنّ مجتهدی ذلک البعض لیسوا جمیع الاُمّة،بل هم مجتهد وجزء قلیل من الاُمّة،إذ کلّ فرقة من الثنتین و السبعین فرقة فیها مجتهدون،فدلّ الحدیث علی أنّ جمیع الفرق من الاُمّة،وحینئذٍ یصیر تقدیر أحادیثکم لا یجتمع مجتهد وفرقة من ثلاث وسبعین فرقة من امّتی علی الخطأ،و هو خبط عظیم وصرف للّفظ عن أکثر مضمونه،فتبین من هذا أنّ ما یذکرونه من الأدلّة لا ینهض بالدلالة علی أنّ الإجماع حجّة. (2)

وسابعاً:إنّکم ادّعیتم العلم الضروری،ومن خاصیته أن لا یختلف فیه العقلاء،ونحن نخالفکم،وأیضاً ادّعیتم الضرورة ثمّ اشتغلتم ببیان وجه الدلالة،وهما لایجتمعان. (3)

وثامناً:من المحتمل أنّ أحداً أنکر هذه الأخبار ولم ینقل إلینا،بل أنکر النظّام

ص:174


1- (1) .سنن الترمذی:ح2641.
2- (2) .نزهة الخاطر العاطر:233/1.
3- (3) .راجع:شرح المعالم:75/2؛الإحکام:188/1.

والخوارج و الظاهریة و الشیعة-علی رأی علماء أهل السنّة-هذه الأخبار،ومع هذا الاحتمال،فلا قطع.وما المانع أن یکون الصحابة و التابعون استدلّوا بغیر هذه الأحادیث. (1)

الاُمّة وحدیث:لا تجتمع امّتی علی الخطأ

إن قیل:إنّ الاُمّة تلقّت هذا الحدیث بالقبول،فدل علی ثبوت الإجماع،فنقول:

أوّلاً:لا نسلّم تلقّیها له بالقبول،إذ منکرو الإجماع کالنّظام و الخوارج و الظاهریة و الشیعة-علی رأی أهل السنّة-لو تلقّوه بالقبول لما خالفوه.

وثانیاً:إنّ الاحتجاج بتلقّی الاُمّة له بالقبول احتجاج بالإجماع،و هو إثبات الشیء بنفسه،و هو محال وباطل،وببیان الشیخ الطوسی:لو سلّمنا تلقّیها له بالقبول،لم یکن أیضاً فیه حجّة؛لأنّ کلامنا فی صحّة الإجماع الذی لا یثبت إلاّ بعد ثبوت الخبر،والخبر لا یصحّ حتّی یثبت أنّهم لا یجمعون علی خطأ. (2)

ولکن،ظاهراً أنّ هذه المناقشات غیر واردة،فإنّ المراد بتلقی الاُمّة له بالقبول لیس کلّ الاُمّة،بل اغلبیتها،ولو سلّم لعلّه کان خلاف الخوارج و الظاهریة و النّظام من جهة الدلالة،فلا یؤثر فی صحّة السند.

وکذلک الاستدلال بالتلقّی له بالقبول لیس استدلالاً بالإجماع،حتّی یلزم إثبات الشیء بنفسه.

نعم،قال المحقّق السید الحکیم:تبقی مناقشة واحدة،وهی واردة علی جملة ما ذکر من الأدلّة السمعیة لا علی خصوص هذا الحدیث،وهی ورود لفظ الاُمّة فیها أو ما یؤدّی مؤدّاها،والأخذ بظاهره لا یفید إلاّ من قال:إنّ إجماع الاُمّة حجّة،أمّا بقیة الأقوال کاجماع المجتهدین،أو أهل الحرمین،أو الصحابة،أو أهل طائفة ما،فإنّ هذه الأدلّة لا تصلح لإثباتها.

ص:175


1- (1) .راجع:الإحکام:188/1.
2- (2) .العدّة فی اصول الفقه:625/2.

والقول بأنّ الاُمّة لیست هی إلاّ مجتهدیها وأهل الحلّ و العقد فیها،فلا عبرة بغیرهم،قول لا یعتمد سوی الخطابة والاستحسان،وهما لا یصلحان فی مقام التمسّک بالأدلّة علی الحجج الشرعیة،فالخروج علی النص فیها لا مبرّر له،(یعنی تقیید بلا دلیل)،وأوضح من ذلک فی الإشکال قصرها علی الصحابة أو أهل المدینة،وهکذا... (1)،بل نری أهل السنّة،ولا أقلّ أکثرهم یقولون:إنّ المراد بالإجماع هو إجماع خصوص الفقهاء،أو أهل الحل و العقد لعصر من العصور،بل خصوص الفقهاء المعروفین،بل خصوص المعروفین من فقهاء طائفة خاصّة،وهی طائفة أهل السنّة،بل یکتفون باتّفاق جماعة ویطمئنّون إلیهم کما هو الواقع فی بیعة السقیفة.

وفی الخاتمة نذکر أقوال بعض العلماء الذین یقولون:إنّ تلقّی الاُمّة الخبر لا یخرجه من الآحاد،منهم:القاضی عضد الدّین الأیجی فی شرح المختصر تبعاً لابن الحاجب وغیره،هقد صرّح بأنّ قبول الاُمّة لخبر لا یخرجه من الآحاد،وأنّه إنّما یمتنع عادة اتّفاقهم علی مظنون إذا دقّ فیه النظر،و أمّا فیما استند إلی القیاس الجلی وأخبار الآحاد بعد العلم بوجوب العمل بالظواهر،فلا. (2)

وحکی إمام الحرمین عن الاستاذ أبی بکر فی بعض مصنفاته أنّه قال:إنّ الخبر الذی تلّقته الاُمّة بالقبول إنّ اتّفقوا علی العمل به لم یقطع بصدقه.

وعن القاضی:إنّه لا یحکم بصدقه وان تلقّوه بالقبول قولاً وقطعاً؛لأنّ تصحیح الأئمّة للخبر یجری علی حکم الظاهر،فإذا استجمع خبر من ظاهره،وعدالة الراوی،وثبوت الثقة به،وغیرهما ممّا یرعاه المحدّثون،فإنهم یطلقون فیه الصحّة،ولا وجه للقطع بالصدق و الحالة هذه.

ص:176


1- (1) .الاُصول العامّة للفقه المقارن:263264.
2- (2) .راجع:کشف القناع:1415.

الخلاصة

دلالة الأخبار علی محلّ النزاع هی أدلّ علی الغرض من نصوص الکتاب،و إن کانت دونها من جهة التواتر،فإنّ الروایات تظاهرت عن الرسول صلی الله علیه و آله بعصمة هذه الاُمّة عن الخطأ بألفاظ مختلفة علی لسان بعض الصحابة مع اتّفاق المعنی،ولم تزل ظاهرة مشهورة بین الصحابة و التابعین إلی زماننا هذا لم،یدفعها أحد من أهل النقل من موافقی الاُمّة ومخالفیها،ولم تزل تحتجّ بها فی اصول الدّین وفروعه،ثمّ الاستدلال بهذا الدلیل من وجهین:

أحدهما:حصول العلم الضروری،فإنّ کلّ من سمع هذه الأحادیث یجد من نفسه العلم الضروری بأنّ قصد رسول الله صلی الله علیه و آله من هذه الأخبار تعظیم شأن هذه الاُمّة،والإخبار بعصمتها عن الخطأ.

وثانیهما:حصول العلم الاستدلالی،و هو أنّ هذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة بین الصحابة و التابعین ومن بعدهم،متمسّکاً بها فی إثبات الإجماع من غیر خلاف فیها،والعادة قاضیة بإحالة اتّفاق مثل هذا الخلق الکثیر،مع تکرّر الأزمان واختلاف مذاهبهم ودواعیهم،علی الإجتماع بما لا أصل له.

واُورد علیه أوّلاً:إنّ الظاهر من الاجتماع هو التجامع الإرادی لا محض حصول الموافقة اتّفاقاً،فلا یثبت حجّیة جمیع الإجماعات،إذ لا یتوقّف تحقّق الإجماع علی اجتماع آرائهم علی سبیل اطّلاع کلّ منهم علی رأی الآخر،واختیاره موافقة الآخر.

وثانیاً:إنّ اللاّم الداخلة علی الخطأ تکون للجنسیة،فإنّ اللاّم حقیقة فی الجنس،ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم علی جنس الخطأ.نعم،لو جعل اللاّم للعهد الذهنی فیصیر من باب النکرة المنفیة مفیداً للعموم إذ یصیر معنی الروایة حینئذٍ انّهم لا یجتمعون علی فرد من أفراد الخطأ،بل کلّ ما اجتمعوا علیه فهو صواب،لکنّه معنی مجازی للّفظ.

ص:177

وثالثاً:یمکن أن یقال:لعلّ هذا الحدیث ورد علی صیغة النهی،وکانت العین من لفظة(یجتمع)ساکنه،یعنی ذلک نهیاً منه صلی الله علیه و آله لاُمّته فاشتبه ذلک علی الراوی.

ورابعاً:یحتمل أنّه أراد بالخطأ و الضلالة عن الاُمّة عصمة جمیعهم عن الکفر،أو عصمتهم عن الخطأ فی الشهادة فی الآخرة أو فیما یوافق النصّ المتواتر أو دلیل العقل،ویمکن أنّه أراد بالاُمّة کلّ من آمن به إلی یوم القیامة،وأهل کل عصر لیسوا کلّ الاُمّة فلا یلزم امتناع الخطأ و الضلال علیهم.

وخامساً:انکم استدللتم بالخبر علی الإجماع،ثمّ استدللتم بالإجماع علی صحّة الخبر.

وسادساً:ولو سلّمنا صحّة هذه الأحادیث ودلالتها علی عصمة الاُمّة،فهی معارضة بما یناقضها ممّا حاله فی الصحّة و الشهرة مثل حالها،فالأحادیث الاُول لو دلّت علی عصمة الاُمّة لکانت أمّا أن تدل علی عصمة جمیعها أو علی عصمة بعضها،والأوّل باطل؛لأنّ هذا الحدیث قد دل علی خطأ أکثرها،والثانی أیضاً باطل؛لأنّ مجتهدی ذلک البعض لیسوا جمیع الاُمّة،بل هم مجتهد وجزء قلیل من الاُمّة،إذ کل فرقة من الثنتین و السبعین فرقة فیها مجتهدون،فدلّ الحدیث علی أنّ جمیع الفرق من الاُمّة،وحینئذٍ یصیر تقدیر أحادیثکم لا یجتمع مجتهد وفرقة من ثلاث وسبعین فرقة من امّتی علی الخطأ،و هو خبط عظیم وصرف للّفظ عن أکثر مضمونه.

وسابعاً:انّکم ادعیتم العلم الضروری،ثمّ اشتغلتم ببیان وجه الدلالة وهما لا یجتمعان.

وثامناً:من المحتمل أنّ أحداً أنکر هذه الأخبار ولم ینقل إلینا،بل أنکر النّظام و الخوارج و الظاهریة و الشیعة هذه الأخبار،ومع هذا الاحتمال،فلا قطع.وما المانع أن یکون الصحابة و التابعون استدلّوا بغیر هذه الأحادیث.

إن قیل:إنّ الاُمّة تلقّت هذا الحدیث بالقبول،فدل علی ثبوت الإجماع،فنقول:أوّلاً:لا نسلّم تلقّیها له بالقبول،إذ منکرو الإجماع لو تلقّوه بالقبول لما خالفوه.

وثانیاً:إنّ الاحتجاج بتلقّی الاُمّة له بالقبول احتجاج بالإجماع،و هو إثبات الشیء بنفسه.

ص:178

لکن،ظاهراً أنّ هذه المناقشات غیر واردة،فإنّ المراد بتلّقی الاُمّة له بالقبول لیس کلّ الاُمّة،بل اغلبیتها،ولو سلّم لعلّه کان خلاف الخوارج و الظاهریة من جهة الدلالة،فلا یؤثر فی صحّة السند.وکذلک الاستدلال بالتلقّی له بالقبول لیس استدلالاً بالإجماع،حتّی یلزم إثبات الشیء بنفسه.

تبقی مناقشة واحدة،وهی واردة علی جملة ما ذکر من الأدلّة السمعیة،لا علی خصوص هذا الحدیث،وهی ورود لفظ الاُمّة فیها أو ما یؤدّی مؤدّاها،والأخذ بظاهره لا یفید إلاّ من قال:إنّ إجماع الاُمّة حجّة،أمّا بقیة الأقوال کاجماع المجتهدین،أو أهل الحرمین،أو الصحابة،أو أهل الحلّ و العقد،فإنّ هذه الأدلّة لا تصلح لإثباتها.والقول بأنّ الاُمّة لیست هی إلاّ مجتهدیها وأهل الحلّ و العقد فیها،فلا عبرة بغیرهم،قول لا یعتمد سوی الخطابة والاستحسان،وهما لا یصلحان فی مقام التمسّک بالأدلّة علی الحجج الشرعیة،فالخروج علی النص فیها لا مبرّر له.

ص:179

الأسئلة

1.ما المراد بالعلم الضروری والاستدلالی الحاصلان من هذه الأخبار؟

2.لِمَ لا یثبت حجیة جمیع الإجماعات إذا کان الظاهر من الاجتماع،هو التجامع الإرادی؟

3.اُذکر ووضّح الإیراد الثانی.

4.وضّح الإیراد الخامس.

5.اُذکر الإیراد السادس علی الاستدلال المذکور.

6.لماذا یکون الاحتجاج بتلقّی الاُمّة له بالقبول احتجاجاً بالإجماع و هو إثبات الشیء بنفسه؟

7.اُذکر المناقشة الواردة علی الأدلّة السمعیة.

ص:180

الدرس الثامن و العشرون بعد المئة

الدلیل العقلی علی حجیة الإجماع

*و أمّا العقل،فقد صوّر دلیلهم بصور عدیدة،منها:

ما ذکره الآمدی،حیث قال:و أمّا المعقول،فهو أنّ الخلق الکثیر،وهم أهل کلّ عصر،إذا اتّفقوا علی حکم قضیة وجزموا به جزماً قاطعاً،فالعادة تحیل علی مثلهم الجزم بذلک و القطع به ولیس له مستند قاطع،بحیث لا یتنبّه واحد منهم إلی الخطأ فی القطع بما لیس بقاطع. (1)

أورد نفسه علی الاستدلال المذکور،بأنّ العادة لا تحیل الخطأ علی الخلق الکثیر بظنّهم ما لیس قاطعاً قاطعاً،ولهذا فإنّ الیهود و النصاری مع کثرتهم کثرة تخرج عن حد التواتر،قد أجمعوا علی تکذیب محمّد علیه السّلام وإنکار رسالته،ولیس ذلک إلاّ لخطئهم فی ظنّ ما لیس قاطعاً قاطعاً. (2)

ص:181


1- (1) .الإحکام:189190/1.وراجع:الوجیز:183؛فواتح الرحموت:398/2؛العدّة فی اصول الفقه:603604/2.
2- (2) .الإحکام:190/1.وراجع:إرشاد الفحول:169/1؛الاُصول العامّة للفقه المقارن ص264؛اُصول الجصاص:116/2؛العدّة فی اصول الفقه:604/2؛المستصفی:521/1.

مع أنّ من سلک هذه الطریقة المعنویة لم یر انعقاد الإجماع إذا کان عدد المجمعین ینقص عن عدد التواتر،ومع أنّه یلزمه أن یکون الإجماع المحتجّ به خصّیصاً بإجماع أهل الحل و العقد من المسلمین.

ومنها:ما قرّره الغزالی قال:إنّ الصحابة إذا قضوا بقضیة وزعموا أنّهم قاطعون بها فلا یقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع،و إذا کثروا کثرةً تنتهی إلی حدّ التواتر،فالعادة تحیل علیهم قصد الکذب،وتحیل علیهم الغلط حتّی لا یتنبّه واحد منهم للحقّ فی ذلک،والی أنّ القطع بغیر دلیل قاطع خطأ،فقطعهم فی غیر محلّ القطع محال فی العادة،فإنّ قضوا علی اجتهاد واتّفقوا علیه،فیعلم أنّ التابعین کانوا یشدّدون النکیر علی مخالفیهم ویقطعون به،وقطعهم بذلک قطع فی غیر محلّ القطع،فلا یکون ذلک أیضاً إلاّ عن قاطع،وإلاّ فیستحیل فی العادة أن یشذّ عن جمیعهم الحقّ مع کثرتهم حتّی لا یتنبّه واحد منهم للحقّ،وکذلک نعلم أنّ التابعین لو أجمعوا علی شیء أنکر تابعو التابعین علی المخالف،وقطعوا بالإنکار،و هو قطع فی غیر محلّ القطع،فالعادة تحیل ذلک إلاّ عن قاطع. (1)

ثمّ أورد علی نفسه،بأنّ هذه الطریقة ضعیفة عندنا؛لأنّ منشأ الخطأ إمّا تعمّد الکذب و إمّا ظنّهم ما لیس بقاطع قاطعاً،والأوّل غیر جائز علی عدد التواتر،و أمّا الثانی فجائز،فقد قطع الیهود ببطلان نبوة عیسی ومحمّد علیهم السّلام وهم أکثر من عدد التواتر،و هو قطع فی غیر محلّ القطع. (2)

فمعلوم أنّ العادة لا تحیل علی عدد التواتر أن یظنّوا ما لیس بقاطع قاطعاً،وعلی هذا شرط بعض أنّ خبر التواتر لا بدّ من أن یستند إلی محسوس.

أقول:بل صرح فی المنخول بأنّه لا مطمع فی إثبات حجیة الإجماع فی مسلک

ص:182


1- (1) .المستصفی:520521/1.وراجع:فواتح الرحموت:397398/2.
2- (2) .المستصفی:521522/1؛المنخول:403404.

عقلی،إذ لیس فیه ما یدلّ علیه،ولم یشهد له من جهة السمع خبر متواتر ولا نصّ کتاب،وإثبات الإجماع بالإجماع تهافت،والقیاس المظنون لا مجال له فی القطعیات. (1)

ومنها:ما حکاه الرازی عن إمام الحرمین،حیث قال:دلیل العقل و هو الذی عوّل علیه إمام الحرمین فقال:إجماع الخلق العظیم علی الحکم الواحد یستحیل أن یکون إلاّ لدلالة أو أمارة.فإنّ کان لدلالة،فقد کشف الإجماع عن وجود تلک الدلالة،فیکون خلاف الإجماع،خلافاً لتلک الدلالة.و إن کان لأمارة،فقد رأینا التابعین قاطعین بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع فلولا اطّلاعهم علی دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع وإلاّ لاستحال اتّفاقهم علی المنع من مخالفته. (2)

ثمّ استشکل علیه،بأنّ هذه الدلالة ضعیفة جداً؛لاحتمال أن یقال:إنّهم قد اتّفقوا علی الحکم لا لدلالة ولا أمارة،بل لشبهة،وکم من المبطلین مع کثرتهم وتفرّقهم فی الشرق و الغرب قد اتّفقت کلمتهم لأجل الشبهة.سلّمنا الحصر،فلم لا یجوز أن یکون لأمارة تفید الظنّ.

قوله:رأینا الصحابة مجمعین علی المنع من مخالفة هذا الإجماع،وذلک یدلّ علی اطّلاعهم علی دلیل قاطع مانع من مخالفة هذا الإجماع.قلنا:لا نسلّم اتّفاق الصحابة علی ذلک.

أقول:قد ثبت بالتواتر مخالفة علی علیه السّلام وجماعة کبیرة من بنی هاشم وباقی المسلمین علی بیعة أبی بکر یوم السقیفة.

وحکی عن السید المرتضی إنّ الاحتجاج بالإجماع لم یکن فی الصدر الأوّل،إذ لم یعرفوه ولا سیما علی الوجه الذی یدّعیه علماء أهل السنّة،و إنّما کانوا ینکرون علی من خالف الحقّ؛لأنّه خرج عن المذهب الذی یعضده الدلائل إجماعیاً کان أم

ص:183


1- (1) .المنخول:403.
2- (2) .المحصول:825/3؛شرح المعالم:90/2.

خلافیاً،ثمّ قال السید المرتضی:إنّا لم نعرف خبراً عن أحد من الصحابة إنّه کان یحتجّ فی الإجماع بالأخبار الدعاة،بل لم یثبت عنهم احتجاج بالإجماع علی ما یذهب إلیه الخصوم جملة. (1)

إن قیل:یثبت احتجاجهم بالإجماع فی أمر الإمامة.

فیقال:لعلّه لعدم کونها عندهم من أحکام الشریعة المطلوبة بالأصالة،فزعموا کفایة اختیار الاُمّة أو جمهورهم فی إثباتها واحداثها،وجواز التعویل علی إجماعهم الغیر الناشئ عن دلیل فی مثلها ممّا هو مبنی نظام امور الدّنیا. (2)

ومنها ما قیل فی تقریره:إنّه ثبت بالدلیل العقلی القطعی أن نبینا صلی الله علیه و آله خاتم الأنبیاء وشریعته دائمة إلی قیام الساعة،فمتی وقعت حوادث لیس فیها نصّ قاطع من الکتاب و السنّة وأجمعت الاُمّة علی حکمها،ولم یکن إجماعهم موجباً للعلم،وخرج الحقّ عنهم،ووقعوا فی الخطأ أو اختلفوا فی حکمها،وخرج الحقّ عن أقوالهم،فقد انقطعت شریعته فی بعض الأشیاء،فلا تکون شریعته کلّها دائمة،فیؤدّی إلی الخلف فی اخبار الشارع،وذلک محال یوجب القول بکون الإجماع حجّة قطعیة لتدوم الشریعة بوجوده،حتّی لا یؤدّی إلی المحال.

یرد علیه أوّلاً:لا نسلّم أنّه یلزم منه انقطاع الشریعة؛لأنّ الحکم الذی أجمعوا علیه إنّ کان ثابتاً فی الشرع قبل الإجماع بنصّ مثل وجوب الصلوات الخمس،یبقی ببقاء ذلک النصّ ولا أثر للإجماع فی إثباته،و إن لم یکن ثابتاً،لم یکن النص الموجب لبقاء الشریعة متناولاً له؛لأنّه یتناول الأحکام الموجودة فی الشریعة وقت وروده لا ما یحدث بعده،فلا یلزم من انقطاعه انقطاعها.

علی أنّا إن سلّمنا أنّه دخل تحت هذا النصّ،لا یلزم من انقطاعه أصل الشریعة؛

ص:184


1- (1) .راجع:کشف القناع:1213.
2- (2) .المصدر:13.

لبقاء امّهات الأحکام،کما لا یلزم من عدمه قبل الإجماع عدم الشریعة. (1)

وثانیاً:تقول الشیعة:هذا الذی ذکر فی تقریر الدلیل المعنوی علی حجیة الإجماع هو بعینه دلیل عقلی أنّ النبی صلی الله علیه و آله نصّب بعده وصیاً وخلیفة یرجع إلیه عند وقوع الحوادث التی لیس فیها نصّ قاطع من الکتاب و السنّة المتواترة؛لئلاّ یلزم انقطاع الشریعة بعد ارتحال النبی صلّی اللّه علیه و آله.

وبعبارة اخری:إذا ثبت أنّ شریعة نبینا صلی الله علیه و آله مؤبّدة و أنّ المصلحة لها ثابتة إلی قیام الساعة لجمیع المکلّفین،فلا بدّ لها من حافظ؛لأنّ ترکها بغیر حافظ اهمال لها وتعبّد للمکلّفین بما لا یطیقونه،ویتعذّر علیهم الوصول إلیه،ولیس یخلو الحافظ لها من أن یکون جمیع الاُمّة أو بعضها،ولیس یجوز أن یکون الحافظ لها الاُمّة؛لأنّ الاُمّة یجوز علیها السهو و النسیان وارتکاب الفساد و العدول عمّا علمته.فإذن،لا بدّ لها من حافظ معصوم یؤمن من جهته التغییر و التبدیل و السهو؛لیتمکّن المکلّفون من المصیر إلی قوله،و هذا الأمر تذهب الشیعة إلیه. (2)

**قال المحقّق صاحب الفصول:أمّا العقل،فتقرّر بوجهین:

الأوّل:إنّ العبادة تحیل اجتماع الکلّ علی الحکم الشرعی من غیر دلیل قاطع لما نری من اختلاف أنظارهم وأفکارهم،فإنّ الدلیل الظنّی ممّا لا یتّفق التوافق علیه عادة.

وفساده واضح؛لجواز توافقهم عن دلیل ظنی أجمعوا علی حجیته کخبر الواحد،أو عن أدلّة ظنّیة عوّل کل فرقة منهم علی بعضها،ولا یستفاد القطع من مجموعها.نعم،قد یکشف الإجماع عن کون المستند قطعیاً،لکنّه لا یثبت المقصود،و هو کون الإجماع حجّة مطلقاً.

الثانی:إنّ الجمیع قد اطبقوا علی القطع بتخطئة المخالف للإجماع،والعادة تحیل

ص:185


1- (1) .کشف الأسرار:383384/3؛التوضیح لمتن التنقیح:106107/2؛اُصول السرخسی:300/1.
2- (2) .راجع:تلخیص الشافی:123/1؛کشف المراد:286 و 288؛اللوامع الالهیة:331.

اجتماعهم علی القطع بحکم شرعی من غیر دلیل قاطع.(و هذا التقریر علی ما قال الفاضل القمّی فی القوانین من أقوی الأدلّة العقلیة التی أقاموها علی حجیة الإجماع).

وأورد علیه أمران:الأوّل:إنّ الشیعة وغیرهم کبعض الخوارج و النّظام قد منعوا من حجیته،فکیف یدّعی إطباق الجمیع؟!

واُجیب عنه:بأنّ هؤلاء لشرذمة قلیلون من أهل البدع و الأهواء،قد نشؤوا بعد اتّفاق الآراء فلا یعتدّ بهم ولا بخلافهم. (1)

وأنت خبیر بأنّ ما نسبوه إلی الشیعة من إنکار حجیة الإجماع افتراء منهم کما مرّ مفصّلاً فإنّ الإمامیة لا تنکر حجیة الإجماع مطلقاً،و إنّما تنکر حجیته من حیث کونه إجماعاً.

والأمر الثانی:إنّه إثبات لحجیة الإجماع،بالإجماع فهذا دور.وجوابه واضح؛لأنّ حجیة هذا الإجماع علی ما عرفت من الدلیل لیس بحجیة مطلق الإجماع،بل لکشفه عن الدلیل القاطع،فلا یلزم الدور. (2)

وأیضاً قیل فی تقریره وتوجیهه:إنّ الصحابة إذا قضوا بقضیة،وزعموا انّهم قاطعون بها فلا یقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع،و إذا کثروا کثرةً تنتهی إلی حدّ التواتر،فالعادة تحیل علیهم قصد الکذب وتحیل علیهم الغلط،فقطعهم فی غیر محلّ القطع محال فی العادة،والتابعون وتابعو التابعین إذا قطعوا بما قطع به الصحابة،فیستحیل فی العادة أن یشذّ عن جمیعهم الحقّ مع کثرتهم.

ونوقش فیه،بأنّ إجماعهم هذا إن کان یعلم بسببه قول المعصوم،فلا شکّ فی أنّ هذا علم قطعی بالحکم الواقعی،فیکون حجّة؛لأنّه قطع بالسنّة،ولا کلام لأحد فیه؛لأنّ هذا الإجماع یکون من طرق إثبات السنّة،و أمّا إذا لم یعلم بسببه قول المعصوم کما هو المقصود من فرض الإجماع حجّة مستقلّة ودلیلاً فی مقابل الکتاب و السنّة،

ص:186


1- (1) .راجع:فواتح الرحموت:97/2؛کشف الأسرار:373/3.
2- (2) .الفصول الغرویة:251.وراجع:قوانین الاُصول:365؛الاُصول العامّة:264؛معارج الاُصول:127.

فانّ قطع المجمعین مهما کانوا لئن کان یستحیل فی العادة قصدهم الکذب فی ادعاء القطع کما فی الخبر المتواتر،فإنّه لا یستحیل فی حقّهم الغفلة أو الاشتباه أو الغلط کما لا یستحیل أن یکون إجماعهم بدافع العادة أو العقیدة أو أی دافع من الدوافع الاُخر التی أشرنا إلیها سابقاً.

ولا عجب فی تطرّق احتمال الخطأ فی اتّفاق الناس علی رأی،بل تطرق الاحتمال إلی ذلک أکثر من تطرقه إلی الاتّفاق فی النقل؛لأنّ أسباب الاشتباه و الغلط فیه أکثر.

مع أنّ هذا الطریق العقلی لو تمّ،فأی شیء یخصّصه بخصوص الصحابة أو المسلمین أو علماء طائفة خاصّة من دون باقی الناس وسائر الاُمم،إلاّ إذا ثبت من دلیل آخر اختصاص المسلمین أو بعض منهم بمزیة خاصّة لیست للاُمم الاُخر،وهی العصمة من الخطأ.فإذن،لا یکون الدلیل علی الإجماع إلاّ هذا الدلیل لا الطریق العقلی المدعی،و هذا رجوع إلی المسلک الأوّل أو الثانی. (1)

ص:187


1- (1) .راجع:اُصول الفقه للمظفر:355356/2؛العدّد فی اصول الفقه:603604/2.

الخلاصة

أمّا الدلیل العقلی أو المعنوی فقد صوّر بصور عدیدة،منها:ما ذکره الآمدی:إنّ الخلق الکثیر وهم أهل کلّ عصر إذا اتّفقوا علی حکم قضیة وجزموا به جزماً قاطعاً،فالعادة تحیل علی مثلهم الجزم بذلک و القطع به ولیس له مستند قاطع،بحیث لا یتنبّه واحد منهم إلی الخطأ فی القطع بما لیس بقاطع.

ثمّ أورد نفسه علی کلامه،بأنّ العادة لا تحیل الخطأ علی الخلق الکثیر بظنّهم ما لیس قاطعاً قاطعاً،مع أنّ من سلک هذه الطریقة المعنویة لم یر انعقاد الإجماع عند ما إذا کان عدد المجمعین ینقص عن عدد التواتر،ومع أنّه یلزمه أن یکون الإجماع المحتجّ به خصّیصاً بإجماع أهل الحل و العقد من المسلمین.

ومنها:ما قرّره الغزالی قال:إنّ الصحابة إذا قضوا بقضیة وزعموا أنّهم قاطعون بها،فلا یقطعون بها إلاّ عن مستند قاطع،و إذا کثروا کثرةً تنتهی إلی حدّ التواتر،فالعادة تحیل علیهم قصد الکذب،وتحیل علیهم الغلط حتّی لا یتنبّه واحد منهم للحقّ فی ذلک،وإلی أن القطع بغیر دلیل قاطع خطأ،فقطعهم فی غیر محلّ القطع محال فی العادة.

ثمّ أورد علی نفسه،بأنّ هذه الطریقة ضعیفة عندنا؛لأنّ منشأ الخطأ إمّا تعمّد الکذب و إمّا ظنّهم ما لیس بقاطع قاطعاً،والأوّل غیر جائز علی عدد التواتر،و أمّا الثانی،فجائز،والدلیل علی ذلک قطع الیهود و النصاری ببطلان نبوّة نبیناصلّی اللّه علیه و آله.

وقال إمام الحرمین:إجماع الخلق العظیم علی الحکم الواحد یستحیل أن یکون إلاّ لدلالة أو أمارة.فإنّ کان لدلالة،فقد کشف الإجماع عن وجود تلک الدلالة،فیکون خلاف الإجماع خلافاً لتلک الدلالة.و إن کان لأمارة،فقد رأینا التابعین قاطعین بالمنع عن مخالفة هذا الإجماع،فلولا اطّلاعهم علی دلالة قاطعة مانعة من مخالفة هذا الإجماع وإلاّ لاستحال اتّفاقهم علی المنع من مخالفته.

ص:188

أورد المحقّق الرازی علیه،بأنّ هذه الدلالة ضعیفة جدّاً؛لاحتمال أن یقال:إنّهم قد اتّفقوا علی الحکم لا لدلالة ولا أمارة،بل لشبهة.وکم من المبطلین مع کثرتهم قد اتّفقت کلمتهم لأجل الشبهة.سلّمنا الحصر،فلم لا یجوز أن یکون لأمارة تفید الظنّ.

مع أنّا لا نسلّم اتّفاق الصحابة علی ذلک،ومع إنّه لمّا جوّزت حصول الإجماع لأجل الأمارة،فلعلّهم أجمعوا علی المنع من مخالفة الإجماع الصادر عن الأمارة لأمارة اخری.

ومنها ما قیل:إنّه ثبت بالدلیل العقلی القطعی أن نبینا صلی الله علیه و آله خاتم الأنبیاء،وشریعته دائمة إلی قیام الساعة،فمتی وقعت حوادث لیس فیها نصّ قاطع من الکتاب و السنّة،وأجمعت الاُمّة علی حکمها،ولم یکن إجماعهم موجباً للعلم وخرج الحقّ عنهم،ووقعوا فی الخطأ أو اختلفوا فی حکمها،وخرج الحق عن أقوالهم،فقد انقطعت شریعته.

یرد علیه أوّلاً:لا نسلّم أنّه یلزم منه انقطاع الشریعة.وثانیاً:إذا ثبت أنّ شریعة نبینا صلی الله علیه و آله مؤبّدة،وانّ المصلحة لها ثابتة إلی قیام الساعة لجمیع المکلّفین،فلا بدّ لها من حافظ؛لأنّ ترکها بغیر حافظ اهمال لها،ولیس یجوز أن یکون الحافظ لها الاُمّة لأنّ الاُمّة؛یجوز علیها السهو و النسیان.فإذن،لا بدّ لها من حافظ معصوم یؤمن من جهته التغییر و النسیان.

ومنها:إنّ العبادة تحیل اجتماع الکل علی الحکم الشرعی من غیر دلیل قاطع لما نری من اختلاف أنظارهم وأفکارهم،فإنّ الدلیل الظنّی ممّا لا یتّفق التوافق علیه عادة.

وفساده واضح؛لجواز توافقهم عن دلیل ظنی أجمعوا علی حجّیته کخبر الواحد،أو عن أدلّة ظنّیة عوّل کل فرقة منهم علی بعضها،ولا یستفاد القطع من مجموعها.نعم،قد یکشف الإجماع عن کون المستند قطعیاً،لکنّه لا یثبت المقصود،و هو کون الإجماع حجّة مطلقاً.

وأورد صاحب الفصول علی تقریره الثانی أمران:أوّلاً:إنّ الشیعة وغیرهم کبعض الخوارج و النّظام قد منعوا من حجیته،فکیف یدّعی اطباق الجمیع؟!

ص:189

وأنت خبیر بأنّ ما نسبوه إلی الشیعة من إنکار حجیة الإجماع افتراء منهم کما مرّ مفصّلاً فإنّ الإمامیة لا تنکر حجیة الإجماع مطلقاً و إنّما تنکر حجیته من حیث کونه إجماعاً.

والأمر الثانی:إنّه إثبات لحجیة الإجماع بالإجماع،فهذا دور.وجوابه واضح؛لأنّ حجیة هذا الإجماع علی ما عرفت من الدلیل لیس بحجیة مطلق الإجماع،بل لکشفه عن الدلیل القاطع،فلا یلزم الدور.

وقال المحقّق المظفّر فی مناقشة التقریر الذی ذکره،و هو بعینه ما ذکره الغزالی،فلا نعیده:إنّ إجماعهم هذا إن کان یعلم بسببه قول المعصوم،فلا شکّ فی أنّ هذا علم قطعی بالحکم الواقعی،فیکون حجّة؛لأنّه قطع بالسنّة،و أمّا إذا لم یعلم بسببه قول المعصوم کما هو المقصود من فرض الإجماع دلیلاً مستقلاً فی مقابل الکتاب و السنّة،فانّ قطع المجمعین مهما کانوا لئن کان یستحیل فی العادة قصدهم الکذب فی ادعاء القطع کما فی المتواتر،فإنّه لا یستحیل فی حقّهم الغفلة أو الاشتباه أو الغلط کما لا یستحیل أن یکون إجماعهم بدافع العادة أو العقیدة،ولا عجب فی تطرّق احتمال الخطأ فی اتّفاق الناس علی رأی.

ص:190

الأسئلة

1.اُذکر التقریر الذی ذکره الآمدی مع إیراداته علیه.

2.اُذکر التقریر الذی ذکره الغزالی ووضّح لماذا تکون هذه الطریقة عنده ضعیفة؟

3.وضّح التقریر الذی ذکره إمام الحرمین ووضّح إیراد الرازی علیه.

4.اُذکر التقریر الرابع.

5.لماذا لا یلزم انقطاع الشریعة؟

6.لماذا إذا ثبت أن شریعة نبینا صلی الله علیه و آله مؤبّدة،فلا بدّ لها من حافظ معصوم؟

7.لماذا لا یلزم الدور علی التقریر الثانی الذی ذکره صاحب الفصول؟

ص:191

ص:192

الدرس التاسع و العشرون بعد المئة

خلاصة ما مرّ فی دلیل حجّیة الإجماع عند الإمامیة(1)

**قد عرفت مفصلاً بما لا مزید علیه أنّ الإجماع بما هو إجماع لا قیمة علمیة له عند الإمامیة متی لم یکشف عن قول المعصوم،فإذا کشف علی نحو القطع عن قوله علیه السّلام فالحجّة فی الحقیقة هو المنکشف لا الکاشف،فیدخل حینئذٍ فی السنّة ولا یکون دلیلاً مستقلاً فی مقابل الکتاب و السنّة کما علیه أهل السنّة.

و قد تقدّم أنّه لم تثبت عندنا نحن الإمامیة عصمة الاُمّة عن الخطأ،و إنّما أقصی ما یثبت عندنا من اتّفاق الاُمّة أنّه یکشف عن رأی من له العصمة،فالعصمة فی المنکشف و هو قول الإمام علیه السّلام لا فی الکاشف و هو الإجماع.

وتقدّم-أیضاً-أنّ الإجماع علی هذا المبنی یکون بمنزلة الخبر المتواتر الکاشف بنحو القطع عن قول المعصوم،فکما أنّ الخبر المتواتر لیس بنفسه دلیلاً علی الحکم الشرعی رأساً بل هو دلیل علی الدلیل علی الحکم،فکذلک الإجماع لیس بنفسه دلیلاً،بل هو دلیل علی الدلیل.نعم،هناک فرق بین الإجماع و الخبر المتواتر،و هو أنّ الخبر دلیل لفظی علی قول المعصوم،أی:إنّه یثبت به نفس کلام المعصوم ولفظه فیما إذا کان التواتر للّفظ،و أمّا الإجماع فهو دلیل قطعی علی نفس رأی المعصوم لا علی لفظ خاص

ص:193

له؛لأنّه لا یثبت به فی أی حال أنّ المعصوم قد تلفّظ بلفظ خاص فی بیانه للحکم.

ولأجل هذا یسمّی الإجماع بالدلیل اللبّی نظیر الدلیل العقلی.

فقد ظهر لک ممّا ذکرناه،إنّه لا یجب فی الإجماع اتّفاق الجمیع کما هو مصطلح أهل السنّة،بل یکفی اتّفاق کلّ من یستکشف من اتّفاقهم قول المعصوم کثروا أم قلّوا إذا کان العلم باتّفاقهم یستلزم العلم بقول المعصوم،کما صرّح بذلک جماعة من علماء الإمامیة،و قد مرّ ذکرهم،ومنهم:المحقّق فی المعتبر،حیث قال:فلو خلا المئة من فقهائنا من قوله لما کان حجّة،ولو حصل فی اثنین کان قولهما حجّة. (1)

فذلکة الکلام:إنّ الإجماع إنّما یکون حجّة إذا عُلم بسببه علی سبیل القطع قول المعصوم،فما لم یحصل العلم بقوله،و إن حصل الظنّ منه،فلا قیمة له عند أصحابنا الإمامیة،ولا دلیل علی حجیته.

المسامحة فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق جماعة علم دخول المعصوم فیها

معلوم أنّه لا یلزم من کونه حجّة تسمیته إجماعاً فی الاصطلاح(و هو اتّفاق أهل الحلّ و العقد من امّة محمّد صلی الله علیه و آله أو اتّفاق جمیع العلماء فی عصر)بل یمکن أن یقال:إنّهم قد تسامحوا فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق الجماعة التی علم دخول الإمام علیه السّلام فیها؛لوجود مناط الحجیة فیه وکون وجود المخالف المعلوم نسبه غیر مؤثر شیئاً.

وعلی أی تقدیر،فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام علیه السّلام فی أقوال المجمعین،بحیث یکون دلالته علیه بالتضمّن،فیکون الإخبار علی الإجماع إخباراً عن قول الإمام علیه السّلام،و هذا هو الذی یدلّ علیه کلام الشیخ المفید، (2)والسید المرتضی، (3)وابن

ص:194


1- (1) .المعتبر:31/1.
2- (2) .أوائل المقالات:121؛التذکرة باُصول الفقه:45.
3- (3) .الذریعة إلی اصول الشریعة:605/2.

زهرة، (1)والمحقّق (2)والعلاّمة، (3)والشهیدین، (4)ومن تأخر عنهم. (5)

و أمّا اتّفاق من عدا الإمام علیه السّلام بحیث،یکشف عن صدور الحکم عن الإمام بقاعدة اللّطف کما عن الشیخ،أو التقریر کما عن المحقّق التستری فی کشف القناع،أوبحکم العادة القاضیة باستحالة توافقهم علی الخطأ مع کمال بذل الوسع فی فهم الحکم الصادر عن الإمام علیه السّلام،فهذا لیس إجماعاً اصطلاحیاً إلاّ أن ینضمّ قول الإمام المکشوف عنه باتّفاق هؤلاء إلی أقوالهم فیسمّی المجموع إجماعاً بناءً علی المسامحة فی تسمیة اتّفاق جماعة مشتمل علی قول الإمام علیه السّلام،جماعاً،و إن خرج عنه الکثیر أو الأکثر. (6)

طرق کشف الإجماع عن قول المعصوم

اشارة

إنّ الإجماع إنّما یکون حجّة إذا علم بسببه علی سبیل القطع قول المعصوم،فما لم یحصل العلم بقوله،و إن حصل الظنّ منه،فلا قیمة له عند أصحابنا الإمامیة،ولا دلیل علی حجّیة مثله.أمّا کیف یستکشف من الإجماع علی سبیل القطع قول المعصوم؟وببیان آخر،ما هی النکتة فی حجیة الإجماع؟فهذا ما ینبغی البحث عنه،و قد ذکروا لذلک طرقاً ونکاتاً متعدّدة أنهاها المحقّق الشیخ أسد الله التستری علی ما قیل إلی اثنتی عشرة طریقاً، (7)ونحن نذکر الطرق المشهورة و المعروفة منها،وهی ستّ:

ص:195


1- (1) .الغنیة(الجوامع الفقهیة):477.
2- (2) .المعتبر:31/1.
3- (3) .مبادئ الاُصول:190؛تهذیب الوصول:65و 70.
4- (4) .الذکری:49/1؛القواعد و الفوائد:217/1.
5- (5) .المعالم:173؛الوافیة:151.
6- (6) .فرائد الاُصول:184189/1؛معالم الاُصول:241.
7- (7) .بحر الفوائد:123؛اُصول الفقه:359/2.
الطریقة الاُولی:الحسّ
اشارة

وهی کما إذا سمع الحکم من الإمام علیه السّلام فی جملة جماعة لا یعرف أعیانهم،فیحصل له العلم بقول الإمام علیه السّلام،و هذه تسمّی الإجماع الدخولی،والطریقة التضمّنیة،وهی المعروفة عند قدماء الأصحاب،و هذه هی التی اختارها السید المرتضی ومن تبعه.

و هذه الطریقة إنّما تتصوّر إذا استقصی الشخص المحصّل للإجماع بنفسه،وتتبّع أقوال العلماء،فعرف اتّفاقهم،ووجد من بینها أقوالاً متمیزة معلومة لأشخاص مجهولین حتّی حصل له العلم بأنّ الإمام من جملة اولئک المتّفقین،أو یتواتر لدیهم النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم أنّ الإمام کان من جملتهم،ولمُ یعلم قوله بعینه من بینهم،فیکون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر.

وبعبارة أوضح:إنّ هذا الإجماع الدخولی الموجب لعلم الناقل بدخول الإمام علیه السّلام فی المجمعین،قد یکون بسماع هذا الناقل الحکم من جماعة یعلم إجمالاً بأنّ أحدهم الإمام علیه السّلام،و قد یکون بغیر السماع کما إذا ظفر بفتاوی متعدّدة یعلم بأنّ إحداها فتوی الإمام علیه السّلام،فإنّ فی هاتین الصورتین یعلم الناقل بدخول رأی الإمام علیه السّلام فی آراء المجمعین.

تنبیه

المستفاد من کلماتهم اختصاص الإجماع الدخولی بدخول قوله علیه السّلام فی أقوال المجمعین سواء کان شخصه الأجلّ داخلاً فیهم أم لا.وعلی هذا،فیکون فعله وتقریره علیه السّلام خارجین عن الإجماع الدخولی المصطلح،و إن کانا حجّتین أیضاً،کما إذا صدر فعل عن جماعة نعلم إنّ أحدهم الإمام علیه السّلام،أو صدر فعل من شخص بمحضر جماعة نعلم أنّ أحدهم الإمام علیه السّلام فسکتوا بأجمعهم مع إمکان الردع منهم علی تقدیر کونه خلاف الواقع،فإنّ هذا الفعل أو التقریر لیس من الإجماع الدخولی المصطلح،و إن کان بنفسه حجّة.

و قد ذکروا أنّه لا یضرّ فی حجیة الإجماع علی هذه الطریقة مخالفة معلوم النسب

ص:196

و إن کثروا ممّن یعلم أنّه غیر الإمام،بخلاف مجهول النسب علی وجه یحتمل أنّه الإمام،فإنّه فی هذه الصورة لا یتحقّق العلم بدخول الإمام فی المجمعین.

یرد علیه بما قاله الشیخ الأعظم الأنصاری:إنّ هذا فی غایة القلّة،بل نعلم جزماً أنّه لم یتّفق لأحد من هؤلاء الحاکین للإجماع کالشیخین (1)والسیدین (2)وغیرهما.

ولذا صرّح الشیخ فی العدّة (3)فی مقام الردّ علی السید المرتضی حیث أنکر الإجماع من باب وجوب اللّطف:بأنّه لولا قاعدة اللّطف لم یمکن التوصّل إلی معرفة موافقة الإمام للمجمعین. (4)

وکما قیل:إنّ هذه الطریقة لا تتحقّق غالباً إلاّ لمن کان موجوداً فی عصر الإمام أوفی الغیبة الصغری، (5)وکان السید المرتضی فیها،و أمّا بالنسبة إلی

ص:197


1- (1) .المراد بهما الشیخ المفید و الشیخ الطوسی.
2- (2) .المراد بهما السید المرتضی و السید أبو المکارم ابن زهرة.
3- (3) .العدّة فی اصول الفقه:631/2.
4- (4) .فرائد الاُصول:192/1.
5- (5) .للمهدی عجل الله فرجه غیبتان،صغری وکبری کما جاءت بذلک الأخبار عن ائمة أهل البیت علیهم السّلام،حیث روی إبراهیم بن المستنیر،عن المفضّل قال:سمعت أبا عبدالله الصادق علیه السّلام یقول:إنّ لصاحب هذا الأمر غیبتین إحداهما أطول من الاُخری حتّی یقال:مات،وبعض یقول:قتل،فلا یبقی علی أمره إلاّ نفر یسیر من أصحابه،ولا یطلع أحد علی موضعه وأمره ولا غیره إلاّ المولی الذی یلی أمره. فهذا الخبر صریح فی أنّ له علیه السّلام غیبتین،ویقال أیضاً:قصری وطولی. أمّا الغیبة الصغری،فمن مولده إلی انقطاع السفارة بینه وبین شیعته بوفاة السفراء وعدم نصب غیرهم،وهی أربع وسبعون سنة.هکذا ذکر المفید و السید محسن الامین فی الأعیان وغیرهما،فجعلوا ابتداء الغیبة إمامته،ولذلک کانت أربعاً وسبعین سنة،و هذا بناءً علی وفاة السمری سنة ثلاث مئة وتسع وعشرین،و أمّا بناءً علی أنّ وفاته وقعت سنة ثمان وعشرین کما فی إعلام الوری فتنقص سنة مع أنّه ذکر أنّ مدة الغیبة الصغری تکون أربعاً وسبعین سنة. ففی هذه المدّة کان السفراء یرونه وربما رآه غیرهم،ویصلون إلی خدمته،وتخرج علی أیدیهم توقیعات منه علیه السّلام إلی شیعته فی أجوبة مسائل وفی امور شتّی.

الصور المتأخرة فبعیدة التحقّق لا سیما فی الصورة الاُولی،وهی السماع من نفس الإمام علیه السّلام. (1)

الطریقة الثانیة:التقریر(الملازمة الشرعیة)

وهی أنّ یتحقّق الإجماع بمرأی ومسمع من المعصوم مع إمکان ردعهم ببیان الحقّ لهم ولو بإلقاء الخلاف بینهم،فإنّ اتّفاق الفقهاء علی حکم و الحال هذه یکشف عن إقرار المعصوم لهم فیما رأوه،وتقریرهم علی ما ذهبوا إلیه،فیکون ذلک دلیلاً علی أنّ ما اتّفقوا علیه هو حکم الله واقعاً.

و هذه الطریقة هی التی تسمّی بدلالة التقریر الناشئ من الإمساک عن النکیر علی إصابة المجمعین فیما اتّفقوا علیه،وذلک لأنّ تقریر المعصوم حجّة کقوله وفعله،ومعلوم کما مرّ سابقاً أنّ تقریر المعصوم حجّة فی فعل الواحد،فکیف بالجمع الکثیر و الجم الغفیر ولا یمنع منه الغیبة مع العلم بالحال و التمکّن من الردّ؟!فإنّه و إن غاب عنّا إلاّ أنّه بین أظهرنا نراه ویرانا،نلقاه ویلقانا و إن کنّا لا نعرفه بعینه،فإنّه یعرفنا ویرعانا،ویطّلع علی أحوالنا،وتُعرض علیه أعمالنا،ویکون متمکّناً من أنکار باطلهم علی عالمهم وجاهلهم،فحینئذٍ یکون عدم ردّه علیهم ما اتّفقوا علیه وترکه للنکیر تقریراً لهم علیه.

و هذا الوجه لا یتوقّف علی قاعدة اللّطف،و إن توقّف علی العصمة،وذلک لأنّ

ص:198


1- (1) .اُصول الفقه للمظفر:360/2؛قوانین الاُصول:350؛الفصول الغرویة:245.

إنکار المنکر و النهی عنه کتعلیم الواجب و الأمر به واجب علی کلّ أحد،فإذا اتّفق قول أو فعل ممّا یتعلّق بالدین،ولم یصدر إنکار له ممّن یمتنع إخلاله بما وجب علیه لعصمته،مع قطع النظر عن إمامته،کان ذلک تقریراً وحجّة علی کونه معروفاً غیر منکر؛ولأنّ الظاهر من السکوت عن مثل ذلک هو الرضا بوقوعه ممّن صدر منه وغیره.

حکی المحقّق التستری عن استاذه العلاّمة شریف العلماء المازندرانی أنّه عزی هذه الطریقة إلی بعض المتأخّرین،واحتملها أیضاً عن کلام أبی الصلاح الحلبی فی الکافی. (1)

و هذه الطریقة کما لا تتوقّف علی قاعدة اللّطف أیضاً لا تتوقّف علی ملاحظة منصب الإمامة ولوازمه،بل هی من جهة أنّه یجب الأمر بالمعروف وتعلیمه،وإنکار المنکر وتبیینه و الردع عنه علی کلّ متمکّن من ذلک عالم بما هو الواقع و الحکمة،فکیف یخلّ المعصوم به مع علمه بأعمال الاُمّة؟فسکوته عمّا اتّفق الإمامیة أو علماؤهم علیه تقریر لهم علیه،و هو حجّة مطلقاً کقوله فی حضوره وغیبته. (2)

قال المحقّق المظفّر:هذه الطریقة لا تتمّ إلاّ مع إحراز جمیع شروط التقریر،ومع هذه الشروط لا شکّ فی استکشاف موافقة المعصوم،بل بیان الحکم من شخص واحد بمرأی ومسمع من المعصوم مع إمکان ردعه وسکوته عنه،فیکون سکوته تقریراً کاشفاً عن موافقته.

ولکن المهمّ أن یثبت لنا أنّ الإجماع فی عصر الغیبة هل یتحقّق فیه إمکان الردع من الإمام ولو بإلقاء الخلاف؟أو هل یجب علی الإمام بیان الحکم الواقعی و الحال هذه؟ (3)

وجوابه واضح،فإنّه إن کان المراد بإلقاء الخلاف وبیان الواقع من الإمام علیه السّلام مع إظهار أنّه الإمام بأن یعرّفهم بإمامته،فهو مقطوع العدم،و إن کان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء کونه إماماً،فلا فائدة فیه،إذ لا یترتّب الأثر المطلوب و هو الردع من الإمام علیه السّلام.

ص:199


1- (1) .مفاتیح الاُصول:497؛کشف القناع:164؛اُصول الفقه للمظفر:361/2؛بحر الفوائد:124.
2- (2) .بحر الفوائد:124؛رسالة الإجماع(الرسائل الاُصولیة):300؛قوانین الاُصول:354 مع حاشیة سید علی.
3- (3) .اُصول الفقه:361/2.

الخلاصة

قد عرفت أنّ الإجماع بما هو إجماع لا قیمة علمیة له عند الإمامیة إذا لم یکشف عن قول المعصوم،فإذا کشف علی نحو القطع عن قوله علیه السّلام فالحجّة فی الحقیقة هو المنکشف لا الکاشف،فیدخل حینئذٍ فی السنّة ولا یکون دلیلاً مستقلاً فی مقابل الکتاب و السنّة.و قد تقدّم أنّه لم تثبت عندنا الإمامیة عصمة الاُمة عن الخطأ و إنّما أقصی ما یثبت عندنا من اتّفاق الاُمّة أنّه یکشف عن رأی من له العصمة،فالعصمة فی المنکشف و هو قول الإمام علیه السّلام،وتقدّم أیضاً أنّ الإجماع علی هذا المبنی یکون بمنزلة الخبر المتواتر الکاشف بنحو القطع عن قول المعصوم،فکما أنّ الخبر المتواتر لیس بنفسه دلیلاً علی الحکم الشرعی رأساً،بل هو دلیل علی الدلیل علی الحکم فکذلک الإجماع لیس بنفسه دلیلاً.

فقد ظهر لک ممّا ذکرناه إنّه لا یجب فی الإجماع اتّفاق الجمیع کما هو مصطلح أهل السنّة،بل یکفی اتّفاق کلّ من یستکشف من اتّفاقهم قول المعصوم کثروا أم قلّوا،إذا کان العلم باتّفاقهم یستلزم العلم بقول المعصوم،کما صرّح بذلک جماعة من علماء الإمامیة.

ومعلوم أنّه لا یلزم من کونه حجّة تسمیته إجماعاً فی الاصطلاح،بل یمکن أن یقال:انّهم قد تسامحوا فی إطلاق الإجماع علی اتّفاق الجماعة التی علم دخول الإمام علیه السّلام فیها،لوجود مناط الحجیة فیه،فظاهر إطلاقهم إرادة دخول قول الإمام علیه السّلام فی أقوال المجمعین،بحیث یکون دلالته علیه بالتضمّن،و أمّا اتّفاق من عدا الإمام علیه السّلام،بحیث یکشف عن صدور الحکم عن الإمام بقاعدة اللّطف أو التقریر أو الملازمة العادیة،فهذا لیس إجماعاً اصطلاحیاً إلاّ أن ینضمّ قول الإمام المکشوف عنه باتّفاق هؤلاء إلی أقوالهم،فیسمّی المجموع إجماعاً علی المسامحة.

إنّ الإجماع إنّما یکون حجّة إذا عُلم بسببه علی سبیل القطع قول المعصوم،فما لم

ص:200

یحصل العلم بقوله،و إن حصل الظنّ منه،فلا قیمة له عند أصحابنا،ولا دلیل علی حجّیة مثله،فعلی هذا،ما هی النکتة فی حجیة الإجماع؟فهذا ما ینبغی البحث عنه،و قد ذکروا لذلک طرقاً ونکاتاً متعدّدة:

1.طریقة الحسّ:وهی کما إذا سمع الحکم من الإمام علیه السّلام فی جملة جماعة لا یعرف أعیانهم،فیحصل له العلم بقول الإمام علیه السّلام،و هذه تسمّی الإجماع الدخولی،والطریقة التضمّنیة و هذه الطریقة إنّما تتصوّر إذا استقصی الشخص المحصّل للإجماع بنفسه،وتتبّع أقوال العلماء فعرف اتّفاقهم ووجد من بینها أقوالاً متمیزة معلومة لأشخاص مجهولین حتّی حصل له العلم بأنّ الإمام من جملة اولئک المتّفقین،أو یتواتر لدیهم النقل عن أهل بلد أو عصر،فعلم أنّ الإمام کان من جملتهم،ولمُ یعلم قوله بعینه من بینهم،فیکون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر.

المستفاد من کلماتهم اختصاص الإجماع الدخولی بدخول قوله علیه السّلام فی أقوال المجمعین سواء کان شخصه الأجلّ داخلاً فیهم أم لا.وعلی هذا،فیکون فعله وتقریره علیه السّلام خارجین عن الإجماع الدخولی،و إن کانا حجّتین أیضاً.و قد ذکروا أنّه لا یضرّ أنّه غیر الإمام،بخلاف مجهول النسب علی وجه یحتمل أنّه الإمام.

اورد علیه:إنّ هذا فی غایة القلّة،بل نعلم جزماً أنّه لم یتّفق لأحد من هؤلاء الحاکین للإجماع.وقیل أیضاً:إنّ هذه الطریقة لا تتحقّق غالباً إلاّ لمن کان موجوداً فی عصر الإمام أو فی الغیبة الصغری،و أمّا بالنسبة إلی العصور المتأخّرة فبعیدة التحقّق،لا سیما فی الصورة الاُولی،وهی السماع من نفس الإمام علیه السّلام.

2.طریقة التقریر:وهی أنّ یتحقّق الإجماع بمرأی ومسمع من المعصوم مع إمکان ردعهم ببیان الحقّ لهم ولو بإلقاء الخلاف بینهم،فإنّ اتّفاق الفقهاء علی حکم و الحال هذه یکشف عن إقرار المعصوم لهم فیما رأوه،وتقریرهم علی ما ذهبوا إلیه،فیکون ذلک دلیلاً علی أنّ ما اتّفقوا علیه هو حکم الله واقعاً.

ص:201

ومعلوم أنّ تقریر المعصوم کقوله وفعله حجّة،واذا کان تقریر المعصوم فی فعل الواحد حجّة،فکیف بالجمع الکثیر و الجمّ الغفیر ولا یمنع منه الغیبة مع العلم بالحال و التمکّن من الردّ؟فإنّه و إن غاب عنّا إلاّ أنّه بین اظهرنا نراه ویرانا،و إن کنّا لا نعرفه بعینه،فإنّه یعرفنا ویرعانا،ویکون متمکّناً من إنکار باطلهم علی عالمهم وجاهلهم،فحینئذٍ یکون عدم ردّه علیهم تقریراً لهم علیه.

و هذا الوجه لا یتوقّف علی قاعدة اللّطف،و إن توقّف علی العصمة،وذلک لأنّ إنکار المنکر و النهی عنه کتعلیم الواجب و الأمر به واجب علی کلّ أحد،فاذا اتّفق قول أو فعل ممّا یتعلّق بالدین،ولم یصدر إنکار له ممّن یمتنع إخلاله بما وجب علیه لعصمته،مع قطع النظر عن إمامته،کان ذلک تقریراً،و هذه الطریقة کما لا تتوقّف علی قاعدة اللّطف أیضاً لا تتوقّف علی ملاحظة منصب الإمامة ولوازمه،بل هی من جهة أنّه یجب الأمر بالمعروف وتعلیمه وإنکار المنکر وتبیینه و الردع عنه علی کلّ متمکّن من ذلک عالم بما هو الواقع.

قیل:هذه الطریقة لا تتمّ إلاّ مع إحراز جمیع شروط التقریر،ومع هذه الشروط لا شکّ فی استکشاف موافقة المعصوم،بل بیان الحکم من شخص واحد بمرأی ومسمع من المعصوم مع إمکان ردعه وسکوته عنه،فیکون سکوته تقریراً کاشفاً عن موافقته.ولکنّ المهمّ أن یثبت لنا أنّ الإجماع فی عصر الغیبة هل یتحقّق فیه إمکان الردع من الإمام ولو بإلقاء الخلاف؟

جوابه واضح،فإنّه إن کان المراد بإلقاء الخلاف وبیان الواقع من الإمام علیه السّلام مع إظهار أنّه الإمام بأن یعرّفهم بإمامته،فهو مقطوع العدم،و إن کان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء کونه إماماً،فلا فائدة فیه.

ص:202

الأسئلة

1.لماذا یکون الحجّة هو المنکشف لا الکاشف؟

2.لماذا لا یجب اتّفاق الجمیع فی الإجماع عند الإمامیة؟

3.لماذا تکون تسمیة الإجماع علی هذا المبنی مسامحة؟

4.لماذا لا قیمة للإجماع الذی لم یحصل العلم منه بقول الإمام؟

5.ما هی طریقة الحسّ؟وضّحها.

6.لماذا یکون فعل الإمام وتقریره خارجین من الإجماع الدخولی؟

7.اُذکر الإیراد الذی ذکرناه علیه.

8.ما هو المراد من طریقة التقریر؟بینها ووضّحها.

9.لماذا لا تتوقّف طریقة التقریر علی قاعدة اللّطف؟

10.لماذا لا یتحقّق إمکان الردع فی عصر الغیبة للإمام علیه السّلام؟

ص:203

ص:204

الدرس الثلاثون بعد المئة

الطریقة الثالثة:قاعدة اللّطف(الملازمة بالعقل العملی)

و قد تسمّی بالملازمة العقلیة بین الإجماع وقول المعصوم،أو قانون العقل العملی،و قد نسبت إلی بعض الأقدمین من علماء الإمامیة،ومنهم الشیخ الطوسی،وتبتنی علی أساس قاعدة اللّطف العقلیة،وهی قاعدة متفرّعة علی أصل العدل الإلهی فی علم الکلام،إذ یراد بها إدراک العقل لما یکون واجباً علی الله سبحانه وتعالی بحکم کونه عادلاً،وتسمیته باللّطف تأدّباً،و قد تمسّکوا بها فی علم الکلام لإثبات النبوّة العامّة،وحاول تطبیقها الفقهاء الأقدمون فی مسألة الإجماع لإثبات حجیته،بدعوی أنّ من اللّطف اللازم علیه سبحانه أن لا یسمح بضیاع المصالح الحقیقیة فی أحکام الشارع علی الناس نهائیاً،بل لا بدّ من انحفاظها ولو ضمن بعض الأقوال،فإذا أجمعت الطائفة علی قول ینکشف أنّه هو الحقّ،وإلاّ لزم خفاء الحقیقة کلّیاً،و هو خلف اللّطف.

وببیان آخر:إنّه یجب علی المولی سبحانه وتعالی اللّطف بعباده بإرشادهم إلی ما یقرّبهم إلیه تعالی من مناهج السعادة والاصلاح،وتحذیرهم عمّا یبعدهم عنه تعالی من مساقط الهلکة و الفساد،و هذا هو الوجه فی إرسال الرُّسل،وإنزال الکتب،ونصب

ص:205

الإمام علیه السّلام،و هذه القاعدة تقتضی-عند اتّفاق الاُمّة علی خلاف الواقع فی حکم من الأحکام-أن یلقی الإمام المنصوب من قبل الله تعالی الخلاف بینهم،فمن عدم الخلاف یستکشف موافقتهم لرأی الإمام علیه السّلام. (1)

یرد علیها:

أوّلا:عدم تمامیة القاعدة فی نفسها، (2)إذ لا یجب اللّطف علیه تعالی بحیث یکون ترکه قبیحاً یستحیل صدوره منه تعالی،بل کلّ ما یصدر منه تعالی مجرّد فضل ورحمة علی عباده. (3)

وثانیاً:إنّ قاعدة اللّطف لا تقتضی إلاّ تبلیغ الأحکام علی النحو المتعارف،و قد بلّغها وبینها الأئمّة علیهم السّلام للرواة المعاصرین لهم،فلو لم تصل إلی الطبقة اللاحقة لمانع من قبل المکلّفین أنفسهم،لیس علی الإمام إیصالها إلیهم بطریق غیر عادی،إذ قاعدة اللّطف لا تقتضی ذلک،وإلاّ کان قول فقیه واحد کاشفاً عن قول المعصوم إذا فرض انحصار العالم به فی زمان و هذا واضح الفساد. (4)

وثالثاً:إنّه إن کان المراد إلقاء الخلاف وبیان الواقع من الإمام علیه السّلام مع إظهار إنّه الإمام،بأن یعرّفهم بإمامته،فهو مقطوع العدم،و إن کان المراد هو إلقاء الخلاف مع

ص:206


1- (1) .مصباح الاُصول:138/2؛فوائد الاُصول:149/3؛اُصول الفقه:360/2؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:264265؛بحوث فی علم الاُصول:305306/4؛منتهی الدرایة:348/4؛کشف القناع:114؛فرائد الاُصول:192193/1؛قوانین الاُصول:350؛الفصول الغرویة:245؛مفاتیح الاُصول:496.
2- (2) .نعم،فی قبال هذه المقالة أکثر المحقّقین من المتکلّمین کالعلاّمة المحقق الطوسی فی تجرید الاعتقاد،والعلاّمة الحلی فی شرحه کشف المراد،والفاضل المقداد السیوری،وغیرهم،علی أنّ اللّطف واجب خلافاً للأشاعرة،والدلیل علی وجوبه:إنّه یحصل غرض المکلّف فیکون واجباً،وإلاّ لزم نقض الغرض.فراجع الکتب الکلامیة.
3- (3) .مصباح الاُصول:138/2؛أنوار الهدایة:257/1.
4- (4) .مصباح الاُصول:138/2؛فوائد الاُصول:150/3؛الاُصول العامّة:265؛بحوث فی علم الاُصول:307/4.

إخفاء کونه إماماً،فلا فائدة فیه إذ لا یترتّب الأثر المطلوب من اللّطف،و هو الإرشاد علی خلاف شخص مجهول کما هو ظاهر. (1)

ورابعاً:المصلحة التی تقتضی اختفاء الإمام نفسه،قد تکون متوفّرة فی اختفاء أحد الأحکام،فلا یلزم إظهاره علی کلّ حال.

وخامساً:قال آیة الله الشهید الصدر:اللّطف المذکور فی ابراز الحقیقة أمّا أن یدعی إنّه لطف لازم من قبله سبحانه بالنسبة إلی کلّ المسلمین أو إلی بعضهم،بأن یرشد خمسة من العلماء مثلاً إلی الحقیقة،ویکفی ذلک لإنجاز المهمّة العقلیة العملیة.أمّا الثانی فغریب فی نفسه کبرویاً،إذ میزان ترقّب اللّطف هو العبودیة و الحاجة إلی اللّطف،و هو فی الجمیع علی حدّ واحد،فکیف یختصّ ببعض ویکفی ذلک فی سدّ الحاجة عن غیرهم؟و أمّا الأوّل بأن یفترض أن طریق الحقیقة مفتوح للجمیع،بحیث کلّ عالم یمکنه أن یصل إلیها کما وصل إلیها البعض،غایة الأمر بحاجة إلی مزید جهد وبذل وسع أکثر من المقدار اللازم فی مقام الاکتفاء باجراء الاُصول و القواعد العامّة فی الاستنباط،فدعوی الجزم ببطلانه لیس مجازفة إذ فی کثیر من المواضع نقطع بأنّه مهما اجتهد وبذل الجهد أکثر فأکثر لا یتغیر الموقّف ولا یصل إلی ما یغیر مقتضی القاعدة أو الأصل. (2)

الطریقة الرابعة:الحدس(الملازمة بالعقل النظری)

اشارة

وهی أن یقطع بکون ما اتّفق علیه فقهاء الإمامیة وصل إلیهم من رئیسهم و إمامهم یداً بید،فإنّ اتّفاقهم مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعلم منه أنّ الاتّفاق کان مستنداً إلی رأی إمامهم لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتّباعاً للأهواء أو

ص:207


1- (1) .مصباح الاُصول:138139/2؛الاُصول العامّة:265.
2- (2) .بحوث فی علم الاُصول:306307/4.

استقلالاً بالفهم،کما یکون ذلک فی اتّفاق أتباع سائر ذوی الآراء و المذاهب،فإنّه لا نشک فیها أنّها مأخوذة من متبوعهم ورئیسهم الذی یرجعون إلیه.

وقیل:هذا المسلک لجماعة من محقّقی المتأخّرین. (1)

وقال فی الفصول الغرویة فی تفصیل الطریق الثالث:و هو الطریق المعزی إلی معظم المحقّقین أن یستکشف عن قول المعصوم باتّفاق علمائنا الأعلام الذین دینهم الانقطاع إلی الأئمّة فی الأحکام،وطریقتهم التحرّز عن القول بالرأی ومستحسنات الأوهام،فإنّ اتّفاقهم علی قول وتسالمهم علیه،مع ما یری من اختلاف أنظارهم وتباین أفکارهم،ممّا قد یؤدّی بمقتضی العقل و العادة عند أوّل الحدس الصائب و النظر الثاقب إلی العلم بأنّ ذلک قول أئمّتهم ومذهب رؤسائهم،وأنّهم إنّما أخذوه منه واستفادوه من لدنّهم أمّا بتنصیص أو بتقریر،و هذا إنّما یکشف أوّلاً عن قول المعصوم الذی إلیه مرجع فتاویهم وأقوالهم. (2)

إیقاظ

هذه الطریقة قد تسمّی بالإجماع الحدسی،و هو علی وجهین:

الأوّل:أن یحصل العلم برأیه علیه السّلام من اتّفاق جماعة علی نظر واحد مع الملازمة عادة بین اتّفاقهم وبین رأیه علیه السّلام؛وذلک لأنّ اتّفاق جمع علی مطلب مع اختلاف الأنظار والافکار یکشف عن کون ذلک المطلب الذی اتّفقوا علیه من رئیسهم،و هذا الکشف عادی،لا عقلی،إذ لا ملازمة عقلاً بینهما.

الثانی:أن یحصل العلم برأیه علیه السّلام من اتّفاق جماعة مع عدم الملازمة بین اتّفاقهم

ص:208


1- (1) .مفاتیح الاُصول:497؛کشف القناع:171؛اُصول الفقه:361/2؛قوانین الاُصول:354؛منتهی الدرایة:351/4.
2- (2) .الفصول الغرویة:247.

ورأیه علیه السّلام،فالکشف عن رأیه علیه السّلام یکون من باب الصدفة والاتّفاق،فاتفاق العلماء علی حکم کاشف فی نظر الناقل عن رأی الإمام من باب الاتّفاق بلا استلزام عقلی أو عادی له،ویکون هذا الکشف من جهة الحدس الذی هو عبارة عن العلم الناشئ عن غیر الحواس الخمس الظاهرة الشامل للاستلزام العقلی و العادی.

و قد عرفت أنّ إطلاق الحدس علی العلم غیر الحاصل من الإجماع الدخولی و التشرّفی و الملازمة العقلیة الثابتة بقاعدة اللّطف،والملازمة الشرعیة الناشئة من التقریر.وعلیه،فالحدس المصطلح علیه فی الإجماع المنقول هو العلم الحاصل عادة أو اتّفاقاً.

قیل:إنّ اتّفاق المرؤوسین علی أمر إن کان نشأ عن تواطئهم علی ذلک،کان لتوهّم الملازمة العادیة بین إجماع المرؤوسین ورضا الرئیس مجال،و أمّا إذا اتّفق الاتّفاق بلا تواطؤ منهم علی ذلک،فهو ممّا لا یلازم عادة رضا الرئیس،ولا یمکن دعوی الملازمة. (1)

قال سیدنا الاُستاذ فی ردّها:إنّ ذلک إنّما یتمّ فیما إذا کان المرؤوسون ملازمین لحضور رئیسهم،وأنّی ذلک فی زمان الغیبة؟نعم،الملازمة الاتّفاقیة بمعنی کون الاتّفاق کاشفاً عن قول المعصوم علیه السّلام احیاناً من باب الاتّفاق ممّا لا سبیل إلی إنکارها،إلاّ انّه لا یثبت بها حجیة الإجماع بنحو الإطلاق،فإنّ استکشاف قول الإمام علیه السّلام من الاتّفاق یختلف باختلاف الأشخاص و الأنظار. (2)

الطریقة الخامسة:مسلک تراکم الظنون

قال فی المفاتیح:ویدلّ علیه العقل و النقل،أمّا العقل:فلأنّ فتوی الواحد من علمائنا الثقات یفید الظنّ بوقوفه علی دلیل الحکم،فإذا وافقه فتوی مثله أو من هو

ص:209


1- (1) .فوائد الاُصول:150151/3.
2- (2) .مصباح الاُصول:140/2.

أعلم منه وأوثق،قَوِی الظنّ بذلک قطعاً،وکلّما انضمّ إلیه مثله فقوی وتضاعف حتّی یحصل الیقین باتّفاق الجمیع کالأخبار المتواترة،فإنّ أصلها الآحاد التی لا تفید علماً بالانفراد،و إن حصل لها ذلک بواسطة التعاضد والاجتماع.

ثمّ قوّی هذه الطریقة،حیث قال:و هو قوی متین ولیس التعویل فیه علی مجرّد اجتماع الآراء کما هو مذهب أهل السنّة،بل لکشف اتّفاق أهل الحقّ عن إصابة المدرک،والوقوف علی الحجّة الواصلة إلیهم من الحجج من لا یجوز علیهم الخطأ. (1)

ولکن أورد علیها المحقّق النائینی بأنّ هذه الطریقة ممّا لا یندرج تحت ضابط کلّی،إذ یختلف ذلک باختلاف مراتب الظنون و الموارد و الأشخاص،فقد یحصل من تراکم الظنون القطع لشخص و قد لا یحصل،فلا یصحّ أن یجعل ذلک مدرکاً لحجیة الإجماع. (2)

نعم،قد عدّ بعض الأعلام هذه الطریقة من الحدس أیضاً،مثلاً قال المحقّق التستری:فمرجع هذا الوجه إلی ما یحصل بالحدس الصائب و الذهن الثاقب من القطع ممّا ذکر بوجود الدلیل العلمی الحاسم للشبهة إجمالاً،و هو حجّة لتناول الأدلّة الموجبة للعمل بالعلم لهما معاً. (3)

ص:210


1- (1) .مفاتیح الاُصول:497.وراجع:قوانین الاُصول:355؛کشف القناع:170171.
2- (2) .فوائد الاُصول:151/3.
3- (3) .کشف القناع:171.

الخلاصة

3.طریقة قاعدة اللّطف:و قد تسمّی بالملازمة العقلیة بین الإجماع وقول المعصوم أو قانون العقل العملی،و قد نسبت إلی بعض الأقدمین من الإمامیة،وتبتنی علی أساس قاعدة اللّطف العقلیة،وهی متفرّعة علی أصل العدل اللهی فی علم الکلام،إذ یراد بها إدراک العقل لما یکون واجباً علی الله سبحانه بحکم کونه عادلاً،وتسمیته باللّطف تأدّباً،و قد تمسّکوا بها فی الکلام لإثبات النبوّة العامّة،وحاول تطبیقها الفقهاء الأقدمون فی مسألة الإجماع لإثبات حجیته،بدعوی أنّ من اللّطف الواجب علی المولی سبحانه بعباده،إرشادهم إلی ما یقرّبهم إلیه تعالی من مناهج السعادة و الصلاح،وتحذیرهم عمّا یبعدهم عنه تعالی من مساقط الهلکة و الفساد،و هذا هو الوجه فی إرسال الرُّسل وإنزال الکتب ونصب الإمام علیه السّلام،و هذه القاعدة تقتضی عند اتّفاق الاُمّة علی خلاف الواقع فی حکم من الأحکام أن یلقی الإمام المنصوب من قِبَل الله تعالی الخلاف بینهم،فمن عدم الخلاف یستکشف موافقتهم لرأی الإمام علیه السّلام.

وفیها أوّلاً:عدم تمامیة القاعدة فی نفسها،إذ لا یجب اللّطف علیه تعالی بحیث یکون ترکه قبیحاً یستحیل صدوره منه تعالی،بل کلّ ما یصدر منه مجرّد فضل ورحمة علی عباده.

وثانیاً:إنّ قاعدة اللّطف لا تقتضی إلاّ تبلیغ الأحکام علی النحو المتعارف،و قد بلّغها وبینها الأئمّة علیهم السّلام للرواة المعاصرین لهم.

وثالثاً:إنّه إن کان المراد إلقاء الخلاف وبیان الواقع من الإمام علیه السّلام مع إظهار إنّه الإمام،بأن یعرّفهم بإمامته،فهو مقطوع العدم،و إن کان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء کونه إماماً،فلا فائدة فیه.

ورابعاً:المصلحة التی تقتضی اختفاء الإمام نفسه،قد تکون متوفّرة فی اختفاء أحد

ص:211

الأحکام،فلا یلزم إظهاره علی کلّ حال.

وخامساً:اللّطف المذکور فی ابراز الحقیقة أمّا أن یدعی إنّه لطف لازم من قبله سبحانه بالنسبة إلی کلّ المسلمین أو إلی بعضهم،بأن یرشد خمسة من العلماء مثلاً إلی الحقیقة ویکفی ذلک لإنجاز المهمّة العقلیة العملیة.أمّا الثانی فغریب فی نفسه کبرویاً،إذ میزان ترقّب اللّطف هو العبودیة و الحاجة إلی اللّطف،و هو فی الجمیع علی حدّ واحد،فکیف یختصّ ببعض؟و أمّا الأوّل بأن یفترض أنّ طریق الحقیقة مفتوح للجمیع،بحیث کلّ عالم یمکنه أن یصل إلیها کما وصل إلیها البعض،فدعوی الجزم ببطلانه لیس مجازفة.

4.طریقة الحدس:وهی أن یقطع بکون ما اتّفق علیه فقهاء الإمامیة وصل إلیهم من رئیسهم و إمامهم یداً بید،فإنّ إتفاقهم مع کثرة اختلافهم فی أکثر المسائل یعلم منه أنّ الاتّفاق کان مستنداً إلی رأی إمامهم لا عن اختراع للرأی من تلقاء أنفسهم اتّباعاً للأهواء أو استقلالاً بالفهم.

هذه الطریقة قد تسمّی بالإجماع الحدسی،و هو علی وجهین:

الأوّل:أن یحصل العلم برأیه علیه السّلام من اتّفاق جماعة علی نظر واحد مع الملازمة عادةً بین اتّفاقهم وبین رأیه علیه السّلام؛وذلک لأنّ الکشف عادی،لا عقلی،إذ لا ملازمة عقلاً بینهما.

الثانی:أن یحصل العلم برأیه علیه السّلام من اتّفاق جماعة مع عدم الملازمة العادیة بین اتّفاقهم ورأیه علیه السّلام،فالکشف عن رأیه علیه السّلام یکون من باب الصدفة والاتّفاق،ویکون هذا الکشف من جهة الحدس الذی هو عبارة عن العلم الناشئ عن غیر الحواسّ الخمس الظاهرة الشامل للاستلزام العقلی و العادی.

و قد عرفت أنّ إطلاق الحدس علی العلم غیر الحاصل من الإجماع الدخولی و الملازمة العقلیة الثابتة بقاعدة اللّطف،والملازمة الشرعیة الناشئة من التقریر.وعلیه،فالحدس المصطلح علیه فی الإجماع المنقول هو العلم الحاصل عادة أو اتّفاقاً.

ص:212

قیل:إنّ اتّفاق المرؤوسین علی أمر إن کان نشأ عن تواطئهم علی ذلک،کان لتوهّم الملازمة العادیة بین إجماع المرؤوسین ورضا الرئیس مجال،و أمّا إذا اتّفق الاتّفاق بلا تواطؤ منهم علی ذلک،فهو ممّا لا یلازم عادة رضا الرئیس،ولا یمکن دعوی الملازمة.

و قد اورد علی هذه الطریقة،بأنّ ذلک إنّما یتمّ فیما إذا کان المرؤوسون ملازمین لحضور رئیسهم،وأنّی ذلک فی زمان الغیبة؟نعم،الملازمة الاتّفاقیة ممّا لا سبیل إلی إنکارها،إلاّ انّه لا یثبت بها حجیة الإجماع بنحو الإطلاق.

5.طریقة مسلک تراکم الظنون:قال فی المفاتیح:ویدلّ علیه العقل و النقل،أمّا العقل:فلأنّ فتوی الواحد من علمائنا الثقات یفید الظنّ بوقوفه علی دلیل الحکم،فإذا وافقه فتوی مثله أو من هو أعلم منه وأوثق،قوی الظنّ بذلک قطعاً،وکلّما انضمّ إلیه مثله فقوی وتضاعف حتّی یحصل الیقین باتّفاق الجمیع کالأخبار المتواترة.

ولکن أورد علیها المحقّق النائینی بأنّ هذه الطریقة ممّا لا یندرج تحت ضابط کلّی،إذ یختلف ذلک باختلاف مراتب الظنون و الموارد و الأشخاص.

ص:213

الأسئلة

1.ما هی قاعدة اللّطف؟عرّفها ووضّحها.

2.ما هو الوجه فی إرسال الرسل وإنزال الکتب ونصب الإمام؟

3.اُذکر ثلاثة من الإیرادات المذکورة علی قاعدة اللّطف.

4.وضّح الإیراد الخامس علی تلک القاعدة.

5.ما هی طریقة الحدس؟وضّحها.

6.اُذکر الوجهین اللذین یحصل العلم برأی الإمام منهما.

7.ما هو المراد من الحدس المصطلح علیه فی الإجماع المنقول؟

8.اُذکر الإیراد المذکور علی طریقة الحدس.

9.بین ووضح طریقة مسلک تراکم الظنون.

10.اُذکر إیراد المحقّق النائینی علی هذه الطریقة.

ص:214

الدرس الحادی و الثلاثون بعد المئة

الطریقة السادسة:حساب الاحتمالات

اعلم أنّ الاُصولیین ومنهم الآخوند الخراسانی (1)قسّموا الملازمة إلی ثلاثة أقسام:

1.الملازمة العقلیة:کالملازمة بین ثبوت التواتر وحصول العلم بصدق مضمون الخبر.

2.الملازمة العادیة:کالملازمة بین آراء أتباع الرئیس ورأی نفس الرئیس.

3.الملازمة الاتّفاقیة:کالملازمة بین الخبر المستفیض وحصول العلم بصدقه.

قد عرفت أنّ حجیة الإجماع بلحاظ مدرکات العقل النظری تارةً تکون بالملازمة العقلیة واُخری بالملازمة العادیة وثالثة بالملازمة الاتّفاقیة،و قد عرفت مواردها.ولکنّ الشهید آیة الله الصدر یری أنّ الملازمة تکون علی نحو واحد دائماً،نذکر رأیه الشریف،حیث یقول:

والصحیح أنّ الملازمة علی نحو واحد دائماً،وهی بملاک استحالة الانفکاک عقلاً،فإنّ الاستحالة و الإمکان لا یدرک إلاّ بالعقل دائماً،ولکنّه تارةً یحکم العقل بذلک مطلقاً،واُخری یحکم به ضمن ظروف موجودة عادة وغالباً،وثالثة ضمن ظروف

ص:215


1- (1) .کفایة الاُصول:70/2.

اتّفاقیة،کما أنّ الصحیح إنّه لا ملازمة عقلیة،حتّی فی التواتر،بین التواتر و الصدق فضلاً عن الإجماع؛لأنّ کلّ خبر یحتمل نشأته من مناشئ محفوظة حتّی مع کذب القضیة،فلا ملازمة کذلک،و إنّما الاستکشاف مبنی علی أساس الدلیل الاستقرائی المبتنی علی أساس حساب الاحتمالات،وحینئذٍ ما یقال فی کاشفیة التواتر یمکن أن یقال فی الإجماع مع فوارق،فإنّ احتمال الخطأ فی فتوی کلّ فقیه و إن کان وارداً إلاّ أنّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعین،وإجراء حسابات الاحتمال فیها عن طریق احتمالات الخطأ بعضها بالبعض نصل إلی مرتبة القطع أو الاطمئنان علی أقلّ تقدیر بعدم خطئها جمیعاً،و هو حجّة علی کلّ حال.

و قد ذهب الشهید السید الصدر إلی التمسّک بحساب الاحتمالات،حیث قال:إنّ حساب الاحتمال یفضی بوجود دلیل شرعی معتبر علی الحکم بتقریب:إنّ فتوی کل فقیه و إن کان من المحتمل خطؤها،إلاّ أنّ من المحتمل فی نفس الوقت استنادها إلی دلیل شرعی معتبر،و هذا الاحتمال و إن لم یکن قویاً،إلاّ أنّه بعد انضمام فتوی کلّ فقیه إلی اختها یقوی ویصل إلی درجة الاطمئنان أو الیقین.

وقال فی البحوث:والصحیح أنّ روح الکاشفیة وملاکها فی کلّ من المتواتر و الإجماع و إن کان واحداً،إلاّ أنّ هناک نقاط ضعف عدیدة فی الإجماع توجب بط ء حصول الیقین منه بل وعدم حصوله فی کثیر من الأحیان غیر موجودة فی التواتر،و أمّا أهم تلک الفوارق مایلی:

1.إنّ مفردات التواتر تکون بشهادات حسّیة،و أمّا الإجماع فمفرداته شهادات حدسیة لأنّها عبارة عن فتاوی،وهی مبنیة عادةً علی النظر والاجتهاد،ومن الواضح أنّ احتمال الخطأ فی الحدس اکبر منه فی الحسّ.

2.إنّ الخطأ المحتمل فی الإخبار عن الحسّ له مصبّ واحد عادة،بینما فی باب الإجماع قد لا یکون له مصبّ واحد،ومن الواضح أنّ احتمال خطأ جمیع العشرة

ص:216

مثلاً فی إخبارهم عن مصبّ واحد أبعد من احتمال خطأ عشرة فی إخباراتهم غیر المنصبّة علی مصبّ واحد،فمثلاً احتمال خطأ العشرة المخبرین بموت زید بالخصوص أبعد من احتمال خطأهم فی إخبار کلّ منهم عن موت جاره الذی هو غیر جار الآخر.

3.فی التواتر لا یحتمل عادة أن یکون بعض المخبرین قد وقع تحت تأثیر وهم المخبر الآخر؛لأنّ ذلک خلف المفروض فی التواتر،و هذا بخلاف باب الإجماع فإنّ تأثّر اللاّحق بالسابق فی الفتوی أمر واقع کثیراً،و قد یکون التأثّر إجمالیاً ارتکازیاً،و هذا ینقص کثیراً من قیمة احتمال مطابقة الفتوی اللاّحقة للواقع مستقلاً عن الفتوی السابقة،وبالتالی تتغیر نتائج حساب الاحتمالات.ومن هنا کلّما کانت الفتاوی أکثر عرضیة کانت أقوی فی الکاشفیة عمّا إذا کانت مترتّبة زماناً أو مدرسیاً.

4.عدم وجود نکتة مشترکة للخطأ فی التواتر و الإخبارات الحسیة عادة،بخلاف ذلک فی الإجماع و الفتاوی الحدسیة،ووجود نکتة مشترکة للخطأ له أثر کبیر فی ابطال حسابات الاحتمال،فمثلاً إذا أخبر عشرة عن وجود الهلال وکانوا فی نقطة فیها نصب یشبه الهلال،فلا یحصل العلم من إخباراتهم،و هذا بخلاف ما إذا لم یکن ذلک النصب موجوداً،وفی باب الإجماعات وجود نکتة مشترکة للخطأ أمر محتمل فی أغلب الأحیان کما إذا فرض مثلاً إجماعهم علی بطلان الصلاة المزاحمة مع الازالة لعدم توصّلهم إلی فکرة الترتّب،فاذا احتمل ذلک کان مؤثّراً فی حساب الاحتمالات بحسب النتیجة.

ومع التوجّة إلی روح کاشفیة الإجماع هذا،یتبین ما معنی ما استقرّ علیه رأی المتأخّرین من الاُصولیین بحسب ارتکازهم من أنّ الإجماع بالملازمة الاتّفاقیة یکشف عن قول المعصوم،فإنّ هذا مدرکه الفنّی ما ذکرناه من أنّ کاشفیة الإجماع إنّما هی بنکتة حساب الاحتمالات،و هو یتأثر بعوامل وضوابط عامّة وخاصّة متعدّدة،ولهذا تختلف الإجماعات من حیث الکشف المذکور حسب اختلاف مواردها وخصائصها،

ص:217

مثلاً إذا کانت کاشفیة الإجماع تتأثّر بدرجة اقتراب فتاوی المجمعین إلی الحسّ،فکلّما کان حجم النظر والاجتهاد فیها أقلّ کانت کاشفیتها عن الواقع أقوی وآکد،وکذلک یختلف الإجماع من عصر إلی عصر؛لأنّه کلّما اقتربنا إلی عصر الأئمّة کان حجم الجانب الحسّی أکبر،وحجم تأثّر المسألة بالجانب النظری أقلّ،ومن هنا کانت قیمة فتاوی القدماء أکبر من قیمة فتاوی المتأخّرین.

ثمّ إنّ هذه الکاشفیة بالنحو المتقدّم لها أحد طرزین من التطبیق:أحدهما ضعیف،والآخر قوی صحیح،وضعف الأوّل وقوّة الثانی کلاهما مرتبطان بمؤثّرات حساب الاحتمال.

أقول:قبل بیان الطرزین من التطبیق لا بدّ من بیان نکتة وهی أنّ المحقّق الشهید الصدر فی الحلقة الثالثة ادخل الإجماع تحت عنوان وسائل الإثبات الوجدانی للدلیل الشرعی،یعنی:هو وسیلة من وسائل إثبات الدلیل الشرعی،بمعنی أنّ الإجماع یکون کاشفاً عن الدلیل الشرعی،والدلیل الشرعی هو الکتاب و السنّة،و أمّا الإجماع علی قاعدة اللّطف وإثبات حجّیته بنفس أدلّة حجیة الخبر،وما ذهب إلیه أهل السنة لیس کاشفاً عن الدلیل الشرعی،بل هو دلیل غیر شرعی کالعقل،ویراد بهما إثبات نفس الحکم الشرعی،لا إثبات الدلیل الشرعی.

طرز التطبیق الضعیف

أمّا طرز التطبیق الضعیف،فهو أن یراد بالإجماع کشف صلاحیة المدرک لدی المجمعین بعد الفراغ عن أصل وجوده،فیقال مثلا:إنّ مدارک المجمعین إذا کانت الروایة المعینة مثلاً فنطبق حساب الاحتمالات علی استناد المجمعین إلیها،ونقول:إنّ احتمال خطأ واحد فی فهم الحکم من هذا المدرک و إن کان وارداً بأن لا تکون الروایة تامّة الدلالة علی الحکم،إلاّ أنّ افتراض خطأ المجموع بحساب الاحتمالات منفی،فیتحصّل الیقین أو الاطمئنان بصلاحیة ذلک المدرک وتمامیته،إذ لا یمکن

ص:218

افتراض أنّ کل اولئک قد أخطؤوا،و هذا الاطمئنان حجّة لصاحبه علی الأقلّ و إن لم یکن حجّة لغیره فیما إذا فرض حصوله من مجرّد جمع آراء الآخرین وملاحظة إجماعهم دون الرجوع إلی مدارک المسألة.

ووجه الضعف فی هذا النحو من التطبیق ابتلاؤه بنقاط الضعف الأربع المتقدّمة،خصوصاً مع الالتفات إلی أنّ الإنسان یعلم تفصیلاً أو إجمالاً أنّ کثیراً من القضایا النظریة الحدسیة کانت قد اتّفقت علیها کلمة جمهور العلماء فی کلّ فنّ،ثمّ انکشف بعد ذلک بطلان تلک القضیة وخطؤهم جمیعاً.

طرز التطبیق الصحیح

و أمّا التطبیق الصحیح،فیتمثّل فی إجماع الفقهاء المعاصرین لعصر الغیبة الصغری أو بُعیدها إلی فترة،کالمفید و المرتضی و الطوسی و الصدوق،فإنّهم إذا استقرّ فتواهم جمیعاً علی حکم ولم یکن یوجد بأیدینا ما یقتضی تلک الفتوی بحسب الصناعة؛لکونها علی خلاف القواعد العامّة المنقولة من قبل نفس هؤلاء فی کتب الحدیث مثلا،استکشفنا وجود مأخذ علی الحکم المذکور بیدهم،وذلک:إنّ إفتاء اولئک الأجلاّء من دون دلیل ومآخذ غیر محتمل فی حقّهم مع جلالة قدرهم وشدّة تورّعهم عن ذلک،کما أنّه لا یحتمل فی حقّهم أن یکونوا قد غفلوا عن مقتضی القاعدة الأوّلیة المخالفة لتلک الفتوی؛لأنّهم هم نَقَلَتهُ إلینا بحسب الفرض خصوصاً إذا کانت تلک القاعدة واضحة مشهورة مطبّقة من قبلهم فی نظائر ذلک،فلا بدّ من وجود مأخذ علی أساسه خرجوا عن مقتضی تلک القاعدة،وذلک المأخذ المخصّص لحکم القاعدة یتردّد فی بادئ الأمر بین احتمالین:أن یکون هناک روایة عندهم قد استندوا إلیها ولم تصل إلینا،أو أمر آخر،إلاّ أنّ الاحتمال الأوّل ساقط عادة؛لإنّه لو کانت توجد عندهم روایة،فکیف لم یذکروها فی کتبهم الفقهیة الاستدلالیة أو الروائیة؟إذ من غیر

ص:219

المعقول أنّهم جمیعاً قد استندوا إلی روایة واضحة الدلالة علی ذلک،ثم أجمعوا علی مضمونها،ومع ذلک لم یتعرّض لذکرها أحد منهم،فی حین أنّهم تعرّضوا الروایات ضعاف لا یستندون إلیها سنداً أو دلالة فی مجامیعهم الحدیثیة أو کتبهم الاستدلالیة،بل کیف یحتمل ذلک مع ملاحظة أنّ فتاواهم ومتونهم الفقهیة کانت علی حسب الروایات الواردة غالباً لا أنّها تفریعات وتشقیقات مستقلة کما فی المتون الفقهیة المتأخّرة؟فکیف یفترض وجود روایة لم یجعلوا لها متناً فی کتبهم،وغفلوا عنها نهائیاً؟کلّ ذلک یوجب العلم عادة بسقوط هذا الاحتمال وبالتالی تعیین الاحتمال الآخر،و هو أنّهم قد تلقّوا الحکم المذکور بنحو الارتکاز العام الذی لمسوه عند الجیل الأسبق منهم،وهم جیل أصحاب الأئمّة الذین هم حَلَقة الوصل بینهم وبین الأئمّة،ومنهم انتقل کل هذا العلم و الفقه إلیهم. (1)

خلاصة الکلام:إنّ الحاصل من مجموع ما ذکر هو أنّه لا بدّ من توفّر أربع خصوصیات فی کاشفیة الإجماع عن الدلیل الشرعی:

1.أن یکون مشتملاً علی فتاوی الأقدمین من علمائنا ولا أثر لفتاوی المتأخّرین عنهم.

2.أن یکون قد استندوا فی کلماتهم إلی مدرک شرعی موجود،بل أن لا یحتمل ذلک احتمالاً معتدّاً به،وإلاّ لزم تمحیص تلک الفتاوی بتمحیص ذلک المدرک.

3.أن یکون هناک قرائن علی عدم وجود ارتکاز فی طبقة أصحاب الأئمّة،وإلاّ کانت معارضةً مع کاشفیة الإجماع،ومانعةً عن إنتاج قوانین حساب الاحتمال.

4.أن تکون المسألة ممّا لا یترقّب حلها إلاّ ببیان من الشارع مباشرة،لا أن تکون المسألة عقلیة أو عقلائیة أو تطبیقیة لقاعدة أوّلیة واضحة مسلّمة،فإنّه فی مثله لا یکون الإجماع کاشفاً عن ارتکاز کذلک.

ص:220


1- (1) .بحوث فی علم الاُصول:309/4-316؛الحلقة الثانیة:210/1؛شرح الحلقة الثالثة فی اسلوبها الثانی:46/2-56،محاضرات فی اصول الفقه(شرح الحلقة الثانیة):326/1-337.

و قد ظهر ممّا ذکرناه إلی هنا جواب الإیراد الذی أورده المحقّق الإصفهانی من أنّ الإجماع لا یکشف عن وجود دلیل معتبر،إذ لا نقصد من الدلیل الشرعی الذی یکشف عنه الإجماع روایة مکتوبة.

وأیضاً قد اتّضح بناءً علی هذه الطریقة فی حجیة الإجماع أنّ الروایة مکتوبة.

وأیضاً قد اتّضح بناءً علی هذه الطریقة فی حجیة الإجماع أنّ الإجماع یکون دائماً دلیلاً طولیاً علی الحکم الشرعی؛لأنّه یکشف عن الارتکاز المتشرعی الذی هو عبارة اخری عن السیرة المتشرعیة،فافهم فإنّه دقیق وبالتحقیق حقیق.

ص:221

الخلاصة

6.حساب الاحتمالات:قسّموا الملازمة إلی ثلاثة أقسام:الملازمة العقلیة،والملازمة العادیة،والملازمة الاتّفاقیة،و قد عرفت أنّ حجیة الإجماع بلحاظ مدرکات العقل النظری تارةً تکون بالملازمة العقلیة واُخری بالملازمة العادیة وثالثة بالملازمة الاتّفاقیة،و قد عرفت مواردها.لکنّ الشهید الصدر یری أنّ الملازمة تکون علی نحو واحد دائماً حیث قال:

والصحیح أنّ الملازمة علی نحو واحد دائماً،وهی بملاک استحالة الانفکاک عقلاً،فإنّ الاستحالة و الإمکان لا یدرک إلاّ بالعقل دائماً،ولکنّه تارةً یحکم العقل بذلک مطلقاً،واُخری یحکم به ضمن ظروف موجودة عادةً وغالباً،وثالثة ضمن ظروف اتّفاقیة،کما أنّ الصحیح إنّه لا ملازمة عقلیة،حتّی فی التواتر،بین التواتر و الصدق فضلاً عن الإجماع،و إنّما الاستکشاف مبنی علی أساس الدلیل الاستقرائی المبتنی علی أساس حساب الاحتمالات،ویمکن أن یقال فی الإجماع کذلک مع فوارق.

وحساب الاحتمال فی الإجماع یفضی بوجود دلیل شرعی معتبر علی الحکم بتقریب أنّ فتوی کلّ فقیه و إن کان من المحتمل خطؤها،إلاّ أنّ من المحتمل فی نفس الوقت استنادها إلی دلیل شرعی معتبر،و هذا الاحتمال و إن لم یکن قویاً،إلاّ أنّه بعد انضمام فتوی کلّ فقیه إلی اختها یقوی ویصل إلی درجة الاطمئنان أو الیقین.والصحیح أنّ روح الکاشفیة وملاکها فی کلّ من المتواتر و الإجماع و إن کان واحداً،إلاّ أنّ هناک نقاط ضعف عدیدة فی الإجماع توجب بط ء حصول الیقین منه،بل وعدم حصوله فی کثیر من الأحیان.

وأهمّ الفوارق ما یلی:

1.إنّ مفردات التواتر تکون بشهادات حسّیة،و أمّا الإجماع فمفرداته شهادات حدسیة.

2.إنّ الخطأ المحتمل فی الإخبار عن الحسّ له مصبّ واحد عادة،بینما فی باب

ص:222

الإجماع قد لا یکون له مصبّ واحد.

3.فی التواتر لا یحتمل عادة أن یکون بعض المخبرین قد وقع تحت تأثیر وهم المخبر الآخر؛لأنّ ذلک خلف المفروض فی التواتر،و هذا بخلاف باب الإجماع فإنّ تأثّر اللاّحق بالسابق فی الفتوی أمر واقع کثیراً،و قد یکون التأثّر إجمالیاً ارتکازیاً.

4.عدم وجود نکتة مشترکة للخطأ فی التواتر و الإخبارات الحسیة عادة،بخلاف ذلک فی الإجماع و الفتاوی الحدسیة،ووجود نکتة مشترکة للخطأ له أثر کبیر فی ابطال حسابات الاحتمال.

ومع التوجّة إلی روح کاشفیة الإجماع هذا،یتبین ما معنی ما استقرّ علیه رأی المتأخّرین من الاُصولیین بحسب ارتکازهم من أنّ الإجماع بالملازمة الاتّفاقیة یکشف عن قول المعصوم،فإنّ هذا مدرکه الفنّی ما ذکرناه من أنّ کاشفیة الإجماع إنّما هی بنکتة حساب الاحتمالات.

ثمّ إنّ هذه الکاشفیة بالنحو المتقدّم لها أحد طرزین من التطبیق:أحدهما ضعیف،والآخر قوی صحیح.أمّا طرز التطبیق الضعیف:فهو أن یراد بالإجماع کشف صلاحیة المدرک لدی المجمعین بعد الفراغ عن أصل وجوده،فیقال مثلاً:إنّ مدارک المجمعین إذا کانت الروایة المعینة مثلاً،فنطبق حساب الاحتمالات علی استناد المجمعین إلیها،ونقول:إنّ احتمال خطأ واحد فی فهم الحکم من هذا المدرک و إن کان وارداً بأن لا تکون الروایة تامّة الدلالة علی الحکم،إلاّ أنّ افتراض خطأ المجموع بحساب الاحتمالات منفی،فیتحصّل الیقین أو الاطمئنان بصلاحیة ذلک المدرک وتمامیته.

ووجه الضعف فی هذا النحو من التطبیق ابتلاؤه بنقاط الضعف الأربع المتقدّمة،خصوصاً مع الالتفات إلی أنّ الإنسان یعلم تفصیلاً أو إجمالاً أنّ کثیراً من القضایا النظریة الحدسیة قد ینکشف بعد ذلک بطلانها.

و أمّا التطبیق الصحیح،فیتمثّل فی إجماع الفقهاء المعاصرین لعصر الغیبة الصغری

ص:223

أو بُعیدها إلی فترة،إذا استقرّ فتواهم جمیعاً علی حکم ولم یکن یوجد بأیدینا ما یقتضی تلک الفتوی بحسب الصناعة؛لکونها علی خلاف القواعد العامّة المنقولة من قبل نفس هؤلاء فی کتب الحدیث مثلاً،استکشفنا وجود مأخذ علی الحکم المذکور بیدهم،وذلک:إنّ إفتاء اولئک الأجلاء من دون دلیل،مع شدّة تورّعهم وجلالة قدرهم،غیر محتمل فی حقّهم کما أنّه لا یحتمل غفلتهم عن مقتضی القاعدة الأولیة المخالفة لتلک الفتوی،فلا بدّ من وجود مأخذ علی أساسه خرجوا عن مقتضی تلک القاعده،وذلک المأخذ المخصّص لحکم القاعدة یتردّد فی بادئ الأمر بین احتمالین:أن یکون عندهم روایة واضحة الدلالة استندوا إلیها لم یذکروها فی کتبهم الفقهیة الاستدلالیة أو الروائیة،وذلک غیر معقول؛لأنّهم قد تعرّضوا لروایات ضعاف فی مجامیعهم الحدیثیة لا یستندون إلیها سنداً أو دلالة،فکیف یفترض وجود روایة لم یجعلوا لها متناً فی کتبهم،وغفلوا عنها فی النهایة؟کل ذلک یوجب العلم عادة بسقوط هذا الاحتمال وبالتالی تعیین الاحتمال الآخر،و هو أنّهم قد تلقّوا الحکم المذکور بنحو الارتکاز العام عن الجیل الأسبق منهم،وهم جیل أصحاب الأئمّة الذین انتقل کلّ هذا العلم و الفقه عن طریقهم.

فذلکة الکلام:إنّه لا بدّ من توفّر أربع خصوصیات فی کاشفیة الإجماع عن الدلیل الشرعی:

1.أن یکون مشتملاً علی فتاوی الأقدمین من علمائنا ولا أثر لفتاوی المتأخّرین عنهم.

2.أن یکون قد استندوا فی کلماتهم إلی مدرک شرعی موجود.

3.أن یکون هناک قرائن علی عدم وجود ارتکاز فی طبقة أصحاب الأئمّة،وإلاّ کانت معارضةً مع کاشفیة الإجماع ومانعةً عن إنتاج قوانین حساب الاحتمال.

4.أن تکون المسألة ممّا لا یترقّب حلّها إلاّ ببیان من الشارع مباشرة،لا أن تکون المسألة عقلیة أو عقلائیة أو تطبیقیة لقاعدة أوّلیة واضحة مسلّمة،فإنّه فی مثله لا یکون الإجماع کاشفاً عن ارتکاز کذلک.

ص:224

و قد ظهر ممّا ذکرناه إلی هنا جواب الإیراد الذی أورده المحقّق الإصفهانی من أنّ الإجماع لا یکشف عن وجود دلیل معتبر،إذ لا نقصد من الدلیل الشرعی الذی یکشف عنه الإجماع روایة مکتوبة.

وأیضاً قد اتّضح أنّ الإجماع یکون دائماً دلیلاً طولیاً علی الحکم الشرعی؛لأنّه یکشف عن الارتکاز المتشرعی الذی هو عبارة اخری عن السیرة المتشرعیة،فافهم فإنّه دقیق وبالتحقیق حقیق.

ص:225

الأسئلة

1.اُذکر أقسام الملازمة.

2.اُذکر رأی الشهید الصدر فی مسألة أقسام الملازمة.

3.لماذا لا تکون ملازمة عقلیة بین التواتر و العلم الحاصل منه؟

4.ما هو المراد بحساب الاحتمالات فی الإجماع الذی یفضی بوجود دلیل شرعی معتبر علی الحکم؟

5.اُذکر الفوارق التی تکون بین التواتر و الإجماع.

6.بین ووضّح الطرز الضعیف لکاشفیة الإجماع عن الدلیل الشرعی؟

7.اُذکر ما هو وجه الضعف فی هذا النحو من التطبیق.

8.اُذکر التطبیق الصحیح مع توضیح کامل له.

9.لماذا یکون الاحتمال الأوّل بوجود روایة استُند إلیها لم تُذکر فی المجامیع الحدیثیة ساقطاً؟

10.اُذکر الخصوصیات الاربع فی کاشفیة الإجماع عن الدلیل الشرعی.

11.لماذا یکون الإجماع دائماً دلیلاً طولیاً علی الحکم الشرعی؟

ص:226

الدرس الثانی و الثلاثون بعد المئة

الإجماع المرکّب

*ثمّ بعد ذلک،الإجماع علی نوعین:مرکّب وغیر مرکّب،فالمرکّب ما اجتمع علیه الآراء علی حکم الحادثة مع وجود الاختلاف فی العلّة،ومثاله:الإجماع علی وجود الانتقاض عند القیء ومسّ المرأة.أمّا عندنا،فبناءً علی القیء،و أمّا عنده(أی الشافعی)،فبناءً علی المسّ.

ثمّ هذا النوع من الإجماع لا یبقی حجّة بعد ظهور الفساد فی أحد المأخذین (1)حتّی لو ثبت أنّ القیء غیر ناقض،فأبو حنیفة لا یقول بالانتقاض فیه،ولو ثبت أنّ المسّ غیر ناقض،فالشافعی لا یقول بالانتقاض فیه؛لفساد العلّة التی بنی علیها الحکم.والفساد متوهّم فی الطرفین لجواز أن یکون أبو حنیفة مصیباً فی مسألة المسّ مخطئاً فی مسألة القیء،والشافعی مصیباً فی مسألة القیء مخطئاً فی مسألة المسّ،فلا یؤدّی هذا إلی بناء وجود الإجماع علی الباطل.

بخلاف ما تقدّم من الإجماع، (2)فالحاصل أنّه جاز ارتفاع هذا الإجماع لظهور الفساد فیما بنی هو علیه،ولهذا إذا قضی القاضی فی حادثة ثمّ ظهر رقّ الشهود أو کذبهم بالرجوع،بطل قضاؤه و إن لم یظهر

ص:227


1- (1) .یعنی:إنّ الإجماع،و هو الإجماع علی الانتقاض،لا یبقی حجة؛لأنّ بظهور الفساد فی أحد المأخذین تبدّل رأی المجتهد،وتبدّل الرأی بمنزلة انتساخ النصّ،فیکون هذا انتهاء الحکم فی نظر المجتهد.
2- (2) .هذا جواب منه علی دفع دخل مقدّر،و هو:إنّه إذا کان الفساد متوهّماً من الطرفین،فالإجماع یکون منعقداً علی الباطل،إذ الإجماع منعقد علی الأمر الحقیقی و هو اتّفاق الفریقین علی حکم شرعی،و هو وجوب التطهیر،والفساد احتمال ووهم،فلا واقعیة له.

ذلک فی حقّ المدّعی. (1)

وباعتبار هذا المعنی سقطت المؤلّفة قلوبهم عن الأصناف الثمانیة لانقطاع العلّة، (2)وسقط سهم ذوی

ص:228


1- (1) .یعنی:بطلان الحکم و القضاء بسبب بطلان العلّة،أی:بطلان البینة بسبب ظهور رقّ الشهود أو کذبهم بالرجوع عن شهادتهم،فیبطل قضاء الحاکم؛لأنّ علّة القضاء وهی الشهادة لمّا بطلت بطل الحکم و القضاء.لکن یبطل هذا القضاء فی حقّ المدّعی علیه بحیث لا یجب علیه أداء المال إلی المدّعی،ویبطل فی حقّ الشهود حیث یضمنون المال لو کان المدّعی علیه ادّعی المال إلی المدّعی،ولا یظهر ذلک البطلان فی حقّ المدّعی،وإلاّ یلزم بطلان الحجّة الشرعیة و هو القضاء،فکأنّ القاضی لم یقض فی حقّ المدّعی بشیء.راجع:تسهیل اصول الشاشی:158159؛أحسن الحواشی:80. وقیل:یبطل فی الواقع وفی حق غیر المدّعی و المدّعی علیه،لا فی حقّهما لحجة شرعیة صحیحة. و هذا القضاء ینفذ ظاهراً وباطناً عند أبی حنیفة خلافاً للصاحبین(محمّد الشیبانی وأبی یوسف). وفیه أوّلا:إنّ قبول شهادة العبد مختلف فیه عند الفریقین،نعم ذهب أبو حنیفة وأصحابه و الشافعی والاوزاعی إلی أنّها لا تقبل،والمشهور بل الأشهر عند فقهاء الإمامیة القبول مطلقاً إلاّ علی المولی،وحکی عن الخلاف والانتصار و الغنیة و السرائر الإجماع علیه. جواهر الکلام:92/41؛الخلاف:242/3 کتاب الشهادات،مسألة 19. وثانیاً:إنّ الإمامیة یقولون:إذا کان الشاهدان کاذبین کان حکم الحاکم صحیحاً فی الظاهر وباطلاً فی الباطن،وبه قال شریح ومالک وأبو یوسف ومحمّد الشیبانی و الشافعی.الخلاف:238/3 مسألة 8. وقال فی الجواهر:إنّ حکم الحاکم عندنا تبع للشهادة،فإنّ کانت محقّقة نفذ الحکم ظاهراً وباطناً،وإلاّ نفذ ظاهراً لا باطناً.وبالجملة،الحکم ینفذ عندنا ظاهراً لا باطناً،ولا یستبیح المشهود له ما حکم له إلاّ مع العلم بصحة الشهادة أو الجهل بحالها،خلافاً لأبی حنیفة فقد حکم باستباحة المحکوم له و إن علم بطلانه،من غیر فرق بین المال و البضع،و قد خالف فی ذلک ضرورة المذهب أو الدّین خصوصاً فی ما اقتضی نکاح المحارم ونحوها.جواهر الکلام:179/41.
2- (2) .قال الشعبی ومالک و الشافعی وأصحاب الرأی:انقطع سهم المؤلّفة بعد رسول الله صلّی اللّه علیه و آله؛لأنّ الله تعالی اعزّ الإسلام وأغناه عن أن یتألّف علیه رجال،فلا یعطی مشرک تألّفاً بحال.وروی هذا عن عمر.المغنی 2:526؛الشرح الکبیر 2:693؛تذکرة الفقهاء:250/5.وقال فقهاء الإمامیة:هو مدفوع بآیة لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ،وبعمل النبی صلی الله علیه و آله إلی أن مات ولا یجوز ترک الکتاب و السنّة إلاّ بنسخ،والنسخ لا یثبت بعد موته صلّی اللّه علیه و آله،فلا یجوز ترک الکتاب و السنّة بمجرّد الآراء و التحکّم،ولا بقول صحابی.علی أنّهم لا یعملون بقول

القربی لانقطاع علّته. (1)

وعلی هذا:إذا غسل الثوب النجس بالخلّ،فزالت النجاسة،یحکم بطهارة المحلّ لانقطاع علتها،بهذا ثبت الفارق بین الحدث و الخبث،فإنّ الخلّ یزیل النجاسة عن المحل،فأمّا الخلّ لا یفید طهارة المحل،و إنّما یفیدها المطهّر و هو الماء. (2)،

ص:229


1- (1) .من هو ذو القربی؟قیل:هم أقارب الرسول صلی الله علیه و آله من ولد هاشم،وقال الشافعی:المراد به ذوو قرابة النبی صلی الله علیه و آله من ولد هاشم و المطلب أخیه یستوی فیه القریب و البعید،والصغیر و الکبیر،الذکر و الأنثی.وللذکر ضعف الأنثی؛لأنّه مستحقّ بالارث،وقال المزنی:من أصحابه،یستوی فیه الذکر والانثی؛لأنّه مستحق بالقرابة. ولکن،عند علماء الإمامیة المراد بذی القربی الإمام القائم مقام النبی صلی الله علیه و آله خاصّة؛لقوله تعالی وَ لِذِی الْقُرْبی و هو لفظ مفرد،فلا یتناول أکثر من الواحد،فینصرف إلی الإمام،وإرادة الجنس منه مجاز،والأصل عدم المجاز،فلا یعدل عن الحقیقة[تذکرة الفقهاء:432/5]؛وللروایات الواردة من طریق أهل البیت علیهم السّلام.[التهذیب:125/4-127]. قیل فی وجه سقوط سهم ذی القربی عن الغنیمة:إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله إنّما کان یعطیهم للنصرة،فإذا أعزّ الله تعالی الإسلام،وأغنی عن نصرتهم،سقط سهمهم؛لانتفاء علّته.تسهیل اصول الشاشی:159؛أحسن الحواشی:80. ولکن،یمکن أن یقال فی جوابه:إنّ الله تعالی قال: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی (الأنفال:41)،فأضاف إلیهم بلام الاختصاص،کما أضاف بقیة السهام إلی أربابها،فکما لا یسقط نصیب اولئک لا یسقط نصیب ذی القربی.و قد عرفت أنّ هذا السهم للإمام علیه السّلام،فلا یسقط بموت النبی صلی الله علیه و آله إذ الإمام بعد النبی صلی الله علیه و آله حاضر أو غائب.وبعدم السقوط قال الشافعی.المعتبر فی شرح المختصر:628/2-629؛تذکرة الفقهاء:433/5 432.
2- (2) .لا یجوز إزالة النجاسات بالمایعات عند أکثر علماء الإمامیة،وبه قال الشافعی ومالک وأحمد،وداود ومحمّد بن الحسن الشیبانی لقصورها عن رفع الوهمیة،فعن رفع الحقیقة أولی،ولأنّها طهارة تراد لأجل الصلاة،فلا تحصل بالمائعات،کطهارة الحدث،وله فی الشرع ما یدل علی ذلک،ومع أنّه ورد الأمر بالغسل بالماء،فلا یصحّ بغیره،مثاله ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال

توضیح

المصنّف بعد بیان تعریف الإجماع المرکّب مثّل له بإجماع الحنفیة و الشافعیة علی وجود الانتقاض عندما صدر عن رجل القیء،ومسّ المرأة،ولکن مع اختلافهما فی علّة الانتقاض.و هذا النوع من الإجماع لا یبقی حجّة بعد ظهور الفساد فی إحدی العلّتین.

ثمّ قال:ومع ذلک لا یکون هذا إجماعاً علی الباطل؛لأنّ الفساد عند الحنفیة و الشافعیة متوهّم،والصحّة راجحة؛لجواز أن یکون أبو حنیفة مصیباً فی مسألة المسّ بأنّه غیر ناقض ومخطئاً فی مسألة القیء بأنّه ناقض،والشافعی بالعکس،فعلی هذا لا یؤدّی هذا إلی البناء علی الإجماع بالباطل،بخلاف الإجماع البسیط الذی اتّفقت علیه الآراء من غیر اختلاف فی العلّة،فیبقی حجّة؛لعدم ظهور الفساد فی العلّة،فالحاصل أنّه جاز ارتفاع هذا الإجماع المرکّب لإمکان ظهور الفساد فیما بنی علیه الإجماع،و هو العلّة.ومعلوم أنّه إذا فسد علّة الحکم،فلا رأی للمجتهد،وبالطبع یزول الإجماع الضمن أو المرکّب بزوال أحد الرأیین.

خلاصة کلام المصنّف إلی هنا:إنّه بعد تعریف الإجماع وبیان حجیته،قسّم الإجماع أوّلاً إلی أربعة أقسام،وذکر منازله من حیث الاعتبار،وقسّم ثانیاً الإجماع إلی نوعین مرکّب،وغیر مرکّب،ثمّ ذکر تعریف المرکّب وحکمه،و هو عدم بقاء حجّیته بعد ظهور الفساد فی المأخذین.

ص:230

وقسّم ثالثاً بقوله:

*ثمّ بعد ذلک نوع من الإجماع،و هو عدم القائل بالفصل،وذلک نوعان:

أحدهما:ما إذا کان منشأ الخلاف فی الفصلین(أی:المسألتین)واحداً.

والثانی:ما إذا کان المنشأ مختلفاً.

والأوّل حجّة،والثانی لیس بحجّة.

مثال الأوّل:فیما خرّج العلماء من المسائل الفقهیة علی أصل واحد،ونظیره:إذا أثبتنا أنّ النهی عن التصرّفات الشرعیة یوجب تقریرها(أی:مشروعیتها أصلاً).

قلنا:یصحّ النذر بصوم یوم النحر،والبیع الفاسد یفید الملک؛لعدم القائل بالفصل(بین صوم یوم النحر وبین البیع الفاسد فی أنّ کلاً منهما منهی عنه،فإذا صحّ النذر،ولزم القضاء عند المخالفة،فکذلک البیع الفاسد یفید الملک،فصار هذا إجماعاً علی أنّ البیع الفاسد مثل صوم یوم النحر).ولو قلنا:إنّ التعلیق سبب عند وجود الشرط،قلنا:تعلیق الطلاق،والعتاق بالملک أو سبب الملک صحیح. (1)

وکذا لو أثبتنا أنّ ترتّب الحکم علی اسم موصوف بصفة لا یوجب تعلیق الحکم به.

قلنا:طول الحرّة لا یمنع جواز نکاح الأمة،إذ صحّ بنقل السلف أنّ الشافعی فرّع مسألة طول الحرّة علی هذا الأصل(أی:ترتّب الحکم علی اسم موصوف بصفة یوجب تعلیق الحکم به)،ولو أثبتنا جواز نکاح الأمة المؤمنة مع الطول جاز نکاح الأمة الکتابیة بهذا الأصل. (2)

ونظیر الثانی:إذا قلنا إنّ القیء ناقض،فیکون البیع الفاسد مفیداً للملک؛لعدم القائل بالفصل،أو

ص:231


1- (1) .یعنی إذا قلنا:إنّ المعلّق بالشرط عندنا سبب عند وجود الشرط،قلنا:تعلیق الطلاق و العتاق بالملک کقوله:إن نکحتک فانت حرّ،أو إن ملکت بضعکِ فانت طالق،وسبب الملک صحیح کقوله:إن نکحتک فأنت طالق،فصار إجماعاً علی أنّ العتاق وفی التعلیق مثل الطلاق؛لعدم القائل بالفصل بین العتاق و الطلاق فیه.تسهیل اصول الشاشی:160161.
2- (2) .یعنی لعدم القائل بالفصل،مع اتّحاد المنشأ؛لأنّ من قال:إنّ التعلیق بالشرط لا یوجب انتفاء الحکم عند عدم الشرط،یقول:إنّ ترتّب الحکم علی اسم موصوف بصفة لا یوجب تعلیق الحکم به.

یکون موجب العمد القود؛لعدم القائل بالفصل؛وبمثل هذا القیء غیر ناقض،فیکون المس ناقضاً،و هذا لیس بحجّة؛لأنّ صحّة الفرع و إن دلّت علی صحّة أصله ولکنّها لا توجب صحّة أصل آخر حتّی تفرعت علیه المسألة الاُخری. (1)، (2)

أقول:فصّل المصنّف فی الإجماع المرکّب بین ما إذا کان منشأ الخلاف أو طریقة الحکم فیها واحداً فلا یجوز إحداث الفصل بینهما،وبین ما إذا کان منشأ الحکم أو علّته متعدّداً فیجوز الفرق و الفصل بینهما.

و هذا بعینه ما نقله الرازی فی المحصول عن بعض،حیث قال:و أمّا القسم الثانی(و هو أن لا ینصّوا علی عدم الفصل بین المسألتین،لکن ما کان فیهم مَن فَرَّقَ بینهما)فقیل فیه:إن علم أنّ طریقة الحکم فی المسألتین واحدة،فذلک جار مجری أن یقولوا:لا فصل بینهما،فمن فَصَلَ بینهما فقد خالف ما اعتقدوه،مثاله:من ورّث العمّة ورّث الخالة،ومن منع إحداهما منع الاُخری،و إنّما جمعوا بینهما من حیث انتظمهما حکم ذوی الأرحام،فهذا ممّا لا یسوّغ خلافهم فیه بتفریق ما جمعوا بینهما،إلاّ أنّ هذا الإجماع متأخّر عن سائر الإجماعات فی القوّة.

ص:232


1- (1) .اصول الشاشی:8081.
2- (2) .قوله:لعدم القائل بالفصل یعنی أنّ من قال بانتقاض الوضوء بالقیء،قال:بأنّ البیع الفاسد یفید الملک کما قال به علماءالحنفیة،وان کانت المسألتان فیهما خلاف،لکن منشأ الخلاف فیهما لیس بواحد؛لانّ حکم القیء ثابت عندهم بالاصل المختلف فیه،و هو انّ الخارج من غیر السبیلین ینقض الوضوء بالحدیث،وحکم البیع الفاسد متفرع علی انّ النهی عن التصرفات الشرعیة یوجب تقریرها. وکذا منشاء الخلاف فی موجب العمد،أنّ العمد بنفسه یقتضی جریان القصاص فقط عند الحنفیة،ویقتضی القود أو الدیة عند الشافعی،وکذا منشأ الخلاف فی مسّ المرأة،ارادة الجماع عند الحنفیة،فانّه ناقض،وارادة المسّ بالید عند الشافعی فانّه ناقض عنده. فهذا الاختلاف بین الحنفیة و الشافعیة فی المسائل المذکورة،إجماع علی أنّ الحکم دائر بین القولین،فلیس هنا قول ثالث یدل علی کون بعض القیء ناقضاً وبعضه غیرناقض،و هذا الاجماع لیس بحجة.ینظر:أحسن الحواشی:81؛تسهیل اصول الشاشی:161-262.

و أمّا إن لم یکن کذلک،فالحقّ جواز الفرق لمن بعدهم؛لأنّه لا یکون بذلک مخالفاً لما أجمعوا علیه لا فی حکم ولا فی علّة حکم؛ولأنّه لو امتنع الفرق(أی إحداث قول الثالث)لکان من وافق الشافعی فی مسألة لدلیلٍ،وجب علیه أن یوافقه فی کلّ المسائل. (1)

اختلاف المجتهدین فی مسألة

*إذا اختلف المجتهدون فی عصر من العصور فی حکم مسألة علی قولین،فهل یجوز إحداث قول ثالث فی المسألة أم لا یجوز؟

ذهب الأکثرون إلی المنع،وقال البعض بالجواز،واختار فریق التفصیل.

القول الأوّل:المنع من إحداث قول ثالث؛لأنّ حصر الاختلاف فی قولین إجماع ضمنی أو إجماع مرکّب-کما یسمّونه-علی أن لا قول آخر فی المسألة،فیکون القول برأی ثالث خرقاً لإجماع قد تمّ،و هذا لا یجوز.

وفیه:إنّ الذی حصل هو عدم القول بالرأی الثالث،وعدم القول بالشیء لا یستلزم القول بعدم ذلک الشیء،إذ بینهما فرق واضح.

القول الثانی:الجواز مطلقاً،والدلیل علی ذلک إنّه ما دام قد حصل اختلاف فی مسألة بین المجتهدین،فهذا دلیل قاطع علی أن لا إجماع فی المسألة؛لأنّ الإجماع اتّفاق الجمیع لا بعضهم،وحیث لم یحصل هذا الاتّفاق،فلا مانع من إحداث قول ثالث ورابع وأکثر؛لأنّه لا یخرق إجماعاً.

وفیه:إنّ معقد الإجماع کما یکون بسیطاً یمکن أن یکون مرکّباً،بأن یتحقّق بین المختلفین فی بعض ما اختلفوا فیه،و هذا القدر المتّفق علیه هو محلّ معقد إجماعهم،فلا یجوز مخالفته.

ص:233


1- (1) .المحصول:843/3.وراجع:البحر المحیط:583/3.

القول الثالث:اختیار التفصیل،وخلاصته:إذا کان بین المختلفین قدر مشترک متّفق علیه فلا یجوز إحداث قول ثالث یخالف هذا القدر المجمع علیه؛لأنّه یعدّ خرقاً لإجماع قائم و هذا لا یجوز،أمّا إذا کان القول الثالث لا یصادف شیئاً متّفقاً علیه بین المختلفین،فیجوز إحداث قول آخر فی المسألة؛لأنّه لا یلاقی إجماعاً فی هذه الحالة،إذ الممنوع هو إحداث قول ثالث یخرق إجماعاً سابقاً،والإجماع السابق لا ینصبّ علی عدد الآراء التی ذهب إلیها المختلفون،و إنّما ینصبّ علی أحکام المسائل. (1)

رأی صدر الشریعة فی المسألة

قال التفتازانی فی توضیح کلام صدر الشریعة:إنّ القولین السابقین إن اشترکا فی أمر واحد و هو حکم شرعی،فإحداث القول الثالث یکون إبطالاً للإجماع،و إن لم یشترکا فی ذلک بأن لا یکون المشترک فیه واحداً بالحقیقة،أو کان واحداً لکن لا یکون حکماً شرعیاً فإحداث القول الثالث لا یکون إبطالاً للإجماع،والمختلف فیه بین القولین الأوّلین قد یکون حکماً شرعیاً متعلّقاً بمحل واحد،و قد یکون حکماً متعلّقاً بأکثر من محلّ واحد.

أمّا الأوّل:و هو أن یکون حکماً متعلّقاً بمحل واحد،فالقولان فیه قد یظهر اشتراکهما فی حکم واحد شرعی،فیبطل الثالث کما فی مسألة العدّة و الجدّ مع الأخوة،و قد یظهر عدم اشتراکهما فی ذلک کما فی مسألة الربا،فلا یبطل الثالث.

ص:234


1- (1) .راجع:إرشاد الفحول:195/1؛الوجیز:186188؛البحر المحیط:580582/3؛المحصول:840841/3؛شرح المعالم:124/2-125؛الإحکام:227/1؛المستصفی:567568/1؛اُصول الجصاص:166/2؛کشف الأسرار:347348/3؛اُصول السرخسی:310/1؛المنخول:417؛فواتح الرحموت:432437/2؛نزهة الخاطر العاطر:255257/1؛التوضیح لمتن التنقیح:9293/2؛روضة الناظر:9091؛اُصول الفقه الإسلامی:492494/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:45/1؛المهذّب:925927/2.

و أمّا الثانی:و هو أن یکون الحکم المختلف فیه حکماً متعلّقاً بأکثر من محل واحد،فاختلاف القولین إنّما یتصوّر بثلاثة أوجه:

الأوّل:أن یکون أحدهما قائلاً بثبوت الحکم فی صورة معینة،وعدم ثبوته فی الصورة الاُخری،والآخر قائلاً بالعکس کقول أبی حنیفة بالانتقاض بالخروج من غیر السبیلین لا بمسّ المرأة،وقول الشافعی بالانتقاض بالمسّ دون الخروج،فالقول بالانتقاض بکلّ منهما أو بعدم الانتقاض بشیء منهما لا یکون إبطالاً لحکم شرعی مجمع علیه.

الثانی:أن یکون أحدهما قائلاً بالثبوت فی الصورتین،و هو معنی شمول الوجود،والآخر بالعدم فیهما،و هو معنی شمول العدم،فإنّ اتّفق الشمولان علی حکم واحد شرعی کتسویة الأب و الجدّ فی الولایة،کان القول بالافتراق مبطلاً للإجماع،وإلاّ فلا،کالقول بجواز الفسخ ببعض العیوب دون البعض.

الثالث:أن یکون أحدهما قائلاً بالثبوت فی إحدی الصورتین بعینها،والعدم فی الاُخری،والآخر قائلاً بالثبوت فی کلتا الصورتین،فیکون اتّفاقاً علی الثبوت فی صورة بعینها أو بالعدم فیهما،فیکون اتّفاقاً علی العدم،فلا صورة بعینها،فیکون القول الثالث إبطالاً للمجمع علیه کمسألة الصلاة فی الکعبة نفلاً وفرضاً.وبجعل هذه المسألة ومسألة مساواة الأب و الجدّ من القسم الثانی،یتبین أن لیس المراد بالأوّل أن یشترک القولان فی حکم واحد شرعی،وبالثانی أن لا یشترکا فیه. (1)

ص:235


1- (1) .التلویح علی التوضیح:9597/2.

الخلاصة

الإجماع علی نوعین:مرکّب وغیر مرکّب،فالمرکّب ما اجتمع علیه الآراء علی حکم الحادثة مع وجود الاختلاف فی العلّة.ثمّ هذا النوع من الإجماع لا یبقی حجّة بعد ظهور الفساد فی أحد المأخذین حتّی لو ثبت أنّ القیء غیر ناقض،فأبو حنیفة لا یقول بالانتقاض فیه،ولو ثبت أنّ المسّ غیر ناقض،فالشافعی لا یقول بالانتقاض فیه؛لفساد العلّة التی بنی علیها الحکم.والفساد متوهّم فی الطرفین،فلا یؤدّی هذا إلی بناء وجود الإجماع علی الباطل؛لأنّ الفساد عند الحنفیة و الشافعیة متوهّم،والصحّة راجحة؛لجواز أن یکون أبو حنیفة مصیباً فی مسألة المسّ،والشافعی بالعکس فعلی هذا لا یؤدّی هذا إلی البناء علی الإجماع بالباطل،بخلاف الإجماع البسیط،من غیر اختلاف فی العلّة،فیبقی حجّة؛لعدم ظهور الفساد فی العلّة.

ثمّ قال المصنّف بعد ذلک:نوع من الإجماع،و هو عدم القائل بالفصل،وذلک نوعان:أحدهما ما إذا کان منشأ الخلاف فی المسألتین واحداً،والثانی:ما إذا کان المنشأ مختلفاً،والأوّل حجّة،والثانی لیس بحجّة،مثلاً إذا قلنا إنّ النهی عن التصرّفات الشرعیة یوجب تقریرها ومشروعیتها أصلاً،فیصحّ حینئذٍ نذر صوم یوم النحر،والبیع الفاسد یفید الملک؛لعدم القائل بالفصل بین صوم یوم النحر وبین البیع الفاسد فی أنّ کلا منهما منهی عنه.

ونظیر الثانی ما إذا قلنا إنّ القیء ناقض،فیکون البیع الفاسد مفیداً للملک؛لعدم القائل بالفصل،و هذا لیس بحجّة؛لأنّ صحّة الفرع و إن دلّت علی صحّة أصله،ولکنّها لا توجب صحّة أصل آخر حتّی تفرعت علیه المسألة الاُخری.

قال الرازی فی المحصول:إن عُلم أنّ طریقة الحکم فی المسألتین واحدة،فذلک جار مجری أن یقولوا:لا فصل بینهما.فمن فصل بینهما فقد خالف ما اعتقدوه،مثاله:

ص:236

من ورّث العمّة ورّث الخالة ومن منع إحداهما منع الاُخری،و إنّما جمعوا بینهما من حیث انتظمهما حکم ذوی الأرحام،فهذا ممّا لا یسوّغ خلافهم فیه بتفریق ما جمعوا بینهما،إلاّ أنّ هذا الإجماع متأخّر عن سائر الإجماعات فی القوّة.

و أمّا إن لم یکن کذلک،فالحقّ جواز الفرق لمن بعدهم؛لأنّه لا یکون بذلک مخالفاً لما أجمعوا علیه لا فی حکم ولا فی علّة حکم.

إذا اختلف المجتهدون فی عصر من العصور فی حکم مسألة علی قولین،فهل یجوز إحداث قول ثالث فی المسألة أم لا یجوز؟

ذهب الأکثرون إلی المنع،وقال البعض بالجواز،واختار فریق التفصیل

فاستدلّ الأکثرون علی قولهم بأنّ حصر الاختلاف فی قولین إجماع ضمنی أو مرکّب علی أن لا قول آخر فی المسألة،فیکون القول الثالث خرقاً لإجماع قد تمّ،و هذا لا یجوز.

وفیه:إنّ الذی حصل هو عدم القول بالرأی الثالث،وعدم القول بالشیء لا یستلزم القول بعدم ذلک الشیء،إذ بینهما فرق واضح.

والدلیل علی القول الثانی هو:إنّه ما دام قد حصل اختلاف فی مسألة بین المجتهدین،فهذا دلیل قاطع علی أن لا إجماع فی المسألة،إذاً لا مانع من إحداث قول ثالث ورابع وأکثر؛لأنّه لا یخرق إجماعاً.

وفیه:إنّ معقد الإجماع کما یکون بسیطاً،یمکن أن یکون مرکّباً،بأن یتحقّق بین المختلفین فی بعض ما اختلفوا فیه.

وخلاصة القول بالتفصیل هو:إنّه إذا کان بین المختلفین قدر مشترک متّفق علیه،فلا یجوز إحداث قول ثالث یخالف هذا القدر المجمع علیه؛لأنّه یعدّ خرقاً لإجماع قائم،و هذا لا یجوز،و أمّا إذا کان القول الثالث لا یصادف شیئاً متّفقاً علیه بین المختلفین،فیجوز إحداث قول آخر فی المسألة؛لأنّه لا یلاقی إجماعاً فی هذه الحالة.

ص:237

قال التفتازانی:إنّ القولین السابقین إن اشترکا فی أمر واحد و هو حکم شرعی،فإحداث القول الثالث یکون إبطالاً للإجماع،و إن لم یشترکا فی ذلک بأن لا یکون المشترک فیه واحداً بالحقیقة،أو کان واحداً لکن لا یکون حکماً شرعیاً،فإحداث القول الثالث لا یکون إبطالاً للإجماع.

والمختلف فیه بین القولین الأوّلین قد یکون حکماً شرعیاً متعلّقاً بمحل واحد،و قد یکون حکماً متعلّقاً بأکثر من محل واحد

أمّا الأوّل:فالقولان فیه قد یظهر اشتراکهما فی حکم واحد شرعی فیبطل القول الثالث.

و أمّا الثانی:و هو أن یکون الحکم المختلف فیه حکماً متعلّقاً بأکثر من محلّ واحد فاختلاف القولین إنّما یتصوّر بثلاثة أوجه:

الأوّل:أن یکون أحدهما قائلاً بثبوت الحکم فی صورة معینة،وعدم ثبوته فی الصورة الاُخری،والآخر بالعکس.

الثانی:أن یکون أحدهما قائلاً بالثبوت فی الصورتین،والآخر بالعدم فیهما.

الثالث:أن یکون أحدهما قائلاً بالثبوت فی إحدی الصورتین بعینها،والعدم فی الاُخری،والآخر قائلاً بالثبوت فی کلتا الصورتین.

ص:238

الأسئلة

1.عرّف ووضّح الإجماع المرکّب.

2.لماذا لا یبقی الإجماع المرکّب بعد ظهور الفساد فی المأخذین حجّة؟

3.لماذا لا یؤدّی هذا الإجماع إلی البناء علی الإجماع بالباطل؟

4.اُذکر أنواع القول بعدم الفصل مطابقاً لرأی المصنّف.

5.اُذکر أدلّة القول بالجواز و القول بعدم جواز إحداث قول ثالث.

6.لماذا ذهب قوم إلی القول بالتفصیل فی إحداث قول ثالث؟

7.اُذکر صور اختلاف القولین إذا کان الحکم المختلف فیه متعلّقاً بأکثر من محلّ واحد.

ص:239

ص:240

الدرس الثالث و الثلاثون بعد المئة

رأی الزیدیة فی المسألة الخلافیة و القول الثالث

***اختار ابن المرتضی-بعد نقل کلام جمهور الاُصولیین فی المسألة-تفصیل ابن الحاجب حیث قال:ومن ثمّ قلنا لا وجه مانع من إحداث القول الثالث إن لم یرفعهما،وما رفعهما فقد خالف الإجماع فمنع،وما لم یرفعهما فلا مخالفة فیه فلا مانع،إذ هو کما لو قیل:لا یقتل مسلم بذمّی،ولا یصحّ بیع الغائب،وقیل:یقتل،ویصحّ،فإنّه لا یمنع بقتل ولا یصحّ،وعکسه باتّفاق. (1)

لکن قال عبدالله بن حمزة:إذا افترقت العترة علی قولین لا ثالث لهما،ومنع الجمیع من إحداث ثالث کالکلام فی الاُمّة(یعنی إذا افترقت علی قولین لا ثالث لهما)وکذلک إذا افترقوا فرقتین وتبین ضلال إحدی الطائفتین،أو صحّ لنا بطلان قولها،فإنّا نعلم وجوب تعین الحقّ فی قول الفرقة الظاهرة و الفرقة المصیبة،إذ لا یجوز خروج الحقّ عن أیدی الجمیع. (2)

ص:241


1- (1) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:613.
2- (2) .صفوة الاختیار:256.

الإجماع المرکّب عند الإمامیة

**ینقسم الإجماع إلی بسیط ومرکّب،فالإجماع البسیط هو الإجماع المنعقد علی حکم واحد،ولو تعدّدت الأحکام وانعقد الإجماع علی کلّ واحد منها فهی إجماعات بسیطة،ویقابله المرکّب و هو الإجماع المنعقد علی حکمین أو أحکام مع عدم انعقاده علی کلّ واحد،سواء کان فی موضوع واحد کاستحباب الجهر فی ظهر الجمعة وحرمته،حیث افترق علماء الإمامیة فیه فرقتین فالقول بوجوبه-مثلاً-خرق للإجماع المرکّب،أو فی موضوعین فما زاد کتبدیل الرکعتین عن جلوس برکعة من قیام فی الشکّ بین الثنتین و الثلاث وبین الثلاث و الأربع،فإنّ من قال بجواز تبدیلهما بها قاله فی المقامین،ومن منع منه،منع منه فی المقامین،فالقول بجوازه فی أحدهما دون الآخر خرق للإجماع المرکّب.

ویسمّی هذا النوع بعدم القول بالفصل أیضاً،و هو أعمّ من الإجماع المرکّب من وجه لجواز الاتّفاق-مثلاً-علی عدم الفرق بین حکم موضوعین فصاعداً،من غیر أن تستقرّ الآراء علی التعیین مطلقاً علی مذهب علماء أهل السنّة أو فی الظاهر مع القطع بدخول المعصوم علیه السّلام مع احتمال وجود مانع فی حقّة کالتّقیة بناءً علی مذهب الإمامیة،أو لعدم علمنا ممّا استقرّت علیه الآراء عند الفریقین.

والأظهر أن یخصّ الإجماع المرکّب بما یتّحد فیه مورد الأقوال،ویجعل لما یتعدّد فیه المورد عنوان عدم القول بالفصل لئلا یلزم التکرار فی بیان أقوال المسألتین وذکر أحکامها.

مخالفة الإجماع البسیط

عند الإمامیة،حیث یکون الإجماع البسیط کاشفاً عن قول المعصوم الواقعی مطلقاً،فلا یجوز مخالفته،ووجهه واضح.و أمّا ما کشف عن قوله علیه السّلام الظاهری،فیجوز مخالفته مع قیام دلیل علی خلافة،کما لو استکشف بالاتّفاق عن حکم الإمام علیه السّلام بطهارة

ص:242

المخالفین فی الجملة،فإنّه یجوز مخالفته عند قیام دلیل کاشف عن کونه حکماً ظاهریاً منوطاً بالتقیة،وکذا لو استکشف بالإجماع عن تأصیله لأصل عام علی وجه یقبل التخصیص عند قیام دلیل علیه،ولو علم إجمالاً بورود الحکم منه مورد التقیة،ولم یظفر بدلیل یدلّ علی تعیین المخالف،ففی جواز الأخذ به وعدمه وجهان أظهرهما الأخیر.

هل یجوز إحداث قول ثالث؟

إذا انعقد الإجماع علی قولین أو أقوال فی موضوع،لا یجوز إحداث قول ثالث فیه بلا خلاف یعرف فیه بین أصحابنا الإمامیة،وعلیه أکثر أهل السنّة.

والدلیل علیه:إنّه إذا علم بدخول المعصوم بین القولین أو الأقوال أو بموافقته لأحدهما کان القول الثالث مخالفاً لقوله علیه السّلام،فیکون معلوم البطلان،فلا یجوز المصیر إلیه،هذا إذا کان الإجماع کاشفاً عن الحکم الواقعی،وإلاّ اتّجه فیه التفصیل المتقدّم.

تنبیه

استثنی من ذلک صاحب الفصول ما إذا أدّی دلیل الاحتیاط إلی إحداث قول ثالث،فإنّه یجوز إحداثه و إن کان الإجماع المنعقد فی ذلک المقام کاشفاً عن الحکم الواقعی،کما لو انعقد الإجماع المرکّب علی إباحة شیء أو حرمته،أو أباحته ووجوبه،فإنّه یجوز الحکم فی الأوّل بالکراهة ظاهراً،وفی الثانی بالاستحباب للاحتیاط مع القطع بمخالفته للحکم الواقعی. (1)

نعم،فصّل آیة الله المحقّق السید الشهید الصدر بما لفظه:و أمّا الإجماع المرکّب فهو عبارة عن الاستناد إلی رأی مجموع العلماء المختلفین علی قولین أو أکثر فی نفی قول آخر لم یقل به أحد منهم،وهنا تارة یفرض أنّ کلاًّ من القولین قائله ینفی القول الآخر

ص:243


1- (1) .الفصول الغرویة:256.

بقطع النظر عن قوله،واُخری یفرض أنّه ینفیه بلحاظ قوله وفی طوله؛لاستلزامه نفی غیره.

أمّا الأوّل:فالإجماع یکون حجّة فی نفی ذلک القول الآخر علی جمیع المسالک المتقدّمة فی حجّیة الإجماع؛لأنّه ملاک کالإجماع البسیط.

و أمّا علی الثانی:فلا بدّ من التفصیل فیه بین المسالک،فإنّه بناءً علی المسلک القائل بالحجّیة علی أساس قاعدة اللّطف تثبت الحجّیة أیضاً؛لأنّه لو کان القول الثالث حجّة لما کان به قائل و هو خلاف اللّطف المفروض،فیستکشف عدم صحّته،وکذلک بناءً علی القول باستکشاف دخول الإمام علیه السّلام فی المجمعین،و أمّا بناءً علی مسلکنا،فلا یکون حجّة،إذ یعلم بأنّ القیم الاحتمالیة الموجودة فی مجموع الفتاوی لنفی الثالث قسم منها غیر مصیب للواقع جزماً؛للعلم بکذب ذلک نتیجة التخالف فی الآراء،و هذا لا یؤدّی إلی تقلیل القیم الاحتمالیة للإجماع المرکّب عن الإجماع البسیط کمّاً فحسب،بل وکیفاً أصلاً للتعارض وکون کلّ قیمة احتمالیة لأحد القولین منفیاً بالقیمة الاحتمالیة للقول الآخر المخالف،وکذلک تکون القیمة الاحتمالیة لنفی القول الثالث. (1)

احتجّ المجوّزون إحداث القول الثالث،بأنّ اختلافهم یقتضی أن تکون المسألة اجتهادیة وأنّه یسوغ العمل فیها بمؤدّی الاجتهاد،فلا یدلّ علی المنع منه،و هذا الاستدلال تقدّم عن بعض علماء أهل السنّة،حیث جوّزوا القول الثالث.

وفیه:إنّ اختلافهم فیه إنّما یدلّ علی جواز العمل بمؤدّی الاجتهاد هنا فی موضع الخلاف أعنی فی تعیین أحد القولین أو الأقوال لا فی غیره،إذ لا خلاف لهم فیه.

وبالجملة،فإنّ مفاد الاختلاف جواز الأخذ بمؤدّی اجتهاد خاص فیقتصر فیه علی مورده،لا مطلق الاجتهاد،کما هو مبنی الاحتجاج. (2)

ص:244


1- (1) .بحوث فی علم الأُصول:317/4؛الحلقة الثالثة فی اسلوبها الثانی:57/2.
2- (2) .راجع:معالم الاُصول:245246؛الفصول الغرویة:255256؛الذریعة إلی اصول الشریعة:637639/2؛رسالة الإجماع(الرسائل الاُصولیة)للوحید البهبهانی:307؛معارج الاُصول:131.

الحدیث حول القول بعدم الفصل

*إذا لم یفرّق علماء العصر بین مسألتین،فهل لمن بعدهم التفریق بینهما؟

اختلف فی ذلک علی مذاهب:

المذهب الأوّل:التفصیل:إن کان علماء العصر قد نصّوا علی عدم الفرق بین المسألتین،فهنا لا تجوز مخالفتهم؛لأنّهم أجمعوا علی عدم الفرق فالقائل بالفرق،مخالف لذلک الإجماع و هو حرام،أمّا إن کان علماء العصر لم ینصّوا علی عدم الفرق،فلا یخلو الأمر من حالتین:

الاُولی:إن علمنا اتّحاد المسألتین فی الجامع کتوریث العمّة و الخالة،حیث إنّ العلماء اتّفقوا علی أنّه لا فرق بینهما فی التوریث وعدمه بجامع کونهما من ذوی الأرحام،ففی هذه الحالة لا یجوز الفصل و التفریق بینهما؛لأنّه یلزم من التفریق بینهما رفع مجمع علیه.

الثانیة:إن لم نعلم اتّحاد المسألتین فی الجامع،فإنّه یجوز الفصل بینهما؛لأنّه لا یلزم من ذلک رفع شیء مجمع علیه،ولأنّه لو لم یجز الفصل بینهما فی هذه الحالة لوجب علی من وافق مجتهداً فی حکم الدلیل أن یوافقه فی جمیع الأحکام،و هو باطل بالاتّفاق،و هذا المذهب هو اختیار کثیر من العلماء.

المذهب الثانی:لا یجوز التفریق بینهما مطلقاً،و هو اختیار القاضی عبدالجبّار وغیره،والدلیل علی ذلک:إنّ الأوّلین اتّفقوا علی اتّحادهما فی الحکم،فلو قلنا بجواز التفریق بینهما لزم مخالفة الإجماع،و هذا باطل.

وفیه:إن نصّوا علی ذلک الاتّحاد،فنحن معکم فی عدم جواز المخالفة،و إن عنیتم إنّ فتواهم متوافقة فی المسألتین من غیر تعرّض لشیء آخر،فلا نسلّم أن لا تجوز مخالفتهم،و هو محل النزاع.

ص:245

المذهب الثالث:إنّه یجوز التفریق بینهما مطلقاً،و هو مذهب أبی الطیب الطبری وغیره،استدلالاً بعمل الثوری وابن سیرین إذ فصّل الثوری،بین الجماع ناسیاً و الأکل ناسیاً،حیث الجماع ناسیاً یفطر،والأکل ناسیاً لا یفطر،مع أنّ العلماء الذین کانوا قبله لم یفصّلوا بینهما؛لأنّه قد جمعتهما طریقة واحدة. (1)

حکی الزرکشی عن التبریزی أنّه قال فی التنقیح:إذا وقع الاشتراک فی المأخذ،فهو محلّ الخلاف،و أمّا إذا لم یشترکا فیه،فلا خلاف فی أنّه لیس بحجّة،و هو خلاف کلام الرازی.ومنشأ الخلاف:هل إحداث الفصل بین المسألتین کإحداث قول فیهما،فیکون خرقاً للإجماع،أو لیس کإحداثه؟لأنّ المفصِّل قال فی کلّ مسألة بقول بینهما،ولم یلزم من هذه المسألة نسبة الاُمة إلی جمیع الحقّ کما یلزم من تلک،فلا یکون خرقاً للإجماع،و هو الصحیح. (2)

**إذا لم تفصّل الاُمّة بین مسألتین أو أکثر،فإنّ نصّوا علی عدم الفصل بینهما بأن یعلم من حالهم الاتّفاق علی ذلک،و إن لم نجد التصریح به من کلامهم،فلا یجوز الفصل سواء حکموا بعدمه فی کل الأحکام أو بعضها.

وان لم ینصّوا علی عدم الفصل،ولم یعلم اتّفاقهم علی ذلک،ولکن لم یکن فیهم من فرّق بینهما أیضاً،فإنّ عُلم اتّحاد طریق الحکم فیها،فهو فی معنی اتّفاقهم علی عدم الفرق،مثاله:من ورّث العمّة ورّث الخالة،ومن منع إحداهما منع الاُخری؛لاتّحادهما فی الطریقة،وهی قوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ (3)و إن لم یعلم اتّحاد الطریقة.

ص:246


1- (1) .راجع:المهذّب:930/2-932؛الإحکام:229/1؛المستصفی:570/1؛المحصول:842844/3؛البحر المحیط:583/3؛شرح المعالم:125126/2؛التوضیح مع شرحه التلویح:9698/2؛اُصول الجصاص:166/2.
2- (2) .البحر المحیط:584/3.
3- (3) .الأنفال:75.

قال العلاّمة الحلّی:الحقّ جواز الفرق لمن بعدهم عملا بالأصل السالم عن معارضة مخالفة حکم مجمع علیه أو مثل الحکم المجمع علیه،ولأنّ منع المخالفة یستلزم أنّ من قلّد مجتهداً فی حکم أن یوافقه فی کل حکم ذهب إلیه،و هو ظاهر البطلان.

وقال فی الفصول:والتحقیق أنّه إن قام دلیل من إجماع أو غیره علی المنع من التفصیل مطلقاً،ولو بحسب الظاهر،أو قام علی أحد القولین أو الأقوال ما یکون حجیته باعتبار إفادة الواقع،لم یجز التفصیل،وإلا جاز،ثمّ استدلّ بقوله:لنا علی المنع فی الصورة الاُولی:

أمّا فی القسم الأوّل منها،فلأنّه إذا قام دلیل معتبر علی المنع من التفصیل،ولو عند عدم قیام دلیل علی أحد القولین أو الأقوال أو علی الجمیع،کان التفصیل معلوم البطلان ظاهراً وواقعاً،فلا سبیل إلی المصیر إلیه،و هذا واضح.

و أمّا فی القسم الثانی،فلأنه إذا کان الدلیل موافقاً للواقع ومعتبراً من حیث إفادته إیاه کخبر الواحد عند عدم المعارض المکافئ،کانت دلالته علی أحدهما مستلزمة لدلالته علی الآخر،ولو بمعونة العلم بدخول المعصوم فی المجمعین،فیکون إثبات الحکم الآخر به من قبیل إثبات اللّوازم العقلیة لمدلول الخبر أو لوازمه الشرعیة أو العرفیة به،إذ لا فرق بین أن یکون اللّزوم مستنداً إلی نفس المدلول أو إلیه بضمیمه مقدّمة خارجیة کما فی تنقیح المناط المتفرّع علی دلیل ظنّی. (1)

وقال فی المعالم:والذی یأتی علی مذهبنا عدم الجواز؛لأنّ الإمام علیه السّلام مع إحدی الطائفتین قطعاً. (2)

وفیه:إنّ هذا لا یتمّ إلا مع العلم بعدم خروج قول الإمام علیه السّلام عن القولین،والمفروض عدم ثبوت الإجماع.

ص:247


1- (1) .الفصول الغرویة:256؛قوانین الاُصول:379380؛الذریعة:641643/2؛معارج الاُصول:134.
2- (2) .معالم الاُصول:246.

الخلاصة

اختار ابن المرتضی من الزیدیة-بعد نقل کلام جمهور الاُصولیین من أهل السنّة-تفصیل ابن الحاجب،حیث قال:ومن ثمّ قلنا لا وجه مانع من إحداث القول الثالث إن لم یرفعهما،ومن رفعهما فقد خالف الإجماع فمنع،ومن لم یرفعهما فلا مخالفة فیه فلا مانع.و أمّا ابن حمزة منهم،فقال بعدم جواز إحداث قول ثالث مطلقاً.

و أمّا الإمامیة فیقولون:ینقسم الإجماع إلی بسیط ومرکّب،والبسیط هو الإجماع المنعقد علی حکم واحد،ولو تعدّدت الأحکام وانعقد الإجماع علی کلّ واحد منها فهی إجماعات بسیطة،ویقابله المرکّب و هو الإجماع المنعقد علی حکمین أو أحکام مع عدم انعقاده علی کلّ واحد،سواء کان فی موضوع واحد کاستحباب الجهر فی ظهر الجمعة وحرمته،فالقول بوجوبه-مثلاً-خرق للإجماع المرکّب،أو فی موضوعین فما زاد،ویسمّی هذا النوع بعدم القول بالفصل أیضاً،و هو أعمّ من الإجماع المرکّب من وجه؛لجواز الاتّفاق-مثلاً-علی عدم الفرق بین حکم موضوعین فصاعداً،من غیر أن تستقرّ الآراء علی التعیین مطلقاً علی مذهب علماء أهل السنّة أو فی الظاهر مع القطع بدخول المعصوم علیه السّلام مع احتمال وجود مانع فی حقّة کالتّقیة علی مذهب الإمامیة.

والأظهر أن یخصّ الإجماع المرکّب بما یتّحد فیه مورد الأقوال،ویجعل لما یتعدّد فیه المورد عنوان عدم القول بالفصل لئلا یلزم التکرار.

لا یجوز مخالفة الإجماع البسیط،حیث یکون کاشفاً عن قول المعصوم الواقعی مطلقاً،و أمّا ما کشف عن قوله علیه السّلام الظاهری،فیجوز مخالفته مع قیام دلیل علی خلافة.

إذا انعقد الإجماع علی قولین أو أقوال فی موضوع،لا یجوز إحداث قول ثالث فیه بلا خلاف یعرف فیه بین الإمامیة،وعلیه أکثر أهل السنّة،والدلیل علیه:إنّه إذا علم بدخول المعصوم بین القولین أو الأقوال،أو بموافقته لأحدهما،کان القول الثالث

ص:248

مخالفاً لقوله علیه السّلام،فیکون معلوم البطلان،فلا یجوز المصیر إلیه،هذا إذا کان الإجماع کاشفاً عن الحکم الواقعی،وإلاّ اتّجه فیه التفصیل المتقدّم.

وقال فی الفصول:ما إذا أدّی دلیل الاحتیاط إلی إحداث قول ثالث،فإنّه یجوز إحداثه و إن کان الإجماع المنعقد فی ذلک المقام کاشفاً عن الحکم الواقعی.

نعم،فصّل آیة الله المحقّق السید الشهید الصدر بقوله:تارة یفرض أنّ کلاً من القولین قائله ینفی القول الآخر بقطع النظر عن قوله،واُخری یفرض أنّه ینفیه بلحاظ قوله وفی طوله لاستلزامه نفی غیره.

أمّا الأوّل:فالإجماع یکون حجّة فی نفی ذلک القول الآخر علی جمیع المسالک المتقدّمة فی حجّیة الإجماع؛لأنّه ملاک کالإجماع البسیط.

و أمّا علی الثانی:فلا بدّ من التفصیل فیه بین المسالک،فإنّه بناءً علی قاعدة اللّطف تثبت الحجّیة أیضاً؛لأنّه لو کان القول الثالث حجّة لما کان به قائل،و هو خلاف اللّطف المفروض،فیستکشف عدم صحّته،وکذلک بناءً علی القول باستکشاف دخول الإمام علیه السّلام فی المجمعین،و أمّا بناءً علی مسلکنا فلا یکون حجّة إذ یعلم بأنّ القیم الاحتمالیة الموجودة فی مجموع الفتاوی لنفی الثالث قسم منها غیر مصیب للواقع جزماً؛للعلم بکذب ذلک نتیجة التخالف فی الآراء،و هذا لا یؤدّی إلی تقلیل القیم الاحتمالیة للإجماع المرکّب عن الإجماع البسیط کمّاً فحسب،بل وکیفاً أیضاً.

استدلّ المجوّزون إحداث القول الثالث بأنّ اختلافهم یقتضی أن تکون المسألة اجتهادیة وأنّه یسوغ العمل فیها بمؤدّی الاجتهاد،فلا یدلّ علی المنع منه،وفیه:إنّ اختلافهم فیه إنّما یدل علی جواز العمل بمؤدّی الاجتهاد هنا فی موضع الخلاف،أعنی فی تعیین أحد القولین أو الأقوال لا فی غیره.

إذا لم یفرّق علماء العصر بین مسألتین،فهل لمن بعدهم التفریق بینهما؟اختلف فی ذلک علی مذاهب:

ص:249

المذهب الأوّل:التفصیل إن کان علماء العصر قد نصّوا علی عدم الفرق بین المسألتین فهنا لا تجوز مخالفتهم،و أمّا إن لم ینصّوا علی عدم الفرق،فلا یخلو الأمر من حالتین:

الاُولی:إن علمنا اتّحاد المسألتین فی الجامع کتوریث العمّة و الخالة،ففی هذه الحالة لا یجوز الفصل و التفریق بینهما.

الثانیة:إن لم نعلم باتّحاد المسألتین فی الجامع،فإنّه یجوز الفصل بینهما؛لأنّه لا یلزم من ذلک رفع شیء مجمع علیه،و هذا المذهب هو اختیار کثیر من العلماء.

المذهب الثانی:لا یجوز التفریق بینهما مطلقاً.

المذهب الثالث:إنّه یجوز التفریق بینهما مطلقاً.

وقال فی التنقیح:إذا وقع الاشتراک فی المأخذ،فهو محلّ الخلاف،و أمّا إذا لم یشترکا فیه،فلا خلاف فی أنّه لیس بحجّة.

قال جمّ من علماء الإمامیة:إذا لم تفصّل الاُمّة بین مسألتین أو أکثر،فإنّ نصّوا علی عدم الفصل بینهما،فلا یجوز الفصل سواء حکموا بعدمه فی کل الأحکام أو بعضها،و إن لم ینصّوا علی عدم الفصل،ولم یعلم اتّفاقهم علی ذلک،فإنّ عُلم اتّحاد طریق الحکم فیها،فهو فی معنی اتّفاقهم علی عدم الفرق،و إن لم یعلم اتّحاد الطریقة فالعلاّمة الحلّی یقول:الحقّ جواز الفرق لمن بعدهم.

وقال فی الفصول:والتحقیق أنّه إن قام دلیل من إجماع أو غیره علی المنع من التفصیل مطلقاً،ولو بحسب الظاهر،أو قام علی أحد القولین أو الأقوال ما یکون حجیته باعتبار إفادة الواقع،لم یجز التفصیل،وإلا جاز.

وقال فی المعالم:لا یجوز؛لأنّ الإمام علیه السّلام مع إحدی الطائفتین قطعاً.

وفیه:إنّ هذا لا یتمّ إلا مع العلم بعدم خروج قول الإمام علیه السّلام عن القولین،والمفروض عدم ثبوت الإجماع.

ص:250

الأسئلة

1.بین ووضّح نظریة ابن المرتضی من الزیدیة.

2.اُذکر تعریف الإجماع البسیط و المرکّب.

3.ما هی النسبة بین الإجماع المرکّب و القول بعدم الفصل من النسب الأربع؟

4.لماذا یجوز مخالفة الإجماع البسیط إذا کشف ظاهراً عن قول المعصوم؟

5.لماذا لا یجوز إحداث قول ثالث عند الإمامیة؟

6.اُذکر تفصیل الشهید الصدر فی إحداث القول الثالث.

7.اُذکر الإیراد الذی ذکرناه علی استدلال الذین جوّزوا إحداث القول الثالث.

8.إذا لم یفرّق علماء العصر بین مسألتین،فهل لمن بعدهم التفریق بینهما؟ولما اختُلف فی ذلک علی مذاهب،وضّح وبین مذهب التفصیل منها،مع ذکر مثال.

9.اُذکر رأی علماء الإمامیة فی القول بعدم الفصل.

10.اُذکر تحقیق صاحب الفصول فی المسألة المذکورة.

ص:251

ص:252

الدرس الرابع و الثلاثون بعد المئة

الإجماع المنقول بخبر الواحد

إلی هنا قد تمّ الحدیث فی الإجماع المحصّل،والآن نذکر بحث الإجماع المنقول،و قد تقدّم أنّه لا بدّ للإجماع من مستند،فذلک المستند:إمّا أن یکون دلیلاً ظنّیاً کخبر الواحد،و إمّا أن یکون دلیلاً قطعیاً کالخبر المتواتر،ولقد ذهب بعض العلماء من الفریقین إلی أنّ مستند الإجماع لا یکون إلاّ دلیلاً قطعیاً،ولا ینعقد الإجماع بخبر الواحد،وإلیک أقوال الفریقین:

نظریة علماء أهل السنّة فی الإجماع المنقول بخبر الواحد

*قال الآمدی:اختلفوا فی ثبوت الإجماع بخبر الواحد،فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبی حنیفة و الحنابلة،وأنکره جماعة من أصحاب أبی حنیفة وبعض أصحابنا کالغزالی،مع اتّفاق الکل علی أنّ ما ثبت بخبر الواحد لا یکون إلاّ ظنّیاً فی سنده،و إن کان قطعیاً فی متنه. (1)

ص:253


1- (1) .الإحکام:238/1.

وقال فی إرشاد الفحول:الإجماع المنقول بطریق الآحاد حجّة،وبه قال الماوردی و إمام الحرمین و الآمدی،ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر،وحُکی عن الرازی فی المحصول قوله:الإجماع المروی بطریق الآحاد حجّة،خلافاً لأکثر الناس؛لأنّ ظنّ وجوب العمل به حاصل،فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون،ولأنّ الإجماع نوع من الحجّة،فیجوز التمسّک بمظنونه کما یجوز بمعلومه،قیاساً علی السنّة،ولأنّا بینا أنّ أصل الإجماع فائدة ظنیة،فکذا القول فی تفاصیله. (1)

قال الغزالی:الإجماع لا یثبت بخبر الواحد خلافاً لبعض الفقهاء،والسرّ فیه أنّ الإجماع دلیل قاطع یحکم به علی الکتاب و السنّة المتواترة،وخبر الواحد لا یقطع به،فکیف یثبت به قاطع،ولیس یستحیل التعبّد به عقلاً لو ورد کما ذکرناه فی نسخ القرآن بخبر الواحد،لکن لم یرد. (2)

وقال الزرکشی:لا یقبل فیه أخبار الآحاد،ولا الظواهر،ونُقل عن الجمهور،وذهب جماعة من الفقهاء إلی ثبوته بهما فی حق العمل خاصّة،ولا ینسخ به قاطع کالحال فی أخبار الآحاد،فإنّها تُقبل فی العملیات لا العلمیات،وأباه الجمهور مفرّقین بینهما بأنّ الأخبار قد تدلّ علی قبولها الأدلّة،ولم یثبت لنا مثلها فی الإجماع،فإن ألحقناه بها کان الحاقاً بطریق القیاس ولا یجری ذلک فی الاُصول إذا لم ینعقد بالقیاس فی قواعد الشریعة،و هذا القول صحّحه عبدالجبار و الغزالی. (3)

وقال موفّق الدّین بن قدامة المقدسی:وذهب قوم إلی أنّ الإجماع لا یثبت بخبر الواحد لأنّ الإجماع دلیل قاطع یحکم به علی الکتاب و السنّة،وخبر الواحد لا یقطع به فکیف یثبت به المقطوع،ولیس ذلک بصحیح،فإنّ الظنّ متّبع فی الشرعیات،

ص:254


1- (1) .إرشاد الفحول:201/1؛المحصول:855/3؛شرح المعالم:111/2.
2- (2) .المستصفی:583/1.
3- (3) .البحر المحیط:493494/3.

والإجماع المنقول بطریق الآحاد بغلب علی الظنّ،فیکون ذلک دلیلاً کالنص المنقول بطریق الآحاد.وقولهم هو دلیل قاطع قلنا:قول النبی صلی الله علیه و آله دلیل قاطع أیضاً فی حقّ من یشافهه أو یبلغه بالتواتر،فهو کالإجماع. (1)

وقال صدر الشریعة فی التوضیح:یجوز أن یکون سند الإجماع خبر الواحد أو القیاس.

وقال التفتازانی فی شرحه:نقل الإجماع إلینا قد یکون بالتواتر،فیفید القطع،و قد یکون بالشهرة،فیقرب منه،و قد یکون بخبر الواحد،فیفید الظنّ ویوجب العمل؛لوجوب اتّباع الظنّ بالدلائل المذکورة. (2)

واستدلّ من قال بجوازه بالنصّ،و هو قوله صلّی اللّه علیه و آله:

«نحن نحکم بالظاهر،والله یتولّی السرائر»

ذکر الظاهر بالألف و اللاّم المستغرقة،فدخل فیه الإجماع الثابت بخبر الواحد؛لکونه ظاهراً ظنیاً.

وقال الماوردی:ولیس الإجماع آکد من سنن الرسول،وهی تثبت بقول الواحد،وسواء کان الناقل له من أهل الاجتهاد أم لا.

وشنّع إمام الحرمین علی الفقهاء إثباتهم الإجماع بالعمومات و الظنّیات،واعتقادهم أنّ مخالفها بتأویل لا یکفّر ولا یفسّق،مع قولهم إنّ مخالف حکم الإجماع یکفّر أو یفسّق،و هو ترجیح للفرع علی الأصل. (3)

واستدلّوا أیضاً بالقیاس،و هو أنّ خبر الواحد عن الإجماع مفید للظنّ،فکان حجّة کخبره عن نصّ الرسول صلّی اللّه علیه و آله. (4)

ص:255


1- (1) .روضة الناظر:93.
2- (2) .التوضیح لمتن التنقیح وشرحه التلویح:110111/2.
3- (3) .راجع:الإحکام:238/1؛البحر المحیط:494/3؛فواتح الرحموت:444/2.
4- (4) .راجع:الإحکام:238/1؛فواتح الرحموت:444/2؛کشف الأسرار:391/3.

وقال فی المهذّب:الدلیل الثانی:الوقوع،حیث ثبت أنّ أکثر الإجماعات مستندة إلی خبر واحد،مثل الإجماع علی وجوب الغسل من التقاء الختانین مع أنّ مستنده خبر عائشة. (1)

واحتجّ المانعون بأنّ کون الإجماع المنقول علی لسان الآحاد أصل من اصول الفقه کالخبر الواحد عن الرسول صلّی اللّه علیه و آله،وذلک ممّا لم یرد من الاُمّة فیه إجماع قاطع یدل علی جواز الاحتجاج به،ولا نصّ قاطع من کتاب أو سنّة،وما عدا ذلک من الظواهر،فغیر محتجّ بها فی الاُصول،و إن احتُجّ بها فی الفروع. (2)

وقالوا أیضاً:إنّ الدلیل الظنّی لا یوجب العلم القطعی،فلا یجوز أن یصدر عنه الإجماع لأنّ الإجماع یوجب العلم القطعی،فالقطعی لا یثبته إلاّ القطعی،والظنّی لا یقوی علی إثبات القطعی. (3)

ولکنّ البعض کالآمدی و الغزالی فصّلا،حیث قالا:والمسألة دائرة علی اشتراط کون دلیل الأصل مقطوعاً به،وعلی عدم اشتراطه،فمن اشترط القطع منع أن یکون خبر الواحد مفیداً فی نقل الإجماع،ومن لم یشترط ذلک کان الإجماع المنقول علی لسان الآحاد عنده حجّة. (4)

رأی الزیدیة فی الإجماع المنقول

***قال بعض الزیدیة:إنّ طرق الإجماع المعلومة لا تخلو:أمّا أن تکون عقلیة أو غیر عقلیة،ولا یجوز أن یحصل لنا علم الإجماع بالعقل؛لأنّه لا هدایة للعقل إلی العلم بأحوال الناس.

ص:256


1- (1) .المهذّب:906/2.
2- (2) .راجع:کشف الأسرار:392/3.
3- (3) .راجع:الإحکام:238/1؛المهذّب:905/2؛نزهة الخاطر:262/1.
4- (4) .راجع:الإحکام:238239/1؛البحر المحیط:494/3؛المستصفی:584/1؛مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت:445/2.

وغیر العقلیة أحد امور:أمّا المشاهدة،وذلک أن تشاهد الجماعة المعتبرة من الاُمّة تقول قولاً فی مسألة أو تفعل فعلاً من الأفعال الشرعیة،أو تترک شیئاً لنهی شرعی أمّا لمقتضی التحریم أو الکراهة،ویعرف ذلک من قصدهم.

أو النقل،وذلک حیث ینقل عن کل واحد،فقطعی وإلاّ فظنّی،یعنی:أن ینقل إلینا الیهود الذین یکون خبرهم متواتراً،أو ینقل إلینا من نثق به من الآحاد الذین تقدّمت صفتهم فی باب الإجماع أنّ الاُمّة قالت قولاً أو فعلت فعلاً علی وجه الإطباق.

وبعد هذه المقدّمة نقول:ویثبت عندنا الإجماع بخبر الواحد،وقال ابن المرتضی بعد الحکایة عن القاضی عبدالجبار وابن الحاجب،بأنّ الإجماع الآحادی حجّة ظنیة:لا وجه للفرق مع کونها جمیعاً حجّة،إذ إثبات کون الإجماع حجّة بدلیل قاطع،فجاز ثبوته من بعد تقرّر کونه حجّة بالآحاد کما فی الأخبار و القیاس. (1)

مسلک علماء الإمامیة فی الإجماع المنقول

**قال الشیخ الطوسی:إذا کان المعتبر فی باب کونهم حجّة،قول الإمام المعصوم علیه السّلام،فالطریق إلی معرفة قوله شیئان:أحدهما:السماع منه،والمشاهدة لقوله،والثانی:النقل عنه بما یوجب العلم،فیعلم بذلک أیضاً قوله،هذا إذا تعین لنا قول المعصوم علیه السّلام،فاذا لم یتعین لنا قول الإمام،ولا ینقل عنه نقلاً یوجب العلم،ویکون قوله فی جملة أقوال الاُمّة غیر متمیز منها،فإنّه یحتاج أن ینظر فی أحوال المختلفین:فکلّ من خالف ممّن یعرف نسبه،ویعلم منشؤه،وعُرف أنّه لیس بالامام الذی دلّ الدلیل علی عصمته وکونه حجّة،وجب اطِّراح قوله،وأن لا یعتدّ به.وتعتبر أقوال الذی لا یعرف نسبهم؛لجواز أن یکون کل واحد منهم الإمام الذی هو الحجّة،وتعتبر أقوالهم فی باب کونهم حجّة.

ص:257


1- (1) .راجع:منهاج الوصول إلی معیار العقول:630631 و 633؛صفوة الاختیار:276 و 280.

فإن قیل:فما قولکم إذا اختلفت الإمامیة فی مسألة،کیف یعلمون أنّ قول الإمام علیه السّلام داخل فی جملة أقوال بعضها دون بعض؟

قلنا:نظرنا فی تلک المسألة:فإن کان علیها دلالة توجب العلم من کتاب أو سنة مقطوع بها تدلّ علی صحّة بعض أقوال المختلفین،قطعنا علی أنّ قول المعصوم موافق لذلک القول ومطابق له.و إن لم یکن علی أحد الأقوال دلیل یوجب العلم،نظرنا فی أحوال المختلفین:فإن کان ممّن عرفناه بعینه ونسبه قائلاً بقول،والباقون قائلون بالقول الآخر،لم نعتبر قول من عرفناه؛لأنّا نعلم أنّه لیس فیهم الإمام المعصوم الذی قوله حجّة.فإن کان فی الفریقین أقوام لا نعرف أعیانهم،ولا أنسابهم،وهم مع ذلک مختلفون،کانت المسألة من باب ما نکون فیها مخیرین بأی القولین شئنا أخذنا،ویجری ذلک مجری الخبرین المتعارضین الذی لا ترجیح لأحدهما علی الآخر. (1)

وقال فی المعالم:اختلف الناس فی ثبوت الإجماع بخبر الواحد بناءً علی کونه حجّة،فصار إلیه قوم وأنکره آخرون،والأقرب الأوّل.لنا:إنّ دلیل حجیة خبر الواحد یتناوله بعمومه فیثبت به کما یثبت غیره.احتجّ الخصم بأنّ الإجماع أصل من اصول الدّین،فلا یثبت بخبر الواحد. (2)

ولکن؛استشکل علیه سلطان العلماء،حیث قال:لا معنی لکون ذات الإجماع أصلاً من اصول الدّین؛لأنّ المراد بالاُصول هنا الضوابط و القواعد التی یستنبط منها الفروع،وهی المعلومات التصدیقیة،و إن أراد به کون الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّةً أصل من اصول الدّین،فمسلّم.لکن لم یثبت هذا بخبر الواحد،بل بما ثبت به حجّیة خبر الواحد. (3)

ص:258


1- (1) .العدة فی اصول الفقه:628630/2؛وراجع أیضاً:معالم الاُصول:247249.
2- (2) .معالم الاُصول:249.
3- (3) .معالم الاُصول ذیل صفحة 249 رقم 3.

الخلاصة

قد تقدّم إنّه لا بدّ للإجماع من مستند،فذلک المستند:إمّا أن یکون دلیلاً ظنّیاً کخبر الواحد،و إمّا أن یکون دلیلاً قطعیاً کالخبر المتواتر.ذهب بعض العلماء من الفریقین إلی أنّ مستند الإجماع لا یکون إلاّ دلیلاً قطعیاً،ولا ینعقد الإجماع بخبر الواحد.

قال الآمدی:اختلفوا فی ثبوت الإجماع بخبر الواحد،فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبی حنیفة و الحنابلة،وأنکره جماعة من أصحاب أبی حنیفة وبعض أصحابنا کالغزالی،مع اتّفاق الکلّ علی أنّ ما ثبت بخبر الواحد لا یکون إلاّ ظنّیاً فی سنده،و إن کان قطعیاً فی متنه.

وحکی الرازی فی المحصول عن الأکثر أنّه لیس بحجّة،فقال:الإجماع المروی بطریق الآحاد حجّة،خلافاً لأکثر الناس؛لأنّ ظنّ وجوب العمل به حاصل،فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون.

وقال الغزالی:الإجماع لا یثبت بخبر الواحد،والسرّ فیه أنّ الإجماع دلیل قاطع یحکم به علی الکتاب و السنّة المتواترة،وخبر الواحد لا یقطع به،فکیف یثبت به قاطع،ولیس یستحیل التعبّد به عقلاً.

وقال الزرکشی:لا یقبل فیه أخبار الآحاد،ولا الظواهر،وذهب جماعة من الفقهاء إلی ثبوته بهما فی حقّ العمل خاصّة،ولا ینسخ به قاطع کالحال فی أخبار الآحاد،فانّها تقبل فی العملیات لا العلمیات،وأباه الجمهور مفرّقین بینهما بأنّ الأخبار قد تدلّ علی قبولها الأدلّة،ولم یثبت لنا مثلها فی الإجماع.

واستدلّ من قال بجوازه بالنص،و هو قوله صلّی اللّه علیه و آله:«نحن نحکم بالظاهر و الله یتولّی السرائر»،فدخل فیه الإجماع الثابت بخبر الواحد؛لأنّ الألف و اللاّم فی لفظة الظاهر للاستغراق.

ص:259

وقال الماوردی:ولیس الإجماع آکد من سنن الرسول،وهی تثبت بقول الواحد.واستدلّوا أیضاً بالقیاس،و هو أنّ خبر الواحد عن الإجماع مفید للظنّ،فکان حجّة کخبره عن نصّ الرسول صلّی اللّه علیه و آله.کما استدلّوا بالوقوع،حیث ثبت أنّ أکثر الإجماعات مستندة إلی خبر واحد،مثل الإجماع علی وجوب الغسل من التقاء الختانین مع أنّ مستنده خبر عائشة.

واحتجّ المانعون بأنّ کون الإجماع المنقول علی لسان الآحاد أصل من اصول الفقه کالخبر الواحد عن الرسول صلّی اللّه علیه و آله،وذلک ممّا لم یرد من الاُمّة فیه إجماع قاطع یدلّ علی جواز الاحتجاج به،ولا نصّ قاطع من کتاب أو سنّة،وما عدا ذلک من الظواهر،فغیر محتجّ بها فی الاُصول،و إن احتجّ بها فی الفروع.وقالوا أیضاً:إنّ الدلیل الظنّی لا یوجب العلم القطعی،فلا یجوز أن یصدر عنه الإجماع؛لأنّ الإجماع یوجب العلم القطعی،فالقطعی لا یثبته إلاّ القطعی،والظنّی لا یقوی علی إثبات القطعی.

لکنّ البعض کالآمدی و الغزالی فصّلا بأنّ المسألة دائرة علی اشتراط کون دلیل الأصل مقطوعاً به،وعلی عدم اشتراطه،فمن اشترط القطع منع أن یکون خبر الواحد مفیداً فی نقل الإجماع،ومن لم یشترط ذلک کان الإجماع المنقول علی لسان الآحاد عنده حجّة.

قال بعض الزیدیة:إنّ طرق الإجماع المعلومة لا تخلو:أمّا أن تکون عقلیة أو غیر عقلیة،ولا یجوز أن یحصل لنا علم الإجماع بالعقل؛لأنّه لا هدایة للعقل إلی العلم بأحوال الناس.

وغیر العقلیة أحد امور:أمّا المشاهدة،أو النقل،ثمّ قال:ویثبت عندنا الإجماع بخبرالواحد.

قال الشیخ الطوسی:إذا کان المعتبر فی باب کونهم حجّة،قول المعصوم علیه السّلام،فالطریق إلی معرفة قوله شیئان:أحدهما:السماع منه،والمشاهدة لقوله،والثانی:النقل

ص:260

عنه بما یوجب العلم،فیعلم بذلک أیضاً قوله،هذا إذا تعین لنا قول المعصوم علیه السّلام،فإذا لم یتعین لنا قول الإمام،ولا ینقل عنه نقلاً یوجب العلم،ویکون قوله فی جملة أقوال الاُمّة غیر متمیز منها،فإنّه یحتاج أن ینظر فی أحوال المختلفین،فکلّ من خالف ممّن یعرف نسبه،ویعلم منشؤه،وعُرف أنّه لیس بالامام،وجب اطِّراح قوله،وتعتبر أقوال الذی لا یعرف نسبهم؛لجواز أن یکون کل واحد منهم الإمام علیه السّلام.

وقال فی المعالم:الأقرب أنّه یثبت بخبر الواحد.لنا:إنّ دلیل حجیة خبر الواحد یتناوله بعمومه فیثبت به کما یثبت غیره.واحتجّ الخصم بأنّ الإجماع أصل من اصول الدّین،فلا یثبت بخبر الواحد.

لکن،استشکل علیه سلطان العلماء،حیث قال:لا معنی لکون ذات الإجماع أصلاً من اصول الدّین؛لأنّ المراد بالاُصول هنا الضوابط و القواعد التی یستنبط منها الفروع،و إن أراد به کون الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّةً أصل من اصول الدّین،فمسلّم.لکن لم یثبت هذا بخبر الواحد،بل بما ثبت به حجّیة خبر الواحد.

ص:261

الأسئلة

1.علی رأی الرازی لماذا یکون الإجماع المروی بطریق الآحاد حجّة؟

2.اُذکر الأدلّة التی أقامها المجوّزون لإثبات حجیة الإجماع بخبر الواحد.

3.اُذکر الأدلّة التی أقامها المانعون.

4.بین ووضّح تفصیل الآمدی و الغزالی فی الإجماع المنقول بخبر الواحد.

5.اُذکر طرق الإجماع التی قالها بعض الزیدیة.

6.بین ووضّح کلام الشیخ الطوسی فی الإجماع المنقول بطریق آحادی.

7.لماذا لا معنی لکون ذات الإجماع أصلاً من اصول الدّین؟

ص:262

الدرس الخامس و الثلاثون بعد المئة

هل الإجماع المنقول بخبر الواحد یکون من مصادیق خبر الواحد؟

**إنّ ظاهر أکثر القائلین باعتباره بالخصوص،و أنّ الدلیل علیه هو الدلیل علی حجیة خبر العادل،فهو عندهم کخبر صحیح عالی السند؛لأنّ مدّعی الإجماع یحکی مدلوله،ویرویه عن الإمام علیه السّلام بلا واسطة،ویدخل الإجماع ما یدخل الخبر من الأقسام،ویلحقه ما یلحقه من الأحکام.

والمقصود من ذکر الإجماع المنقول مقدّماً علی بیان الحال فی الأخبار،هو التعرّض لفردیة الإجماع المنقول بخبر الواحد حتّی یشمله دلیل اعتباره؛لکونه من أفراده،إذ الحکم الثابت للکلّی مستلزم لإثباته لبعض أفراده.

ثمّ قال الشیخ الأعظم:والذی یقوی فی النظر هو عدم الملازمة بین حجّیة الخبر وحجّیة الإجماع المنقول؛لأنّ الأدلّة الخاصّة التی أقاموها علی حجّیة خبر العادل لا تدلّ إلاّ علی حجیة الإخبار عن حسّ. (1)

وقال الفاضل القمّی فی قوانینه:الأقرب أنّ الإجماع المنقول خبر؛لأنّ

ص:263


1- (1) .فرائد الاُصول:179180/1؛منتهی الدرایة:346/4.

قول العدل:أجمع العلماء علی کذا،یدلّ بالالتزام علی نقل قول المعصوم علیه السّلام أو فعله أو تقریره الکاشفات عن اعتقاده،علی طریقة المشهور،أو علی رأیه واعتقاده علی الطریقة التی اخترنا،فکأنّه أخبرعن اعتقاد المعصوم إخباراً ناشئاً عن علم،فهو نبأ وخبر. (1)

أقول:معلوم أنّ قول العدل:أجمع العلماء علی کذا،یدلّ بالمطابقة علی نقل الإجماع،ولتضمّن الإجماع قول المعصوم علیه السّلام یدلّ بالالتزام علی نقل ذلک القول،فهو بمثابة أن یقول:قال الإمام کذا.

قیل فی توضیح عنوان(حجّیة الإجماع المنقول بخبر الواحد):إنّ المنظور منه الإجماع الذی هو من أقسام السنّة،فهذا الباب وباب خبر الواحد من واد واحد،فکلاهما نقل للسنّة،والفرق بین الإجمال و التفصیل،فخبر الواحد نقل للسنّة التفصیلیة،ونقل الإجماع نقل للسنّة الإجمالیة.

وعلیه،فالنزاع فی هذا الباب مختصّ بالقائلین بحجّیة خبر الواحد،و أمّا المنکرون لها فمستریحون من ذلک.

وجملة القول:إنّ هذه المسألة من فروع الإجماع المحصّل،ولذا یذکرونها عقبه،والقائلون بحجّیة الإجماع المنقول،ومنهم الفاضل القمّی،کأنّهم یقولون:الأقرب کون الإجماع المنقول فی حکم محصّله من حیث الحجیة.

ومن المنکرین لحجّیة خبر الواحد السید المرتضی،فإنّه بعد أن منع من حجّیة الخبر الواحد بین وجه الاستغناء عنه فی معرفة الأحکام،فذکر لها طرقاً ولم یذکر من جملتها نقل الإجماع،ولو کان ذلک عنده من جملة الطرق لذکره واستراح به لعظم فوائده وکثرة موارده،ولذا لم یعنون مبحث الإجماع المنقول بخبر الواحد فی ذریعته.

ص:264


1- (1) .قوانین الاُصول:384.

الخلاف فی حجیة الإجماع المنقول

وحیث کان حکم المنقول علی نحو التواتر،فحکم المحصّل من جهة الحجیة لم یتعرّضوه،قال فی الفصول:لا کلام فی حجیة نقل الإجماع بالخبر المتواتر إن کان المنقول اتّفاق جماعة احدهم المعصوم. (1)

وأطلقوا عنان البحث نحو المنقول بخبر الواحد،فعلی هذا إذا اطلق قول الإجماع المنقول فی لسان الاُصولیین،فالمراد منه هذا الأخیر.

وفی ضوء ما ذکرناه اتّضح أنّ النزاع فی المسألة مقصور علی القول بحجیة خبر الواحد،و أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد من صغریاتها،و قد ذهب جمّ غفیر من الاعیان إلی حجیة الإجماع المنقول،منهم:الشیخ الطوسی،وصاحب المعالم،والفاضل القمّی کما عرفت.

قال فی الفصول:الذی یظهر أنّ المتقدّمین علی المحقّق لم یتعرّضوا لهذه المسألة لا عموماً ولا خصوصاً.

و أمّا المحقّق،فهو و إن لم یتعرّض لهذه المسألة أیضاً بعنوان کلّی،لکن منع من حجیة جملة من الإجماعات المحکیة،کالإجماع الذی حکاه السید علی دلالة الأمر علی الفور،والإجماع الذی حکاه بعض القائلین بتضییق قضاء الفریضة علیه،فردّ علیهم بأنّ الإجماع غیر ثابت،وأنّه حجّة فی حقّ من علمه،إلی أن قال:وذهب العلاّمة فی تهذیبه إلی حجّیته،واختاره فی نهایته،واشتهر القول بحجّیته بین من تأخّر عنه،إلاّ أنّ طریقتهم فی الفقه جاریة غالباً علی عدم الاعتداد به،وعدم ذکره فی طی الأدلّة،وردّه بمنع ثبوته وعدم تحقّقه،وإلی أن قال:فالمختار عندی ما ذهب إلیه القائلون بالإثبات.

ثمّ استدلّ علی مختاره بأنّ ناقل الإجماع ناقل لقول المعصوم،ولو بالالتزام.فما دلّ

ص:265


1- (1) .الفصول الغرویة:258.

علی جواز التعویل علی نقل الآحاد فی السنّة،یدلّ علی جواز التعویل علیه فی الإجماع أیضاً.

بیان ذلک:إنّا إن عوّلنا فی حجّیة خبر الواحد فی السنّة علی قاعدة انسداد باب العلم،مع العلم ببقاء التکلیف،فهی علی ما حقّقناه یقتضی جواز التعویل علی الظنّ فی الأدلّة،ولا ریب أنّ نقل الإجماع ممّا یظنّ حجیته لمصیر أکثر أصحابنا المتعرّضین له إلیه. (1)

اختلاف نقل الإجماع مناط الاختلاف فی حجّیته

نقل الإجماع یتصوّر ثبوتاً علی نحوین:الأوّل:نقل السبب و المسبّب معاً،الثانی:نقل السبب فقط،والمراد بالسبب هنا فتاوی العلماء الکاشفة عن رأی المعصوم علیه السّلام،والمسبّب هو نفس قوله علیه السّلام.

أمّا النحو الأوّل:فتارةً یکون کلاهما حسّیین کالإجماع الدخولی،فإنّ ناقل الإجماع الدخولی ینقل کلاًّ من السبب و المسبّب عن حسّ،کما إذا قال:اتّفق المسلمون أو أجمعوا.الظاهر فی دخول الإمام علیه السّلام فی ضمنهم،واُخری یکون السبب حسّیاً و المسبّب حدسیاً،کما فی غیر الإجماع الدخولی من اللّطفی و التقریری،والمراد بالحدس هنا مطلق ما لم یستند إلی إحدی الحواس الظاهرة،فیشمل جمیع أقسام الإجماع إلاّ الدخولی و التشرفی؛لأنّ الدخولی السبب و المسبّب کلیهما فیه حسّیان،و أمّا التشرّفی فلخروجه عن الإجماع موضوعاً و إن سُمّی به.

و أمّا النحو الثانی:أعنی نقل السبب فقط،فحاصله:إنّ غرض ناقل الإجماع هو نقل نفس السبب،و هو اتّفاق العلماء الظاهر فی عدم شموله للإمام علیه السّلام،ولا بدّ فی صحّة نقله من کون الاتّفاق فی نظره سبباً للکشف عن قول المعصوم علیه السّلام.

ص:266


1- (1) .الفصول الغرویة:258؛یؤخذ ما حقّقه فی دلیل الانسداد من الدلیل الثامن علی حجیة خبر الواحد:277278.

إذا عرفت ما ذکر،یظهر لک:إنّه إذا کان نقل الإجماع متضمّناً لنقل السبب و المسبّب معاً عن حسّ،کما فی الإجماع الدخولی،فلا إشکال فی شمول أدلّة حجیة خبر الواحد له،لکون نقل الإجماع حینئذٍ من أخبار الآحاد الحسیة،و إن کان نقل الإجماع متضمّناً لنقل السبب فقط عن حسّ،فهو یتصور علی وجهین:

الأوّل:أن یکون ذلک السبب سبباً فی نظر کلّ من الناقل و المنقول إلیه،فیکون المسبّب اللازم له حسیاً أیضاً،و هذا القسم من الإجماع کالقسم المتقدّم فی الحجّیة وشمول أدلّة اعتبار خبر الواحد له؛لأنّه لمّا کان السبب الحسّی سبباً فی نظر المنقول إلیه أیضاً،کان المسبّب اللازم له حسیاً أیضاً،لکن بدلالة التزامیة،ولا فرق فی حجیة الخبر بین مدلوله المطابقی کالقسم السابق وبین مدلوله الالتزامی کهذا القسم،فإنّ الحکم المدلول علیه بالخبر سواء کان محکیاً بالدلالة المطابقیة أم الالتزامیة،یکون الخبر الدال علیه حجّة،والمفروض فی المقام کون رأی الإمام علیه السّلام لازماً عقلیاً للسبب الذی یحکیه ناقل الإجماع کما فی قاعدة اللّطف،أو شرعیاً کما فی التقریر،أو عادیاً کما فی غیرهما.

وقال الآخوند الخراسانی:یعامل مع هذا الإجماع المنقول معاملة الإجماع المحصّل. (1)

الثانی:أن یکون سبباً فی نظر الناقل فقط،والأظهر فیه عدم شمول أدلّة حجیة الخبر له؛لأنّه لما لم یکن السبب فی نظر المنقول إلیه سبباً حسیاً،لم یکن المسبّب فی نظره حسیاً،فلا تشمله أدلّة حجیة الخبر،إذ المتیقّن من دلیلها اللبی،وکذا المنصرف من دلیلها اللّفظی من الآیات و الروایات-بعد تسلیم دلالتهما-هو الخبر الحسّی.

فعلی هذا،لمّا کان نقل الناقل للمسبّب لا عن حسّ،بأن نقل حاکی الإجماع السبب عن حسّ،فیکون نقله للمسبب عن حسّ أیضاً للملازمة بین اتّفاق العلماء وبین

ص:267


1- (1) .منتهی الدرایة:359/4؛کفایة الاُصول:7074/2.

المسبّب عادة،أو بملازمة ثابتة عند الناقل اتّفاقاً عادةً،لکن لمّا لم یکن هذا السبب سبباً بنظر المنقول إلیه،فیکون مسبّبه مسبّباً عن حدس،فلا تشمله أدلّة حجیة الخبر.

و أمّا إذا اشتبه بأن نقل المسبّب عن حسّ أو حدس ولم یحرزکون نقل الإجماع بالنسبة إلی المسبّب حسیاً أو حدسیاً،فلا یبعد القول باعتباره; لأنّ بناء العقلاء قد استقرّ علی العمل بالخبر المشکوک کونه عن حسّ،کاستقراره علی العمل بالخبر المعلوم کونه عن حسّ،ولذا لو اعتذر شخص عن عدم العمل بالخبر باحتمال کونه عن حدس،لم یقبل ذلک منه،ولیس إلاّ لأجل بنائهم علی العمل بالمشکوک کونه عن حسّ کبنائهم علی العمل بالمعلوم کونه عن حسّ.

ومن هنا یظهر أنّ مستند حجّیة الخبر إن کان هو الآیات و الروایات،وادّعی انصرافهما إلی خصوص الخبر الحسّی،لم یقدح ذلک فی الاعتماد علی بناء العقلاء المقتضی لإلحاق المشکوک کونه عن حسّ بالمعلوم کذلک؛لوضوح أنّ الآیات و الروایات لا تتکفّل حکم الشکّ،بخلاف بناء العقلاء،فإنّه یتکفّل ذلک،فلا تنافی بین عدم دلالتهما إلاّ علی اعتبار الخبر الحسّی،وبین بناء العقلاء علی الحاق المشکوک بالمعلوم،هذا.

نعم،استدراک المحقّق الخراسانی من بناء العقلاء علی العمل علی طبق ما أخبروا به بلا توقّف وتفتیش،لا یبعد أن یکون ذلک فی غیر صورة وجود الأمارة علی الحدس،أو اعتقاد الناقل الملازمة بین السبب و المسبّب مع عدم ثبوتها عند المنقول إلیهم،فإذا کان هناک أمارة علی الحدس أو علی اعتقاد الناقل الملازمة فیما لم یعتقدها فیه المنقول إلیهم،لم یحرز بناء العقلاء فی هاتین الصورتین علی معاملة الخبر الحسّی مع المشکوک کونه عن حسّ. (1)

ص:268


1- (1) .راجع:منتهی الدرایة:362/4.

وکیف کان،فإن دلّ لفظ الإجماع-ولو بقرینة-علی اتّفاق یکون تمام السبب فی الکشف عن قول المعصوم علیه السّلام أخذ به کقول الناقل:أجمع أصحابنا،أو أجمع فقهاء أهل البیت،أو اتّفقت الإمامیة،أو هذا ممّا انفردت به الإمامیة،و إن لم یکن نقل الإجماع تمام السبب فی استکشاف رأی الإمام علیه السّلام،فَیضم إلیه ممّا حصّله من سائر الأقوال أو الأمارات مقداراً یوجب سببیته للکشف عن رأی المعصوم علیه السّلام.

وبالجملة،فلا اعتبار بنقل الإجماع فی هذه الأعصار بحیث یکون دلیلاً فی المسألة علی حذو سائر الأدلّة،بل لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا النقل بالنسبة إلی السبب هل هو حسّی أم لا؟فإن کان حسیاً،فهل یکون سبباً تامّاً للکشف عن رأیه علیه السّلام أم لا؟فإن کان تامّاً،فلا إشکال فیه،وإلاّ فلا بدّ فی الاعتماد علیه من ضمّ أمارات إلیه إلی أن یتمّ سببیته،هذا.

و إذا اتّضح لک ما شرحناه،یتّضح لک أنّ الأولی التفصیل الذی ذکرناه فی الإجماع المنقول وفاقاً لمعظم المحقّقین کالشیخ الأعظم وتلامیذه.فی حین إذا کان الإجماع المنقول سبباً تامّاً لکشفه عن رأی المعصوم عند الناقل و المنقول إلیه،و إذا کان السبب و المسبّب حسیاً أو کان الخبر مشکوکاً کونه عن حسّ،ویکون الإجماع فی هذه الصور حجّة؛لشمول أدلّة حجیة خبر الواحد له،وفی غیر هذه لا یکون حجّة؛لعدم شمولها له. (1)

ص:269


1- (1) .راجع:فرائد الاُصول:202/1؛کفایة الاُصول:7074/2؛منتهی الدرایة:355370/4؛فوائد الاُصول:152/3؛اُصول الفقه:368369/2؛بحوث فی علم الاُصول:320/4؛تهذیب الاُصول:168/2؛مصباح الاُصول:138/2 135.

الخلاصة

إنّ ظاهر أکثر القائلین باعتبار الإجماع المنقول بخبر الواحد من مصادیقه بالخصوص،و أنّ الدلیل علیه هو الدلیل علی حجیة خبر العادل،فهو عندهم کخبر صحیح عالی السند؛لأنّ مدعی الإجماع یحکی مدلوله،ویرویه عن الإمام علیه السّلام بلا واسطة،ویدخل الإجماع ما یدخل الخبر من الأقسام،ویلحقه ما یلحقه من الأحکام.

قال الشیخ الأعظم الأنصاری:والذی یقوی فی النظر هو عدم الملازمة بین حجّیة الخبر وحجّیة الإجماع المنقول؛لأنّ الأدلّة الخاصّة التی أقاموها علی حجّیة خبر العادل لا تدلّ إلاّ علی حجیة الإخبار عن حسّ.

وقال الفاضل القمّی:الأقرب أنّ الإجماع المنقول خبر؛لأنّ قول العدل:أجمع العلماء علی کذا،یدلّ بالالتزام علی نقل قول المعصوم علیه السّلام أو فعله أو تقریره الکاشفات عن اعتقاده،علی طریقة المشهور،أو علی رأیه واعتقاده علی الطریقة التی اخترنا،فکأنّه أخبرعن اعتقاد المعصوم إخباراً ناشئاً عن علم،فهو نبأ وخبر.

أقول:قول العدل:أجمع العلماء علی کذا،یدلّ بالمطابقة علی نقل الإجماع،ولتضمّن الإجماع قول المعصوم علیه السّلام،فهو بمثابة:قال الإمام کذا.

وحیث کان حکم المنقول علی نحو التواتر،فحکم المحصّل من جهة الحجّیة لم یتعرّضوه،وأطلقوا عنان البحث نحو المنقول بخبر الواحد،فعلی هذا إذا اطلق قول الإجماع المنقول فی لسان الاُصولیین،فالمراد منه هذا الأخیر.

وفی ضوء ما ذکرناه اتّضح أنّ النزاع فی المسألة مقصور علی القول بحجیة خبر الواحد،و أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد من صغریاتها،و قد ذهب جمٌّ غفیر من الأعیان إلی حجیة الإجماع المنقول.

قال فی الفصول:الذی یظهر أنّ المتقدّمین علی المحقّق لم یتعرّضوا لهذه المسألة

ص:270

لا عموماً ولا خصوصاً.و أمّا المحقّق،فهو و إن لم یتعرّض لهذه المسألة أیضاً بعنوان کلّی،لکن منع من حجیة جملة من الإجماعات المحکیة.وذهب العلاّمة فی تهذیبه إلی حجّیة الإجماع المنقول،واختاره فی نهایته،واشتهر القول بحجّیته بین من تأخّر عنه،إلاّ انهم فی الفقه لا یعولون علیه.

واستدلّ فی الفصول علی أنّ الإجماع المنقول حجّة بأنّ ناقل الإجماع ناقل لقول المعصوم،ولو بالالتزام.فما دلّ علی جواز التعویل علی نقل الآحاد فی السنّة،یدل علی جواز التعویل علیه فی الإجماع أیضاً.

اختلاف نقل الإجماع مناط الاختلاف فی حجّیته،إذ نقل الإجماع یتصوّر ثبوتاً علی نحوین:الأوّل:نقل السبب و المسبّب معاً،الثانی:نقل السبب فقط،والمراد بالسبب هنا فتاوی العلماء الکاشفة عن رأی المعصوم علیه السّلام،والمسبّب هو نفس قوله علیه السّلام.

أمّا النحو الأوّل:فتارةً یکون کلاهما حسیین کالإجماع الدخولی،فإنّ ناقل الإجماع الدخولی ینقل کلاًّ من السبب و المسبّب عن حسّ،واُخری یکون السبب حسّیاً و المسبّب حدسیاً،کما فی غیر الإجماع الدخولی من اللّطفی و التقریری،والمراد بالحدس هنا مطلق ما لم یستند إلی إحدی الحواس الظاهرة،فیشمل جمیع أقسام الإجماع إلاّ الدخولی.

و أمّا النحو الثانی:أعنی نقل السبب فقط،فحاصله أنّ غرض ناقل الإجماع هو نقل نفس السبب،و هو اتّفاق العلماء الظاهر فی عدم شموله للإمام علیه السّلام،ولا بدّ فی صحّة نقله من کون الاتّفاق فی نظره سبباً للکشف عن قول المعصوم.

إذا عرفت ما ذکر،یظهر لک:إنّه إذا کان نقل الإجماع متضمّناً لنقل السبب و المسبّب معاً عن حسّ،کما فی الإجماع الدخولی،فلا إشکال فی شمول أدلّة حجیة خبر الواحد له،و إن کان نقل الإجماع متضمّناً لنقل السبب فقط عن حسّ،فهو یتصور علی وجهین:

ص:271

الأوّل:أن یکون ذلک السبب سبباً فی نظر کلّ من الناقل و المنقول إلیه،فیکون المسبّب اللاّزم له حسیاً أیضاً،و هذا القسم من الإجماع کالقسم المتقدّم فی الحجّیة وشمول أدلّة اعتبار خبر الواحد له.

الثانی:أن یکون سبباً فی نظر الناقل فقط،والأظهر فیه عدم شمول أدلّة حجیة الخبر له؛لأنّه لما لم یکن السبب فی نظر المنقول إلیه سبباً حسیاً،لم یکن المسبّب فی نظره حسیاً،فلا تشمله أدلّة حجیة الخبر،إذ المتیقّن من دلیلها اللبی،وکذا المنصرف من دلیلها اللّفظی من الآیات و الروایات،والدلیل اللبّی هو الخبر الحسّی.

و أمّا إذا اشتبه فنقل المسبّب عن حسّ أو حدس ولم یحرزکون نقل الإجماع بالنسبة إلی المسبّب حسیاً أو حدسیاً،فلا یبعد القول باعتباره؛لأنّ بناء العقلاء قد استقرّ علی العمل بالخبر المشکوک کونه عن حسّ،کاستقراره علی العمل بالخبر المعلوم کونه عن حسّ.ومن هنا یظهر أنّ مستند حجیة الخبر إن کان هو الآیات و الروایات،وادّعی انصرافهما إلی خصوص الخبر الحسّی،لم یقدح ذلک فی الاعتماد علی بناء العقلاء المقتضی لإلحاق المشکوک کونه عن حسّ بالمعوم کذلک؛لوضوح أنّ الآیات و الروایات لا تتکفّل حکم الشکّ،بخلاف بناء العقلاء.

نعم،ذلک إذا لم یکن أمارة علی الحدس،أو اعتقاد الناقل الملازمة بین السبب و المسبّب مع عدم ثبوت الملازمة عند المنقول إلیه،فإذا کان هناک أمارة علی الحدس أو علی اعتقاد الناقل الملازمة فیما لم یعتقدها فیه المنقول إلیهم،لم یحرز بناء العقلاء،فی هاتین الصورتین علی معاملة الخبر الحسّی مع المشکوک کونه عن حسّ.

وکیف کان،فإن دلّ لفظ الإجماع-ولو بقرینة-علی اتّفاق یکون تمام السبب فی الکشف عن قول المعصوم علیه السّلام أخذ به کقول الناقل:أجمع أصحابنا أو فقهاء أهل البیت،و إن لم یکن نقل الإجماع تمام السبب فی استکشاف رأی الإمام علیه السّلام،فَیضم إلیه ممّا حصّله من سائر الأقوال أو الأمارات مقداراً یوجب سببیته للکشف عن رأی

ص:272

المعصوم علیه السّلام.فلا اعتبار بنقل الإجماع فی هذه الأعصار بحیث یکون دلیلاً فی المسألة علی حذو سائر الأدلّة،بل لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا النقل بالنسبة إلی السبب هل هو حسّی أم لا؟فإن کان حسیاً،فهل یکون سبباً تامّاً للکشف عن رأیه علیه السّلام أم لا؟فإنّ کان تامّاً،فلا إشکال فیه،وإلاّ فلا بدّ فی الاعتماد علیه من ضمّ أمارات إلیه إلی أن یتمّ سببیته،هذا.

ص:273

الأسئلة

1.لماذا یکون الدلیل علی اعتبار الإجماع المنقول بالآحاد هو الدلیل علی حجّیة خبر العادل؟

2.اُذکر رأی الفاضل القمّی.

3.بین ووضح دلالة قول العدل:«أجمع العلماء علی کذا»علی نقل قوله علیه السّلام؟

4.اُذکر استدلال صاحب الفصول علی حجّیة إجماع المنقول بخبر الواحد.

5.اُذکر أنواع نقل الإجماع ثبوتاً ثمّ وضحّ لماذا یکون الإجماع الدخولی حجّة؟

6.ما هو المراد بالحدس هنا؟

7.وضّح صورة إذا کان نقل الإجماع متضمّناً لنقل السبب فقط عن حسّ.

8.لماذا لا یبعد القول باعتبار نقل الإجماع إذا اشتبه فنقل المسبّب عن حدس أو حسّ؟

9.لماذا لم یحرز بناء العقلاء لإلحاق المشکوک کونه عن حسّ إذا کان هناک أمارة علی الحدس أو علی اعتقاد الناقل الملازمة؟

10.اُذکر فذلکة الکلام فی البحث المذکور ووضّح صورة عدم حجیة إجماع المنقول بالخبر الواحد.

ص:274

المبحث الرابع:القیاس

اشارة

ص:275

ص:276

الدرس السادس و الثلاثون بعد المئة

تمهید

*الواجب علی المجتهد طلب حکم الحادثة من کتاب الله،ثمّ من سنّة رسول الله صلی الله علیه و آله بصریح النصّ أو دلالته علی ما مرّ ذکره،فإنّه لا سبیل إلی العمل بالرأی مع إمکان العمل بالنصّ،ولهذا إذا اشتبهت علیه القبلة،فأخبره واحد عنها،لا یجوز له التحرّی.ولو وجد ماءً،فأخبره عدلٌ أنّه نجس،لا یجوز له التوضی به،بل یتیمّم.وعلی اعتبار أنّ العمل بالرأی دون العمل بالنصّ،قلنا:إنّ الشبهة بالمحلّ أقوی من الشبهة فی الظنّ (1)حتّی سقط اعتبار ظنّ العبد فی الفصل الأوّل(و هو الشبهة فی المحلّ)

ص:277


1- (1) .الشبهة:هو ما یشبه الثابت و الحقّ،ولیس بحقّ.فقد تکون شبهة فی الفعل،و هو ما تثبّت بظنّ غیر الدلیل دلیلاً کظنّ حِلّ وط ء أمة أبویه وعرسه،و قد تسمّی هذه الشبهة بشبهة اشتباه،و قد تکون شبهة فی المحلّ،وهی ما تحصل بقیام دلیل ناف للحرمة ذاتاً کوط ء أمة ابنه؛لقوله صلّی اللّه علیه و آله:«أنت ومالک لأبیک»أی:إذا نظرنا إلی الدلیل مع قطع النظر عن المانع یکون منافیاً للحرمة،و قد تسمّی شبهة الدلیل،والشبهة الحکمیة،وقیل:یورث هذا الدلیل شبهة فی حلّ ما لیس بحلال أو عکسه،و هذا النوع من الشبه لا یتوقّف تحقّقه علی ظنّ الجانی واعتقاده،بخلاف القسم الأوّل،فإذا تحقّقت کلتا الشبهتین،فلا بدّ من أن یکون القسم الثانی من الشبهة فی المحلّ لنشوئه عن النصّ،ویکون أقوی من الأوّل حتّی یسقط اعتبار ظنّ العبد؛لاستناده إلی رأیه وظنّه.التعریفات للعلاّمة الجرجانی:199; أحسن الحواشی:82; تسهیل أصول الشاشی:164 و 165; الفقه علی المذاهب الأربعة:123124/4.

ومثاله:فی ما إذا وطئ جاریة ابنه لا یحَدّ،و إن قال:علمتُ أنّها عَلی حرام، (1)ویثبت نسب الولد منه؛لأنّ شبهة الملک له تثبت بالنصّ فی مال الابن،قال علیه الصلاة و السلام:«أنت ومالکَ لأبیک»، (2)فسقط اعتبار ظنّه فی الحِلّ و الحرمة فی ذلک،ولو وطئ الابن جاریة أبیه،یعتبر ظنّه فی الحِلّ و الحرمة،

ص:278


1- (1) .قوله:«لا یحدّ،و إن قال:علمتُ أنّها علی حرام»،فیه: أوّلاً:قال داود:یحدّ،وقال بعض الشافعیة:إن کان ابنه وطئها حدّ؛لأنّها محرّمة علیه علی التأبید.المغنی و الشرح الکبیر:529/7. وثانیاً:کیف تثبت الشبهة مع کونه عالماً بالحرمة؟فإنّ العلم بالحرمة لا یجتمع مع الشبهة بها،وحینئذٍ لا یکون شبهة ملک،فأشبه وط ء الأجنبیة،والحدود تدرأ بالشبهات إذا کانت الشبهة موجودة،و أمّا إذا لم تکن موجودة بوجود العلم بالحرمة،فکیف یدرأ الحدّ.نعم،إذا لم یکن عالماً بالحرمة،فالشبهة موجودة،ولا یحدّ،ویثبت النسب أیضاً.وفی الصورة السابقة لم یثبت النسب؛لأنّ الوط ء لا یکون وط ء شبهة،بل یکون زناً. وقال العلاّمة الحلّی:لو ملک الأب أو الابن جاریة،فلا یجوز لأحدهما أن یطأ مملوکة الآخر إلاّ بعقد أو ملک،ولو بادر أحدهما فوطأ مملوکة الآخر عن شبهة،کان زانیاً،لکن لیس علی الأب حدّ،ویجب علی الإبن،ولو کان هناک شبهة سقط الحدّ عنه أیضاً.تذکرة الفقهاء:ج2 کتاب النکاح،الفصل الثالث فی المصاهرة.(مخطوط). وقال الشهید الأوّل:کلّ من وطئ حراماً بعینه،فعلیه الحدّ مع العلم بالتحریم،إلاّ فی مواضع:کوط ء الأب جاریة ابنه،أو الغانم جاریة المغنم علی قول.القواعد و الفوائد:22/2.لکنّه فی بحث الشبهة قال:ویترتّب علی الشبهة أحکام خمسة:الأوّل:سقوط الحدّ عمّن اشتبه علیه منهما دون الآخر،وشبهة الملک یشترط فیها توهّم الحلّ،وإلاّ حُدّ بقدر نصیب صاحبه.القواعد و الفوائد:377378/1.و هذا الکلام منه موافق لما قلناه من أنّ قوله:«و إن قال:علمت أنّها علی حرام»لا تثبت معه الشبهة،إذ الشبهة أمارة تفید ظنّاً یترتّب علیه الإقدام علی ما یخالف فی نفس الأمر،فکیف یجتمع العلم بالحرمة مع ظنّ الخلاف؟وهل یکون هذا إلاّ من باب اجتماع الضدّین؟و هو محال،اللهم إلاّ أن یکون فی المسألة نصّ علی عدم وجوب الحدّ علیه،والله العالم بحقائق الاُمور.
2- (2) .سنن أبی داود:390/3 ح3530؛سنن ابن ماجه:52/3 ح2291؛وسائل الشیعة:218/14-219،باب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.

حتّی لو قال:ظننتُ أنّها عَلی حرام یجب الحدّ،ولو قال:ظننتُ أنّها عَلی حلال لا یجب الحدّ؛لأنّ شبهة الملک فی مال الأب لم یثبت له بالنصّ فاعتبر رأیه،ولا یثبت نسب الولد و إن ادّعاه. (1)

حکی الزرکشی عن الشافعی أنّه قال فی آخر الرسالة:القیاس موضع ضرورة؛لأنّه لا یحلّ القیاس و الخبر موجود،کما یکون التیمّم طهارةً عند الإعواز من الماء،ولا یکون طهارة إذا وجد الماء.انتهی.ثمّ قال:وأطلق الاُستاذ أبو إسحاق أنّ المسألة إذا لم یکن فیها نصّ ولا إجماع وجب القیاس فیها.

ملاحظة مهمّة

إذا کان القیاس دلیلاً فیما لم یکن هناک دلیلٌ شرعی من الکتاب و السنّة و الإجماع،فکیف یخصّص به عموم الکتاب وإطلاقه؟و الحال أنّ الآمدی یقول:القائلون بکون العموم و القیاس حجّة اختلفوا فی جواز تخصیص العموم بالقیاس،فذهب الأئمّة الأربعة و الأشعری وجماعة من المعتزلة کأبی هاشم وأبی الحسین البصری إلی جوازه مطلقاً...إلی أن قال:والمختار أنّه إذا کانت العلّة الجامعة فی القیاس ثابتة بالتأثیر،أی:بنصّ أو إجماع،جاز تخصیص العموم به،وإلاّ فلا..الخ (2).هذا مع أنّ موضوع القیاس ما لا نصّ فیه،والإطلاق و العموم دلیلٌ فی المسألة.

ویمکن أن یقال فی جواب الآمدی ومن حذی حذوه:إنّ المراد بالنصّ مطلق بالدلیل،والإطلاق و العام دلیلان،ومع وجود الدلیل لا موضوع للقیاس حتّی یکون حجّة فیقدّم علیه،إذ موضوعه ما لم یکن دلیلٌ شرعی.

علی أنّه إذا کانت أحادیث أهل البیت علیهم السّلام حجّة بنصّ حدیث الثقلین،وآیة التطهیر،وغیرهما من الأدلّة التی قد ثبتت سابقاً دلالتها علی المدّعی المذکور،وثبت

ص:279


1- (1) .اُصول الشاشی:8182.
2- (2) .الإحکام:536/2.

عند فقیه من أهل السنّة صحّة الحدیث المروی عنهم علیهم السّلام،کان علیه الأخذ بالحدیث مکان الأخذ بالقیاس؛لعدم الموضوع للقیاس بعد صحّة الخبر،ولا عذر له فی ترک التحرّی و التحقیق فی الأحادیث المرویة عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وأولاده المعصومین علیهم السّلام.

*قال عبدالوهاب خلاّف:مذهب جمهور علماء المسلمین أنّ القیاس حجّة شرعیة علی الأحکام العملیة،وأنّه فی المرتبة الرابعة من الحجج الشرعیة،بحیث إذا لم یوجد فی الواقعة حکم بنصّ أو إجماع،وثبت أنّها تساوی واقعة نُصّ علی حکمها فی علّة هذا الحکم،فإنّها تُقاس بها،ویحکم فیها بحکمها،ویکون هذا حکمها شرعاً ویسع المکلّف اتّباعه و العمل به،وهؤلاء یطلق علیهم مثبتو القیاس. (1)

هل یعمل بالقیاس قبل البحث عن المنصوص

*لو فرض جواز التعبّد بالقیاس عقداً وشرعاً،وأنّه وقع التعبّد به،هل یعمل به قبل البحث عن المنصوص؟قیل:للمسألة أحوال:

أحدها:أن یرید العمل به قبل طلب الحکم من النصوص المعروفة،فیمتنع قطعاً.

الثانیة:قبل طلب نصوص لا یعرفها مع احتمال الوجود،أو طلبها،فطریقه یقتضی جوازه.ومذهب الشافعی وأحمد وفقهاء الحدیث لا یجوز،ولهذا جعلوا القیاس ضرورات بمنزلة التیمّم-کما عرفت آنفاً-لا یعدل إلیه إلاّ إذا غلب علی ظنّه عدم الماء،و هذا معنی قول أحمد:وما تصنع بالقیاس،وفی الحدیث ما یغنیک عنه!!

الثالثة:أنّه ییأس من النصّ،ویغلب علی ظنّه عدمه،فهاهنا یجوز قطعاً،ولکنّ القاضی عبدالجبّار قال:لا یجوز له أن یقیس؛لأنّه لا یقطع بثبوته. (2)

ص:280


1- (1) .علم اصول الفقه:61.وراجع:اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:115.
2- (2) .البحر المحیط:3031/4.

الخبر المرسل و الضعیف أولی من القیاس

*حکی ابن حزم عن أبی حنیفة:إنّ الخبر المرسل و الضعیف أولی من القیاس،ولا یحلّ القیاس مع وجوده،قال:والروایة عن الصاحب الذی لا یعرف له مخالف منهم أولی من القیاس.

وقال الشافعی:لا یجوز القیاس مع نصّ القرآن أو خبر مسند صحیح،و أمّا عند عدمهما فإنّ القیاس واجب فی کلّ حکم.

بل حُکی عن أبی الفرج القاضی وأبی بکر الأبهری المالکیین:القیاس أولی من خبر الواحد المسند و المرسل. (1)

نعم،قال ابن حزم فی جوابهما:وما نعلم هذا القول عن مسلم یری قبول خبر الواحد قبلهما.یعنی هذا شاذ ونادر لا یعبأ به.

ونُسب إلی أحمد بن حنبل أنّه یقول:إنّ ضعیف الأثر خیرٌ من قوی النظر،وقیل فی الجواب عنه:هذه وهلة من أحمد لا تلیق بمنصبه،فإنّ ضعیف الأثر لا یحتجّ به مطلقاً،وحاول بعض أئمّة الحنابلة المتأخّرین(إبعاد)هذا الکلام منه(عنه)؛بأنّ هذا ما حکاه عبدالله عن أبیه أحمد،ومراده بالضعیف غیر ما اصطلح علیه المتأخّرون من قسم الصحیح و الحسن،بل عنده الحدیث قسمان:صحیحٌ وضعیف،والضعیف ما انحطّ عن درجة الصحیح و إن کان حسناً. (2)

ونقل ابن قیم الجوزیة عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال:سمعت أبی یقول:لا تکاد تری أحداً نظر فی الرأی إلاّ وفی قلبه دغل(أی فساد).وقال أیضاً:سمعت أبی یقول:الحدیث الضعیف أحبُّ إلی من الرأی،فقال عبدالله:سألت أبی عن الرجل یکون ببلد لا یجد فیه إلاّ صاحب حدیث لا یعرف صحیحه من سقیمه،وأصحاب رأی،فتنزل به النازلة،فقال أبی:

ص:281


1- (1) .راجع:البحر المحیط:31/4.
2- (2) .المصدر:3132/4.

یسأل أصحاب الحدیث،ولا یسأل أصحاب الرأی،ضعیف الحدیث أقوی من الرأی. (1)

ثمّ قال ابن القیم:وأصحاب أبی حنیفة مجمعون علی أنّ مذهب أبی حنیفة أنّ ضعیف الحدیث عنده أولی من القیاس و الرأی،فتقدیم الحدیث الضعیف،وآثار الصحابة علی القیاس و الرأی قوله،وقول الإمام أحمد،إلی أن قال:والمقصود أنّ السلف جمیعهم علی ذمّ الرأی و القیاس المخالف للکتاب و السنّة،وأنّه لا یحلّ العمل به لا فتیاً ولا قضاءً،و أنّ الرأی الذی لا یعلم مخالفته للکتاب و السنّة ولا موافقته،فغایته أن یسوغ العمل به عند الحاجة إلیه من غیر إلزام،ولا إنکار علی من خالفه. (2)

تحریم العمل بالقیاس حتّی مع عدم إمکان العمل بالنصّ

**القیاس عند علماء الإمامیة علی قسمین کما سیأتی:منصوص العلّة،و هو ما ثبت حکمه بالسنّة فهو حجّة،وما عدا ذلک و هو مستنبط العلّة،ممّا حجب عن الناس التوصّل إلی أسراره وعلله الحقیقیة ولا سیما فی مثل العبادات،والذی ذهب أهل البیت علیهم السّلام إلی تحریمه،و هو المنقول عن جملة من الصحابة،وعن علماء الشیعة قاطبةً إلاّ ابن الجنید فی أوائل أمره،وعن الشافعی فی غیر منضبط العلّة،وعن الظاهریة و النظّامیة.

و قد شاع عن آل البیت علیهم السّلام:«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول»، (3)و«إنّ السنّة إذا قیست مُحقَ الدِّین»، (4)وقال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:

«ستفترق امّتی علی ثلاثة وسبعین فرقةً،أعظمهم فتنةً علی امّتی أقوامٌ یقیمون الاُمور برأیهم فضلّوا وأضلّوا». (5)

ص:282


1- (1) .أعلام الموقعین:76/1.
2- (2) .أعلام الموقعین:77/1.
3- (3) .کمال الدِّین:324/1،ح9؛بحار الأنوار:303/2؛فرائد الاُصول:62/1 61.
4- (4) .وسائل الشیعة:25/18 ح10.
5- (5) .المحصول:1139/4؛تاریخ بغداد:307308/13؛المستدرک للحاکم:430/4؛مجمع الزوائد:182/1.

قال الحاکم:(هذا الحدیث)صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه،وقال الهیثمی فی مجمع الزوائد:رواه البزار و الطبرانی فی الکبیر،ورجاله،رجال الصحیح.

وفی المقام روایات اخر حتّی ادّعی تواترها المعنوی،وسیأتی إن شاء الله ذکرها فی محلّه.

والإنصاف محکّم فی أنّ إطلاق بعض الأخبار وجمیع معاقد الإجماعات یوجب الظنّ المتأخم للعلم،بل العلم،بأنّ القیاس لیس ممّا یرکن إلیه فی الدِّین مع وجود الأمارات السمعیة،فهو حینئذٍ ممّا قام الدلیل علی عدم حجّیته،بل العمل بالقیاس المفید للظنّ فی مقابل الخبر الصحیح ضروری البطلان فی المذهب.

لکن یظهر من کلمات کاشف الغطاء فی کشف الغطاء،ومن القوانین،المیل إلی إمکان منع دعوی کون حرمة العمل بالقیاس ضروریاً فی زمان الانسداد،حیث قال المحقّق کاشف الغطاء:الأدلّة إمّا أن تکون مثبتة لذاتها من غیر جعل کالطرق المفیدة للعلم بالحکم من عقل أو نقل متواتر أو إجماع معنویین..إلی أن قال:و إمّا أن تکون جعلیة بحکم الشارع لا بمقتضی الذات..إلی أن قال:و إمّا أن تکون ممّا انسدّت فیه الطرق فی معرفة الواجب مع العلم باشتغال الذمّة وانسداد طریق الاحتیاط،و هذا یجری فی المجتهد إذا فقد الأدلّة،وفی غیره عند اضطراره لضرورة بقاء التکلیف وانسداد طریق العلم و الظنّ القائم مقامه،فیرجع کلّ منهما إلی الروایات الضعیفة،والشهرة،وأقوال الموتی،والظنون المکتسبة،سوی ما دخل تحت القیاس المردود،علی أنّ القول به فی مثل هذه الصورة غیر بعید. (1)

وحیث قال الفاضل القمّی:ویمکن أن یقال:إنّ فی مورد القیاس لم یثبت انسداد باب العلم بالنسبة إلی مقتضاه،فإنّا نعلم بالضرورة من المذهب حرمة العمل علی مؤدّی القیاس فیعلم أنّ حکم الله تعالی غیره،و إن لم یعلم أنّه أی شیء هو،فنفی تعیینه

ص:283


1- (1) .کشف الغطاء:38؛بحر الفوائد للآشتیانی:259.

یرجع إلی سائر الأدلّة و إن کان مؤدّیها عین مؤدّیه،فلیتأمّل فإنّه یمکن منع دعوی بداهة حرمة القیاس حتّی فی موضع لا سبیل له إلی الحکم إلاّ به. (1)

وقال المحقّق الآشتیانی فی البحر:فإنّه کما تری ظاهر فی منع دعوی البداهة المذکورة فی وجه التفصّی. (2)

لکن ما ذکره هؤلاء الأعلام لا یخلو من منع؛لأنّ المنساق من الأخبار هو ورودها فی مقام التعریض بالعامّة،حیث کانوا یستغنون بالعمل بالقیاس عن الرجوع إلی حَمَلَة علوم النبی صلی الله علیه و آله وهم الأئمّة من أهل البیت علیهم السّلام،إلاّ أنّ إطلاق الإجماعات المدّعاة فی کلماتهم شامل لحالتی الانفتاح والانسداد.

ص:284


1- (1) .قوانین الاُصول:448449/1؛بحر الفوائد:259؛أوثق الوسائل:190.
2- (2) .بحر الفوائد:259.

الخلاصة

الواجب علی المجتهد طلب حکم الحادثة من کتاب الله تعالی،ثمّ من سنّة رسول الله صلی الله علیه و آله بصریح النصّ أو دلالته،فإنّه لا سبیل إلی العمل بالرأی مع إمکان العمل بالنصّ،ولهذا إذا اشتبهت علیه القبلة،فأخبره واحدٌ عنها،لا یجوز له التحرّی.وعلی اعتبار أنّ العمل بالرأی دون العمل بالنصّ،قلنا:إنّ الشبهة بالمحلّ أقوی من الشبهة فی الظنّ.

قال الشافعی:القیاس موضع ضرورة؛لأنّه لا یحلّ القیاس و الخبر موجود،کما یکون التیمّم طهارة عند الإعواز من الماء،ولا یکون طهارة إذا وجد الماء.

إذا کان القیاس دلیلاً فیما لم یکن هناک دلیلٌ شرعی من الکتاب و السنّة و الإجماع،فکیف یخصّص به عموم الکتاب وإطلاقه؟هذا مع أنّ موضوع القیاس ما لا نصّ فیه،والإطلاق و العموم دلیل فی المسألة.

ویمکن أن یقال فی جواب الآمدی:إنّ المراد بالنصّ مطلق الدلیل،والإطلاق و العام دلیلان،ومع وجود الدلیل لا موضوع للقیاس حتّی یکون حجّة فیقدّم علیه،إذ موضوعه ما لم یکن دلیل شرعی.فإذا کانت أحادیث أهل البیت حجّة بنصّ حدیث الثقلین وآیة التطهیر وثبت عند فقیه من أهل السنّة صحّة الحدیث المروی عنهم علیهم السّلام،کان علیه الأخذ بالحدیث مکان الأخذ بالقیاس؛لعدم الموضوع للقیاس بعد صحّة الخبر،ولا عذر له فی ترک التحرّی فی الأحادیث المرویة عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب وأولاده المعصومین علیهم السّلام.

ثمّ لو فرض جواز التعبّد بالقیاس عقلاً وشرعاً،وأنّه وقع التعبّد به،هل یعمل به قبل البحث عن المنصوص؟للمسألة أحوال:

أحدها:أن یرید العمل به قبل طلب الحکم من النصوص المعروفة،فیمتنع قطعاً.

الثانیة:قبل طلب نصوص لا یعرفها مع احتمال الوجود،ومذهب الشافعی وأحمد

ص:285

وفقهاء الحدیث لا یجوز،ولهذا جعلوا القیاس ضرورات بمنزلة التیمّم.

الثالثة:أنّه ییأس من النصّ،ویغلب علی ظنّه عدمه،فهاهنا یجوز قطعاً،ولکنّ القاضی عبدالجبّار قال:لا یجوز له أن یقیس؛لأنّه لا یقطع بثبوته.

عن أبی حنیفة أنّه قال:الخبر المرسل و الضعیف أولی من القیاس،ولا یحلّ القیاس مع وجوده.وقال الشافعی:لا یجوز القیاس مع نصّ القرآن أو خبر مسند صحیح،و أمّا عند عدمهما،فإنّ القیاس واجب فی کلّ حال.وعن بعض المالکیین:القیاس أولی من خبر الواحد المسند و المرسل.ونسب إلی أحمد بن حنبل أنّه یقول:إنّ ضعیف الأثر خیرٌ من قوی النظر،وحاول بعض أئمّة الحنابلة المتأخرین إبعاد هذا الکلام عنه،بأنّ هذا ما حکاه عبدالله عن أبیه أحمد،ومراده بالضعیف غیر ما اصطلح علیه المتأخّرون من قسم الصحیح و الحسن،بل عنده الحدیث قسمان:صحیحٌ وضعیف،والضعیف ما انحطّ عن درجة الصحیح و إن کان حسناً.

قال ابن القیم:وأصحاب أبی حنیفة مجمعون علی أنّ مذهب أبی حنیفة أنّ ضعیف الحدیث عنده أولی من القیاس و الرأی،فتقدیم الحدیث الضعیف وآثار الصحابة علی القیاس و الرأی قوله،وقول أحمد.والمقصود أنّ السلف جمیعهم علی ذمّ الرأی و القیاس المخالف للکتاب و السنّة،وأنّه لا یحلّ العمل به لا فتیاً ولا قضاءً.

القیاس عند علماء الإمامیة علی قسمین کما سیأتی:منصوص العلّة،و هو ما ثبت حکمه بالسنّة فهو حجّة،وما عدا ذلک و هو مستنبط العلّة،ممّا حجب عن الناس التوصّل إلی أسراره وعلله الحقیقیة ولا سیما فی مثل العبادات،والذی ذهب أهل البیت علیهم السّلام إلی تحریمه،و هو المنقول عن جملة من الصحابة،وعن علماء الشیعة قاطبةً إلاّ ابن الجنید فی أوائل أمره.

والإنصاف أنّ إطلاق بعض الأخبار وجمیع معاقد الإجماعات یوجب الظنّ المتأخم للعلم،بل العلم بأنّ القیاس لیس ممّا یرکن إلیه فی الدِّین مع وجود الأمارات

ص:286

السمعیة،فهو حینئذٍ ممّا قام الدلیل علی عدم حجّیته،بل العمل بالقیاس المفید للظنّ فی مقابل الخبر الصحیح ضروری البطلان فی المذهب.

لکن یظهر من کشف الغطاء و القوانین المیل إلی إمکان منع دعوی کون حرمة العمل بالقیاس ضروریاً فی زمان الانسداد،حیث قال فی الکشف:علی أنّ القول بالقیاس فی مثل هذه الصورة غیر بعید.وحیث قال فی القوانین:فإنّه یمکن منع دعوی بداهة حرمة القیاس حتّی فی موضع لا سبیل له إلی الحکم إلاّ به.

إنّ إطلاق الإجماعات المدّعاة فی کلمات حَمَلَة علوم النبی صلی الله علیه و آله شامل لحالتی الانفتاح والانسداد.

ص:287

الأسئلة

1.ما هو الواجب علی المجتهد عند طلب حکم الحادثة؟

2.لماذا قال الشافعی:القیاس موضع ضرورة؟

3.لماذا لا یمکن أن یخصّص بالقیاس عموم الکتاب و السنّة؟

4.اُذکر أحوال المسألة لو فرض جواز التعبّد بالقیاس عقلاً وشرعاً.

5.هل القیاس مقدّم علی الخبر المرسل و الضعیف أو بالعکس؟اُذکر رأی أبی حنیفة و الشافعی وأحمد بن حنبل فی ذلک.

6.اُذکر أقسام القیاس عند الإمامیة،وأیهما حجّة عندهم.

7.اُذکر تمایل کاشف الغطاء و الفاضل القمّی عند انسداد باب العلم و الإیراد علیهما.

ص:288

الدرس السابع و الثلاثون بعد المئة

معنی آخر للقیاس

**ما ذکرناه إلی هنا فی القیاس یرجع إلی القیاس الذی یدخل فی ضمن ما یصلح للدلیلیة و هو الذی یدار علیه الحدیث لدی المتأخّرین.ولکن،هناک معنی آخر لمصطلح القیاس شاع استعماله علی ألسنة أهل الرأی قدیماً،و هو مهجورٌ فی زماننا هذا،و هو:التماس العلل الواقعیة للأحکام الشرعیة من طریق العقل،وجعلها مقیاساً لصحّة النصوص الشرعیة،فما وافقها یحکم علیه أنّه حکم الله الذی یؤخذ به،وما خالفها کان موضعاً للرفض أو التشکیک.وعلی هذا اللون من المعنی تنزّل التعبیرات الشائعة:إنّ هذا الحکم موافق للقیاس،وذلک الحکم مخالف له.

ولقد کان القیاس بهذا المعنی مثار معرکة فکریة واسعة النطاق علی عهد الإمام الصادق علیه السّلام وبعض فقهاء عصره،وعلی هذا المعنی أیضاً دارت المناظرة التالیة بین الإمام الصادق علیه السّلام وأبی حنیفة:روی أبو نعیم بسنده عن عمرو بن جمیع:

دخلت علی جعفر بن محمّد أنا وابن أبی لیلی وأبو حنیفة،فقال لابن أبی لیلی:من هذا معک؟قال:هذا رجلٌ له بصر ونفاذ فی أمر الدِّین،قال:لعلّه یقیس أمر الدِّین برأیه؟قال:نعم،قال:فقال جعفر لأبی حنیفة:ما اسمُک؟قال:نعمان،

ص:289

إلی أن قال:فقال:یا نعمان حدَّثنی أبی عن جدّی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلّم قال:أوّل من قاس أمر الدِّین برأیه إبلیس،قال الله تعالی له اسْجُد لآدم،فقال:أنا خیرٌ منه خلقتنی من نار وخلقته من طین،فمن قاس الدِّین برأیه قرنهُ الله تعالی یوم القیامة بإبلیس؛لأنّه اتّبعه بالقیاس.ثمّ قال له جعفر-کما فی روایة ابن شبرمة-:أیهما أعظم،قتل النفس أو الزنا؟قال:قتل النفس قال:فإنّ الله عزّ وجلّ قبلَ فی قتل النفس شاهدین ولم یقبل فی الزِّنا إلاّ أربعة،ثمّ قال:أیهما أعظم،الصلاة أم الصوم؟قال:الصلاة،قال:فما بال الحائض تقضی الصوم ولا تقضی الصلاة؟فکیف-ویحک-یقوم لک قیاسک؟اتّق الله ولا تقس الدِّین برأیک. (1)

فالقیاس فی هذه الروایة منصرف إلی هذا المعنی،و هو الذی تتخیل فیه العلل للأحکام،حیث إنّ إبلیس تمرّد علی الأمر بالسجود؛لأنّه علی خلاف قیاسه لتخیله أنّ الأمر بالسجود یقتضی أن یبتنی علی أساس التفاضل العنصری،ولأجل هذا خطّأ الحکم الشرعی،لاعتقاده بأنّه أفضل فی عنصره من آدم؛لکونه مخلوقاً من نار و هو مخلوقٌ من طین.

قال العلاّمة المحقّق السید الحکیم:و هذه الروایة مع تتمّتها منصبّة علی الردع عن نوعی القیاس،ثمّ قال:أقول:من هذا الاستشهاد(المذکور)ندرک الردع عن النوع الثانی من القیاس. (2)

وعلی هذا المعنی تکون صحیحة أبان الآتیة منصبّة فی ردعها علی هذا النوع،بقرینة تکذیبه للحدیث،ونسبة مضمونه إلی الشیطان؛لأنّه ورد علی خلاف قیاسه.والروایة أوردها الصدوق فی باب الدیات عن أبان قال:

قلت لأبی عبد الله علیه السّلام:ما تقول فی رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة،کم فیها؟قال:عشرة من الإبل،قلت:قطع اثنین؟قال:عشرون،قلت:قطع ثلاثاً؟قال:

ص:290


1- (1) .حُلیة الأولیاء:196198/3؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:328329؛الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:432433/2؛وسائل الشیعة:29/18.
2- (2) .الاُصول العامّة:329.وراجع أیضاً:اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:9192؛الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:432434/2.

ثلاثون،قلت:قطع أربعاً؟قال:عشرون،قلت:سبحان الله!یقطع ثلاثاً فیکون علیه ثلاثون،ویقطع أربعاً فیکون علیه عشرون إنّ هذا کان یبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله،ونقول:إنّ الذی قاله شیطان.فقال علیه السّلام:مهلاً یا أبان،هذا حکم رسول الله صلّی اللّه علیه و آله،إنّ المرأة تعاقل الرجل إلی ثلث الدیة،فإذا بلغت الثُّلث رجعت المرأة إلی النصف،یا أبان إنّک أخذتنی بالقیاس،والسنّة إذا قیست محق الدِّین. (1)

إنّما صار أبان إلی تخطئة الخبر الذی وصل إلیه،حتّی نسبه إلی الشیطان؛لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله وأصّله،و هو أنّه کلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدیة،فلمّا سمع قوله:قطع أربعاً،قال:عشرون،قامت سورته،إذ وجده مخالفاً للأصل الأصیل عنده،فردعه الإمام:بأنّ هذا هو حکم رسول الله صلّی اللّه علیه و آله،و أنّ استنکارک قائم علی الأخذ بالقیاس،والسنّة إذا قیست مُحقَ الدِّین،وأنّی للعقول أن تصل إلیها.

وفی هذه الروایة لم یکن فی المسألة خطاب یفهم منه الفحوی من جهة الأولویة تعدیة الحکم إلی غیر ما تضمّنه الخطاب حتّی یکون من باب مفهوم الموافقة،و إنّما الذی وقع من أبان هو قیاس مجرّد لم یکن مستنده فیه إلاّ جهة الأولویة،إذ تصوّر بمقتضی القاعدة العقلیة الحسابیة أنّ الدیة تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع،ولکنّ أبان کان لا یدری أنّ المرأة دیتها نصف دیة الرجل شرعاً فیما یبلغ ثلث الدیة فما زاد،وهی مئة من الإبل. (2)

وقال الاُستاذ الحکیم:و هذا النوع هو الذی یشکّل الخطر علی الدِّین؛لفسحه المجال للتلاعب بالشریعة،ومسخ أحکامها باسم مخالفة القیاس،ومن الطبیعی أن یقف منه أهل البیت-وبخاصّةً الإمام الصادق الذی انتشر هذا النوع من القیاس علی عهده-موقفهم

ص:291


1- (1) .من لا یحضره الفقیه:119/4 ح5239؛القوانین المحکمة:200/3؛اُصول الفقه:428/2؛الاُصول العامّة:326؛وسائل الشیعة:268/19 ح1 باب 44 من أبواب کتاب الدیات،رواه المشایخ الثلاثة بأسانید صحیحة.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه:428429/2.

المعروف،والحقّ کما یقول الإمام:إنّ السنّة إذا قیست محق الدِّین،و أنّ مسرح العقل فی إدراک علل الأحکام محدود جدّاً،ففتحُ الباب له علی مصراعیه یشکِّل الخطر العظیم علی الشریعة،و هذا هو معنی قول الإمام علیه السّلام:«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول»، (1)أی:ما ثبت أنّه دین لا یمکن أن تدرک جمیع علله العقول.والشقّ الثانی من الروایة-ولعلّها روایةٌ اخری،وهی التی تکفّل ذکرها ابن شبرمة-منصبّ علی تعجیز العقل عن التعرّف علی علل الأحکام بعیداً عن الشرع،کما یتّضح من النقوض التی ذکرها الإمام علیه السّلام،و هو الذی یناسب القیاس بالمعنی الأوّل،ونظائر هذه الروایة کثیرة. (2)

وممّا ذکرناه یظهر ضعف کلام المحدِّث البحرانی،حیث قال:ویدلّ علی عدم حجّیته(أی قیاس الأولویة)من الأخبار ما رواه الصدوق فی کتاب الدیات عن أبان. (3)

ولقد أجاد حیث أفاد المحدِّث الکبیر الشیخ الحرّ العاملی:إنّ القیاس کان أوّل باعث علی إنکار الشریعة ومقابلتها بالتکذیب،واستعمال الظنّ فی مقابلة العلم،والعمل بالهوی و الرأی،وفی ذلک مفاسد لا تُحصی. (4)

من تلک المفاسد ما مثّلوا له بفتوی من أفتی أحد الملوک بأنّ کفّارته فی إفطار شهر رمضان هو خصوص صیام شهرین متتابعین؛لأنّه وجد أنّ المناسب مع تشریع الکفّارات ردع أصحابها عن التهاون فی الإفطار العمدی،ومثل هذا الملک(الأندلسی الاُموی)لا تهمّه بقیة خصال الکفّارة؛لتوفّر عناصرها لدیه،فإلزامه بالصیام أکثر مناسبة لتحقیق مظنّة الحکمة من التشریع،و هذا القاضی الأندلسی المستنبط تخیل أنّ الغایة الوحیدة من إیجاب الخصال هو تعذیب المفطر؛لکی لا یعود إلی الإفطار،و هو لا

ص:292


1- (1) .کمال الدِّین:324/1 ح9؛بحارالأنوار:303/2؛فرائد الاُصول:61/1-62.
2- (2) .الاُصول العامّة:329330.
3- (3) .الحدائق الناضرة:60/1.
4- (4) .الفوائد الطوسیة 6:32 فائدة.

یحصل إلاّ بإیجاب صیام شهرین متتابعین،فنفی التخییر،وأوجب علیه التعیین.

لکنّه تصرّف خاطئ،إذ لیس للعقول التماس العلل و الکشف عن واقعها ثمّ تطبیق النصوص علیها،فکأنّ العقل مشرّع،له أن یقید إطلاق النصّ دون أن یکون هناک اضطرار أو حرج أو ضرر،بل إنّ هناک مصلحة متخیلة یمکن أن تکون الغایة لأحد الأمرین:

1.ردع المتهاون فی الإفطار العمدی.

2.إطعام الفقراء وإشباع بطونهم أو کسوتهم. (1)

وبالجملة،بعض الأخبار الواردة عن أهل البیت علیهم السّلام تدلّ علی حرمة العمل بالقیاس من حیث استلزامه لإبطال الدِّین ومحق السنّة؛لاستلزامه الوقوع غالباً فی خلاف الواقع،ولأنّ ما أحدثوه وأبدعوه من قِبل أنفسهم،ومن جهة عقولهم القاصرة عن بلوغ مصالح الأحکام المخفیة،یؤول إلی خراب الدِّین ومحو السنّة.

وفی ضوء ما ذُکر،قال الشیخ الأعظم الأنصاری:فلا ریب أنّ بعض تلک الأخبار(المتواترة الواردة فی حرمة العمل بالقیاس)فی مقابلة معاصری الأئمّة صلوات الله علیهم من العامّة التارکین للثقلین،حیث ترکوا الثقل الأصغر الذی عنده علم الثقل الأکبر،ورجعوا إلی اجتهاداتهم وآرائهم،فقاسوا واستحسنوا وضلّوا وأضلّوا،وإلیهم أشار النبی صلی الله علیه و آله فی بیان من یأتی من بعده من الأقوام فقال:«تعمل هذه الاُمّة برهة بالکتاب،وبرهة بالسنة،وبرهة بالقیاس». (2)وکذلک أشار أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله علیه إلی اولئک،وحذّر منهم بقوله:«تفلّتت منهم الأحادیث أن یحفظوها،وأعیتهم السنّة أن یعوها،فعارضوا الدین بآرائهم». (3)، (4)

ص:293


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة:313؛الوجیز:207؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:103104.
2- (2) .بحار الأنوار:308/2 ح68.
3- (3) .بحار الأنوار:84/2 ح9.
4- (4) .فرائد الاُصول:518/1.

الخلاصة

هناک معنی آخر للقیاس شاع استعماله علی ألسنة أهل الرأی قدیماً،و هو مهجورٌ فی زماننا هذا،و هو:التماس العلل الواقعیة للأحکام الشرعیة من طریق العقل،وجعلها مقیاساً لصحّة النصوص الشرعیة،فما وافقها یحکم علیه أنّه حکم الله الذی یؤخذ به،وما خالفها کان موضعاً للرفض أو التشکیک،وعلی هذا النوع من المعنی تنزّل التعبیرات الشائعة:إنّ هذا الحکم موافقٌ للقیاس،وذلک الحکم مخالفٌ له.

ولقد کان القیاس بهذا المعنی مثار معرکة فکریة واسعة النطاق علی عهد الإمام الصادق علیه السّلام وبعض فقهاء عصره،وعلی هذا المعنی أیضاً دارت المناظرة بین الإمام الصادق علیه السّلام وأبی حنیفة.

وبناءً علی هذا المعنی فإنّ صحیحة أبان تکون منصبّة علی هذه النوع من القیاس،بقرینة تکذیبه للحدیث،ونسبة مضمونه إلی الشیطان؛لأنّه ورد علی خلاف قیاسه،و هو أنّه کلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدیة،فلمّا سمع قوله:قطع أربعاً،قال:عشرون،قامت سورته،إذ وجده مخالفاً للأصل الأصیل عنده،فردعه الإمام:بأنّ هذا هو حکم رسول الله صلّی اللّه علیه و آله،و أنّ استنکارک قائم علی الأخذ بالقیاس،والسنّة إذا قیست مُحِقَ الدِّین،وأنّی للعقول أن تصل إلیها.

و هذا النوع من القیاس هو الذی یشکّل الخطر علی الدِّین؛لفسحه المجال للتلاعب بالشریعة،ومسخ أحکامها باسم مخالفة القیاس; لأنّ مسرح العقل فی إدراک علل الأحکام محدود جدّاً،ففتح الباب علی مصراعیه یشکّل الخطر العظیم علی الشریعة،و هذا معنی قول الصادق علیه السّلام:«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول»،یعنی ما ثبت أنّه دینٌ لا یمکن أن تدرک جمیع عِلله العقول.ولقد أجاد الشیخ الحرّ العاملی حیث قال:إنّ القیاس کان أوّل باعث علی إنکار الشریعة ومقابلتها بالتکذیب،واستعمال الظنّ فی

ص:294

مقابلة العلم،والعمل بالهوی و الرأی،وفی ذلک مفاسدٌ لا تُحصی.

ومن المفاسد ما أفتی به أحد الفقهاء أحد الملوک بأنّ کفّارته فی إفطار شهر رمضان هو خصوص صیام شهرین متتابعین،لأنّه وجد أنّ المناسب مع تشریع الکفّارات ردع أصحابها عن التهاون فی الإفطار العمدی،ومثل هذا الملک(الأندلسی الأموی)لا تهمّه بقیة خصال الکفّارة،لتوفّر عناصرها لدیه،فإلزامه بالصیام أکثر مناسبةً لتحقیق مظنّة الحکمة من التشریع.

لکنّه تصرّفٌ خاطئ،إذ لیس للعقول التماس العلل و الکشف عن واقعها ثمّ تطبیق النصوص علیها،فکأنّ العقل مشرّع،له أن یقید إطلاق النصّ دون أن یکون هناک اضطرار أو حرج أو ضرر،بل إنّ هناک مصلحة متخیلة یمکن أن تکون الغایة لأحد الأمرین:

1.ردع المتهاون فی الإفطار العمدی.

2.إطعام الفقراء وإشباع بطونهم أو کسوتهم.

إنّ القیاس المذکور لمّا کان یستلزم الوقوع غالباً فی خلاف الواقع،ویؤول إلی خراب الدِّین ومحو السنّة،فقد دلّت بعض الأخبار الواردة عن أهل البیت علیهم السّلام علی حرمة العمل به.

قال الشیخ الأعظم:فلا ریب أنّ بعض تلک الأخبار المتواترة الواردة فی حرمة العمل بالقیاس فی مقابلة معاصری الأئمّة الأطهار علیهم السّلام،التارکین للثقلین،حیث ترکوا الثقل الأصغر الذی عنده علم الثقل الأکبر،ورجعوا إلی اجتهاداتهم وآرائهم،فقاسوا واستحسنوا وضلّوا وأضلّوا،وإلیهم أشار النبی صلی الله علیه و آله بقوله:وبرهة بالقیاس،أی:یعملون بالقیاس.وسیأتی ذکر هذا الحدیث فی محلّه إن شاء الله تعالی.

ص:295

الأسئلة

1.اُذکر المعنی الآخر للقیاس.

2.ما هو المراد من القیاس المذکور فی مناظرة الإمام الصادق علیه السّلام مع أبی حنیفة؟

3.لماذا أصبحت صحیحة أبان بن تغلب منصبّة علی المعنی الآخر للقیاس؟

4.لماذا یشکّل هذا القیاس خطراً علی الدِّین؟

5.لماذا تکون فتوی من أفتی أحد الملوک بأنّ کفّارته فی إفطار شهر رمضان هو خصوص صیام شهرین متتابعین،من المفاسد؟

6.اُذکر وجه کلام الشیخ الأعظم حیث قال:فلا ریب أنّ بعض تلک الأخبار المتواترة الواردة فی حرمة العمل بالقیاس فی مقابلة معاصری الأئمّة الأطهار علیهم السّلام من التارکین للثقلین..إلخ.

ص:296

الدرس الثامن و الثلاثون بعد المئة

تعریف القیاس

تعریف القیاس لغةً

*القیاس الشرعی هو ترتّب الحکم فی غیر المنصوص علیه علی معنی هو علّة (1)لذلک الحکم فی المنصوص علیه. (2)، (3)

ص:297


1- (1) .أی:إنّ العلّة معنی ومفهوم وحیث لا تکون لفظة لا عموم لها إذ المعنی لا عموم له حقیقةً؛لأنّه فی ذاته شیءٌ واحد،ولکنّه باعتبار حلوله فی محالّ متعدّدة یوصف بالعموم. اعلم أنّ القائلین بالقیاس اختلفوا فی أنّ الحکم فی المنصوص علیه یثبت بعین النصّ أو بالعلّة التی هی فی النصّ،قال مشایخ العراق بالأوّل؛لأنّ العلّة وضعت للدلالة علی ثبوته فی الفرع،ومشایخ سمرقند بالثانی،یعنی:الحکم یثبت بالعلّة التی فی النصّ لا بالنصّ،فمتی وجد مثله فی موضع آخر یتعدّی إلیه،و إنّما النصّ لمعرفته لا لثبوته،و هذا قول الشافعی،وتعریف المصنّف إشارة إلی القول الثانی.أحسن الحواشی:87. وستأتی الإشارة إلی قیاس المعنی فی بیان أنواع القیاس إن شاء الله تعالی.
2- (2) .اُصول الشاشی:8788.
3- (3) .لمّا کان البحث عن حجّیة القیاس وبیان شروط صحّته متأخّراً،بل متوقّفاً علی معرفة نفس القیاس وتعریفه،لأنّ الطالب إذا لم یتصوّر موضوع البحث ولم یعرفه،یتعسّر علیه،بل یتعذّر أن یحیط بجمیع مباحثه.لذا قدّمنا بحث تعریف القیاس علی الحجّیة وشروط صحّته،خلافاً لما وعدناه فی مقدمة الکتاب.باعتبار أنّ کتابنا علی ترتیب اصول الشاشی،حیث إنّ الشاشی قدّم بحث الحجیة علی تعریف القیاس.

القیاس فی اللّغة:تقدیر شیء علی مثال شیء آخر،وتسویته به،ولذلک سمّی المکیال مقیاساً،ویقال:فلأن لا یقاس بفلان،أی:لا یساویه. (1)وقیل بمعنی التمثیل و التشبیه،یقال:هذا قیاس هذا أی مثله،أو أنّ القیاس مأخوذ من الإصابة،یقال:قست الشیء،إذا أصبته؛لأنّ القیاس یصاب به الحکم،وبالجملة تنوّعت آراء الاُصولیین فی حکایة معنی القیاس لغةً حتّی أنهاها بعض إلی السبعة. (2)

القیاس مصدر قایس یقایس من المفاعلة علی وزن کتاب من کاتب یکاتب،لا مصدر قاس یقیس من الثلاثی المجرّد؛لأنّ المساواة من الطرفین،ومصدر الثلاثی المجرّد قیس.فعلی هذا یکون لکلّ من المصدرین المذکورین فعل یخصّه،فیکون الأوّل فعله رباعی أو ثلاثی مزید،والثانی ثلاثی مجرّد.

تعریف القیاس اصطلاحاً

و أمّا فی الاصطلاح:فقد تنوّعت واختلفت آراء الاُصولیین وعباراتهم فی تعریف

ص:298


1- (1) .وکقول أمیر المؤمنین علی علیه السّلام فی نهج البلاغة:لا یقاس بآل محمّد صلی الله علیه و آله من هذه الاُمّة أحدٌ،ولا یسوّی بهم من جرت نعمتهم علیه أبداً.هم أساس الدِّین،وعماد الیقین.إلیهم یفیء الغالی،وبهم یلحق التالی،ولهم خصائص حقّ الولایة،وفیهم الوصیة و الوراثة،الآن إذ رجع الحقّ إلی أهله،ونُقل إلی منتقله.نهج البلاغة،ضبط وفهرسة الدکتور صبحی الصالح:47،خطبة 2.
2- (2) .راجع:إرشاد الفحول:75/2؛الإحکام:164/3؛المحصول:1072/3-1074 الحاشیة؛البحر المحیط:4/4؛شرح المعالم:249/2؛الوجیز:194؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:303؛قوانین الاُصول:ج2(مخطوط)؛التلویح علی التوضیح:112/2؛روضة الناظر:160؛مذکّرة فی اصول الفقه:231؛المهارة الاُصولیة وأثرها:121؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:645؛اُصول الفقه الإسلامی:601/1؛اُصول السرخسی:143/2؛کشف الأسرار:395/3 وما بعدها.

القیاس وذکروا له حدوداً،منها:القیاس هو إثبات مثل حکم المقیس علیه للمقیس. (1)

ومنها:هو تعدیة حکم الأصل إلی الفرع بعلّة جامعة بینهما. (2)

ومنها:القیاس هو عبارة عن الحکم علی معلوم بمثل الحکم الثابت لمعلوم آخر لتساویهما فی علّة الحکم،فموضع الحکم المتّفق علیه یسمّی أصلاً،وموضع الحکم المختلَف فیه یسمّی فرعاً،والعلّة هی الجامع الموجب لإثبات مثل حکم الأصل فی الفرع. (3)

ومنها:ما قاله فی الوافیة،و هو:إثبات الحکم فی محلّ بعلّة لثبوته فی محلٍّ آخر بتلک العلّة. (4)

ومنها:ما حکاه فی إرشاد الفحول عن القاضی أبی بکر الباقلاّنی،و هو:حمل معلوم علی معلوم فی إثبات حکم لهما أو نفیه عنهما بأمر جامع بینهما من حکم أو صفة. (5)

وقال ابن التلمسانی:وأسدّ عبارة اعتمدها المتقدّمون واختارها المحقّقون عبارة القاضی،وکذلک قال الرازی:أسدّ ما قیل فی هذا الباب تلخیصاً وجهان:الأوّل ما ذکره القاضی أبو بکر واختاره جمهور المحقّقین منّا. (6)

ص:299


1- (1) .العمدة فی اصول الفقه:647/2؛الذریعة:669/2.
2- (2) .تمهید القواعد:257؛تهذیب الاُصول؛نقلاً عن مفاتیح الاُصول:658؛اُصول السرخسی:118/2؛اُصول الفقه للخضری:289؛التوضیح لمتن التنقیح:110/2؛المهارة الاُصولیة وأثرها:122؛اُصول الفقه الإسلامی:602603/1.
3- (3) .معارج الاُصول:182183؛معالم الاُصول:313.
4- (4) .الوافیة:236.اُصول الفقه الإسلامی:602/1.
5- (5) .إرشاد الفحول:75/2؛شرح المعالم:250/2؛مفاتیح الاُصول:659؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:303-304؛الإحکام:167/3؛البحر المحیط:6/4؛المستصفی:278/2؛المهارة الاُصولیة وأثرها؛122.
6- (6) .المحصول:1071/3.

وقال التفتازانی:وفی الشرع:مساواة الفرع للأصل فی علّة حکمه أو زیادته علیه فی المعنی المعتبر فی الحکم. (1)

وقال المقدسی:و هو فی الشرع:حمل فرع علی أصل فی حکم بجامع بینهما. (2)

وقال الآمدی:و أمّا فی اصطلاح الاُصولیین فهو منقسم إلی قیاس العکس وقیاس الطرد،أمّا قیاس العکس،فعبارة عن تحصیل نقیض حکم معلوم ما فی غیره؛لافتراقهما فی علّة الحکم،و أمّا قیاس الطرد،فقد قیل فیه عبارات غیر مرضیة،منها:إنّه عبارة عن إصابة الحقّ،و هو منتقض بإصابة الحقّ بالنصّ و الإجماع،فإنّه علی ما قیل:لیس بقیاس.

ومنها:إنّه بذل الجهد فی استخراج الحقّ،و هو أیضاً باطل بما ذکرناه فی القول السابق ولأنّ بذل الجهد إنّما هو مبنی عن حال القائس لا عن نفس القیاس.

ومنها:القیاس هو الدلیل الموصِل إلی الحقّ،و هو باطل بالنصّ و الإجماع.

وقال أبو هاشم:إنّه عبارة عن حمل الشیء علی غیره وإجراء حکمه علیه،و هو باطل من وجهین:الأوّل:إنّه غیر جامع؛لأنّه یخرج منه القیاس الذی فرعه معدوم ممتنع لذاته،فإنّه لیس بشیء،الثانی:إنّ حمل الشیء علی غیره وإجراء حکمه علیه قد یکون من غیر جامع،فلا یکون قیاساً،و إن کان بجامع فیکون قیاساً ولیس فی لفظه ما یدلّ علی الجامع،فکان لفظه عامّاً للقیاس ولما لیس بقیاس،إلی أن قال:والمختار فی حدّ القیاس أن یقال:إنّه عبارة عن الاستواء بین الفرع و الأصل فی العلّة المستنبطة من حکم الأصل،ثمّ قال:و هذه العبارة جامعة مانعة وافیة بالغرض،عریة

ص:300


1- (1) .شرح التلویح علی التوضیح:112/2؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:305؛مسلم الثبوت:450/2-451؛وحُکی عن زبدة الاُصول للشیخ البهائی؛البحر المحیط:5/4 وفیه أنّ الذی علیه المحققون،و هو:إنّه مساواة فرع لأصل فی علّة الحکم أو زیادته...إلخ.
2- (2) .روضة الناظر:161؛نزهة الخاطر العاطر:151/2؛مذکّرة فی اصول الفقه:231.

عمّا یعترضها من التشکیکات العارضة علی ما تقدّم. (1)

ومنها:ما حکاه الرازی و الآمدی عن أبی الحسین البصری،و هو:إنّه تحصیل حکم الأصل فی الفرع لاشتباههما فی علّة الحکم عند المجتهد. (2)

ثمّ قال الرازی:و هو قریب،لکن الآمدی یقول:و قد أورد علی نفسه فی ذلک إشکالاً وأجاب عنه.أمّا الإشکال،فهو أنّ الفقهاء یسمّون قیاس العکس قیاساً،ولیس هو تحصیل حکم الأصل فی الفرع لاشتباههما فی علّة الحکم،بل هو تحصیل نقیض حکم الشیء فی غیره لافتراقهما فی علّة الحکم کما سبق آنفاً.

و أمّا الجواب،فحاصله أنّ تسمیة قیاس العکس قیاساً إنّما کان بطریق المجاز؛لفوات خاصّیة القیاس فیه،و هو إلحاق الفرع بالأصل فی حکمه لما بینهما من المشابهة.ثمّ ذکر أنّ ما ذکره البصری من الحدّ مدخول من وجهین:الأوّل:إنّ قوله تحصیل حکم الأصل فی الفرع مُشعر بتحصیل عین حکم الأصل فی الفرع و هو ممتنع،فکان من حقّه أن یقول:مثل حکم الأصل فی الفرع.الثانی:إنّ تحصیل حکم الأصل فی الفرع هو حکم الفرع ونتیجة القیاس،ونتیجة الشیء لا تکون هی نفس ذلک الشیء. (3)

ومنها:ما ذهب إلیه بعض کالزحیلی،و هو:«إلحاق أمر غیر منصوص علی حکمه الشرعی بأمر منصوص علی حکمه لاشتراکهما فی علّة الحکم»،والمراد من الإلحاق:هو الکشف و الإظهار،ولیس المراد إثبات الحکم وإنشاءه؛لأنّ الحکم ثابت للمقیس من وقت ثبوته للمقیس علیه. (4)

ص:301


1- (1) .الإحکام:164171/3؛البحر المحیط:5/4؛صفوة الاختیار:287؛منهاج الوصول:645.
2- (2) .المحصول:1079/3؛الإحکام:166167/3؛البحر المحیط:5/4؛نزهة الخاطر:152/2؛صفوة الاختیار:287.
3- (3) .الإحکام:166167/3.
4- (4) .اُصول الفقه الإسلامی:603/1؛الوجیز:194.

ومنها:ما اختاره الفخر الرازی،حیث قال:وأظهر من تعریف أبی الحسین البصری أن یقال:إثبات مثل حکم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما فی علّة الحکم عند المُثْبِت. (1)

نعم،یظهر من کلام الفخر الرازی فی الباب الثالث فی الفرع أنّ نظره فی تعریف القیاس هو ما ذهب إلیه صدر الشریعة،حیث قال:وشرطه(أی الفرع)أن یوجد فیه مثل علّة الحکم فی الأصل من غیر تفاوت البتّة لا فی الماهیة ولا فی الزیادة ولا فی النقصان؛لأنّ القیاس عبارة عن تعدیة الحکم من محلّ إلی محلّ. (2)

ومنها(القیاس):أن یحکم للشیء علی نظیره المشارک له فی علّته الموجبة لحکمه. (3)

ومنها ما قیل:هو مساواة الفرع للأصل فی علّة حکمه،أو مساواة محلّ لآخر فی علّة حکم له شرعی لا تدرک بمجرّد فهم اللّغة. (4)

وقال الفاضل القمّی فی تعریفه:هو إجراء حکم الأصل فی الفرع لجامع بینهما،و هو علّة ثبوت الحکم فی الأصل. (5)

وبعبارة اخری یقال:هو إثبات حکم فی محلّ بعلّة؛لثبوته فی محلّ آخر بتلک العلّة.

أقول:هذا التعریف الأخیر خیر التعریفات وأسدّها وأتقنها،فالمحلّ الأوّل و هو المقیس یسمّی فرعاً،والمحلّ الثانی و هو المقیس علیه یسمّی أصلاً،والعلّة الجامعة و المشترکة بینهما تسمّی جامعاً أو قدراً مشترکاً،وفی الواقع أنّ القیاس عملیة من القائس لغرض استنتاج حکم شرعی لمحلّ لم یرد فیه نصّ بحکمه الشرعی،إذ توجب هذه العملیة عنده الاعتقاد یقیناً أو ظنّاً بحکم الشارع.و هذه العملیة القیاسیة هی نفس

ص:302


1- (1) .المحصول:1079/3.
2- (2) .المحصول:13051306/4.
3- (3) .اُصول الجصّاص:200/2.
4- (4) .راجع:اُصول الفقه للخضری:289؛الوجیز:194؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:645.
5- (5) .قوانین الاُصول:ج2(مخطوط).

حمل الفرع علی الأصل فی الحکم الثابت للأصل شرعاً،فیعطی القائس حکماً للفرع مثل حکم الأصل،فإن کان الوجوب أعطی له الوجوب،و إن کان الحرمة أعطی له الحرمة..وهکذا.و هذا الإعطاء أو الحکم أو الإثبات أو الحمل أو التعدیة أو الاستواء أو التحصیل بمعنی أن یحکم بأنّ الفرع ینبغی أن یکون محکوماً عند الشارع بمثل حکم الأصل؛للعلّة المشترکة بینهما،وکذلک فإنّ تلک المذکورات المتشتّة الألفاظ و المتّحدة المعنی(والتی هی من باب عباراتنا شتّی وحسنک واحد)تکون دلیلاً عند القائس علی حکم الله فی الفرع. (1)

وفی ضوء ما ذکرناه تعرف أنّ الدلیل هو الإجراء و الإثبات الذی هو نفس عملیة الحمل وإعطاء الحکم للفرع من قبل القائس،ونتیجة الدلیل هو الحکم بأنّ الشارع قد حکم فعلاً علی هذا الفرع بمثل حکم الأصل،فتکون هذه العملیة من القائس دلیلاً علی حکم الشارع لأنّها توجب اعتقاده الیقینی أو الظنّی بأنّ الشارع له هذا الحکم.

ویتّضح لک أیضاً أنّ الاعتراض علی مثل هذا التعریف بأنّ الدلیل-و هو الإثبات-نفسه نتیجة الدلیل،فی حین یجب أن یکون مغایراً للمستدلّ علیه،مندفع.

أمّا وجه الاندفاع،فقد اتّضح بذلک البیان،بأنّ الإثبات فی الحقیقة-و هو عملیة الحمل-عمل القائس وحکمه(لا حکم الشارع)و هو الدلیل،و أمّا المستدلّ علیه فهو حکم الشارع علی الفرع،و إنّما حصل للقائس هذا الاستدلال؛لحصول الاعتقاد له بحکم الشارع من تلک العملیة القیاسیة التی أجراها.

ومن هذا البیان یظهر أنّ هذا التعریف أفضل التعریفات وأبعدها عن المناقشات.

و أمّا تعریف القیاس بالمساواة بین الفرع و الأصل فی العلّة أو نحو ذلک،فإنّه تعریف بمورد القیاس،ولیست المساواة قیاساً.ولمزید الاطّلاع علی ما اورد علی

ص:303


1- (1) .راجع:شرح المعالم:7680/1 المقدمة؛المحصول:1081/3 هامش الصفحة.

تعریف القاضی أبی بکر الباقلاّنی وأبی هاشم وأبی الحسین البصری بما ذکره الآمدی فی الأحکام،والزرکشی فی البحر،فراجعهما وغیرهما من کتب أعلام الاُصولیین.

أرکان القیاس

إنّ الشاشی و إن لم یصرّح بأرکان القیاس بعد تعریفه،لکنّه أشار إلی اثنین منها،وهما الحکم و العلّة،و إن أمکن أن یستفاد منه أیضاً الرکن الثالث و هو الأصل من قوله:(المنصوص علیه)والرکن الرابع و هو الفرع من لفظة:(غیر المنصوص علیه)،فعلی هذا یستفاد من تعریفه أرکان القیاس وهی أربعة:الأصل،والفرع،والعلّة،والحکم.

ولکنّ بعض المحشّین ذکروا أنّ المصنّف أشار،بل صرّح برکن القیاس،وهی العلّة فقط،ویؤیده ما حکاه صدر الشریعة فی التوضیح،عن فخر الإسلام فی اصوله قوله:إنّ العلّة رکن القیاس،والتعدیة حکمه،فالرکن ما یتقوّم به الشیء،والحکم هو الأثر الثابت بالشیء،فالقیاس هو تبیین أنّ العلّة فی الأصل هذا الشیء لیثبت الحکم فی الفرع،فإثبات الحکم فی الفرع،و هو التعدیة،نتیجة القیاس و الغرض منه. (1)

هذا منه إشارة إلی أنّ القیاس هو التعلیل،أی:تبیین أنّ العلّة فی الأصل هذا لیثبت الحکم فی الفرع،و أنّ ما ذکره بعض المحشّین غیر سدید،إذ لیس المراد من ذکر العلّة بیان رکن واحد من الأرکان الأربعة،بل المراد منه توضیح ما یتحقّق به المساواة فی الخارج بالفعل،ویؤیده ما ذکره فی مسلم الثبوت:و أمّا قول أکثر الحنفیة من أنّ رکنه هو العلّة المشترکة،فأرادوا به ما یتحقّق المساواة فی الخارج بالفعل لا أنّها رکنٌ وحدها دون الأصل و الفرع. (2)

وحکی فی کشف الأسرار عن المیزان أنّ رکن القیاس هو الوصف الصالح المؤثّر

ص:304


1- (1) .التوضیح لمتن التنقیح:111/2.
2- (2) .مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت:453/2.

فی ثبوت الحکم فی الأصل. (1)

و هذا الکلام منه مبنی أیضاً علی أساس أنّ المراد بالرکن جزء الشیء لا أن یراد بالرکن نفس ماهیة الشیء،وعلی معنی الأوّل ذهب جمعٌ من المحقّقین وقالوا:إنّ أرکان القیاس أربعة:الأصل،والفرع،وحکم الأصل،والوصف الجامع، (2)أو:الأصل،والفرع،والعلّة،والحکم. (3)

نعم،زاد بعض الناس من الزیدیة رکناً خامساً و هو الشَّبَه. (4)

وقال فی إرشاد الفحول:لا بدّ من هذه الأربعة الأرکان فی کلّ قیاس،ومنهم من ترک التصریح بالحکم،وذهب الجمهور إلی أنّه لا یصحّ القیاس إلاّ بعد التصریح به.

قال ابن السمعانی:ذهب بعضهم إلی جواز القیاس بغیر أصل،قال:و هو من خلط الاجتهاد بالقیاس،والصحیح أنّه لا بدّ من أصل؛لأنّ الفروع لا تتفرّع إلاّ عن اصول.انتهی. (5)

ص:305


1- (1) .کشف الأسرار:502/3.
2- (2) .اُصول الفقه:293؛المحصول:1071/3.
3- (3) .راجع:الإحکام:171/3؛مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت:453/2؛کشف الأسرار:502/3؛اُصول الفقه للخضری:293؛المستصفی:435/2؛اُصول الفقه للمظفّر:414/2؛إرشاد الفحول:88/2؛الوجیز:195؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:307؛البحر المحیط:67/4؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:646؛اُصول الفقه الإسلامی:605/1؛معالم الاُصول:313.
4- (4) .صفوة الاختیار:289.
5- (5) .إرشاد الفحول:88/2؛البحر المحیط:67/4.

الخلاصة

القیاس فی اللّغة:تقدیر شیء علی مثال شیء آخر وتسویته به،ولذلک سمّی المکیال مقیاساً،ویقال:فلأن لا یقاس بفلان،أی:لا یساویه،قال أمیر المؤمنین علی علیه السّلام:«لا یقاس بآل محمّد صلی الله علیه و آله من هذه الاُمّة أحد،ولا یسوّی بهم من جرت نعمتهم علیه أبداً...».

وقیل:بمعنی التمثیل و التشبیه،یقال:هذا قیاس هذا،أی:مثله.

القیاس مصدر قایس یقایس من المفاعلة علی وزن کتاب من کاتب یکاتب،لا مصدر قاس یقیس من الثلاثی المجرّد؛لأنّ المساواة من الطرفین،ومصدر الثلاثی قیس.

و أمّا فی الاصطلاح:فقد تنوّعت واختلفت آراء الاُصولیین وعباراتهم فی تعریف القیاس وذکروا له حدوداً،منها:القیاس هو إثبات مثل حکم المقیس علیه للمقیس،ومنها:هو تعدیة حکم الأصل إلی الفرع بعلّة جامعة بینهما،ومنها:هو عبارة عن الحکم علی معلوم بمثل الحکم الثابت لمعلوم آخر لتساویهما فی علّة الحکم،ومنها:إنّه إثبات الحکم فی محلّ بعلّة لثبوته فی محلّ آخر بتلک العلّة،ومنها:مساواة الفرع للأصل فی علّة حکمه،ومنها:حمل معلوم علی معلوم فی إثبات حکم لهما أو نفیه عنهما بأمر جامع بینهما من حکم أو صفة،و قد قیل فی هذا التعریف بأنّه:أسدّ ما قیل فی هذا الباب،واعتمد علیه المتقدّمون واختاره المحقّقون.

ومنها:ما قاله الآمدی:القیاس الاصطلاحی عند الاُصولیین منقسم إلی قیاس العکس وقیاس الطرد،أمّا قیاس العکس،فعبارة عن تحصیل نقیض حکم معلوم ما فی غیره؛لافتراقهما فی علّة الحکم،و أمّا قیاس الطرد،فقد قیل فیه عبارات غیر مرضیة.والمختار فی حدّ القیاس أن یقال:إنّه عبارة عن الاستواء بین الفرع و الأصل فی العلّة المستنبطة من حکم الأصل،و هذه العبارة جامعة مانعة وافیة بالغرض،عریة عمّا

ص:306

یعترضها من التشکیکات العارضة علیها.

ومنها:إلحاق أمر غیر منصوص علی حکمه الشرعی بأمر منصوص علی حکمه لاشتراکهما فی علّة الحکم،والمراد من الإلحاق هو الکشف و الإظهار،ولیس المراد إثبات الحکم وإنشاءه؛لأنّ الحکم ثابت للمقیس من وقت ثبوته للمقیس علیه.

ومنها:هو إجراء حکم الأصل فی الفرع لجامع بینهما،و هو علّة ثبوت الحکم فی الأصل.إلی غیر ذلک ممّا ذُکر فی المقام.

أقول:هذا التعریف الأخیر خیر التعریفات وأسدّها،فإنّ القیاس فی الواقع هو عملیة من القائس لغرض استنتاج حکم شرعی لمحلّ لم یرد فیه نصّ بحکمه الشرعی،إذ توجب هذه العملیة عنده الاعتقاد یقیناً أو ظنّاً بحکم الشارع،و هذه العملیة القیاسیة هی نفس حمل الفرع علی الأصل فی الحکم الثابت للأصل شرعاً،فیعطی القائس حکماً للفرع مثل حکم الأصل،فإن کان الوجوب أعطی له الوجوب،و إن کان الحرمة أعطی له الحرمة وهکذا.

وفی ضوء ما ذکرناه تعرف أنّ الدلیل هو الإجراء و الإثبات الذی هو نفس عملیة الحمل وإعطاء الحکم للفرع من قبل القائس.

ویتّضح لک أیضاً أنّ الاعتراض علی مثل هذا التعریف بأنّ الدلیل یجب أن یکون مغایراً للمستدلّ علیه،مندفع بأنّ الإثبات فی الحقیقة عمل القائس وحکمه،لا حکم الشارع و هو الدلیل،و أمّا المستدلّ علیه فهو حکم الشارع علی الفرع،و إنّما حصل للقائس هذا الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحکم الشارع من تلک العملیة القیاسیة التی أجراها.

و أمّا تعریف القیاس بالمساواة بین الفرع و الأصل فی العلّة،فإنّه تعریفٌ بمورد القیاس،ولیست المساواة قیاساً،واُورد علی الباقلاّنی وأبی الحسین البصری بما ذکره الآمدی،فراجع.

أرکان القیاس أربعة:الأصل،والفرع،والعلّة،والحکم.

ص:307

وقال فخر الإسلام:القیاس هو التعلیل،أی:تبیین أنّ العلّة فی الأصل هذا لیثبت الحکم فی الفرع.و أمّا قول أکثر الحنفیة:إنّ رکنه هو العلّة المشترکة،فأرادوا به ما یتحقّق المساواة فی الخارج بالفعل لا أنّها رکنٌ وحدها دون الأصل و الفرع.و هذا الکلام منه مبنی علی أساس أنّ المراد بالرکن جزء الشیء لا أن یراد بالرکن نفس ماهیة الشیء،وعلی معنی الأوّل ذهب جمعٌ من المحقّقین وقالوا:إنّ أرکان القیاس أربعة.نعم،زاد بعض الزیدیة رکناً خامساً و هو:الشَّبه.

ص:308

الأسئلة

1.اُذکر المعانی اللّغویة للقیاس.

2.اُذکر کیف یکون القیاس مصدراً للفعل الثلاثی المجرّد أو المزید.

3.اُذکر ثلاثة تعریفات من التعاریف الاصطلاحیة للقیاس.

4.اُذکر خیر التعاریف وأسدّها عند المصنّف ودلیل خیریته.

5.لِمَ یندفع الاعتراض الذی اورد علی التعریف الأخیر؟

6.اُذکر الإیراد علی تعریف القیاس بالمساواة بین الفرع و الأصل فی العلّة.

7.اُذکر أقسام القیاس الاصطلاحی عند الآمدی مع توضیح تعاریفها،ثمّ بین المختار عنده.

8.اُذکر أرکان القیاس علی رأی بعض الزیدیة.

ص:309

ص:310

الدرس التاسع و الثلاثون بعد المئة

بیان أرکان القیاس

المراد من الأصل

*قال الزحیلی:الأصل عند الفقهاء،هو:محلّ الحکم الذی ثبت بالنصّ أو الإجماع،وعند المتکلّمین،هو:النصّ الدالّ علی الحکم؛لأنّه الذی بُنی علیه الحکم.والأصل:هو ما بُنی علیه غیره.وبناءً علیه،فالأصل عند الفقهاء فی مثال تحریم النبیذ قیاساً علی الخمر،هو الخمر الثابتة حرمته؛لأنّ الأصل ما کان حکم الفرع مقتبساً منه ومردوداً إلیه،و هذا یتحقّق فی نفس الخمر،وعند المتکلّمین:هو النصّ الدالّ علی تحریم الخمر؛لأنّه الذی بُنی علیه التحریم،والأصل-کما سبق-ما بُنی علی غیره. (1)

وقال الآمدی:اختلف العلماء فی الأصل فی القیاس..إلی أن قال:هل الأصل هو النصّ أو الخمر،أو الحکم الثابت فی الخمر،و هو التحریم،مع اتّفاق الکلّ علی أنّ العلّة فی الخمر-وهی الشدّة المطربة-لیست هی الأصل،فقال بعض المتکلّمین:

ص:311


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:605606/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163/1.وراجع:البحر المحیط:6869/4،اُصول الفقه للخضری:293؛المهذّب:1969/5؛کشف الأسرار:443/3.

الأصل هو النصّ الدالّ علی تحریم الخمر،وقالت الفقهاء:الأصل إنّما هو الخمر الثابتة حرمته،وقال بعضهم:الأصل إنّما هو الحکم الثابت فی الخمر؛لأنّ الأصل ما انبنی علیه غیره،وکان العلم به موصلاً إلی العلم بغیره أو الظنّ،و هذه الخاصّیة موجودة فی حکم الخمر،فکان هو الأصل.

وقالوا فی جواب المتکلّمین:لیس الأصل هو النصّ؛لأنّ النصّ هو الطریق إلی العلم بالحکم،ولو تُصوّر العلم بالحکم فی الخمر من دون النصّ کان القیاس ممکناً،ولأنّه لو کان النصّ هو الأصل،لکونه طریقاً إلی معرفة الحکم،لکان قول الراوی هو أصل القیاس بطریق أولی; لکونه طریقاً إلی معرفة النصّ،ولیس کذلک بالاتّفاق.

ولیس الأصل أیضاً هو الخمر؛لأنّه و قد یعلم الخمر،ولا یعلم أنّ الحرمة جاریة فیه،ولا فی الفرع،بخلاف ما إذا عُلم الحکم،فکان هو الأصل.ثمّ بعد تقریر کون النزاع فی هذه المسألة لفظیاً،قال:والأشبه أن یکون الأصل هو المحلّ،علی ما قاله الفقهاء؛لافتقار الحکم و النصّ إلیه ضرورةً من غیر عکس،فإنّ المحلّ غیر مفتقر إلی النصّ ولا إلی الحکم. (1)

واختاره الزحیلی حیث استدلّ بما استدلّ علیه بعض الأعلام وأبوالحسن الآمدی فی ترجیح قول الفقهاء،و هو أنّ الخمر أحقّ بتسمیته أصلاً من غیره من النصّ أو الحکم. (2)

قال الرازی بعد تضعیف قول الفقهاء و المتکلّمین:إذا عرفت ذلک فنقول:إنّ لقول الفقهاء و المتکلّمین وجهاً أیضاً،لأنّه إذا ثبت أنّ الحکم الحاصل فی محلّ الوفاق أصل،وثبت أنّ النصّ أصلٌ لذلک الحکم،فکان النصّ أصلاً لأصل الحکم المطلوب،وأصل الأصل أصل،فیجوز تسمیة ذلک النصّ بالأصل علی قول المتکلّمین.وأیضاً:

ص:312


1- (1) .الإحکام:171172/3.
2- (2) .اُصول الفقه الإسلامی:606/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163/1.وراجع:الوجیز:195؛البحر المحیط:68/4؛إرشاد الفحول:8889/2.

فالحکم الذی هو الأصل محتاج إلی محلّه،فیکون محلّ الحکم أصلاً للأصل،فتجوز تسمیته بالأصل أیضاً علی ما هو قول الفقهاء.وهاهنا دقیقة،وهی:إنّ تسمیة العلّة فی محلّ النزاع أصلاً أولی من تسمیة محلّ الوفاق بذلک؛لأنّ العلّة مؤثّرة فی الحکم،والمحلّ غیر مؤثر فی الحکم،فجعل علّة الحکم أصلاً له أولی من جعل محلّ الحکم أصلاً له؛لأنّ التعلّق الأوّل أقوی من الثانی. (1)

أقول:الحقّ هو ما ذهب إلیه الفقهاء و المحقّقون من الاُصولیین،فالأصل هو المشبّه به،ولا یکون ذلک إلاّ محلّ الحکم،لا نفس الحکم ولا دلیله.

وقال المحقّق المظفّر:الأصل:هو المقیس علیه المعلوم ثبوت الحکم له شرعاً. (2)والمقیس علیه هو المحلّ الذی ثبت حکمه فی الشریعة،ونصّ علی علّته.

المراد من الفرع

أمّا الفرع،فهل هو نفس الحکم المُتنازَع فیه،أو محلّه؟

اختلفوا أیضاً فیه،فمن قال:بأنّ الأصل هو الحکم فی الخمر،قال:الفرع هو الحکم فی النبیذ.ومن قال:بأنّ الأصل هو المحلّ،قال:الفرع هو المحلّ و هو النبیذ.

والفرع عند الفقهاء وهم الذین رجح اصطلاحهم علی المتکلّمین وبعض من سبق کلامهم،هو المحلّ الذی لم یرد فیه نصٌّ ولا إجماع،و هو فی المثال السابق النبیذ. (3)

وقال المحقّق المظفّر:الفرع:هو المقیس المطلوب إثبات الحکم له شرعاً. (4)

ص:313


1- (1) .المحصول:10841086/3.
2- (2) .اُصول الفقه:414/2.وراجع:إرشاد الفحول:89/2؛الاُصول العامّة:307؛المهذّب:1969/5؛کشف الأسرار:443/3.
3- (3) .راجع:الإحکام:172/3؛اُصول الفقه الإسلامی:606/1؛إرشاد الفحول:89/2؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163/1؛المهذّب:2003/5؛اُصول الفقه للخضری:293؛کشف الأسرار:443444/3.
4- (4) .اُصول الفقه:414/2.وراجع:الاُصول العامّة ص307.

وقال الرازی:و أمّا الفرع،فهو عند الفقهاء:عبارة عن محلّ الخلاف،وعندنا:عبارة عن الحکم المطلوب إثباته؛لأنّ محلّ الخلاف غیر متفرّع علی الأصل،بل الحکم المطلوب إثباته فیه هو المتفرّع علیه. (1)

لکنّه بعد ذکر نکتته الدقیقة الآتیة یختار مسلک الفقهاء فی الأصل و الفرع،حیث یقول:واعلم أنّا بعد التنبیه علی هذه الدقائق نساعد الفقهاء علی مصطلحهم،و هو أنّ الأصل محلّ الوفاق،والفرع محلّ الخلاف،لئلاّ نفتقر إلی تغییر مصطلحهم. (2)

وقال الزرکشی:الفرع هو الذی یراد ثبوت الحکم فیه،فقیل:هو محلّ الحکم المختلَف فیه،و هو قیاس قول الفقهاء فی الأصل،وقیل:هو نفس الحکم الذی فی المحلّ،و هو قیاس القول الثالث ثَمَّ،والقول الثالث هو ما حکاه عن الإمام فخر الدِّین فی البحث عن الأصل حیث قال:وقال الإمام فخر الدِّین:الأصل هو الحکم الثابت فی محلّ الوفاق باعتبار تفرّع العلّة علیه،و هو فرع فی محلّ الخلاف باعتبار تفرّعه علیه.

وقیاس قول المتکلّمین فی الأصل أنّه النصّ أن یکون الفرع هنا هو العلّة،لکن لم یقل به أحد؛لأنّها أصل فی الفرع وفرع فی الأصل،فلم یمکن جعلها فرعاً فی الفرع. (3)

نکتة دقیقة

وهی أنّ إطلاق لفظ الأصل علی محلّ الوفاق أولی من إطلاق لفظ الفرع علی محلّ الخلاف لأنّ محلّ الوفاق أصلٌ للحکم الحاصل فیه،والحکم الحاصل فیه أصلٌ للقیاس،فکان محلّ الوفاق أصل أصل القیاس.و أمّا هاهنا فمحلّ الخلاف أصل للحکم المطلوب إثباته فیه،وذلک الحکم فرعٌ للقیاس،فیکون محلّ الخلاف أصل

ص:314


1- (1) .المحصول:1086/3.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .البحر المحیط:97/4 و 68.

فرع القیاس،وإطلاق اسم الأصل علی أصل أصل القیاس أولی من إطلاق اسم الفرع علی أصل الفرع. (1)

المراد من العلّة

المراد من العلّة-علی ما اخترناه من تعریف القیاس-هی:الجهة المشترکة بین الأصل و الفرع التی اقتضت ثبوت الحکم،وتسمّی جامعاً، (2)وعلّة الحکم هو الوصف الجامع علی رأی بعض. (3)

قال الزحیلی:العلّة هی الوصف الذی بُنی علیه حکم الأصل،و هو فی المثال الإسکار. (4)

وقال الزرکشی:العلّة هی شرط فی صحّة القیاس لیجمع بها بین الأصل و الفرع،وقیل:من الناس من اقتصر علی الشَّبَه ومنع القول بالعلّة.

وقال ابن السمعانی:ذهب بعض القیاسین من الحنفیة وغیرهم إلی صحّة القیاس من غیر علّة إذا لاح بعض الشَّبه،وذهب جمهور القیاسین من الفقهاء و المتکلّمین إلی أنّ العلّة لا بدّ منها فی القیاس،وهی رکن القیاس،ولا یقوم القیاس إلاّ بها.

واختلفوا فی المراد من العلّة علی أقوال:

أحدها:أنّها المعرّف للحکم أی:جعلت عَلَماً علی الحکم،إن وجد المعنی وجد الحکم.قاله الصیرفی وأبو زید من الحنفیة،وحکی أیضاً عن بعض الفقهاء،واختاره الرازی فی المحصول.

ثانیها:أنّها الموجب للحکم،علی معنی أنّ الشارع جعلها موجبة لذاتها،و هو قول الغزالی.وقال الهندی:و هو قریب لا بأس به،فالعلّة فی تحریم النبیذ هی الشدّة المطربة

ص:315


1- (1) .راجع:المحصول:1086/3؛الإحکام:172/3.
2- (2) .راجع:الاُصول العامّة:307؛اُصول الفقه:414؛إرشاد الفحول:89/2.
3- (3) .الإحکام:172/3؛اُصول الفقه للخضری:293؛الوجیز:195.
4- (4) .اُصول الفقه الإسلامی:606/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163/1.

کانت موجودة قبل تعلّق التحریم بها،ولکنّها علّة بجعل الشارع.

ثالثها:أنّها الموجبة للحکم بذاتها،لا بجعل الله،و هو قول المعتزلة بناءً علی قاعدتهم التحسین و التقبیح العقلیین.

رابعها:أنّها الموجبة بالعادة،اختاره فخر الدِّین الرازی.

خامسها:الباعث علی التشریع بمعنی:إنّه لا بدّ أن یکون الوصف مشتملاً علی مصلحة صالحة أن تکون مقصودة للشارع من شرع الحکم،اختاره الآمدی وابن الحاجب،ثمّ حُکی عن إلکیا الطبری قوله:العلّة فی عرف الفقهاء الصفة التی یتعلّق الحکم الشرعی بها. (1)

وبالجملة،العلّة هی الرکن الرابع من أرکان القیاس،بل هی أساس القیاس ومرتکزه ورکنه العظیم،والعلّة هی الوصف الموجود فی الأصل،والذی من أجله شرّع الحکم فیه،وبناءً علی وجوده فی الفرع یراد تعدیته أو إثباته أو تسویته بالأصل فی هذا الحکم کالإسکار و هو علّة الخمر،والعلّة من حیث کونها حکماً وضعیاً هی الوصف الخارجی الذی یؤثّر فی وجود الشیء،والعلّة من حیث کونها رکناً للقیاس هی وصفٌ مشترک بین المقیس علیه و المقیس،یبتنی علیه حکم المقیس علیه،ولأجله یتعدّی منه إلی ما یقاس علیه.

المراد من الحکم

و هو نوع الحکم الذی ثبت للأصل،ویراد إثباته للفرع. (2)

وقیل:هو ثمرة القیاس،والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله. (3)

ص:316


1- (1) .البحر المحیط:101103/4؛المحصول:11631169/4؛المهذّب:2016/5-2024.
2- (2) .راجع:الاُصول العامّة:307؛اُصول الفقه:414/2.
3- (3) .راجع:إرشاد الفحول:89/2؛کشف الأسرار:502/3.

حُکی عن ابن السمعانی و الشیخ أبی إسحاق فی اللّمع:الحکم ما تعلّق بالعلّة فی التحلیل و التحریم و الإسقاط،و هو أمّا مصرّحٌ به،أو مُبهَم. (1)

وبالجملة،حکم الأصل هو:الحکم الشرعی الذی ورد به النصّ فی الأصل،ویراد تعدیته أو إثباته فی الفرع،و هو فی المثال المذکور حرمة الخمر،و أمّا الحکم الذی یثبت فی الفرع بالقیاس،و هو فی المثال المذکور تحریم النبیذ،فهو ثمرة القیاس. (2)

تنبیه

اختُلف فی کون حکم الفرع-و هو تحریم النبیذ-رکناً أو ثمرة القیاس،قال الآمدی:أمّا الأرکان،فهی أربعة:الفرع المسمّی بصورة محلّ النزاع،وهی الواقعة التی یقصد تعدیة حکمها إلی الفرع،والحکم الشرعی الخاصّ بالأصل،والعلّة الجامعة بین الأصل و الفرع،و أمّا ثمرته فحکم الفرع،فإنّه إذا تمّ القیاس أنتج حکم الفرع،ولیس حکم الفرع من أرکان القیاس،إذ الحکم فی الفرع متوقّف علی صحّة القیاس،فلو کان رکناً منه لتوقّف علی نفسه،و هو محال. (3)

وحکی الزحیلی عن الأسنوی:إنّ حکم الفرع فی القیاس رکنٌ من أرکان القیاس،ولیس ثمرة له؛لأنّ ثمرة القیاس هی العلم بحکم الفرع،لا نفس حکم الفرع. (4)

ص:317


1- (1) .راجع:البحر المحیط:72/4.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:606/1؛الوجیز:195؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163/1؛المهذّب:1971/5.
3- (3) .الإحکام:173/3.وراجع:المهذّب:1965/5؛کشف الأسرار:502/3؛شرح التلویح:113/2.
4- (4) .اُصول الفقه الإسلامی:606/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:163164/1.

الخلاصة

الأصل عند الفقهاء القائلین بالقیاس،هو:محلّ الحکم الذی ثبت بالنصّ أو الإجماع،وعند المتکلّمین،هو:النصّ الدالّ علی الحکم؛لأنّه الذی بُنی علیه الحکم،والأصل هو ما بُنی علیه غیره.وبناءً علیه،فالأصل عند الفقهاء فی مثال تحریم النبیذ قیاساً علی الخمر،هو الخمر الثابتة حرمته؛لأنّ الأصل ما کان حکم الفرع مقتبساً منه ومردوداً إلیه،و هذا یتحقّق فی نفس الخمر،وعند المتکلّمین هو النصّ الدالّ علی تحریم الخمر؛لأنّه الذی بُنی علیه التحریم.

قال الآمدی:هل الأصل هو النصّ،أو الخمر،أو الحکم الثابت فی الخمر،و هو التحریم مع اتّفاق الکلّ علی أنّ العلّة فی الخمر-وهی الشدّة المُطربة-لیست هی الأصل،فقال بعض المتکلّمین:الأصل هو النصّ الدالّ علی تحریم الخمر،وقالت الفقهاء:الأصل إنّما هو الخمر الثابتة حرمته،وقال بعضهم:الأصل إنّما هو الحکم الثابت فی الخمر؛لأنّ الأصل ما انبنی علیه غیره،وکان العلم به موصلاً إلی العلم بغیره أو الظنّ،و هذه الخاصیة موجودة فی حکم الخمر،فکان هو الأصل.

وقالوا فی جواب المتکلّمین:لیس الأصل هو النصّ؛لأنّ النصّ هو الطریق إلی العلم بالحکم،ولو تصوّر العلم بالحکم فی الخمر من دون النصّ کان القیاس ممکناً،ولأنّه لو کان النصّ هو الأصل،لکان قول الراوی هو أصل القیاس بطریق أولی؛لکونه طریقاً إلی معرفة النصّ،ولیس کذلک بالاتّفاق.

ولیس الأصل أیضاً هو الخمر؛لأنّه قد یعلم الخمر،ولا یعلم أنّ الحرمة جاریة فیه،ولا فی الفرع،بخلاف ما إذا عُلم الحکم،فکان هو الأصل،ثمّ بعد تقریر کون النزاع لفظیاً قال:والأشبه أن یکون الأصل هو المحلّ،علی ما قاله الفقهاء؛لافتقار الحکم و النصّ إلیه ضرورةً من غیر عکس.

ص:318

وقال الرازی:یجوز تسمیة النصّ أصلاً علی قول المتکلّمین مجازاً،إذ النصّ أصل لحکم الحاصل فی محلّ الوفاق،والحکم الحاصل فی ذلک المحلّ أصل،فأصل الأصل أصل،وأیضاً:فالحکم الذی هو الأصل محتاج إلی محلّه،فیکون محلّ الحکم أصلاً للأصل،فتجوز تسمیته بالأصل مجازاً علی قول الفقهاء.ثمّ قال:وتسمیة العلّة فی محلّ النزاع أصلاً أولی من تسمیة محلّ الوفاق بذلک; لأنّ العلّة مؤثّرة فی الحکم،والمحلّ غیر مؤثّر فی الحکم،فجعل وعلّة الحکم أصلاً له أولی من جعل محلّ الحکم أصلاً له.

أقول:الحقّ هو ما ذهب إلیه الفقهاء و المحقّقون من الاُصولیین،فالأصل هو المشبّه به،ولا یکون ذلک إلاّ محلّ الحکم،لا نفس الحکم ولا دلیله.

أمّا الفرع،فهل هو نفس الحکم المتنازع فیه أو محلّه؟اختلفوا فیه،فمن قال:بأنّ الأصل هو الحکم فی الخمر،قال:الفرع هو الحکم فی النبیذ،ومن قال:بأنّ الأصل هو المحلّ،قال:الفرع هو المحلّ و هو النبیذ.

والفرع عند الفقهاء،هو المحلّ الذی لم یرد فیه نصّ ولا إجماع،وقال المظفّر:الفرع:هو المقیس المطلوب إثبات الحکم له شرعاً،وقال الرازی:الفرع عندنا:عبارة عن الحکم المطلوب إثباته؛لأنّ محلّ الخلاف غیر متفرّع علی الأصل،بل الحکم المطلوب إثباته فیه هو المتفرّع علیه.

والمراد من العلّة،هی:الجهة المشترکة بین الأصل و الفرع التی اقتضت ثبوت الحکم،وتسمّی جامعاً،وعلّة الحکم هو الوصف الجامع علی رأی بعض،یعنی:العلّة هی الوصف الذی بُنی علیه حکم الأصل،و هو فی المثال المذکور سابقاً الإسکار،وقال ابن السمعانی:ذهب بعض الحنفیة وغیرهم إلی صحّة القیاس من غیر علّة إذا لاح بعض الشَّبه،ولکن ذهب جمهور القیاسین إلی أنّ العلّة لا بدّ منها فی القیاس،وهی رکن القیاس،ولا یقوم القیاس إلاّ بها.

واختلفوا فی المراد من العلّة علی أقوال:

ص:319

أحدها:أنّها المعرّف للحکم أی:جعلت علماً علی الحکم.

ثانیها:أنّها الموجب للحکم،علی معنی أنّ الشارع جعلها موجبة لذاتها.

ثالثها:أنّها الموجبة للحکم بذاتها،لا بجعل الله،و هو قول المعتزلة.

رابعها:أنّها الموجبة بالعادة.

خامسها:الباعث علی التشریع بمعنی:إنّه لا بدّ أن یکون الوصف مشتملاً علی مصلحة لأن تکون مقصودة للشارع من شرع الحکم.

وبالجملة،العلّة هی الرکن الرابع من أرکان القیاس،بل هی أساس القیاس ومرتکزه ورکنه العظیم،والعلّة هی الوصف الموجود فی الأصل،والذی من أجله شرّع الحکم فیه.

و أمّا المراد من الحکم،و هو نوع الحکم الذی ثبت للأصل،ویراد إثباته للفرع،وقیل:هو ثمرة القیاس،والمراد به ما ثبت للفرع بعد ثبوته لأصله،وبالجملة،حکم الأصل هو:الحکم الشرعی الذی ورد به النصّ فی الأصل،و ویراد تعدیته أو إثباته فی الفرع،و هو فی المثال المذکور حرمة الخمر،و أمّا الحکم الذی یثبت فی الفرع بالقیاس،و هو فی المثال المذکور تحریم النبیذ،فهو ثمرة القیاس.

اختُلف فی کون حکم الفرع-و هو تحریم النبیذ-رکناً أو ثمرة القیاس،قال الآمدی:و أمّا ثمرة القیاس فحکم الفرع،فإنّه إذا تمّ القیاس أنتج حکم الفرع،ولیس حکم الفرع من أرکان القیاس إذ الحکم فی الفرع متوقّف علی صحّة القیاس،فلو کان رکناً منه لتوقّف علی نفسه و هو محال.

وحکی الزحیلی:إنّ حکم الفرع فی القیاس رکنٌ من أرکان القیاس،ولیس ثمرةً له; لأنّ ثمرة القیاس هی العلم بحکم الفرع،لا نفس حکم الفرع.

أقول:قد عرفت سابقاً معنی الرکن،و هو الداخل فی حقیقة الشیء المحقّق لماهیته،أو هو ما یتمّ به الشیء و هو داخل فیه،فعلی هذا لا یکون حکم الفرع رکناً من أرکان القیاس.

ص:320

الأسئلة

1.ما هو المراد بالأصل عند الفقهاء و المتکلّمین؟

2.اُذکر جواب الفقهاء عن المتکلّمین.

3.اُذکر رأی الآمدی فی الأصل.

4.لماذا تکون تسمیة العلّة فی محلّ النزاع أصلاً أولی من تسمیة محلّ الوفاق؟

5.اُذکر رأی المصنّف فی الأصل.

6.ما هو الفرع؟وضّحه بالمثال،واذکر رأی المحقّق المظفّر و الإمام الرازی.

7.ما هو المراد من العلّة؟اذکر رأی بعض الحنفیة وغیرهم،وهل یصحّ القیاس من غیر علّة أم لا؟

8.اُذکر أقوال العلماء فی المراد من العلّة.

9.ما هو المراد من الحکم؟

10.لماذا یکون حکم الفرع و هو التحریم مثلاً رکناً أو ثمرة القیاس؟

11.لماذا لا یکون حکم الفرع رکناً من أرکان القیاس علی رأی المصنّف؟

ص:321

ص:322

الدرس الأربعون بعد المئة

تعریف العلّة لغةً واصطلاحاً

العلّة التی فی القیاس،مأخوذة من العِلّة بکسر العین،فإنّها تأتی بمعنی المرض،یقال:اعتلّ العلیل علّةً صعبة،ولهذا سمّیت العلّة فی القیاس بهذا الاسم؛لأنّها معنی یحُلُّ بالمحلّ فیتغیر به حال المحل بلا اختیار.وتسمّی العلّة بالمناط،أی:مناط الحکم،و هو متعلّق الحکم من ناط،ینوط،نوطاً،أی:علّق،یعلّق،تعلیقاً،فمناط الحکم إذا أضاف الشرع الحکم إلیه،وناطه به،فحکم الفرع متعلّق بتلک العلّة،فإن وجدت علّة حکم الأصل فی الفرع،وجد مثل حکم الأصل للفرع،و إن انتفت العلّة انتفی الحکم.

وتسمّی أیضاً العلّة بالوصف المناسب الجامع بین الأصل و الفرع،وکذلک تسمّی العلّة بالمعنی الذی لأجله شرّع الحکم،وأیضاً تأتی بمعنی السبب،ولعلّ هذا هو المناسب للمعنی الاصطلاحی؛لأنّ العلّة سبب فی ثبوت الحکم فی الفرع المطلوب إثبات الحکم له. (1)

ص:323


1- (1) .راجع:التعریفات:230؛المهذّب:399/1 و2015/5؛کشف الأسرار:433/3؛المهارة الاُصولیة وأثرها:131؛اُصول الفقه الإسلامی:646/1.

قال بعض المتکلّمین:العلّة و المعلول إنّهما من المعلومات الضروریة،لکن یقال:تنبیهاً:إذا استتبع شیء شیئاً آخر،فالأوّل علّة و الثانی معلول،وبعبارة اخری:إذا صدر شیء عن شیء إمّا استقلالاً أو بانضمام،فالثانی علّة و الأوّل معلول. (1)

وعند الاُصولیین لقد عُرِّفت بتعاریف کثیرة،منها ما قاله فی المهذّب:هو الوصف المعرّف للحکم،اختاره فخر الدِّین الرازی و البیضاوی وکثیرٌ من العلماء.

واعتُرض علیه،بأنّه یلزم من هذا التعریف أنّه لا فرق بین العلّة و العلامة،حیث إنّه یصدق علی العلامة أنّها معرِّفة للحکم،وهی لیست علّة.

ومنها ما قیل:إنّ العلّة هو المؤثّر أو الموجب للأحکام بجعل الله تعالی،ذهب إلی ذلک الغزالی وأکثر الحنفیة.

ومنها ما قیل:العلّة هو الباعث علی الحکم،ذهب إلیه ابن الحاجب و الآمدی. (2)

وقال الشریف الجرجانی بعد تعریف العلّة لغة:...وشریعةً:عبارة عمّا یجب الحکم به معه. (3)

ومنها:هی ما شُرِّع الحکم عنده تحقیقاً للمصلحة. (4)

أقول:أکثر التعریفات المذکورة ترجع إلی تعریف مناط الحکم،إذ کلّ من عرّف العلّة بما أضاف الشرع الحکم إلیه،وناطه به،ونصبه علامة علیه،أو قیل:ما جعله الشارع علامة علی الحکم،مثلاً صرّح الغزالی بقوله:لأنّ العلّة الشرعیة علامة و أمارة لا توجب الحکم بذاتها،إنّما معنی کونها علّة نصب الشارع إیاها علامة،وذلک وضع من الشارع. (5)

ص:324


1- (1) .اللّوامع الإلهیة:106؛الحدود أو التعریفات لابن سینا:65؛التعریفات للجرجانی:232.
2- (2) .المهذّب:399400/1؛اُصول الفقه الإسلامی:646/1؛المستصفی:464/2؛التوضیح لمتن التنقیح:132/2 وما بعدها؛الإحکام:180/3؛کشف الأسرار:501/3.
3- (3) .التعریفات:230.
4- (4) .اُصول الفقه الإسلامی:646/1؛إرشاد الفحول:92/2 وما بعدها.
5- (5) .المستصفی:464/2.

وقال الآمدی:والمختار أنّه لا بدّ وأن تکون العلّة فی الأصل بمعنی الباعث،أی:مشتملة علی حکمة صالحة أن تکون مقصودة للشارع من شرع الحکم. (1)

ومن هذه التعاریف یعلم أنّ غرضهم من العلّة لیس مدلولها الفلسفی،أعنی ما أوجبت معلولها لذاتها،ولم یتخلّف عنها،وهی المؤلّفة من المقتضی،والشرط،وعدم المانع،ومنه ما نقلناه عن الفاضل السیوری علی ما قاله فی اللّوامع الإلهیة.

والشاهد علی ما ذکرناه ما ذکره الزحیلی قبل بیان مسالک العلّة:وینبغی قبل شرح هذه الطرق أن انبّه إلی أنّها طرق لإثبات علّة الأصل،فالعلّة الشرعیة هی أمارة الحکم ومعرّفة له،و قد جعلها الشارع کذلک،فلا یمکن أن تکون أمارة علی التحلیل أو التحریم بذاتها،بل لا بدّ أن یعین الشارع الأمارة التی تدلّ علی الحکم (2).نعم،فسّر أبو بکر الرازی العلّة بما ذکرناه من مدلولها العقلی،فلیراجع. (3)

وعند القائلین بالقیاس العلّة تُطلق عادةً علی معنیین:

الأوّل:الحکمة الباعثة علی تشریع الحکم من تحصیل مصلحة یراد تحقّقها،أو دفع مفسدة ینبغی تجنّبها،مثل وصول المنفعة للمتعاقدین المترتّب علی إباحة البیع،وحفظ الأنساب المترتّب علی تحریم الزنا ووجوب الحدّ علی فاعله،ومن الاُمور الثابتة المعلومة فی الشریعة الإسلامیة بالاستقراء أنّ الأحکام الشرعیة کلّها شُرِّعت لتحقیق مصالح العباد أمّا لجلب المنفعة لهم أو لدفع المفسدة و الضرر عنهم.فعلی هذا،لا یوجد حکمٌ شرعی إلاّ وکان الباعث علیه هو رعایة المصالح ودرء المفاسد،ومن هذا البیان یعلم أنّ مقیاس اعتبار المصلحة و المفسدة هو تقدیر الشارع الحکیم،ولیس بحسب ما یتخیله الناس بحسب أهوائهم وأغراضهم.

ص:325


1- (1) .الإحکام:180/3و264.وراجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:205/1؛التوضیح لمتن التنقیح:134/2.
2- (2) .الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:221/1.وراجع:اُصول الجصّاص:200201/2.
3- (3) .اُصول الجصّاص:199/2.

الثانی:الوصف الظاهر المنضبط الذی یناسب الحکم بتحقیق مصلحة الناس،إمّا بجلب النفع لهم أو دفع الشرّ عنهم،ومعنی الوصف الظاهر أی:الصفة الواضحة التی یمکن إدراکها فی المحلّ الذی ورد فیه الحکم،ومعنی المنضبط أی:الذی ینطبق علی کلّ الأفراد علی حدٍّ سواء،ومعنی مناسبته للحکم أی:الذی یکون ارتباط الحکم به محقّقاً لمصلحة العباد غالباً.

وعلی هذا،فتُطلق العلّة علی کلّ من:الحکمة،والوصف الظاهر،إلاّ أنّ علماء الاُصول خصّصوا اسم العلّة بالوصف الظاهر.و أمّا الحکمة،فهی ما یترتّب علی الحکم من جلب مصلحة أو نفع أو دفع مفسدة أو ضرر،وقرّر جمهور الاُصولیین أنّ التعلیل یکون بالوصف الظاهر المنضبط،سواءٌ أکان معقولاً کالحسن و القبح،أم محسوساً کالقتل و السرقة،ونظراً لخفاء حکمة التشریع وعدم انضباطها أحیاناً قرّروا منع التعلیل بالحکمة مطلقاً،سواء أکانت خفیة أم ظاهرة،منضبطة أم غیر منضبطة،وعندئذ ینبنی الحکم علی الوصف الظاهر المنضبط ویرتبط وجوده بوجوده وعدمه بعدمه،و هذا هو معنی قول الاُصولیین:إنّ الحکم یدور مع علّته لا مع حکمته وجوداً وعدماً. (1)

الفرق بین علّة الحکم وحکمته

کثیراً ما یختلط علی الفقیه علّة الحکم مع حکمته،والعلّة کما عرفت هی ما یدور الحکم مدارها،والحکمة أعمّ من ذلک،وببیان آخر:لو کان الحکم دائراً مدار الشیء وجوداً وعدماً فهو علّة الحکم ومناطه کالإسکار بالنسبة إلی الخمر،و أمّا إذا کان الحکم أوسع ممّا ذکر فی النصّ،أو استنبط،فهو من حِکَم الأحکام ومصالحه لا من

ص:326


1- (1) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:647651/1؛الوجیز:203 وما بعدها؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:205206/1؛روضة الناظر:194195؛إرشاد الفحول:9296/2؛نزهة الخاطر:206/2؛المهذّب:20172023/5؛فواتح الرحموت:469/2 و 488؛التوضیح لمتن التنقیح:134/2 وما بعدها.

مناطاته وملاکاته،و هذا ما سمّوه بالمناسب المؤثّر،ویسمی القیاسون القیاس المبنی علیه قیاساً فی معنی الأصل،ولعلّ من هذا القبیل قوله صلی الله علیه و آله فی الهرّة:«إنّها لیست بنجس،إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات»، (1)فلو کان المفهوم من الروایة أنّ الطواف علّة الحکم ویدور مدارها صحّ إلحاق الحشرات من الفأرة وغیرها بها،و أمّا لو قلنا بأنّه حکمة الحکم لا علّته،یتوقّف فی الإلحاق.

والتفریق بین العلّة و الحکمة یحصل بأحد الاُمور التی یجب علی الفقیه أن یمیز بینهما:

منها:لو کان الحکم دائراً مدار شیء وجوداً وعدماً،فهو علّة الحکم ومناطه،ولذلک لو انقلب الخمر خلاًّ حلّ شربه.

ومنها:إذا لم یکن الحکم دائراً مدار ما یتوهّم أنّه علّة،بل کان أوسع منها فهی حکمة الحکم،مثلاً أنّه سبحانه وتعالی فرض علی المطلّقة تربّص ثلاثة قروء بغیة استعلام حالها من حیث الحمل وعدمه،وأضاف سبحانه بأنّها لو کانت حاملاً فعدّتها وضع حملها: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا یَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ یَکْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِی أَرْحامِهِنَّ إِنْ کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ (2)،وقال فی آیة اخری: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ یَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . (3)

ومعلومٌ أنّ استعلام حال المطلّقة لیس ملاکاً للحکم،وعلّة لوجوب الاعتداد،و إنّما هو من حِکَم الحکم التی تلازمه فی أکثر موارده،ولذلک لو عُلم حال المطلّقة وخلوّ رحمها عن الحمل بسبب غیبة زوجها عنها مدّة سنة،أو انکشفت حالها بواسطة الطرق العلمیة الحدیثة المفیدة للیقین،فمع ذلک کلّه یجب علیها الاعتداد،ولیس لها ترک الاعتداد بحجّة أنّ رحمها خال عن الحمل،فلا فائدة فی الاعتداد. (4)

ص:327


1- (1) .سنن الترمذی:154/1 ح92کتاب الطهارة.
2- (2) .البقرة:228.
3- (3) .الطلاق:4.
4- (4) .راجع:الوجیز:202204؛اُصول الفقه الإسلامی:649651/1؛الإحکام:180183/3.

أقول:وبالجملة،الحکمة هی المصلحة المقصودة للشارع من تشریع الحکم،أی:ما قصد إلیه الشارع من جلب نفع ودفع ضرر،والفارق بینها وبین العلّة أنّ العلّة أُخذ فیها قید الانضباط،والحکمة لم یؤخذ فیها ذلک القید،ولذا لم یجعلها الشارع أمارة علی حکمه،ولم یدر الحکم معها وجوداً وعدماً بخلاف العلّة.

فی بعض تقسیمات العلّة

العلّة تنقسم إلی عدّة تقسیمات باعتبارات وحیثیات مختلفة،ونحن نذکر هنا ما یلی منها:

الأوّل:تنقسم العلّة من حیث هی إلی قسمین:

القسم الأوّل:العلّة الشرعیة،وهی التی تصیر علّة بجعل جاعل مثل الإسکار فی الخمر حیث إنّ الإسکار موجودٌ فی الخمر قبل مجیء الشرع،ولکن الشارع عدّه علّة لتحریم الخمر،وهکذا.

القسم الثانی:العلّة العقلیة،وهی التی لا تصیر علّة بجعل جاعل،بل بنفسها مثل الحرکة من المتحرّک،فإنّ الحرکة علّة علی کون المتحرّک متحرّکاً من جهة العقل.

الثانی:العلّة تنقسم من حیث ثبوتها إلی قسمین:

القسم الأوّل:العلّة المنصوصة،وهی ما ثبتت بالنصّ،أی:ما نصّ الشارع علیها نصّاً صریحاً کقوله صلّی اللّه علیه و آله:«إنّما جعل الاستئذان من أجل البصر»، (1)أو ما نصّ الشارع علیها نصّاً غیر صریح کقوله صلّی اللّه علیه و آله:«إنّها لیست بنجس،إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات». (2)

القسم الثانی:العلّة المستنبطة،وهی ما ثبتت باجتهاد المجتهدین کتعلیل تحریم الخمر بالإسکار،وتعلیل وجوب القصاص علی القاتل بالمحدّد بالقتل العمد العدوان،وهکذا.

ص:328


1- (1) .صحیح البخاری:1544 ح6241؛صحیح مسلم:1015 ح5603.
2- (2) .سنن الترمذی:154/1 ح92 کتاب الطهارة.

الثالث:العلّة تنقسم من حیث لزوم الوصف أو عدم ذلک إلی قسمین:

القسم الأوّل:الوصف اللاّزم،و هو الوصف المعلّل به الذی یکون لازماً للموصوف لا ینفکّ عنه.

القسم الثانی:الوصف غیر اللاّزم،و هو الوصف غیر اللاّزم للموصوف،أی:ینفکّ عنه،و هو نوعان:الأوّل:الوصف الأصلی،و هو ما ثبت بمقتضی الطبیعة و الخلقة،الثانی:الوصف الطارئ کانقلاب العصیر خمراً أو خلاًّ.

الرابع:العلّة تنقسم من حیث تعدّیها وعدم ذلک إلی قسمین:

القسم الأوّل:العلّة المتعدّیة،وهی التی توجد فی محالّ وفروع غیر المحلّ المنصوص علیه کالإسکار یوجد فی الأصل و هو الخمر،ویوجد فی غیره کالنبیذ وأی مسکر.

القسم الثانی:العلّة القاصرة،وهی التی لا توجد إلاّ فی المحلّ المنصوص علیه،فلا تتجاوزه إلی غیره مثل السفر،حیث إنّه علّة لقصر الصلاة بناءً علی مذهب أهل السنّة،ولا یوجد فی غیره.

أقول:بل السفر علّة لوجوب الفطر و القصر.

ص:329

الخلاصة

تسمّی العلّة بالمناط أی:مناط الحکم،و هو متعلّق الحکم،من ناط ینوط نوطاً،أی،علّق یعلّق تعلیقاً،فمناط الحکم إذا أضاف الشرع الحکم إلیه،فحکم الفرع متعلّق بتلک العلّة،فإن وجدت علّة حکم الأصل فی الفرع وجد مثل حکم الأصل للفرع،و إن انتفت العلّة انتفی الحکم.وتسمّی أیضاً العلّة بالوصف المناسب الجامع بین الأصل و الفرع،وبالمعنی الذی لأجله یشرّع الحکم،وبمعنی السبب،ولعلّ هذا هو المناسب للمعنی الاصطلاحی؛لأنّ العلّة سبب فی ثبوت الحکم فی الفرع المطلوب إثبات الحکم له.

قال بعض المتکلّمین:إذا صدر شیء عن شیء إمّا استقلالاً أو بانضمام،فالثانی علّة و الأوّل معلول،أو إذا استتبع شیء شیئاً آخر،فالأوّل علّة و الثانی معلول.

و قد عُرِّفت عند الاُصولیین بتعاریف کثیرة،منها ما قاله فی المهذّب:هو الوصف المعرّف للحکم،واختاره بعض الأعلام کالبیضاوی و الرازی،واعُترض علیه،بأنّه یلزم من هذا التعریف أنّه لا فرق بین العلّة و العلامة،حیث إنّه یصدق علی العلامة أنّها معرّفة للحکم،وهی لیست علّة،ومنها:إنّ العلّة هو المؤثّر أو الموجب للأحکام بجعل الله تعالی،ومنها:العلّة هو الباعث علی الحکم،وقال الشریف الجرجانی:وهی-العلّة-شریعةً:عبارة عمّا یجب الحکم به معه.

أقول:أکثر التعریفات المذکورة ترجع إلی تعریف مناط الحکم،إذ کلّ من عرّف العلّة بما أضاف الشرع الحکم إلیه،وناطه به،ونصبه علامة علیه،أو قیل:ما جعله الشارع علامة علی الحکم،وما اختاره الآمدی من أنّه لا بدّ وأن تکون العلّة فی الأصل بمعنی الباعث،أی:مشتملة علی حکمة صالحة مقصودة للشارع.

ومن هذه التعاریف یعلم أنّ غرضهم من العلّة لیس مدلولها الفلسفی،والشاهد علی ما ذکرناه تنبیه الزحیلی حیث قال:هذه الطرق طرق لإثبات علّة الأصل،فالعلّة

ص:330

الشرعیة هی أمارة الحکم ومعرّفة له...إلخ.

وعند القائلین بالقیاس العلّة تُطلق عادةً علی معنیین:

الأوّل:الحکمة الباعثة علی تشریع الحکم من تحصیل مصلحة یراد تحقّقها،أو دفع مفسدة ینبغی تجنّبها،مثل حصول المنفعة للمتعاقدین المترتّب إلی إباحة البیع.فعلی هذا،لا یوجد حکم شرعی إلاّ وکان الباعث علیه هو رعایة المصالح ودرء المفاسد،ومن هذا البیان یعلم أنّ مقیاس اعتبار المصلحة و المفسدة هو تقدیر الشارع الحکیم،ولیس بحسب ما یتخیله الناس بحسب أهوائهم وأغراضهم.

الثانی:الوصف الظاهر المنضبط الذی یناسب الحکم بتحقیق مصلحة الناس،أمّا بجلب النفع لهم أو دفع الشرّ عنهم،ومعنی الوصف الظاهر أی:الصفة الواضحة التی یمکن إدراکها فی المحلّ الذی ورد فیه الحکم.

فعلی هذا،تُطلق العلّة علی کلّ من:الحکمة،والوصف الظاهر،إلاّ أنّ علماء الاُصول خصّصوا اسم العلّة بالوصف الظاهر.و أمّا الحکمة،فهی ما یترتّب علی الحکم من جلب مصلحة أو نفع أو دفع مفسدة أو ضرر.

وکثیراً ما یختلط علی الفقیه علّة الحکم مع حکمته،فالأمر الذی یجب التوجه علیه معرفة الفرق بینهما.فالعلّة هی ما یدور الحکم مدارها،والحکمة أعمّ من ذلک.وببیان آخر:لو کان الحکم دائراً مدار الشیء وجوداً وعدماً،فهو علّة الحکم ومناطه،و أمّا إذا کان الحکم أوسع ممّا ذکر فی النصّ أو استنبط،فهو من حِکَم الأحکام ومصالحه لا من مناطاته وملاکاته،و هذا ما سمّوه بالمناسب المؤثّر.

والتفریق بین العلّة و الحکمة یحصل بأحد أمرین:

أحدهما:لو کان الحکم دائراً مدار شیء وجوداً وعدماً،فهو علّة الحکم ومناطه.

ثانیهما:إذا لم یکن الحکم دائراً مدار ما یتوهّم أنّه علّة،بل کان أوسع منها فهی حکمة الحکم.

ص:331

أقول:الحکمة هی المصلحة المقصودة للشارع من تشریع الحکم،والفارق بینها وبین العلّة أنّ العلّة اخذ فیها قید الانضباط،والحکمة لم یؤخذ فیها ذلک القید،ولذا لم یجعلها الشارع أمارة علی حکمه،ولم یدر الحکم معها وجوداً وعدماً بخلاف العلّة.

والعلّة تنقسم إلی عدّة تقسیمات باعتبارات وحیثیات مختلفة:

الأوّل:تنقسم العلّة من حیث هی إلی قسمین:العلّة الشرعیة،وهی التی تصیر علّة بجعل جاعل؛والعلّة العقلیة،وهی التی لا تصیر علّة بجعل جاعل،بل بنفسها مثل الحرکة من المتحرّک.

الثانی:تنقسم من حیث ثبوتها إلی قسمین:العلّة المنصوصة،وهی ما ثبت بالنصّ،أی:ما نصّ الشارع علیها نصّاً صریحاً أو نصّاً غیر صریح؛والعلّة المستنبطة،وهی ما ثبتت باجتهاد المجتهدین کتعلیل تحریم الخمر بالإسکار.

الثالث:تنقسم من حیث لزوم الوصف أو عدم ذلک إلی قسمین:الوصف اللاّزم،و هو الوصف المعلّل به الذی یکون لازماً للموصوف لا ینفکّ عنه؛والوصف غیر اللاّزم،و هو الوصف غیر اللاّزم للموصوف،أی:ینفکّ عنه،و هو نوعان:الأوّل:الوصف الأصلی،و هو ما ثبت بمقتضی الطبیعة و الخلقة،الثانی:الوصف الطارئ کانقلاب العصیر خلاًّ.

الرابع:تنقسم من حیث تعدّیها وعدم ذلک إلی قسمین:العلّة المتعدّیة،وهی التی توجد فی محالّ وفروع غیر المحلّ المنصوص علیه کالإسکار یوجد فی الأصل و هو الخمر،ویوجد فی غیره کالنبیذ وأی مسکر؛والعلّة القاصرة،وهی التی لا توجد إلاّ فی المحلّ المنصوص،علیه فلا تتجاوزه إلی غیره مثل السفر،حیث إنّه علّة لقصر الصلاة بناءً علی مذهب أهل السنّة،ولا یوجد فی غیره.

أقول:بل السفر علّة لوجوب الإفطار و القصر.

ص:332

الأسئلة

1.اُذکر المعانی التی تسمّی العلّة بها.

2.اُذکر تعریف العلّة الذی ذکره بعض المتکلّمین.

3.اُذکر عدّة من التعاریف التی ذکرها الاُصولیون.

4.لماذا ترجع أکثر التعریفات المذکورة إلی تعریف مناط الحکم؟

5.علی کم معنی تطلق العلّة عادة عند القائلین بالقیاس؟ثمّ وضّح الحکمة الباعثة علی تشریع الحکم.

6.ما هی علّة الحکم ومناطه؟

7.بأی شیء یحصل التفریق بین العلّة و الحکمة؟

8.اُذکر تقسیم العلّة من حیث هی.

9.اُذکر تقسیم العلّة من حیث لزوم الوصف وعدمه.

10.اُذکر تقسیم العلّة من حیث تعدّیها وعدمه.

ص:333

ص:334

الدرس الحادی و الأربعون بعد المئة

شروط صحّة القیاس

اشارة

*قال الشاشی:شروط صحّة القیاس خمسة:

الشرط الأول أحدها:ان لا یکون فی مقابلة النصّ،ومثال القیاس فی مقابلة النصّ

فیما حکی أنّ الحسن بن زیاد سُئل عن القهقهة فی الصلاة،فقال:انتقضت الطهارة بها، (1)قال السائل:لو قذف

ص:335


1- (1) .أقول:القهقهة لا تنقض الوضوء،وعلیه الإمامیة،قال الشیخ الطوسی:القهقهة لا تنقض الوضوء سواء کانت فی الصلاة أو فی غیرها،وبه قال جابر بن عبدالله،وأبو موسی الأشعری،وعطاء،والزهری،والشافعی،ومالک،وأحمد،وإسحاق.وقال أبو حنیفة وأصحابه:إن کانت فی الصلاة نقضت الوضوء،وبه قال الشعبی،والنخعی،والثوری،دلیلنا ما قدّمناه من إجماع الفرقة،وثبوت حکم الطهارة،وأن لا دلیل علی أنّ ذلک ینقض الوضوء.وروی أدیم بن الحرّ أنّه سمع أبا عبد الله علیه السّلام یقول:«لیس ینقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفیک من الأسفلین».الخلاف:121122/1 مسألة 62. ولکنّ العلاّمة یقول:.القهقهة لا تنقض الوضوء و إن وقعت فی الصلاة،لکن تبطلها،ذهب إلیه أکثر علمائنا،إلی أن قال:وقال أبو حنیفة:یجب الوضوء بالقهقهة فی الصلاة،و هو مروی عن الحسن،والنخعی،وبه قال الثوری،وعن الأوزاعی روایتان؛لأنّ أبا العالیة الریاحی روی أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یصلّی،فجاء ضریر فتردّی فی بئر فضحک طوائف من القوم،فأمر النبی صلی الله علیه و آله الذین ضحکوا أن یعیدوا الوضوء و الصلاة.سنن البیهقی:146/1،و هو مرسل.

محصنة فی الصلاة لا ینتقض به الوضوء،مع أنّ قذف المحصنة أعظم جنایة،فکیف ینتقض بالقهقهة وهی دونه؟فهذا قیاسٌ فی مقابلة النصّ،و هو حدیث الأعرابی الذی فی عینه سوء.

وکذلک إذا قلنا:جاز حجّ المرأة مع المحرم،فیجوز مع الأمینات،کان هذا قیاساً بمقابلة النصّ،و هو قوله علیه السّلام:«لا یحلّ لامرأة تؤمن بالله و الیوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أیام ولیالیها إلاّ ومعها أبوها أو زوجها أو ذو رحم محرم منها». (1)، (2)

أقول:مراده من هذا الشرط هو أن لا یکون القیاس الظنّی الذی له شَبَه من الرأی معارضاً ومنافیاً للنصّ الصحیح المعمول به کالآیة و السنّة،إذ القیاس فی مقابلة النصّ باطل،و قد تقدّم فی مقدّمة البحث عن القیاس.

الشرط الثانی أن لا یتضمّن تغییر حکم من أحکام النصّ

*قال الشاشی:الثانی:أن لا یتضمّن تغییر حکم من أحکام النصّ،ومثاله ما یقال:النیة شرط فی الوضوء بالقیاس علی التیمّم،فإنّ هذا یوجب تغییر آیة الوضوء من الإطلاق إلی التقیید،وکذلک إذا قلنا:الطواف بالبیت صلاة بالخبر،فیشترط له الطهارة وستر العورة کالصلاة،کان هذا قیاساً یوجب تغییر نصّ الطواف من الإطلاق إلی التقیید. (3)

قد سبق من المصنّف فی المطلق و المقید أنّ المطلق من کتاب الله تعالی إذا أمکن العمل بإطلاقه،فالزیادة(أی التقیید)علیه بخبر الواحد و القیاس لا یجوز،مثاله فی قوله

ص:336


1- (1) .سنن أبی داود:191/2 ح1726؛صحیح مسلم:606 ح32453261 باب سفر المرأة مع محرم إلی حجٍّ وغیره؛صحیح البخاری:321 ح1086-1088 باب فی کم یقصُر الصلاة؛سنن الترمذی:492 ح1169 باب ما جاء فی کراهیة أن تسافر المرأة وحدها.
2- (2) .اُصول الشاشی:85.وراجع:اُصول الفقه للخضری:325؛کشف الأسرار:444/3؛اُصول الجصّاص:353/2.
3- (3) .اُصول الشاشی:8586.وراجع:المستصفی:439/2؛اُصول السرخسی:165/2 وما بعدها؛کشف الأسرار:445/3.

تعالی: فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ ، (1)فالمأمور به هو الغسل علی الإطلاق،فلا یزاد علیه شرط النیة،یعنی:إنّ إطلاق آیة الوضوء یقتضی حصول الوضوء بدون النیة،و هذا القیاس یقتضی عدمه عند عدم النیة،ففیه إبطال إطلاق الآیة،ونسخه ونسخ النصّ لا یجوز بالقیاس إجماعاً، (2)وهکذا یقال فی توضیح مثال الثانی.

الشرط الثالث أن لا یکون المُعدّی حکماً لا یعقل معناه

*قال الشاشی:الثالث:أن لا یکون المُعدّی حکماً لا یعقل معناه،ومثال ما لا یعقل معناه فی حقّ جواز التوضّؤ بنبیذ التمر،فإنّه لو قال:جاز بغیره من الأنبذة بالقیاس علی نبیذ التمر،أو قال:لو شج فی صلاته أو احتلم،یبنی علی صلاته بالقیاس علی ما إذا سبقه الحدث،لا یصحّ؛لأنّ الحکم فی الأصل لم یعقل معناه،فاستحال تعدیته إلی الفرع.وبمثل هذا قال أصحاب الشافعی:قُلّتان نجستان إذا اجتمعتا صارتا طاهرتین،فإذا افترقتا بقیتا علی الطهارة بالقیاس علی ما إذا وقعت النجاسة فی القلّتین؛لأنّ الحکم لو ثبت فی الأصل کان غیر معقول معناه. (3)

أقول:إنّ الحکم المعدّی إلی الفرع الثابت بالکتاب و السنّة و الإجماع لا یکون حکماً غیر معقول المعنی،وفیما ذکر إشارة إلی أنّه لا یجوز أن یکون حکم الأصل ثابتاً بالقیاس؛لأنّه إن اتّحدت العلّة بالقیاسین،فذکر الواسطة ضائع،و إن لم تتّحد بطل أحد القیاسین؛لابتنائه علی غیر العلّة التی اعتبرها الشارع فی الحکم.

و أمّا توضیح المثال المذکور،فقد روی أنّه صلی الله علیه و آله توضّأ بنبیذ التمر حین لم یجد الماء،وقال بعض الناس:یجوز التوضّؤ بغیره من الأنبذة بالقیاس علی نبیذ التمر، (4)وفیه:

ص:337


1- (1) .المائدة:6.
2- (2) .أحسن الحواشی:85.
3- (3) .اُصول الشاشی:85-86.وراجع:الوجیز:198؛کشف الأسرار:509510/3؛وزاد فیه:و هذا قول جمهور الفقهاء من السلف و الخلف.
4- (4) .قال المحقّق فی المعتبر،لا یجوز الوضوء بالنبیذ نیاً کان أو مطبوخاً مع وجود الماء وعدمه،وحُکی عن أبی حنیفة جواز الوضوء به مطبوخاً مع عدم الماء فی السفر،وادّعی أنّ عبدالله بن

إنّ جواز التوضّئ بنبیذ التمر ثابت بالنصّ علی خلاف القیاس،وما ثبت بخلاف القیاس لا یقاس علیه غیره،بل یقتصر فی مورد النصّ.وهکذا یوجّه ما ذکره من الأمثلة الاُخر،من قبیل:شجّ الرأس فی الصلاة،والاحتلام فیها،وما قاله أصحاب الشافعی؛لأنّ الحکم-و هو عدم النجاسة-لم یثبت فی الأصل؛لأجل ضعف الحدیث واضطرابه،ولو ثبت فی الأصل،کان معناه وعلّته غیر معقول؛لأنّه لیس له وجهٌ یدرک عقلاً حتّی یقاس علیه غیره. (1)

ص:338


1- (1) .راجع:أحسن الحواشی:85-86؛تسهیل اصول الشاشی:171.
الشرط الرابع أن یقع التعلیل لحکم شرعی لا لأمر لغوی

*قال الشاشی:الرابع:أن یقع التعلیل لحکم شرعی لا لأمر لغوی،ومثاله فی قولهم:المطبوخ المنصَّف (1)خمر؛لأنّ الخمر إنّما کان خمراً؛لأنّه یخامر العقل،وغیره یخامر العقل أیضاً فیکون خمراً بالقیاس(یعنی فعلی هذا یجری علیه أحکام،وعند الحنفیة هو لیس بخمر و إنّما الخمر النی من ماء العنب إذا صار مسکراً بالغلیان والاشتداد،و هو اسم خالص له باتّفاق أهل اللّغة،وحرمته فوق حرمة غیره من الأشربة المحرّمة)،والسارق إنّما کان سارقاً؛لأنّه أخذ مال الغیر بطریق الخفیة،و قد شارکه النبّاش فی هذا المعنی فیکون سارقاً بالقیاس،و هذا قیاس فی اللّغة مع اعترافه أنّ الاسم لم یوضع له فی اللّغة،والدلیل علی فساد هذا النوع من القیاس أنّ العرب تسمّی الفرس(أدهم)لسواده،و(کُمَیتاً)لحمرته ثمّ لا یطلق هذا الاسم علی الزنجی و الثوب الأحمر،ولو جرت المقایسة فی الأسامی اللّغویة لجاز ذلک لوجود العلّة،ولأنّ هذا یؤدّی إلی إبطال الأسباب الشرعیة؛وذلک لأنّ الشرع جعل السرقة سبباً لنوع من الأحکام،فإذا علّقنا الحکم بما هو أعمّ من السرقة،و هو أخذ مال الغیر علی طریق الخفیة،تبین أنّ السبب کان فی الأصل معنی هو غیر السرقة،وکذلک جعل شرب الخمر سبباً لنوع من الأحکام،فإذا علّقنا الحکم بأمر أعمّ من الخمر تبین أنّ الحکم کان فی الأصل متعلّقاً بغیر الخمر. (2)

لا یقال:ما ذکره المصنّف من أنّه إذا علّقنا الحکم بما هو أعمّ من السرقة..إلخ،منقوض بسائر الأقیسة؛لأنّ الحکم لمّا تعدّی إلی الفرع تعلّق الحکم بأمر أعمّ من النصوص وغیره; وذلک لأنّ أثر القیاس فی تغییر وصف الحکم من الخصوص إلی العموم لا فی إثبات أصله.

لأنّه یقال:فرق بین ما نحن فیه وبین الأقیسة الشرعیة وبین دلالات النصوص؛لأنّ

ص:339


1- (1) .المطبوخ المنصّف:هو ماء العنب الذی طبخ حتّی ذهب نصفه.
2- (2) .اُصول الشاشی:87 85.وراجع:المستصفی:436/2؛اُصول السرخسی:156/2 وما بعدها،کشف الأسرار:459/3 و 504.

فیما نحن فیه إثبات الاسم الأعمّ أوّلاً،ثمّ جعل الحکم الأعمّ من النصوص تبعاً لإثبات الاسم بخلاف سائر الأقیسة الشرعیة ودلالات النصوص،فإنّها لیست تعدیة الاسم،بل تعدیة الحکم من الأصل إلی الفرع بعلّة مشترکة بینهما،فإثبات الحکم فی النصوص بالنصّ وفی المقیس بالعلّة.

الشرط الخامس أن لا یکون الفرع منصوصاً علیه

قال الشاشی:الخامس:أن لا یکون الفرع منصوصاً علیه، (1)ومثاله (2)ما یقال:إعتاق الرقبة الکافرة فی کفّارة الیمین و الظهار لا یجوز بالقیاس علی کفّارة القتل،ولو جامع المظاهر فی خلال الإطعام یستأنف الإطعام بالقیاس علی الصوم،ویجوز للمحصر أن یتحلّل بالصوم بالقیاس علی المتمتّع،والمتمتّع إذا لم یصم فی أیام التشریق یصوم بعدها بالقیاس علی قضاء رمضان. (3)

وقال القاضی صدر الشریعة:اعلم أنّ للقیاس أربعة شرائط:

أوّلها:أن لا یکون حکم الأصل أی المقیس علیه مخصوصاً به کشهادة خزیمة.

ثانیها:أن لا یکون حکم الأصل معدولاً عن القیاس،و هو إمّا بأن لا یدرکه العقل

ص:340


1- (1) .لأنّ التعدیة إن کانت علی وفاق النصّ الذی فی الفرع،فلا فائدة فی القیاس; لأنّ النصّ یغنی عنه،و إن کانت علی خلافه،فهو باطل لمناقضته حکم النصّ.
2- (2) .أی:مثال فوات الشرط الخامس،أنّهم قالوا:لا یجوز إعتاق الرقبة الکافرة فی کفّارة الیمین و الظهار بالقیاس علی کفّارة القتل لقوله تعالی: فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (النساء:92)،وعلی مبنی المصنّف،هذا القیاس فاسد،لأنّ الرقبة فی کفّارة الیمین و الظهار غیر مقیدة بصفة الإیمان فی النص مثل قوله تعالی: وَ الَّذِینَ یُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ یَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَتَمَاسّا ذلِکُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ (المجادلة:3)؛فکان موجب النصّ إجزاء مطلق الرقبة مؤمنة کانت أو کافرة،فکان شرط الإیمان إبطال موجب النصّ و هو إطلاق الحکم.راجع:أحسن الحواشی:87؛تسهیل اصول الشاشی:173. وعلی مثل ما ذکرنا یوجّه المثال الثانی و الثالث.
3- (3) .اُصول الشاشی:85 و 87.وراجع:المستصفی:449/2؛اُصول السرخسی:192/2 وما بعدها؛کشف الأسرار:444/3-445.

کأعداد الرکعات،أو یکون مستثنی عن سننه کأکل الناسی،فإنّه ینافی رکن الصوم(یعنی:أکل الناسی مستثنی عن سنن القیاس،و هو تحقّق الفطر من کلّ ما دخل فی الجوف،و إذا کان مستثنی عن سننه لا یصحّ القیاس علیه،فلا یصحّ قیاس الأکل خطاً علی الأکل ناسیاً).

ثالثها:وأن یکون المعدّی حکماً شرعیاً ثابتاً بأحد الاُصول الثلاثة; أی:الکتاب،والسنّة،والإجماع من غیر تغییر إلی فرع یکون نظیراً للأصل فی الحکم،ولا نصّ فی الفرع،والمراد نصّ دالّ علی الحکم المعدّی أو عدمه لا مطلق النصّ،فلا تثبت اللّغة بالقیاس.

رابعها:أن لا یغیر القیاس حکم النصّ،فلا یصحّ شرطیة التملیک فی طعام الکفّارة قیاساً علی الکسوة؛لأنّها تغیر حکم قوله تعالی: فَکَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساکِینَ ، (1)وکذا شرط الإیمان فی کفّارة الیمین قیاساً علی کفّارة القتل یخالف إطلاق النص. (2)

خاتمة

ذکر الشوکانی أنّ للأصل شروطاً،وللعلّة شروطاً اخر،وقال:ولا یکون القیاس صحیحاً إلاّ بشروط اثنی عشر لا بدّ من اعتبارها فی الأصل.ثمّ قال:ولها(أی:العلّة)شروط أربعة وعشرون..وبعد ذکر الشروط لهما،قال:و قد ذکر بعض أهل الاُصول شروطاً،والحقّ عدم اعتبارها، (3)ومن طالبها فلیراجع،ثمّ قال:و أمّا ما یشترط فی الفرع فاُمور أربعة:

أحدها:مساواة علّته لعلّة الأصل.والثانی:مساواة حکمه لحکم الأصل.والثالث:أن لا یکون منصوصاً علیه.والرابع:أن لا یکون متقدّماً علی حکم الأصل. (4)

ص:341


1- (1) .المائدة:89.
2- (2) .التوضیح لمتن التنقیح:121/2 وما بعدها.
3- (3) .إرشاد الفحول:89/2 وما بعدها.
4- (4) .إرشاد الفحول:97/2.

و قد عرفت أنّ مجموع الشروط التی اعتبرها وذکرها العلاّمة الشوکانی لصحّة القیاس تصیر أربعین شرطاً.

نعم،ذکر عدّة من الأعلام أیضاً شروطاً لصحّة القیاس،و قد تختلف کمّاً وکیفاً،فلتطلب من الکتب المطوّلة ذات الصلة. (1)

ص:342


1- (1) .راجع:المستصفی:435/2 وما بعدها؛المهذّب:1975/5 وما بعدها؛فواتح الرحموت:455/2 وما بعدها؛البحر المحیط:73/4 و97 وما بعدهما؛الوجیز:197 وما بعدها؛الإحکام:173/3 وما بعدها؛اُصول الجصّاص:313314/2؛کشف الأسرار:443/3 وما بعدها؛اُصول الفقه الإسلامی:633/1 وما بعدها؛نزهة الخاطر:200/2 وما بعدها؛روضة الناظر:181-184؛اُصول الفقه للخضری:293 و319 وما بعدهما؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:191/1 وما بعدها؛اُصول السرخسی:149150/2.

الخلاصة

قال الشاشی:شروط صحّة القیاس خمسة:

أحدها:أن لا یکون فی مقابلة النصّ.

أقول:مراده من هذا الشرط هو أن لا یکون القیاس الظنّی الذی له شَبه من الرأی معارضاً ومنافیاً للنصّ الصحیح المعمول به کالآیة و السنّة.

الثانی:أن لا یتضمّن تغییر حکم من أحکام النصّ.

الثالث:أن لا یکون المعدّی حکماً لا یعقل معناه.

أقول:یعنی إنّ الحکم المعدّی إلی الفرع الثابت بالکتاب و السنّة و الإجماع لا یکون حکماً غیر معقول المعنی،وفیما ذکر إشارة إلی أنّه لا یجوز أن یکون حکم الأصل ثابتاً بالقیاس؛لأنّه إن اتّحدت العلّة بالقیاسین،فذکر الواسطة ضائع،و إن لم تتّحد بطل أحد القیاسین؛لابتنائه علی غیر العلّة التی اعتبرها الشارع فی الحکم.

الرابع:أن یقع التعلیل لحکم شرعی لا لأمر لغوی،فإنّ الدلیل علی فساد القیاس فی الأسامی اللّغویة أنّه یؤدّی إلی إبطال الأسباب الشرعیة؛وذلک لأنّ الشرع جعل السرقة سبباً لنوع من الأحکام،فإذا علّقنا الحکم بما هو أعمّ من السرقة،و هو أخذ مال الغیر علی طریق الخفیة،تبین أنّ السبب کان فی الأصل معنی هو غیر السرقة.

لا یقال:ما ذکره المصنّف من أنّه إذا علّقنا الحکم بما هو أعمّ من السرقة منقوض بسائر الأقیسة؛لأنّ الحکم لمّا تعدّی إلی الفرع تعلّق الحکم بأمر أعمّ من النصّ وغیره; وذلک لأنّ أثر القیاس فی تغییر وصف الحکم من الخصوص إلی العموم لا فی إثبات أصله.

لأنّه یقال:فرق بین ما نحن فیه وبین الأقیسة الشرعیة وبین دلالات النصوص; لأنّ فیما نحن فیه إثبات الاسم الأعمّ أوّلاً،ثمّ جعل الحکم الأعمّ من النصوص تبعاً لإثبات الاسم بخلاف سائر الأقیسة الشرعیة ودلالات النصوص،فانها لیست تعدیة الاسم،بل

ص:343

تعدیة الحکم من الأصل إلی الفرع بعلّة مشترکة بینهما،فإثبات الحکم فی النصوص بالنصّ وفی المقیس بالعلّة.

الخامس:أن لا یکون الفرع منصوصاً علیه.

قال صدر الشریعة:للقیاس أربعة شرائط:الأوّل:أن لا یکون حکم الأصل أی المقیس علیه مخصوصاً به کشهادة خزیمة.ثانیها:أن لا یکون حکم الأصل معدولاً عن القیاس،و هو أمّا بأن لا یدرکه العقل کأعداد الرکعات،أو یکون مستثنی عن سننه کأکل الناسی.ثالثها:أن یکون المعدّی حکماً شرعیاً ثابتاً بالکتاب أو السنّة أو الإجماع من غیر تغییر إلی فرع یکون نظیراً للأصل فی الحکم،ولا نصّ فی الفرع.رابعها:أن لا یغیر القیاس حکم النصّ،فلا یصحّ شرطیة التملیک فی طعام الکفّارة قیاساً علی الکسوة؛لأنّها تغیر حکم قوله تعالی: فَکَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساکِینَ .

وذکر الشوکانی أنّ للأصل شروطاً،وللعلّة شروطاً اخر،وقال:لا یکون القیاس صحیحاً إلاّ بشروط اثنی عشر لا بدّ من اعتبارها فی الأصل،وللعلّة شروط أربعة وعشرون،ثمّ قال:و قد ذکر بعض أهل الاُصول شروطاً،والحقّ عدم اعتبارها،ثمّ قال:وتعتبر فی الفرع أربعة شروط:أحدها:مساواة علّته لعلّة الأصل.الثانی:مساواة حکمه لحکم الأصل.الثالث:أن لا یکون منصوصاً علیه.الرابع:أن لا یکون متقدّماً علی حکم الأصل.

ص:344

الأسئلة

1.کم عدد الشروط التی ذکرها الشاشی لصحّة القیاس؟اذکرها.

2.ما هو المراد من مقابلة النصّ؟

3.وضّح وبین الشرط الثالث.

4.لماذا لا بدّ أن لا یقع التعلیل لأمر لغوی؟

5.اُذکر الفرق بین ما نحن فیه وبین الأقیسة الشرعیة،وبین دلالات النصوص.

6.اُذکر الشروط التی اعتبرها صدر الشریعة.

7.کم شرطاً اعتبر العلاّمة الشوکانی لصحّة القیاس؟

ص:345

ص:346

الدرس الثانی و الأربعون بعد المئة

شروط العلّة

نظراً لأهمّیة بعض شروط العلّة نذکرها مستقلّة هنا،فنقول:

اشترط الاُصولیون القائلون بالقیاس فی العلّة أربعة وعشرین شرطاً، (1)منها ما هو متّفقٌ علیه،ومنها ما هو مختلفٌ فیه،وأهمّ هذه الشروط ومجملها هی أن تکون العلّة مناسبة للحکم،ظاهرة،منضبطة،متعدیة غیر قاصرة،مطّردة،لم یلغ الشارع اعتبارها،و هذه الشروط مستمدّة من تتبّع العلل المنصوص علیها،ومن تعریف العلّة،ومن مقصود التعلیل و هو تعدیة الحکم إلی الفرع،ونکتفی هنا بشرح وتعریف بعضها:

1.أن تکون العلّة وصفاً مناسباً للحکم،ومعنی المناسبة هو أن یغلب علی ظنّ المجتهد أنّ الحکم حاصل عند ثبوتها من أجلها دون شیء سواها،وغَلَبة الظنّ تتوافر بملاحظة تحقّق الحکمة التشریعیة غالباً،وهی قد تقدّم عبارة عن جلب المصلحة أو النفع أو دفع المفسدة أو الضرر،والمناسبة تثبت شرعاً أمّا بالتأثیر فی الحکم أو بالملائمة. (2)

ص:347


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:652/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:211/1؛البحر المحیط:119/4 وما بعدها؛إرشاد الفحول:9395/2؛الوجیز:206.
2- (2) .اُصول الفقه الإسلامی:652653/1؛الاُصول العامّة للفقه المقارن:309؛البحر المحیط:119/4؛المحصول:1214/4؛إرشاد الفحول:95/2.

ولکن قال الغزالی:ویجوز أن یکون(أی الوصف الجامع)مناسباً وغیر مناسب أو متضمّناً لمصلحة مناسبة. (1)

2.أن تکون العلّة ظاهرة جلیة،لأنّه إذا کانت خفیة لم یمکن التحقّق من وجودها أو عدم وجودها،وبالتالی لا یمکن إثبات الحکم بها فی الفرع؛لأنّ العلّة-علی ما قیل-علامة علی الحکم ومعرّفة له،فإذا لم تکن ظاهرة لم تصلح علامة ولا معرّفة،ومعنی ظهور العلّة أن تکون مدرکة بحاسّة من الحواس الظاهرة،فإذا کان الوصف خفیاً،فلا یصحّ التعلیل به. (2)

3.أن تکون العلّة وصفاً منضبطاً،أی:بأن تکون لها حقیقة معینة محدّدة لا تختلف اختلافاً کبیراً باختلاف الأفراد و الأحوال،أمّا الاختلاف الیسیر فلا یؤبه له؛لأنّ أساس القیاس هو التساوی بین الفرع و الأصل فی علّة الحکم،و هذا التساوی یلزم منه أن تکون العلّة مضبوطة محدّدة لا تختلف باختلاف الحالات وإلاّ لم یتأت القیاس؛لعدم التساوی. (3)

4.أن تکون العلّة متعدیة ولیست وصفاً قاصراً علی الأصل،أی أن تکون وصفاً یمکن تحقّقه فی عدّة أفراد،ویمکن وجوده فی غیر الأصل،إذ لو کانت العلّة قاصرة علی الأصل لم یصحّ القیاس؛لأنّ قصور العلّة یمنع تحقّقها فی الفرع،ومبنی القیاس هو مشارکة الفرع للأصل فی علّة الحکم،فإذا لم تتحقّق هذه المشارکة بسبب عدم تعدّی العلّة إلی غیر الأصل وقصورها علیه،فلا یصحّ القیاس،مثاله:لا یصحّ تعلیل تحریم الخمر بأنّها عصیر العنب المخمّر؛لأنّ هذه العلّة لا توجد فی غیر الخمر،بخلاف ما إذا علّلنا بالإسکار،فإنّه یصحّ؛لأنّه یوجد فیها وفی غیرها. (4)

ص:348


1- (1) .المستصفی:463/2؛روضة الناظر:184؛فواتح الرحموت:488/2.
2- (2) .راجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:213/1-214؛الوجیز:204؛اُصول الفقه الإسلامی:654/1؛الاُصول العامّة:308-309؛البحر المحیط:121/4؛المستصفی:463/2؛روضة الناظر:184.
3- (3) .راجع:الاُصول العامّة:309؛اُصول الفقه الإسلامی:655/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:214/1؛البحر المحیط:120/4؛الوجیز:205.
4- (4) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:656/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:215/1؛الاُصول العامّة:309؛الوجیز:207.

تنبیه

قال فی الإحکام:اتّفق الکلّ علی أنّ تعدیة العلّة شرطٌ فی صحّة القیاس،وعلی صحّة العلّة القاصرة،منصوصة کانت أو مجمعاً علیها،و إنّما اختلفوا فی صحّة العلّة القاصرة إذا لم تکن منصوصة ولا مجمعاً علیها،وذلک کتعلیل أصحاب الشافعی حرمة الرِّبا فی النقدین بجوهریة الثمنیة،فذهب الشافعی وأصحابه وأحمد بن حنبل و القاضی أبو بکر الباقلانی و القاضی عبدالجبّار وأبو الحسین البصری وأکثر الفقهاء و المتکلّمین إلی صحّتها،وذهب أبو حنیفة وأصحابه وأبو عبد الله البصری و الکرخی إلی إبطالها،والمختار صحّتها. (1)

وقال صدر الشریعة:ولا یجوز التعلیل بالعلّة القاصرة عندنا،وعند الشافعی یجوز،فإنّه جعل علّة الربا فی الذهب و الفضّة الثمنیة،فهی مقتصرة علی الذهب و الفضّة غیر متعدّیة عنهما،إذ غیر الحجرین لم یخلق ثمناً،والخلاف فیما إذا کانت العلّة مستنبطة،أمّا إذا کانت منصوصة،فیجوز علیتها اتّفاقاً؛لأنّ الحکم فی الأصل ثابت بالنصّ سواء کان معقول المعنی أو لا. (2)

ویتّضح لک أنّ معنی قصور العلّة هو أن لا توجد فی محلٍّ آخر-کما عرفت آنفاً-یقاس علی الأصل،واختار ابن الهمام أن لیس بشرط؛لأنّ معنی تعلیل الحکم بعلّة قاصرة علی محلّه ظنّ أنّ الحکم إنّما شرّع لذلک الوصف،و هذا الظنّ لا یندفع بسبب القصور.

اعترض المانعون بأنّه لا فائدة من التعلیل بالقاصر،إذ لا یوصل إلی تعدیة الحکم الذی هو المقصود من القیاس،وجوابه أنّ تعلیل الأحکام لیست فائدته منحصرة فی تعدیتها،بل هناک فائدة اخری وهی معرفة حکمة التشریع،وذکر فی المهذّب فوائد اخر فلتراجع هناک.

واستدلّ المجوّزون علی جواز التعلیل بالعلّة القاصرة المستنبطة بأدلة،منها:

ص:349


1- (1) .الإحکام:192/3.وراجع:المحصول:1259/4.
2- (2) .التوضیح:139/2.وراجع:منهاج الوصول إلی معیار العقول:677؛فواتح الرحموت:492/2.

الأوّل:إنّ العلّة القاصرة المستنبطة کالعلّة القاصرة المنصوص علیها أو المجمع علیها ولا فرق،فإذا جاز التعلیل بالعلّة القاصرة المنصوص علیها أو المجمع علیها،فکذلک إذا استنبطت فیجب أن تکون صحیحة.

الثانی:إذا کان الوصف القاصر مناسباً للحکم،والحکم ثابت علی وفقه،فإنّه یغلب علی الظنّ کونه علّة للحکم،أی:کونه معرّفاً للحکم،ولا معنی لصحّة العلّة إلاّ ذلک. (1)

ومن تأمّل فی المسألة یجد أنّ الخلاف فیها لفظی،وأنّه لا أثر له فی الفروع الفقهیة،حیث إنّ أصحاب المذهبین قد اتّفقوا علی المعنی،إذ المجوّزون أرادوا بالتعلیل استخراج المناسب،فحکموا بصحّة التعلیل،وأصحاب أبی حنیفة وبعض الشافعیة أرادوا بالتعلیل القیاس-و هذا اصطلاح أکثر الحنفیة،والعلّة القاصرة لیست قیاساً،بل هی إبداء حکمة للحکم الشرعی،فلم تکن تعلیلاً.

وببیان آخر:إنّ من أجاز التعلیل بها إنّما أراد استخراج المناسبة وإبداء الحکمة،و هذا لا یمنعه من لم یجز التعلیل بها.ومراد من منع التعلیل بها منع القیاس و التعدیة،و هذا لا یخالف فیه من أجاز التعلیل بالعلّة القاصرة. (2)

واتّفق الاُصولیون علی أنّه یجوز تعلیل الحکم العدمی،أی:السلبی بالوصف العدمی کتعلیل عدم جواز تصرّفات المجنون بعدم العقل،ویجوز أیضاً تعلیل الحکم الوجودی بالوصف الوجودی،و هذا واضح مثل تعلیل تحریم الخمر بالإسکار،واختلفوا فی جواز کون العلّة حکماً شرعیاً أو وصفاً عارضاً کالشدّة المطربة فی الخمر،أو لازماً کالطعم فی الأصناف الربویة أو الکیل فیها علی اختلاف بین الحنفیة و الشافعیة،واختلفوا أیضاً فی تعلیل الحکم الوجودی بالوصف العدمی علی مذهبین:

أحدهما:لا یجوز،و هو ما اختاره ابن الحاجب؛لأنّ الحکم الوجودی أمرٌ متمیز،

ص:350


1- (1) .المهذّب:21492152/5.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه للخضری:320؛المهذّب:21522153/5.

والأمر العدمی غیر متمیز، (1)إذ لا میز فی الأعدام و الحال أنّه یشترط فی العلّة أن تکون متمیزة عمّا لا یکون علّة،فلا یصلح الوصف العدمی أن یکون علّةً.

وثانیهما:یجوز التعلیل بالوصف العدمی،و هو رأی الأکثر،ومثّلوا له بجواز ضرب السید عبده لعدم امتثاله،وقالوا:إنّ الضرب یوجد عند عدم الامتثال وینعدم عند عدمه؛لأنّه لا یضرب إذا امتثل.

أقول:یرد علی القول الثانی بأنّ الوصف العدمی لا وجود له،فکیف یصیر علّة لأمر وجودی له الوجود،فالعدم لبطلانه وانتفاء شیئیته لا یمکن أن یکون علّة.

طرق معرفة العلّة

قال بعض الاُصولیین:إنّ أهمّ هذه الطرق هی:النصّ،والإجماع،والسبر و التقسیم،والمناسبة،وتنقیح المناط.وقال الرازی فی المحصول:الطرق الدالّة علی علّیة الوصف فی الأصل عشرة:النصّ،والإیماء،والإجماع،والمناسبة،والتأثیر،والشبه،والدوران،والسبر و التقسیم،والطرد وتنقیح المناط،واُمور اخری اعتبرها قوم وهی عندنا ضعیفة. (2)

وقال الغزالی:فإذا تمهّدت هذه المقدّمات فیرجع إلی المقصود،و هو بیان إثبات العلّة فی الطریق الثانی الذی هو القیاس بالاتّفاق،و هو ردّ فرع إلی أصل بعلّة جامعة بینهما،و هذا القیاس یحتاج إلی إثبات مقدّمتین:

إحداهما:مثلاً أنّ علّة تحریم الخمر الإسکار.

والثانیة:إنّ الإسکار موجودٌ فی النبیذ.

ص:351


1- (1) .التحقیق هو أنّه لم یقل أحد من العقلاء بتمایز الأعدام مطلقاً،کما لم یقل أحدٌ منهم بعدم تمایزها مطلقاً،بل المتّفق علیه أنّ الأعدام قد تتمایز و قد لا تتمایز،فإن اخذت مضافةً إلی الوجودات،فتکون متمایزة،و إن اخذت بما هی أعدام من غیر أن تکون مضافة إلی الوجودات،فلا تکون متمایزة،فهذا مذهب الحکماء و المحقّق الطوسی.
2- (2) .المحصول:1169/4.

أمّا الثانیة:فیجوز أن تثبت بالحسّ،ودلیل العقل،والعرف،وبدلیل الشرع،وسائر أنواع الأدلّة.

و أمّا الاُولی:فلا تثبت إلاّ بالأدلّة الشرعیة من الکتاب،والسنّة،والإجماع أو نوع استدلال مستنبط،فإنّ کون الشدّة علامة التحریم وضع شرعی،کما أنّ نفس التحریم کذلک وطریقه طریقه.وجملة الأدلّة الشرعیة ترجع إلی ألفاظ الکتاب و السنّة والاجمناع والاستنباط. (1)

وقال التفتازانی فی التلویح:لا شکّ أنّ کون الوصف الجامع علّة حکم خبری غیر ضروری،فلا بدّ فی إثباته من دلیل،وله مسالک صحیحة ومسالک یتوهّم صحّتها،فلا بدّ من التعرّض لها ولما یتعلّق بکل منهما،فالمسالک الصحیحة ثلاثة:النصّ،والإجماع،والمناسبة.ثمّ النصّ إمّا صریح و هو ما دلّ بوضعه،و إمّا إیماء و هو أن یلزم من مدلول اللّفظ،فالصریح له مراتب..إلخ. (2)

أقول:إنّ هذه الطرق مسالک لإثبات علّة الأصل،و أمّا إثبات العلّة فی الفرع فیکون إمّا بطریق الإدراک بالحسّ أو العقل أو العرف،مثال ما یدرک بالحسّ التطواف (3)الذی علّل الرسول صلی الله علیه و آله به الحکم بطهارة سؤر الهرّة،فقال:

«إنّه لیس بنجس،إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات».

إذ فی نجاسة سؤرها مع کثرة الطواف علینا حرج ومشقّة،و هذه العلّة وهی التطواف متحقّقة فی الفأر بوساطة الحسّ،فیحکم بطهارة سؤرها. (4)

ص:352


1- (1) .المستصفی:372373/2.وراجع:روضة الناظر:170؛نزهة الخاطر:170/2.
2- (2) .التلویح علی التوضیح:145/2.
3- (3) .التطواف:إمّا مصدر من طاف یطوف طوفاً وطوافاً وطوفاناً وتطوافاً بمعنی دارَ حوله،أو مصدر من طوّف حول الشیء تطویفاً وتطوافاً،طاف وأکثر المشی حوله.أقرب الموارد:722/1.
4- (4) .**قال فی المدارک:اختلف الأصحاب فی سؤر الفأرة،فقال الشیخ فی النهایة فی باب المیاه:و إذا وقعت الفأرة و الحیة فی الآنیة وشربتا منها ثمّ خرجتا منها لم یکن به بأس،والأفضل ترک استعماله علی کلّ حال.وقال فی باب أحکام النجاسات:و إذا أصاب ثوب الإنسان کلب أو خنزیر أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وکان رطباً وجب غسل الموضع الذی أصابه،وظاهر المصنّف فی المعتبر عدم الکراهة.والمعتمد الطهارة و إن استحبّ غسل أثرها من الثوب.مدارک الإحکام:136/1.وقال فی المعتبر:الفرع التاسع:لا بأس بسؤر الفأرة و الحیة،وکذا لو وقعتا فی الماء وخرجتا،وقال فی النهایة:الأفضل ترک استعماله.لنا روایة إسحاق بن عمّار عن أبی عبد الله علیه السّلام،إنّ أبا جعفر علیه السّلام کان یقول:«لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت فی الإناء أن یشرب منه ویتوضّأ».وسائل الشیعة:171/1 ح2 باب 9 من أبواب الأسآر؛المعتبر:100/1.وقال الشهید:وفی سؤر ما لا یؤکل لحمه قول الشیخ(الطوسی)بالمنع،عدا ما لا یمکن التحرّز منه کالهرّة و الفأرة و الحیة لمفهوم قول الصادق علیه السّلام:«کلّ ما یؤکل لحمه فلا بأس بسؤره».ویعارضه حدیث الفضل ومرسلة الوشاء،کان الصادق علیه السّلام یکره سؤر کلّ ما لا یؤکل لحمه.ولا بأس بالهرّة..إلی أن قال:ویکره ما خرج منه الفأرة و الوزغة-فی الأصحّ-للحدیث المذکور(عن الصادق علیه السّلام یکره سؤر..إلخ).والشیخان وأتباعهما حرّموه؛لقول الکاظم علیه السّلام فی الفأرة:«اغسل ما رأیت من أثرها،وللنزح من الوزغة،ویحملان علی الندب،وکذا الحیة و الثعلب و الأرنب-فی الأقوی-والأمر بغَسل الید منهما للندب.ذکری الشیعة:107/1-108.وقال فی الجواهر:الأسآر کلّها طاهرة،عدا سؤر الکلب و الخنزیر و الکافر،وفی نجاسة سؤر المسوخ تردّد للتردّد فی نجاستها..إلی أن قال:نعم،ربما وقع الخلاف فی نجاسة ذی السؤر کالمسوخ وولد الزنا و المجبّرة و المجسّمة،بل غیر المؤمن و المستضعف و الیهود و النصاری،ثمّ نقل عن السرائر قال:وما عدا الکلب و الخنزیر کلّه طاهر فی حال حیاته بدلالة إجماع أصحابنا المنعقد علی أنّهم أجازوا شرب سؤرها و الوضوء منه،و هو الحجّة بعد الأصل والاستصحاب و العموم مضافاً إلی الأخبار.جواهر الکلام:368/1؛تذکرة الفقهاء:3940/1؛الخلاف:187/1.

ومثال ما یدرک بالعقل:الإسکار،فإنّه علّة لتحریم الخمر،و هو یتحقّق فی النبیذ بطریق العقل؛لأنّ العقل هو الذی یفرّق بین الإغماء مثلاً وبین السُّکر.

ومثال ما یدرک بالعرف:الکیل علّة عند الحنفیة،أو الطعم عند الشافعیة فی تحریم الرِّبا لتفاضل فی بیع البرّ بالبرّ،و هذه العلّة متحقّقة فی بیع الذرّة بالذرّة بطریق العرف،إذ العرف یقضی بأنّ الذرّة مکیل کما یکال البرّ.

أقول:کلّ المباحث التی تعرّضنا لها إلی هنا کانت علی رأی القائلین بالقیاس فحسب.

ص:353

الخلاصة

نظراً لأهمیة بعض شروط العلّة نذکرها هنا مستقلّة،فنقول:اشترط الاُصولیون القائلون بالقیاس فی العلّة أربعة وعشرین شرطاً،منها ما هو متّفقٌ علیه،ومنها ما هو مختلَفٌ فیه،وأهمّ هذه الشروط:أن تکون العلّة مناسبة للحکم،ظاهرة،منضبطة،متعدیة غیر قاصرة،مطّردة،لم یلغ الشارع اعتبارها،و هذه الشروط مستمدّة من تتبّع العلل المنصوص علیها،ومن تعریف العلّة،ومن مقصود التعلیل و هو تعدیة الحکم إلی الفرع،ونکتفی هنا بذکر أربعة منها:

-أن تکون العلّة وصفاً مناسباً للحکم،ومعنی المناسبة هو أن یغلب علی ظنّ المجتهد أنّ الحکم حاصل عند ثبوتها من أجلها دون شیء سواها،وغَلَبة الظنّ تتوافر بملاحظة تحقّق الحکمة التشریعیة غالباً.

-أن تکون العلّة ظاهرة جلیة؛لأنّه إذا کانت خفیة لم یمکن التحقّق من وجودها أو عدم وجودها،وبالتالی لا یمکن إثبات الحکم بها فی الفرع؛لأنّ العلّة علامة علی الحکم ومعرّفة له،ومعنی ظهور العلّة أن تکون مدرکة بحاسّة من الحواس الظاهرة.

-أن تکون العلّة وصفاً منضبطاً،أی:بأن تکون لها حقیقة معینة محدّدة لا تختلف اختلافاً کبیراً باختلاف الأفراد و الأحوال،أمّا الاختلاف الیسیر فلا یؤبه له؛لأنّ أساس القیاس هو التساوی بین الفرع و الأصل فی علّة الحکم،و هذا التساوی یلزم منه أن تکون العلّة مضبوطة محدّدة لا تختلف باختلاف الحالات،وإلاّ لم یتأت القیاس؛لعدم التساوی.

-أن تکون العلّة متعدّیة ولیست وصفاً قاصراً علی الأصل،أی:أن تکون وصفاً یمکن تحقّقه فی عدّة أفراد،ویمکن وجوده فی غیر الأصل،إذ لو کانت العلّة قاصرة علی الأصل لم یصحّ القیاس؛لأنّ قصور العلّة یمنع تحقّقها فی الفرع.

قال فی الإحکام:اتّفق الکلّ علی أنّ تعدیة العلّة شرطٌ فی صحّة القیاس،وعلی

ص:354

صحّة العلّة القاصرة،منصوصة کانت أو مجمعاً علیها،و إنّما اختلفوا فی صحّة العلّة القاصرة إذا لم تکن منصوصة ولا مجمعاً علیها.

وقال صدر الشریعة:ولا یجوز التعلیل بالعلّة القاصرة عندنا،وعند الشافعی یجوز،فإنّه جعل علّة الرِّبا فی الذهب و الفضّة الثمنیة،فهی مقتصرة علی الذهب و الفضّة غیر متعدّیة عنهما،إذ غیر الحجرین لم یخلق ثمناً،والخلاف فیما إذا کانت مستنبطة،أمّا إذا کانت منصوصة،فیجوز علیتها اتّفاقاً.

اعترض المانعون بأنّه لا فائدة من التعلیل بالقاصر،إذ لا یوصل إلی تعدیة الحکم الذی هو المقصود من القیاس.اُجیب عنه بأنّ تعلیل الأحکام لیست فائدته منحصرة فی تعدیتها،بل هناک فائدة اخری وهی معرفة حکمة التشریع.

واستدلّ المجوّزون علی جواز التعلیل بالعلّة القاصرة المستنبطة بالأدلّة التالیة:

الأوّل:إنّ العلّة القاصرة المستنبطة کالعلّة القاصرة المنصوص علیها أو المجمع علیها ولا فرق.

الثانی:إذا کان الوصف القاصر مناسباً للحکم،والحکم ثابت علی وفقه،فإنّه یغلب علی الظنّ کونه علّة للحکم،أی:کونه معرّفاً للحکم،ولا معنی لصحّة العلّة إلاّ ذلک.

والخلاف فی المسألة لفظی،حیث إنّه لا أثر له فی الفروع الفقهیة،وذلک أنّ مراد من أجاز التعلیل بها استخراج المناسبة وإبداء الحکمة،و هذا لا یمنعه من لم یجز التعلیل بها.ومراد من منع التعلیل بها منع القیاس و التعدیة،و هذا لا یخالف فیه من أجاز التعلیل بالعلّة القاصرة.

واتّفق الاُصولیون علی أنّه یجوز تعلیل الحکم العدمی أی:السلبی بالوصف العدمی کتعلیل عدم جواز تصرّفات المجنون بعدم العقل،ویجوز أیضاً تعلیل الحکم الوجودی بالوصف الوجودی،و هذا واضح مثل تعلیل تحریم الخمر بالإسکار،واختلفوا فی جواز کون العلّة حکماً شرعیاً أو وصفاً عارضاً کالشدّة المطربة فی

ص:355

الخمر،أو لازماً کالطعم فی الأصناف الربویة أو الکیل فیها علی اختلاف بین الحنفیة و الشافعیة،واختلفوا أیضاً فی تعلیل الحکم الوجودی بالوصف العدمی علی مذهبین:

أحدهما:أنّه لا یجوز؛لأنّ الحکم الوجودی أمرٌ متمیز،والأمر العدمی غیر متمیز إذ لا میز فی الأعدام و الحال أنّه یشترط فی العلّة أن تکون متمیزة،عمّا لا یکون علّة.

ثانیهما:أنّه یجوز التعلیل بالوصف العدمی،و هو رأی الأکثر،ومثّلوا له بجواز ضرب السید عبده لعدم امتثاله،وقالوا إنّ الضرب یوجد عند عدم الامتثال.

أقول:یرد علی القول الثانی بأنّ الوصف العدمی لا وجود له،فکیف یصیر علّة لأمر له الوجود،فالعدم لبطلانه وانتفاء شیئیته لا یمکن أن یکون علّة.

قال بعض الاُصولیین:إنّ أهمّ هذه الطرق هی:النصّ،والإجماع،والسبر و التقسیم،والمناسبة،وتنقیح المناط.وقال الرازی:الطرق الدالّة علی علّیة الوصف فی الأصل عشرة.وقال الغزالی:و هذا القیاس یحتاج إلی إثبات مقدّمتین:إحداهما:مثلاً أنّ علّة تحریم الخمر الإسکار.والثانیة أنّ الإسکار موجودٌ فی النبیذ.

أمّا الثانیة:فیجوز أن تثبت بالحسّ ودلیل العقل و العرف وبدلیل الشرع وسائر أنواع الأدلّة.

أمّا الاُولی:فلا تثبت إلاّ بالأدلّة الشرعیة من الکتاب و السنّة و الإجماع أو نوع استدلال مستنبط،فإنّ کون الشدّة علامة التحریم وضع شرعی،کما أنّ نفس التحریم کذلک وطریقه طریقه.

وقال التفتازانی:والمسالک الصحیحة ثلاثة:النصّ،والإجماع،والمناسبة،ثمّ النصّ إمّا صریح و إمّا إیماء،فالصریح له مراتب.

أقول:هذه الطرق مسالک لإثبات علّة الأصل،و أمّا إثبات العلّة فی الفرع فیکون أمّا بطریق الإدراک بالحسّ أو العقل أو العرف.

ص:356

الأسئلة

1.اُذکر أهمّ شروط العلّة.

2.ما هو معنی المناسبة؟

3.لماذا لا بدّ من أن تکون العلّة وصفاً منضبطاً؟

4.لماذا لا بدّ من أن تکون العلّة متعدّیة؟

5.اُذکر اعتراض المانعین من کون العلّة قاصرة،وجوابه.

6.اُذکر استدلال المجوّزین علی جواز التعلیل بالعلّة القاصرة المستنبطة.

7.لماذا یکون الخلاف فی المسألة لفظیاً؟

8.لماذا لا یجوز تعلیل الحکم الوجودی بالوصف العدمی؟

9.اُذکر الإیراد الذی یرد علی جواز التعلیل بالوصف العدمی.

10.اُذکر أهمّ طرق معرفة العلّة.

11.اُذکر طرق إثبات العلّة فی الفرع.

ص:357

ص:358

الدرس الثالث و الأربعون بعد المئة

القیاس الشرعی

اعلم أنّه لا یکتفی فی القیاس بمجرّد وجود الجامع فی الأصل و الفرع،بل لا بدّ من دلیل یشهد له فی الاعتبار،وقیل:إنّ الأصل فی النصوص التعلیل عند العامّة،لکنّهم اتّفقوا علی أنّه لا یصحّ التعلیل بجمیع الأوصاف؛لأنّه لا تأثیر لکثیر من الأوصاف فی الحکم،واتّفقوا أیضاً علی أنّه لا یصحّ بأی وصف شاء المستدلّ من غیر دلیل.فإذن،لا بدّ من دلیل یعرف به کون الوصف الجامع مثلاً علّة.

وقال الزحیلی:لا یکفی لإجراء عملیة القیاس مجرّد معرفة الوصف الجامع بین الأصل و الفرع،بل لا بدّ من دلیل یدلّ علی اعتبار هذا الوصف. (1)

أو یقال:وجود العلّة فی الأصل لا یثبت إلاّ بالأدلّة الشرعیة; لأنّ کون الوصف علّة وضع شرعی کما أنّ الحکم کذلک،فلم یمکن إلاّ بالدلیل الشرعی،والأدلّة الشرعیة علی اعتباره أمّا نصّ أو إجماع أو استنباط،وتُعرف الأدلّة المذکورة بما سمّوه مسالک العلّة،أو الطرق الدالّة علی إثبات علّیة الوصف.

ص:359


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:661/1؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:220/1.

تمهید

لمّا فرغ الشاشی من بیان شرائط القیاس وتعریفه ورکنه و هو العلّة،شرعَ فی بیان الأدلّة الشرعیة التی تتوقّف معرفة العلّة علیها،فقال:

ثمّ إنّما یعرف کون المعنی علّة بالکتاب وبالسنّة أو بالإجماع أو بالاجتهاد والاستنباط. (1)

فهذه ثلاثة أقسام:النصّ أو الإجماع أو الاستنباط،إذ الکتاب و السنّة داخلتان فی النصّ،والاستنباط عطف تفسیر علی الاجتهاد،فعلی هذا فهما داخلتان تحت عنوان الاستنباط أو المناسبة علی ما سیأتی.

الطریق الأوّل من القسم الأوّل:النصّ

*قال الشاشی:فمثال العلّة المعلومة بالکتاب کثرة الطواف،فإنّها جُعِلت علّة لسقوط الحرج فی الاستئذان فی قوله تعالی: لَیْسَ عَلَیْکُمْ وَ لا عَلَیْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَیْکُمْ بَعْضُکُمْ عَلی بَعْضٍ ، (2)ثمّ أسقط رسول الله علیه الصلاة و السلام حرج نجاسة سؤر الهرّة بحکم هذه العلّة،فقال علیه السّلام:«الهرّة لیست بنجسة فإنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات». (3)فقاس أصحابنا جمیع ما یسکن فی البیوت کالفأرة و الحیة علی الهرّة بعلّة الطواف،وکذلک قوله تعالی: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ ، (4)بین الشرع أنّ الإفطار للمریض و المسافر لتیسیر الأمر علیهم؛لیتمکّنوا من تحقیق ما یترجّح فی نظرهم من الإتیان بوظیفة الوقت أو تأخیره إلی أیام اخر،وباعتبار هذا المعنی قال أبو حنیفة:المسافر إذا نوی فی أیام رمضان واجباً آخر یقع عن واجب آخر؛لأنّه لمّا ثبت له الترخّص بما یرجع إلی مصالح بدنه،و هو الإفطار،فلأن یثبت له ذلک بما یرجع إلی مصالح دینه،و هو إخراج النفس عن عهدة الواجب أولی. (5)

ص:360


1- (1) .اُصول الشاشی:8788.
2- (2) .النور:58.
3- (3) .سنن أبی داود:5657/1 ح75 و76؛سنن ابن ماجه:142/1 ح367.
4- (4) .البقرة:185.
5- (5) .اُصول الشاشی:88.

المراد بالنصّ:ما کانت دلالته علی العلّة ظاهرة سواء أکانت الدلالة قاطعة أو ظاهرة محتملة،فالنصّ القاطع:هو أن یرد النص دالاًّ علی التعلیل صراحةً بدون احتمال لغیره،وله ألفاظٌ کثیرة،منها:کی،لأجل،من أجل،إذن،لعلّه کذا،لسبب کذا،لمؤثّر کذا،لموجب کذا..ونحوها،ولذکر الأمثلة فلیراجع إلی المطوّلات.و أمّا النصّ الظاهر:فهو ما دلّ علی العلّیة مع احتمال غیرها احتمالاً مرجوحاً. (1)

قال الآمدی بعد تفسیر النصّ بما یلی:و هو أن یذکر دلیل من الکتاب أو السنّة علی التعلیل بالوصف بلفظ موضوع له فی اللّغة،من غیر احتیاج فیه إلی نظر واستدلال،و هو قسمان:

الأوّل:ما صرّح فیه بکون الوصف علّة أو سبباً للحکم الفلانی،وذلک کما لو قال:العلّة کذا،أو السبب کذا.

القسم الثانی:ما ورد فیه حرف من حروف التعلیل کاللاّم،وکی،والکاف،ومن و إنّ و الباء. (2)

وذکر بعضهم:إنّ النصّ،و هو صریح،هو ما دلّ علی العلّیة بالوضع،وله مراتب فی الدلالة علی العلّیة قوّةً وضعفاً أعلاها«لأجل»إلخ. (3)

والتفتازانی وغیره قسّم النصّ علی الصریح و هو ما دلّ بوضعه،وعلی الإیماء و هو أن یلزم من مدلول اللّفظ. (4)

ولکن قال الغزالی:إثبات العلّة بأدلّة نقلیة إنّما یستفاد من صریح النطق أو من

ص:361


1- (1) .راجع:المحصول:11691171/4؛الوسیط:222225/1؛روضة الناظر:170؛نزهة الخاطر:170/2؛التوضیح:144147/2؛البحر المحیط:167177/4؛المهذّب:20272031/5؛شرح المعالم:310/2 وما بعدها.
2- (2) .الإحکام:222/3.
3- (3) .فواتح الرحموت:519/2؛اُصول الفقه للخضری:325؛التلویح علی التوضیح:145/2.
4- (4) .التلویح علی التوضیح:145/2؛روضة الناظر:170171؛کشف الأسرار:510/3.

الإیماء أو من التنبیه علی الأسباب،وهی ثلاثة أضرب:

الضرب الأوّل:الصریح،وذلک أن یرد فیه لفظ التعلیل کقوله:لکذا أو لعلّة کذا أو لأجل کذا..وما یجری مجراه من صیغ التعلیل،مثل قوله تعالی: کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ . (1)

الضرب الثانی:التنبیه و الإیماء علی العلّة کقوله علیه السّلام لمّا سُئِلَ عن الهرّة:

«إنّها من الطوّافین علیکم أو الطوّافات»،

فإنّه و إن لم یقل:لأنّها أو لأجل إنّها من الطوّافین،لکن أومأ إلی التعلیل؛لأنّه لو لم یکن علّة لم یکن ذِکر وصف الطواف مفیداً،فإنّه لو قال:إنّها سوداء أو بیضاء،لم یکن منظوماً،إذ لم یرد التعلیل..إلی أن قال:فوجوه التنبیه لا تنضبط.

الضرب الثالث:التنبیه علی الأسباب بترتیب الأحکام علیها بصیغة الجزاء و الشرط وبالفاء التی هی للتعقیب و التسبیب کقوله علیه السّلام:

«من أحیی أرضاً میتة فهی له»، (2)و«من بدّل دینه فاقتلوه». (3)

إن قیل:هذه الوجوه المذکورة تدلّ علی السبب،والعلّة دلالة قاطعة أو دلالة ظنیة.

قلنا:أمّا ما رتّب علی غیره بفاء الترتیب وصیغة الجزاء و الشرط،فیدلّ علی أنّ المرتّب علیه معتبر فی الحکم لا محالة،فهو صریح فی أصل الاعتبار،أمّا اعتباره بطریق کونه علّة،أو سبباً متضمّناً للعلّة بطریق الملازمة و المجاورة،أو شرطاً یظهر الحکم عنده بسبب آخر،أو یفید الحکم علی تجرّده حتّی یعمّ الحکم المُحال أو یضمّ إلیه وصفٌ آخر حتّی یختصّ ببعض المحال،فمطلق الإضافة من الألفاظ المذکورة لیس صریحاً فیها،ولکن قد یکون ظاهراً من وجه،ویحتمل غیره،و قد یکون متردّداً

ص:362


1- (1) .الحشر:7.
2- (2) .سنن الترمذی:579 ح1378 و 1379؛سنن أبی داود:232/3 ح3073.
3- (3) .سنن النسائی:969 ح4065 و 40664071.

بین وجهین فیتبع فی موجب الأدلّة.

و إنّما الثابت بالإیماء و التنبیه کون الوصف المذکور معتبراً بحیث لا یجوز إلغاؤه،مثال هذا قوله صلّی اللّه علیه و آله:

«لا یقض القاضی و هو غضبان» (1)

و هو تنبیهٌ علی أنّ الغضب علّة فی منع القضاء،لکن قد یتبین بالنظر أنّه لیس علّةً لذاته،بل لما یتضمّنه من الدهشة المانعة من استیفاء الفکر حتّی یلحق به الجائع و الحاقن و المتألّم،فیکون الغضب مناطاً لا لعینه،بل لمعنیً یتضمّنه. (2)

ملخّص الکلام:قد یدلّ النصّ علی أنّ وصفاً معیناً مثلاً علّةً للحکم الذی ورد فیه،فیکون ثبوت العلّة بالنصّ،وتسمّی العلّة فی هذه الحالة بالمنصوص علیها،إلاّ أنّ دلالة النصّ علی العلّة لا تکون دائماً صریحة،فقد تکون بالإیماء و الإشارة،و إذا کانت صریحة فقد تکون دلالتها علی العلّة قطعیة أو ظنیة،والدلالة الصریحة القطعیة هی التی لا تحتمل غیر العلّة،ویکون هذا بالصیغ و الألفاظ التی وضعت فی اللّغة للتعلیل،و قد تقدّم ذکرها.وبالطبع،الدلالة بالنصّ الصریح غیر القطعی فی العلّیة هی التی تحتمل غیرها،ولکنّه احتمالٌ مرجوح لا یمنع من ظهور النصّ فیها،فتکون دلالته علی العلّیة صریحة ظنّیة،و أمّا إذا کانت الدلالة علی العلّة بالنصّ غیر الصریح فی العلّة لکنّه یشیر إلی العلّة وینبّه علیها; وذلک بأن توجد قرینة تدلّ علی العلّة،ومن مظاهر هذا النوع مجیء جملة مؤکّدة ب(أنّ)بعد جملة جاءت مشتملة علی الحکم،مثل قوله صلی الله علیه و آله جواباً لمن سأله عن سؤر الهرّة:

«إنّه لیس بنجس إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات».

أو بأن یقع الکلام موقع الجواب،أو بأن یقرَن الوصف بالحکم،فهذا الاقتران یدلّ

ص:363


1- (1) .المستصفی:373380/2.
2- (2) .المصدر.

علی أنّ الوصف الذی اقترن بالحکم هو علّته،و هذا ما یعبِّر عنه الاُصولیون بقولهم:تعلیق الحکم بالوصف،أو المشتقّ یؤذن بعلّیته. (1)

الطریق الثانی من القسم الأوّل:الإیماء و التنبیه

قال الشاشی:ومثال العلّة المعلومة بالسنة فی قوله علیه الصلاة و السلام:«لیس الوضوء علی مَن نام قائماً أو قاعداً أو راکعاً أو ساجداً،إنّما الوضوء علی مَنْ نام مضطجعاً،فإنّه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله». (2)جعل استرخاء المفاصل علّة،فیتعدّی الحکم بهذه العلّة إلی النوم مستنداً أو متّکئاً إلی شیء لو ازیل عنه لسقط،کذلک یتعدّی الحکم بهذه العلّة إلی الإغماء و السُکر.وکذلک قوله علیه السّلام:«توضّئی وصلّی و إن قطر الدم علی الحصیر قطراً فإنّه دم عرق انفجر». (3)جعل انفجار الدم علّة،فتعدّی الحکم بهذه العلّة إلی الفصد و الحجامة. (4)

لکنّ المصنّف لمّا فرّق بین الکتاب و السنّة حیث قال:إنّما یعرف کون المعنی علّة بالکتاب وبالسنّة أو بالإجماع أو بالاجتهاد والاستنباط،ولم یصرّح فی کلامه بالنصّ أو التنبیه،ولذلک أوردنا بحث النصّ مفصّلاً کما عرفت.والآن نذکر بحث الإیماء و التنبیه،و إن أشرنا إلیه حیث أوردنا کلام الغزالی،ونحن لمّا لم نفصل فی هذه البحوث بین الکتاب و السنّة،ذکرناها جملةً.وغیر الصریح-و هو المعبّر عنه بالإیماء و التنبیه-هو ترتیب الحکم علی الوصف،فیفهم لغةً أنّ الوصف علّة لذلک الحکم،وإلاّ کان هذا الترتیب مستبعداً من المتکلِّم العارف بمواقع التراکیب،ومتی صدر من الشارع یجب أن یکون الوصف مناسباً للحکم،وإلاّ کان عبثاً،و هو منزّهٌ عنه.ومن

ص:364


1- (1) .راجع:إرشاد الفحول:98/2 وما بعدها؛الوجیز:212 وما بعدها؛البحر المحیط:167/4 وما بعدها؛فواتح الرحموت:519/2 وما بعدها.
2- (2) .سنن أبی داود:97/1 ح202؛سنن الترمذی:49 ح77؛سنن النسائی ح686.
3- (3) .سنن ابن ماجه:212/1 ح624؛سنن أبی داود:135/1 ح298.
4- (4) .اُصول الشاشی:89.

الإیماء ما مثّله الشاشی فإنّ قوله صلّی اللّه علیه و آله:

«فإنّه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله»،یرمی إلی أنّ العلّة فی وجوب الوضوء إنّما هی استرخاء المفاصل عند النوم مضطجعاً لا غیره من أنواع النوم.

وقال أبو بکر السرخسی:قوله علیه السّلام:«إنّها دم عرق انفجر»استدلالٌ بعلّة مؤثّرة فی نقض الطهارة و هو أنّ الدم فی نفسه نجس وبالانفجار یصل إلی موضع یجب تطهیر ذلک الموضع منه،ووجوب التطهیر لا یکون إلاّ بعد وجود ما یعدم الطهارة. (1)

والنصّ الذی یدلّ علی العلیة بطریق الإیماء،أی:الإشارة و التنبیه بواسطة قرینة تدلّ علی ذلک،کأن یقع الحکم موقع الجواب،أو یقترن الحکم بالوصف،أو یفرّق بین أمرین فی الحکم بذکر الصفة،مثال الأوّل قوله صلّی اللّه علیه و آله:«اعتق رقبة»للرجل الأعرابی الذی جاء إلی النبی صلی الله علیه و آله وقال له:هلکتُ وأهلکت،فقال النبی:ما أهلکک؟قال:واقعت امرأتی فی نهار رمضان عامداً،فقال له علیه الصلاة و السلام:اعتق رقبة.فإنّه یدلّ علی کون الوقاع علّة للعتق.

ومثال الثانی:و هو افتراق الوصف بالحکم،إمّا بذکر وصف مناسب للحکم أو بترتیب الحکم علی الوصف بفاء التعقیب،فمثال ذکر الوصف المناسب قوله علیه السّلام:

«لا یقضی القاضی و هو غضبان»،فهذا الافتراق بین الوصف و الحکم یشعر بعلّیة الوصف للحکم،و هو النهی عن القضاء؛لأنّ الشارع ذکر هنا وصفاً مناسباً للحکم و هو الغضب،لما فیه من تشویش الفکر،واضطراب الحال،وشغل القلب.

و أمّا أمثلة ترتیب الحکم علی الوصف بفاء التعقیب،فهی إمّا من کلام الله سبحانه أو من کلام الرسول صلی الله علیه و آله أو من کلام الراوی عن الرسول،فالأوّل قوله تعالی: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما ، (2)وقوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ . (3)

ص:365


1- (1) .اُصول السرخسی:187/2.وراجع:کشف الأسرار:510/3.
2- (2) .المائدة:38.
3- (3) .المائدة:6.

والثانی مثل قوله علیه السّلام:«من أحیا أرضاً میتة فهی له»، (1)وقوله علیه السّلام:

«لیس الوضوء علی من نام قائماً أو قاعداً أو راکعاً أو ساجداً،إنّما الوضوء علی من نام مضطجعاً فإنّه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله».

فترتیب الحکم فی هذه الأمثلة علی الوصف یومئ أنّ الوصف فیها هو علّة الحکم،إذ إنّ الفاء للتعقیب،و قد تقدّم فی مبحث حروف المعانی مفصّلاً أنّ التعقیب من دون تراخ.

ومثال الثالث،و هو أن یفرّق الشارع بین أمرین فی الحکم بذکر الصفة،فإنّه یشعر بأنّ تلک الصفة هی علّة التفرقة فی الحکم حیث خصّها بالذِّکر دون غیرها،مثل قوله صلّی اللّه علیه و آله:«القاتل لا یرث»، (2)فالوصف-و هو القتل-قد ذکر معه أحد الحکمین،و هو عدم الإرث،ولم یذکر الحکم الآخر و هو میراث من لم یقتل.

وقال الفخر الرازی:الفصل الثانی:فی الإیماء،و هو علی خمسة أنواع:

الأوّل:تعلیق الحکم علی العلّة بحرف الفاء،و هو علی وجهین:

الأوّل:أن تدخل الفاء علی حرف العلّة،ویکون الحکم متقدِّماً کقوله علیه الصلاة و السلام فی المُحرِم الذی وقصت به ناقته:

«لا تقرّبوه طیباً فإنّه یحشر یوم القیامة مُلبّیاً». (3)

والثانی:أن تدخل الفاء علی الحکم،وتکون العلّة متقدّمة،وذلک أیضاً علی وجهین:

أحدهما:أن تکون الفاء دخلت علی کلام الشارع مثل قوله تعالی: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما . (4)

ص:366


1- (1) .سنن أبی داود:143/3 ح3076؛سنن الترمذی:395/5 ح1436.
2- (2) .سنن الترمذی:837 ح2109؛سنن ابن ماجه ح2645؛کتاب الدیات باب القاتل لا یرث.
3- (3) .صحیح مسلم:546 ح2893؛صحیح البخاری:360 ح1267.
4- (4) .المائدة:38.

وثانیهما:أن تدخل علی روایة الراوی،کقول الراوی:وزنی ماعز فرجم. (1)، (2)

ومعلومٌ أنّ ما نقله الشاشی:«فإنّه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله»و«فإنّه دم عرق»داخل فی الوجه الأوّل من کلام الرازی،و هو دخول الفاء علی حرف العلّة.

ولکن الآمدی فسّر الإیماء و التنبیه بما یلی:و هو أن یکون التعلیل لازماً من مدلول اللّفظ وضعاً لا أن یکون اللّفظ دالاًّ بوضعه علی التعلیل،و هو ستّة أقسام:القسم الأوّل ترتیب الحکم علی الموصوف بفاء التعقیب و التسبیب فی کلام الله أو رسوله أو الراوی عن الرسول..إلخ. (3)

ص:367


1- (1) .صحیح مسلم:803 ح4402؛صحیح البخاری:1661 ح6824.
2- (2) .المحصول:11711173/4.وراجع:إرشاد الفحول:102/2 وما بعدها.
3- (3) .الإحکام:224/3 وما بعدها.

الخلاصة

اعلم أنّه لا یکتفی فی القیاس بمجرّد وجود الجامع فی الأصل و الفرع،بل لا بدّ من دلیل یشهد له فی الاعتبار،واتّفقوا علی أنّه لا یصحّ التعلیل بجمیع الأوصاف؛لأنّه لا تأثیر لکثیر من الأوصاف فی الحکم،واتّفقوا أیضاً علی أنّه لا یصحّ بأی وصف شاء المستدلّ من غیر دلیل.فإذن،لا بدّ من دلیل یعرف به کون الوصف الجامع مثلاً علّة.والأدلّة الشرعیة علی اعتباره أمّا نصّ أو إجماع أو استنباط،وتُعرف الأدلّة المذکورة بما سمّوه مسالک العلّة أو الطرق الدالّة علی إثبات علّیة الوصف.

قال الشاشی:إنّما یعرف کون المعنی علّة بالکتاب وبالسنّة أو بالإجماع أو بالاجتهاد والاستنباط،فهذه ثلاثة أقسام:النصّ أو الإجماع أو الاستنباط،إذ الکتاب و السنّة داخلتان فی النصّ،والاستنباط عطف تفسیر علی الاجتهاد.

وقال الشاشی:فمثال العلّة المعلومة بالکتاب کثرة الطواف،فإنّها جُعلت علّة لسقوط الحرج فی الاستئذان فی قوله تعالی: لَیْسَ عَلَیْکُمْ وَ لا عَلَیْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَیْکُمْ بَعْضُکُمْ ،ثمّ أسقط رسول الله صلی الله علیه و آله حرج نجاسة سؤر الهرّة بحکم هذه العلّة،فقال علیه السّلام:«الهرّة لیست بنجسة فإنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات..»إلخ.

المراد بالنصّ:ما کانت دلالته علی العلّة ظاهرة سواء أکانت الدلالة قاطعة أو ظاهرة محتملة،فالنصّ القاطع:هو أن یرد النصّ دالاًّ علی التعلیل صراحةً بدون احتمال لغیره،وله ألفاظٌ کثیرة.و أمّا النصّ الظاهر:فهو ما دلّ علی العلیة مع احتمال غیرها احتمالاً مرجوحاً.وفی تفسیر النصّ أقوال مختلفة لفظاً ومتّفقة مآلاً.

نعم،قال الغزالی:إثبات العلّة بأدلّة نقلیة إنّما یستفاد من صریح النطق أو من الإیماء أو من التنبیه علی الأسباب،وهی ثلاثة أضرب:الصریح،والتنبیه و الإیماء علی العلّة،والثالث:التنبیه علی الأسباب بترتیب الأحکام علیها بصیغة الجزاء و الشرط وبالفاء التی

ص:368

هی للتعقیب و التسبیب،ثمّ استشکل وقال:إن قیل:هذه الوجوه المذکورة تدلّ علی السبب،والعلّة دلالة قاطعة أو دلالة ظنیة.قلنا:أمّا ما رتّب علی غیره بفاء الترتیب وصیغة الجزاء و الشرط،فیدلّ علی أنّ المرتّب علیه معتبر فی الحکم لا محالة،فهو صریحٌ فی أصل الاعتبار،أمّا اعتباره بطریق کونه علّةً،أو سبباً متضمّناً للعلّة بطریق الملازمة،أو شرطاً یظهر الحکم عنده بسبب آخر،ومطلق الإضافة من الألفاظ المذکورة لیس صریحاً فیها،ولکن قد یکون ظاهراً من وجه،ویحتمل غیره.و إنّما الثابت بالإیماء و التنبیه کون الوصف المذکور معتبراً بحیث لا یجوز إلغاؤه،مثال هذا قوله صلّی اللّه علیه و آله:«لا یقض القاضی و هو غضبان»،و هو تنبیهٌ علی أنّ الغضب علّة فی منع القضاء.

غیر الصریح-و هو المعبّر عنه بالإیماء و التنبیه-عبارة عن ترتیب الحکم علی الوصف،ومتی صدرَ من الشارع یجب أن یکون الوصف مناسباً للحکم،وإلاّ کان عبثاً،و هو منزّهٌ عنه.والنصّ الذی یدلّ علی العلیة بطریق الإیماء،أی:الإشارة و التنبیه بواسطة قرینة تدلّ علی ذلک،کأن یقع الحکم موقع الجواب،أو یقترن الحکم بالوصف،أو یفرّق بین أمرین فی الحکم بذکر الصفة،مثل قوله صلّی اللّه علیه و آله:«القاتل لا یرث»،فالوصف-و هو القتل-قد ذکر معه أحد الحکمین،و هو عدم الإرث،ولم یذکر الحکم الآخر و هو میراث من لم یقتل.

وقال الرازی:الإیماء علی خمسة أنواع:الأوّل:تعلیق الحکم علی العلّة بحرف الفاء،و هو علی وجهین:الأوّل:أن تدخل الفاء علی حرف العلّة،ویکون الحکم متقدِّماً،والثانی:أن تدخل الفاء علی الحکم،وتکون العلّة متقدّمة عکس الأوّل،وذلک أیضاً علی وجهین:أحدهما:أن تکون الفاء دخلت علی کلام الشارع مثل قوله تعالی: فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما ،وثانیهما:أن تدخل علی روایة الراوی،مثل قوله:زنی ماعز فرجم.

ولکن الآمدی فسّر الإیماء و التنبیه بما یکون التعلیل لازماً من مدلول اللّفظ وضعاً لا أن یکون اللّفظ دالاًّ بوضعه علی التعلیل،و هو ستّة أقسام:1.ترتیب الحکم علی الموصوف بفاء التعقیب و التسبیب فی کلام الله ورسوله أو الراوی عن الرسول.

ص:369

الأسئلة

1.لماذا لا یصحّ التعلیل بجمیع الأوصاف؟

2.لِمَ لا یکتفی فی القیاس بمجرّد وجود الجامع فی الأصل و الفرع؟

3.ما هو المراد بالنصّ؟اذکر الفرق بین النصّ القاطع و الظاهر.

4.اُذکر قول الغزالی فی إثبات العلّة بأدلّة نقلیة.

5.ما هو المراد بالإیماء و التنبیه؟

6.اُذکر دلالة النصّ الذی یدلّ علی العلیة بطریق الإیماء.

7.اُذکر أنواع الإیماء التی ذکرها الرازی.

8.اُذکر تفسیر الإیماء و التنبیه علی رأی الآمدی.

ص:370

الدرس الرابع و الأربعون بعد المئة

القیاس الشرعی

القسم الثانی:الإجماع

*قال الشاشی:ومثال العلّة المعلومة بالإجماع فیما قلنا:الصغر علّة لولایة الأب فی حقّ الصغیر،فیثبت الحکم فی حقّ الصغیرة لوجود العلّة،والبلوغ عن عقل علّة لزوال ولایة الأب فی حقّ الغلام،فیتعدّی الحکم إلی الجاریة بهذه العلّة،وانفجار الدم علّة لانتقاض الطهارة فی حقّ المستحاضة،فیتعدّی الحکم إلی غیرها (1)لوجود العلّة. (2)

الطریق الثالث من طرق إثبات العلّة،هو:الإجماع علی أنّ وصفاً معیناً فی حکم شرعی هو علّة لذلک الحکم،مثل:إجماع العلماء علی أنّ الصغر علّة فی الولایة المالیة علی الصغیر،فیقاس علیها الولایة فی التزویج،ومثل:الإجماع علی أنّ امتزاج النسبین فی الأخ الشقیق(أی:قرابته من جهة الأب والاُمّ)هو العلّة فی تقدیمه علی الأخ لأب فی المیراث،فیقاس علیه تقدیمه علی الأخ لأب فی الولایة علی النفس،أو یقاس علی

ص:371


1- (1) .المراد بغیر المستحاضة،هو من به سلس البول أو الرعاف الدائم.
2- (2) .اُصول الشاشی:89.

المیراث تقدیم الأخ الشقیق علی الأخ الأب فی ولایة التزویج. (1)، (2)

ولکمال الفهم نذکر ما أورده الاُستاذ الحکیم فی مبحث الإجماع حیث قال:

ولا یقع ذلک إلاّ إذا قام علی معقد له معلّل بعلّة خاصّة فُهم منها الاطّراد والاستقلال بالعلّیة،أو قام الإجماع علی نفس العلّة المطّردة المستقلّة،یقول فی القوانین المحکمة:التعدّی من قوله علیه السّلام:«اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه». (3)إلی وجوب غسل البدن و الإزالة عن المسجد،والمأکول و المشروب،وغیرها،إنّما هو لأجل استفادة أنّ علّة وجوب الغسل عن الثوب هی النجاسة،ودلیله الإجماع،فیجب الاحتراز عنه فی کلّ ما یشترط فیه الطهارة. (4)

وقال الغزالی:القسم الثانی:فی إثبات العلّة بالإجماع علی کونها مؤثّرة فی الحکم،مثاله قولهم:إذا قدّم الأخ من الأب والاُمّ علی الأخ للأب فی المیراث،فینبغی أن یقدّم فی ولایة النکاح،فإنّ العلّة فی المیراث التقدیم بسبب امتزاج الاُخوّة،و هو المؤثّر بالاتّفاق،وکذلک قول بعضهم:الجهل بالمهر یفسد النکاح؛لأنّه جهل بعوض فی معاوضة،فصار کالبیع،إذ الجهل مؤثّر فی الإفساد فی البیع بالاتّفاق،وکذلک نقول:یجب الضمان علی السارق و إن قطع؛لأنّه مالٌ تلف تحت الید العادیة،فیضمن کما فی الغصب،و هذا الوصف هو المؤثّر فی الغصب اتّفاقاً،وکذلک یقول الحنفی:الصغیرة یولّی علیها قیاساً لثیب الصغیرة علی البکر الصغیرة،فالمطابة منقطعة عن إثبات علّة الأصل؛لأنّها بالاتّفاق مؤثّرة.

ص:372


1- (1) .لا ولایة للأخ مطلقاً سواءً کان للأبوین أو للأب أو للاُمّ علی الاُخت عند علماء الشیعة فی التزویج وغیره،و إنّما الولایة للأب و إن علا ووصیه و الحاکم و المولی.منهاج الصالحین:294/3.
2- (2) .راجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:230/1؛الوجیز:214؛البحر المحیط:165/4؛التوضیح لمتن التنقیح:147/2؛اُصول الفقه للخضری:325؛المهذّب:20302031/5؛الإحکام:222/3؛اُصول الفقه الإسلامی:670671/1.
3- (3) .وسائل الشیعة:1008/2 ح2 و 3.
4- (4) .الاُصول العامّة للفقه المقارن:318؛القوانین المحکمة:190191/3.

ویبقی سؤال،و هو أن یقال:لِمَ قلتم إذا أثّر امتزاج الاُخوّة فی التقدیم فی الإرث،فینبغی أن یؤثّر فی النکاح،و إذا أثّر الصغر فی البکر،فهو یؤثّر فی الثیب؟و هذا السؤال أمّا أن یوجّهه المجتهد إلی نفسه،أو یوجّهه المناظر فی المناظرة.أمّا المجتهد،فیدفعه بوجهین:

أحدهما:أن یعرف مناسبة المؤثّر کالصغر،فإنّه یسلّط الولی علی التزویج للعجز،فنقول:الثیب کالبِکر فی هذه المناسبة.

الثانی:أن یتبین أنّه لا فارق بین الفرع و الأصل إلاّ کذا وکذا،ولا مدخل له فی التأثیر،فیکون هذا القیاس تمامه بالتعرّض للجامع ونفی الفارق جمیعاً،و إن ظهرت المناسبة استغنی عن التعرّض للفارق. (1)

المناقشة فی الإجماع

و قد نُوقش فیه بأنّ القائلین بالقیاس لیسوا کلّ الاُمّة،ولا تقوم الحجّة بقولهم،ولا أثر لإجماع القائسین إلاّ أن یقدّر رجوع منکری القیاس عن الإنکار،ثمّ یجمع الکافّة علی علّة فتثبت حینئذٍ قطعاً. (2)

ومعلومٌ أنّ هذا الاتّفاق لم یقع أصلاً؛لأنّ الإمامیة و الظاهریة من المنکرین لحجّیة القیاس إلی الآن.

نعم،قال الجوینی لدفع هذا الإیراد:إنّ منکری القیاس لیسوا من علماء الاُمّة،ولا من حَمَلَة الشریعة.

قال الشوکانی فی ردّه:و هذا کلامٌ یقتضی من قائله العجب،فإنّ کون منکری القیاس لیسوا من علماء الاُمّة من أبطل الباطلات وأقبح التعصّبات.

ثمّ قال فی ردّ کلامه«والنصوص لا تفی بعُشر معشار الشریعة»:دعوی أنّ نصوص

ص:373


1- (1) .المستصفی:380382/2.وراجع:روضة الناظر:173؛نزهة الخاطر:177/2؛کشف الأسرار:510/3.
2- (2) .راجع:إرشاد الفحول:98/2؛البحر المحیط:166/4.

الشریعة لا تفی بعُشر معشارها لا تصدر إلاّ عمّن لم یعرف نصوص الشریعة حقّ المعرفة.

وحکی ابن السمعانی عن بعض أصحاب الشافعی أنّه لا یجوز القیاس علی الحکم المجمع علیه ما لم یعرف النصّ الذی أجمعوا علیه،و هذا یعود عند التحقیق إلی نفی کون الإجماع من مسالک العلّة. (1)

ثمّ قال الشوکانی:ثمّ القائلون بأنّ الإجماع من مسالک العلّة لا یشترطون فیه أن یکون قطعیاً،بل یکتفون فیه بالإجماع الظنّی،فزادوا هذا المسلک ضعفاً إلی ضعفه، (2)ومنهم الخضری حیث قال:الإجماع فی عصر من العصور علی علّیة الوصف،و إذا کان الإجماع قطعیاً وطریق وصوله إلینا قطعیاً ووجود العلّة فی الفرع کذلک،ولم یکن هناک معارض،کان ثبوت الحکم فی الفرع قطعیاً،وإلاّ فهو ظنّی، (3)ومنهم الأنصاری فی فواتح الرحموت. (4)

أنواع القیاس باعتبار حکم المعدّی

*قال الشاشی:ثمّ بعد ذلک نقول:القیاس علی نوعین:

أحدهما:أن یکون الحکم المعدّی من نوع الثابت فی الأصل،والثانی:أن یکون من جنسه. (5)

مثال الاتّحاد فی النوع ما قلنا:إنّ الصغر علّة لولایة الإنکاح فی حقّ الغلام،فیثبت ولایة الإنکاح فی حقّ الجاریة لوجود العلّة فیها،وبه یثبت الحکم فی الثیب الصغیرة.

ص:374


1- (1) .راجع:إرشاد الفحول:99/2؛البحر المحیط:166/4؛الوجیز:197198؛فواتح الرحموت:519/2.
2- (2) .إرشاد الفحول:99/2.
3- (3) .اُصول الفقه:325.
4- (4) .فواتح الرحموت:519/2.
5- (5) .المراد بالاتّحاد فی النوع هو أن یکون حکم الفرع عین حکم الأصل،لکنّهما یتغایران فی المحلّ،کولایة الإنکاح فی الجاریة و الغلام،وکذلک نجاسة السؤر فی المحلّین،فی الهرّة وسواکن البیوتات،والاتّحاد من حیث الجنس یعنی:یشترک الحکمان من جهة المضاف ویختلفان فی المضاف إلیه،مثل:ولایة النفس،وولایة المال،ومثل:حرج الاستیذان،وحرج النجاسة.

وکذلک قلنا:الطواف علّة سقوط السؤر فی سؤر الهرّة فیتعدّی الحکم إلی سؤر سواکن البیوت لوجود العلّة،وبلوغ الغلام عن عقل علّة زوال ولایة الإنکاح،فیزول الولایة عن الجاریة بحکم هذه العلّة.

ومثال الاتّحاد فی الجنس ما یقال:کثرة الطواف علّة سقوط حرج الاستیذان فی حقّ ما ملکت أیماننا،فیسقط حرج نجاسة السؤر بهذه العلّة،فإنّ هذا الحرج من جنس ذلک الحرج،لا من نوعه،وکذلک الصغر علّة ولایة التصرّف للأب فی المال،فیثبت ولایة التصرّف فی النفس بحکم هذه العلّة،و أنّ بلوغ الجاریة عن عقل علّة زوال ولایة الأب فی المال،فیزول ولایته فی حقّ النفس بهذه العلّة،ثمّ لا بدّ فی هذا النوع من القیاس من تجنیس العلّة،بأن نقول:إنّما یثبت ولایة الأب فی مال الصغیرة؛لأنّها عاجزة عن التصرّف بنفسها،فأثبت الشرع ولایة الأب کی لا یتعطّل مصالحها المتعلّقة بذلک،و قد عجزت عن التصرّف فی نفسها،فوجب القول بولایة الأب علیها،وعلی هذا نظائره.

وحکم القیاس الأوّل أن لا یبطل بالفرق؛لأنّ الأصل مع الفرع لمّا اتّحدا فی العلّة وجب اتّحادهما فی الحکم،و إن افترقا فی غیر هذه العلّة. (1)

وحکم القیاس الثانی فساده بممانعة التجنیس،والفرق الخاص،و هو بیان أنّ تأثیر الصغر فی ولایة التصرّف فی المال فوق تأثیره فی ولایة التصرّف فی النفس. (2)

توضیح

إنّ حکم القیاس،و هو ما یکون حکم الفرع و الأصل متّحداً فی النوع لا یبطل بمطلق الفرق بین المقیس و المقیس علیه،إذ لا یشترط فی القیاس الاتّحاد فی جمیع الأوصاف،بل فی البعض.

إن قیل:لا یلزم من الولایة فی الغلام الولایة فی الجاریة الثیب؛لأنّ الثیب صارت لها قدرة التصرّفات بنفسها لزوال حیائها.

یقال:هذا لا یضرّ لثبوت الاتّحاد بین الغلام و الصغیرة فی العجز الثابت بالصغر،

ص:375


1- (1) .اُصول الشاشی:8991.
2- (2) .المصدر:91.

فیثبت الاتّحاد فی الحکم و هو ثبوت الولایة للأب مع وجود الافتراق بوصف آخر،فلا یبطل القیاس.

ومراده من قوله:بممانعة التجنیس،هو أن یمنع السائل عموم العلّة وشمولها الأصل و الفرع،فلا تؤثّر فی حکم الأصل،والفرق الخاصّ عطف علی قوله:بممانعة التجنیس،یعنی فساد القیاس الثانی بأحد أمرین:ممانعة التجنیس،والفرق الخاصّ. (1)

ص:376


1- (1) .راجع:أحسن الحواشی:9091؛تسهیل اصول الشاشی:178.

الخلاصة

قال الشاشی:ومثال العلّة المعلومة بالإجماع فیما قلنا:الصغر علّة لولایة الأب فی حقّ الصغیر،فیثبت الحکم فی حقّ الصغیرة لوجود العلّة،والبلوغ عن عقل علّة لزوال ولایة الأب فی حقّ الغلام،فیتعدّی الحکم إلی الجاریة بهذه العلّة.

الطریق الثالث من طرق إثبات العلّة،هو:الإجماع علی أنّ وصفاً معیناً فی حکم شرعی هو علّة لذلک الحکم،مثل:إجماع العلماء علی أنّ الصغر علّة فی الولایة المالیة علی الصغیر،فیقاس علیها الولایة فی التزویج،وهکذا.

اورد علی الإجماع:بأنّه لا یقع ذلک إلاّ إذا قام علی معقد له معلّل بعلّة خاصّة فُهِمَ منها الاطّراد والاستقلال بالعلّیة،أو قام الإجماع علی نفس العلّة المطّردة المستقلّة.

وقال الغزالی:ویبقی سؤال،و هو أن یقال:لِمَ قلتم إذا أثّر امتزاج الاُخوّة فی التقدیم فی الإرث،فینبغی أن یؤثّر فی النکاح،و إذا أثّر الصغر فی البِکر،فهو یؤثّر فی الثیب؟و هذا السؤال أمّا أن یوجّهه المجتهد إلی نفسه،أو یوجّهه المناظر فی المناظرة.أمّا المجتهد،فیدفعه بوجهین:

أحدهما:أن یعرف مناسبة المؤثّر کالصغر،فإنّه یسلّط الولی علی التزویج للعجز،فنقول:الثیب کالبکر فی هذه المناسبة.

الثانی:أن یتبین أنّه لا فارق بین الفرع و الأصل إلاّ کذا وکذا،ولا مدخل له فی التأثیر،فیکون هذا القیاس تمامه بالتعرّض للجامع ونفی الفارق جمیعاً،و إن ظهرت المناسبة استُغنی عن التعرّض للفارق.

ونوقش أیضاً فی الإجماع بأنّ القائلین بالقیاس لیسوا کلّ الاُمّة،ولا تقوم الحجّة بقولهم،ولا أثر لإجماع القائسین إلاّ أن یقدّر رجوع منکری القیاس عن الإنکار،ثمّ یجمع الکافّة علی علّة فتثبت حینئذٍ قطعاً،ومعلومٌ أنّ هذا الاتّفاق لم یقع أصلاً؛لأنّ

ص:377

الإمامیة و الظاهریة من المنکرین لحجّیة القیاس.نعم،قال الجوینی فی دفع هذا الإیراد:إنّ منکری القیاس لیسوا من علماء الاُمّة،ولا من حَمَلَة الشریعة.

و قد اجیب عنه:بأنّ هذا کلامٌ یقتضی من قائله العجب،فإنّ کون منکری القیاس لیسوا من علماء الاُمّة من أبطل الباطلات وأقبح التعصّبات،مع أنّ قوله:«إنّ النصوص لا تفی بعُشر معشار الشریعة»،دعوی لا تصدر إلاّ عمّن لم یعرف نصوص الشریعة حقّ معرفتها،وسیأتی فی حجّیة القیاس أنّ عمومات الأدلّة وإطلاقاتها تفی بکلّ حادثة تحدث،عرف ذلک من عرفه وجهله مَن جهله.

وحُکی عن بعض أصحاب الشافعی أنّه لا یجوز القیاس علی الحکم المجمع علیه ما لم یعرف النصّ الذی أجمعوا علیه،و هذا الکلام منه یعود عند التحقیق إلی نفی کون الإجماع من مسالک العلّة.

قال الشاشی:القیاس علی نوعین:أحدهما:أن یکون الحکم المعدّی من نوع الثابت فی الأصل،والثانی:أن یکون من جنسه.مثال الاتّحاد فی النوع ما قلنا:إنّ الصغر علّة لولایة الإنکاح فی حقّ الغلام،فیثبت ولایة الإنکاح فی حقّ الجاریة لوجود العلّة فیها،وبه یثبت الحکم فی الثیب الصغیرة.وبلوغ الغلام عن عقل علّة زوال ولایة الإنکاح،فیزول الولایة عن الجاریة بحکم هذه العلّة.

ومثال الاتّحاد فی الجنس ما یقال:کثرة الطواف علّة سقوط حرج الاستیذان فی حقّ ما ملکت أیماننا،فیسقط حرج نجاسة السؤر بهذه العلّة،فإنّ هذا الحرج من جنس ذلک الحرج لا من نوعه.ثمّ لا بدّ فی هذا النوع من القیاس من تجنیس العلّة،بأن نقول:إنّما یثبت ولایة الأب فی مال الصغیرة؛لأنّها عاجزة عن التصرّف بنفسها،فأثبت الشرع ولایة الأب کی لا تتعطّل مصالحها المتعلّقة بذلک،و قد عجزت عن التصرّف فی نفسها،فوجب القول بولایة الأب علیها،وعلی هذا نظائره.

إنّ حکم القیاس،و هو ما یکون حکم الفرع و الأصل متّحداً فی النوع لا یبطل

ص:378

بمطلق الفرق بین المقیس و المقیس علیه،إذ لا یشترط فی القیاس الاتّحاد فی جمیع الأوصاف،بل فی البعض یکفی.

إن قیل:لا یلزم من الولایة فی الغلام الولایة فی الجاریة الثیب لأنّ الثیب؛صارت لها قدرة التصرّفات بنفسها لزوال حیائها.

یقال:هذا لا یضرّ لثبوت الاتّحاد بین الغلام و الصغیرة فی العجز الثابت بالصغر،فیثبت الاتّحاد فی الحکم و هو ثبوت الولایة للأب مع وجود الافتراق بوصف آخر،فلا یبطل القیاس.

ص:379

الأسئلة

1.وضّح وبین کون الإجماع طریق إثبات العلّة.

2.اُذکر الإیراد علی الإجماع بأنّه لا یقع ذلک إلّا إذا قام علی معقد له...

3.اُذکر سؤال الغزالی وجوابه.

4.اُذکر المناقشة التی اوردت علی الإجماع ودفعها.

5.لماذا تکون دعوی:«إنّ النصوص لا تفی بعُشر معشار الشریعة»صدرت عمّن لم یعرف الشریعة حقّ معرفتها؟

6.اُذکر نوعی القیاس طبقاً لما ذکره الشاشی.

7.لماذا لا یبطل القیاس بمطلق الفرق بین المقیس و المقیس علیه إذا کان الحکم المعدّی من نوع الثابت فی الأصل،وضّحه بذکر المثال.

ص:380

الدرس الخامس و الأربعون بعد المئة

القیاس الشرعی

القسم الثالث:الاستنباط

*قال الشاشی:وبیان القسم الثالث،و هو القیاس بعلّة مستنبطة بالرأی والاجتهاد ظاهر،وتحقیق ذلک:إذا وجدنا وصفاً مناسباً للحکم،و هو بحال یوجب ثبوت الحکم ویتقاضاه بالنظر إلیه،و قداقترن به الحکم فی موضع الإجماع،یضاف الحکم إلیه للمناسبة لا لشهادة الشرع بکونه علّة،ونظیره إذا رأینا شخصاً أعطی فقیراً درهماً غلبَ علی الظنّ أنّ الإعطاء لدفع حاجة الفقیر،وتحصیل مصالح الثواب.

إذا عرف هذا،فنقول:إذا رأیت وصفاً مناسباً للحکم،و قد اقترن به الحکم فی موضع الإجماع،یغلب الظنّ بإضافة الحکم إلی ذلک الوصف،وغلبَة الظنّ فی الشرع توجب العمل عند انعدام ما فوقها من الدلیل بمنزلة المسافر إذا غلبَ علی ظنّه أنّ بقربه ماءً،لم یجز له التیمّم،وعلی هذا مسائل التحرّی.

وحکم هذا القیاس أن یبطل بالفرق المناسب؛لأنّ عنده یوجد مناسب سواه فی صورة الحکم،فلایبقی الظنّ بإضافة الحکم إلیه،فلا یثبت الحکم به؛لأنّه کان بناءً علی غلَبَة الظنّ،و قد بطل ذلک بالفرق. (1)

ص:381


1- (1) .قوله:وصفاً مناسباً للحکم،یعنی:إذا وجدنا وصفاً کالقدر و الجنس فی الأموال الربویة حیث جعلا علّة للحرمة،مناسباً للحکم وذلک الوصف بحال یوجب ثبوت الحکم،ویقتضیه باعتبار النظر والالتفات إلیه و إن لم یکن ذلک الوصف علّة فی الواقع. وقوله:وحکم هذا القیاس أن یبطل بالفرق المناسب،یعنی:بالفرق بین الأصل و الفرع فی الوصف المناسب؛لأنّ عند الفرق فی وصف مناسب للحکم یوجد وصف مناسب سواه یقتضی الحکم،فلا یبقی الظنّ بنسبة الحکم إلی الوصف الذی فیه فرق بین الأصل و الفرع،فلا یثبت الحکم بذلک الوصف؛لأنّه کان علّة بغلَبَة الظنّ،و قد بطل ذلک بالفرق.

وعلی هذا کان العمل بالنوع الأوّل بمنزلة الحکم بالشهادة بعد تزکیة الشاهد وتعدیله،والنوع الثانی بمنزلة الشهادة عند ظهور العدالة قبل التزکیة،والنوع الثالث بمنزلة شهادة المستور. (1)

تنبیه

قد تشبّه عدّة من الأحناف العمل بالقیاس بالعمل بالبینات فی خصومات العباد،منهم الشاشی،وصدر الشریعة فی التوضیح،وفخر الإسلام فی اصوله حیث قال:وبیان ذلک أنّ الله تعالی کلّفنا العمل بالقیاس بطریق وضعه(یعنی القیاس)علی مثال العمل بالبینات،فجعل الاُصول(وهی النصوص أو الکتاب و السُنّة و الإجماع)شهوداً،فهی شهود الله،ومعنی النصوص هو شهادتها،و هو العلّة الجامعة بین الفرع و الأصل،ولا بدّ من صلاحیة الاُصول،و هو کونها صالحة للتعلیل کصلاحیة الشهود بالحریة و العقل و البلوغ،ولا بدّ من صلاح الشهادة کصلاح شهادة الشاهد بلفظة الشهادة خاصّة،وعدالته واستقامته للحکم المطلوب،فکذلک هذه الشهادة...إلخ.

وقال البخاری فی توضیح ما ذکر:أی:شهادة النصّ بأن یکون المعنی الدال علی الحکم ملائماً أی:موافقاً لتعلیل السلف غیر خارج عن نهجهم،کما لا بدّ من صلاحیة شهادة الشاهد بأن یشهد بلفظ خاصّ،وعدالة لفظ الشهادة هی کونه صدقاً ومطابقة للحکم المطلوب من الشهادة وهی أن یکون موافقاً لدعوی المدّعی. (2)

وقال صدر الشریعة:و إذا وجدت الملائمة یصحّ العمل،ولا یجب عندنا،بل یجب

ص:382


1- (1) .اُصول الشاشی:9192.
2- (2) .کشف الأسرار:397/3-398 و 510511.وراجع:نزهة الخاطر:192193/2؛اُصول السرخسی:144/2.

إذا کانت مؤثّرة،فالملائمة کأهلیة الشهادة،والتأثیر کالعدالة،وعند بعض الشافعیة یجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل،وهی أن یکون للحکم أصلٌ معین من نوعه یوجد فیه جنس الوصف أو نوعه. (1)

إثبات العلّة من طریق الاستنباط

و هو أنواع أهمّها ما یلی:

النوع الأوّل:طریقة السبر و التقسیم،ویراد بالسبر فی الاصطلاح الاختبار و البحث،وبالتقسیم استعراض الأوصاف التی تصلح أن تکون علّة فی الأصل وتردید العلّة بینها.

وببیان آخر:التقسیم معناه جمع الأوصاف التی یظنّ علّیتها فی الأصل و التردیدبینها.

وفی هذا المعنی قال الاُستاذ النملة:السبر اصطلاحاً هو:اختبار الوصف فی صلاحیته وعدمها للتعلیل به،والتقسیم اصطلاحاً هو:حصر الأوصاف المحتملة للتعلیل بأن یقال:العلّة إمّا کذا أو کذا. (2)

وخلاصة هذا المسلک أنّ المجتهد علیه أن یبحث فی الأوصاف الموجودة فی الأصل،ویستبعد ما لا یصحّ أن یکون علّة منها،ویستبقی ما هو علّة حسب رجحان ظنّه،وهادیه فی الاستبعاد والاستبقاء تحقّق شروط العلّة،بحیث لا یستبقی إلاّ وصفاً ظاهراً منضبطاً متعدّیاً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار.

وفی هذا الطریق تتفاوت عقول المجتهدین فی مجالات الاستنباط،وتختلف اختلافاً کبیراً،وعلی سبیل المثال:نری أنّ الحنفیة رأوا المناسب فی تعلیل التحریم فی الأموال الربویة القدر مع اتّحاد الجنس،والشافعیة رأوه الطعم مع اتّحاد الجنس،

ص:383


1- (1) .التوضیح:150151/2.
2- (2) .المهذّب:2067/5.

والمالکیة رأوه القوت والادّخار مع اتّحاد الجنس. (1)

و هذا المسلک-أی السبر و التقسیم-قسمان:

أحدهما:أن یدور بین النفی و الإثبات،و هذا هو المنحصر.

والثانی:أن لا یکون کذلک،و هذا هو المنتشر.

فالأوّل:أن تنحصر الأوصاف التی یمکن التعلیل بها للمقیس علیه،ثمّ اختبارها فی المقیس،وإبطال ما لا یصلح منها بدلیله،وذلک الإبطال أمّا بکونه ملغی،أو وصفاً طردیاً،أو یکون فیه نقض،أو کسر أو خفاء أو إضراب،فیتعین الباقی للعلّیة.

و قد یکون فی القطعیات کقولنا:العالم أمّا أن یکون قدیماً أو حادثاً،بطل أن یکون قدیماً،فثبت أنّه حادث.و قد یکون فی الظنّیات،نحو أن نقول فی قیاس الذرّة علی البرّ فی الربویة:بحثتُ عن أوصاف البرّ فما وجدتُ ثَمَّ ما یصلح للربویة فی بادئ الرأی إلّا الطعم،والقوت،والکیل،لکنّ الطعم و القوت لایصلح لذلک بدلیل کذا،فتعین الکیل.

وقال الفخر الرازی:و هذا الطریق علیه التعویل فی معرفة العلل العقلیة،و قد یوجد فی الشرعیات،کما یقال:أجمعت الاُمّة علی أنّ ولایة الإجبار معلّلة إمّا بالصغر و إمّا بالبکارة.والأوّل باطل،وإلاّ لثبتت الولایة فی الثیب الصغیرة،لکنّها لا تثبت لقوله علیه الصلاة و السلام:الثیب أحقّ بنفسها من ولیها، (2)فتعین التعلیل بالبکارة. (3)

و أمّا الثانی:و هو المنتشر،فذلک بأن لا یدور بین النفی و الإثبات،أو دار ولکن کان الدلیل علی نفی علّیة ما عدا الوصف المعین فیه ظنّیاً.

ص:384


1- (1) .علم اصول الفقه لخلاّف نقلاً عن الاُصول العامّة للفقه المقارن:318319؛والوجیز:215؛الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:233/1.
2- (2) .صحیح مسلم:639 ح3462 و 3463؛سنن أبی داود:320/2 ح2098 و2099؛سنن الترمذی:465 ح1108؛سنن ابن ماجه:597/2 ح1870.
3- (3) .المحصول:1224/4؛إرشاد الفحول:104105/2.

قال الرازی:و أمّا المنتشر فکما إذا لم ندّع الإجماع،بل نقتصر علی أن نقول:حرمة الرِّبا فی البرّ أمّا أن تکون معلّلة بالطعم أو الکیل أو القوت أو المال،والکلّ باطل إلاّ الطعم فیتعین التعلیل به. (1)

اختلفوا فی المنتشر علی مذاهب:

الأوّل:إنّه لیس بحجّة مطلقاً لا فی القطعیات ولا فی الظنیات.

الثانی:إنّه حجّة فی العملیات فقط; لأنّه یثیر غلَبَة الظنّ.

الثالث:إنّه حجّة للناظر دون المناظر.

وقیل:التحقیق أن یقال:السبر و التقسیم یفید العلیة قطعاً إذا کان حصر الأوصاف التی یظنّ کونها علّة قطعیاً،حیث یردّد فیه بین النفی و الإثبات،وأیضاً إذا کان الدلیل الدالّ علی إلغاء ما عدا الباقی قطعیاً کذلک،و هذا النوع حجّة فی العقلیات و الشرعیات.وما عدا ذلک یکون مفیداً للعلیة ظنّاً کما إذا کان حصر الأوصاف أو الدلیل الملغی ظنیاً أو کان أحدهما ظنیاً و الآخر قطعیاً،و هذا النوع مختلفٌ فیه،فقال أکثر الشافعیة:إنّه حجّة علی المتناظرین(المستدلّ و المعترض)؛لأنّه یفید الظنّ،والعمل به واجبٌ.وذهب بعضهم إلی أنّه حجّة علی المستدلّ دون المعترض; لأنّ ظنّ العلیة یدرکه المستدلّ فقط،فظنّه لا یکون حجّة علی خصمه ما دام لم یجد عنده الظنّ بالعلیة.وذهب بعض العلماء إلی أنّه لا یکون حجّة علیهما؛لأنّ الوصف الباقی بعد الإلغاء یجوز أن یبطل کما بطل غیره من الأوصاف؛لأنّ علیة الباقی ثبُتت بالظنّ،والظنّ قابلٌ للخطأ. (2)

أقول:معلومٌ علی ذوی البصائر أنّ التقسیم المذکور یؤول إلی تقسیم التقسیم دون

ص:385


1- (1) .المحصول:1225/4.
2- (2) .راجع:روضة الناظر:176؛نزهة الخاطر:186/2 وما بعدها؛اُصول الفقه للخضری:326؛اُصول الفقه الإسلامی:671/1 وما بعدها؛المحصول:1223/4؛إرشاد الفحول:105106/2؛البحر المحیط:200/4 وما بعدها؛المهذّب:2070/5 وما بعدها؛الوسیط:233/1 وما بعدها؛المستصفی:384385/2؛فواتح الرحموت:525527/2؛الإحکام:232/3 وما بعدها؛التلویح علی التوضیح:161162/2.

السبر; لأنّ السبر هو اختبار المحلّ هل فیه أوصاف أم لا،ثمّ إذا أثبت أنّ فیه أوصافاً،فإنّه یحصر تلک الأوصاف ویقسّمها،وفی ضوء هذا البیان قال البیضاوی ومَنْ تبعه:التقسیم الحاصر،و هو ما یکون دائراً بین النفی و الإثبات،والتقسیم الذی لیس بحاصر،و هو المنتشر هو الذی لا یکون دائراً بین النفی و الإثبات. (1)

طرق حذف الوصف غیر الصالح للعلیة

أوّلاً:الإلغاء،و هو أن یتبین المجتهد أنّ الوصف الذی استبقاه قد ثبت به الحکم فی صورة بدون الوصف المحذوف،وحینئذٍ لا یکون للمحذوف تأثیرٌ فی الحکم،مثاله اعتبار الحنفیة الصغر سبباً لثبوت ولایة التزویج بدلیل الأمر باستئذان البِکر البالغة،وبدلیل ثبوت الولایة علی المال بالصغر،فمحلّ هذا الحکم هو الصورة التی ثبت فیها الحکم بالوصف الذی أبقاه المجتهد،و هو الصغر دون الذی حذف کالبکارة وغیرها.

وثانیاً:الطرد،و هو أن یکون الوصف الذی یحذفه المجتهد أمراً طردیاً،یعنی:ملغی ولم یعتبره الشارع،و هو نوعان:إمّا مطلقاً أی:ملغی عنده رأساً فی الأحکام کلّها،و إمّا فی الحکم المبحوث عنه.

وثالثاً:أن لا یظهر فی ذهن الناظر للوصف الذی یراد حذفه مناسبة للحکم أو ما یوهم المناسبة،یعنی:أن لا یقوم دلیل علی أنّ الشارع اعتبر هذا الوصف بنوع من أنواع الاعتبارات،وقیل:یکفی لمَن یرید إثبات عدم مناسبة الوصف لحکم أن یقول:بحثتُ فلم أجد له مناسبة للحکم،ولا یلزمه إقامة الدلیل علی عدم ظهور المناسبة؛لأنّ الفرض أنّ الباحث مجتهدٌ عادل أهلٌ للنظر و البحث،فالظاهر صدقه،و أنّ الوصف غیر مناسب،ویلزم منه حذفه،إذ لا طریق إلی معرفة عدم المناسبة إلاّ أخبار هذا المجتهد. (2)

ص:386


1- (1) .راجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:231/1؛المهذّب:2069/5 وما بعدها.
2- (2) .راجع:الوسیط فی اصول الفقه الإسلامی:234/1-235؛اُصول الفقه للخضری:327-328؛اُصول الفقه الإسلامی:674/1-675؛المهذّب:2075/5-2076؛الإحکام:235/3-236.

الخلاصة

القسم الثالث:الاستنباط.قال الشاشی:القیاس بعلّة مستنبطة بالرأی والاجتهاد ظاهر،وتحقیق ذلک:إذا وجدنا وصفاً مناسباً للحکم،و هو بحال یوجب ثبوت الحکم ویتقاضاه بالنظر إلیه،و قد اقترن به الحکم فی موضع الإجماع،یضاف الحکم إلیه للمناسبة لا لشهادة الشرع بکونه علّة،ونظیره إذا رأینا شخصاً أعطی فقیراً درهماً غلبَ علی الظنّ أنّ الإعطاء لدفع حاجة الفقیر،وتحصیل مصالح الثواب.

إذا عرف هذا،فنقول:إذا رأیت وصفاً مناسباً للحکم،و قد اقترن به الحکم فی موضع الإجماع،یغلب الظنّ بإضافة الحکم إلی ذلک الوصف،وغلبَة الظنّ فی الشرع توجب العمل عند انعدام ما فوقها من الدلیل بمنزلة المسافر إذا غلبَ علی ظنّه أنّ بقربه ماءً لم یجز له التیمّم،وعلی هذا مسائل التحرّی.

وحکم هذا القیاس أن یبطل بالفرق المناسب؛لأنّ عنده یوجد مناسب سواه فی صورة الحکم،فلا یبقی الظنّ بإضافة الحکم إلیه،فلا یثبت الحکم به؛لأنّه کان بناءً علی غلَبَة الظنّ،و قد بطل ذلک بالفرق.

قد تشبّه عدّة من الأحناف العمل بالقیاس بالعمل بالبینات فی خصومات العباد،منهم الشاشی،وصدر الشریعة،وفخر الإسلام حیث قال:إنّ الله تعالی کلّفنا العمل بالقیاس بطریق وضع القیاس علی مثال العمل بالبینات،فجعل الاُصول شهوداً،فهی شهود الله،ومعنی النصوص هو شهادتها،و هو العلّة الجامعة بین الفرع و الأصل،ولا بدّ من صلاحیة الاُصول،و هو کونها صالحة للتعلیل کصلاحیة الشهود بالحریة و العقل و البلوغ،ولا بدّ من صلاح الشهادة کصلاح شهادة الشاهد بلفظة الشهادة خاصّة،وعدالته واستقامته للحکم المطلوب،فکذلک هذه الشهادة.

أمّا إثبات العلّة من طریق الاستنباط،فعلی أنواع،أهمّها ما یلی:

ص:387

النوع الأوّل:طریقة السبر و التقسیم،ویراد بالسبر فی الاصطلاح الاختبار و البحث،وبالتقسیم استعراض الأوصاف التی تصلح أن تکون علّة فی الأصل وتردید العلّة بینها.

وببیان آخر:التقسیم معناه جمع الأوصاف التی یظنّ علّیتها فی الأصل و التردید بینها.

وخلاصة هذا المسلک أنّ المجتهد علیه أن یبحث فی الأوصاف الموجودة فی الأصل،ویستبعد ما لا یصحّ أن یکون علّة منها،ویستبقی ما هو علّة حسب رجحان ظنّه،وهادیه فی الاستبعاد والاستبقاء تحقّق شروط العلّة،بحیث لا یستبقی إلاّ وصفاً ظاهراً منضبطاً متعدّیاً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار.

فی ضوء ما ذُکر،هذا الطریق یتفاوت بتفاوت عقول المجتهدین فی مجالات الاستنباط وتختلف اختلافاً کبیراً،فإنّ الحنفیة رأوا المناسب فی تعلیل التحریم فی الأموال الربویة القدر،والشافعیة رأوه الطعم،والمالکیة رأوه القوت والادّخار،کلّهم یقیدون اتّحاد الجنس فیها.

و هذا المسلک قسمان:

أحدهما:أن یدور بین النفی و الإثبات،و هذا هو المنحصر.

والثانی:أن لا یکون کذلک،و هذا هو المنتشر.

نعم،إذا دار بین(النفی)والإثبات،فیکون الدلیل علی نفی علیة ما عدا الوصف المعین ظنّیاً.

واختلفوا فی المنتشر علی مذاهب:

الأوّل:إنّه لیس بحجّة مطلقاً لا فی القطعیات ولا فی الظنیات.

الثانی:إنّه حجّة فی العملیات فقط.

الثالث:إنّه حجّة للناظر دون المناظر.

وقیل:التحقیق أن یقال:السبر و التقسیم یفید العلیة قطعاً إذا کان حصر الأوصاف التی یظنّ کونها علّة قطعیاً حیث یردّد فیه بین النفی و الإثبات،وأیضاً إذا کان الدلیل

ص:388

الدالّ علی إلغاء ما عدا الباقی قطعیاً،و هذا النوع حجّة فی العقلیات و الشرعیات.وما عدا ذلک یکون مفیداً للعلیة ظنّاً کما إذا کان حصر الأوصاف أو الدلیل المغیی ظنیاً أو کان أحدهما ظنیاً و الآخر قطعیاً; و هذا النوع مختلفٌ فیه.

أقول:معلومٌ علی ذوی البصائر أنّ التقسیم المذکور یؤول إلی تقسیم التقسیم دون السبر،ولذا قال البیضاوی ومَنْ تبعه:التقسیم الحاصر،و هو ما یکون دائراً بین النفی و الإثبات،والتقسیم الذی لیس بحاصر،و هو المنتشر.

و أمّا طرق حذف الوصف غیرالصالح للعلّیة،فهی:

أوّلاً:الإلغاء.وثانیاً:الطرد،و هو أن یکون الوصف الذی یحذفه المجتهد أمراً طردیاً،یعنی:ملغی ولم یعتبره الشارع،و هو نوعان:إمّا مطلقاً،و إمّا فی الحکم المبحوث عنه.وثالثاً:أن لا یظهر فی ذهن الناظر للوصف الذی یراد حذفه مناسبة للحکم أو ما یوهم المناسبة.

ص:389

الأسئلة

1.اُذکر تحقیق الشاشی فی القیاس بعلّة مستنبطة بالرأی والاجتهاد.

2.ما هو حکم هذا القیاس عند الشاشی؟

3.اُذکر تشبیه بعض الأحناف العمل بالقیاس بالعمل بالبینات فی خصومات العباد.

4.عرّف السبر و التقسیم واذکر خلاصة هذا المسلک.

5.لماذا یختلف ویتفاوت هذا الطریق بتفاوت عقول المجتهدین فی مجالات الاستنباط؟

6.اُذکر التقسیم المنحصر و المنتشر،ثمّ اذکر المذاهب فی المنتشر.

7.اُذکر التحقیق المذکور فی السبر و التقسیم.

8.اُذکر طرق حذف الوصف غیر الصالح للعلیة.

ص:390

الدرس السادس و الأربعون بعد المئة

إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم

*النوع الثانی:إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم،کأن یقال مثلاً:إنّ هذا الوصف فی الأصل هو الذی یناسب أن یکون مظنّة لتحقیق الحکمة من هذا الحکم.وعلیه،فیجب أن یکون هو العلّة.

قال الغزالی:النوع الثانی من الاستنباط إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم،والاکتفاء بمجرّد المناسبة فی إثبات الحکم مختلفٌ فیه،وینشأ منه أنّ المراد بالمناسب ما هو علی منهاج المصالح بحیث إذا اضیف الحکم إلیه انتظم،مثاله قولنا:حرّمت الخمر؛لأنّها تزیل العقل الذی هو مناط التکلیف،و هو مناسب،لا کقولنا:حرّمت؛لأنّها تقذف بالزبد؛أو لأنّها تحفظ فی الدُن(أی ما عظم من الرواقید و هو کهیئة الحب)،فإنّ ذلک لا یناسب. (1)

فی معنی المناسبة

حکی الآمدی عن أبی زید الدبوسی أنّ المناسب عبارة عمّا لو عرض علی العقول تلقّته بالقبول.

ص:391


1- (1) .المستصفی:386/2.

ثمّ قال:وما ذکره و إن کان موافقاً للوضع اللّغوی،حیث یقال:هذا الشیء مناسب لهذا الشیء،أی:ملائمٌ له،غیر أنّ تفسیر المناسب بهذا المعنی فیه تأمّل،والحقّ فی ذلک أن یقال:المناسب:عبارة عن وصف ظاهر منضبط،یلزم من ترتیب الحکم علی وفقه حصول ما یصلح أن یکون مقصوداً من شرع ذلک الحکم،وسواءٌ کان ذلک الحکم نفیاً أو إثباتاً،وسواءٌ کان ذلک المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة،و هو أیضاً غیر خارج عن وضع اللّغة لما بینه وبین الحکم من التعلیق والارتباط،وکلّ ما له تعلّق بغیره وارتباط فإنّه یصحّ لغةً أن یقال إنّه مناسبٌ له. (1)

وقیل:المناسبة عند الاُصولیین:أن یکون بین الوصف و الحکم ملائمة،بحیث یترتّب علی تشریع الحکم عنده تحقیق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم. (2)

وقال فی المحصول:الناس ذکروا فی تعریف المناسب شیئین:

الأوّل:أنّه المُفضی إلی ما یوافق الإنسان تحصیلاً وإبقاءً،و قد یعبّر عن التحصیل بجلب المنفعة،وعن الإبقاء بدفع المضرّة; لأنّ ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرّة وإبقاؤه دفعٌ للمضرّة،ثمّ هذا التحصیل و الإبقاء قد یکون معلوماً و قد یکون مظنوناً،وعلی التقدیرین فأمّا أن یکون دینیاً أو دنیویاً.

الثانی:إنّه الملائم لأفعال العقلاء فی العادات،فإنّه یقال:هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة فی الجمع بینهما فی سلک واحد متلائم،ثمّ قال:التعریف الأوّل قول من یعلّل

ص:392


1- (1) .الإحکام:237/3.وراجع:الوسیط:237/1؛البحر المحیط:187/4؛المستصفی:636/1؛منتهی السؤل:211.
2- (2) .راجع:المستصفی:636/1 و386/2؛فواتح الرحموت:469/2 و 527؛إرشاد الفحول:107/2؛روضة الناظر:173؛نزهة الخاطر:178/2؛المهذّب:2055/5؛التلویح علی التوضیح:148/2؛الوسیط:236/1؛اُصول الفقه الإسلامی:676/1؛الوجیز:206؛البحر المحیط:186/4.

أحکام الله تعالی بالحکم و المصالح،والتعریف الثانی قول من یأباه. (1)

و قد تسمّی المناسبة بالأخالة؛لأنّ الحکم بمناسبة الوصف یخال،أی:یظنّ أنّ الوصف علّة،وأیضاً تسمّی:المصلحة والاستدلال ورعایة المقاصد،ویسمّی استخراجها:«تخریج المناط»؛لأنّه إبداء مناط الحکم. (2)

هل المناسبة بذاتها مفیدة للعلیة

اشارة

قال الحنفیة و الشافعیة:إنّ المناسبة تکون مفیدة للعلیة إذا اعتبرها الشارع بنصٍّ أوإجماع کالمناسبات التی اعتبرها الشارع لحفظ المقاصد الکلیة الضروریة الخمسة،وهی:

1.حفظ الدِّین،فإنّ الشارع شرّع لأجله القتل بالردّة وجهاد الکفّار.

2.حفظ النفس،و قد شرّع الشارع من أجله القِصاص.

3.حفظ العقل،الذی شرّع من أجله تحریم المُسکرات.

4.حفظ المال،الذی أوجب الشارع له حدّ السرقة وقطع الطریق،وإیجاب الضمان علی المعتدی.

5.حفظ النسل أو العرض،فإنّ الشارع صانه بتشریع تحریم الزنا وإیجاب الحدّ علی مرتکبه. (3)

وقال المالکیة و الحنابلة:لا یشترط اعتبار الشارع للمناسبة بنصٍّ أو إجماع حتّی تکون مفیدة للعلیة،و إنّما یکفی مجرّد إبداء المناسبة بین الحکم و الوصف مجرّداً عن الدلیل الذی یثبت هذه المناسبة،فکلّ ما یکون جالباً للمنفعة أو دافعاً للمضرّة یصلح

ص:393


1- (1) .المحصول:11881189/4.وراجع:البحر المحیط:186/4؛إرشاد الفحول:106107/2.
2- (2) .راجع:البحر المحیط:186/4؛المهذّب:2056/5؛اُصول الفقه الإسلامی:676/1؛إرشاد الفحول:106/2.
3- (3) .الوسیط:238/1-239؛البحر المحیط:188189/4؛اُصول الفقه الإسلامی:679/1؛إرشاد الفحول:108/2؛منتهی السؤل:212.

علّة للحکم؛لأنّ ظنّ العلیة قد حصل،وتحقّق الظنّ کاف فی وجوب العمل.

اعلم أنّ المناسبة قد تکون جلیة حتّی تنتهی إلی القطع کالضروریات،و قد تکون خفیة کالمعانی التی استنبطها الفقهاء،ولیس لهم إلاّ مجرّد احتمال اعتبار الشارع لها.

و هذا الخلاف المذکور استلزم تقسیم الوصف المناسب إلی ثلاثة أو أربعة أقسام بحسب اعتبار الشارع أو عدم اعتباره، (1)و هذه الأقسام هی:المناسب المؤثّر،والملائم،والملغی،والمرسل.

وقال الزرکشی فی علّة انقسام المناسبة إلی ثلاثة أقسام:لأنّه أمّا أن یعلم أنّ الشارع اعتبره أو یعلم أنّه ألغاه،أو لا یعلم واحد منهما.

القسم الأوّل:ما عُلم اعتبار الشرع له،والمراد بالعلم،الرجحان،والمراد بالاعتبار إیراد الحکم علی وفقه،لا التنصیص علیه،ولا الإیماء إلیه،وإلاّ لم تکن العلّة مستفادة(ومستنبطة)من المناسبة،و هو المراد بقولهم:شهد له أصلٌ معین،وقال الغزالی:المعنی بشهادة أصل معین للوصف أنّه مستنبط منه من حیث إنّ الحکم اثبت شرعاً علی وفقه.

القسم الثانی:ما عُلم إلغاءالشرع له،کما نقل عن بعضهم إیجاب الصوم ابتداءً فی کفّارة من واقع فی رمضان؛لأنّ القصد منها الانزجار،و هو لا ینزجر بالعتق،فهذا وان کان قیاساً لکنّ الشرع ألغاه حیث أوجب الکفّارة مرتّبة من غیر فصل بین المکلفین،والقول به مخالف للنهی،فیکون باطلاً.

القسم الثالث:أن لا یعلم اعتباره ولا الغاؤه،و هو الذی لا یشهد له أصل معین من

ص:394


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة:311؛المستصفی:634/1 وما بعدها؛الوجیز:208؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:101؛المحصول:11911193/4؛اُصول الفقه الإسلامی:680/1؛الوسیط:239/1؛البحر المحیط:193/4؛إرشاد الفحول:110/2؛فواتح الرحموت:475/2.

اصول الشریعة بالاعتبار،و هو المسمّی بالمصالح المرسلة. (1)وسیأتی الکلام فیه.

والاُصولیون اتّفقوا علی صحّة التعلیل بالمناسب المعتبر،وعلی عدم صحّة التعلیل بالمناسب الملغی،واختلفوا فی صحّة التعلیل بالمناسب المُرسل.

1.المناسب المؤثّر

قال الآمدی:الوصف المناسب أمّا أن یکون معتبراً فی نظر الشارع أو لا یکون معتبراً،فإن کان معتبراً،فاعتباره أمّا أن یکون بنصٍّ أو إجماع أو بترتیب الحکم علی وفقه فی صورة بنصّ أو إجماع،فإن کان معتبراً بنصّ أو إجماع،فیسمّی المؤثّر. (2)

والمؤثّر:هو الوصف الذی دلَّ الشارع علی أنّه اعتبره بعینه علّة للحکم ذاته،أی:للحکم الذی شرّعه بناءً علیه،أو هو الذی اعتبره الشارع علّة بأتمّ وجوه الاعتبار،ودلّل صراحةً أو إشارةً علی ذلک،وما دام الشارع دلّ علی أنّ هذا المناسب هو علّة الحکم،فکأنّه دلّ علی أنّ الحکم نشأ عنه،وأنّه أثرٌ من آثاره،ولهذا سمّاه الاُصولیون المناسب المؤثّر،و هو العلّة المنصوص علیها. (3)

حکی السید الحکیم عن خلاّف أنّه قال:لا خلاف بین العلماء فی بناء القیاس علی المناسب المؤثّر،ویسمّون القیاس بناءً علیه قیاساً فی معنی الأصل. (4)

ولکن دعوی عدم الخلاف مع خلاف ابن حزم وغیره غیر صحیحة،فلذا قال فی الوجیز:

و هذا أعلی أنواع المناسب،ولا خلاف فی صحّة القیاس علیه عند القائلین بالقیاس. (5)

ص:395


1- (1) .البحر المحیط:193/4؛إرشاد الفحول:110/2؛المستصفی:640/1 و 641.
2- (2) .الإحکام:246/3.وراجع:المستصفی:387/2؛منتهی السؤل:213214.
3- (3) .راجع:الوجیز:208؛الاُصول العامّة:311؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصَّ فیه،101.
4- (4) .الاُصول العامّة للفقه المقارن:312.
5- (5) .الوجیز:208.

وهکذا وجّه المحقّق الحکیم کلام خلاّف،فلیراجع.

نعم،یرد علیه أنّه لو کان محطّ النزاع هو هذا القسم،فهو لیس من القیاس بشیء،فإنّه إذا نصّ الشارع أو دلّ علی أنّ الحکم نشأ عن هذا الوصف،وأنّه أثرٌ من آثاره،فلایبقی شکّ فی أنّ الحکم یدور مداره من غیر فرق بین الأصل و الفرع،بل لا أصل ولا فرع.

ص:396

الخلاصة

إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم،کأن یقال مثلاً:إنّ هذا الوصف فی الأصل هو الذی یناسب أن یکون مظنّة لتحقیق الحکمة من هذا الحکم.وعلیه،فیجب أن یکون هو العلّة.

قال الغزالی:الاکتفاء بمجرّد المناسبة فی إثبات الحکم مختلفٌ فیه،وینشأ منه أنّ المراد بالمناسب ما هو علی منهاج المصالح بحیث إذا اضیف الحکم إلیه انتظم،مثاله:حرّمت الخمر؛لأنّها تزیل العقل الذی هو مناط التکلیف،و هو مناسب،لا کقولنا:حرّمت؛لأنّها تقذف بالزبد؛أو لأنّها تحفظ فی الدُن،فإنّ ذلک لا یناسب.

حکی الآمدی عن الدبوسی أنّ المناسب عبارة عمّا لو عرض علی العقول تلقّته بالقبول،ثمّ قال:وما ذکره و إن کان موافقاً للوضع اللّغوی،غیر أنّه بهذا المعنی فیه تأمّل،والحقّ فی ذلک أن یقال:المناسب:عبارة عن وصف ظاهر منضبط،یلزم من ترتیب الحکم علی وفقه حصول ما یصلح أن یکون مقصوداً من شرع ذلک الحکم،وسواء کان ذلک الحکم نفیاً أو إثباتاً،وسواء کان ذلک المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة.

وقیل:المناسبة عند الاُصولیین:أن یکون بین الوصف و الحکم ملائمة،بحیث یترتّب علی تشریع الحکم عنده تحقیق مصلحة مقصودة للشارع من جلب منفعة للناس أو دفع مفسدة عنهم.و قد تسمّی المناسبة بالأخالة؛لأنّ الحکم بمناسبة الوصف یخال أی:یظنّ أنّ الوصف علّة،وأیضاً تسمّی بالمصلحة والاستدلال ورعایة المقاصد،ویسمّی استخراجها:«تخریج المناط»؛لأنّه إبداء مناط الحکم.

قال الحنفیة و الشافعیة:إنّ المناسبة تکون مفیدة للعلیة إذا اعتبرها الشارع بنصٍّ أو إجماع کالمناسبات التی اعتبرها الشارع لحفظ المقاصد الکلیة الضروریة الخمسة،وهی:

1.حفظ الدِّین.

2.حفظ النفس.

ص:397

3.حفظ العقل.

4.حفظ المال.

5.حفظ النسل أو العرض.

وقال المالکیة و الحنابلة:لا یشترط اعتبار الشارع للمناسبة بنصّ أو إجماع حتّی تکون مفیدة للعلیة،إنّما یکفی مجرّد إبداء المناسبة بین الحکم و الوصف مجرّداً عن الدلیل الذی یثبت هذه المناسبة،فکلّ ما یکون جالباً للمنفعة أو دافعاً للمضرّة یصلح علّة للحکم؛لأنّ ظنّ العلیة قد حصل،وتحقّق الظنّ کاف فی وجوب العمل.

اعلم أنّ المناسبة قد تکون جلیة،و قد تکون خفیة.

الأوّل کالضروریات،والثانی کالمعانی التی استنبطها الفقهاء،ولیس لهم إلاّ مجرّد احتمال اعتبار الشارع لها،و هذا الخلاف استلزم تقسیم الوصف المناسب إلی ثلاثة أو أربعة أقسام بحسب اعتبار الشارع أو عدم اعتباره،و هذه الأقسام هی:المناسب المؤثّر،والملائم،والملغی،والمرسل.

وقال الزرکشی فی علّة الانقسام:إنّه إمّا أن یعلم أنّ الشارع اعتبره،أو یعلم أنّه ألغاه أو لا یعلم واحد منهما.

والاُصولیون اتّفقوا علی صحّة التعلیل بالمناسب المعتبر،وعدم صحّة التعلیل بالمناسب الملغی،واختلفوا فی صحّة التعلیل بالمناسب المرسل.

المؤثّر:هو الوصف الذی دلّ الشارع علی أنّه اعتبره بعینه علّة للحکم ذاته،أی:للحکم الذی شرّعه بناءً علیه،أو هو الذی اعتبره الشارع علّة بأتمّ وجوه الاعتبار،ودلّل صراحةً أو إشارةً علی ذلک،وما دام الشارع دلّ علی أنّ هذا المناسب هو علّة الحکم،فکأنّه دلّ علی أنّ الحکم نشأ عنه،وأنّه أثرٌ من آثاره.

حکی السید الحکیم عن خلاّف أنّه قال:لا خلاف بین العلماء فی بناء القیاس علی المناسب المؤثّر،ویسمّون القیاس بناءً علیه قیاساً فی معنی الأصل،ولکن دعوی عدم

ص:398

الخلاف مع خلاف ابن حزم وغیره غیر صحیحة،فلذا قال فی الوجیز:و هذا أعلی أنواع المناسب،ولا خلاف فی صحّة القیاس علیه عند القائلین بالقیاس،وهکذا وجّه المحقّق الحکیم کلام خلاّف،فلیراجع.

نعم،یرد علیه أنّه لو کان محطّ النزاع هو هذا القسم،فهو لیس من القیاس بشیء،فإنّه إذا نصّ الشارع أو دلّ علی أنّ الحکم نشأ عن هذا الوصف،وأنّه أثرٌ من آثاره،فلا یبقی شکّ فی أنّ الحکم یدور مداره من غیر فرق بین الأصل و الفرع،بل لا أصل ولا فرع.

ص:399

الأسئلة

1.إثبات العلّة بإبداء مناسبتها للحکم،ما هو؟عرّفه ووضّحه بذکر المثال.

2.ما هو المراد بالمناسب علی رأی الدبوسی و الآمدی؟

3.اُذکر بعض أسامی المناسبة،ولماذا سمّیت بالإخالة؟

4.عند الحنفیة و الشافعیة بماذا تکون المناسبة مفیدة للعلیة؟اذکر الضرورات الخمسة عندهم.

5.عند المالکیة و الحنابلة بماذا تکون المناسبة مفیدة للعلیة؟

6.اُذکر أقسام المناسب.

7.عرّف المناسب المؤثّر.

8.اُذکر رأی خلاّف فی المناسب المؤثّر و الإیراد علیه.

9.لماذا لا یکون القیاس المبنی علی المناسب المؤثّر قیاساً بشیء؟

ص:400

الدرس السابع و الأربعون بعد المئة

الوصف المناسب وأقسامه

2.المناسب الملائم

و هو الوصف الذی لم یقم دلیل من الشارع علی اعتباره بعینه علّةً لحکمه،و إنّما قام دلیلٌ شرعی من نصٍّ أو إجماع علی اعتباره بعینه علّة لجنس الحکم،أو اعتبار جنسه علّة لعین الحکم،أو اعتبار جنسه علّة لجنس الحکم،فإذا علّل المجتهد حکماً شرعیاً بهذا النوع من المناسب،یکون تعلیله ملائماً لنهج الشارع فی التعلیل وبناء الأحکام،فیکون التعلیل سائغاً و القیاس علیه صحیحاً علی رأی أصحاب القیاس.

ومثّلوا للوصف الذی اعتبر الشارع عینه علّة لجنس الحکم بثبوت الولایة للأب علی تزویج ابنته البِکر الصغیرة،والعلّة فی هذا الحکم علی رأی الحنفیة هی الصغر لا البکارة،محتجّین بأنّ الشارع شهد لهذا الوصف بالاعتبار،حیث جعله علّة للولایة علی المال،وحیث إنّ هذه الولایة و الولایة علی التزویج من جنس واحد و هو الولایة المطلقة،فکأنّ الشارع اعتبر الصغر علّة لکلّ ما هو من جنس الولایة،أی:لجمیع الأنواع،فیکون الصغر هو الوصف المناسب الذی انیط به الحکم بالولایة علی تزویج الصغیرة سواءً أکانت بکراً أم ثیباً.

ص:401

وللوصف الذی اعتبر الشارع جنسه علّة لعین الحکم،جمع الصلاة فی الیوم المطیر،عند من أخذ به کالإمام مالک،فالسنّة وردت بجواز الجمع فی الیوم المطیر ولکن لم تبین صراحةً علّة هذا الحکم،ولکن وجد أنّ الشارع اعتبر وصفاً من جنس هذا الوصف،أی:المطر علّة لحکم الجمع و هو السفر; لأنّ کلاًّ من السفر و المطر جنس واحد،و هو کونه مظنّة المشقّة التی یناسبها التیسیر و التخفیف عن المکلّفین،و أنّ الحکم بإباحة جمع الصلاة عند السفر هو عینه الوارد عند المطر،فاعتبار الشارع السفر علّة لجمع الصلاتین تخفیفاً عن المسافر،یدلّ علی اعتبار ما هو من جنسه-کالمطر-مبیحاً للتخفیف و الجمع بین الصلاتین،فیکون المطر علّة الحکم بجواز الجمع،فیقاس علیه جواز الجمع فی حالة سقوط الثلج و البرد ونحو ذلک.

وللوصف الذی اعتبر الشارع جنسه علّة لجنس الحکم الحیض فی إسقاط الصلاة عن الحائض،وذلک أنّ الحکم الشرعی هو أنّ الحائض لا تصوم ولا تصلّی فی أثناء حیضها،فإذا طهرت لزمها قضاء الصوم لا الصلاة،والعلّة فی هذا الحکم أنّ إلزام الحائض إذا طهرت بقضاء الصلاة التی فاتتها مع تکرار أوقاتها حرجٌ ومشقّةٌ علیها،فأقام الشارع الحیض مقام هذه المشقّة الناشئة عنه وجعله علّة للحکم بعدم قضائها الصلاة. (1)

تنبیه:قال صدر الشریعة:إذا وجدت الملایمة یصحّ العمل ولا یجب عندنا،بل یجب إذا کانت مؤثّرة،فالملایمة کأهلیة الشهادة و التأثیر کالعدالة،وعند بعض الشافعیة یجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل،وهی أن یکون للحکم أصلٌ معین من نوعه یوجد فیه جنس الوصف أو نوعه. (2)

ص:402


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة:312؛کشف الأسرار:512513/3؛التوضیح:148/2؛الوجیز:209211؛منتهی السؤل:214؛اُصول الفقه الإسلامی:682686/1؛الوسیط:242/1-247؛المهذّب:20582059/5؛إرشاد الفحول:110112/2؛البحر المحیط:193/4-195؛فواتح الرحموت،475؛المحصول:11921194/4؛الإحکام:247248/3؛المستصفی:387388/2.
2- (2) .التوضیح:150151/2.وراجع:کشف الأسرار:512/3.
3.المناسب الملغی

و هو الوصف الذی یظهر للمجتهد أنّه محقّق لمصلحة،ولکن ورد من الشارع من أحکام الفروع ما یدلّ علی عدم اعتباره،و هذا لا یصحّ التعلیل به باتّفاق الاُصولیین،کما فی قول المتوهّم إنّ اشتراک الابن مع البنت فی البنوّة للمتوفّی هو وصف مناسب للتسویة بینهما فی المیراث،فهذا محضُ وهم ولیس هو بالمناسب؛لأنّ الشارع ألغی مناسبته بالنصّ علی أنّ للذَّکر مثل حظّ الاُنثیین،و هذا لا یجوز بناء الأحکام علیه؛لأنّه خطأ وباطل قطعاً. (1)

4.المناسب المرسل

و هو الوصف المناسب الذی لم یشهد له الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء،ویسمّی بالمناسب المرسل؛لإرساله وإطلاقه عن الإلغاء والاعتبار.

وقال فی الوجیز:ولکن ترتیب الحکم علی وفقه،أی:بناء الحکم علیه یحقّق مصلحة تشهد لها عمومات الشریعة من حیث الجملة،فهو من حیث إنّه یحقّق مصلحة من جنس مصالح الشریعة یکون مناسباً،ومن حیث إنّه خال عن دلیل یشهد له بالاعتبار أو بالإلغاء،یکون مرسلاً. (2)

ویسمّی أیضاً بالمصلحة المرسلة أو الاستصلاح کما سمّاه الغزالی.

واختلف فی حجّیته وجواز التعلیل به،فقال الحنفیة و الشافعیة:لا یجوز التعلیل به؛لأنّه لم یقم دلیل من الشرع علی اعتباره،وحینئذٍ یجوز أن تکون العلّة غیره،لکنّا لم نهتد إلیه؛

ص:403


1- (1) .راجع:الوجیز:211؛الاُصول العامّة:312313؛منتهی السؤل:214؛إرشاد الفحول:11/2؛البحر المحیط:194/4؛الإحکام:249/3؛المحصول:1193/4؛المهذّب:2060/5-2061؛الوسیط:240/1؛اُصول الفقه الإسلامی:680/1؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:102103.
2- (2) .الوجیز:211.

فلا یصحّ بناء الحکم علیه من غیر دلیل،لقوله تعالی: وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ . (1)

وقال المالکیة و الحنابلة:یصحّ التعلیل به؛لأنّ الشارع لم یلغ اعتباره،ویکفی للعمل به ما نراه من مناسبته للحکم؛لأنّ الذی کلّفنا به فقط هو بذل الجهد،وحیث لم نصل إلاّ إلی هذا،فإنّه قد حصل الظنّ بکونه علّة للحکم،ومتی تحقّق الظنّ وجب العمل به،أمّا احتمال کون العلّة وصفاً آخر لم ندرکه؛فهو ممّا لا یعتدّ به. (2)

تنبیه

أقول:هذا داخل فی البحث عن المصالح المرسلة التی سیأتی البحث عنها،والقسم الأوّل-أی:المناسب المؤثّر-خارج عن محلّ النزاع،و هو عمل بالنصّ کما مرّت الإشارة إلیه،و أنّ القسم الثانی مخدوش بعدم العلم بکون الصغر علّة تامّة،بل یحتمل أن یکون للبکارة فی النکاح مدخلیة،و إن لم یکن کذلک فی مورد المال،والقسم الثالث-أی المناسب الملغی-فهو من قبیل التماس العلل لصرف النصوص علیها،و هو محظور عقلاً وشرعاً.

تنقیح المناط

اعتبر بعض الاُصولیین کالبیضاوی وغیره من الشافعیة تنقیح المناط من مسالک العلّة،ولیس بمسلک علی رأی البعض الآخر منهم. (3)

والتنقیح فی اللّغة:التهذیب و التمییز و التخلیص،یقال:کلامٌ منقّح،أی:لا حشوَ فیه،والمناط:العلّة،والمناط مصدر میمی بمعنی اسم المکان،ومعناه اسم مکان الإناطة

ص:404


1- (1) .الإسراء:36.
2- (2) .راجع:الوجیز:211؛اُصول الفقه الإسلامی:689/1 وما بعدها؛الاُصول العامّة:33؛الوسیط:249/1 وما بعدها؛المهذّب:2060/5؛المحصول:1193/4.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:691/1؛الوجیز:216؛الوسیط:252/1؛المهذّب:2080/5.

والتعلیق،وتسمّی العلّة مناطاً لربط الحکم بها وتعلیقه علیها.

وفی اصطلاح الاُصولیین یراد بتنقیح المناط:تهذیب العلّة ممّا عُلِقَ بها من الأوصاف التی لا مدخل لها فی العلیة،وذلک بأن یرد النصّ مشتملاً علی العلّة مقترناً بها بعض الأوصاف التی لا علاقة لها بالحکم،ولا مدخل لها فی العلیة من غیر أن یدلّ النصّ علی العلّة بعینها.

قال الآمدی:تنقیح المناط:هو النظر والاجتهاد فی تعیین ما دلّ النصّ علی کونه علّة من غیر تعیین بحذف ما لا دخلَ له فی الاعتبار ممّا اقترن به من الأوصاف. (1)

مثاله:ما ورد فی السُنّة من أنّ أعرابیاً واقَعَ زوجته فی نهار شهر رمضان عامداً،فجاء إلی النبی صلی الله علیه و آله وأخبره،فأمره بالکفّارة. (2)و هذا الحدیث یدلّ بطریق الإیماء علی أنّ علّة إیجاب الکفّارة علی الأعرابی هی الوقاع،ولکن لم یدلّ علی وصف معین أنّه هو العلّة،فالنصّ اشتمل علی العلّة ولکنّها غیر مهذّبة ولا خالصة من الشوائب و الأوصاف التی لا علاقة لها بالعلیة،فیأتی ویخلّص العلّة الحقیقیة ممّا اقترن بها أو علِقَ بها،مثل:کون المجامع أعرابیاً،و أنّ الواقعة حصلت فی المدینة،وکون الجماع فی شهر رمضان من تلک السنة بعینها،فیستبعد المجتهد هذه الأوصاف،ویصل بعد ذلک إلی أنّ الوقاع عمداً فی نهار رمضان هو علّة الحکم بوجوب الکفّارة،و هذا مذهب الشافعیة و الحنابلة فی تنقیح علّة هذا الحکم،فلا تجب الکفّارة عندهم علی مَن أفطر عامداً بغیر جماع. (3)

و أمّا الحنفیة و المالکیة،فیزیدون علی ما سبق إلغاء کون الذی وقع خصوص

ص:405


1- (1) .الإحکام:264/3.
2- (2) .صحیح مسلم:496 ح2590؛صحیح البخاری:511 ح1936؛صحیح الترمذی:322 ح724.
3- (3) .راجع:الإحکام:264/3؛الوجیز:216217؛الاُصول العامّة:315؛اُصول الفقه الإسلامی:692/1؛المستصفی:283/2؛البحر المحیط:227/4؛إرشاد الفحول:118/2؛روضة الناظر:162؛نزهة الخاطر:223/2؛التلویح علی التوضیح:162163/2؛الوسیط:252/1-253؛المهذّب:2080/5 و 2084.

الوقاع،فقالوا:إنّ مثل الجماع کلّ مفطر،و هذه المماثلة تفهم بالتبادر،فتجب الکفّارة بالإفطار فی رمضان سواء أکان بجماع أم بأکل أم بشرب ونحوها من المفطرات،ویکون المؤثّر فی إیجاب الکفّارة عند هؤلاء هو انتهاک حرمة رمضان بتناول المفطر عمداً،فیکون هو العلّة فی وجوب الکفّارة. (1)

و قد عرفت أنّ أنظار(رُؤی)المجتهدین تختلف أیضاً فی تنقیح المناط،فقد یعتبر بعضهم أنّ هذا الوصف هو العلّة،و قد یعتبر البعض الآخر وصفاً آخر هو العلّة،فعلی هذا تختلف الأحکام باختلاف الأنظار(الرؤی).

تذکرة

وممّا یلاحظ أنّ تنقیح المناط علی التعریف المذکور شبیهٌ بالسبر و التقسیم؛لأنّ هناک فی الواقع فرقٌ بینهما،فإنّ تنقیح المناط یکون حیث دلّ نصٌّ علی مناط الحکم،ولکنّه غیر مهذّب ولا خالص ممّا لا دخل له فی العلیة،و أمّا السبر و التقسیم فیکون حیث لا یوجد نصّ أصلاً علی مناط الحکم،ویراد به التوصّل إلی معرفة العلّة لا إلی تهذیبها من غیرها کما یکون فی تنقیح المناط. (2)

وقال الغزالی:أقرّ به أکثر مُنکری القیاس،بل قال أبو حنیفة:لا قیاس فی الکفّارات،وأثبت هذا النمط من التصرّف وسمّاه استدلالاً. (3)

وقال صدر الشریعة:وعلماؤنا(أی:الأحناف)لم یتعرّضوا للسبر و التقسیم،وتنقیح المناط،فإنّه علی تقدیر قبولهما یکون مرجعهما إلی النصّ أو الإجماع أو المناسبة. (4)

ص:406


1- (1) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:693/1؛الوجیز:217؛الوسیط:253/1؛المهذّب:2080/5.
2- (2) .راجع:المهذّب:2081/5؛التلویح:162163/2؛البحر المحیط:229/4؛إرشاد الفحول:118/2؛اُصول الفقه الإسلامی:693/1؛الوسیط:254/1.
3- (3) .المستصفی:285/2؛إرشاد الفحول:118/2؛البحر المحیط:227/4؛اُصول الفقه للخضری:323.
4- (4) .التوضیح لمتن التنقیح:162/2.

الفرق بین تنقیح المناط وتخریج المناط وتحقیق المناط

أمّا تنقیح المناط،فقد عرفت أنّه خاصّ بالعلل المنصوصة،ولا یوجد فی العلل المستنبطة،وأنّه هو الاجتهاد فی تعیین السبب الذی ناط الشارع الحکم به وأضافه إلیه.

و أمّا تخریج المناط:فهو النظر والاجتهاد فی استنباط الوصف المناسب للحکم الذی ورد به النصّ أو الإجماع لیجعل علّة للحکم،وذلک بأی طریق من طرق مسالک العلّة کالمناسبة أو السبر و التقسیم،فتخریج المناط خاصّ بالعلل المستنبطة،والتخریج هو الاستخراج أو الاستنباط،أو یقال:هو استنباط علّة الحکم التی لم یرد نصٌّ بها،ولم ینعقد إجماع علیها بالطرق التی یتوصّل بها إلی معرفة العلّة غیر المنصوص علیها أو غیر المجمع علیها.

وقال فی الإحکام:و أمّا تخریج المناط:فهو النظر والاجتهاد فی إثبات علّة الحکم الذی دلّ النصّ أو الإجماع علیه دون علیته،وذلک کالاجتهاد فی إثبات کون الشدّة المطربة علّة لتحریم شرب الخمر،وکون القتل العمد العدوان علّة لوجوب القصاص فی المحدَّد، (1)وکون الإسکار علّة لتحریم الخمر،وکون الصغر علّة الولایة فی التزویج..وغیرها ممّا ذکر من الأمثلة. (2)

قال الزرکشی:و هو مشتقّ من الإخراج،فکأنّه راجع إلی أنّ اللّفظ لم یتعرّض للمناط بحال،فکأنّه مستورٌ اخرِجَ بالبحث و النظر،کتعلیل تحریم الرِّبا بالطعم،فکأنّ المجتهد أخرج العلّة،ولهذا سُمّی تخریجاً.بخلاف التنقیح فإنّه لم یستخرج؛لکونه مذکوراً فی النصّ،بل نقّح المنصوص وأخذ منه ما یصلح للعلیة وترک ما لا یصلح.

إلی أن قال:والحاصل،إنّ بیان العلّة فی الأصل:تخریج المناط،وإثباته فی الفرع:

ص:407


1- (1) .الإحکام:265/3؛البحر المحیط:228/4؛التلویح:163/2.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:694695/1؛الوجیز:217؛الوسیط:255/1؛البحر المحیط:228/4؛المهذّب:20852086/5؛المستصفی:285287/2؛روضة الناظر:162.

تحقیق المناط،أی:إذا ظنَنّا أو عِلمنا العلّة ثمّ نظرنا وجودها فی الفرع وظننّا تحقیق المناط،فهو تحقیق المناط. (1)

وفی ضوء ما ذُکِر،علمت أنّ تخریج المناط هو الاجتهاد القیاسی.وقال الغزالی:عظم الخلاف فیه وأنکره أهل الظاهر،وطائفة من معتزلة بغداد،وجمیع الشیعة،والعلّة المستنبطة أیضاً عندنا لا یجوز التحکّم بها. (2)

ص:408


1- (1) .البحر المحیط:228229/4.
2- (2) .المستصفی:286/2.

الخلاصة

المناسب الملائم:هو الوصف الذی لم یقم دلیل من الشارع علی اعتباره بعینه علّةً لحکمه،و إنّما قام دلیلٌ شرعی من نصٍّ أو إجماع علی اعتباره بعینه علّة لجنس الحکم،أو اعتبار جنسه علّةً لعین الحکم،أو اعتبار جنسه علّة لجنس الحکم،فإذا علّل المجتهد حکماً شرعیاً بهذا النوع من المناسب،سیکون ملائماً لنهج الشارع فی التعلیل وبناء الأحکام،فیکون تعلیله سائغاً و القیاس علیه صحیحاً علی رأی أصحاب القیاس.

ومثّلوا للوصف الذی اعتبر الشارع عینه علّة لجنس الحکم بثبوت الولایة للأب علی تزویج ابنته البِکر الصغیرة،والعلّة فی هذا الحکم علی رأی الحنفیة هی الصغر لا البکارة،وعلی رأی الشافعیة فهی البکارة.

وللوصف الذی اعتبر الشارع جنسه علّة لعین الحکم،جمع الصلاة فی الیوم المطیر عند من أخذ به کمالک،فالسنّة وردت بجواز الجمع فی الیوم المطیر،ولکن لم تبین صراحةً علّة هذا الحکم،ولکن وجد أنّ الشارع اعتبر وصفاً من جنس هذا الوصف أی:المطر علّة لحکم الجمع و هو السفر؛لأنّ کلاًّ من السفر و المطر جنسٌ واحد،و هو کونه مظنّة المشقّة.

وللوصف الذی اعتبر الشارع جنسه علّة لجنس الحکم،الحیض فی إسقاط الصلاة عن الحائض،وذلک أنّ الحکم الشرعی هو أنّ الحائض لا تصوم ولا تُصلّی فی أثناء حیضها،فإذا طهرت لزمها قضاء الصوم دون الصلاة،والعلّة فی هذا الحکم أنّ إلزام الحائض إذا طهرت بقضاء الصلاة التی فاتتها مع تکرار أوقاتها حرجٌ ومشقّة علیها.

قال صدر الشریعة:إذا وجدت الملائمة یصحّ العمل ولا یجب عندنا،بل یجب إذا کانت مؤثّرة،وعند بعض الشافعیة یجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل وهی أن یکون للحکم أصلٌ معین من نوعه یوجد فیه جنس الوصف أو نوعه.

المناسب الملغی:و هو الوصف الذی یظهر للمجتهد أنّه محقّقٌ لمصلحة،ولکن ورد من

ص:409

الشارع من أحکام الفروع ما یدلّ علی عدم اعتباره،و هذا لا یصحّ التعلیل به باتّفاق الاُصولیین.

المناسب المرسل:و هو الوصف المناسب الذی لم یشهد له الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء،ویسمّی بالمناسب المرسل؛لإرساله وإطلاقه عن الإلغاء والاعتبار.

قال فی الوجیز:بناء الحکم علیه یحقّق مصلحة تشهد لها عمومات الشریعة من حیث الجملة،فهو من حیث إنّه یحقّق مصلحة من جنس مصالح الشریعة یکون مناسباً،ومن حیث إنّه خال عن دلیل یشهد له بالاعتبار أو الإلغاء،یکون مرسلاً.ویسمّی أیضاً بالمصلحة المرسلة أو الاستصلاح،واختُلف فی حجّیته وجواز التعلیل به،فقال الحنفیة و الشافعیة:لا یجوز التعلیل به؛لأنّه لم یقم دلیل من الشرع علی اعتباره.وقال المالکیة و الحنابلة:یصحّ التعلیل به; لأنّ الشارع لم یلغ اعتباره،ویکفی للعمل به ما نراه من مناسبته للحکم; لأنّ الذی کلّفنا به فقط هو بذل الجُهد،وحیث لم نصل إلاّ إلی هذا،فإنّه قد حصل الظنّ بکونه علّة للحکم،ومتی تحقّق الظنّ وجب العمل به.

أقول:هذا داخلٌ فی البحث عن المصالح المرسلة التی سیأتی البحث عنها،فالقسم الأوّل(المناسب المؤثّر)خارج عن محطّ النزاع،و هو عملٌ بالنصّ کما مرّت الإشارة إلیه،والقسم الثانی(الملائم)مخدوش بعدم العلم بکون الصغر علّة تامّة،بل یحتمل أن یکون للبکارة فی النکاح مدخلیة،و إن لم یکن کذلک فی مورد المال،والقسم الثالث(الملغی)فهو من قبیل التماس العلل لصرف النصوص علیها،و هو محظور عقلاً وشرعاً.

اعتبر بعض الاُصولیین کالبیضاوی وغیره تنقیح المناط من مسالک العلّة،ولیس بمسلک علی رأی البعض الآخر منهم،فالتنقیح فی اللّغة:التهذیب و التمییز و التخلیص،والمناط:العلّة،والمناط مصدر میمی بمعنی اسم المکان،وتسمّی العلّة مناطاً لربط الحکم بها وتعلیقه علیها.

وفی اصطلاح الاُصولیین یراد بتنقیح المناط:تهذیب العلّة ممّا عُلِقَ بها من الأوصاف التی لا مدخَلَ لها فی العلیة.قال الآمدی:تنقیح المناط:هو النظر والاجتهاد فی تعیین ما دلّ النصّ علی کونه علّة من غیر تعیین بحذف ما لا دخل له فی الاعتبار ممّا اقترن به من الأوصاف.

ص:410

واعلم أنّ أنظار المجتهدین تختلف فی تنقیح المناط،فعلی هذا تختلف الأحکام باختلاف الأنظار.

وممّا یلاحظ أنّ تنقیح المناط علی التعریف المذکور شبیهٌ بالسبر و التقسیم،لکن هناک فی الواقع فرقٌ بینهما،فإنّ تنقیح المناط یکون حیث دلّ نصٌّ علی مناط الحکم،ولکنّه غیر مهذّب ولا خالص ممّا لا دخل له فی العلیة،و أمّا السبر و التقسیم فیکون حیث لا یوجد نصّ أصلاً علی مناط الحکم ویراد به التوصّل إلی معرفة العلّة لا إلی تهذیبها من غیرها کما یکون فی تنقیح المناط.

وقال صدر الشریعة:وعلماؤنا-أی:الأحناف-لم یتعرّضوا للسبر و التقسیم وتنقیح المناط فإنّه علی تقدیر قبولهما یکون مرجعهما إلی النصّ أو الإجماع أو المناسبة.

و أمّا الفرق بین تنقیح المناط،وتخریج المناط،وتحقیق المناط،فقد عرفت أنّ تنقیح المناط خاصّ بالعلل المنصوصة،ولا یوجد فی العلل المستنبطة،وأنّه هو الاجتهاد فی تعیین السبب الذی ناط الشارع الحکم به وأضافه إلیه.

وتخریج المناط:هو النظر والاجتهاد فی استنباط الوصف المناسب للحکم الذی ورد به النصّ أو الإجماع لیجعل علّة للحکم،وذلک بأی مسلک من مسالک العلّة،فتخریج المناط خاص بالعلل المستنبطة،أو یقال:هو استنباط علّة الحکم التی لم یرد نصّ بها،ولم ینعقد إجماع علیها بالطرق التی یتوصّل بها إلی معرفة العلّة غیر المنصوص علیها أو غیر المُجمَع علیها.

وقال الزرکشی:والحاصل،إنّ بیان العلّة فی الأصل:تخریجٌ المناط،وإثباته فی الفرع:تحقیق المناط.

وفی ضوء ما ذُکِر علمت أنّ تخریج المناط هو الاجتهاد القیاسی.وقال الغزالی:عظم الخلاف فیه وأنکره أهل الظاهر،وطائفة من معتزلة بغداد،وجمیع الشیعة،والعلّة المستنبطة أیضاً عندنا لا یجوز التحکّم بها.

ص:411

الأسئلة

1.عرّف المناسب الملائم،ثمّ اذکر أنواع اعتباره من ناحیة الشارع،ووضّحه بذکر المثال.

2.اُذکر رأی الأحناف و الشافعیة فی العمل بالملائم.

3.عرِّف المناسب الملغی.

4.عرّف المناسب المرسل،ولماذا سُمّی بالمناسب المرسل؟

5.لماذا لا یجوز التعلیل بالمرسل عند الحنفیة و الشافعیة،ولماذا یصحّ التعلیل به عند المالکیة و الحنابلة؟

6.لماذا یکون المناسب الملائم مخدوشاً؟

7.اُذکر تعریف التنقیح من حیث اللّغة وفی اصطلاح الاُصولیین.

8.اُذکر الفرق بین تنقیح المناط و السبر و التقسیم.

9.اُذکر الفرق بین تنقیح المناط وتخریجه.

ص:412

الدرس الثامن و الأربعون بعد المئة

أقسام الوصف المناسب وأقسام القیاس

تحقیق المناط

و أمّا تحقیق المناط،فقال الآمدی:فهو النظر فی معرفة وجود العلّة فی آحاد الصور بعد معرفتها فی نفسها،وسواء کانت معروفة بنصٍّ أو إجماع أو استنباط. (1)

ومعلومٌ أنّ تحقیق المناط هو النظر فی تحقّق العلّة الثابتة بنصٍّ أو إجماع أو بأی مسلک فی جزئیة أو واقعة غیر التی ورد فیها النصّ،فإقامة الدلیل علی أنّ تلک العلّة موجودة فی الفرع کما هی موجودة فی الأصل یعتبر تحقیقاً للمناط،مثاله:النظر فی تحقّق الإسکار-الذی هو علّة فی تحریم الخمر-فی أی نبیذ آخر مصنوع من تمر أو شعیر،وکتحقیق أنّ النبّاش(و هو الذی یسرق الأکفان من القبور)یعتبر سارقاً لإقامة الحدّ علیه لوجود معنی السرقة منه. (2)

حکی السید المحقّق الحکیم عن المقدسی أنّه قسّم تحقیق المناط إلی نوعین:

ص:413


1- (1) .الإحکام:264/3.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:694/1؛إرشاد الفحول:118/2؛الوجیز:218؛البحر المحیط:228/4.

الأوّل:أن تکون القاعدة الکلیة متّفقاً علیها أو منصوصاً علیها،ویجتهد فی تحقیقها فی الفرع،ومثّل له بالاجتهاد فی القبلة،و هو معلومٌ بالنصّ،والاجتهاد إنّما یکون فی تشخیص القبلة من بین الجهات،وکذلک تعیین الإمام،والعدل ومقدار الکفایات فی النفقات ونحوها.

الثانی:ما عرف علّة الحکم فیه بنصٍّ أو إجماع،فیبین المجتهد وجودها فی الفرع باجتهاده،مثل قول النبی صلی الله علیه و آله فی الهرّة:«أنّها لیست بنجس إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات،جعل الطواف علّة،فیبین المجتهد باجتهاده وجود الطوّاف فی الحشرات من الفأرة و الحیة وغیرهما لیلحقها بالهرّة فی الطهارة،فهذا قیاسٌ جلی قد أقرَّ به جماعة ممّن ینکر القیاس.

والأوّل من النوعین موضع اتّفاق المسلمین علی الأخذ به،إلاّ أنّ اعتباره من قبیل تحقیق المناط ممّا لا یعرف له وجه؛لأنّه لا یزید علی کونه اجتهاداً فی مقام تشخیص صغریات موضوع الحکم الکبروی،ولیس هو اجتهاداً فی تشخیص علّة الأصل فی الفرع لینتظم فی هذا القسم،فعدّه قسماً من تحقیق المناط لا یبدو له وجه،ولقد استدرک بعد ذلک فنفی هذا القسم من تحقیق المناط عن القیاس؛لأنّ هذا متّفقٌ علیه،والقیاس مختلَفٌ فیه،والأنسب تعلیله بعدم انطباق مفهوم القیاس علیه؛لأنّ الاتّفاق والاختلاف لا یغیر من واقع الأشیاء إذا کان مفهومها متّسعاً له،ثمّ علّل سرّ الاتّفاق علیه فیما یبدو بأنّ هذا من ضرورة کلّ شریعة؛لأنّ التنصیص علی عدالة کلّ شخص و قدر کفایة الأشخاص لا یوجد. (1)

وکأنّ مراده أنّ جمیع القضایا الشرعیة إنّما وردت علی سبیل القضایا الحقیقیة لا القضایا الخارجیة،فلا تتکفّل بتشخیص وتعیین موضوعاتها خارجاً و إنّما یترک تشخیص الموضوعات إلی المکلّفین أنفسهم بالطرق و القواعد المجعولة من قِبل الشارع لذلک،ومن

ص:414


1- (1) .الاُصول العامّة:313314.وراجع:روضة الناظر:161162؛المستصفی:280/2-283؛المهذّب:2084/5.

هنا قیل:إنّ القضیة لا تعین موضوعاتها خارجاً إذا کانت قضیة حقیقیة،فالدلیل الذی یأمرک بالصلاة خلف العادل لا یعین لک أنّ فلاناً مثلاً عادل أو غیر عادل،و هذا من الواضحات.

أقسام القیاس

اشارة

مبنی القیاس عند القیاسیین اشتراک الفرع مع الأصل فی العلّة،إلاّ أنّ العلّة قد تکون فی الفرع أقوی منها فی الأصل،و هذا هو قیاس الأولی،و قد تکون فی الفرع مساویة لما فی الأصل،و هذا هو القیاس المساوی،و قد تکون فی الفرع أضعف منها فی الأصل،و هذا هو القیاس الأدنی.

القیاس الأولی

أمّا قیاس الأولی:فهو ما کانت علّة الفرع أقوی منها فی الأصل،فیکون ثبوت حکم الأصل للفرع أولی من ثبوته للأصل بطریق أولی،مثل:قیاس الضرب علی التأفیف بجامع الإیذاء،فإنّ الضرب أولی بالتحریم من التأفیف لشدّة الإیذاء فیه. (1)

ذهب بعض الاُصولیین کالحنفیة إلی أنّ حرمة ضرب الوالد ثابتة بالنصّ لا بالقیاس؛لأنّ علّة النصّ المحرّم للتأفیف هو الإیذاء و هو معنی واضح المفهوم لا یحتاج إلی استنباط،یعرفه کلّ من یعرف اللّغة العربیة،یعنی:تثبت الحرمة فی هذا النوع من القیاس عند الحنفیة بمفهوم الموافقة،ویسمّی عندهم بدلالة النصّ. (2)

القیاس المساوی

و هو ما کانت العلّة التی بُنی علیها الحکم فی الأصل موجودة فی الفرع بقدر ما هی متحقّقة فی الأصل.

ص:415


1- (1) .راجع:الوجیز:219؛اُصول الفقه الإسلامی:702/1.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:702/1؛البحر المحیط:34/4،الإحکام:3-63/4-64 و 269-270.

وببیان آخر:هو ما کان الفرع فیه مساویاً للأصل فی الحکم من غیر ترجیح علیه،مثل قوله تعالی: فَإِنْ أَتَیْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَیْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَی الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ (1)،فإنّ العبد یقاس علی الأمَة فی تنصیف العقوبة إذا ارتکب ما یوجب الحدّ بالجلد،ومثله قیاس إحراق مال الیتیم علی أکله بجامع التلف فی کلّ منهما،أو علّة الحکم هی الاعتداء علی مال الیتیم وإتلافه علیه بقوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْماً إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَیَصْلَوْنَ سَعِیراً ، (2)إنّ إحراق مال الیتیم ظلماً یساوی واقعة النصّ فی العلّة،فیکون حکمه حکم أکله ظلماً فی الحرمة.

القیاس الأدنی

و هو ما کان تحقّق العلّة فی الفرع أضعف وأقلّ وضوحاً ممّا فی الأصل،و إن کان الاثنان متساویین فی تحقّق أصل المعنی الذی به صار الوصف علّة کالإسکار،فهو علّة تحریم الخمر،ولکن قد یکون علی نحو أضعف فی نبیذ آخر،و إن کان للاثنین صفة الإسکار.وببیان آخر:هو أن یکون الفرع فیه أضعف فی علّة الحکم من الأصل،أی:إنّه أقلّ ارتباطاً بالحکم من الأصل،مثل قیاس التفّاح علی البرّ بجامع الطعم فی کلّ منهما،لیثبت فیه حرمة التفاضل کما ثبت فی البرّ. (3)

قال الزحیلی فی وجه الأدونیة:إنّ وجه الأدونیة لیس فی الحکم،ولا کما قال بعضهم فی أنّ العلّة فی الأصل تثبت علی کلّ الاحتمالات المختلف فیها بین المذاهب،کعلّة تحریم الرِّبا،أهی الطعم أو الکیل أو الاقتیات و الإدّخار،فإنّ هذه الاحتمالات کلّها ثابتة فی

ص:416


1- (1) .النساء:25.
2- (2) .النساء:10.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:702703/1؛الوجیز:218219؛الوسیط:262/1-264؛المستصفی:364366/2؛الإحکام:269/4؛المهذّب:19241925/4؛نزهة الخاطر:168/2؛روضة الناظر:169.

البرّ،أمّا فی التفّاح،فلا یثبت التحریم فیه إلاّ بناءً علی کون العلّة هی الطعم کما قال الشافعی،و إنّما وجه الأدونیة هو بالنسبة لقوّة العلّة وضعفها،وحینئذٍ لا یکون شرط العلّة و هو وجودها فی الفرع بکمالها معناه وجود العلّة بذاتها،و إنّما ینبغی وجود قدر مشترک یحقّق المعنی المطلق لعلّة الأصل،بصرف النظر عن عوارضها ومشخّصاتها فی الزیادة و النقص. (1)

(وممّا ذُکِر ظهر أنّ)النوع الثالث،و هو القیاس الأدنی،متّفقٌ علی کونه قیاساً،و أمّا النوعان الأوّلان فإنّه مختلَفٌ فی کونه ما قیاساً،فإنّ بعض العلماء کالحنفیة،وبعض علماء الشیعة لم یعتبروهما من القیاس،بل من النصّ،واعتبرهما الشافعی من القیاس فی معنی الأصل. (2)

وقال الغزالی:و قد اختلفوا فی تسمیة هذا(أی:أن یکون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق به)قیاساً،وتبعد تسمیته قیاساً؛لأنّه لا یحتاج فیه إلی فکر واستنباط علّة؛ولأنّ المسکوت عنه هاهنا کأنّه أولی بالحکم من المنطوق به،ومن سمّاه قیاساً اعترف بأنّه مقطوعٌ به،ولا مشاحّة فی الأسامی. (3)

القیاس الجلی

وینقسم القیاس أیضاً باعتبار القوّة و التبادر إلی قیاس جلی أو فی معنی الأصل،وإلی قیاس خفی.

قال الآمدی:الجلی ما کانت العلّة فیه منصوصة أو غیر منصوصة،غیر أنّ الفارق بین الأصل و الفرع مقطوعٌ بنفی تأثیره. (4)

ص:417


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:703/1؛الوسیط:264/1.
2- (2) .راجع:الإحکام:269/4؛اُصول الفقه الإسلامی:703/1.
3- (3) .المستصفی:364365/2.
4- (4) .الإحکام:269/4.

أو یقال:هو ما کانت العلّة فیه منصوصة أو غیر منصوصة،ولکن قطع فیه بنفی تأثیر الفارق بین الأصل و الفرع مثل:قیاس الأمَة علی العبد فی سرایة العتق من البعض إلی الکلّ،فإنّ الفارق بینهما هو الذکورة والاُنوثة،ومن المقطوع به أنّ هذا الفارق لا تأثیر له شرعاً فی أحکام العتق،فلذا إنّ عتق الشریک لبعض الأمَة المملوکة له ولشخص آخر یسری علی جمیع الأمَة،کما یسری فی العبد،ومثل:قیاس الضرب علی التأفیف،فالقیاس الجلی یشمل القیاس المساوی و الأولوی.

القیاس الخفی

و هو ما لم یقطع فیه بنفی تأثیر الفارق بین الأصل و الفرع إذا کانت العلّة فیه مستنبطة من حکم الأصل،مثل:قیاس القتل بالمثقّل علی القتل بالمحدّد بجامع القتل العمد العدوانی لإثبات وجوب القصاص فی المثقّل،فإنّ الفارق بین المثقّل و المحدّد لم یقطع بإلغاء تأثیره من الشارع،بل یجوز أن یکون الفارق مؤثّراً،ولذلک قال أبو حنیفة:لا یجب القصاص فی القتل بالمثقّل، (1)والقیاس الخفی لا یشمل إلاّ قیاس الأدنی. (2)

قال فی المهذّب:والقیاس الأولی و المساوی یسمّیان بالقیاس الجلی،وبالقیاس القطعی،والقیاس الأدنی قد یسمّی بالقیاس الخفی وبالقیاس الظنّی،و هو المقصود بالقیاس عند الإطلاق. (3)

ولکن قال الزرکشی:أمّا الجلی:فما علم من غیر معاناة وفکر،والخفی:ما لا یتبین

ص:418


1- (1) .کتاب الخلاف:160/5 مسألة 18؛بدایة المجتهد:390/2؛المُغنی لابن قدامة و الشرح الکبیر:323/9-324؛الفقه علی المذاهب الأربعة:275/5.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:703704/1؛البحر المحیط:3336/4؛إرشاد الفحول:119/2؛الإحکام:269270/4؛المستصفی:364367/2؛المهذّب:19211922/4؛منتهی السؤل:218؛الوسیط:264265/1؛فواتح الرحموت:555/2.
3- (3) .المهذّب:1925/4.

إلاّ بإعمال فکر،ثمّ حُکی عن الماوردی و الرویانی أنّهما قالا:الجلی:ما یکون معناه فی الفرع زائداً علی معنی الأصل،والخفی:ما یکون فی الفرع مساویاً لمعنی الأصل. (1)

تبصرة

قد جری الحنفیة علی اصطلاح آخر فی القیاس الجلی و القیاس الخفی،فقالوا:القیاس الجلی:هو القیاس الظاهر الذی یتبادر إلیه الذهن،وتسبق إلیه الأفهام بسبب ظهور العلّة فیه.والقیاس الخفی:هو الاستحسان،و هو القیاس الذی خفیت علّته لدقّتها وبُعدها عن الذهن،ویقع فی مقابلة القیاس الجلی. (2)

ص:419


1- (1) .البحر المحیط:33/4.
2- (2) .التوضیح:171/2؛فواتح الرحموت:556/2؛کشف الأسرار:580/3 و 3/4.

الخلاصة

و أمّا تحقیق المناط:فهو النظر فی معرفة وجود العلّة فی آحاد الصور،بعد معرفتها فی نفسها،وسواء کانت معروفة بنصٍّ أو إجماع أو استنباط،فإقامة الدلیل علی أنّ تلک العلّة موجودة فی الفرع کما هی موجودة فی الأصل یعتبر تحقیقاً للمناط،مثاله:النظر فی تحقّق الإسکار-الذی هو علّة فی تحریم الخمر-فی أی نبیذ آخر مصنوعٌ من تمر أو شعیر.

قال المقدسی:تحقیق المناط نوعان:

الأوّل:أن تکون القاعدة الکلیة متّفقاً علیها أو منصوصاً علیها،ویجتهد فی تحقیقها فی الفرع.

الثانی:ما عرف علّة الحکم فیه بنصٍّ أو إجماع،فیبین المجتهد وجودها فی الفرع باجتهاده،مثل قول النبی صلّی اللّه علیه و آله:«الهرّة لیست بنجس،إنّها من الطوّافین علیکم و الطوّافات»،جعل الطواف علّة،فیبین المجتهد باجتهاده وجود الطواف فی الحشرات،فهذا قیاسٌ جلی قد أقرَّ به جماعة ممّن ینکر القیاس.

والأوّل من النوعین موضع وفاق المسلمین علی الأخذ به،إلاّ أنّ اعتباره من قبیل تحقیق المناط ممّا لا یعرف له وجه؛لأنّه لا یزید علی کونه اجتهاداً فی مقام تشخیص صغریات موضوع الحکم الکبروی،ولیس هو اجتهاداً فی تشخیص علّة الأصل فی الفرع لینتظم فی هذا القسم،فعدّه قسماً من تحقیق المناط لا وجه له،ولقد استدرک بعد ذلک فنفی هذا القسم من تحقیق المناط عن القیاس; لأنّ هذا متّفقٌ علیه،والقیاس مختلَفٌ فیه.

أقسام القیاس:لقد عرفت أنّ مبنی القیاس عند القائلین به هو اشتراک الفرع مع الأصل فی العلّة،إلاّ أنّ العلّة قد تکون فی الفرع أقوی منها فی الأصل،و هذا هو قیاس الأولی،و قد تکون فی الفرع مساویة لما فی الأصل،و هذا هو القیاس المساوی،و قد

ص:420

تکون فی الفرع أضعف منها فی الأصل،و هذا هو القیاس الأدنی.

أمّا قیاس الأولی:فهو ما کانت علّة الفرع أقوی منها فی الأصل،فیکون ثبوت حکم الأصل للفرع أولی من ثبوته للأصل بطریق أولی،مثل:قیاس الضرب علی التأفیف بجامع الإیذاء.

لکن ذهب الحنفیة إلی أنّ حرمة ضرب الوالدین ثابتة بالنصّ لا بالقیاس؛لأنّ مفهوم الإیذاء الذی هو علّة النصّ المحرِّم للتأفیف واضح لا یحتاج إلی استنباط،یعنی:تثبت الحرمة فی هذا النوع من القیاس عند الحنفیة بمفهوم الموافقة،ویسمّی عندهم بدلالة النصّ.

وقیاس المساوی:هو ما کانت العلّة التی بُنی علیها الحکم فی الأصل موجودة فی الفرع بقدر ما هی متحقّقة فی الأصل.

وببیان آخر:هو ما کان الفرع فیه مساویاً للأصل فی الحکم من غیر ترجیح علیه،مثاله:قیاس إحراق مال الیتیم علی أکله بجامع التلف فی کلّ منهما.

و أمّا قیاس الأدنی:فهو ما کان تحقّق العلّة فی الفرع أضعف وأقلّ وضوحاً ممّا فی الأصل،و إن کان الاثنان متساویین فی تحقّق أصل المعنی الذی به صار الوصف علّة کالإسکار،فهو علّة تحریم الخمر،ولکن قد یکون علی نحو أضعف فی نبیذ آخر و إن کان للاثنین صفة الإسکار.

قال الزحیلی:إنّ وجه الأدونیة لیس فی الحکم،ولا کما قال بعضهم فی أنّ العلّة فی الأصل تثبت علی کلّ الاحتمالات المختَلَف فیها بین المذاهب کعلّة الرِّبا،و إنّما وجه الأدونیة هو بالنسبة لقوّة العلّة وضعفها،وحینئذٍ لا یکون شرط العلّة و هو وجودها فی الفرع بکمالها معناه وجود العلّة بذاتها،و إنّما ینبغی وجود قدر مشترک یحقّق المعنی المطلق لعلّة الأصل،بصرف النظر عن عوارضها ومشخّصاتها فی الزیادة و النقصان.

القیاس الجلی:هو ما کانت العلّة فیه منصوصة أو غیر منصوصة،غیر أنّ الفارق بین

ص:421

الأصل و الفرع مقطوعٌ بنفی تأثیره،مثل:قیاس الأمَة علی العبد فی سرایة العتق من البعض إلی الکلّ،فإنّ الفارق بینهما هو الذکورة والاُنوثة،ومن المقطوع به أنّ هذا الفارق لا تأثیر له شرعاً فی أحکام العتق،فالقیاس الجلی یشمل القیاس المساوی و الأولی.

القیاس الخفی:و هو ما لم یقطع فیه بنفی تأثیر الفارق بین الأصل و الفرع إذا کانت العلّة فیه مستنبطة من حکم الأصل،مثل:قیاس القتل بالمثقّل علی القتل بالمحدّد بجامع القتل العمد العدوانی؛لإثبات وجوب القصاص فی المثقّل،فإنّ الفارق بین المثقّل و المحدّد لم یقطع بإلغاء تأثیره من الشارع،بل یجوز أن یکون الفارق مؤثّراً،والقیاس الخفی لا یشمل إلاّ قیاس الأدنی.

قال الزرکشی:الجلی:ما عُلِمَ من غیر معاناة وفکر،والخفی:ما لا یتبین إلاّ بإعمال فکر.

وقالت الحنفیة:القیاس الجلی:هو القیاس الظاهر الذی یتبادر إلیه الذهن،وتنسبق إلیه الأفهام بسبب ظهور العلّة فیه،والخفی:هو الاستحسان،و هو الذی خفیت علّته لدقّتها وبُعدها عن الذهن،ویقع فی مقابلة القیاس الجلی.

ص:422

الأسئلة

1.عرّف تحقیق المناط و المراد منه.

2.اُذکر أنواع تحقیق المناط علی رأی المقدسی.

3.لماذا لا یعرف وجهٌ لاعتبار النوع الأوّل عند المقدسی من قبیل تحقیق المناط؟

4.اُذکر أقسام القیاس.

5.لماذا ذهب الحنفیة إلی أنّ حرمة ضرب الوالدین ثابتة بالنصّ لا بالقیاس؟

6.عرّف القیاس المساوی.

7.عرّف القیاس الأدنی.

8.اُذکر وجه الأدونیة علی رأی الزحیلی.

9.عرّف القیاس الجلی.

10.عرّف القیاس الخفی.

11.عرّف الجلی و الخفی علی رأی الزرکشی.

12.اُذکر اصطلاح الحنفیة فی القیاس الجلی و الخفی ووضّحهما علی رأیهم.

ص:423

ص:424

الدرس التاسع و الأربعون بعد المئة

تقسیمٌ آخر للقیاس

**القیاس ینقسم إلی منصوص العلّة ومستنبطها،و قد مرّ البحث مفصلاً عن القیاس المستنبط العلّة فی الدرس الخامس و الأربعین بعد المئة.

و أمّا الأوّل(منصوص العلّة):فهو عبارة عمّا إذا نصّ الشارع علی علّة الحکم وملاکه علی وجه عُلم أنّه علّة الحکم التی یدور الحکم مدارها،لا حکمته التی ربما یتخلّف الحکم عنها.

أو یقال:إن فُهم من النصّ علی العلّة أنّ العلّة عامّة علی وجه لا اختصاص لها بالمعلّل الذی هو کالأصل فی القیاس،فلا شکّ فی أنّ الحکم یکون عامّاً شاملاً للفرع،مثل ما لو قال:حرّم الخمر؛لأنّه مسکر،فیفهم منه حرمة النبیذ؛لأنّه مسکر أیضاً.و أمّا إذا لم یفهم منه ذلک،فلا وجه لتعدیة الحکم إلی الفرع إلاّ بنوع من القیاس الباطل،مثل ما لو قیل:هذا العنب حلو؛لأنّ لونه أسود،فإنّه لا یفهم منه أنّ کلّ ما لونه أسود حلو،بل العنب الأسود خاصّةً حلو،وفی الحقیقة أنّه بظهور النصّ فی کون العلّة عامّة ینقلب موضوع الحکم من کونه خاصّاً بالمعلّل إلی کون موضوعه کلّ ما فیه العلّة،

ص:425

فیکون الموضوع عامّاً یشمل المعلّل وغیره،ویکون المعلّل من قبیل المثال للقاعدة العامّة،لا أنّ موضوع الحکم هو خصوص المعلّل ونستنبط منه الحکم فی الفرع من جهة العلّة المشترکة،حتّی یکون المدرک مجرّد الحمل و القیاس کما فی الصورة الثانیة،أی:التی لم یفهم فیها عموم العلّة. (1)

وقال فی القوانین:المنصوص العلّة:هو ما استُفید علّة الحکم من کلام الشارع قبالاً لما یستنبط من العقل سواء کان صریحاً ونصّاً مصطلحاً بمعنی مقابل الظاهر کقوله:العلّة کذا،أو لأجل کذا،أو کان ظاهراً،مثل:دلالة التنبیه و الإیماء،ویمکن أن یراد به المعنی المقابل للظاهر،فیکون مقابلاً لدلالة التنبیه،کما یظهر من بعض علماء أهل السنة،فحینئذٍ لا بدّ من ذکر دلالة التنبیه علی حدة، (2)و قد مرّ مفصّلاً بحث التصریح و التنبیه.

فی حجّیة القیاس المنصوص العلّة

*قال فی الإحکام:إذا نصّ الشارع علی علّة الحکم هل یکفی ذلک فی تعدیة الحکم بها إلی غیر محلّ الحکم المنصوص دون ورود التعبّد بالقیاس بها؟اختلفوا فیه; فقال أبو إسحاق الأسفراینی وأکثر أصحاب الشافعی وجعفر بن مبشّر وجعفر بن حرب وبعض أهل الظاهر:لا یکفی ذلک،وقال أحمد بن حنبل و النظّام و القاسانی و النهروانی وأبو بکر الرازی من أصحاب أبی حنیفة و الکرخی:یکفی ذلک فی إثبات الحکم بها أین وجدت و إن لم یتعبّد بالقیاس بها.

وقال أبو عبدالله البصری:إن کانت العلّة المنصوص علیها علّةً للتحریم وترک الفعل،کان التنصیص علیها کافیاً فی تحریم الفعل بها أین وجدت،و إن کانت علّة لوجوب الفعل أو ندبه لم یکن ذلک کافیاً فی إیجاب الفعل بها،ولا فی ندبه أین

ص:426


1- (1) .راجع:اُصول الفقه:426/2؛معارج الاُصول:183.
2- (2) .القوانین المحکمة:183184/3.

وجدت دون ورود التعبّد بالقیاس; لأنّ من تصدّق علی فقیر لفقره بدرهم لا یجب أن یتصدّق علی کلّ فقیر،ومن أکل شیئاً من السکّر؛لأنّه حلو،لا یجب علیه أن یأکل کلّ سکّر،و هذا بخلاف من ترک أکل رمّانة لحموضتها،فإنّه یجب علیه أن یترک کلّ رمّانة حامضة،والمختار هو القول الأوّل..إلخ. (1)

وقال أبو إسحاق فی التبصرة:إذا حکم صاحب الشرع بحکم فی عین ونصَّ علی علّته،وجب إثبات الحکم فی کلّ موضع وجدت فیه العلّة،و هو قول النظّام و القاسانی و النهروانی وغیرهم من نُفاة القیاس،و هو مذهب الکرخی،ومن أصحابنا من قال:لا یجوز إجراء العلّة فی کلّ موضع وجدت حتّی یدلّ الدلیل علی ذلک،و هو قول البصری من أصحاب أبی حنیفة،لنا:هو أنّه إذا قال:لا تأکل السکّر؛لأنّه حلو،عقل منه تحریم کلّ ما هو حلو،و إذا قال:لا تأکل العسل؛لأنّه حار،عقل منه تحریم کلّ ما کان حارّاً،ولهذا إذا سمع الناس ذلک من رجل،ثمّ لم یطردوه أسرعوا إلی مناقضته،فدلَّ علی أنّ مقتضاه الطرد و الجریان،ولأنّه لو لم یقصد إثبات الحکم فی کلّ موضع وجدت فیه العلّة،لم یفد ذکر التعلیل شیئاً وصار لغواً. (2)

وقال فی المهذّب:اختُلف فی أنّ التنصیص علی العلّة،هل یوجب الإلحاق عن طریق القیاس أو عن طریق اللّفظ و العموم؟علی مذهبین:

أحدهما:إنّ التنصیص علی العلّة یوجب الإلحاق عن طریق القیاس فقط،و هو مذهب جمهور العلماء،و هو الحقّ عندی.

وثانیهما:إنّ التنصیص علی العلّة یوجب الإلحاق عن طریق اللّفظ و العموم،لا بطریق القیاس،و هو ما ذهب إلیه النظّام.

ص:427


1- (1) .الإحکام:312313/3؛منتهی السؤل:225226.
2- (2) .التبصرة:436437.وراجع:فواتح الرحموت:515/2؛کشف الأسرار:440/3 وما بعدها؛البحر المحیط:2830/4؛إرشاد الفحول:79/2؛التوضیح:137/2.

إلی أن قال:إنّ الخلاف هذا یمکن أن یکون لفظیاً،ویمکن أن یکون معنویاً،فیکون الخلاف معنویاً؛لأنّ النظّام قصد من کلامه أنّ تحریم النبیذ ثبت عن طریق اللّفظ و النصّ،والجمهور قصدوا أنّ تحریم النبیذ ثبت عن طریق القیاس،والفرق بین ما ثبت عن طریق اللّفظ و النصّ وبین ما ثبت عن طریق القیاس من وجهین:

الأوّل:إنّ الحکم الثابت عن طریق عموم النصّ أقوی من الحکم الثابت عن طریق القیاس.

الثانی:إنّ الحکم الثابت عن طریق النصّ ینسخ وینسخ به،و أمّا الحکم الثابت عن طریق القیاس،فلا ینسخ ولا ینسخ به. (1)

قال فی نزهة الخاطر:حاصل ما حکی المقدسی عن النظّام هاهنا یرجع إلی إنکار القیاس وذلک أنّ العلّة إمّا منصوصٌ علیها و إمّا مستنبطة.فأمّا الثانیة،فلا اعتبار لها؛لأنّ الحکم یؤخذ حینئذٍ من المفهوم.و أمّا المنصوصة،فإنّها توجب الإلحاق بطریق اللّفظ و العموم کما تقول:رأیت مشفر زید،فإنّ أصل وضع المشفر للبعیر ثمّ اطلق علی کلّ شفة بها غلظ وتدل،فإذا قیل:حرّمت الخمر لشدّتها،کان کلّ شراب مشتدّ یطلق علیه اسم الخمر مجازاً ویلحقه التحریم،وکان کما لو قیل:یحرم کلّ مشتدّ،و هذا إذا أنصفت تجده صحیحاً لا غبار علیه. (2)

**اختلف علماء الشیعة الإمامیة فی حجّیة منصوص العلّة،فمنعه المرتضی (3)والشیخ الطوسی (4)وأثبته بعض.

وقال المحقّق:فإن نصّ الشارع علی العلّة،وکان هناک شاهد حال یدلّ علی سقوط

ص:428


1- (1) .المهذّب:19181919/4.وراجع:المستصفی:350/2؛روضة الناظر:169؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:671 وما بعدها؛صفوة الاختیار:307309.
2- (2) .نزهة الخاطر:167/2.
3- (3) .الذریعة إلی اصول الشریعة:684/2.
4- (4) .العدّة فی اصول الفقه:657/2.

اعتبار ما عدا تلک العلّة فی ثبوت الحکم،جاز تعدیة الحکم،وکان ذلک برهاناً. (1)

قیل فی توجیه کلامه:«شاهد حال»یمکن أن یراد منه ما یفید القطع،ولکن عبارة الشرائع فی مبحث الصلاة فی ملک الغیر تشهد بأنّه یرید من شاهد الحال أعمّ ممّا یفید الظنّ،حیث جعل من أفراد المأذون بشاهد الحال کما إذا کان هناک أمارة تشهد له أنّ المالک لا یکره. (2)

أقول:المراد من قوله:وکان ذلک برهاناً; یعنی:وکان نصّ الشارع علی العلّة برهاناً وقیاساً منطقیاً،فیقال:هذا مسکر وکلّ مسکر حرام،فنقول:إنّ النبیذ مسکر وکلّ مسکر حرام فهو حرام فیتمّ الدلیل.

و أمّا العلاّمة الحلّی فقال:الأقرب عندی أنّ الحکم المنصوص علی علّته متعدٍّ إلی کلّ ما عُلم ثبوت العلّة فیه بالنصّ لا بالقیاس. (3)

وحکی صاحب المعالم عن العلاّمة ما استدلّ علی کلامه المذکور بأنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح الخفیة،والشرع کاشف عنها،فإذا نصّ علی العلّة عرفنا أنّها الباعثة و الموجبة لذلک الحکم،فأین وجدت وجب وجود المعلول.ثمّ حکی عن المانعین الاحتجاج بأنّ قول الشارع:حرّمت الخمر لکونها مُسکِرة،یحتمل أن تکون العلّة هی الإسکار،وأن یکون إسکار الخمر بحیث یکون قید الإضافة إلی الخمر معتبراً فی العلّة،و إذا احتمل الأمران لم یجز القیاس،وأجاب بالمنع من احتمال اعتبار القید فی العلّة،فإنّ تجویز ذلک یستلزم تجویز مثله فی العقلیات. (4)

**قال المحقّق المظفّر:إنّ الأخذ بالحکم فی الفرع فی الصورة الاُولی(أی:کون العلّة

ص:429


1- (1) .معارج الاُصول:185.
2- (2) .القوانین المحکمة:184/3؛شرایع الإسلام:56/1؛تمهید القواعد:257؛مفاتیح الاُصول:672673.
3- (3) .مبادئ الوصول:218.
4- (4) .معالم الاُصول:314.وراجع:الحدائق الناضرة:63/1.

عامّة علی وجه لا اختصاص لها بالمعلّل)یکون من باب الأخذ بظاهر العموم،ولیس هو من القیاس فی شیء؛لیکون القول بحجیة التعلیل استثناءً من عمومات النهی عن القیاس.

مثال ذلک قوله علیه السّلام فی صحیحة ابن بزیع:

«ماء البئر واسع لا یفسده شیء...لأنّ له مادّة»، (1)

فإنّ المفهوم منه(أی:الظاهر منه)أنّ کلّ ماء له مادّة واسع لا یفسده شیء،و أمّا ماء البئر فإنّما هو أحد مصادیق الموضوع العام للقاعدة،فیشمل الموضوع بعمومه کلاًّ من ماء البئر وماء الحمّام وماء العیون وغیرها،فالأخذ بهذا الحکم وتطبیقه علی هذه الاُمور غیر ماء البئر لیس أخذاً بالقیاس،بل هو أخذٌ بظهور العموم،والظهور حجّة.

هذا،وفی عین الوقت لمّا کنّا لا نستظهر من هذه الروایة شمول العلّة(لأنّ له مادّة)لکلّ ما له مادّة،و إن لم یکن ماءً مطلقاً،فإنّ الحکم-و هو الاعتصام من التنجّس-لا نعدّیه إلی الماء المضاف الذی له مادّة إلاّ بالقیاس،و هو لیس بحجّة.ومن هنا یتّضح الفرق بین الأخذ بالعموم فی منصوص العلّة و الأخذ بالقیاس،فلا بدّ من التفرقة بینهما فی کلّ علّة منصوصة؛لئلاّ یقع الخلط بینهما.وبهذا البیان و التفریق بین الصورتین یمکن التوفیق بین المتنازعین فی حجّیة منصوص العلّة،فمن یراه حجّة یراه فیما إذا کان له ظهورٌ فی عموم العلّة،ومَن لا یری حجّیته یراه فیما إذا کان الأخذ به أخذاً علی نهج القیاس. (2)

نعم،ادّعی بعض الأعلام من المعاصرین إطباق مشایخ الإمامیة علی العمل بمنصوص العلّة،ثمّ قال:إذا کان استخراج الحکم غیر متوقّف إلاّ علی فهم النصّ بلا حاجة إلی اجتهاد،فهو عمل بالظاهر،بخلاف ما إذا کان متوقّفاً وراء فهم النصّ إلی بذل جهد و الوقوف علی المناط،ثمّ التسویة،ثمّ الحکم. (3)

ص:430


1- (1) .وسائل الشیعة:126/1 ح6 الباب 14 من أبواب الماء المطلق.
2- (2) .اُصول الفقه:426427/2.
3- (3) .الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:439/2؛اُصول الفقه المقارن:9899.

الخلاصة

القیاس ینقسم إلی منصوص العلّة ومستنبطها،فالأوّل عبارة عمّا إذا نصّ الشارع علی علّة الحکم وملاکه علی وجه عُلم أنّه علّة الحکم التی یدور الحکم مدارها،لا حکمته التی ربما یتخلّف الحکم عنها،أو یقال:إن فُهم من النصّ علی العلّة أنّ العلّة عامّة علی وجه لا اختصاص لها بالمعلّل،فلا شکّ فی أنّ الحکم یکون عامّاً شاملاً للفرع،مثل ما لو قال:حرّم الخمر؛لأنّه مسکر،فیفهم منه حرمة النبیذ؛لأنّه مُسکِرٌ أیضاً،وإلاّ فلا وجه لتعدیة الحکم إلی الفرع.

حجّیة القیاس المنصوص العلّة:اختُلف فی أنّ التنصیص علی العلّة،هل یوجب الإلحاق عن طریق القیاس أو عن طریق اللّفظ و العموم؟علی مذهبین:

أحدهما:إنّ التنصیص علی العلّة یوجب الإلحاق عن طریق القیاس فقط،و هو مذهب جمهور علماء أهل السنّة.

وثانیهما:إنّ التنصیص علی العلّة یوجب الإلحاق عن طریق اللّفظ و العموم،لا بطریق القیاس،و هو ما ذهب إلیه النظّام،وأکثر علماء الإمامیة.

قال فی المهذّب:إنّ الخلاف هذا یمکن أن یکون لفظیاً،ویمکن أن یکون معنویاً،ثمّ قال:فیکون الخلاف معنویاً؛لأنّ النظّام قصد من کلامه أنّ تحریم النبیذ ثبت عن طریق اللّفظ و النصّ،والجمهور قصدوا أنّ تحریم النبیذ ثبت عن طریق القیاس.

والفرق بین ما ثبت عن طریق اللّفظ و النصّ وبین ما ثبت عن طریق القیاس من وجهین:

الأوّل:إنّ الحکم الثابت عن طریق عموم النصّ أقوی من الحکم الثابت عن طریق القیاس.

الثانی:إنّ الحکم الثابت عن طریق النصّ ینسخ وینسخ به،و أمّا الحکم الثابت عن طریق القیاس،فلا ینسخ ولا ینسخ به.

ص:431

اختلف علماء الشیعة الإمامیة فی حجّیة منصوص العلّة; فمنعه المرتضی و الشیخ الطوسی،وأثبته بعض.

وقال المحقّق:إن نصّ الشارع علی العلّة،وکان هناک شاهد حال یدلّ علی سقوط اعتبار ما عدا تلک العلّة فی ثبوت الحکم،جاز تعدیة الحکم،وکان ذلک برهاناً.

وقال العلاّمة الحلی:الأقرب عندی أنّ الحکم المنصوص علی علّته متعدٍّ إلی کلّ ما عُلم ثبوت العلّة فیه بالنصّ لا بالقیاس.فإنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح الخفیة،والشرع کاشفٌ عنها،فإذا نصّ علی العلّة عرفنا أنّها الباعثة و الموجبة لذلک الحکم،فأین وجدت وجب وجود المعلول.

واحتجّ المانعون بأنّ قول الشارع:حرّمت الخمر لکونها مُسکرة،یحتمل أن تکون العلّة هی الإسکار،وأن یکون إسکار الخمر بحیث یکون قید الإضافة إلی الخمر معتبراً فی العلّة،و إذا احتُمل الأمران لم یجز القیاس.واُجیب بالمنع من احتمال اعتبار القید فی العلّة،فإنّ تجویز ذلک یستلزم تجویز مثله فی العقلیات.

وقال المحقّق المظفّر:إنّ الأخذ بالحکم فی الفرع إذا کانت العلّة عامّة علی وجه لا اختصاص لها بالمعلول،یکون من باب الأخذ بظاهر العموم،ولیس هو من القیاس فی شیء؛لیکون القول بحجّیة التعلیل استثناءً من عمومات النهی عن القیاس،مثال ذلک قوله علیه السّلام فی صحیحة ابن بزیع:«ماء البئر واسع لا یفسده شیء...لأنّ له مادّة»،فإنّ الظاهر منه أنّ کلّ ماء له مادّة واسع لا یفسده شیء،و أمّا ماء البئر فإنّما هو أحد مصادیق الموضوع العام للقاعدة،فیشمل الموضوع بعمومه کلاًّ من ماء البئر وماء الحمّام وماء العیون وغیرها،فالأخذ بهذا الحکم وتطبیقه علی هذه الاُمور غیر ماء البئر لیس أخذاً بالقیاس،بل هو أخذٌ بظهور العموم،والظهور حجّة.

هذا،وفی عین الوقت لمّا کنّا لا نستظهر من هذه الروایة شمول العلّة(لأنّ له مادّة)لکلّ ما له مادّة،و إن لم یکن ماءً مطلقاً،فإنّ الحکم-و هو الاعتصام من التنجّس-لا

ص:432

نعدّیه إلی الماء المضاف الذی له مادّة إلاّ بالقیاس،و هو لیس بحجّة.

وبهذا البیان و التفریق بین الصورتین یمکن التوفیق بین المتنازعین فی حجّیة منصوص العلّة،فمن یراه حجّة یراه فیما إذا کان له ظهورٌ فی عموم العلّة،ومن لا یری حجّیته یراه فیما إذا کان الأخذ به أخذاً علی نهج القیاس.

نعم،ادّعی بعض الأعلام من المعاصرین إطباق مشایخ الإمامیة علی العمل بمنصوص العلّة.

ص:433

الأسئلة

1.ما هو المراد بالقیاس المنصوص العلّة؟

2.إنّ التنصیص علی العلّة هل یوجب الإلحاق عن طریق القیاس أو عن طریق اللّفظ و العموم؟وضّحه بذکر المثال.

3.اُذکر مذهب جمهور علماء أهل السنّة فی هذا الباب.

4.لماذا یکون الخلاف المذکور معنویاً؟

5.اُذکر رأی العلاّمة الحلّی فی المسألة المذکورة.

6.اُذکر احتجاج المانعین عن حجّیة القیاس المنصوص العلّة وجوابه.

7.اُذکر بیان المحقّق المظفّر أنّ الأخذ بالحکم فی الفرع یکون من باب الأخذ بظاهر العموم فی صحیحة ابن بزیع.

8.اُذکر کیفیة التوفیق بین المتنازعین فی حجّیة منصوص العلّة.

ص:434

الدرس الخمسون بعد المئة

قیاس الأولویة

**ذهب جمٌّ غفیر من علماء الإمامیة إلی أنّه یستثنی من القیاس الباطل ما کان منصوص العلّة،و قد عرفته فی الدرس السابق،وقیاس الأولویة؛لأنّ القیاس فیهما حجّة،ولکنّ المحدِّث البحرانی و الفاضل التونی ذهبا إلی عدم حجّیة قیاس الأولویة،حیث یقول:ویدلّ علی عدم حجّیته من الأخبار ما رواه الصدوق فی کتاب الدیات عن أبان،وما ورد من قول الصادق علیه السّلام لأبی حنیفة:«اتّقِ الله ولا تَقس الدِّین برأیک،فإنّ أوّل من قاس إبلیس..»إلخ. (1)

أقول:قد سبق أنّه إذا کان ثبوت الحکم فی الفرع أولی من ثبوت الحکم فی الأصل؛لقوّة العلّة فیه بطریق النصّ،هو قیاس الأولویة،و هو حجّة علی الإطلاق،و هو أیضاً عملٌ بالنصّ لا بالقیاس.

وقال المحقّق المظفّر:أمّا قیاس الأولویة:فهو نفسه الذی یسمّی مفهوم الموافقة،و هو ما کان الحکم فی المفهوم موافقاً فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق،فإن

ص:435


1- (1) .الحدائق الناضرة:6062/1؛الوافیة:230.وراجع ذیل رقم(4)فی حاشیته.

کان الحکم فی المنطوق الوجوب مثلاً،کان فی المفهوم الوجوب أیضاً،وهکذا،و قد یسمّی هذا المفهوم فحوی الخطاب،ولا نزاع فی حجّیة مفهوم الموافقة بمعنی دلالة الأولویة علی تعدّی الحکم إلی ما هو أولی فی علّة الحکم،نظیر الاستدلال والاحتجاج بقوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1)الدال بالأولویة علی النهی عن الشتم و الضرب ونحوهما،وقلنا فی بحث الدلیل العقلی:إنّ هذا من الظواهر،فهو حجّة من أجل کونه ظاهراً من اللّفظ لا من أجل کونه قیاساً حتّی یکون استثناءً من عموم النهی عن القیاس،و إن أشبه القیاس،ولذلک سمّی بقیاس الأولویة،والقیاس الجلی.

ومن هنا،لا یفرض مفهوم الموافقة إلاّ من حیث یکون للفظ ظهورٌ بتعدّی الحکم إلی ما هو أولی فی علّة الحکم،کآیة التأفیف المتقدّمة،ومنه دلالة الإذن بسکنی الدار علی جواز التصرّف بمرافقه بطریق أولی،ویقال لمثل هذا فی عرف الفقهاء:إذن الفحوی،ومنه الآیة الکریمة: فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ (2)الدالّة بالأولویة علی ثبوت الجزاء علی عمل الخیر الکثیر.

وبالجملة،أنّا نقول ببطلان قیاس الأولویة إذا کان الأخذ لمجرّد الأولویة،و أمّا إذا کان مفهوماً من التخاطب بالفحوی من جهة الأولویة،فهو حجّة من باب الظواهر،فلا یکون قیاساً مستثنی من القیاس الباطل. (3)

وقال الفاضل القمّی:فحاصل الکلام فی القیاس بطریق الأولی الذی یقول به الشیعة لا بدّ أن یکون قیاس نصّ علی علّته أو نبّه علیها،ودفع احتمال مدخلیة خصوصیة الأصل فیها من جهة کون العلّة فی الفرع أقوی لا غیر،فکلّ من ینکر من أصحابنا العمل بالمنصوص العلّة مثل السید المرتضی تمسّکاً باحتمال مدخلیة

ص:436


1- (1) .الإسراء:23.
2- (2) .الزلزلة:7.
3- (3) .اُصول الفقه:427428/2.وراجع:تمهید القواعد:108109؛الوافیة:229230؛الاُصول العامّة:317.

الخصوصیة،لا بدّ أن یخصّص کلامه بما لو کان الفرع أولی بالحکم؛لأنّ ذلک الاحتمال مندفع فیه حینئذٍ فتأمّل،فإنّ ذلک أیضاً منحصر فیما لو کان الاحتمال من جهة ملاحظة أشدّیة مناسبة خصوصیته للعلّة لا مطلقاً.

ثمّ إنّ أصحابنا قد یتمسّکون فی إلحاق حکم بالآخر باتّحاد الطریق بین المسألتین ویقولون:إنّه لیس بقیاس،کما قال الشهید الثانی فی مسألة إلحاق الغائب و المجنون و الطفل إذا کانوا مدّعی علیهم بالمیت فی وجوب الیمین الاستظهاری:إنّ ذلک من باب اتّحاد طریق المسألتین لا من باب القیاس،ثمّ تنظّر فیه. (1)

ومرادهم من اتّحاد الطریق أنّ دلیلهما واحدٌ من جهة اشتمال دلیل أحدهما علی نصّ بالعلّیة أو تنبیهٌ علیها،بحیث یشمل الآخر،فیستفاد من النصّ الوارد فی المیت أنّ العلّة فی وجوب الیمین هو أنّه لا لسان له للجواب،ووجه النظر أنّ العلّة إنّما یسلّم حجّیتها إذا ثبت دلالة النصّ علی استقلالها مطلقاً،وکذلک التنبیه إنّما یسلّم إذا ثبت عدم الفارق بینهما،ویمکن أن یقال بالفرق هنا؛لعدم رجوع المیت إلی الدُّنیا،واحتمال رجوع هؤلاء إلی الدعوی کاملاً. (2)

و قد وضّح جهة حجّیة القیاس بطریق الأولی حیث قال:وبالجملة،القول بحجیة القیاس بطریق الأولی; أمّا من جهة محض کون العلّة فی الفرع آکد،و إن کان استنباط العلّة من مثل الدوران و التردید،فلا دلیل علی حجیته أصلاً؛و أمّا من جهة الإجماع علی کون الوصف علّة مستقلّة أو غیره ممّا یفید القطع،فلا حاجة فی الحجّیة إلی الآکدیة فی الفرع؛و أمّا من جهة النصّ بالعلیة فی الأصل بأن یفهم منه کونها علّة

ص:437


1- (1) .مسالک الأفهام:370/2؛قال فیه:وذهب الأکثر إلی تعدّی الحکم إلی من ذکر لمشارکتهم فی العلّة المومی إلیها فی النص و هو أنّه لیس للمدّعی علیه لسانٌ یجیب به فیکون من باب منصوص العلّة أو من باب اتّحاد طریق المسألتین،لا من باب الممنوع،ولأنّ الحکم فی الأموال مبنی علی الاحتیاط التامّ.
2- (2) .القوانین المحکمة:205206/3.راجع:جواهر الکلام:201202/40؛مسالک الأفهام:369/2-370.

مستقلّة،فلا حاجة فی الحجّیة أیضاً إلی کونها فی الفرع آکد کسائر أفراد المنصوص العلّة،وکذا ما کان من قبیل دلالة التنبیه؛و أمّا من جهة المستفاد من النصّ هو العلّیة فی الجملة بمعنی:أنّا نفهم منه أنّ العلّة مع الخصوصیة مثبتة للحکم ونشکّ أنّ للخصوصیة مدخلیة أم لا،ولم یکن تأمّل فی استقلال العلّة إلاّ من جهة الخصوصیة،واحتمال مدخلیة الأصل فی علّیة العلّة لأجل مناسبة بینها وبین العلّة یقوّیها،وحینئذٍ یمکن أن یقال:إنّ الآکدیة فی الفرع ینفی هذا الاحتمال،فإنّه ینفی ما یتصوّر أشدیة مناسبة العلّة للحکم فی الأصل،فینتفی الفارق رأساً علی المفروض،ومن ذلک یعلم أنّ مرادهم من القطع بانتفاء الفارق واندراج ذلک تحت القیاس الجلی،هو أنّ الخصوصیة لا مدخلیة لها جزماً.

فظهر من جمیع ما ذکرنا:أنّه لا یجوز الاعتماد علی مجرّد آکدیة العلّة فی الفرع،بل إنّما یجوز العمل به إذا کان فی النصّ تنبیهٌ علی العلّة وانتقالٌ من الأصل إلی الفرع،و هذا هو المعبّر عنه بالمفهوم الموافق،وذکروا له أمثلة،منها قوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ، (1)ومنها قوله تعالی: فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ ، (2)وقوله تعالی: وَ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ ، (3)و هو الذی یقولون إنّه تنبیه بالأدنی علی الأعلی أو بالأعلی علی الأدنی. (4)

والمراد من قوله:التنبیه بالأدنی علی الأعلی،هو:أن تجعل الأدنی عبارة عن الأقلّ مناسبةً لترتّب الحکم علیه،والأعلی عبارة عن الأکثر مناسبةً،فإنّ العلماء اختلفوا فی أنّه هل یشترط فی مفهوم الموافقة أن یکون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق

ص:438


1- (1) .الإسراء:23.
2- (2) .الزلزلة:7.
3- (3) .آل عمران:75.
4- (4) .القوانین المحکمة:198199/3.

به أو لا یشترط ذلک بل تکفی المساواة؟

قالت الحنفیة وبعض الشافعیة کالغزالی و البیضاوی:لا یشترط کون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق،بل تکفی المساواة بینهما،لکن یشترط فیه أن یکون المعنی فی المسکوت عنه أقلّ مناسبةً للحکم عن المنطوق به.

وقال جمهور العلماء:إنّه یشترط فی مفهوم الموافقة کون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق به،ولا یکتفی بمجرّد التساوی فی الحکم بین المنطوق و المفهوم،فکیف بالأقلّ مناسبةً؟

ولأجل الاختلاف فی مدخلیة المناسبة،اختلفوا فی أنّ دلالة هذه الآیة علی الأعلی هل هو من باب القیاس الجلی أو المفهوم أو المنطوق؟

قال فی المعالم:ذهب العلاّمة فی التهذیب وکثیرٌ من أهل السنة إلی أنّ تعدیة الحکم فی تحریم التأفیف إلی أنواع الأذی الزائد عنه،من باب القیاس،وسمّوه بالقیاس الجلی. (1)

وقال الشوکانی:قیل:إنّ المنع من التأفیف منقول بالعرف عن موضوعه اللّغوی إلی المنع من أنواع الأذی،(وعلیه ذهب المحقّق الحلّی علی ما حکاه عنه فی المعالم). (2)

وقیل:إنّه فهمٌ بالسیاق و القرائن،وعلیه المحقّقون من أهل هذا القول کالغزالی،وابن القشیری،والآمدی،وابن الحاجب،والدلالة عندهم مجازیة،من باب إطلاق الأخصّ وإرادة الأعمّ.

قال الماوردی:والجمهور علی أنّ دلالته من جهة اللّغة لا من باب القیاس.

وقال القاضی أبو بکر الباقلاّنی:القول بمفهوم الموافقة من حیث الجمع مجمعٌ علیه. (3)

**وقال بعض الأعیان من المعاصرین:إنّ قیاس الأولویة حجّة علی الإطلاق،

ص:439


1- (1) .معالم الاُصول:317318؛القوانین المحکمة:199200/3؛مفاتیح الاُصول:669.
2- (2) .المصادر.
3- (3) .إرشاد الفحول:34/2؛المهذّب:17451748/4؛اُصول الفقه الإسلامی:362/1.

و هو أیضاً عملٌ بالنصّ لا بالقیاس،وعلی فرض کونه قیاساً،فهو حجّة عند الجمیع،نظیر الاحتجاج بقوله سبحانه: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ (1)علی تحریم الضرب،ولا شکّ فی وجوب الأخذ بهذا الحکم،لأنّه مدلولٌ عرفی یقف علیه کلّ من تدبّر فی الآیة. (2)

وأنت تعلم ما قیل من أنّ القیاس حجّة إذا حصل الظنّ بالعلیة فی مورد الحکم،هو فی صورة إذا حصل القطع أو الظنّ الذی لم یدلّ دلیل علی بطلانه،کالمنصوص العلّة إذ لم یثبت جواز الاکتفاء بالظنّ مطلقاً،فلا بدّ أوّلاً من إثبات علّة الحکم فی الأصل فی الجملة،ثمّ إبطال تأثیر الفارق بینه وبین الفرع،بحیث تصیر العلّة قطعیة فی نفس الأمر أو قطعیة العمل،ثمّ العمل علیه،وإلاّ فلا دلیل علی جواز العمل علیه و إن کان علیتها فی الفرع أظهر وآکد.

وقال الشوکانی:فاعلم أنّ القیاس المأخوذ به هو ما وقع النصّ علی علّته وما قطع فیه بنفی الفارق،وما کان من باب فحوی الخطاب أو لحن الخطاب علی اصطلاح من یسمّی ذلک قیاساً،و قد قدّمنا أنّه من مفهوم الموافقة،ثمّ اعلم أنّ نفاة القیاس لم یقولوا بإهدار کلّ ما یسمّی قیاساً و إن کان منصوصاً علی علّته أو مقطوعاً فیه بنفی الفارق،بل جعلوا هذا النوع من القیاس مدلولاً علیه بدلیل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته. (3)

هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قیاسیة أو لفظیة

*قال الشوکانی:اختلفوا فی دلالة النصّ علی مفهوم الموافقة،هل هی لفظیة أو قیاسیة؟علی قولین،حکاهما الشافعی فی الأمر،وظاهر کلامه ترجیح أنّه قیاس،ونقله الهندی عن الأکثرین.

ص:440


1- (1) .الإسراء:23.
2- (2) .الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:440441/2.
3- (3) .إرشاد الفحول:8687/2.

وقال الصیرفی:ذهبت طائفة جلّة(سیدهم الشافعی)إلی أنّ هذا هو القیاس الجلی..إلی أن قال:وذهب المتکلّمون بأسرهم(الأشعریة و المعتزلة)إلی أنّه مستفاد من النطق ولیس بقیاس،وسمّاه الحنفیة دلالة النصّ،وقال آخرون:لیس بقیاس،ولا یسمّی دلالة النصّ،لکنّ دلالته لفظیة. (1)

**قال المحقّق السید سلطان العلماء (2):إنّ صاحب المعالم بصدد بیان وجه الدلالة و التعدیة،والظاهر أنّ وجه الدلالة علی کونها من باب المفهوم،وفحواها الذی سمّوه بهذا الاعتبار مفهوم الموافقة،هو اللّزوم العقلی و العرفی مثلاً بین تحریم التأفیف وتحریم سائر أنواع الأذی،فیکون دلالة التزام. (3)

ص:441


1- (1) .إرشاد الفحول:34/2.وراجع:التوضیح:246/1 و 249؛اُصول الفقه الإسلامی:362/1؛المهذّب:17491752/4.
2- (2) .هو السید الأجلّ الوزیر الحسین ابن المیرزا رفیع الدِّین محمّد ابن الأمیر شجاع الدِّین محمود الحسینی الآملی الإصبهانی،ینتهی نسبه إلی الأمیر قوّام الدِّین المعروف بمیر بزرگ الوإلی بمازندران،کان عالماً محقّقاً مدقّقاً،وصاحب صدارة الأعاظم و العلماء.جمع إلی الشرف عزّ الجاه،ونالَ من خیر الدُّنیا و الآخرة مرتجاه،جلیل القدر،عظیم الشأن،والمشتهر أیضاً بخلیفة السلطان،فوّض إلیه فی زمان الشاه عبّاس الماضی الصفوی أمر الوزارة و الصدارة،وصارت له مرتبة عظیمة عند السلطان حتّی اختاره لمصاهرته،فتزوّج ابنته،فرُزِقَ أولاداً کثیراً; کلّهم فضلاء،أذکیاء. له تعلیقات وحواش علی کتب الفقه والاُصول،کلّها فی نهایة الدقّة و المتانة،منها: 1-الحاشیة علی شرح اللمعة،2-الحاشیة علی معالم الاُصول،3-الحاشیة علی مختلف الشیعة،4-الحاشیة علی زبدة الاُصول،5-الحاشیة علی بعض أبواب کتاب من لا یحضره الفقیه،6-تلخیص أخلاق الناصری،7-رسالة فی آداب الحجّ،وغیرها. کان من تلامذة الشیخ البهائی ووالده السید محمّد الذی کان من أهل العلم و الفضل،والمولی الحاج محمود الرنانی.توفّی فی أیام الشاه عبّاس الثانی علی وزارته فی مرجعه من فتح قندهار فی أشرف مازندران(بهشر)سنة 1064ه وحُمِلَ من الأشرف إلی النجف الأشرف.الکنی و الألقاب:287288/2.
3- (3) .معالم الاُصول:317،الحاشیة رقم 1.

وبالجملة،فالذی یقول إنّه من باب القیاس الجلی،لا بدّ أن یقول:یحصل من ملاحظة الفرع،أنّ الفارق الذی یتصوّر من جانب الأصل،و هو الخصوصیة،ملغیً; لأنّ الفرع أشدّ مناسبةً للحکم،فیتعدّی إلیه من هذه الجهة،والذی یقول:إنّه من باب المفهوم الموافق،یقول:إنّه دلالة التزامیة للّفظ،ویسمّونه فحوی الخطاب ولحن الخطاب،والذی یقول:إنّه منطوق،یقول:إنّ المنع من التأفیف فی العرف حقیقة فی المنع عن الأذیة للتبادر.

ص:442

الخلاصة

ذهب جمٌّ غفیر من علماء الإمامیة إلی أنّه یستثنی من القیاس الباطل ما کان منصوص العلّة وقیاس الأولویة؛لأنّ القیاس فیهما حجّة،ولکنّ المحدِّث البحرانی و الفاضل التونی ذهبا إلی عدم حجّیة قیاس الأولویة.لکن عرفت سابقاً أنّه حجّة مطلقاً لأنّه عملٌ بالنصّ لا بالقیاس.

وقال المحقّق المظفّر:أمّا قیاس الأولویة:فهو نفسه الذی یسمّی مفهوم الموافقة،و هو ما کان الحکم فی المفهوم موافقاً فی السنخ للحکم الموجود فی المنطوق،و قد یسمّی فحوی الخطاب،ولا نزاع فی حجّیة مفهوم الموافقة بمعنی دلالة الأولویة علی تعدّی الحکم إلی ما هو أولی فی علّة الحکم،نظیر الاستدلال بقوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ الدالّ بالأولویة علی النهی عن الشتم و الضرب ونحوهما،و قد عرفت فی الدلیل العقلی أنّ هذا من الظواهر،فهو حجّة من أجل کونه ظاهراً من اللّفظ لا من أجل کونه قیاساً.

ومن هنا،لا یفرض مفهوم الموافقة إلاّ من حیث یکون للفظ ظهورٌ بتعدّی الحکم إلی ما هو أولی فی علّة الحکم،کآیة التأفیف.وبالجملة،نقول ببطلان قیاس الأولویة إذا کان الأخذ لمجرّد الأولویة،و أمّا إذا کان مفهوماً من التخاطب بالفحوی من جهة الأولویة،فهو حجّة من باب الظواهر.

ثمّ إنّ أصحابنا قد یتمسّکون فی إلحاق حکم بالآخر باتّحاد الطریق بین المسألتین ویقولون:إنّه لیس بقیاس،کما قال الشهید الثانی فی مسألة إلحاق الغائب و المجنون و الطفل إذا کانوا مدّعی علیهم بالمیت فی وجوب الیمین الاستظهاری:إنّ ذلک من باب اتّحاد طریق المسألتین لا من باب القیاس،ثمّ تنظّر فیه.ومرادهم من اتّحاد الطریق أنّ دلیلهما واحد من جهة اشتمال دلیل أحدهما علی نصّ بالعلیة أو تنبیهٌ علیها،بحیث

ص:443

یشمل الآخر،فیستفاد من النصّ الوارد فی المیت أنّ العلّة فی وجوب الیمین هو أنّه لا لسان له للجواب.

ووجه النظر،أنّ العلّة إنّما یسلم حجّیتها إذا ثبت دلالة النصّ علی استقلالها مطلقاً،وکذلک التنبیه بالعلة إنّما یسلم إذا ثبت عدم الفارق بینهما،ولکن یمکن أن یقال هنا بالفرق؛لعدم رجوع المیت إلی الدُّنیا،واحتمال رجوع هؤلاء(الطفل،والمجنون...)إلی الدعوی کاملاً بأن بلغ الصبی حدّ البلوغ،والمجنون حال الإفاقة.

وبالجملة،القول بحجّیة قیاس الأولویة؛أمّا من جهة محض کون العلّة فی الفرع آکد،و إن کان استنباط العلّة من مثل الدوران و التردید،فلا دلیل علی حجیته أصلاً؛و أمّا من جهة الإجماع علی کون الوصف علّة مستقلّة أو غیره ممّا یفید القطع،فلا حاجة فی الحجّیة إلی الآکدیة فی الفرع؛و أمّا من جهة النصّ بالعلیة فی الأصل،فلا حاجة فی الحجّیة أیضاً إلی کونها فی الفرع آکد کسائر أفراد المنصوص العلّة،وکذا ما کان من قبیل دلالة التنبیه.فظهر أنّه لا یجوز الاعتماد علی مجرّد آکدیة العلّة فی الفرع،بل إنّما یجوز العمل به إذا کان فی النصّ تنبیه علی العلّة وانتقال من الأصل إلی الفرع،و هذا هو المعبّر عنه بالمفهوم الموافق.

والمراد من التنبیه بالأدنی علی الأعلی،هو:أن تجعل الأدنی عبارة عن الأقلّ مناسبةً لترتّب الحکم علیه،والأعلی عبارة عن الأکثر مناسبة،واختلفوا فی أنّه هل یشترط فی مفهوم الموافقة أن یکون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق به أو لا،بل تکفی المساواة؟قالت الحنفیة وبعض الشافعیة کالبیضاوی و الغزالی:لا یشترط کون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق،بل تکفی المساواة بینهما،لکن یشترط فیه أن یکون المعنی فی المسکوت عنه أقلّ مناسبة للحکم عن المنطوق به.

وقال جمهور العلماء:إنّه یشترط فی مفهوم الموافقة کون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق به،ولا یکتفی بمجرّد التساوی فی الحکم بین المنطوق

ص:444

والمفهوم،فکیف بالأقلّ مناسبة؟ولأجل الاختلاف المذکور،اختلفوا فی أنّ دلالة هذه الآیة (1)علی الأعلی من باب القیاس الجلی أو المفهوم أو المنطوق.

وقیل:إنّ القیاس حجّة إذا حصل الظنّ بالعلیة فی مورد الحکم،هو فی صورة إذا حصل القطع أو الظنّ الذی لم یدلّ دلیل علی بطلانه،کالمنصوص العلّة،إذ لم یثبت جواز الاکتفاء بالظنّ مطلقاً،فلا بدّ أوّلاً من إثبات علّة الحکم فی الأصل فی الجملة ثمّ إبطال تأثیر الفارق بینه وبین الفرع،بحیث تصیر العلّة قطعیة فی نفس الأمر أو قطعیة العمل،ثمّ العمل علیه،وإلاّ فلا دلیل علی جواز العمل علیه و إن کان علیتها فی الفرع أظهر وآکد.

واختلفوا فی دلالة النصّ علی مفهوم الموافقة،هل هی لفظیة أو قیاسیة؟علی قولین.

قال سلطان العلماء:من یقول إنّه من باب القیاس الجلی،لا بدّ أن یقول:یحصل من ملاحظة الفرع،أنّ الفارق الذی یتصوّر من جانب الأصل،و هو الخصوصیة ملغیً؛لأنّ الفرع أشدّ مناسبة للحکم،فیتعدّی إلیه من هذه الجهة،والذی یقول:إنّه من باب المفهوم الموافق،یقول:إنّه دلالة التزامیة للّفظ،ویسمّونه فحوی الخطاب ولحن الخطاب،والذی یقول:إنّه منطوق،یقول:إنّ المنع من التأفیف فی العرف حقیقةً فی المنع عن الأذیة للتبادر.

ص:445


1- (1) . فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ .

الأسئلة

1.لماذا یکون القیاس المنصوص العلّة وقیاس الأولویة حجّة عند علماء الإمامیة؟

2.اُذکر رأی المحقّق المظفّر فی حجّیة قیاس الأولویة،وضّحه بذکر المثال.

3.متی یکون قیاس الأولویة باطلاً عند المحقّق المظفّر؟

4.ما هو المراد من اتّحاد الطریق؟

5.اُذکر وجه النظر فی کون الفرع المذکور من باب اتّحاد الطریق.

6.لِمَ لا یکون قیاس الأولویة حجّة إذا کان استنباط العلّة من باب الدوران و التردید،وأیضاً من جهة النصّ بالعلیة فی الأصل،وکذا ما کان من قبیل دلالة التنبیه؟

7.ما هو المراد من التنبیه بالأدنی علی الأعلی؟

8.هل یشترط فی مفهوم الموافقة أن یکون المسکوت عنه أولی بالحکم من المنطوق به؟وضحّه بالمثال واذکر الأقوال التی ذُکِرَتْ.

9.فی أی صورة إذا حصل الظنّ بالعلیة فی مورد الحکم یکون القیاس حجّة؟

10.اُذکر تفصیل سلطان العلماء فی دلالة آیة التأفیف فی کونها من باب القیاس الجلی أو مفهوم الموافقة أو المنطوق.

ص:446

الدرس الحادی و الخمسون بعد المئة

التعبّد بالقیاس الشرعی عقلاً

*قال الرازی:اختلف الناس فی القیاس الشرعی،فقالت طائفة:العقل یقتضی جواز التعبّد به فی الجملة،وقالت طائفة:العقل یقتضی المنع من التعبّد به.

والأوّلون قسمان:منهم مَن قال:وقع التعبّد به،ومنهم من یقول:لم یقع،أمّا من اعترف بوقوع التعبّد به،فقد اتّفقوا علی أنّ السمع دلَّ علیه،ثمّ اختلفوا فی ثلاثة مواضع:

أحدها:هل فی العقل ما یدلّ علیه؟فقال القفّال منّا وأبو الحسین البصری من المعتزلة:العقل یدلّ علی وجوب العمل به،و أمّا الباقون منّا ومن المعتزلة فقد أنکروا ذلک.

وثانیها:إنّ أبا الحسین البصری زعمَ أنّ دلالة الدلائل السمعیة علیه ظنّیة،والباقون قالوا:قطعیة.

وثالثها:القاشانی و النهروانی ذهبا إلی العمل بالقیاس فی صورتین:إحداهما:إذا کانت العلّة منصوصة بصریح اللّفظ أو بإیمائه،والثانیة:کقیاس تحریم الضرب علی تحریم التأفیف،أمّا جمهور العلماء فقد قالوا بسائر الأقیسة.

ص:447

و أمّا القائلون بأنّ التعبّد لم یقع به،فمنهم من قال:لم یوجد فی السمع ما یدلّ علی وقوع التعبّد به،فوجب الامتناع من العمل به،ومنهم من لم یقنع بذلک،بل تمسّک فی نفیه بالکتاب و السنّة وإجماع الصحابة و العترة..إلخ. (1)

نذکر هنا أحسن مقالة وأتمّها فی المقام،وهی ما ذکره الزحیلی،حیث قال:و أمّا فی الاُمور الشرعیة،فاختلفوا فیه علی خمسة مذاهب:

1.مذهب الجمهور:و هو أنّ التعبّد بالقیاس جائز عقلاً،ویجب العمل به شرعاً.قال ابن السبکی:القیاس من الدِّین؛لأنّه مأمورٌ به لقوله تعالی: فَاعْتَبِرُوا یا أُولِی الْأَبْصارِ ، (2)إلاّ أنّه عند أحمد بن حنبل یستعمل للضرورة. (3)

2.مذهب القفّال الشاشی وأبی الحسین البصری من المعتزلة:إنّ العقل مع الأدلّة النقلیة تدلّ علی وجوب العمل بالقیاس،وستأتی الإشارة إلیها.

3.مذهب القاسانی (4)والنهروانی وداود الإصفهانی:إنّ القیاس یجب العمل به فی صورتین،وفیما عداهما یحرَم العمل به.

الاُولی:أن تکون علّة الأصل منصوصة أمّا بصریح اللّفظ أو بإیمائه،مثال الصریح قوله علیه السّلام بعد أن کان نهی الصحابة عن ادّخار لحوم الأضاحی:

«إنّما نهیتکم من أجل الدافة»، (5)

ص:448


1- (1) .المحصول:10871089/3.وراجع:المهذّب:1843/4 وما بعدها.
2- (2) .الحشر:2.
3- (3) .أعلام الموقّعین:32/1.
4- (4) .نسبةً إلی قاسان بلدة بترکستان،وأکثر الاُصولیین یکتبونها القاشانی،قال فی معجم البلدان:قاسان بالسین المهملة وآخره نون وأهلها یقولون کاسان مدینة کانت عامرة آهِلة کثیرة الخیرات واسعة الساحات...بما وراء النهر فی حدود بلاد الترک،خرّبت الآن بغلَبَة الترک علیها...إلی أن قال:قال الحازمی:وقاسان ناحیة بإصبهان ینسب إلیها أیضاً.معجم البلدان:335/4.
5- (5) .الدافة:جماعة من الناس تنتقل من بلد إلی بلد طلباً للزاد.راجع:سنن أبی داود:129/3 ح2812؛سنن النسائی:1042 ح4438؛صحیح مسلم:931 ح5076.

أی:بسبب ورود قوافل الأعراب علی المدینة(والدافة:جماعة من الناس تنتقل من بلد إلی بلد طلباً للزاد)،ومثال الإیماء قوله علیه الصلاة و السلام حینما سُئل عن سؤر الهرّة:

«إنّها لیست بنجس،إنّما هی من الطوّافین علیکم و الطوّافات». (1)

الثانیة:أن یکون الفرع أولی بالحکم من الأصل،مثاله:قیاس ضرب الوالدین علی التأفیف فی الحرمة لعلّة جامعة بینهما وهی الإیذاء المنصوص علیه بقوله تعالی: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ، (2)فإنّ الضرب أولی بالتحریم من التأفیف لشدّة الإیذاء فیه،و هذا ما یسمّی بدلالة النصّ أو بفحوی الخطاب،ویلاحظ أنّ أصحاب هذا المذهب الثالث ممّن ینکرون الاحتجاج بالقیاس،ویقولون:لا مدخل للعقل فی هاتین الصورتین لا فی الإیجاب ولا فی التحریم،و إنّما العلّة فیهما ثابتة بیقین،فیکون الحکم فی الفرع مقولاً بیقین،فیحصل الأمن من الخطأ وذلک بخلاف العلّة المستنبطة.

4.مذهب الظاهریة،وبه قال الشوکانی:إنّ القیاس جائز عقلاً،ولکن لم یرد فی الشرع ما یدلّ علی وجوب العمل بالقیاس.

5.مذهب الشیعة الإمامیة و النظّام من المعتزلة فی نقل عنه:إنّ التعبّد بالقیاس مستحیلٌ عقلاً؛لأنّه یترتّب علی اختلاف الأقیسة فی نظر المجتهدین،لزوم اجتماع النقیضین،ویظهر أنّ مذهب النظّام کالقاسانی.

وخلاصة هذه الآراء أنّها ترجع إلی مذهبین:مذهب الجمهور القائلین بأنّ القیاس حجّة مطلقاً،ومذهب الشیعة و النظّام و الظاهریة وجماعة من معتزلة بغداد القائلین بأنّ القیاس لیس بحجّة،إلاّ أنّ بعض هؤلاء یقول:إنّ امتناع حجیته من جهة العقل،وبعضهم یقول:إنّ ذلک من جهة الشرع،والواقع أنّ هؤلاء منکرون للقیاس. (3)

ص:449


1- (1) .سنن الترمذی:56 ح92؛سنن أبی داود:56/1 ح75؛سنن النسائی:26 ح68.
2- (2) .الإسراء:23.
3- (3) .الوسیط فی اصول الفقه:164168/1.

ولکن قال ابن التلمسانی:اُصول المذاهب فی القیاس ثلاثة:

الأوّل:أنّه یمتنع التعبّد به عقلاً،والقائلون بذلک اختلفوا; فمنهم من خصّ ذلک شرعیاً،و هو النظّام،وساعدنا علی العمل بالقطعی منه و المنصوص علی علّته،ومنهم من لم یخصّه،وهم بعض المعتزلة و الخوارج و الرافضة إلاّ الزیدیة،ثمّ اختلف المانعون فی مأخذ المنع:فمنهم من ردّه؛لأنّه لا یفید علماً ولا ظنّاً فی زعمه،ومنهم من سلّم إفادته للظنّ وزعم أنّ التعبّد به توریط فی الجهالات،ومنهم من قال:الظنّ قبیح؛لأنّه ضدّ العلم المحکوم بحسنه،والقبیح لا یؤمر به.

المذهب الثانی:أنّه لا یمتنع التعبّد به عقلاً،لکن لا یجوز العمل به شرعاً،والقائلون بهذا أهل الظاهر کابن داود و القاسانی و النهروانی،ثمّ اختلفوا فی مأخذ ذلک،فمنهم من زعم أنّه لا دلیل علی التعبّد به فینتفی،ومنهم من نفاه لوجود النافی له من الکتاب و السنّة و الإجماع علی زعمه،وساعدنا بعضهم علی العمل بالقیاس فی معنی الأصل قطعاً.

المذهب الثالث:أنّه جائز عقلاً وشرعاً،ویجب التعبّد به شرعاً،و هو مذهب أکثر الفقهاء و المتکلّمین علی الجملة و إن اختلفوا فی تفاصیل:منها:إنّ القفّال وأبا الحسین یزعمان أنّ دلالة العقل علیه أیضاً،ومنها أنّ أبا الحسین یزعم أنّ دلالة السمع علیه ظنیة،والحقّ أنّ بعض ما تمسّکوا به کذلک.ومنها قول بعضهم:إنّه لا یجری فی الأسباب و الموانع و الشروط،ومنها قول بعض القدریة:لا یجری إلاّ فی المنهیات دون المأمورات،ومنها قول الحنفیة:إنّه لا یجری فی الحدود و الکفّارات و المقدّرات ولا فی الرخص. (1)

أقول:اقرأ من هذا المجمل حدیث المفصّل حتّی تدرک مدی اختلاف العلماء فی آرائهم ونظریاتهم،واختلافهم فی نسبة بعض الآراء إلی أصحابها،فالمقدسی یعتبر أهل الظاهر من محیلی القیاس عقلاً،بینما یعتبرهم الغزالی من مجوّزیه عقلاً،ومانعیه شرعاً. (2)

ص:450


1- (1) .شرح المعالم:255256/2.
2- (2) .راجع:المستصفی:289/2؛المنخول:423؛روضة الناظر:162163؛الاُصول العامّة:321؛شرح المعالم:255256/2؛التبصرة:424؛البحر المحیط:15/4 و 16.

نسبة بدون استناد

نسب الغزالی وعدّة من أعیان علماء أهل السنّة-کالآمدی وعلاء الدِّین البخاری وابن التلمسانی-إلی الشیعة الإمامیة بقول مطلق القول باستحالة التعبّد بالقیاس عقلاً.

قال المحقّق الحکیم:والشیء الذی لم أجده من هذه النسب فی حدود تتبّعی،هو نسبة الإحالة العقلیة بقول مطلق إلی الشیعة،وربما وجدوه فی بعض کتب الاُصول الشیعیة کرأی لصاحب الکتاب فاعتبروه رأی مذهب بأجمعه،ومن الأخطاء التی تکرّرت علی ألسنة کثیر من الباحثین،هو نسبة رأی إلی مجموع الشیعة لمجرّد عثورهم علی ذهاب مجتهد من مجتهدیهم إلیه،ناسین أنّ الشیعة قد فتحوا علی أنفسهم أبواب الاجتهاد،فأصبح کلّ مجتهد له رأیه الخاصّ،ولا یتحمّل الآخرون تبِعَتهُ.نعم،ما کان من ضروریات مذهبهم فإنّ الجمیع یؤمنون به. (1)

أقول:هذا الشریف المرتضی یقول:والذی نذهب إلیه أنّ القیاس محظورٌ فی الشریعة استعماله؛لأنّ العبادة لم ترِد به،و إن کان العقل مجوّزاً ورود العبادة باستعماله. (2)

وقال السید المرتضی فی رسالة جوابات المسائل الموصلیات الثالثة:و قد تجاوز قومٌ من شیوخنا فی إبطال القیاس فی الشریعة و العمل بأخبار الآحاد أن قالوا:إنّه مستحیل من طریق العقول العبادة بالقیاس فی الأحکام،وأحالوا أیضاً من طریق العمل بأخبار الآحاد،وعوّلوا علی أنّ العمل یجب أن یکون تابعاً للعلم،و إذا کان غیر متیقّن فی القیاس وأخبار الآحاد لم نجد العبادة بها،والمذهب الصحیح هو غیر هذا; لأنّ العقل لا یمنع من العبادة بالقیاس و العمل بخبر الواحد،ولو تعبّد الله تعالی بذلک لساغ ولدخل فی باب الصحّة; لأنّ

ص:451


1- (1) .الاُصول العامّة:322-321.
2- (2) .الذریعة إلی اصول الشریعة:675/2.وراجع:مفاتیح الاُصول:666.

عبادته تعالی بذلک توجب العلم الذی لا بدّ أن یکون العمل تابعاً له. (1)

ویردّد الشیخ الطوسی ما اختاره استاذه الشریف المرتضی،حیث یقول:والذی نذهب إلیه و هو الذی اختاره المرتضی فی کتابه فی إبطال القیاس:إنّ القیاس محظورٌ استعماله فی الشریعة..إلخ. (2)

ویقول السید أبو المکارم ابن زهرة الحلبی:ویجوز من جهة العقل التعبّد بالقیاس فی الشرعیات؛لأنّه یمکن أن یکون طریقاً إلی معرفة الأحکام الشرعیة،ودلیلاً علیها. (3)

أقول:ومعلوم أنّ الذین ذهبوا إلی الإحالة عقلاً لا تختصّ أدلّتهم بالقیاس،بل تعمّ جمیع الطرق و الأمارات الظنیة؛لوحدة الملاک فیها،والشیء الذی لا أشکّ فیه هو أنّ المنع عن العمل بقسم من أقسام القیاس یعدّ من ضروریات مذهب الشیعة الإمامیة لتواتر أخبار أهل البیت فی الردع عن العمل به، (4)لا أنّ العقل هو الذی یمنع التعبّد به ویحیله،ولذلک احتاجوا إلی بذل الجهد فی توجیه ترک العمل به مع إفادته للظنّ علی تقدیر تمامیة مقدّمات دلیل الانسداد المقتضیة للعمل بمطلق الظنّ،والشاهد علی ما ذکرناه ما قاله الفاضل القمّی:فإنّه یمکن منع دعوی بداهة حرمة القیاس حتّی فی موضع لا سبیل إلی الحکم إلاّ به..إلی أن قال:فإن قلت:ما ذکرت من منع بقاء الحرمة عند انحصار العمل فی مثل القیاس مثلاً أو غیره من الظنون التی لم یثبت حرمتها بالخصوص أیضاً،یدفعه منع بقاء التکلیف حینئذٍ أیضاً.قلت:ما دلّ علی حرمة العمل بالقیاس وغیره من الظنون أیضاً،لیس بأقوی دلالة وأشمل أفراداً وأوقاتاً ممّا دلّ علی

ص:452


1- (1) .رسائل الشریف المرتضی:202/1.
2- (2) .العدّة فی اصول الفقه:652/2 و 665.وراجع:مفاتیح الاُصول:666.
3- (3) .غنیة النزوع(الجوامع الفقهیة):480.
4- (4) .راجع:اُصول الفقه:418/2؛معارج الاُصول:188؛الفوائد الطوسیة:410؛معالم الاُصول:313؛فرائد الاُصول:518/1؛الاُصول العامّة:322؛القوانین المحکمة:179/3.

بقاء التکلیف إلی آخر الأبد،فغایة الأمر عدم الوجوب(یعنی عدم وجوب العمل بالقیاس)،فما الدلیل علی الحرمة؟ (1)

وقال المحقّق الآشتیانی فی توجیه کلامه:فإنّه کما تری ظاهر فی منع دعوی البداهة المذکورة فی وجه التفصّی،ومنع دعوی بداهة حرمة العمل به لا یلازم منع حصول العلم بالحرمة إلاّ بعد فرض انحصار الدلیل العلمی فیه،کما یظهر من التوضیح الذی ذکره شیخنا الأعظم الأنصاری،ثمّ إنّه علی تقدیر ظهور کلامه هذا فی إمکان منع قیام الدلیل العلمی علی الحرمة مطلقاً فی زمان الانسداد وفی مورد انحصار الدلیل فیه،لیس مذهباً له بالقطع و الیقین،فإنّ کلماته فی هذا البحث وفی بحث الاجتهاد و التقلید وغیرهما تنادی بصراحتها بذهابه إلی حرمة العمل به فی کلّ زمان،وأنّه من المسلّمات عنده،و إنّما ذکر ما ذکره وجهاً فی المسألة لا اعتقاداً. (2)

نعم،فی کشف الغطاء ما یظهر منه نفی البُعد عن القول بحجیته عند الاضطرار وانحصار الطریق فی مطلق الظنّ،حیث قال:و أمّا أن یکون ممّا انسدّت فیه الطرق فی معرفة الواجب مع العلم باشتغال الذمّة وانسداد طریق الاحتیاط،و هذا یجری فی المجتهد إذا فقد الأدلّة لحصوله فی غیر بلاد المسلمین مع فقد المرجع،وفی غیره عند اضطراره لضرورة بقاء التکلیف وانسداد طریق العلم و الظنّ القائم مقامه،فیرجع کلّ منهما إلی الروایات الضعیفة و الشهرة وأقوال الموتی و الظنون المکتسبة سوی ما دخل تحت القیاس المردود،علی أنّ القول به فی مثل هذه الصورة غیر بعید،وما کان من الاضطراری لا یدّعی حجّة کما لا یسمّی الحرام کأکل المیتة مع الضرورة مباحاً،انتهی. (3)

ص:453


1- (1) .القوانین المحکمة:440/2-441؛فرائد الاُصول:517520/1؛بحر الفوائد:ص259،ومن الطبع الجدید:13/4.
2- (2) .بحر الفوائد:259،ومن الطبع الجدید:13/4.
3- (3) .کشف الغطاء:38/1،البحث الرابع و الأربعون؛بحر الفوائد:259.

وناقش الشیخ الأعظم الأنصاری فیما ذکره الفاضل القمّی أوّلاً:بأنّ إطلاق بعض الأخبار وجمیع معاقد الإجماعات یوجب الظنّ المتاخم للعلم،بل العلم بأنّ القیاس لیس ممّا یرکن إلیه فی الدِّین مع وجود الأمارات السمعیة،فهو حینئذٍ ممّا قام الدلیل علی عدم حجیته،بل العمل بالقیاس المفید للظنّ فی مقابل الخبر الصحیح کما هو لازم القول بدخول القیاس فی مطلق الظنّ المحکوم بحجّیته ضروری البطلان فی المذهب،ثانیاً:منع إفادة القیاس للظنّ..إلخ. (1)

ص:454


1- (1) .فرائد الاُصول:520521/1.

الخلاصة

اختلف الناس فی التعبّد بالقیاس فی الشرعیات عقلاً،فقالت طائفة:العقل یقتضی جواز التعبّد به فی الجملة،وقالت طائفة:العقل یقتضی المنع من التعبّد به.

ثمّ القائلون بالجواز اختلفوا،فمنهم من قال:وقع التعبّد به،ومنهم من یقول:لم یقع،والذین اعترفوا بوقوع التعبّد به،فقد اتّفقوا علی أنّ السمع دلّ علیه،ثمّ اختلفوا فی مواضع،منها:هل فی العقل ما یدلّ علیه أم لا،و أنّ الدلائل السمعیة علیه ظنّیة أو قطعیة؟

قال الزحیلی:اختلفوا فی الاُمور الشرعیة علی خمسة مذاهب:

1.مذهب الجمهور:و هو أنّ التعبّد بالقیاس جائز عقلاً،ویجب العمل به شرعاً.2.مذهب القفّال الشاشی وأبی الحسین البصری:إنّ العقل مع الأدلّة النقلیة تدلّ علی وجوب العمل بالقیاس.3.مذهب القاسانی و النهروانی وداود:إنّ القیاس یجب العمل به فی صورتین،وفیما عداهما یحرَم العمل به.الاُولی:أن تکون علّة الأصل منصوصة.الثانیة:أن یکون الفرع أولی بالحکم من الأصل،و هذا ما یسمّی بدلالة النصّ أو بفحوی الخطاب.4.مذهب الظاهریة،وبه قال الشوکانی،ومفاده:إنّ القیاس جائز عقلاً،ولکن لم یرد فی الشرع ما یدلّ علی وجوب العمل بالقیاس.5.مذهب الشیعة الإمامیة و النظّام:إنّ التعبّد بالقیاس مستحیلٌ عقلاً؛لأنّه یترتّب علی اختلاف الأقیسة فی نظر المجتهدین،لزوم اجتماع النقیضین.

اختلف العلماء فی آرائهم ونظریاتهم،وفی نسبة بعض الآراء إلی أصحابها; مثلاً المقدسی یعتبر أهل الظاهر من محبلی القیاس عقلاً بینما یعتبرهم الغزالی من مجوّزیه عقلاً ومانعیه شرعاً.

الغزالی وعدّة من أعیان علماء أهل السنّة قد نسبوا إلی الشیعة الإمامیة-بدون استناد-بقول مطلق القول باستحالة التعبّد بالقیاس عقلاً.

ص:455

قال الحکیم:والشیء الذی لم أجده من هذه النسب فی حدود تتبّعی،هو نسبة الإحالة العقلیة بقول مطلق إلی الشیعة،وربما وجدوه فی بعض کتب الاُصول الشیعیة کرأی لصاحب الکتاب فاعتبروه رأی مذهب بأجمعه،ومن الأخطاء التی تکرّرت علی ألسنة کثیر من الباحثین،هو نسبة رأی إلی مجموع الشیعة لمجرّد عثورهم علی ذهاب مجتهد من مجتهدیهم إلیه،ناسین أنّ الشیعة قد فتحوا علی أنفسهم أبواب الاجتهاد،فأصبح کلّ مجتهد له رأیه الخاصّ،ولا یتحمّل الآخرون تبِعَتهُ.

أقول:هذا الشریف المرتضی یقول:والذی نذهب إلیه أنّ القیاس محظورٌ فی الشریعة استعماله؛لأنّ العبادة لم ترِد به،و إن کان العقل مجوّزاً ورود العبادة باستعماله.

وقال الشیخ الطوسی بمقالة استاذه الشریف المرتضی،و هذا السید أبو المکارم ابن زهرة الحلبی یقول:ویجوز من جهة العقل التعبّد بالقیاس فی الشرعیات.

ومعلوم أنّ الذین ذهبوا إلی الإحالة عقلاً لا تختصّ أدلّتهم بالقیاس،بل تعمّ جمیع الطرق و الأمارات الظنیة؛لوحدة الملاک فیها.نعم،إنّ المنع عن العمل بالقیاس یعدّ من ضروریات مذهب الشیعة الإمامیة لتواتر أخبار أهل البیت علیهم السّلام فی الردع عن العمل به،لا أنّ العقل هو الذی یمنع التعبّد به ویحیله،ولذلک احتاجوا إلی بذل الجهد فی توجیه ترک العمل به مع إفادته للظنّ علی تقدیر تمامیة مقدّمات دلیل الانسداد المقتضیة للعمل بمطلق الظنّ،والشاهد علی ما ذکرناه مقالة الفاضل القمّی،حیث قال:فإنّه یمکن منع دعوی بداهة حرمة القیاس حتّی فی موضع لا سبیل إلی الحکم إلاّ به.

وقال المحقّق الآشتیانی فی توجیه کلامه:فإنّه کما تری ظاهر فی منع دعوی البداهة المذکورة فی وجه التفصّی،ومنع دعوی بداهة حرمة العمل به لا یلازم منع حصول العلم بالحرمة إلاّ بعد فرض انحصار الدلیل العلمی فیه کما یظهر من التوضیح الذی ذکره شیخنا الأعظم الأنصاری،ثمّ إنّه علی تقدیر ظهور کلامه هذا فی إمکان منع قیام الدلیل العلمی علی الحرمة مطلقاً فی زمان الانسداد وفی مورد انحصار الدلیل

ص:456

فیه لیس مذهباً له بالقطع و الیقین،فإنّ کلماته فی هذا البحث وغیره تنادی بصراحتها بذهابه إلی حرمة العمل به فی کلّ زمان.

نعم،فی کشف الغطاء ما یظهر منه نفی البُعد عن القول بحجیته عند الاضطرار وانحصار الطریق فی مطلق الظنّ.

ناقش الشیخ الأعظم الأنصاری فیما ذکره الفاضل القمّی أوّلاً:بأنّ إطلاق بعض الأخبار وجمیع معاقد الإجماعات یوجب الظنّ المتاخم للعلم،بل العلم بأنّ القیاس لیس ممّا یرکن إلیه فی الدِّین مع وجود الأمارات السمعیة،وثانیاً:منع إفادة القیاس للظنّ.ولو سلّم إفادته الظنّ،فهو ممّا قام الدلیل علی عدم حجیته فی مقابل الخبر الصحیح،فعلی هذا یکون العمل بالقیاس المفید للظنّ کما هو لازم القول بدخول القیاس فی مطلق الظنّ ضروری البطلان فی المذهب.

ص:457

الأسئلة

1.اُذکر المذاهب الخمسة فی التعبّد بالقیاس فی الاُمور الشرعیة.

2.لماذا تکون نسبة استحالة التعبّد بالقیاس عقلاً إلی الشیعة بلا استناد؟أید إجابتک بکلمات بعض أعیان الإمامیة.

3.لِمَ لا تختصّ أدلّة القائلین بالإحالة عقلاً بالقیاس؟

4.لماذا احتاج علماء الإمامیة إلی بذل الجُهد فی توجیه ترک العمل بالقیاس مع إفادته الظنّ علی تقدیر تمامیة مقدّمات الانسداد؟

5.اُذکر توجیه المحقّق الآشتیانی کلام الفاضل القمّی.

6.اُذکر مناقشة الشیخ الأعظم الأنصاری فیما ذکره الفاضل القمّی.

ص:458

الدرس الثانی و الخمسون بعد المئة

حجّیة القیاس

اشارة

إلی الآن علمت أنّ محطّ البحث و النزاع فی القیاس عبارة عن أمرین:

1.التماس العلل الواقعیة للأحکام الشرعیة من طریق العقل،و هذا النوع من الاصطلاح فی مورد القیاس مهجور.

2.تخریج المناط،و قد عرفت المسالک لمعرفة العلّة،و قد اعترف مثبتو القیاس إلی أنّها غیر مقطوعة غیر مسلک السبر و التقسیم،وفیه خلافٌ کما عرفت سابقاً.

فی حجّیة القیاس

*القیاس حجّة،معناه:إنّه دلیلٌ وبرهان نصبه الشارع لمعرفة بعض الأحکام أو المراد،کما قال الرازی:إنّه إذا حصل للمجتهد ظنّ بأنّ حکم هذه الصورة مثل حکم تلک الصورة،فهو مکلّف بالعمل به فی نفسه،ومکلّف بأن یفتی به غیره.

اختلف القائلون بالقیاس فی أنّ دلالة السمع علیه قطعیة أو ظنیة،ذهب الأکثرون إلی الأوّل،وذهب أبو الحسین و الآمدی و الرازی و الزرکشی:إلی أنّ القیاس ظنّی،نصّ علیه الشافعی فی الرسالة،فقال:إنّه حقّ فی الظاهر عند قائسه لا عند العامّة من

ص:459

العلماء.قال الصیرفی:أراد أنّه لیس حقّاً فی الظاهر حتّی یلزم بظاهر الأدلّة،ویجوز الخلاف فیه،ولو کان قطعیاً لم یقع فیه خلاف،ثمّ قال:وممّن أطلق ظنّیة القیاس الإمامان الجوینی و الرازی وغیرهما،وحینئذٍ فینتهض بالأدلّة الظنیة،قال فی البرهان:لا یفید العلم وجوب العمل بأعیانها،و إنّما یقع العلم عندها،والعلم بوجوبه مستند إلی أدلّة قاطعة،و أمّا قول مَن قال:الظاهر الدالّ علی کون القیاس حجّة فإن کان بمجرّده لا یفید إلاّ الظنّ،ولکن اقترنت بها امور مجموعها یفید القطع،قلنا:هذا مجرّد دعوی القطع فی مواضع الظنون. (1)

أقول:قد عرفت سابقاً أنّ طریقیة الظنّ لیست ذاتیة لنقصان الکشف فیه،إذ رحم الظنّ الجهل،ولا صلاح للخلق فی إقحامهم ورطة الجهل حتّی یتخبّطوا فیه ویحکموا بما لا یتحقّقون فیه،وعرفت أیضاً أنّ حجّیته لیست من اللّوازم العقلیة القهریة التی لا تحتاج إلی جعل من قِبل الشارع،ولذلک احتجنا إلی الاستدلال علیه بالأدلّة القطعیة شرعیةً کانت أو عقلیة،و هذه الأدلّة إن تمّت أخذنا بها،وإلاّ فحسبنا من القطع بعدم الحجّیة عدم ثبوتها،إذ الشکّ فیها وحده کاف،بل مساوق للقطع بعدمها.ولهذا،فإنّ منکری القیاس لا یحتاجون إلی التماس أدلّة علی نفی القیاس،بل لایحتاجون إلی عرض الأدلة وذکرها،بما فیها الأدلّة الرادعة وتقییمها وبیان مقدار صلوحها للدلالة.

وقال فی إرشاد الفحول:و قد استدلّ المانعون من القیاس بأدلّة عقلیة ونقلیة،ولا حاجة لهم إلی الاستدلال،فالقیام فی مقام المنع یکفیهم،وإیراد الدلیل علی القائلین بها،و قد جاؤوا بأدلّة عقلیة لا تقوم بها الحجّة،فلا نطیل البحث بذکرها،وجاؤوا بأدلّة نقلیة. (2)

ص:460


1- (1) .البحر المحیط:2526/4.وراجع:إرشاد الفحول:78/2؛التلویح:114/2؛نزهة الخاطر:157/2؛الإحکام:287/4؛روضة الناظر:163؛المحصول:1087/3؛منتهی السؤل:221؛المستصفی:299/2؛فواتح الرحموت:542/2.
2- (2) .إرشاد الفحول:79/2.

وبالجملة،هی الأصل فی الظنون الحجّیة إلاّ ما ورد المنع فیه أو الأصل عدم حجّیة الظنّ إلاّ ما قام الدلیل علی حجّیته،بل قلنا:إنّ الشکّ فی الحجّیة یساوق القطع بعدمها،فلیراجع.

حکی الاُستاذ الشیخ جعفر السبحانی عن الاُستاذ مصطفی شلبی أنّه صرّح بأنّ الموجود فی ذهن المجتهد هو غَلَبة الظنّ بأنّهما متساویان فی الحکم،والتساوی فیه فرع الظنّ بالتساوی فی العلّة،وإلاّ فلو کان هناک علمٌ بالتساوی فی العلّة التامّة،لحصل العلم بالتساوی فی الحکم،کما هو الحال فی الحکم بحرمة النبیذ؛للعلم بتساویه مع الخمر فی العلّة،وعندئذ یسأل:ما هو الدلیل علی حجّیة هذا الظنّ الذی یبنی علیه الفقه الإسلامی فی مختلف الأبواب؟ (1)

وأیضاً عرفت:إنّ حجّیة کلّ أمارة تناط بالعلم،فالقیاس کباقی الأمارات لا یکون حجّة إلاّ فی صورتین لا ثالث لهما:

الاُولی:أن یکون بنفسه موجباً للعلم بالحکم الشرعی.

الثانیة:أن یقوم دلیل قاطع علی حجیته إذا لم یکن بنفسه موجباً للعلم.

هل القیاس یوجب العلم؟

إنّ القیاس نوعٌ من التمثیل المصطلح علیه فی المنطق،و قد عُرِّف بأنّه هو المؤلَّف من قضایا تشتمل علی بیان مشارکة جزئی بجزئی آخر فی علّة حکم له یثبت ذلک الحکم فی ذلک الجزئی.

وقال المحقّق المظفّر:هو أن ینتقل الذهن من حکم أحد الشیئین إلی الحکم علی الآخر لجهة مشترکة بینهما.وبعبارة اخری،هو:إثبات الحکم فی جزئی لثبوته فی جزئی آخر مشابه له. (2)

ص:461


1- (1) .اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:117.
2- (2) .المنطق:305 وما بعدها.

وقال قطب الدِّین:التمثیل حکمٌ واحد فی جزئی لثبوته فی جزئی آخر لمعنی مشترک بینهما،والفقهاء یسمّونه قیاساً،والجزئی الأوّل فرعاً،والثانی أصلاً،والمشترک علّة وجامعاً. (1)

ثمّ قال:إنّ التمثیل علی بساطته من الأدلّة التی لا تفید إلاّ الاحتمال؛لأنّه لا یلزم من تشابه شیئین فی أمر،بل فی عدّة امور أن یتشابها من جمیع الوجوه و الخصوصیات..إلی أن قال:نعم،إذا قویت وجوه الشَّبه بین الأصل و الفرع وکثُرت،یقوی عندک الاحتمال حتّی یقرُب من الیقین،ویکون ظنّاً. (2)

غیر أنّه یمکن أن نعلم أنّ الجامع أی:جهة المشابهة،علّة تامّة لثبوت الحکم فی الأصل،وحینئذٍ نستنبط علی نحو الیقین أنّ الحکم ثابت فی الفرع لوجود علّته التامّة فیه؛لأنّه یستحیل تخلّف المعلول عن علّته التامّة،ویکون من القیاس المنطقی البرهانی الذی یفید الیقین،ولکن الشأن کلّه إنّما هو فی إثبات أنّ الجامع علّة تامّة للحکم؛لأنّه یحتاج إلی بحث وفحص،ولیس من السهل الحصول علیه حتّی فی الاُمور الطبیعیة،و قد سبق أنّ ملاکات الأحکام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلی فیها،فلا تُعلم إلاّ من طریق السماع من مبلِّغ الأحکام الذی نصّبه الله تعالی مبلِّغاً وهادیاً؛لأنّها امورٌ توقیفیة من وضع الشارع،کاللّغات و العلامات و الإشارات التی لا تُعرَف إلاّ من قِبل واضعیها،ولا تُدرَک بالنظر العقلی.

والخلاصة:إنّ القیاس فی نفسه لا یفید العلم بالحکم؛لأنّه لا یتکفّل ثبوت الملازمة بین حکم المقیس علیه وحکم المقیس،ویستثنی منه المنصوص العلّة،و قد علمت أنّ منصوص العلّة فی الحقیقة لیس من نوع القیاس. (3)

ص:462


1- (1) .شرح الشمسیة:177.وراجع:حاشیة ملاّ محمّد الآملی فی نفس الصفحة.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه:414416/2؛المنطق:306307.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه للمظفر:426/2-427.

وقال المحقّق المظفّر:ولأجل توضیح الموضوع نقول:إنّ الاحتمالات الموجودة فی کلّ قیاس خمسة،ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بین حکم الأصل وحکم الفرع،ولا یمکن رفع هذه الاحتمالات إلاّ بورود النصّ من الشارع،والاحتمالات هی:

1.احتمال أن یکون الحکم فی الأصل معلّلاً عند الله تعالی بعلّة اخری غیر ما ظنّه القایس،بل یحتمل علی مذهب القائلین بالقیاس أن لا یکون الحکم معلّلاً عند الله بشیء أصلاً؛لأنّهم لا یرون الأحکام الشرعیة معلّلة بالمصالح و المفاسد،و هذا من مفارقات آرائهم; فإنّهم إذا کانوا لا یرون تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد،فکیف یؤکّدون تعلیل الحکم الشرعی فی المقیس علیه بالعلّة التی یظنّونها؟بل کیف یحصل لهم الظنّ بالتعلیل؟

2.احتمال أنّ هناک وصفاً آخر ینضمّ إلی ما ظنّه القایس علّة،بأن یکون المجموع منهما هو العلّة للحکم،لو فرض أنّ القایس أصاب فی أصل التعلیل.

3.احتمال أن یکون القایس قد أضاف شیئاً أجنبیاً إلی العلّة الحقیقیة لم یکن له دخل فی الحکم فی المقیس علیه.

4.احتمال أن یکون ما ظنّه القایس علّة-إن کان مصیباً فی ظنّه-لیس هو الوصف المجرّد،بل بما هو مضاف إلی موضوعه،أعنی:الأصل؛لخصوصیة فیه،مثال ذلک:لو علم بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعاً فی إفساد البیع،وأراد أن یقیس علی البیع عقد النکاح إذا کان المهر فیه مجهولاً،فإنّه یحتمل أن یکون الجهل بالعوض الموجب لفساد البیع هو الجهل بخصوص العوض فی البیع،لا مطلق الجهل بالعوض من حیث هو جهل بالعوض لیسری الحکم إلی کلّ معاوضة،حتّی فی مثل الصلح المعاوضی و النکاح باعتبار أنّه یتضمّن معنی المعاوضة عند البضع.

5.احتمال أن تکون العلّة الحقیقیة لحکم المقیس علیه غیر موجودة أو غیر متوفّرة بخصوصیاتها فی المقیس.

ص:463

وکلّ هذه الاحتمالات لا بدّ من دفعها لیحصل لنا العلم بالنتیجة،ولا یدفعها إلاّ الأدلّة السمعیة الواردة عن الشارع.

إن قیل:یمکن تحصیل العلم بالعلّة بطریق برهان السبر و التقسیم. (1)

فأقول:من شرط برهان السبر و التقسیم لیکون برهاناً حقیقیاً أن تحصر المحتملات حصراً عقلیاً من طریق القسمة الثنائیة التی تتردّد بین النفی و الإثبات،وما یذکر من الاحتمالات فی تعلیل الحکم الشرعی لا تعدو أن تکون احتمالات استطاع القایس أن یحتملها ولم یحتمل غیرها،لا أنّها مبنیة علی الحصر العقلی المردّد بین النفی و الإثبات،و إذا کان الأمر کذلک فکلّ ما یفرضه من الاحتمالات یجوز أن یکون وراءها احتمالات لم یتصوّرها أصلاً.

وعلی کلّ حال،فلا یمکن أن یستنتج من مثل السبر و التقسیم هنا أکثر من الاحتمال،و إذا تنزّلنا فأکثر ما یحصل منه الظنّ،فرجع الأمر بالأخیر إلی الظنّ،و إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً . (2)

وفی الحقیقة أنّ القائلین بالقیاس لا یدّعون إفادته العلم،بل أقصی ما یتوقّعونه إفادته للظنّ،غیر أنّهم یرون أنّ مثل هذا الظنّ حجّة. (3)

ثمّ بعد ثبوت أنّ القیاس فی حدّ ذاته لا یفید العلم،بل یفید الظنّ،لا بدّ من البحث عن الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة الظنّ الحاصل من القیاس؛لیکون من الظنون الخاصّة المستثناة من العمومات الدالّة علی حرمة العمل بالظنّ کالخبر الواحد و الظواهر.

أمّا الإمامیة وغیرهم من المُنکرین للقیاس،فهم فی غنیً عن هذا البحث؛لأنّه یکفیهم فی إبطال القیاس إبطال ما تمسّکوا به لإثبات حجّیته من الأدلّة،کما قال

ص:464


1- (1) .شرح الشمسیة:177.
2- (2) .النجم:28،یونس:36.
3- (3) .اُصول الفقه:416418/2.

العلاّمة الشوکانی:لا یحتاج المانعون إلی الاستدلال،بل القیام فی مقام المنع یکفیهم. (1)

علی أنّ الإمامیة ثبت لدیهم علی سبیل القطع من طریق آل البیت علیهم السّلام عدم اعتبار هذا الظنّ الحاصل من القیاس،فقد تواتر عنهم النهی عن الأخذ بالقیاس،و أنّ دین الله لا یصاب بالعقول،و أمّا أهل السنّة القائلون بالقیاس،فقد تمسّکوا بالکتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

ص:465


1- (1) .إرشاد الفحول:79/2.

الخلاصة

القیاس حجّة،معناه:إنّه دلیلٌ وبرهان نصبه الشارع لمعرفة بعض الأحکام،أو المراد-کما قال الرازی-:إنّه إذا حصل للمجتهد ظنّ بأنّ حکم هذه الصورة مثل حکم تلک الصورة،فهو مکلّف بالعمل به فی نفسه،ومکلّف بأن یفتی به غیره.

اختلف القائلون فی أنّ دلالة السمع علیه قطعیة أو ظنّیة،ذهب الأکثرون إلی الأوّل،وذهب أبو الحسین البصری و الآمدی و الرازی و الزرکشی إلی أنّ القیاس حجّة ظنیة،ونصّ علیها الشافعی فی الرسالة.

أقول:عرفت سابقاً أنّ طریقیة الظنّ لیست ذاتیة لنقصان الکشف فیه،إذ رحم الظنّ الجهل،ولا صلاح للخلق فی إقحامهم ورطة الجهل حتّی یتخبّطوا فیه ویحکموا بما لا یتحقّقون فیه،وأیضاً عرفت أنّ حجیته لیست من اللّوازم العقلیة القهریة التی لا تحتاج إلی جعل من قِبل الشارع،ولذلک احتجنا إلی الاستدلال علیه بالأدلّة القطعیة شرعیة کانت أو عقلیة،و هذه الأدلّة إن تمّت أخذنا بها،وإلاّ فنقطع بعدم الحجّیة،إذ الشکّ فی الحجّیة وحده کاف،بل مساوق للقطع بعدمها.ولهذا،فإنّ منکری القیاس لا یحتاجون إلی التماس دلیل علی نفی القیاس.

وقال الشوکانی:قد استدلّ المانعون من القیاس بأدلّة عقلیة ونقلیة،ولا حاجة لهم إلی الاستدلال،فالقیام فی مقام المنع یکفیهم،وإیراد الدلیل علی القائلین بها.

وبالجملة،هی الأصل فی الظنون الحجّیة إلاّ ما ورد المنع فیه،أو الأصل عدم الحجّیة إلاّ ما دلّ الدلیل علیه.و قد تفطّنت فی مبحث حجّیة الظنّ أنّ الأصل عدم حجّیة الظنّ إلاّ ما قام الدلیل علی حجّیته،و قد علمت أنّ حجّیة کلّ أمارة تُناط بالعلم،فالقیاس کباقی الأمارات لا یکون حجّة إلاّ فی صورتین لا ثالث لهما:الاُولی:أن یکون بنفسه موجباً للعلم بالحکم الشرعی،الثانیة:أن یقوم دلیل قاطع علی حجیته إذا لم یکن بنفسه موجباً للعلم.

ص:466

هل القیاس یوجب العلم؟إنّ القیاس نوعٌ من التمثیل المصطلح علیه فی المنطق،و قد عُرِّف بأنّه هو المؤلَّف من قضایا تشتمل علی بیان مشارکة جزئی بجزئی آخر فی علّة حکم له لیثبت ذلک الحکم فی ذلک الجزئی.

وقال المظفّر:هو أن ینتقل الذهن من حکم أحد الشیئین إلی الحکم علی الآخر لجهة مشترکة بینهما.

وقال قطب الدِّین:التمثیل إثبات حکمٌ واحد فی جزئی لثبوته فی جزئی آخر لمعنی مشترک بینهما،والفقهاء یسمّونه قیاساً،والجزئی الأوّل فرعاً،والثانی أصلاً،والمشترک علّة وجامعاً.

ثمّ قال المظفّر:إنّ التمثیل علی بساطته من الأدلّة التی لا تفید إلاّ الاحتمال؛لأنّه لا یلزم من تشابه شیئین فی أمر،بل فی عدّة امور أن یتشابها فی جمیع الوجوه و الخصوصیات،غیر أنّه یمکن أن نعلم أنّ الجامع أی:جهة المشابهة،علّة تامّة لثبوت الحکم فی الأصل،وحینئذٍ نستنبط علی نحو الیقین أنّ الحکم ثابت فی الفرع لوجود العلّة التامّة فیه؛لأنّه یستحیل تخلّف المعلول عن علّته التامّة،ویکون من القیاس المنطقی الذی یفید الیقین،ولکن الشأن کلّه إنّما هو فی إثبات أنّ الجامع علّة تامّة للحکم؛لأنّه یحتاج إلی بحث وفحص،ولیس من السهل الحصول علیه حتّی فی الاُمور الطبیعیة،و قد سبق أنّ ملاکات الأحکام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلی فیها،فلا تُعلم إلاّ من طریق السماع من مبلِّغ الأحکام الذی نصبه الله تعالی مبلِّغاً وهادیاً؛لأنّها امورٌ توقیفیة من وضع الشارع،کاللّغات و العلامات و الإشارات التی لا تُعرَف إلاّ من قِبل واضعیها،ولا تُدرَک بالنظر العقلی.

وللتوضیح قال المظفّر:إنّ الاحتمالات الموجودة فی کلّ قیاس خمسة،ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بین حکم الأصل وحکم الفرع،ولا یمکن رفع هذه الاحتمالات إلاّ بورود النصّ من الشارع،والاحتمالات هی:

ص:467

1.احتمال أن یکون الحکم فی الأصل معلّلاً عند الله تعالی بعلّة اخری غیر ما ظنّه القایس،بل یحتمل علی مذهب القائلین بالقیاس أن لا یکون الحکم معلّلاً عند الله بشیء أصلاً؛لأنّهم لا یرون الأحکام الشرعیة معلّلة بالمصالح و المفاسد.

2.احتمال أنّ هناک وصفاً آخر ینضمّ إلی ما ظنّه القایس علّة،بأن یکون المجموع منهما هو العلّة للحکم.

3.احتمال أن یکون القایس قد أضاف شیئاً أجنبیاً إلی العلّة الحقیقیة لم یکن له دخل فی الحکم فی المقیس علیه.

4.احتمال أن یکون ما ظنّه القایس علّة-إن کان مصیباً فی ظنّه-لیس هو الوصف المجرّد،بل بما هو مضاف إلی موضوعه،أعنی:الأصل؛لخصوصیة فیه.

5.احتمال أن تکون العلّة الحقیقیة لحکم المقیس علیه غیر موجودة أو غیر متوفّرة بخصوصیاتها فی المقیس.

إن قیل:یمکن تحصیل العلم بالعلّة بطریق برهان السبر و التقسیم.

فأقول:من شرط برهان السبر و التقسیم لیکون برهاناً حقیقیاً أن تحصر المحتملات حصراً عقلیاً من طریق القسمة الثنائیة التی تتردّد بین النفی و الإثبات،وما یذکر من الاحتمالات فی تعلیل الحکم الشرعی لا تعدو أن تکون احتمالات استطاع القایس أن یحتملها ولم یحتمل غیرها،لا أنّها مبنیة علی الحصر العقلی لجواز أن یکون وراءها احتمالات لم یتصوّرها أصلاً.

وعلی کلّ حال،فلا یمکن أن یستنتج من مثل السبر و التقسیم هنا أکثر من الاحتمال،و إذا تنزّلنا فأکثر ما یحصل منه الظنّ،فرجع الأمر بالأخیر إلی الظنّ الذی لا یغنی من الحقّ شیئاً.

ثمّ بعد ثبوت أنّ القیاس فی حدّ ذاته لا یفید العلم،بل یفید الظنّ،لا بدّ من البحث عن الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة الظنّ الحاصل من القیاس لیکون من الظنون الخاصّة.

ص:468

الأسئلة

1.ما معنی حجّیة القیاس؟

2.لماذا طریقیة الظنّ لیست ذاتیة؟

3.لماذا احتجنا إلی الاستدلال علی حجّیة الظنّ بالأدلّة القطعیة؟

4.اُذکر الأصل فی حجّیة الظنون.

5.اُذکر تعریف التمثیل المنطقی أو القیاس الاُصولی.

6.لماذا لا یفید التمثل إلاّ الاحتمال؟

7.اُذکر الاحتمالات الخمسة الموجودة فی القیاس.

8.لِمَ لا یمکن تحصیل العلم بالعلّة بطریق برهان السبر و التقسیم؟

ص:469

ص:470

الدرس الثالث و الخمسون بعد المئة

دلیل الکتاب

اشارة

استدلّ القائلون بالقیاس علی حجیته و التعبّد به بالکتاب و السنّة و الإجماع و المعقول.

أمّا الکتاب فقد استدلّوا بآیات عدیدة،لکنّنا نذکر فی المقام أهمّ ما استدلّوا به من الآیات،منها:

الآیة الاُولی

قال أبو بکر السرخسی:فمن دلائل الکتاب قوله تعالی: فَاعْتَبِرُوا یا أُولِی الْأَبْصارِ . (1)حکی عن ثعلب قال:الاعتبار فی اللّغة،هو:ردّ حکم الشیء إلی نظیره،ومنه یسمّی الأصل الذی یردّ إلیه النظائر:عبرة،ومن ذلک قوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَةً لِأُولِی الْأَبْصارِ ، (2)والرجل یقول:اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب،أی:سوّیته به فی التقدیر،و هذا هو حدّ القیاس،فظهر أنّه مأمورٌ به بهذا النصّ. (3)

ص:471


1- (1) .الحشر:2.
2- (2) .آل عمران:13.
3- (3) .اُصول السرخسی:125/2.

وقیل فی تقریب الاستدلال بهذه الآیة المبارکة:قد ذکر الله تعالی هذا بعد بیانه لما جری لبنی النضیر من نَکَال فی الدُّنیا بسبب کفرهم وکیدهم للرسول صلی الله علیه و آله وللمؤمنین،ومعنی هذه الآیة:تأمّلوا یا أصحاب العقول السلیمة،واحذروا أن یصیبکم مثل ما أصابهم إن فعلتم مثل فعلهم،فإنّ سنّة الله واحدة تجری علی الجمیع،و أنّ ما یجری علی شیء یجری علی نظیره،ولیس معنی القیاس إلاّ هذا.

وبعبارة اخری،هی:إنّ الله تعالی أمرَنا بالاعتبار،ومعنی الاعتبار هو العبور و المجاوزة والانتقال من الشیء إلی غیره،وما القیاس إلاّ انتقال بالحکم من المقیس علیه إلی المقیس،ولمّا کان الاعتبار مأموراً به بنصّ هذه الآیة،والقیاس فردٌ من أفراد الاعتبار،فیکون القیاس مأموراً به،والمأمور به واجب،والواجب مشروع غیر محظور،فیکون القیاس حجّة شرعیة،ودلیلاً معتبراً یلزم العمل بمقتضاه. (1)

و قد اعتُرض علی هذا الاستدلال بأنّ المراد بالاعتبار فی الآیة المبارکة الاتّعاظ،فإنّ الاعتبار فی اللّغة بمعنی الاتّعاظ،ولأنّ المتبادر إلی الفهم عند الإطلاق هو هذا المعنی.وقال فی المحصول:إنّه لا یقال لمن یستعمل القیاس العقلی أنّه معتبر. (2)

ولأنّ الاتّعاظ هو الأنسب بمعنی الآیة الواردة فی الذین کفروا من أهل الکتاب،إذ قذف الله فی قلوبهم الرُّعب یخرّبون بیوتهم بأیدیهم وأیدی المؤمنین.وأین هی من القیاس الذی نحن فیه؟فالقیاس الشرعی لا یناسب صدر الآیة; لأنّ معنی الآیة یصبح حینئذٍ:یخرّبون بیوتهم بأیدیهم وأیدی المؤمنین،فقیسوا مثلاً الذرّة علی البرّ فی تحریم الزیادة الربویة،وفی هذا غایة الرکاکة،وکلام الحکیم تعالی مصونٌ منه. (3)

ص:472


1- (1) .راجع:الوجیز:220؛شرح المعالم:257/2 وما بعدها؛اُصول الفقه الإسلامی:622/1؛الوسیط:180/1؛المحصول:10891090/3؛روضة الناظر:165؛الإحکام:291/4؛التوضیح وشرحه:116/2؛نزهة الخاطر:162163/2؛کشف الأسرار:407/3؛اُصول الجصّاص:213/2.
2- (2) .المحصول:1090/3؛العدّة فی الاُصول:673674/2.
3- (3) .راجع:قوانین الاُصول:182183/3؛اُصول الفقه:418/2؛فواتح الرحموت:543/2.

وقال ابن حزم فی کتابه إبطال القیاس و الرأی والاستحسان و التقلید و التعلیل:ومحال أن یقول لنا:فاعتبروا یا اولی الأبصار،ویرید القیاس،ثمّ لا یبین لنا فی القرآن ولا فی الحدیث أی شیء نقیس؟ولا متی نقیس أو لا علی أی نقیس؟ولو وجدنا ذلک لوجب أن نقیس ما أُمرنا بقیاسه حیث أمرنا وحرّم علینا أن نقیس ما لا نصّ فیه جملةً ولا نتعدّی حدوده. (1)

وقال الشوکانی:ویجاب عن الثانی(أی:الجواب الثانی الذی ذکره فی المحصول)بمنع وجود معنی المجاوزة فی الاتّعاظ،فإنّ من نظر فی شیء من المخلوقات فاتّعظ به،لا یقال فیه إنّه متّصفٌ بالمجاوزة لا لغةً ولا شرعاً ولا عقلاً،وأیضاً یمنع وجود المجاوزة فی القیاس الشرعی،ولیس فی اللّغة ما یفید ذلک البتّة،ولو کان القیاس مأموراً به فی هذه الآیة لکونه فیه معنی الاعتبار؛لکان کلّ اعتبار،أو عبور مأموراً به،واللاّزم باطل،فالملزوم مثله.

وبیانه:أنّه لم یقل أحدٌ من المتشرّعین ولا من العقلاء:إنّه یجب علی الإنسان أن یعبر من هذا المکان إلی هذا المکان أو یجری دمع عینه،أو یعبّر رؤیا الرائی،مع أنّ هذه الاُمور أدخل فی معنی العبور والاعتبار من القیاس الشرعی.

والحاصل:إنّ هذه الآیة لا تدلّ علی القیاس الشرعی،لا بمطابقة،ولا تضمّن،ولا التزام،ومن أطال الکلام فی الاستدلال بها علی ذلک،فقد شغل الحیز بما لا طائل تحته. (2)

**قال المحقّق الحکیم:ومع التنزّل وافتراض مجیء الآیة لبیان هذا المعنی ولو بإطلاقها إلاّ أنّها واردة لجعل الحجّیة لأصل القیاس کدلیل،وأصل القیاس لا ینبغی أن یکون موضعاً لنقاش جذری،لما سبق أن قلنا:من أنّ حجیته تقتضی أن تکون من

ص:473


1- (1) .راجع:اُصول الفقه للمظفّر:418/2-419؛الوسیط:181/1؛اُصول الفقه الإسلامی:623/1؛المحصول:1091/3 وما بعدها؛کشف الأسرار:407408/3.
2- (2) .إرشاد الفحول:81/2.

الضروریات العقلیة،و إنّما الخلاف الجذری فی الطرق و المسالک الکاشفة عن توفّر العلّة فی الأصل و الفرع،والدلیل الوارد لجعل الحجّیة لأصل الدلیل لا یتعرّض إلی طرق إثباته،فکما أنّ الأدلّة الدالّة علی أنّ السنّة النبویة من مصادر التشریع لا تتکفّل جعل الحجّیة لخبر الواحد الحاکی لها،بل نحتاج فی الاستدلال علیه إلی أدلّة اخری،فکذلک هنا. (1)

الآیة الثانیة

قوله تعالی: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ . (2)

*و هذه الآیة هی التی استدلّ بها الشافعی علی حجیته،حیث قال:فهذا تمثیل الشیء بعدله،وقال تعالی: یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ ،وأوجب المثل ولم یقل أی مثل،فوکّل ذلک إلی اجتهادنا ورأینا،وأمرنا بالتوجّه إلی القبلة بالاستدلال،وقال: وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ ،انتهی. (3)

قال الشوکانی فی جواب هذا الاستدلال:ولا یخفاک أنّ غایة ما فی آیة الجزاء هو المجیء بمثل ذلک الصید،وکونه مثلاً له موکولٌ إلی العدلین،ومفوّضٌ إلی اجتهادهما،ولیس فی هذا دلیلٌ علی القیاس الذی هو إلحاق فرع بأصل لعلّة جامعة،وکذلک الأمر بالتوجّه إلی القبلة،فلیس فیه إلاّ إیجاب تحرّی الصواب فی أمرها،ولیس ذلک من القیاس فی شیء. (4)

وأیضاً قیل:إنّ الشارع ترک لنا أمر تشخیص الموضوعات،إلاّ أنّه علی وفق ما جعل لها الشارع أو العقل من الطرق،وکون القیاس الظنّی من هذه الطرق کالبینة هو موضع الخلاف،والآیة أجنبیة عن إثباته.

ص:474


1- (1) .الاُصول العامّة:335.
2- (2) .المائدة:95.
3- (3) .راجع:إرشاد الفحول:81/2؛الاُصول العامّة:337.
4- (4) .إرشاد الفحول:8182/2.

ثمّ إنّ الشافعی لو أراد أنّ تشخیص صغریات الموضوع أو المتعلّق من القیاس موکولٌ لنا،لا یعرف له وجه; لأنّ القیاس بجمیع تعاریفه لا ینطبق علیه،فتشخیص أنّ هذا مثلٌ،أو أنّ هذه قبلة بالطرق الاجتهادیة إنّما هو من تحقیق المناط بمعناه الأوّل،و قد قلنا:إنّه لیس بقیاس بالبرهان الذی سبق ذکره. (1)

الآیة الثالثة

قوله تعالی: قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ . (2)

*قیل فی تقریب دلالتها:إنّ الله عزّ وجلّ استدلّ بالقیاس علی ما أنکره منکرو البعث،فإنّ الله عزّ وجلّ قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها علی بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة؛لإقناع الجاحدین بأنّ من قدر علی بدء خلق الشیء قادرٌ علی أن یعیده،بل هذا أهون علیه،فهذا الاستدلال بالقیاس إقرارٌ لحجیة القیاس وصحّة الاستدلال به،و هو قیاسٌ فی الحسیات ولکنّه یدلّ علی أنّ النظیر ونظیره یتساویان. (3)

أجاب فی إرشاد الفحول عنه:بمنع کون هذه الآیة تدلّ علی المطلوب،لا بمطابقة،ولا تضمّن،ولا التزام،وغایة ما فیها الاستدلال بالأثر السابق علی الأثر اللاّحق،وکون المؤثّر فیهما واحداً،وذلک غیر القیاس الشرعی الذی هو إدراج فرع تحت أصل لعلّة جامعة بینهما. (4)

**وقال فی الاُصول العامّة:إنّ هذه الآیة لو کانت واردة لبیان الإقرار علی حجّیة القیاس لصحّ أن یعقّب بمضمون هذا الإقرار،ولسلم الکلام کأن نقول:قُل یحییها الذی أنشأها أوّل مرّة،فقیسوا النبیذ علی الخمر،والذرّة علی البرّ..وهکذا،ولکم بعد

ص:475


1- (1) .الاُصول العامّة:337.
2- (2) .یس:78 و 79.
3- (3) .الاُصول العامّة:336.
4- (4) .إرشاد الفحول:82/2.

ذلک أن تقدّروا قیمة هذا النوع من الکلام لو صدرَ من وِجهة بلاغیة،وهل یتّسع هذا النوع من الکلام لمثله؟!

ولو سلّم ذلک جدلاً،فالآیة غایة ما تدلّ علیه هو مساواة النظیر للنظیر،أی:جعل الحجّیة لأصل القیاس لا لمسالکه،والدلیل الذی یتکفّل حجّیة الأصل لا یتکفّل بیان ما یتحقّق به. (1)

واُجیب أیضاً:بأنّ الآیة لا تدلّ علی هذه المساواة بین النظیرین کنظیرین فی أیة جهة کانت،کما أنّها لیست استدلالاً بالقیاس،و إنّما جاءت لرفع استغراب المُنکرین للبعث،إذ یتخیلون العجز عن إحیاء الرمیم،فأرادت الآیة أن تُثبت الملازمة بین القدرة علی إنشاء العظام وإیجادها لأوّل مرّة بلا سابق وجود وبین القدرة علی إحیائها من جدید،بل القدرة علی الثانی أولی،و إذا ثبتت الملازمة،والمفروض أنّ الملازم(و هو القدرة علی إنشائها أوّل مرّة)موجودٌ مسلّم،فلا بدّ أن یثبت اللاّزم-و هو القدرة علی إحیائها وهی رمیم-وأین هذا من القیاس؟

ولو صحّ أن یراد من الآیة القیاس،فهو نوع قیاس الأولویة المقطوعة،وأین هذامن قیاس المساواة المطلوب إثبات حجیته،و هو الذی یبتنی علی ظنّ المساواة فی العلّة؟ (2)

مع أنّ قول المستدلّ:إنّها تدلّ علی أنّ النظیر ونظیره یتساویان غیر صحیح علی إطلاقه،إذ غایة ما تدلّ علیه هی مساواة النظیر للنظیر فی الاُمور المحسوسة التکوینیة،فتعمیمها للغیر أعنی:الاُمور الشرعیة،لا یتمّ إلاّ بضرب من القیاس الظنّی،وحجیة هذا القیاس موضع البحث وموضوعه.

ص:476


1- (1) .الاُصول العامّة:336.
2- (2) .اُصول الفقه للمظفّر:419/2؛أعلام الموقّعین:130/1.

الآیة الرابعة

قوله تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ، (1)استدلّ بهذه الآیة ابن تیمیة.

*وتقریره:إنّ العدل هو التسویة،والقیاس هو التسویة بین مثلین فی الحکم،فیتناوله عموم الآیة.ویجاب عنه:بمنع کون الآیة دلیلاً علی المطلوب بوجه من الوجوه،ولو سلّمنا لکان ذلک فی الأقیسة التی قام الدلیل علی نفی الفارق فیها،فإنّه لا تسویة إلاّ فی الاُمور المتوازنة،ولا توازن إلاّ عند القطع بنفی الفارق،لا فی الأقیسة التی هی شعبة من شعب الرأی،ونوع من أنواع الظنون الزائفة و المردودة،وخصلة من خصال الخیالات المختلفة. (2)

**ویمکن أن یقال:إنّ هذه لو تمّت دلالتها علی الأمر بالقیاس بما أنّه عدل،فهی إنّما تدلّ علی أصل القیاس لا علی مسالکه المظنونة. (3)

وقال الغزالی:و قد تمسّک القائلون بالقیاس بهذه الآیات،ولیست مرضیة؛لأنّها لیست بمجرّدها نصوصاً صریحة إن لم تنضمّ إلیها قرائن. (4)

وقال الشیخ الطوسی:و هذه الآیات لا تخلو أن یکون المستدلّ بها یعتمدها فی جواز التعبّد بالظنون أو فی وجوب التعبّد بها:فإنّ کان الأوّل کان ذلک صحیحاً،وذلک ممّا قدّمنا جوازه،و إن أراد الثانی کان ذلک باطلاً؛لأنّه لیس إذا ثبت التعبّد فی شیء بغالب الظنّ ینبغی أن یحمل غیره علیه؛لأنّ ذلک یصیر قیاساً،وکلامنا فی مسألة القیاس،فکیف یستدلّ بالشیء علی نفسه. (5)

ص:477


1- (1) .النحل:90.
2- (2) .إرشاد الفحول:8283/2.
3- (3) .الاُصول العامّة:338.
4- (4) .المستصفی:325/2.
5- (5) .العدّة فی الاُصول:675676/2.

الخلاصة

استدلّ القائلون بالقیاس بالأدلّة الأربعة(الکتاب،والسنة،والإجماع،والمعقول)علی حجیته و التعبّد به.

أمّا الکتاب،فبآیات منها:الاُولی:قوله تعالی: فَاعْتَبِرُوا یا أُولِی الْأَبْصارِ .

حُکی عن ثعلب أنّه قال:الاعتبار فی اللّغة،هو:ردّ حکم الشیء إلی نظیره،ومنه یسمّی الأصل الذی یردّ إلیه النظائر:عبرةً،ومنه قوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَةً لِأُولِی الْأَبْصارِ ،والرجل یقول:اعتبرت هذا الثوب بهذا الثوب،أی:سوّیته به فی التقدیر،و هذا هو حدّ القیاس،فظهر أنّه مأمورٌ به بهذا النصّ.

وقیل فی تقریب الاستدلال بها:إنّ الله تعالی أمرنا بالاعتبار،ومعنی الاعتبار هو العبور و المجاوزة والانتقال من الشیء إلی غیره،وما القیاس إلاّ انتقال بالحکم من المقیس علیه إلی المقیس،ولمّا کان الاعتبار مأموراً به بنصّ هذه الآیة،والقیاس فردٌ من أفراد الاعتبار،فیکون القیاس مأموراً به،والمأمور به واجب،والواجب مشروع غیر محظور،فیکون القیاس حجّة شرعیة،ودلیلاً معتبراً یلزم العمل بمقتضاه.

واعتُرض علیه:بأنّ المراد بالاعتبار الاتّعاظ،فإنّ الاعتبار فی اللّغة بمعنی الاتّعاظ،ولأنّ المتبادر إلی الفهم عند الإطلاق هو هذا المعنی،ولا یقال لمن یستعمل القیاس العقلی أنّه معتبر،ولأنّ الاتّعاظ هو الأنسب بمعنی الآیة الواردة فی الذین کفروا من أهل الکتاب.وأین هی من القیاس الذی نحن فیه؟فالقیاس الشرعی لا یناسب صدر الآیة،وهی لا تدلّ علی القیاس الشرعی لا بمطابقة،ولا تضمّن،ولا التزام.

وقال المحقّق الحکیم:ومع التنزّل وافتراض مجیء الآیة لبیان هذا المعنی ولو بإطلاقها إلاّ أنّها واردة لجعل الحجّیة لأصل القیاس کدلیل،وأصل القیاس لا ینبغی أن یکون موضعاً لنقاش جذری،إذ حجیته تقتضی أن تکون من الضروریات العقلیة،

ص:478

و إنّما الخلاف الأساسی فی الطرق و المسالک الکاشفة عن توفّر العلّة فی الأصل و الفرع،والدلیل الوارد لجعل الحجّیة لأصل الدلیل لا یتعرّض إلی طرق إثباته.

الثانیة:قوله تعالی: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ .

قال الشافعی فی الاستدلال بهذه الآیة:هذا تمثیل الشیء بعدله،وقال تعالی: یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ ،وأوجب المثل ولم یقل أی مثل،فوکّل ذلک إلی اجتهادنا ورأینا.

قال الشوکانی فی جوابه:ولا یخفاک أنّ غایة ما فی آیة الجزاء هو المجیء بمثل ذلک الصید،وکونه مثلاً له موکولٌ إلی العدلین،ومفوّضٌ إلی اجتهادهما،ولیس فی هذا دلیلٌ علی القیاس الذی هو إلحاق فرع بأصل لعلّة جامعة.

وقیل أیضاً:إنّ الشارع ترک لنا أمر تشخیص الموضوعات،إلاّ أنّه علی وفق ما جعل لها الشارع أو العقل من الطرق،وکون القیاس الظنّی من هذه الطرق کالبینة هو موضع الخلاف،والآیة أجنبیة عن إثباته.

ثمّ إنّ الشافعی لو أراد أنّ تشخیص صغریات الموضوع أو المتعلّق من القیاس موکولٌ لنا،لا یعرف له وجه; لأنّ القیاس بجمیع تعاریفه لا ینطبق علیه،فتشخیص أنّ هذا مثلٌ،أو أنّ هذه قبلة بالطرق الاجتهادیة إنّما هو من تحقیق المناط بمعناه الأوّل،وأنّه لیس بقیاس.

الثالثة:قوله تعالی: قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ .

قیل فی تقریب دلالتها:إنّ الله عزّ وجلّ استدلّ بالقیاس علی ما أنکره منکرو البعث،فإنّ الله تعالی قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها علی بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة؛لإقناع الجاحدین بأنّ من قدر علی بدء خلق الشیء قادرٌ علی أن یعیده،بل هذا أهون علیه،فهذا الاستدلال بالقیاس إقرارٌ لحجیة القیاس وصحّة الاستدلال به،و هو قیاسٌ فی الحسیات ولکنّه یدلّ علی أنّ النظیر ونظیره یتساویان.

ص:479

أجاب فی إرشاد الفحول عنه:بمنع کون هذه الآیة تدلّ علی المطلوب،لا بمطابقة،ولا تضمّن،ولا التزام،وغایة ما فیها الاستدلال بالأثر السابق علی الأثر اللاّحق،وکون المؤثّر فیهما واحداً،وذلک غیر القیاس الشرعی الذی هو إدراج فرع تحت أصل لعلّة جامعة بینهما.

وقال فی الاُصول العامّة:إنّ هذه الآیة لو کانت واردة لبیان الإقرار علی حجّیة القیاس لصحّ أن یعقّب بمضمون هذا الإقرار،ولسلم الکلام کأن نقول:قُل یحییها الذی أنشأها أوّل مرّة،فقیسوا النبیذ علی الخمر،والذرّة علی البرّ..وهکذا،و هذا النوع من الکلام هل له قیمة من وجهة بلاغیة؟ولو سلّم ذلک فغایة ما تدلّ علیه هذه الآیة هو مساواة النظیر للنظیر،أی:جعل الحجّیة لأصل القیاس،لا لمسالکه،واُجیب أیضاً:بأنّ الآیة إنّما جاءت لرفع استغراب المُنکرین للبعث،فأرادت الآیة أن تثبت الملازمة بین القدرة علی إنشاء العظام وإیجادها لأوّل مرّة بلا سابق وجود وبین القدرة علی إحیائها من جدید،بل القدرة علی الثانی أولی،وأین هذا من القیاس؟

ولو صحّ أن یراد من الآیة القیاس،فهو نوع قیاس الأولویة المقطوعة،وأین هذا من قیاس المساواة المطلوب إثبات حجیته،مع أنّ قول المستدلّ:«إنّها تدلّ علی أنّ النظیر ونظیره یتساویان»غیر صحیح علی إطلاقه،إذ غایة ما تدلّ علیه هی مساواة النظیر للنظیر فی الاُمور المحسوسة التکوینیة،فتعمیمها للغیر أعنی:الاُمور الشرعیة،لا یتمّ إلاّ بضرب من القیاس الظنّی،وحجیة هذا القیاس موضع البحث وموضوعه.

الرابعة:قوله تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ .

استدلّ بهذه الآیة ابن تیمیة،وتقریره:إنّ العدل هو التسویة،والقیاس هو التسویة بین مثلین فی الحکم،فیتناوله عموم الآیة.

ویجاب عنه:بمنع کون الآیة دلیلاً علی المطلوب بوجه من الوجوه،ولو سلّمنا لکان ذلک فی الأقیسة التی قام الدلیل علی نفی الفارق فیها،فإنّه لا تسویة إلاّ فی

ص:480

الاُمور المتوازنة،ولا توازن إلاّ عند القطع بنفی الفارق،لا فی الأقیسة التی هی شعبة من شعب الرأی.ویمکن أن یقال:إنّ هذه لو تمّت دلالتها علی الأمر بالقیاس بما أنّه عدل،فهی إنّما تدلّ علی أصل القیاس لا علی مسالکه المظنونة.

وقال الغزالی:و قد تمسّک القائلون بالقیاس بهذه الآیات،ولیست مرضیة؛لأنّها لیست بمجرّدها نصوصاً صریحة إن لم تنضمّ إلیها قرائن.

وقال الشیخ الطوسی:إن کان المستدلّ بها یعتمدها فی جواز التعبّد بالظنون کان ذلک صحیحاً،وذلک ممّا قدّمنا جوازه،و إن أراد وجوب التعبّد بها کان ذلک باطلاً.

ص:481

الأسئلة

1.اُذکر تقریب الاستدلال بقوله تعالی: إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَةً لِأُولِی الْأَبْصارِ علی حجّیة القیاس.

2.اُذکر الاعتراض علی هذا الاستدلال.

3.ما هو المتبادر إلی الفهم من الاعتبار عند الإطلاق؟

4.اُذکر استدلال الشافعی بقوله تعالی: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ علی حجّیة القیاس.

5.اُذکر جواب الشوکانی عن استدلال الشافعی.

6.لِمَ لا یکون القیاس الظنّی من طرق تشخیص الموضوعات؟

7.اُذکر تقریب الاستدلال بالآیة الکریمة: قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَ هِیَ رَمِیمٌ... علی حجّیة القیاس.

8.اُذکر جواب صاحب إرشاد الفحول عن الاستدلال المذکور.

9.وضّح وبین قول القائل:بأنّ الآیة إنّما جاءت لرفع استغراب المنکرین للبعث.

10.لِمَ لا یصحّ تعمیم مساواة النظیر للنظیر للاُمور الشرعیة؟

11.اُذکر استدلال ابن تیمیة بقوله تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ علی حجّیة القیاس.

12.اُذکر الإیراد علی هذا استدلال ابن تیمیة،ولماذا لا تسویة فی الأقیسة التی هی شعبة من الرأی؟

ص:482

الدرس الرابع و الخمسون بعدالمئة

دلیل السنّة

اشارة

*و أمّا ما استُدلّ به من السنّة،فروایات متعدّدة.قال ابن التلمسانی:إنّها متظافرة، (1)وقیل:أکثر من أن تحصی،وأشهر من أن تخفی، (2)بل ادّعی بعضهم وصولها إلی حدّ التواتر المعنوی، (3)منها:

حدیث معاذ بن جبل

قال فی إرشاد الفحول:إنّهم قد استدلّوا لإثباته من السنّة بقوله صلی الله علیه و آله فیما أخرجه أحمد وأبو داود و الترمذی وغیرهم من حدیث الحارث بن عمرو-ابن أخی المغیرة بن شعبة-قال:حدّثنا ناس من أصحاب معاذ،عن معاذ،قال:

لمّا بعثه النبی صلی الله علیه و آله إلی الیمن،قال:کیف تقضی إذا عرض لک قضاء؟قال:

ص:483


1- (1) .شرح المعالم:259/2.
2- (2) .راجع:اُصول السرخسی:129/2؛کشف الأسرار:410/3.
3- (3) .راجع:الإحکام:296/4؛التلویح علی التوضیح:119/2؛اُصول الفقه الإسلامی:624/1؛الوسیط:182/1؛کشف الأسرار:412/3؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:661.

أقضی بکتاب الله،قال:فإن لم تجد فی کتاب الله؟قال:فبسنّة رسول الله،قال:فإن لم تجد فی سنّة رسول الله،ولا فی کتاب الله؟قال:أجتهد رأیی ولا آلو،قال:فضرب رسول الله صلی الله علیه و آله صدره وقال:الحمد لله الذی وفّق رسول رسول الله لما یرضاه رسول الله. (1)

قیل فی تقریبه:إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله أقرّ الاجتهاد بالرأی فی طول النصّ بإقراره لاجتهاد معاذ،و هو شامل بإطلاقه للقیاس،والقیاس من الرأی. (2)

ویرد علیه:

أوّلاً:من حیث السند،بما قاله الترمذی،و هو:هذا حدیث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه،ولیس إسناده عندی بمتّصل. (3)

وقیل:إنّ الحدیث مرسل لا حجّة فیه،بل قال فی شرح المعالم:أطبق المحدِّثون علی أنّ هذا الحدیث مرسل؛ (4)لأنّ راویه و هو الحارث بن عمرو ابن أخی المغیرة بن شعبة رواه عن اناس من أهل حمص،مع أنّ هذا الحدیث ضعیف بجهالة الحارث بن عمرو،حیث نصّوا علی أنّه مجهول،وبإغفال الراوی لذِکر من أخذ عنهم الحدیث من الناس من أصحاب معاذ.قال فی عون المعبود:و هذا الحدیث أورده الجوزقانی فی الموضوعات(أی:الأحادیث الموضوعة و الجعلیة)،وقال:هذا حدیث باطل رواه جماعة عن شعبة،و قد تصفّحت هذا الحدیث فی أسانید الکبار و الصغار،وسألت من

ص:484


1- (1) .إرشاد الفحول:83/2؛الاُصول العامّة:338-339.وراجع أیضاً:سنن أبی داود:410/3 ح3592-3593؛سنن الترمذی:557 ح1327؛مسند أحمد بن حنبل:303/6 ح 21502؛الطبقات الکبری:449450/2.
2- (2) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:625/1؛الوجیز:221؛المحصول:1097/3؛إرشاد الفحول:83/2؛الاُصول العامّة:339؛اُصول الفقه للمظفّر:420/2؛کشف الأسرار:411/3؛الإحکام:293/4؛اُصول الجصّاص:228/2.
3- (3) .سنن الترمذی:558 ح1328.
4- (4) .شرح المعالم:261/2.

لقیته من أهل العلم بالنقل عنه،فلم أجد له طریقاً غیر هذا،وأصحاب معاذ من أهل حمص لا یعرفون،ومثل هذا الإسناد لا یعتمد علیه فی أصل الشریعة.

فإن قیل:إنّ الفقهاء قاطبةً أوردوه واعتمدوا علیه،قیل:هذا طریقه،والخلف قلّد فیه السَّلف،فإن أظهروا طریقاً غیر هذا ممّا یثبت عند أهل النقل رجعنا إلی قولهم،و هذا ممّا لا یمکنهم البتّة. (1)

*لکن قال الغزالی:و هذا حدیثٌ تلقّته الاُمّة بالقبول،ولم یظهر أحد فیه طعناً وإنکاراً،وما کان کذلک لا یقدح فیه کونه مرسلاً،بل لا یجب البحث عن إسناده، (2)بل قال فخر الإسلام:و هذا نصٌّ صحیح. (3)

ونقل الزحیلی عن التاریخ الکبیر للبخاری أنّه قال:مرسل،إلاّ أنّ عدم اتّصال إسناده لا یمنع صحّته؛لأنّه مروی عن أصحاب معاذ،وهم کلّهم ثقات. (4)

یقال:وفی قِبال هؤلاء قال الرازی:إنّه مرسل،والمرسل لیس بحجّة.سلّمنا أنّه لیس بمرسل،ولکنّه ورد فی إثبات القیاس والاجتهاد،وأنّه أصلٌ عظیم فی الشرع،والدواعی تکون متوفّرة علی نقل ما هذا شأنه،وما یکون کذلک وجب بلوغه فی الاشتهار إلی حدّ التواتر،فلمّا لم یکن کذلک علمنا أنّه لیس بحجّة.والحاصل أنّه مرسل،فوجب أن لا یکون حجّة عند الشافعی، (5)وخبر غریب فیما یعمّ به البلوی،فلا یکون حجّة عند أصحاب أبی حنیفة،فکان الإجماع من الفریقین(الأحناف و الشافعیة)منعقداً علی سقوط الاحتجاج. (6)

ص:485


1- (1) .هامش الأحکام السلطانیة:46؛الاُصول العامّة:339؛اُصول الفقه:420/2.
2- (2) .المستصفی:325/2؛اُصول الفقه الإسلامی:626627/1؛الوسیط:185/1؛روضة الناظر:166؛نزهة الخاطر:163/2.
3- (3) .کشف الأسرار:411/3.
4- (4) .الوسیط:183/1،ذیل رقم 1؛اُصول الفقه الإسلامی:627/1.
5- (5) .المحصول:1098/3.
6- (6) .کشف الأسرار:411/3؛المحصول:1098/3؛الإحکام:296/4.

أقول:قد عرفت کلام الجوزقانی فی إسناده،حتّی إنّه أورده فی الموضوعات،و أمّا ما قاله الغزالی من أنّه«تلقّته الاُمّة بالقبول»،فقد خفی علیه أنّ الاستدلال علی القیاس به جعله مشهوراً وتصوّر أنّ الاُمّة تلقّته بالقبول،مع أنّ غیر مثبتی القیاس لم یقبلوه،بل بعضهم تأوّله،و أنّ المثبتین للقیاس لا یصلحون لتقویة حدیث هذا سنده؛لکونهم من المتأخّرین،وأخذهم به لا یکشف عن قوّة فی سنده خفیت علینا عادةً،و قد أوردوه کغیره من الأحادیث دلیلاً علی الأخذ بالقیاس،فلو کان مجرّد أخذهم به یوجب تقویته له،لکان حال ما أخذوا به من الأحادیث الضعیفة حاله فی التقویة،و هو ما لم یدّعوه لها علی الإطلاق. (1)

ویؤید ما ذکرناه بما قاله ابن حزم:و أمّا خبر معاذ،فإنّه لا یحلّ الاحتجاج به؛لسقوطه،وذلک أنّه لم یرو قطّ إلاّ من طریق الحارث بن عمرو،و هو مجهول لا یدری أحدٌ مَنْ هو.

إلی أن قال:فذکر محمّد بن إسماعیل البخاری سند هذا الحدیث وقال:ولا یعرف الحارث إلاّ بهذا،ولا یصحّ.هذا نصّ کلام البخاری فی تاریخه الأوسط،ثمّ هو عن رجال من أهل حمص لا یدری مَن هم. (2)

علمت أنّ ما حکاه الزحیلی عن التاریخ الکبیر للبخاری معارض بما حکاه ابن حزم عنه عن تاریخه الأوسط.

ومعارض أیضاً بما قاله الذهبی:الحارث بن عمرو،عن رجال،عن معاذ بحدیث الاجتهاد،قال البخاری:لا یصحّ حدیثه،قلت:تفرّد به أبو عون(محمّد بن عبیدالله الثقفی)عن الحارث بن عمرو الثقفی ابن أخی المغیرة،وما روی عن الحارث غیر أبی عون،و هو مجهول. (3)

ص:486


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة:339؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصّ فیه:134؛العدّة فی الاُصول:710/2-711.
2- (2) .الإحکام:207/5.وراجع:هامش جامع الاُصول:139/8؛تهذیب التهذیب:151152/2 برقم 259.
3- (3) .میزان الاعتدال:439/1 برقم 1635.

وحکی ابن حجر عن أبی المعالی الجوینی أنّه قال:إنّ هذا الحدیث مخرج فی الصحیح،ثمّ قال فی ردّه:وهم فی ذلک. (1)

الکلام،الکلام فی ردّ کلام فخر الإسلام و البخاری حیث صحّحا هذا الحدیث!!

وقال السید المرتضی و الشیخ الطوسی:علی أنّ الاُصول لو ثبتت بأخبار الآحاد لم یجز ثبوتها بمثل خبر معاذ؛لأنّ رواته مجهولون،وقیل:رواه جماعة من أصحاب معاذ،ولم یذکروا. (2)

وثانیاً:من حیث الدلالة،فإنّ هذا الحدیث غیر وافی الدلالة علی ما سیق لإثباته،لعدة امور:

أوّلاً:لأنّ إقرار النبی صلی الله علیه و آله لمعاذ-لو صحّت الروایة-ربّما کان لخصوصیة یعرفها النبی صلی الله علیه و آله فیه تبعّده عن الوقوع فی الخطأ ومجانبة الواقع،وإلاّ لما خوّله هذا التخویل المطلق فی استعمال الرأی،ومن عدم الاستفصال والاستفسار عن أقسام الرأی التی یستعملها فی مجالات اجتهاده مع کثرة ما فی هذه الأقسام من الآراء التی سلّم عدم حجّیتها حتّی من قِبل القائلین بالقیاس،ندرک هذه الخصوصیة،ولا أقلّ من احتمالها.

وثانیاً:إنّ القضاء منصبٌ خطیر معه الخطر إذ به تُصان الدماء و الأعراض و الأموال،کما به تُباح النوامیس و الشؤون الخطیرة،فهل یمکن أن یبعث النبی رجلاً ویخوّله التصرّف فی مهامّ الاُمور بإعمال الرأی من دون أن یحدّده علی وجه یصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع؟و هذا إن دلَّ علی شیء فإنّما یدلّ علی أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حکم الواقعة عن المصدرین بالتأمّل فیهما،لا إعمال الرأی بأقسامه المختلفة التی ربما لا تمسّ الواقع غالباً.و هذا یکشف عن وجود خصوصیة فی معاذ تصدّه عن استعمال الرأی الخارج عن حدود الکتاب و السنّة،وإلاّ لما خوّله صلی الله علیه و آله أمر القضاء من

ص:487


1- (1) .تهذیب التهذیب:152/2.
2- (2) .الذریعة إلی اصول الشریعة:773/2؛العدّة فی الاُصول:710711/2.

دون تحدیده،ویشهد علی ما ذکرنا ما حُکی من سیرة معاذ،حیث إنّه لم یکن یجتهد برأیه فی الأحکام،و إنّما کان یتوقّف حتّی یسأل النبی صلّی اللّه علیه و آله.

روی یحیی بن الحکم أنّ معاذاً قال:بعثنی رسول الله صلی الله علیه و آله اصدّقُ أهل الیمن،وأمرنی أن آخذ من البقر من کلّ ثلاثین تبیعاً،ومن کلّ أربعین مُسنّة،قال:فعرضوا علی آن آخذ من الأربعین،فأبیت ذاک،وقلت لهم:حتّی أسأل رسول الله صلی الله علیه و آله عن ذلک،فقدِمْتُ فأخبرتُ النبی صلّی اللّه علیه و آله،فأمرنی أن آخذ من کلّ ثلاثین تبیعاً،ومن کلّ أربعین مسنّة. (1)

فإذا کانت هذه سیرته،فکیف یقضی بالظنون والاعتبارات؟

و قد عرفت أنّ القضاء منصبٌ خطیرٌ لا یشغله إلاّ العارف بالکتاب و السنّة،فالذی نصّبه النبی للقضاء،لا بدّ وأن یعلّمه الکتاب و السنّة أوّلاً،ثمّ یبعثه إلی القضاء وفصل الخصومات،وعلی هذا یکون السؤال بقوله:«فکیف تصنع إن عرض لک قضاء؟أمراً لغواً،و هذا یعرب عن أنّ الحدیث لم ینقَل علی الوجه الصحیح.

قال الرازی:إنّ الحدیث یقتضی أنّه سأله عمّا به یقضی بعد أن نصّبه للقضاء،وذلک لا یجوز؛لأنّ جواز نصبه للقضاء مشروطٌ بصلاحیته للقضاء،و هذه الصلاحیة إنّما تثبت لو ثبت کونه عالماً بالشیء الذی یجب أن یقضی به،والشیء الذی لا یجب أن یقضی به. (2)

وثالثاً:إنّ الاستدلال بهذا الحدیث مبنی علی مساواة الاجتهاد بالقیاس،یعنی أنّ قوله:

«فإن لم تجد فی سنّة رسول الله ولا فی کتاب الله؟»یجب أن یحمَل علی عمومه،وعلی أنّه لم(تجد)علی کلّ حال،و إذا حُمل علی ذلک،فلیس وراءه إلاّ الرجوع إلی القیاس الذی یقولون به،بل لا یجب حمل الکلام علی عمومه عند أکثر الإمامیة علی

ص:488


1- (1) .مسند أحمد بن حنبل:318/6 ح21579.
2- (2) .المحصول:1101/3.وراجع:الإحکام:296/4.

أنّهم لا یقولون بذلک؛لأنّ الاجتهاد فی کتاب الله وسنّة رسوله حتّی یتوصّل إلی حکم الله عن طریقهما؛لأنّ الأحکام علی قسمین:قسمٌ موجود فی ظواهر الکتاب و السنّة،ولایحتاج إلی بذل الجهد،بل یعرفه کلّ من یعرف اللّغة،وقسمٌ منه غیر موجودٌ فی ظواهره،لکن یمکن التوصّل إلیها عن طریقهما بالتدبّر فیهما،و هذا هو الاجتهاد الدارج بین العلماء،وأین هذا من القیاس الذی ورد فیه النصّ علی حکم الأصل دون الفرع و القایس یبذل جهده لیجد فیهما التشابه حتّی یسری حکم الأصل إلی الفرع؟

قال السید المرتضی و الشیخ الطوسی:لم یکن فی هذا الخبر دلالة علی حجّیة القیاس؛لأنّه قال:أجتهد رأیی،ولم یقُل فی ماذا؟ولا ینکر أن یکون معناه:أجتهد رأیی حتّی أجد حکم الله تعالی فی الحادثة من الکتاب و السنّة،إذا کان فی أحکام الله فیهما ما لا یتوصّل إلیه إلاّ بالاجتهاد،ولا یوجد فی ظواهر النصوص،فادّعاؤهم إنّ إلحاق الفرع بالأصل فی الحکم لعلّة یستخرجها القیاس هو الاجتهاد زیادةً فی الخبر بما لا دلیل علیه،ولا سبیل إلی تصحیحه. (1)

ورابعاً:إنّ الحدیث معارضٌ بحدیث آخر فی نفس الواقعة،إذ جاء فیه:

«لا تقضینّ ولا تفصلنّ إلاّ بما تعلم،و إن أشکل علیک أمرٌ فقِف حتّی تبینه أو تکتب إلی فیه». (2)وهی متّصلة السند،ولکن المتن غیر ما جاء فی الحدیث،بل یغایره تماماً وینفی مقالة حماة القیاس.وذکر ابن ماجة القزوینی فی هذا الباب أحادیث اخر تدلّ علی لزوم الاجتناب من إعمال القیاس،فلیراجع.

وخامساً:إنّ روایة معاذ قد وردت مختلفة،فجاء فی بعضها أنّه لمّا قال:أجتهد رأیی،قال علیه السّلام:

«لا،اُکتب إلی أکتب إلیک»،و هذا یوجب أن یکون الأمر فیما لا یجده فی الکتاب و السنّة موقوفاً علی ما یکتب إلیه لا علی اجتهاده. (3)

ص:489


1- (1) .الذریعة إلی اصول الشریعة:776/2؛العدّة فی اصول الفقه:712/2.
2- (2) .سنن ابن ماجه:43/1 ح55 باب اجتناب الرأی و القیاس.
3- (3) .راجع:الذریعة إلی اصول الشریعة:773774/2؛العدّة فی اصول الفقه:711/2.

ولا أقلّ من تخصیص هذا الحدیث بخروج الآراء الفاسدة جمعاً بین الأدلّة علی طریقة أخذ بعضهم بالجموع التبرّعیة،أو أخذاً بالضرورة من أنّ هذا الحدیث لم یبق علی عمومه بالنسبة إلی کلّ رأی. (1)

***قال أحمد بن یحیی بن المرتضی:و هذا الخبر هو أقوی ما یعتمد فی الاحتجاج علی التعبّد بالقیاس،لوجوه منها:إنّه قد ظهر إجماع الصحابة علی العمل بالقیاس،ولا بدّ لهم من مستند لإجماعهم یتّصل برسول الله،ولا مستند أوضح من هذا الخبر.

ومنها:إنّ الاُمّة تلقّته بالقبول،ولم ینکره أحد،و إنّما اختلفوا فی المراد به،فوجب کونه صحیحاً.

ومنها:إنّه روی من جهات کثیرة،وطرق مختلفة،فمعناه متوافر و إن اختلف اللّفظ.

قال أبو علی:یجوز أنّ الصحابة قالوا بالقیاس،وأجمعوا لأجله،ولم یقطع أنّه عنه،وقوّی أبو هاشم ذلک وبین أنّه إذا لم یظهر سوی هذا الحدیث،فیجب أن یکون إطباقهم علی القیاس،وأجمعوا لأجله. (2)

ص:490


1- (1) .راجع:الذریعة إلی اصول الشریعة:773/2 وما بعدها؛العدّة فی اصول الفقه:709/2 وما بعدها؛الاُصول العامّة:338 وما بعدها؛اُصول الفقه:420/2؛الإنصاف:464/2 وما بعدها.
2- (2) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:660661؛صفوة الاختیار:296298.

الخلاصة

و أمّا ما استُدلّ به من السنّة فروایات متعدّدة متظافرة،وقیل:أکثر من أن تحصی،وأشهر من أن تخفی،بل ادّعی بعضهم وصولها إلی حدّ التواتر المعنوی،منها:حدیث معاذ بن جبل،قال:لمّا بعثه النبی صلی الله علیه و آله إلی الیمن،قال:کیف تقضی إذا عرض لک قضاء؟قال:أقضی بکتاب الله،قال:فإن لم تجد فی کتاب الله؟قال:فبسنّة رسول الله،قال:فإن لم تجد فی سنّة رسول الله ولا فی کتاب الله؟قال:أجتهد رأیی ولا آلو،قال:فضرب رسول الله صلی الله علیه و آله صدره وقال:الحمد لله الذی وفّق رسول رسول الله لما یرضاه رسول الله.

قیل فی تقریبه:إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله أقرّ الاجتهاد بالرأی فی طول النصّ بإقراره لاجتهاد معاذ،والحدیث شامل بإطلاقه للقیاس،والقیاس من الرأی.

ویرد علیه:

أوّلاً:من حیث السند،قول الترمذی:هذا حدیث لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ولیس إسناده عندی بمتّصل.

وقیل:إنّ الحدیث مرسل لا حجّة فیه،بل أطبق المحدِّثون علی إرساله،وقیل:هذا الحدیث أورده الجوزقانی فی الموضوعات.

إن قیل:إنّ الفقهاء قاطبةً أوردوه واعتمدوا علیه،بل قال الغزالی:و هذا حدیثٌ تلقّته الاُمّة بالقبول،ولم یظهر أحد فیه طعناً وإنکاراً،وما کان کذلک فلا یقدح فیه کونه مرسلاً،وقال فخر الإسلام:و هذا نصٌّ صحیح.

یقال:وفی قِبال هؤلاء قال الرازی:إنّه مرسل،والمرسل لیس بحجّة.سلّمنا أنّه لیس بمرسل،ولکنّه ورد فی إثبات القیاس والاجتهاد،وأنّه أصلٌ عظیم فی الشرع،وما یکون کذلک وجب بلوغه فی الاشتهار إلی حدّ التواتر،فلمّا لم یکن کذلک علمنا أنّه

ص:491

لیس بحجّة،فوجب أن لا یکون حجّة عند الشافعی،وخبر غریب فیما یعمّ به البلوی،فلا یکون حجّة عند أصحاب أبی حنیفة،فکان الإجماع من الفریقین منعقداً علی سقوط الاحتجاج به.

أقول:قد علمت کلام الجوزقانی فی أنّه من الموضوعات،و أمّا ما قاله الغزالی«من أنّه تلقّته الاُمّة بالقبول»،فقد خفی علیه أنّ الاستدلال علی القیاس به جعله مشهوراً،وتصوّر أنّ الاُمّة تلقّته بالقبول،مع أنّ غیر مثبتی القیاس لم یقبلوه،بل بعض من القایسین تأوّله،و أنّ المثبتین للقیاس لا یصلحون لتقویة حدیث هذا سنده؛لکونهم من المتأخّرین.

وقاله ابن حزم:إنّ الحارث بن عمرو مجهول،وحکی الذهبی عن البخاری أنّ الحارث ابن عمرو لا یصحّ حدیثه،وقال نفسه:إنّه مجهول،وأیضاً قال السید المرتضی و الشیخ الطوسی:إنّ رواة خبر معاذ مجهولون،هذا کان من حیث سنده.

وثانیاً:من حیث الدلالة،فإنّ هذا الحدیث غیر وافی الدلالة علی ما سیق لإثباته،لاُمور:

أوّلاً:لأنّ إقرار النبی صلی الله علیه و آله لمعاذ-لو صحّت الروایة-ربّما کان لخصوصیة یعرفها النبی صلی الله علیه و آله فیه،وإلاّ لما خوّله وأعطاه هذا التخویل المطلق فی استعمال الرأی،ومن عدم الاستفصال والاستفسار عن أقسام الرأی ندرک هذه الخصوصیة،ولا أقلّ من احتمالها.

وثانیاً:إنّ القضاء منصبٌ خطیر معه الخطر،فهل یمکن أن یبعث النبی صلّی اللّه علیه و آله رجلاً ویخوّل له التصرّف فی مهامّ الاُمور بإعمال الرأی من دون أن یحدّده علی وجه یصونه عن الخطأ؟و هذا یکشف عن وجود خصوصیة فی معاذ،والشاهد علی ما ذکرنا ما حُکی من سیرة معاذ،حیث إنّه لم یکن یجتهد برأیه فی الأحکام،و إنّما کان یتوقّف حتّی یسأل النبی صلّی اللّه علیه و آله.

روی یحیی بن الحکم أنّ معاذاً قال:بعثنی رسول الله صلی الله علیه و آله اصدّقُ أهل الیمن،وأمرنی أن آخذ من البقر من کلّ ثلاثین تبیعاً،ومن کلّ أربعین مُسنّة،قال:فعرضوا علی آن آخذ من الأربعین فأبیت ذاک،وقلت لهم:حتّی أسأل رسول الله صلی الله علیه و آله عن

ص:492

ذلک،فقدِمْتُ فأخبرتُ النبی صلّی اللّه علیه و آله،فأمرنی أن آخذ من کلّ ثلاثین تبیعاً،ومن کلّ أربعین مسنّة.فإذا کانت هذه سیرته،فکیف یقضی بالظنون والاعتبارات؟

و قد عرفت أنّ القضاء منصبٌ خطیرٌ لا یشغله إلاّ العارف بالکتاب و السنّة،فالذی نصّبه النبی للقضاء،لا بدّ وأن یعلّمه الکتاب و السنّة أوّلاً،ثمّ یبعثه إلی القضاء،وعلی هذا یکون السؤال:«فکیف تصنع إن عرض لک قضاء؟...إلخ»أمراً لغواً،و هذا یعرب عن أنّ الحدیث لم ینقَل علی الوجه الصحیح،ویؤید ذلک ما رواه الرازی فی المحصول،فلیراجع.

وثالثاً:إنّ الاستدلال بهذا الحدیث مبنی علی مساواة الاجتهاد بالقیاس،یعنی أنّ قوله:«فإن لم تجد فی سنّة رسول الله ولا فی کتاب الله»یجب أن یحمَل علی عمومه،وعلی أنّه لم تجد علی کلّ حال،و إذا حُمل علی ذلک،فلیس وراءه إلاّ الرجوع إلی القیاس الذی یقولون به،بل لا یجب حمل الکلام علی عمومه عند أکثر الإمامیة؛لأنّ الاجتهاد فی کتاب الله وسنّة رسوله حتّی یتوصّل إلی حکم الله عن طریقهما.

ورابعاً:إنّ الحدیث معارضٌ بحدیث آخر فی نفس الواقعة،إذ جاء فیه:«لا تقضینّ ولا تفصلنّ إلاّ بما تعلم،و إن أشکل علیک أمرٌ فقِف حتّی تبینه أو تکتب إلی فیه»،وهی متّصلة السند،ولکن المتن غیر ما جاء فی الحدیث.

وخامساً:إنّ روایة معاذ قد وردت مختلفة،فجاء فی بعضها أنّه لمّا قال:أجتهد رأیی،قال علیه السّلام:«لا،اُکتب إلی أکتب إلیک»،و هذا یوجب أن یکون الأمر فیما لا یجده فی الکتاب و السنّة موقوفاً علی ما یکتب إلیه لا علی اجتهاده.

ولا أقلّ من تخصیص هذا الحدیث بخروج الآراء الفاسدة جمعاً بین الأدلّة علی طریقة أخذ بعضهم بالجموع التبرّعیة،أو أخذاً بالضرورة من أنّ هذا الحدیث لم یبق علی عمومه بالنسبة إلی کلّ رأی.

ص:493

الأسئلة

1.اُذکر الإیرادات الواردة علی سند حدیث معاذ.

2.اُذکر المؤیدات التی ذکروها لتصحیح سند حدیث معاذ.

3.لِمَ لا یکون حدیث معاذ وافی الدلالة علی ما سیق لإثباته؟

4.لماذا یکون سؤال:«فکیف تصنع إن عرض لک قضاء..إلخ»أمراً لغواً؟

5.وضّح وبین الإیراد الثالث علی حدیث معاذ.

6.اُذکر الإیراد الرابع علی حدیث معاذ.

7.لماذا لا بدّ من تخصیص هذا الحدیث بخروج الآراء الفاسدة؟

ص:494

الدرس الخامس و الخمسون بعدالمئة

دلیل السنّة

بعث معاذ وأبی موسی إلی الیمن قاضیین

قال فی الإحکام:وأیضاً ما روی عنه علیه السّلام،أنّه قال لمعاذ وأبی موسی الأشعری و قد أنفذهما إلی الیمن:

«بِمَ تقضیان؟فقالا:إن لم نجد الحکم فی الکتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر،فما کان أقرب إلی الحقّ عملنا به».

صرّحا بالعمل بالقیاس،والنبی صلی الله علیه و آله أقرّهما علیه،فکان حجّة. (1)

قیل فی جوابه:الظاهر إنّ الحدیث منقولٌ بالمعنی حسب فهم الراوی،إذ لم نعثر علی هذا النصّ فی الصحاح و المسانید.نعم،أخرج أحمد عن أبی بردة،عن أبی موسی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله بعث معاذاً إلی الیمن وأبا موسی إلی الیمن،فأمرهما أن یعلّما الناس القرآن، (2)فالروایة مرسلة (3)أوّلاً،وإجابة الرجلین بجواب واحد فی زمان واحد

ص:495


1- (1) .راجع:الإحکام:293/4؛المحصول:1096/3؛المعتمد:222/2.
2- (2) .مسند أحمد بن حنبل:540/5 ح 19050؛الطبقات الکبری:76/3.
3- (3) .لکن أسند ابن سعد عن أبی بردة،عن أبیه،عن جدّه أنّ النبی صلی الله علیه و آله بعثه ومعاذ إلی الیمن،فعلی هذا لا یکون مرسلاً،بل یکون مسنداً.

بعید ثانیاً،واختصاصها بالقضاء ثالثاً،وتفویض أمر القضاء إلی رأی الرجلین بدون تحدید له،یلازم التهاون بالنوامیس رابعاً،فلا محیص عن القول بوجود خصوصیة فیهما کانت تصدّهما عن الإفتاء بالرأی الذی لیس له جذرٌ فی الکتاب و السنّة.

مع أنّ الرجلین کان کلّ واحد منهما فی ناحیة،قال ابن سعد فی طبقاته:کان رسول الله صلی الله علیه و آله قد قسّم الیمن علی خمسة رجال:خالد بن سعید علی صنعاء،والمهاجر بن أبی امیة علی کندة،وزیاد بن لبید علی حضرموت،ومعاذ بن جبل علی الجند،وأبی موسی علی زبید وعدن الساحل. (1)

وظاهره یدلّ علی أنّ إعزامهم لم یکن فی زمان واحد،ولو کان فلِمَ لم یدخل سائرهما فی السؤال،و هذا یقوّی أنّ السؤال لم یکن فی وقت واحد،وأیضاً یؤید ما ذکر ما فعله السرخسی،حیث فصّل بین قوله صلی الله علیه و آله لمعاذ ولأبی موسی،فقال بعد ذکر حدیث معاذ:وقال لأبی موسی حین وجّهه إلی الیمن:أقضِ بکتاب الله،فإن لم تجد فبسنّة رسول الله،فإن لم تجد فاجتهد رأیک. (2)

ومع الغضّ عن ذلک کلّه وافتراض تمامیتها،فإنّ مقتضی لسانها جعل الحجّیة لأصل القیاس لا لمسالکه المظنونة التی هی موضع النزاع.

الأحادیث المُشعِرة باستعمال النبی صلی الله علیه و آله للقیاس

استدلّوا به أیضاً بما ثبت عن النبی صلی الله علیه و آله من القیاسات; لأنّ عمله حجّة باعتباره سنّة واجبة الاتّباع،والأحادیث التی ذکروها کثیرة،ونحن نجتزئ بذِکر بعض منها:

حدیث الجاریة الخثعمیة،أنّها قالت:

یا رسول الله إنّ أبی أدرکته فریضة الحجّ شیخاً زمِناً لا یستطیع أن یحجّ،إن

ص:496


1- (1) .الطبقات الکبری:1403/3؛الوسیط:182/1؛اُصول الفقه الإسلامی:624/1؛حلیة الأولیاء:240/1 وما بعدها.
2- (2) .اُصول السرخسی:130/2.

حججتُ عنه أینفعه ذلک؟فقال لها:أرأیتِ لو کان علی أبیک دینٌ فقضیته أکان ینفعه ذلک؟قالت:نعم،قال:فدین الله أحقّ بالقضاء. (1)

ووجه الاحتجاج أنّه صلی الله علیه و آله ألحق دین الله بدین الآدمی فی وجوب القضاء ونفعه،و هو عین القیاس. (2)

قال الغزالی:فهو تنبیهٌ علی قیاس دین الله تعالی علی دین الخلق،ولا بدّ من قرینة تعرّف القصد أیضاً،إذ لو کان لتعلّم القیاس لقاس علیه السّلام الصوم و الصلاة. (3)

وقال ابن قیم الجوزیة:فقرّب الحکم من الحکم،وجعل دین الله سبحانه فی وجوب القضاء أو فی قبوله بمنزلة دین الآدمی،وألحق النظیر بالنظیر. (4)

حدیث عمر عن جابر بن عبدالله،عن عمر بن الخطّاب،قال:هششت فقبّلت وأنا صائم،فقلت:یا رسول الله أتیت أمراً عظیماً قبّلتُ وأنا صائم،فقال:«أرأیت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟»قلت:لا بأس بذلک،فقال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:«فمه»؛ (5)أی:فماذا علیک؟أی:حسبک هذا.

قال فی أعلام الموقّعین:ولولا أنّ حکم المثل حکم مثله،و أنّ المعانی و العلل مؤثّرة فی الأحکام نفیاً وإثباتاً،لم یکن لذکر هذا التشبیه معنی،فذَکَرَه لیدلّ به علی أنّ حکم النظیر حکم مثله،و أنّ نسبة القُبلَة التی هی وسیلة إلی الوط ء کنسبة وضع الماء

ص:497


1- (1) .صحیح البخاری:422 ح1513؛صحیح مسلم:605 ح32385؛سنن أبی داود:221/2 ح1809؛سنن النسائی:642 ح2637.
2- (2) .راجع:الإحکام:294/4؛اُصول الفقه الإسلامی:625/1؛الوسیط:183/1؛منتهی السؤل:222؛الاُصول العامّة:342؛المنخول:428؛روضة الناظر:166.
3- (3) .المستصفی:326/2.
4- (4) .أعلام الموقّعین:199/1.
5- (5) .سنن أبی داود:426/2 ح2385؛مسند أحمد بن حنبل:3738/1 ح139؛وفی نسخة من المسند:«ففیم»؟وفی نسخة أعلام الموقّعین:«فصم».

فی الفم الذی هو وسیلة إلی شربه،فکما أنّ هذا الأمر لا یضرّ،فکذلک الآخر. (1)

وقال السرخسی:و هذا تعلیم المقایسة،فإنّ بالقبلة یفتتح طریق اقتضاء الشهوة،ولا یحصل بعینه اقتضاء الشهوة،کما أنّ بإدخال الماء فی الفم یفتتح طریق الشرب،ولا یحصل به الشرب. (2)

وقال الغزالی:فشبّه مقدّمة الوقاع بمقدّمة الشرب،لکنّه لیس بصریح إلاّ بقرینة،إذ یمکن أن یکون ذلک نقضاً لقیاسه،حیث ألحق مقدّمة الشیء بالشیء،فقال:إن کنت تقیس غیر المنصوص علی المنصوص؛لأنّه مقدّمته،فألحق المضمضة بالشرب. (3)

حدیث بیع الرطب بالتمر،قال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:أینقص الرطب إذا یبس؟قالوا:نعم،فنهاه رسول الله صلی الله علیه و آله عن ذلک. (4)

قالوا فی الجواب عن هذه الأحادیث وما شابهها ممّا لم نذکرها:

1.قال الشوکانی:و هذه الأحادیث ثابتة فی دواوین الإسلام،و قد وقع منه صلی الله علیه و آله قیاسات کثیرة حتّی صنّف الناصح الحنبلی(و هو عبدالرحمن بن نجم الدِّین عبدالوهّاب الحنبلی الدمشقی المتوفّی سنة 634ه)جزءً فی أقیسته صلّی اللّه علیه و آله.

ویجاب علی ذلک:بأنّ هذه الأقیسة صادرة عن الشارع المعصوم الذی یقول الله سبحانه فیما جاءنا به عنه: إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی ، (5)ویقول فی وجوب اتّباعه: وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، (6)وذلک خارجٌ عن محلّ النزاع،فإنّ

ص:498


1- (1) .أعلام الموقّعین:199/1.
2- (2) .اُصول السرخسی:130/2.
3- (3) .المستصفی:426/2؛المحصول:1104/3؛الوسیط:184/1؛اُصول الفقه الإسلامی:630/1.
4- (4) .سنن أبی داود:334/3 ح3359؛سنن النسائی:1062 ح4554-4555؛سنن ابن ماجه:43/3 ح2264؛سنن الترمذی:518 ح1225.
5- (5) .النجم:4.
6- (6) .الحشر:7.

القیاس الذی کلامنا فیه إنّما هو قیاسٌ لم تثبت له العصمة،ولا وجبَ اتّباعه،ولا کان کلامه وحیاً،بل من وجهة نفسه الأمارة،وبعقله المغلوب بالخطأ. (1)

وقال ابن حزم فی الجواب عن حدیث عمر:لو لم یکن فی إبطال القیاس إلاّ هذا الحدیث لکفی؛لأنّ عمر ظنّ أنّ القُبلة تُفطِر الصوم قیاساً علی الجماع،فأخبره صلی الله علیه و آله أنّ الأشیاء المماثلة و المتقاربة لا تستوی أحکامها،و أنّ المضمضة لا تُفطر،ولو تجاوز الماء الحلق عمداً لأفطر،و أنّ الجماع یفطر،والقُبلة لا تفطر،و هذا هو إبطال القیاس حقّاً. (2)

**2.إنّ هذه الأحادیث لو کانت واردة فی مقام جعل الحجّیة للقیاس،فغایة ما یستفاد منها جعل الحجّیة لمثل أقیسته صلی الله علیه و آله ممّا کان معلوم العلّة لدیه،کما هو مقتضی ما تلزم به رسالته من کونه لا یعدو فی تشریعاته ما أمر بتبلیغه من الأحکام،ومثل هذا العلم بالحکم لا یتوفّر إلاّ عند العلم بالعلّة فی الفرع،علی أنّ نسبة ما یصدر منه للقیاس موقوفٌ علی إمکان صدور الاجتهاد منه،أمّا إذا نفینا ذلک عنه،وقصرنا جمیع تصرّفاته علی خصوص ما یتلقّاه من الوحی کما قاله تعالی: إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی ، (3)فتشبیه قیاساتنا بقیاساته وإثبات الحجّیة لها علی هذا الأساس قیاسٌ مع الفارق الکبیر،و قد أشار عمر بن الخطّاب إلی هذا الفارق فی بعض خطبه بقوله:«یا أیها الناس إنّ الرأی إنّما کان من رسول الله مصیباً؛لأنّ الله کان یریه،و إنّما هو منّا الرأی و التکلّف»، (4)ومع هذا الفارق کیف یمکن لنا أن نسرّی الحکم إلی قیاساتنا المظنونة،ألیست صحّة هذه التسویة إلیها مبنیة علی ضرب من القیاس المظنون،و هو موضع الخلاف،والقیاس المعلومة علّته تعبّداً أو وجداناً ممّا لا ینبغی أن یکون موضعاً لخلاف،کما سبق الحدیث فیه.

ص:499


1- (1) .إرشاد الفحول:8485/2؛الوسیط:185/1؛اُصول الفقه الإسلامی:627/1؛المستصفی:327/2.
2- (2) .الإحکام:409/7؛الإنصاف:474/2.
3- (3) .النجم:4.
4- (4) .أعلام الموقّعین:54/1.

3.إنّ هذه الأحادیث لیست من القیاس فی شیء،فإنّ روایة الخثعمیة واردة فی تحقیق المناط یعنی من باب تطبیق الکبری علی صغراها،فالکبری-وهی مطویة:«کلّ دَین یقضی»هی فی واقعها أعمّ من دیون الله ودیون الآدمیین،و قد طبّقها رسول الله صلی الله علیه و آله علی دَین الله لأبیها،فحکم بلزوم القضاء،وأین هذا من القیاس المصطلح؟علی أنّا لو سلّمنا أنّه منه،فهو من قبیل قیاس الأولویة بقرینة قوله صلّی اللّه علیه و آله:«فدین الله أحقّ بالقضاء»،أی:أولی بالقضاء،و هو لیس من القیاس موضع النزاع فی شیء،کما مرَّ تحقیقه.

وبالجملة،إنّما المقصود من الحدیث-علی تقدیر صحّته-تنبیه الخثعمیة علی تطبیق العام-و هو وجوب قضاء کلّ دَین-علی ما سألت عنه،إذ خفی علیها أنّ الحجّ ممّا یعدّ من الدِّیون التی یجب قضاؤها عن المیت،ولا شکّ فی أنّ تطبیق العام علی مصادیقه المعلومة لا یحتاج إلی تشریع جدید غیر تشریع نفس العام؛لأنّ الانطباق قهری،ولیس هو من نوع القیاس.

والجواب عن روایة بیع الرطب بالتمر،علی تقدیر صحّتها،هو ما یقال عن روایة الخثعمیة،فإنّ المقصود منها التنبیه علی تطبیق العام-و هو کلّ ما ینقص لا یجوز بیعه-علی أحد مصادیقه الخفیة،ولیس هو من القیاس فی شیء. (1)

4.إنّ هذه الأحادیث بجملتها معارضة بأحادیث اخر یفهم منها النهی عن الأخذ بالرأی من دون الرجوع إلی الکتاب و السنّة،وسیأتی ذکرها.

ص:500


1- (1) .راجع:الاُصول العامّة:343344؛اُصول الفقه للمظفّر:420/2؛الإنصاف فی مسائل دامَ فیها الخلاف:473/2 وما بعدها؛اُصول الفقه المقارن فیما لا نصَّ فیه:138 وما بعدها؛العدّة فی اصول الفقه:718/2؛الذریعة إلی اصول الشریعة:790/2 وما بعدها.

الخلاصة

أمّا حدیث بعث معاذ وأبی موسی قاضیین إلی الیمن،فقد روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله،أنّه قال لمعاذ وأبی موسی الأشعری و قد أنفذهما إلی الیمن:«بِمَ تقضیان؟فقالا:إن لم نجد الحکم فی الکتاب ولا السنّة قسنا الأمر بالأمر،فما کان أقرب إلی الحقّ عملنا به».

قیل فی تقریبه:صرّحا بالعمل بالقیاس،والنبی صلی الله علیه و آله أقرّهما علیه،فکان حجّة.و قد اجیب عنه أوّلاً:بأنّ الظاهر أنّ الحدیث منقولٌ بالمعنی حسب فهم الراوی،إذ لم نعثر علی هذا النصّ فی الصحاح و المسانید،فالروایة مرسلة.وثانیاً:إجابة الرجلین بجواب واحد فی زمان واحد بعید،وثالثاً:مخصوص بالقضاء،ورابعاً:تفویض أمر القضاء إلی رأی الرجلین بدون تحدید له،یلازم التهاون بالنوامیس،فلا محیص عن القول بوجود خصوصیة فیهما کانت تصدّهما عن الإفتاء بالرأی الذی لیس له جذرٌ فی الکتاب و السنّة،مع أنّ الرجلین کان کلّ واحد منهما فی ناحیة.

قال ابن سعد فی طبقاته:قسّم رسول الله صلی الله علیه و آله الیمن علی خمسة رجال،وظاهره یدلّ علی أنّ إعزامهم لم یکن فی زمان واحد،ولو کان فلِمَ لم یدخل سائرهما فی السؤال،و هذا یقوّی أنّ السؤال لم یکن فی وقت واحد،وأیضاً یؤید ما ذکر ما فعله السرخسی حیث فصّل بین قوله صلی الله علیه و آله لمعاذ ولأبی موسی،وقال بعد ذکر حدیث معاذ:وقال لأبی موسی حین وجّهه إلی الیمن:اقض...إلخ،ومع الغضّ عن ذلک کلّه وافتراض تمامیتها،فإنّ مقتضی لسانها جعل الحجّیة لأصل القیاس لا لمسالکه المظنونة التی هی موضع النزاع.

و أمّا ما ورد من الأحادیث المُشعِر بعضها باستعمال النبی صلی الله علیه و آله للقیاس:فقد استدلّوا أیضاً بما ثبت عن النبی صلی الله علیه و آله من القیاسات; لأنّ عمله حجّة باعتباره سنّة واجبة الاتّباع،والأحادیث التی ذکروها کثیرة،منها:حدیث الجاریة الخثعمیة،ووجه الاحتجاج

ص:501

أنّه صلی الله علیه و آله ألحق دین الله بدین الآدمی فی وجوب القضاء ونفعه و هو عین القیاس.

قال الغزالی:فهو تنبیهٌ علی قیاس دین الله تعالی علی دین الخلق،ولا بدّ من قرینة تعرّف القصد أیضاً،إذ لو کان لتعلّم القیاس لقاس علیه السّلام الصوم و الصلاة.

ومنها:حدیث عمر،قال فی أعلام الموقّعین:ولولا أنّ حکم المثل حکم مثله،و أنّ المعانی و العلل مؤثّرة فی الأحکام نفیاً وإثباتاً،لم یکن لذکر هذا التشبیه معنی،فذَکَرَه لیدلّ به علی أنّ حکم النظیر حکم مثله،و أنّ نسبة القُبلَة التی هی وسیلة إلی الوط ء،کنسبة وضع الماء فی الفم الذی هو وسیلة إلی شربه،فکما أنّ هذا الأمر لا یضرّ،فکذلک الآخر.

وقال الغزالی:لکنّه لیس بصریح إلاّ بقرینة،إذ یمکن أن یکون ذلک نقضاً لقیاسه،حیث ألحق مقدّمة الشیء بالشیء،فقال:إن کنت تقیس غیر المنصوص علی المنصوص؛لأنّه مقدّمته،فألحق المضمضة بالشرب.

ومنها:حدیث بیع الرطب بالتمر،قال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:«أینقص الرطب إذا یبس؟»قالوا:نعم،فنهاه رسول الله صلی الله علیه و آله عن ذلک.

قالوا فی الجواب عن هذه الأحادیث وما شابهها:

1.إنّ هذه الأحادیث ثابتة فی دواوین الإسلام،و قد وقع منه صلی الله علیه و آله قیاسات کثیرة،ولکن یجاب علی ذلک:بأنّ هذه الأقیسة صادرة عن الشارع المعصوم الذی یقول الله سبحانه فیما جاءنا به عنه إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی ،وذلک خارجٌ عن محلّ النزاع،فإنّ القیاس الذی کلامنا فیه إنّما هو قیاسٌ لم تثبت له العصمة،ولا وجبَ اتّباعه،ولا کان کلامه وحیاً،بل من وجهة نفسه الأمارة،وبعقله المغلوب بالخطأ.

2.إنّ هذه الأحادیث لو کانت واردة فی مقام جعل الحجّیة للقیاس،فغایة ما یستفاد منها جعل الحجّیة لمثل أقیسته صلی الله علیه و آله ممّا کان معلوم العلّة لدیه،کما هو مقتضی ما تلزم به رسالته من کونه لا یعدو فی تشریعاته ما أمر بتبلیغه من الأحکام،ومثل هذا العلم بالحکم لا یتوفّر إلاّ عند العلم بالعلّة فی الفرع،أمّا إذا نفینا ذلک،

ص:502

أی:صدور الاجتهاد منه صلّی اللّه علیه و آله،وقصرنا جمیع تصرّفاته علی خصوص ما یتلقّاه من الوحی،فتشبیه قیاساتنا بقیاساته وإثبات الحجّیة لها علی هذا الأساس قیاسٌ مع الفارق الکبیر،و قد أشار عمر بن الخطّاب إلی هذا الفارق فی بعض خطبه.

3.إنّ هذه الأحادیث لیست من القیاس فی شیء،فإنّ روایة الخثعمیة واردة فی تحقیق المناط یعنی من باب تطبیق الکبری علی صغراها،علی أنّا لو سلّمنا أنّه منه،فهو من قبیل قیاس الأولویة بقرینة قوله صلّی اللّه علیه و آله:«فدین الله أحقّ بالقضاء».

وعلیه،فالمقصود من الحدیث-علی تقدیر صحّته-تنبیه الخثعمیة علی تطبیق العام-و هو وجوب قضاء کلّ دَین-علی ما سألت عنه،إذ خفی علیها أنّ الحجّ ممّا یعدّ من الدِّیون التی یجب قضاؤها عن المیت،ولا شکّ فی أنّ تطبیق العام علی مصادیقه المعلومة لا یحتاج إلی تشریع جدید غیر تشریع نفس العام؛لأنّ الانطباق قهری،ولیس هو من نوع القیاس.

والجواب عن روایة بیع الرطب بالتمر،علی تقدیر صحّتها،هو ما یقال عن روایة الخثعمیة،فإنّ المقصود منها التنبیه علی تطبیق العام-و هو کلّ ما ینقص لا یجوز بیعه-علی أحد مصادیقه الخفیة،ولیس هو من القیاس فی شیء.

4.إنّ هذه الأحادیث بجملتها معارضة بأحادیث اخر یفهم منها النهی عن الأخذ بالرأی من دون الرجوع إلی الکتاب و السنّة.

ص:503

الأسئلة

1.اُذکر تقریب الاستدلال بحدیث معاذ وأبی موسی الأشعری و الجواب الأوّل عنه.

2.اُذکر بقیة الإیرادات التی ذکرناها فی المقام.

3.اُذکر استدلال القائلین بالقیاس بالأحادیث المُشعرة باستعمال النبی صلی الله علیه و آله القیاس.

4.وضّح وجه الاحتجاج بحدیث الخثعمیة ثمّ بین کلام الغزالی فی المورد المذکور.

5.اُذکر بیان ابن قیم الجوزیة فی ذیل حدیث عمر،ووضّح کلام الغزالی.

6.لماذا تکون هذه الأحادیث المذکورة خارجة عن محلّ النزاع؟

7.اُذکر الجواب الثانی عن هذه الأحادیث،ولماذا یکون القیاس مع الفارق الکبیر؟

8.وضّح وبین الجواب الثالث عن هذه الأحادیث،ولماذا تکون روایة الخثعمیة واردة فی تحقیق المناط؟

ص:504

الدرس السادس و الخمسون بعد المئة

دلیل الإجماع

*استدلّوا أیضاً بإجماع الصحابة علی القیاس.قال ابن عقیل الحنبلی:و قد بلغ التواتر المعنوی عن الصحابة باستعماله،و هو قطعی،وقال الصفی الهندی:دلیل الإجماع هو المعوّل علیه لجماهیر المحقّقین من الاُصولیین،وقال ابن دقیق العید:عندی أنّ المعتمد اشتهار العمل بالقیاس فی أقطار الأرض شرقاً وغرباً،قرناً بعد قرن،عند جمهور الاُمّة إلاّ عند شذوذ متأخّرین،و هذا من أقوی الأدلّة. (1)

وقال الغزالی:فیستدلّ علی ذلک بإجماع الصحابة علی الحکم بالرأی والاجتهاد فی کلّ واقعة وقعت لهم،ولم یجدوا فیها نصّاً،و هذا ممّا تواتر إلینا عنهم تواتراً لا شکّ فیه.ثمّ نقل بعض الموارد بزعمه أنّها من موارد إجماع الصحابة،فلیراجع.

ثمّ قال:وما من مفت إلاّ و قد قال بالرأی،ومن لم یقل،فلأنّه أغناه غیره عن الاجتهاد،ولم یعترض علیهم فی الرأی،فانعقد إجماع قاطع علی جواز القول بالرأی. (2)

ص:505


1- (1) .راجع:إرشاد الفحول:85/2؛الإحکام:300/4؛اُصول الجصّاص:228229/2؛أعلام الموقّعین:205/1 وما بعدها؛المهذّب:18431844/4.
2- (2) .المستصفی:300/2 و 307؛فواتح الرحموت:544/2؛المنخول:428.

وقال الرازی:المسلک الخامس:الإجماع،و هو الذی عوّل علیه جمهور الاُصولیین. (1)

وقال صدر الشریعة وفخر الإسلام:وعمل الصحابة ومناظرتهم فی القیاس أشهر من أن یخفی. (2)

وقال الزحیلی:إنّ الصحابة قد تکرّر منهم القول بالقیاس و العمل به من غیر إنکار من أحد،فکان فعلهم إجماعاً منهم علی أنّ القیاس حجّة یجب العمل به، (3)ثمّ ذکر أمثلةً من أفعال وأقوال الصحابة.

وتقریب الاستدلال به،هو أنّ الصحابة اتّفقوا علی استعمال القیاس فی الوقائع التی لا نصّ فیها،فقاموا بإلحاق المثل بالمثل بسبب جامع،والعادة تقتضی بأنّ اجتماع جمع کثیر من الصحابة علی العمل بالشیء لا یکون إلاّ بقاطع دالّ علی العمل به.

وقیل فی وجه کون الإجماع أقوی من الاستدلال بالکتاب و السنّة هنا:هو أنّه لا یقبل النسخ،ولا یحتمل التأویل،بخلاف النصّ،وما لا یقبل النسخ یقدّم علی ما یقبل. (4)

وقیل أیضاً فی توجیه اتّفاقهم أنّ آحاداً منهم أفتوا استناداً إلی القیاس،وسکت الباقون فلم ینکروا علیهم،وسکوتهم یکون إجماعاً،أو أنّ بعضهم صرّح بالأخذ بالرأی من دون نکیر علیه.

یجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأی وأکثروا،بل حتّی فیما خالف النصّ تصرّفاً فی الشریعة باجتهاداتهم،والإنصاف أنّ ذلک لا ینبغی أن ینکر من طریقتهم.

ومن اجتهاداتهم قول أبی بکر فی الکلالة:أقول فیها برأیی،فإن یکن صواباً فمن

ص:506


1- (1) .المحصول:1106/3؛إرشاد الفحول:85/2.
2- (2) .التوضیح:119/2؛کشف الأسرار:413/3؛اُصول السرخسی:132/2.
3- (3) .اُصول الفقه الإسلامی:627/1؛الوسیط:186/1.
4- (4) .المهذّب:18431844/4.

الله،و إن یکن خطأً فمنّی،ومن الشیطان،والله ورسوله بریئان منه.

ومنها أیضاً:حکمه أبی بکر بالرأی فی التسویة فی العطاء،حتّی قیل له:کیف تجعل من ترک دیاره وأمواله وهاجر إلی رسول الله کمَن دخل فی الإسلام کُرهاً؟فقال أبو بکر:إنّما أسلموا لله،واُجورهم علی الله،و إنّما الدُّنیا بلاغ.وحیث انتهت النوبة إلی عمر فرّق بینهم.

ومنها قول عمر:أقضی فی الجدّ برأیی،وأقول منه برأیی.

ومنها:ما روی عن عمر أنّه کتب إلی أبی موسی الأشعری:«اعرف الأشباه و الأمثال،ثمّ قس الاُمور برأیک». (1)

ولم یرد فی روایة عن أحدهم لفظ القیاس إلاّ فی رسالة عمر إلی أبی موسی الأشعری،وهی رسالة قال عنها ابن حزم:إنّها موضوعة مکذوبة علیه،وراویها عبدالملک بن الولید بن معدان،عن أبیه،و هو ساقط بلا خلاف،وأبوه أسقط منه،أو من هو مثله فی السقوط. (2)

أقول:وبنظری القاصر،إنّ أحسن کلام قیل فی هذا المقام ما قاله التفتازانی،و هو قوله:إنّ عمل الصحابة دلیلٌ علی حجّیة القیاس بوجهین:

أحدهما:إنّه ثبت بالتواتر عن جمع کثیر من الصحابة العمل بالقیاس عند عدم النصّ،و إن کانت تفاصیل ذلک آحاداً،والعادة قاضیة بأنّ مثل ذلک لا یکون إلاّ عن قاطع علی کونه حجّة،و إن لم نعلمه بالتعیین.

ص:507


1- (1) .راجع:الإحکام:300/4 وما بعدها؛المستصفی:300/2 وما بعدها؛اُصول الفقه الإسلامی:627/1 وما بعدها؛المحصول:1106/3 وما بعدها؛کشف الأسرار:413/3 وما بعدها؛الوجیز:222؛شرح المعالم:264268/2؛روضة الناظر:163164؛نزهة الخاطر:158/2؛منهاج الوصول إلی معیار العقول:658660؛صفوة الاختیار:300 وما بعدها؛الوسیط:186/1 وما بعدها؛أعلام الموقّعین:63/1؛المهارة الاُصولیة وأثرها؛147؛اُصول الجصّاص:229/2 وما بعدها.
2- (2) .راجع:الاُصول العامّة:346؛الوسیط:186/1 هامش رقم 1؛اُصول الفقه الإسلامی:628/1 هامش رقم 1.

وثانیهما:إنّ عملهم بالقیاس ومباحثتهم فیه بترجیح البعض علی البعض تکرّر وشاع من غیر نکیر،و هذا وفاقٌ وإجماعٌ علی حجّیة القیاس. (1)

الاستشکال علی الإجماع

قال الشوکانی:ویجاب بمنع ثبوت هذا الإجماع،فإنّ المحتجّین بذلک إنّما جاؤوا بروایات عن أفراد من الصحابة محصورین فی غایة القلّة،فکیف یکون ذلک إجماعاً لجمیعهم مع تفرّقهم فی الأقطار،واختلافهم فی کثیر من المسائل،وردّ بعضهم علی بعض،وإنکار بعضهم لما قاله البعض،کما ذلک معروف؟!

وبیانه:إنّهم اختلفوا فی الجدّ مع الإخوة علی أقوال معروفة،وأنکر بعضهم علی بعض ما سلکه من القیاس فی ذلک،وکذلک فی مسألة الحرام(وهی قوله لزوجته أنت علی حرامٌ،فوقع الخلاف فیها)علی أقوال،وأنکر بعضهم علی بعض..إلی أن قال:وهکذا وقع الإنکار من جماعة من الصحابة علی من عمل بالرأی منهم،والقیاس إن کان منه،فظاهر،و إن لم یکن منه،فقد أنکره منهم من أنکره،کما فی المسائل التی ذکرناها. (2)

وقال ابن التلمسانی:من نقلتم عنه العمل به مع قلّتهم بالنسبة إلی من بقی من الصحابة،واحتمال حمل الرأی علی غیر القیاس،مع تطرّق وجوه من النظر فی هذه النصوص المخصوصة غیر القیاس:من تفسیر لفظ،أو تمسّک بعموم ضعیف،أو نقل خفی أو مفهوم،أو استصحاب أصل،أو تمسّک برأی،أو أخذ المتیقّن فی طرف الأعلی أو الأدنی،أو لازم نصّین،أو مناسب مرسل،أو استحسان،أو استقراء،أو

ص:508


1- (1) .التلویح:119/2.
2- (2) .إرشاد الفحول:8586/2.وراجع:اُصول الجصّاص:235236/2؛اُصول الفقه الإسلامی:629/1؛المستصفی:311313/2؛الإحکام:304/4؛المحصول:11211122/3؛روضة الناظر:164؛کشف الأسرار:414/3؛شرح المعالم:268269/2.

تحقیق مناط إلی غیر ذلک من وجوه الرأی غیر القیاس،فما نقلتموه عنهم معارض بما نقل عنهم من المنع بالعمل بالرأی. (1)

وقیل أیضاً:إنّ الصحابة استعملوا القیاس فی الوقائع التی لم یعرف عنهم علی أی أساس کانت اجتهاداتهم،أکانت تأویلاً للنصوص أو جهلاً بها أو استهانةً بها؟ربما کان بعض هذا أو کلّه من بعضهم،ولا شکّ أنّ بعض الصحابة کانوا یفتون بالرأی ولکن لم یکن الرأی مساوقاً للعمل بالقیاس،بل لعلّهم اعتمدوا فیها علی ضرب من الاستدلال و التأمّل،ولو کان دیدنهم فی الإفتاء فی غیر ما نصّ علیه علی القیاس؛لبانَ وارتفع الخلاف. (2)

**النقاش فی هذا الإجماع واقع صغری وکبری،أمّا الصغری فبإنکار وجود مثله عادةً; لأنّ مثل هذه الروایات-لو تمّت دلالتها علی القیاس-فإنّما هی صادرة من أفراد من الصحابة أمام أفراد،فکیف اجتمع علیها الباقون منهم واتّفقوا علی فحواها؟

وبالجملة،إنّ استعمال بعضهم للرأی-سواء کان مبنیاً علی القیاس أو علی غیره-لا یکشف عن موافقة الجمیع کما حکی عن ابن حزم،حیث قال:أین وجدتم هذا الإجماع و قد علمتم أنّ الصحابة الوف لا تحفظ الفتیا عنهم فی أشخاص المسائل إلاّ عن مئة ونیف وثلاثین نفراً; منهم سبعة مُکثرون،وثلاثة عشر نفساً متوسّطون،والباقون مقلّون جدّاً تُروی عنهم المسألة و المسألتان،حاشا المسائل التی تیقّن إجماعهم علیها کالصلوات وصوم رمضان(من ضروریات الدِّین،و أنّ الأخذ بها لیس أخذاً بالإجماع،فعلی هذا لیست من المسائل الإجماعیة)،فأین الإجماع علی القول بالرأی؟ (3)

فاعلم أنّ الغرض ممّا ذکرناه إلی هنا أنّه لا ینکر ثبوت الاجتهاد بالرأی عند جملة من الصحابة کأبی بکر وعمر وعثمان وزید بن ثابت،بل ربّما من غیرهم،و إنّما الذی

ص:509


1- (1) .شرح المعالم:268/2.
2- (2) .اُصول الفقه للمظفّر:422/2؛اُصول الفقه المقارن:153.
3- (3) .اُصول الفقه:423/2.

ینکر أن یکون ذلک بمجرّده محقّقاً لإجماع الاُمّة أو الصحابة علیه.

ومن المعلوم أنّ میادین الجهاد و البلدان المفتوحة و الثغور وغیرها أخَذَت کثیراً من الصحابة ولاةً وعمّالاً وجُنداً وقادةً،فکیف عرف اتّفاقهم علی هذه المضامین حتّی کوّنوا إجماعاً؟ومن هو الجامع لکلمتهم؟وما یدرینا أنّ بعضهم سمع بشأن هذه الأحکام وأنکرها ولم یصل إلینا؟ومجرّد عدم العلم بإنکاره لعدم النقل لا یخلق لنا علماً بالعدم،و هو الذی یفیدنا فی الإجماع لتصحیح نسبة السکوت إلیهم المستلزم للاطّلاع وعدم الإنکار.

نعم،أقصی ما یقال فی هذا الصدد:إنّ الباقین سکتوا وسکوتهم إقرار فیتحقّق الإجماع، (1)علی أنّ قول الصحابی لیس بحجّة ما لم یعلم استناده إلی الرسول صلّی اللّه علیه و آله،و قد عرفت سابقاً عدم حجّیته،فکیف یکون فعله حجّة؟وستأتی الإشارة إلی نصوص من الصحابة علی نفی القیاس.

و أمّا المناقشة من حیث الکبری،فبالمنع من حجّیة مثل هذا الإجماع،وذلک لاُمور:

1.یقال:إنّ السکوت لا نسلّم أنّه یحقّق الإجماع-و قد عرفت مفصّلاً-لأنّه لو شکّل إجماعاً لا یدلّ علی الإقرار إلاّ من المعصوم بشروط الإقرار،ولا یدلّ علی الموافقة علی المصدر الذی کان قد اعتمده المفتی أو الحاکم بفتیاه أو حکمه،وبخاصّةً إذا کان هو نفسه غیر جازم بسلامة مصدره،کقول أبی بکر:أقول فیها برأیی،فإن یکن صواباً فمن الله،و إن یکُن خطأً فمنّی ومن الشیطان. (2)

وقول عمر بن الخطّاب; قال سفیان الثوری بإسناده عن مسروق قال:هذا ما رأی عمر،فإن یکن صواباً فمن الله،و إن یکن خطأً فمن عمر. (3)

وقول ابن مسعود،قال ابن قیم الجوزیة:وصحّ عنه فی المفوّضة(التفویض فی النکاح هو التزویج بلا مهر)أنّه قال:أقول فیها برأیی،فإن یکن صواباً فمن الله،و إن یکن خطأً فمنّی

ص:510


1- (1) .راجع:اُصول الفقه:423/2؛الاُصول العامّة:346؛الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:480/2.
2- (2) .أعلام الموقّعین:54/1.
3- (3) .المصدر.

ومن الشیطان،والله ورسوله بریءٌ منه، (1)إذ لو کانا عالِمَین بسلامة مصدرهما وصحّته لقیام الدلیل القطعی علی حجیته لدیهما لما صحّ نسبة استنادهما إلیه إلی الشیطان.

والدلیل علی ذلک أوّلاً:إنّ السکوت فی ذاته مجمل،وثانیاً:إنّ منشأ السکوت قد یکون هو المجاملة أو الخوف أو الجهل بالمصدر أو الحکم الشرعی أو وجهه،أو الخجل أو عدم العنایة ببیان الحقّ أو غیر هذه الاحتمالات التی لا دافع لها،و قد یجتمع فی شخص واحد أکثر من سبب واحد للسکوت عن الحقّ. (2)

2.إنّ هذا الإجماع معارض-لو تمّ-بإجماع مماثل علی الخلاف کما ادّعاه بعضهم. (3)ویمکن تقریبه بمثل ما قرّبوا به ذلک الإجماع من أنّ الصحابة أنکروا علی العاملین بالرأی و القیاس،و قد ثبت عن الخلفاء الأربعة وابن عبّاس وابن مسعود وزید بن ثابت وأبی موسی الأشعری وغیرهم تخطئة القول بالرأی.

حکی عن عمر بن الخطّاب أنّه قال:إیاکم وأصحاب الرأی،فإنّهم أعداء السُّنن،أعیتهم الأحادیث أن یحفظوها،فقالوا بالرأی فضلّوا وأضلّوا. (4)

وقال علی علیه السّلام:لو کان الدِّین بالرأی لکان أسفل الخفّ أولی بالمسح من أعلاه. (5)

وقال ابن مسعود:إذا قلتم فی دینکم بالقیاس أحللتم کثیراً ممّا حرّم الله،وحرّمتم کثیراً ممّا حلّل الله. (6)

وقال ابن عبّاس:إیاکم و المقاییس،فإنّما عُبِدَتْ الشمس و القمر بالمقاییس. (7)

ثمّ سکوت باقی الصحابة بنفس تقریبهم السابق یکوّن إجماعاً علی إبطاله.

ص:511


1- (1) .أعلام الموقّعین:57/1؛المحلّی:61/1.
2- (2) .راجع:المستصفی:316/2؛الاُصول العامّة:347؛اُصول الفقه للمظفّر:434/2.
3- (3) .راجع:المحلّی:59/1.
4- (4) .أعلام الموقّعین:55/1؛الطرائف فی معرفة المذاهب:525/2؛الإحکام:304/4؛حلیة الأولیاء:8/3.
5- (5) .أعلام الموقّعین:58/1؛الإحکام:304/4.
6- (6) .الإحکام:304/4؛المستصفی:312/2.
7- (7) .الإحکام:304/4؛المستصفی:312313/2؛الطرائف فی معرفة المذاهب:525526/2.

الخلاصة

استدلّوا بإجماع الصحابة علی القیاس،حتّی قیل:و قد بلغ التواتر المعنوی عن الصحابة باستعماله،و هو قطعی،وقال الصفی الهندی:دلیل الإجماع هو المعوّل علیه لجماهیر المحقّقین من الاُصولیین،وقال ابن دقیق العید:عندی أنّ المعتمد اشتهار العمل بالقیاس و هذا من أقوی الأدلّة.

وقال الزحیلی:إنّ الصحابة قد تکرّر منهم القول بالقیاس و العمل به من غیر إنکار من أحد،فکان فعلهم إجماعاً منهم علی أنّ القیاس حجّة یجب العمل به.

وتقریب الاستدلال به،هو أنّ الصحابة اتّفقوا علی استعمال القیاس فی الوقائع التی لا نصّ فیها،فقاموا بإلحاق المثل بالمثل بسبب جامع،والعادة تقتضی بأنّ اجتماع جمع کثیر من الصحابة علی العمل بالشیء لا یکون إلاّ بقاطع دالّ علی العمل به.

وقیل فی وجه کون الإجماع أقوی من الاستدلال بالکتاب و السنّة هنا:هو أنّه لا یقبل النسخ،ولا یحتمل التأویل،بخلاف النصّ،وما لا یقبل النسخ یقدّم علی ما یقبل.

وقیل فی توجیه اتّفاقهم أنّ آحاداً منهم أفتوا استناداً إلی القیاس،وسکت الباقون فلم ینکروا علیهم،وسکوتهم یکوّن إجماعاً،أو أنّ بعضهم صرّح بالأخذ بالرأی من دون نکیر علیه.

یجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأی وأکثروا،بل حتّی فیما خالف النصّ تصرّفاً فی الشریعة باجتهاداتهم،والإنصاف أنّ ذلک لا ینبغی أن ینکر من طریقتهم،مثلاً أنّ أبا بکر اجتهد برأیه فی الکلالة وفی التسویة فی العطاء،وعمر اجتهد برأیه فی الجدّ وکتب إلی أبی موسی:«ثمّ قس الاُمور برأیک».

ولم یرد فی روایة عن أحدهم لفظ القیاس إلاّ فی رسالة عمر إلی أبی موسی.وقال ابن حزم فی شأنها:إنّها رسالة موضوعة مکذوبةٌ علیه.

ص:512

أقول:وأحسن کلام قیل فی هذا المقام،قول التفتازانی:إنّ عمل الصحابة دلیلٌ علی حجّیة القیاس بوجهین:

أحدهما:إنّه ثبت بالتواتر عن جمع کثیر من الصحابة العمل بالقیاس عند عدم النصّ،ومثل ذلک لا یکون إلاّ عن قاطع علی کونه حجّة،و إن لم نعلمه بالتعیین.

وثانیهما:إنّ عملهم بالقیاس ومباحثتهم فیه بترجیح البعض علی البعض تکرّر وشاع من غیر نکیر،و هذا وفاقٌ وإجماعٌ علی حجّیة القیاس.

الاستشکال علی الإجماع:قال الشوکانی:ویجاب بمنع ثبوت هذا الإجماع،فإنّ المحتجّین بذلک إنّما جاؤوا بروایات عن أفراد من الصحابة محصورین فی غایة القلّة،فکیف یکون ذلک إجماعاً لجمیعهم مع تفرّقهم فی الأقطار،واختلافهم فی کثیر من المسائل،وردّ بعضهم علی بعض،وإنکار بعضهم لما قاله البعض،کما ذلک معروف؟!فقد اختلفوا فی الجدّ مع الإخوة علی أقوال معروفة،وکذلک اختلفوا فی مسألة الحرام،ووقع الإنکار من جماعة من الصحابة علی من عمل بالرأی منهم،والقیاس إن کان منه،فظاهر،و إن لم یکن منه،فقد أنکره مَن أنکره.

وقیل:إنّ الصحابة استعملوا القیاس فی الوقائع التی لم تعرف عنهم علی أی أساس کانت اجتهاداتهم،أکانت تأویلاً للنصوص أو جهلاً بها أو استهانةً بها؟نعم،بعض الصحابة کانوا یفتون بالرأی،ولکن لم یکن الرأی مساوقاً للعمل بالقیاس،بل لعلّهم اعتمدوا فیها علی ضرب من الاستدلال و التأمّل.

النقاش فی هذا الإجماع واقع صغری وکبری،أمّا الصغری فبإنکار وجود مثله عادةً؛لأنّ هذه الروایات-لو تمّت دلالتها علی القیاس-فإنّما هی صادرة من أفراد من الصحابة أمام أفراد،فکیف اجتمع علیها الباقون منهم واتّفقوا علی فحواها؟

فاعلم أنّ الغرض ممّا ذکرناه إلی هنا أنّه لا ینکر ثبوت الاجتهاد بالرأی عند جملة من الصحابة کأبی بکر وعمر وعثمان وزید بن ثابت،وربّما من غیرهم،و إنّما الذی

ص:513

ینکر أن یکون ذلک بمجرّده محقّقاً لإجماع الاُمّة أو الصحابة علیه.

ومن المعلوم أنّ میادین الجهاد و البلدان المفتوحة و الثغور وغیرها أخَذَت کثیراً من الصحابة،فکیف عرف اتّفاقهم علی هذه المضامین حتّی کوّنوا إجماعاً؟ومجرّد عدم العلم بإنکاره لعدم النقل لا یخلق لنا علماً بالعدم،و هو الذی یفیدنا فی الإجماع لتصحیح نسبة السکوت إلیهم.

علی أنّ قول الصحابی لیس بحجّة ما لم یعلم استناده إلی الرسول صلی الله علیه و آله کما عرفت سابقاً.

و أمّا من حیث الکبری،فبالمنع من حجّیة مثل هذا الإجماع،وذلک لاُمور:

1.یقال:إنّ السکوت لا نسلّم أنّه یحقّق الإجماع؛لأنّه لو شکّل إجماعاً لا یدلّ علی الإقرار إلاّ من المعصوم بشروط الإقرار،ولا یدلّ علی الموافقة علی المصدر الذی کان قد اعتمده المفتی أو الحاکم بفتیاه أو حکمه،وبخاصّةً إذا کان هو نفسه غیر جازم بسلامة مصدره،کقول أبی بکر وعمر بن الخطّاب وابن مسعود،والدلیل علی ذلک أوّلاً:إنّ السکوت فی ذاته مجمل،وثانیاً:إنّ منشأ السکوت قد یکون هو المجاملة أو الخوف أو الجهل بالمصدر أو الحکم الشرعی أو وجهه،أو الخجل أو غیر هذه الاحتمالات التی لا دافع لها،و قد یجتمع فی شخص واحد أکثر من سبب واحد للسکوت عن الحقّ.

2.إنّ هذا الإجماع معارض-لو تمّ-بإجماع مماثل علی الخلاف کما ادّعاه بعضهم.ویمکن تقریبه بمثل ما قرّبوا به ذلک الإجماع من أنّ الصحابة أنکروا علی العاملین بالرأی و القیاس،و قد ثبت عن الخلفاء الأربعة وابن عبّاس وابن مسعود وزید بن ثابت وأبی موسی وغیرهم تخطئة القول بالرأی،ثمّ سکوت باقی الصحابة بنفس تقریبهم السابق یکوّن إجماعاً علی إبطاله.

ص:514

الأسئلة

1.اُذکر الاستدلال بالإجماع علی حجّیة القیاس.

2.لماذا یکون الاستدلال بالإجماع أقوی من الاستدلال بالکتاب و السنّة؟

3.اُذکر الوجهین الذین ذکرهما التفتازانی فی أنّ عمل الصحابة دلیلٌ علی حجّیة القیاس.

4.ما هو الدلیل الذی ذکره الشوکانی علی منع ثبوت هذا الإجماع؟

5.لِمَ لا یدلّ الاجتهاد بالرأی علی القیاس؟

6.اُذکر النقاش فی هذا الإجماع صغرویاً.

7.لماذا لا یکون مثل إجماع الصحابة حجّة؟

8.وضّح کون هذا الإجماع معارضاً بإجماع مماثل له علی الخلاف وبین وجه تقریب إجماع المعارض.

ص:515

ص:516

الدرس السابع و الخمسون بعد المئة

بقیة الاستشکال علی الإجماع

3.قال الشوکانی:ولو سلّمنا ثبوت الإجماع لکان ذلک الإجماع إنّما هو علی القیاسات التی وقع النصّ علی علّتها،والتی قطع فیها بنفی الفارق.فما الدلیل علی أنّهم قالوا بجمیع أنواع القیاس الذی اعتبره کثیر من الاُصولیین،وأثبتوه بمسالک تنقطع فیها أعناق الإبل،وتسافر فیها الأذهان حتّی تبلغ إلی ما لیس بشیء،وتتغلغل فیها العقول حتّی تأتی بما لیس من الشریعة السمحة السهلة؟و قد صحّ عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:«ترکتکم علی الواضحة لیلها کنهارها». (1)، (2)

4.إنّ سکوت الباقین غیر مسلّم،ویکفی لإبطال الإجماع إنکار شخص واحد له شأنٌ فی الفتیا،إذ لا یتحقّق معه اتّفاق الجمیع،فکیف إذا کان المنکرون أکثر من واحد،و قد علمت بعض المنکرین من الصحابة الذین لهم شأنٌ کبیر فی الفتیا؟

قال الآمدی:قولکم إنّه لم یوجد من غیرهم نکیر علیهم،لا نسلّم ذلک.وبیان وجود الإنکار ما روی عن أبی بکر فی الکلالة،وأیضاً ما روی عن عمر-و قد مرّ

ص:517


1- (1) .سنن ابن ماجة:39/1 ح43 المقدّمة؛مسند أحمد بن حنبل:109/5 ح 16692.
2- (2) .إرشاد الفحول:86/2.وراجع:نزهة الخاطر:159160/2.

ذکره-وما روی عن شریح،وأیضاً ما روی عن علی علیه السّلام أنّه قال لعمر فی مسألة الجنین:«إن اجتهدوا،فقد أخطؤوا،و إن لم یجتهدوا،فقد غشّوک».وما روی عن علی علیه السّلام وعثمان وابن عبّاس وابن مسعود ومسروق،حیث قال:لا أقیس شیئاً بشیء،أخاف أن تزلّ قدمٌ بعد ثبوتها،وکان ابن سیرین یذمّ المقاییس ویقول:أوّل من قاس إبلیس،ومع هذه الإنکارات من الصحابة و التابعین،فلا إجماع. (1)

وقال الزحیلی:واعترض علی هذا الإجماع بأنّه غیر ثابت أصلاً،فقد أنکر الصحابة العمل بالقیاس وذمّوا الأخذ به،مثل ما نقل عن أبی بکر أنّه قال:أی سماء تظلّنی وأی أرض تقلّنی إذا قلتُ فی کتاب الله برأیی.ونُقِلَ نحوه عن عمر وعلی علیه السّلام وابن عبّاس وغیرهم. (2)

و قد اجیب عن هذا الإیراد:

أوّلاً:بأنّ الذین نقل عنهم إنکار الرأی هم الذین نقل عنهم القول به،فلا بدّ من التوفیق بین النقلین،فیحمل ما نقل عنهم من أدلّة الجمهور علی القیاس الصحیح،ویحمل النقل المعارض علی القیاس الفاسد. (3)

وثانیاً:یجمع بینها بما قال الغزالی:ویحمل ما أنکروه علی الرأی المخالف للنصّ،أو الرأی الصادر عن الجهّال الذی یصدر ممّن لیس أهلاً للاجتهاد،أو وضع الرأی فی غیر محلّه،والرأی الفاسد الذی لا یشهد له أصل،ویرجع إلی محض الاستحسان،ووضع الشرع ابتداءً من غیر نسخ علی منوال سابق،وفی ألفاظ روایتهم ما یدلّ علیه،إذ قال:اتّخذ الناس رؤساء جهّالاً،وقال:لو قالوا بالرأی لحرّموا الحلال وأحلّوا الحرام،

ص:518


1- (1) .الإحکام:304305/4.وراجع:المحصول:11211122/3؛کشف الأسرار:414/3؛شرح المعالم:268270/2؛روضة الناظر:164؛المستصفی:311/2؛اُصول الجصّاص:235/2؛اُصول السرخسی:132/2.
2- (2) .اُصول الفقه الإسلامی:629/1؛الوسیط:188/1.
3- (3) .راجع:اُصول الفقه الإسلامی:630/1؛الوسیط:188/1.

فإذا القائلون بالقیاس مقرّون بإبطال أنواع من الرأی و القیاس،والمُنکِرون للقیاس لا یقرّون بصحّة شیء منه أصلاً. (1)

وثالثاً:ثبت بالتواتر من جمیع الصحابة الاجتهاد،والقول بالرأی،والسکوت عن القائلین به فی وقائع مشهورة کمیراث الجدّ و الإخوة،وهکذا.وما لم یتواتر کذلک،فقد صحّ من آحاد الوقائع بروایات صحیحة لا ینکرها أحد من الاُمّة ما أورث علماً ضروریاً بقولهم بالرأی وعرف ذلک ضرورة،وما نقلوه بخلافه،فأکثرها مقاطیع ومرویة عن غیر ثبت،وهی بعینها معارضة بروایة صحیحة عن صاحبها بنقیضه،فکیف یترک المعلوم ضرورة بما لیس مثله؟ (2)

أقول:أمّا کلام ابن عقیل الحنبلی و الغزالی وعبدالعزیز البخاری فی کشفه وأبی بکر الرازی:إنّه قد بلغ التواتر المعنوی عن الصحابة باستعمال القیاس،و هو قطعی،ولا شکّ فیه،فلا شبهة فی أنّ موارده مورد الآحاد،وابتداء النقل فیها کان خاصّاً،ولا فرق بین مدّعی تواترها وبین مدّعی تواتر جمیع أخبار الآحاد التی ظهرت بین الفقهاء وکثُرَ احتجاجهم بها فی کتبهم ومناظراتهم،و إن کان اصولها آحاداً،و أمّا التلقّی بالقبول،فإنّه غیر مسلّم؛لأنّه لم یکن منهم فی هذه الأخبار من القبول إلاّ ما کان منهم فی خبر الوضوء من مسّ الذَّکر،وکقوله:«إنّ الأعمال بالنیات..»،وما شاکل ذلک من أخبار الآحاد.

فی ضوء ما ذکر،فقد ظهر أنّ هذه الأخبار التی ذکروها فی کتبهم الاستدلالیة لإثبات القیاس،و أنّ الصحابة استعملوه لیست ممّا تجب به الحجّة،ولا تثبت بمثلها الاُصول التی طریقها العلم،هذا أوّلاً.

وثانیاً:قوله:«وما نقلوه بخلافه فأکثرها مقاطیع ومرویة عن غیر ثبت»معارض بما

ص:519


1- (1) .راجع:المستصفی:314315/2؛الإحکام:308/4؛کشف الأسرار:414/3؛روضة الناظر:165؛شرح المعالم:270/2؛التلویح:119/2.
2- (2) .راجع:المستصفی:313314/2؛کشف الأسرار:414/3.

ذکره بعضهم،مثلاً قال ابن قیم الجوزیة:وأسانید هذه الآثار عن عمر فی غایة الصحّة. (1)

وأیضاً قال:وصحّ عنه(أی ابن مسعود)فی المفوّضة. (2)

و قد نقل البخاری فی صحیحه حدیث سهل بن حنیف فی ذمّ الرأی، (3)وحدیث عروة بن الزبیر،عن عبدالله بن عمرو بن العاص، (4)وحدیث زید بن ثابت. (5)

فهؤلاء من الصحابة یخرجون الرأی عن العلم ویذمّونه،ویحذّرون منه،وینهون عن الفتیا به،ومن اضطرّ منهم إلیه أخبر أنّه ظنّ،وأنّه لیس علی ثقة منه،وأنّه یجوز أن یکون منه ومن الشیطان،و أنّ الله ورسوله بریءٌ منه،فهل تجد من أحد منهم قطّ أنّه جعل رأی رجل بعینه دیناً تترک له السنن الثابتة عن رسول الله صلّی اللّه علیه و آله،ویبدع ویضلّل من خالفه إلی اتّباع السنن؟ (6)

قال ابن قیم الجوزیة:الرأی فی الأصل مصدر رأی الشیء یراه رأیاً،والعرب تفرّق بین مصادر فعل الرؤیة بحسب محالّها،فتقول:رأی کذا فی النوم رؤیا،ورآه فی الیقظة رؤیة،ورأی کذا-لما یعلم بالقلب ولا یری بالعین-رأیاً،ولکنّهم خصّوه بما یراه القلب بعد فکر وتأمّل وطلب لمعرفة وجه الصواب ممّا تتعارض فیه الأمارات،فلا یقال لمن رأی بقلبه أمراً غائباً عنه ممّا یحسّ به إنّه رآه،ولا یقال أیضاً للأمر المعقول الذی لا تختلف فیه العقول ولا تتعارض فیه الأمارات إنّه رأی؛و إن احتاج إلی فکر وتأمّل کدقائق الحساب ونحوها. (7)

ص:520


1- (1) .أعلام الموقّعین:55/1 و 57.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .صحیح البخاری:1769/1768 ح7307-7308.
4- (4) .المصدر.
5- (5) .أعلام الموقّعین:59/1.
6- (6) .المصدر:6061/1.
7- (7) .أعلام الموقعین:66/1.

تنبیه

قال المحقّق السید الحکیم:و هذه المناقشات إنّما تحسن وتکون ذات جدوی إذا صحّ صدور هذه الروایات علی اختلافها فی النفی و الإثبات من قِبل أصحابها بهذه الألفاظ(الرأی،القیاس)وبما لها من مدالیل ومسالک وفق ما حدّدوها بعد أکثر من قرن، (1)بل قال ابن حزم فی المحلّی:إنّه بدعة حدث فی القرن الثانی ثمّ فشا وظهر فی القرن الثالث،وأوّل من توسّع فیه فی القرن الثانی أبو حنیفة،و قد نشط فی عصره،وأخذ به الشافعیة و المالکیة حتّی بالغ به جماعة فقدّموه علی الإجماع،بل غلا آخرون فردّوا الأحادیث بالقیاس.ومن المعلوم أنّه کان الرأی و القیاس غیر واضح المعالم عند من کان یأخذ به من الصحابة و التابعین،حتّی بدأ البحث فیه لترکیزه وتوسعة الأخذ به فی القرن الثانی علی ید أبی حنیفة وأصحابه.

ففی ضوء ما ذکرناه یتّضح إنکار کلّ من الاُستاذ سخاو و الدکتور جولدتسیهر أن یکون القیاس بمفهومه المحدّد لدی المتأخّرین کان مستعملاً لدی الصحابة.

وما قاله الدکتور محمّد یوسف موسی،و هو:«حقّاً أنّ الرأی فی هذه الفترة من فترات تاریخ الفقه الإسلامی،لیس هو القیاس الذی عرف فیما بعد فی عصر الفقهاء وأصحاب المذاهب الأربعة المشهورة،ولکن الرأی الذی استعمله بعض الصحابة لا یبعد کثیراً عن هذا القیاس إن لم یکنه،و إن کانوا لم یؤثَر عنهم فی العلّة ومسالکها،وسائر البحوث التی لا بدّ منها لاستعمال القیاس شیء ممّا عرفناه فی عصر اولئک الفقهاء. (2)

ولا یعرف کیف علم الدکتور موسی أنّ الرأی الذی استعملوه لا یبعد عن قیاس المتأخّرین إن لم یکنه إذا کان لم یؤثَر عنهم شیء عن العلّة ومسالکها وسائر بحوثها؟ (3)

ص:521


1- (1) .الاُصول العامّة:350.
2- (2) .تاریخ الفقه الإسلامی لمحمّد یوسف موسی:29؛الاُصول العامّة:350.
3- (3) .الاُصول العامّة:351.

فاعلم أنّه لا شکّ أنّ بعض الصحابة کانوا یفتون بالرأی،ولکن لم یکن الرأی مساوقاً للعمل بالقیاس،بل لعلّهم اعتمدوا فیها علی ضرب من الاستدلال و التأمّل.

قال ابن القیم:إنّ الرأی المذموم فی هذه الآثار عن النبی صلی الله علیه و آله وعن أصحابه و التابعین أنّه القول فی أحکام شرائع الدِّین بالاستحسان و الظنون،وردّ الفروع بعضها علی بعض قیاساً دون ردّها علی اصولها،والنظر فی عللها واعتبارها،فاستعمل فیها الرأی قبل أن ینزل،وفرّعت وشقّقت قبل أن تقع. (1)

و هذا التوجیه منه مو هونٌ بما عرفته آنفاً.

ویمکن أن یقال فی ردّ التوفیق المذکور:بأنّ الذین نقلنا عنهم المنع من القیاس هم الذین دللتم علی أنّهم کانوا عاملین به،إلاّ أنّا نقلنا عنهم التصریح بالرّد و المنع علی الإطلاق من غیر تقیید بصورة خاصّة،وأنتم ما نقلتم عنهم التصریح بالقول،بل رویتم عنهم اموراً،ثمّ دللتم بوجوه دقیقة غامضة علی أنّ تلک الاُمور دالّة علی قولهم بالقیاس،ومعلومٌ أنّ التصریح بالرّد أقوی ممّا ذکرتموه،فکان القول بالإنکار راجحاً.

ولو سلّم عدم الترجیح من هذا الوجه،لکن یحتمل أن یقال:إنّ بعضهم کان قائلاً بالقیاس حین کان البعض الآخر منکراً له،ثمّ لمّا انقلب المنکِر مقرّاً،انقلب المقرّ أیضاً مُنکِراً،فعلی هذا التقدیر لا یحصل الإجماع.

وعلی أنّ هذه الجموع کلّها جموعٌ تبرّعیة لا تعتمد علی ظهور عرفی یقتضیها،وکلّ جمع لا یقتضیه الظاهر لا یسوغ الرجوع إلیه،وإلاّ لما تعذّر جمع بین أمرین مختلفین.

والحقّ أنّ الجمع بین الأدلّة إذا لم یکن له ظاهر من نفس الأدلّة أو ما یحیط بها من أجواء وملابسات لا یسوغ الرکون إلیه،ومجرّد کونها منقولة عمّا نقلنا عنهم القول بالرأی و القیاس لا یستدعی هذا النوع من الجموع،والقاعدة تقتضی الحکم بالتساقط عند تحکّم المعارضة.

ص:522


1- (1) .أعلام الموقّعین:69/1.

ومع الغضّ عن تحکّم المعارضة،والأخذ بما ذکروه من الجمع بینها،فإذا شککنا فی حجّیة القیاس الظنّی،فهل نتمکّن من إثباته بأحد الإجماعین المذکورین؟وهل ذلک إلاّ من قبیل إثبات القضیة لموضوعها،و هو ممّا تأباه جمیع القضایا الحقیقیة؟

5.ومع تسلیم حجّیة هذا النوع من الإجماع،والتغاضی عن کلّ ما اورد علیه،إلاّ أنّ ما قام علیه الإجماع هو نفس القیاس لا مسالکه المظنونة،إذ لیس فی هذه الفتاوی ما یشیر إلی الأخذ بمسلک من هذه المسالک موضع الخلاف؛لیصلح للتمسّک به علی إثباته،والإجماع کما هو التحقیق من الأدلّة اللبیة التی یقتصر فیها علی القدر المتیقّن،إذ لا إطلاق أو عموم لها لیصحّ التمسّک به،والقدر المتیقّن هو خصوص ما کان معلوم العلّة منه،فلا یصحّ التجاوز إلی غیره.

ص:523

الخلاصة

3.قال الشوکانی:ولو سلّمنا ثبوت الإجماع لکان ذلک الإجماع إنّما هو علی القیاسات التی وقع النصّ علی علّتها،والتی قطع فیها بنفی الفارق.فما الدلیل علی أنّهم قالوا بجمیع أنواع القیاس الذی اعتبره کثیر من الاُصولیین،وأثبتوه بمسالک تنقطع فیها أعناق الإبل؟

4.إنّ سکوت الباقین غیر مسلّم،ویکفی لإبطال الإجماع إنکار شخص واحد له شأنٌ فی الفتیا،إذ لا یتحقّق معه اتّفاق الجمیع،فکیف إذا کان المنکرون أکثر من واحد،و قد علمت بعض المنکرین من الصحابة الذین لهم شأنٌ کبیر فی الفتیا؟

قال الآمدی:قولکم إنّه لم یوجد من غیرهم نکیر علیهم،لا نسلّم ذلک.وبیان وجود الإنکار ما روی عن أبی بکر فی الکلالة،وما روی عن عمر،وعن شریح،وعن علی علیه السّلام،وعن عثمان،وابن عبّاس،وابن مسعود،ومسروق،حیث قال:لا أقیس شیئاً بشیء،أخاف أن تزلّ قدمٌ بعد ثبوتها،وکان ابن سیرین یذمّ المقاییس ویقول:أوّل من قاس إبلیس،ومع هذه الإنکارات من الصحابة و التابعین،فلا إجماع.

و قد اجیب عن هذا الإیراد:

أوّلاً:بأنّ الذین نقل عنهم إنکار الرأی هم الذین نقل عنهم القول به،فلا بدّ من التوفیق بین النقلین،فیحمل ما نقل عنهم من أدلّة الجمهور علی القیاس الصحیح،ویحمل النقل المعارض علی القیاس الفاسد.

وثانیاً:یجمع بینها بما قال الغزالی:ویحمل ما أنکروه علی الرأی المخالف للنصّ،أو الرأی الصادر عن الجهّال الذی یصدر ممّن لیس أهلاً للاجتهاد،أو وضع الرأی فی غیر محلّه...إلخ.

وثالثاً:ثبت بالتواتر من جمیع الصحابة الاجتهاد،والقول بالرأی،والسکوت عن القائلین به فی وقائع مشهورة کمیراث الجدّ و الإخوة،وهکذا.وما لم یتواتر کذلک،

ص:524

فقد صحّ من آحاد الوقائع بروایات صحیحة لا ینکرها أحد من الاُمّة ما أورث علماً ضروریاً بقولهم بالرأی وعرف ذلک ضرورة،وما نقلوه بخلافه،فأکثرها مقاطیع ومرویة عن غیر ثبت،وهی بعینها معارضة بروایة صحیحة عن صاحبها بنقیضه،فکیف یترک المعلوم ضرورة بما لیس مثله؟

أقول:أمّا کلام بعضهم:إنّه قد بلغ التواتر المعنوی عن الصحابة باستعمال(القیاس)،فلا شبهة فی أنّ موارده مورد الآحاد،وابتداء النقل فیها کان خاصّاً،ولا فرق بین مدّعی تواترها وبین مدّعی تواتر جمیع أخبار الآحاد التی ظهرت بین الفقهاء وکثُرَ احتجاجهم بها فی کتبهم.

و أمّا التلقّی بالقبول،فإنّه غیر مسلّم؛لأنّه لم یکن منهم فی هذه الأخبار من القبول إلاّ ما کان منهم فی خبر الوضوء من مسّ الذَّکر،وکقوله:«إنّ الأعمال بالنیات..»،وما شاکل ذلک من أخبار الآحاد.

فی ضوء ما ذکر،فقد ظهر أنّ هذه الأخبار التی ذکروها فی کتبهم الاستدلالیة لإثبات القیاس،و أنّ الصحابة استعملوه لیست ممّا تجب به الحجّة،ولا تثبت بمثلها الاُصول التی طریقها العلم،هذا أوّلاً.

وثانیاً:قوله:«وما نقلوه بخلافه فأکثرها مقاطیع ومرویة عن غیر ثبت»معارض بما ذکره بعضهم،مثلاً قال ابن قیم الجوزیة:وأسانید هذه الآثار عن عمر فی غایة الصحّة.

وأیضاً قال:وصحّ عنه(أی ابن مسعود)فی المفوّضة.

و قد نقل البخاری فی صحیحه حدیث سهل بن حنیف فی ذمّ الرأی،وحدیث عروة بن الزبیر،عن عبدالله بن عمرو بن العاص،وحدیث زید بن ثابت.

فهؤلاء من الصحابة یخرجون الرأی عن العلم ویذمّونه،ویحذّرون منه،وینهون عن الفتیا به،ومن اضطرّ منهم إلیه أخبر أنّه ظنّ،وأنّه لیس علی ثقة منه،وأنّه یجوز أن یکون منه ومن الشیطان،و أنّ الله ورسوله بریءٌ منه.

ص:525

قال المحقّق السید الحکیم:و هذه المناقشات إنّما تحسن وتکون ذات جدوی إذا صحّ صدور هذه الروایات علی اختلافها فی النفی و الإثبات من قِبل أصحابها بهذه الألفاظ(الرأی و القیاس)وبما لها من مدالیل ومسالک وفق ما حدّدوها بعد أکثر من قرن،بل قال ابن حزم:إنّه بدعة حدث فی القرن الثانی ثمّ فشا وظهر فی القرن الثالث.ففی ضوء ما ذکرناه یتّضح إنکار کلّ من الاُستاذ سخاو و الدکتور جولدتسیهر أن یکون القیاس بمفهومه المحدّد لدی المتأخّرین کان مستعملاً لدی الصحابة.

فاعلم أنّه لا شکّ أنّ بعض الصحابة کانوا یفتون بالرأی،ولکن لم یکن الرأی مساوقاً للعمل بالقیاس،بل لعلّهم اعتمدوا فیها علی ضرب من الاستدلال و التأمّل.

قال ابن قیم الجوزیة:إنّ الرأی المذموم فی هذه الآثار عن النبی صلی الله علیه و آله وعن أصحابه و التابعین إنّه القول فی أحکام شرائع الدِّین بالاستحسان و الظنون،وردّ الفروع بعضها علی بعض قیاساً دون ردّها علی اصولها،والنظر فی عللها واعتبارها،فاستعمل فیها الرأی قبل أن ینزل،وفرّعت وشقّقت قبل أن تقع.و هذا التوجیه منه مو هونٌ بما عرفته آنفاً.

ویمکن أن یقال فی ردّ التوفیق المذکور:بأنّ الذین نقلنا عنهم المنع من القیاس هم الذین دللتم علی أنّهم کانوا عاملین به،إلاّ أنّا نقلنا عنهم التصریح بالرّد و المنع علی الإطلاق من غیر تقیید بصورة خاصّة،وأنتم ما نقلتم عنهم التصریح بالقول،بل رویتم عنهم اموراً،ثمّ دللتم بوجوه دقیقة غامضة علی أنّ تلک الاُمور دالّة علی قولهم بالقیاس،ومعلومٌ أنّ التصریح بالرّد أقوی ممّا ذکرتموه،فکان القول بالإنکار راجحاً.

ولو سلّم عدم الترجیح من هذا الوجه،لکن یحتمل أن یقال:إنّ بعضهم کان قائلاً بالقیاس حین کان البعض الآخر منکراً له ثمّ لمّا انقلب المنکِر مقرّاً انقلب المقرّ أیضاً مُنکِراً،فعلی هذا التقدیر لا یحصل الإجماع.

وعلی أنّ هذه الجموع کلّها جموعٌ تبرّعیة لا تعتمد علی ظهور عرفی یقتضیها،وکلّ جمع لا یقتضیه الظاهر لا یسوغ الرجوع إلیه،وإلاّ لما تعذّر جمع بین أمرین مختلفین.

ص:526

والحقّ أنّ الجمع بین الأدلّة إذا لم یکن له ظاهر من نفس الأدلّة أو ما یحیط بها من أجواء وملابسات لا یسوغ الرکون إلیه،ومجرّد کونها منقولة عمّا نقلنا عنهم القول بالرأی و القیاس لا یستدعی هذا النوع من الجموع،بل القاعدة تقتضی الحکم بالتساقط عند تحکّم المعارضة.

ومع الغضّ عن تحکّم المعارضة،والأخذ بما ذکروه من الجمع بینها،فإذا شککنا فی حجّیة القیاس الظنّی،فهل نتمکّن من إثباته بأحد الإجماعین المذکورین؟وهل ذلک إلاّ من قبیل إثبات القضیة لموضوعها،و هو ممّا تأباه جمیع القضایا الحقیقیة؟

5.ومع تسلیم حجّیة هذا النوع من الإجماع،والتغاضی عن کلّ ما اورد علیه،إلاّ أنّ ما قام علیه الإجماع هو نفس القیاس لا مسالکه المظنونة،إذ لیس فی هذه الفتاوی ما یشیر إلی الأخذ بمسلک من هذه المسالک موضع الخلاف لیصلح للتمسّک به علی إثباته،والإجماع کما هو التحقیق من الأدلّة اللبیة التی یقتصر فیها علی القدر المتیقّن،إذ لا إطلاق أو عموم لها لیصحّ التمسّک به،والقدر المتیقّن هو خصوص ما کان معلوم العلّة منه،فلا یصحّ التجاوز إلی غیره.

ص:527

الأسئلة

1.لماذا لا یکون سکوت الباقین غیر مسلّم؟وضّحه بذکر المثال.

2.اُذکر الجواب عن هذا الإیراد(سکوت الباقین)وکیفیة الجمع بین نقل إنکار الرأی و القول به منهم.

3.اُذکر الجواب الثالث عن إیراد سکوت الباقین.

4.لِمَ لا یکون الفرق بین مدّعی التواتر المعنوی عن الصحابة باستعمال القیاس وبین مدّعی تواتر جمیع أخبار الآحاد؟

5.لماذا یکون التلقّی بالقبول غیر مسلّم؟

6.لماذا لا یکون فتوی بعض الصحابة بالرأی مساوقاً للعمل بالقیاس؟

7.وضّح وبین الإیراد علی التوفیق المذکور بین نقلهم المنع من القیاس و العمل به.

8.لماذا یکون القول بالإنکار راجحاً؟

9.لِمَ لا یعتمد علی هذه الجموع کلّها؟

10.إذا شککنا فی حجّیة القیاس الظنّی،فلِمَ لا نتمکّن من إثباته بأحد الإجماعین المذکورین؟

11.ومع تسلیم حجّیة هذا النوع من الإجماع،والتغاضی عن کلّ ما اورد علیه،لا یصلح التمسّک به علی إثبات القیاس بالمسلک الذی هو موضع خلاف.

ص:528

الدرس الثامن و الخمسون بعد المئة

دلیل العقل

اشارة

من المعلوم أنّ أکثر الباحثین عن القیاس لم یذکروا دلیلاً عقلیاً علی حجیته.

قال الشیخ الطوسی:الذاهبون إلی القول بالقیاس فی الشرع فریقان:أحدهما:یوجب العمل به عقلاً،وهم الشذاذ. (1)

*وقال الرازی فی المحصول:فقال القفّال منّا،وأبو الحسین البصری من المعتزلة:العقل یدلّ علی وجوب العمل به،ثمّ قال:فهذا تفصیل المذاهب،والذی نذهب إلیه و هو قول الجمهور من علماء الصحابة و التابعین:إنّ القیاس حجّة فی الشرع. (2)

و هو بمعنی:إنّ الدلیل العقلی المحض دلّ علی أنّ القیاس أمرٌ ثابت لا یتصوّر انتفاؤه،وإلی هذا ذهب أبو الحسین البصری المعتزلی و القفّال الشاشی الشافعی، (3)و هذا

ص:529


1- (1) .العدّة فی اصول الفقه:669/2.
2- (2) .المحصول:1088/3-1089.وراجع:شرح المعالم:256/2.
3- (3) .هو أبو بکر محمّد بن علی بن إسماعیل،الشاشی،القفّال الکبیر،أحد أعلام الشافعیة وأئمّة المسلمین،ولد سنة 291.سمع من أبی بکر بن خزیمة ومحمّد بن جریر وأبی القاسم البغوی وغیرهم.قال الحلیمی:کان شیخنا القفّال أعلم من لقیته من علماء عصره.وقال الشیرازی:و هو

المذهب مبنی علی القول بوجوب فعل الصلاح و الأصلح علی الله تعالی،و هذا المبنی وبناؤه ظاهر بالنسبة لأبی الحسین؛لأنّه معتزلی،و أمّا بالنظر إلی القفّال،و هو من فقهاء أهل السنّة،فوجهه أنّه کان قائلاً بالاعتزال فی أوّل أمره ثمّ رجع إلی مذهب الأشعری کما فی طبقات الشافعیة للسبکی نقلاً عن الحافظ ابن عساکر.

***قال ابن المرتضی:الأکثر من الاُصولیین قد ورد التعبّد بالقیاس،ثمّ اختلفوا فی طریق وروده،فقال الأکثر من متأخّری أصحابنا:إنّه ورد عقلاً وسمعاً; أی:عرفنا أنّا متعبّدون به بالعقل وبالسمع.

قال أبو الحسین:والذی تبین أنّ العقل یدلّ علی التعبّد به،و هو أنّا إذا ظننا بأمارة شرعیة علّة حکم الأصل ثمّ علمنا بالعقل،أو بالحسّ ثبوتها فی شیء آخر،فإنّ العقل یوجب قیاس ذلک الشیء علی ذلک الأصل بتلک العلّة،مثال ذلک:إذا علمنا بطریق شرعی أنّ قبح شرب الخمر یحصل عند شدّتها،وینتفی عند انتفاء شدّتها،کان ذلک أمارة تفید الظنّ بکون شدّتها هی علّة تحریمها،فنعلم بالعقل وجوب قیاس النبیذ علی الخمر،حیث حصل فیه مثل شدّة الخمر،و إنّما قلنا إنّ ذلک یعلم بالعقل؛لأنّ العقل یقضی بقبح فعل قامت فیه أمارة المضرّة،و قد علمنا ضرورةً أنّ أمارة المضرّة قد قامت فی النبیذ،فکان الإقدام علیه کالجلوس تحت حائط و قد قامت فیه أمارة السقوط،فهذا تحقیق دلالة العقل علی وجوب القیاس. (1)

و قد ذکر جملة منهم للدلیل العقلی وجوهاً:

الوجه الأوّل:وحدة المناط تقتضی وحدة الحکم

*قال الزحیلی:إنّ أحکام الشارع معلّلة معقولة المعنی،ولها مقاصد،فالله سبحانه

ص:530


1- (1) .منهاج الوصول إلی معیار العقول:655؛المعتمد:707/2؛صفوة الاختیار:294.

لم یشرّع حکماً إلاّ لمصلحة،ومصالح العباد هی الغایة المقصودة من تشریع الأحکام،فإذا غلب علی ظنّ المجتهد أنّ حکم الأصل معلّل بعلّة،وتحقّقت المقاصد و العلل فی غیر موضع النصّ أی:فی الفرع،فیثبت الحکم المقرّر فی النصّ فیما لا نصّ فیه فی أغلب الظنّ عند المجتهد،والعمل بالظنّ أمرٌ واجب؛لأنّ من الحکمة و العدالة أن تتساوی الوقائع فی الحکم عند تساویها فی المعنی تحقیقاً للمصلحة التی هی مقصود الشارع من التشریع. (1)

وقال خلاّف:إنّ الله سبحانه ما شرّع حکماً إلاّ لمصلحة،و إنّ مصالح العباد هی الغایة المقصودة من تشریع الأحکام،فإذا ساوت الواقعة المسکوت عنها الواقعة المنصوص علیها فی علّة الحکم التی هی مظنّة المصلحة،قضت الحکمة و العدالة بتساویهما فی الحکم تحقیقاً للمصلحة التی هی مقصود الشارع من التشریع. (2)

اورد علیه

أوّلاً:إنّ ما ذکره من أنّه سبحانه ما شرّع حکماً إلاّ لمصلحة،و أنّ مصالح العباد هی الغایة المقصودة من تشریع الأحکام مبنی علی القول بأنّ الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد،والمذهب الأشعری یردّ ذلک کما یردّ کون فعله سبحانه معلّلاً بالأغراض،ومن أفعاله تعالی هو تشریعه،فالاستدلال مبنی علی قول العدلیة القائلین بالتحسین و التقبیح أوّلاً،وعلی تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد ثانیاً،وإلاّ فأی ملزم للشارع المقدّس بحکم العقل أن لا یخالف بین الحکمین ما دام لا یؤمن العقل بحسن أو قبح عقلیین.

ودعوی اتّفاق غیر العدلیة من المسلمین مع العدلیة فی أنّ أحکامه تعالی لا تصدر إلاّ عن مصلحة أو مفسدة،لا تجدی فی تتمیم حکم العقل ما دام هو لا یلزم بذلک ولا یؤمن به.

ص:531


1- (1) .اُصول الفقه الإسلامی:630/1؛شرح العضدی علی مختصر ابن الحاجب:238/2؛الوسیط:188/1.
2- (2) .مصادر التشریع:3435؛الاُصول العامّة:351؛الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:483/2؛اُصول الفقه المقارن:144 نقلاً عن مصادر التشریع.

وثانیاً:إنّ الکبری مسلّمة،وهی أنّ أحکام الشرع تابعة للمصالح و المفاسد،و إنّما الشأن فی إمکان وقوف الإنسان علی مناطاة الأحکام وعللها علی وجه لا یخالف الواقع.

وثالثاً:لو سلّم إمکان وقوف العقل علی مناطاة الأحکام،فموضع المفارقة فی هذا الدلیل حتّی علی مبنی العدلیة هو ما ذکره فی العلّة من کونها مظنّة المصلحة،فالعقل لا یحکم بالمساواة بین الفرع وأصله فی الحکم إذا لم یدرک المساواة بینهما فی العلّة المحقّقة للمصلحة،لا التی هی مظنّة تحقیقها،وما هی علاقة ظنون المجتهدین بأحکام الله تعالی الواقعیة لیتقید بها الشارع المقدّس فی مقامات الجعل و التشریع،وبخاصّة علی مبنی من ینکر التصویب؟

ورابعاً:إذا کان مبنی ثبوت الحکم فیما لا نصّ فیه غَلَبة الظنّ عند المجتهد،فیحتمل أن تکون العلّة عند الله تعالی غیر ما ظنّه المجتهد بالقیاس،إذ یحتمل أن تکون خصوصیة المورد دخیلة فی ثبوت الحکم،ولو افترضنا أنّ القایس أصاب فی أصل التعلیل،ولکن من أین یعلم أنّها تمام العلّة؟فإنّه یجوز أن تکون جزء العلّة،وهناک جزءٌ آخر منضمّ إلیه فی الواقع ولم یصل القایس إلیه،مثال ذلک:إنّ الجاریة تحت العبد إذا اعتقت،فلها الخیار إن شاءت مکثت مع زوجها،و إن شاءت فارقته أخذاً بالسنّة،حیث إنّ بریرة کانت تحت عبد،فلمّا اعتقت،قال لها رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:

«اختاری فإن شئتِ أن تمکثی تحت هذا العبد و إن شئتِ أن تفارقیه». (1)

ص:532


1- (1) .الکافی:487/5 ح5؛سنن الترمذی:487 ح1154 و 1155؛صحیح البخاری:1356 ح5279؛سنن أبی داود:370/2 ح2233؛صحیح مسلم:698 ح3759 وما بعدها. قال أبو عیسی الترمذی:وهکذا روی عن ابن عمر،والعمل علی هذا عند بعض أهل العلم،وقالوا:إذا کانت الأمَة تحت الحرّ فاُعتقتْ،فلا خیار لها،و إنّما یکون لها الخیار إذا اعتقت وکانت تحت عبد،و هو قول الشافعی،وأحمد،وإسحاق. وروی أبو عوانة هذا الحدیث عن الأعمش،عن إبراهیم،عن الأسود،عن عائشة فی قصّة بریرة،قال الأسود:وکان زوجها حرّاً،والعمل علی هذا عند بعض أهل العلم من التابعین ومَنْ بعدهم،و هو

ثمّ إنّ الحنفیة قالت:بأنّ الجاریة تحت الحرّ إذا اعتقت لها الخیار کالمُعتَقة تحت العبد،لاشتراکهما فی کونهما جاریتین اعتقتا،ولکن من أین نعلم أنّ الانعتاق تمام المناط للحکم؟فلعلّ کونها تحت العبد وافتقاد المماثلة جزء العلّة.فما لم نقطع بالمناط وعلّة الحکم لا یمکن إسراء الحکم،و هذا هو الذی دعا الشیعة الإمامیة إلی منع العمل بالقیاس شرعاً.

الوجه الثانی:النصوص متناهیة و الوقائع غیر محدودة

قال الشهرستانی ومَن تبعه:أنّا نعلم قطعاً ویقیناً أنّ الحوادث و الوقائع فی العبادات

ص:533

والتصرّفات ممّا لا یقبل الحصر و العدّ،ونعلم قطعاً أنّه لم یرد فی کلّ حادثة نصّ ولا یتصوّر ذلک أیضاً،والنصوص إذا کانت متناهیة وما لا یتناهی لا یضبطه ما یتناهی،علم قطعاً أنّ الاجتهاد و القیاس واجب الاعتبار،حتّی یکون بصدد کلّ حادثة اجتهاد. (1)

وببیان آخر:نعلم قطعاً أنّ الحوادث لا نهایة لها،وأیضاً نعلم أنّه لم یرد النصّ فی جمیع الحوادث لتناهی النصوص،ویستحیل أن یستوعب المتناهی ما لا یتناهی.إذن،فلا بدّ من مرجع لاستنباط الأحکام لتلافی النواقص من الحوادث ولیس هو إلاّ القیاس.

و قد استُشکل علیه

أوّلاً:بأنّ الله تعالی قد أکمل لهذه الاُمّة دینها: اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ (2)و أنّ رسوله صلی الله علیه و آله قال:

«ترکتکم علی الواضحة لیلها کنهارها». (3)

ثمّ لا یخفی علی ذی لبٍّ صحیح،وفهم صالح أنّ فی عمومات الکتاب و السنّة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما یفی بکلّ حادثة تحدث،ویقوم ببیان کلّ نازلة تنزل،عرف ذلک من عرفه،وجهله من جهله. (4)

ویمکن أن یقال:نعم،إنّ الحوادث الجزئیة غیر متناهیة،ولکن لا یجب فی کلّ حادثة جزئیة أن یرد نصّ من الشارع بخصوصها،بل یکفی أن تدخل فی أحد

ص:534


1- (1) .راجع:المنخول:425؛اُصول الفقه الإسلامی:631/1؛الوسیط:189/1؛مصادر التشریع الإسلامی:35؛اُصول الفقه للمظفّر:425/2؛الاُصول العامّة:353؛الوجیز:223؛الإحکام:290/4؛إرشاد الفحول:87/2؛روضة الناظر:163؛المستصفی:297/2؛نزهة الخاطر:156157/2؛شرح المعالم:270/2؛البحر المحیط:11/4.
2- (2) .المائدة:103.
3- (3) .سنن ابن ماجة:39/1 ح43 المقدّمة.
4- (4) .راجع:إرشاد الفحول:87/2؛شرح المعالم:271/2؛المستصفی:297/2؛نزهة الخاطر:156157/2.

العمومات،والاُمور العامّة محدودة متناهیة لا یمتنع ضبطها،ولا یمتنع استیعاب النصوص لها. (1)

وقال فی الاُصول العامّة:ولکن الکلام فی تمامیة الدعوی الثانیة،وهی دعوی أنّ ما یتناهی لا یضبط ما لا یتناهی،وذلک أنّ الذی لا یتناهی هی الجزئیات لا المفاهیم الکلیة،والجزئیات یمکن ضبطها بواسطة کلیاتها،وقضایا الشریعة إنّما تتعرّض للمفاهیم الکلیة غالباً،وهی کافیة فی ضبط جزئیات ما یجد من أحداث،وبخاصّه إذا ضمّ إلیها ما یکتشفه العقل من أحکام الشرع علی نحو القطع،وما جعل لها من الطرق و الأمارات والاُصول المؤمّنة یغنی عن اعتبار القیاس بطرقه المظنونة. (2)

وثانیاً:إنّ المستدلّ اتّخذ المدّعی دلیلاً وقال:والقیاس هو المصدر التشریعی الذی یسایر الوقائع المتجدّدة،مع أنّ الکلام فی أنّ القیاس هل هو مصدر تشریعی حتّی تأخذ به فی مسایرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ومجرّد کونه یسایر الأحداث لا یکون دلیلاً علی کونه حجّة.یعنی:إنّ حکم العقل هذا لو تمّ فهو لا یشیر ولا یعین القیاس المظنون،فکیف یکون حجّة فیه؟لأنّ تعیینه أو غیره ممّا یحتاج إلی مقدّمات اخری وهی مفقودة فی الدلیل،فعلی هذا یکون العمل بالقیاس تشریعاً وبدعةً وإدخالاً فی الدِّین ما لم یعلم کونه منه،مع إمکان الخروج من المأزق بروایات أهل البیت علیهم السّلام،والعمومات و الإطلاقات کما أشار إلیها العلاّمة الشوکانی،و قد عرفتها آنفاً. (3)

وثالثاً:إنّه ادّعی أنّ إثبات ما لا نهایة له بالمتناهی محالٌ،وعنی بالمتناهی نصوص

ص:535


1- (1) .اُصول الفقه للمظفّر:425/2.
2- (2) .الاُصول العامّة:353354.
3- (3) .راجع:الاُصول العامّة:354؛اُصول الفقه المقارن:147؛الإنصاف فی مسائل دام فیها الخلاف:485/2؛شرح المعالم:271/2.

الکتاب و السنّة،وادّعی دفع المحذور من ذلک بزیادة القیاس،وزیادة واحد علی المتناهی لا تصیره غیر متناه. (1)

الوجه الثالث:الفطرة السلیمة وبداءة العقول تقتضی العمل بالقیاس

قال الزحیلی:إنّ الفطرة السلیمة وبدائة العقول تقتضی العمل بالقیاس،فمن منع من فعل؛لأنّ فیه أکلاً لأموال الناس بالباطل،أو لأنّ فیه ظلماً لغیره واعتداءً علی حقّ الآخرین،فإنّه یقیس علی هذا الفعل کلّ أمر فیه عدوانٌ أو ظلم،والناس فی کلّ زمن یعرفون أنّ ما جری علی أحد المثلین یجری علی الآخر حیث لا فرق بینهما. (2)

و هذا الدلیل بعد الغضّ عمّا فیه من الخلط بین الفطرة السلیمة وحکم العقل وبناء العقلاء لا یتعرّض إلی أکثر من حجّیة أصل القیاس لا طرقه المظنونة،وحجیة أصل القیاس لا تقبل المناقشة کما علمت سابقاً.

هذا مضافاً إلی أنّ من الواضح أنّه لا تلازم بین حرمة شیء وحرمة ما ظنّ وجود علّتها فیه إن لم تکن موجودة واقعاً; لأنّ الظنّ بالعلّة لا یسری إلی الواقع فیغیره عمّا هو علیه. (3)

الوجه الرابع:حصول الظنّ من القیاس و العمل به واجب

یحصل من القیاس الظنّ بالحکم،فإذا لم نعمل به یلزمنا العمل بما یقابله و هو الوهم،وقال ابن قدامة المقدسی:ولأنّنا نستفید بالقیاس ظنّاً غالباً فی إثبات الحکم،والعمل بالظنّ الراجح متعین. (4)

وفیه:أنّه لا یجوز العمل بالظنّ المطلق ما لم یثبت من الشرع حجیته مثل خبر

ص:536


1- (1) .شرح المعالم:271/2.
2- (2) .اُصول الفقه الإسلامی:631/1؛الوسیط:190/1.
3- (3) .راجع:الاُصول العامّة:354؛العدّة فی الاُصول:672/2؛الذریعة إلی اصول الشریعة:703704/2.
4- (4) .روضة الناظر:163؛مذکّرة فی اصول الفقه:233؛نزهة الخاطر:157/2.

الواحد،وظواهر الکتاب،ولا یعمل بما یقابله من الوهم،بل یعمل بما دلّ علیه العقل،وتسالم علیه العقلاء من البراءة فی موردها أو الاحتیاط فی مورده.

وقال فی نزهة الخاطر:إنّما یجوز العمل بالظنّ فی المسائل العملیة وهی الفروع،و أمّا هنا فهو إثبات أصل من الاُصول،فلیس للظنّ فی إثباتها مجال لفرط الاهتمام فیها. (1)و قد علمت فی مبحث حجّیة الظنّ أنّه لا بدّ من العلم فی حجیته أو الدلیل الذی ینتهی إلیه،فتأمّل.

ص:537


1- (1) .نزهة الخاطر:157/2.

الخلاصة

من المعلوم أنّ أکثر الباحثین عن القیاس لم یذکروا دلیلاً عقلیاً علی حجیته.

قال الرازی:قال القفّال منّا،وأبو الحسین البصری من المعتزلة:العقل یدلّ علی وجوب العمل به،والذی نذهب إلیه و هو قول الجمهور:إنّ القیاس حجّة فی الشرع،بمعنی:إنّ الدلیل العقلی المحض دلّ علی أنّ القیاس أمرٌ ثابت لا یتصوّر انتفاؤه،وإلی هذا ذهب أبو الحسین المعتزلی و القفّال الشاشی الشافعی.

وقال بعض الزیدیة:والذی تبین أنّ العقل یدلّ علی التعبّد به،و هو أنّا إذا ظننا بأمارة شرعیة علّة حکم الأصل ثمّ علمنا بالعقل أو بالحسّ ثبوتها فی شیء آخر،فإنّ العقل یوجب قیاس ذلک الشیء علی ذلک الأصل بتلک العلّة،و إنّما قلنا إنّ ذلک یعلم بالعقل؛لأنّ العقل یقضی بقبح فعل قامت فیه أمارة المضرّة،و قد علمنا ضرورةً أنّ أمارة المضرّة قد قامت فی النبیذ،فکان الإقدام علیه کالجلوس تحت حائط،و قد قامت فیه أمارة السقوط،فهذا تحقیق دلالة العقل علی وجوب القیاس.

و قد ذکروا للدلیل العقلی وجوهاً،هی:

الوجه الأوّل:وحدة المناط تقتضی وحدة الحکم.قال الزحیلی:إنّ أحکام الشارع معلّلة معقولة المعنی،ولها مقاصد،فالله سبحانه لم یشرّع حکماً إلاّ لمصلحة،ومصالح العباد هی الغایة المقصودة من تشریع الأحکام.وقال خلاّف:فإذا ساوت الواقعة المسکوت عنها الواقعة المنصوص علیها فی علّة الحکم التی هی مظنّة المصلحة،قضت الحکمة و العدالة بتساویهما فی الحکم تحقیقاً للمصلحة التی هی مقصود الشارع من التشریع.

اورد علیه

أوّلاً:إنّ ما ذکر من أنّه سبحانه ما شرّع حکماً إلاّ لمصلحة،و أنّ مصالح العباد هی

ص:538

الغایة المقصودة من تشریع الأحکام مبنی علی القول بأنّ الأحکام تابعة للمصالح و المفاسد،والمذهب الأشعری یردّ ذلک کما یردّ فعله سبحانه معلّلاً بالأغراض،ومن أفعاله تعالی هو تشریعه،فالاستدلال مبنی علی قول العدلیة القائلین بالتحسین و التقبیح أوّلاً،وعلی تبعیة الأحکام للمصالح و المفاسد ثانیاً.

وثانیاً:إنّ الکبری مسلّمة،وهی أنّ أحکام الشرع تابعة للمصالح و المفاسد،و إنّما الشأن فی إمکان وقوف الإنسان علی مناطاة الأحکام وعللها علی وجه لا یخالف الواقع.

وثالثاً:لو سلّم إمکان وقوف العقل علی مناطاة الأحکام،فموضع المفارقة فی هذا الدلیل حتّی علی مبنی العدلیة هو ما ذُکر فی العلّة من کونها مظنّة المصلحة،فالعقل لا یحکم بالمساواة بین الفرع وأصله فی الحکم إذا لم یدرک المساواة بینهما فی العلّة المحقّقة للمصلحة،لا التی هی مظنّة تحقیقها.

ورابعاً:إذا کان مبنی ثبوت الحکم فیما لا نصّ فیه غَلَبة الظنّ عند المجتهد،فیحتمل أن تکون العلّة عند الله تعالی غیر ما ظنّه المجتهد بالقیاس،إذ یحتمل أن تکون خصوصیة المورد دخیلة فی ثبوت الحکم،وأیضاً یحتمل أن تکون جزء العلّة،وهناک جزء آخر منضمّ إلیه فی الواقع ولم یصل القایس إلیه.

الوجه الثانی:النصوص متناهیة و الوقائع غیر محدودة.قال الشهرستانی ومَن تبعه:أنّا نعلم قطعاً ویقیناً أنّ الحوادث و الوقائع فی العبادات و التصرّفات ممّا لا یقبل الحصر و العدّ،ونعلم قطعاً أنّه لم یرد فی کلّ حادثة نصّ ولا یتصوّر ذلک أیضاً،والنصوص إذا کانت متناهیة،وما لا یتناهی لا یضبطه ما یتناهی،علم قطعاً أنّ الاجتهاد و القیاس واجب الاعتبار،حتّی یکون بصدد کلّ حادثة اجتهاد.

و قد استُشکل علیه

أوّلاً:بأنّ الله تعالی قد أکمل لهذه الاُمّة دینها،ولا یخفی علی ذی لبٍّ صحیح،وفهم صالح أنّ فی عمومات الکتاب و السنّة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما یفی

ص:539

بکلّ حادثة تحدث،ویمکن أن یقال:نعم،إنّ الحوادث الجزئیة غیر متناهیة،ولکن لا یجب فی کلّ حادثة جزئیة أن یرد نصّ من الشارع بخصوصها،بل یکفی أن تدخل فی أحد العمومات،والاُمور العامّة محدودة متناهیة لا یمتنع ضبطها،ولا یمتنع استیعاب النصوص لها.وقضایا الشریعة إنّما تتعرّض للمفاهیم الکلیة غالباً،وهی کافیة فی ضبط جزئیات ما یجدّ من أحداث،وبخاصّة إذا ضمّ إلیها ما یکتشفه العقل من أحکام الشرع علی نحو القطع،وما جعل لها من الطرق و الأمارات والاُصول المؤمّنة یغنی عن اعتبار القیاس بطرقه المظنونة.

وثانیاً:إنّ المستدلّ اتّخذ المدّعی دلیلاً وقال:والقیاس هو المصدر التشریعی الذی یسایر الوقائع المتجدّدة،مع أنّ الکلام فی أنّ القیاس هل هو مصدر تشریعی حتّی تأخذ به فی مسایرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ومجرّد کونه یسایر الأحداث لا یکون دلیلاً علی کونه حجّة; یعنی:إنّ حکم العقل هذا لو تمّ فهو لا یشیر ولا یعین القیاس المظنون،فکیف یکون حجّة فیه؟لأنّ تعیینه أو غیره ممّا یحتاج إلی مقدّمات اخری وهی مفقودة فی الدلیل،فعلی هذا یکون العمل بالقیاس تشریعاً وبدعةً.

وثالثاً:إنّه ادّعی أنّ إثبات ما لا نهایة له بالمتناهی محالٌ،ثمّ ادّعی دفع المحذور من ذلک بزیادة القیاس،وزیادة واحد علی المتناهی لا تصیره غیر متناه.

الوجه الثالث:الفطرة السلیمة وبداءة العقول تقتضی العمل بالقیاس.قال الزحیلی:إنّ الفطرة السلیمة وبدائة العقول تقتضی العمل بالقیاس،فمن منع من فعل؛لأنّ فیه أکلاً لأموال الناس بالباطل،أو لأنّ فیه ظلماً لغیره واعتداءً علی حقّ الآخرین،فإنّه یقیس علی هذا الفعل کلّ أمر فیه عدوانٌ أو ظلم.

و هذا الدلیل بعد الغضّ عمّا فیه من الخلط بین الفطرة السلیمة وحکم العقل وبناء العقلاء لا یتعرّض إلی أکثر من حجّیة أصل القیاس لا طرقه المظنونة،هذا مضافاً إلی أنّ من الواضح أنّه لا تلازم بین حرمة شیء وحرمة ما ظنّ وجود علّتها فیه إن لم تکن

ص:540

موجودة واقعاً; لأنّ الظنّ بالعلّة لا یسری إلی الواقع فیغیره عمّا هو علیه.

الوجه الرابع:حصول الظنّ من القیاس و العمل به واجب.یحصل من القیاس الظنّ بالحکم،فإذا لم نعمل به یلزمنا العمل بما یقابله و هو الوهم،وقال ابن قدامة المقدسی:أنّنا نستفید بالقیاس ظنّاً غالباً فی إثبات الحکم،والعمل بالظنّ الراجح متعین،وفیه:أنّه لا یجوز العمل بالظنّ المطلق ما لم یثبت من الشرع حجیته مثل خبر الواحد،وظواهر الکتاب،ولا یعمل بما یقابله من الوهم،بل یعمل بما دلّ علیه العقل،وتسالم علیه العقلاء من البراءة فی موردها أو الاحتیاط فی مورده.

وقال فی نزهة الخاطر:و أمّا هنا فهو إثبات أصل من الاُصول،فلیس للظنّ فی إثباتها مجال لفرط الاهتمام فیها.

ص:541

الأسئلة

1.ما هو معنی أنّ العقل یدلّ علی وجوب العمل بالقیاس؟

2.وضّح وبین تقریر وحدة المناط لحجیة القیاس.

3.اُذکر الإیراد الأوّل علی وحدة المناط تقتضی وحدة الحکم.

4.اُذکر الإیراد الثاث علی وحدة المناط.

5.وضّح قول الشهرستانی:النصوص متناهیة و الوقائع غیر محدودة.

6.اُذکر الاستشکال الأوّل علی قول الشهرستانی ومَن تبعه.

7.وضّح الاستشکال:«إنّ المستدلّ اتّخذ المدّعی دلیلاً».

8.بین ووضّح الاستدلال بالفطرة السلیمة وبداءة العقول علی حجّیة القیاس.

9.اُذکر الإیراد علی الاستدلال بالفطرة السلیمة وبداءة العقول.

10.اُذکر الوجه الرابع علی حجّیة القیاس و الإیراد علیه.

ص:542

الدرس التاسع و الخمسون بعد المئة

القول فی ردّ القیاس

لقد علمت أنّ الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة القیاس لیست صالحة قاطعة للنزاع،ولا مفیدة للعلم بأنّ الشارع جعل القیاس حجّة فیما لا نصّ فیه.ولا بدّ من التنبیه علی نکتة جدیرة بالتأمّل فیها،وهی أنّه إذا کان للقیاس فی الشریعة المقدّسة هذه المنزلة فی التشریع بحیث یکون مدرکاً من مدارک التشریع الإسلامی،فلماذا لم یقع فی إطار البیان الصریح من النبی صلی الله علیه و آله کما وقع قول الثقة أو حجّیة البینة فی إطاره؟

وحیث عرفت أنّ جمیع ما ذکره مثبتو القیاس من الأدلّة لا تنهض بإثبات الحجّیة له،فنبقی نحن و الشکّ فی حجیته،والشکّ فی الحجّیة کاف للقطع بعدمها،إذ الأصل عدم حجّیة الظنّ إلاّ ما خرج وثبت بالدلیل العلمی.

وفی ضوء ما ذکرناه إلی الآن نری عدم الحاجة إلی عرض أدلّة نفاة القیاس ومناقشتها،و قد تفطّنت فی صدر مباحث الحجّیة من العلاّمة الشوکانی إلی عدم الحاجة إلیها،حیث قال:و قد استدلّ المانعون من القیاس بأدلّة عقلیة ونقلیة،ولا حاجة لهم إلی الاستدلال،فالقیام فی مقام المنع یکفیهم،وإیراد الدلیل علی القائلین بها. (1)

ص:543


1- (1) .إرشاد الفحول:79/2.

لیس فی الشرع دلیلٌ یجوّز استعمال القیاس

من المعلوم أنّه إذا ثبت جواز العبادة بالقیاس من جهة العقل،فثبوت العبادة به یحتاج إلی دلیل شرعی،و قد علمنا أنّه لیس فی الشرع دلیلٌ علی أنّ القیاس دین الله تعالی یجوز استعماله،لا من جهة الکتاب،ولا من جهة السنّة المتواتر بها،ولا الإجماع،ولا العقل.

أمّا بیان الملازمة،فلأنّ التکلیف یستدعی وجود دلالة،وإلاّ لکان التکلیف به من دون دلالة علیه تکلیفاً بما لا سبیل إلی العلم به،و هو تکلیفٌ بالمُحال،و أمّا بطلان اللاّزم فبالاستقراء. (1)

قال ابن زهرة فی بیان الملازمة:و إذا ثبت ذلک وکان القیاس یفتقر ثبوت التعبّد بالعمل به فی الأحکام الشرعیة إلی دلیل شرعی کسائر الاُصول الشرعیة؛لأنّ التعبّد بجمیع ذلک یتبع المصلحة،ولم نجد فی الشرع ما یدلّ علی ذلک،وجب نفیه. (2)

ومعلومٌ أنّ هذا الاستدلال وما شابهه ینتج بعد ردّ الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة القیاس وإلاّ فلا.

إجماع الإمامیة بل ضرورة المذهب علی ترک العمل بالقیاس

أطبق أصحابنا الإمامیة علی منع العمل بالمستنبطة،وحکی إجماعهم فیه غیر واحد منهم،بل منعه یعدّ من ضروریات المذهب. (3)

ولکن قال المحقّق الکرکی بعد تعریفه القیاس بتعدیة الحکم من المنطوق إلی

ص:544


1- (1) .راجع:العدّة فی الاُصول:665/2؛معارج الاُصول:188؛مفاتیح الاُصول:659؛الذریعة إلی اصول الشریعة:697/2.
2- (2) .غنیة النزوع(الجوامع الفقهیة):481.
3- (3) .راجع:معالم الدِّین:313؛الوافیة:236؛رسالة القیاس للوحید البهبهانی(الرسائل الاُصولیة):312؛اُصول الاستنباط:259.

المسکوت:و قد وقع فیه الخلاف،فمتقدّمو أصحابنا لا یعملون بشیء منه،والمتأخّرون عملوا بما نصّ علی علّة حکم الأصل إمّا بنصٍّ أو إیماء علی ما تقرّر فی الاُصول. (1)

وقال الشیخ الطوسی:وأقوی ما اعتُمد فی ذلک إجماع الطائفة المحقّة،و قد ثبت أنّ إجماعهم حجّة؛لأنّه یشتمل علی قول معصوم لا یجوز علیه الخطأ،و قد علمنا أنّهم علیهم السّلام مجمعون علی إبطال القیاس،والمنع من استعماله،ولیس لأحد أن یعارض هذا الإجماع لمن یذهب إلی مذهب الزیدیة و المعتزلة من أهل البیت وقال مع ذلک بالقیاس؛لأنّ هؤلاء لا اعتبار بمثلهم; لأنّ من خالف فی الاُصول الخلاف الذی یوجب التکفیر أو التفسیق،لا یدخل قوله فی جملة من یعتبر إجماعهم ویجعله حجّة؛لأنّا قد بینا أنّ کلّ من علِمنا أنّه لیس بإمام،فإنّا لا نعتدّ بخلافه،ونرجع إلی الفرقة الاُخری التی نعلم کون الإمام فی جملتهم. (2)

وقال العلاّمة الحلّی:ذهب الأصحاب کافّة،عدا ابن الجنید من قدمائنا فی أوّل أمره،وبعض العامّة إلی حرمة العمل به. (3)

و أمّا ادّعاء ضرورة المذهب:

قال فی المعالم:وبالجملة،فمنعه(أی العمل بالقیاس)یعدّ من ضروریات المذهب. (4)

وقال فی الفوائد المدنیة:إنّ بطلانه صار من ضروریات مذهبنا؛لتواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار بذلک. (5)

وقال الشریف المرتضی:حتّی صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوماً ضرورةً

ص:545


1- (1) .رسائل المحقّق الکرکی(رسالة طریق استنباط الأحکام):49/3.
2- (2) .العدّة فی اصول الفقه:666667/2.وراجع:الذریعة إلی اصول الشریعة:697/2.
3- (3) .القوانین المحکمة:179/3؛الوافی:236.
4- (4) .معالم الدِّین:313.
5- (5) .الفوائد المدنیة:269؛تاریخ حصر الاجتهاد:40.

منهم وغیر مشکوک فیه من المذاهب. (1)

وقال الفاضل القمّی:فنحن نثبت أوّلاً حرمة العمل بالقیاس کسائر اصول دیننا ومذهبنا بالإجماع و الضرورة و الأخبار المتواترة. (2)

و قد ادّعی جملة من العلماء إجماع العترة الطاهرة علیهم السّلام علی المنع من العمل به،وتواتره عنهم صلوات الله علیهم،مثلاً قال المحقّق فی المعارج:ونقل عن أهل البیت علیهم السّلام المنع منه متواتراً نقلاً ینقطع به العذر. (3)

وقال العلاّمة فی المبادئ:ولم یزل أهل البیت علیهم السّلام ینکرون العمل بالقیاس،ویذمّون العامل به،وإجماع العترة حجّة. (4)

وحکی السید المجاهد فی المفاتیح عن تهذیب الاُصول ونهایة الوصول للعلاّمة الحلّی ومنیة اللّبیب للسید العمیدی (5)إجماع أهل البیت علیهم السّلام علی المنع من العمل بالقیاس.

وقال العلاّمة فی نهج الحقّ:قد أجمع أهل البیت علیهم السّلام علی المنع من العمل بالقیاس،

ص:546


1- (1) .رسائل الشریف المرتضی:203/1.
2- (2) .القوانین المحکمة:181/3.
3- (3) .معارج الاُصول:188؛اُصول الاستنباط:262.
4- (4) .مبادئ الوصول إلی علم الاُصول:216.
5- (5) .العمیدی،هو السید عبدالمطّلب ابن السید مجد الدِّین أبی الفوارس محمّد بن أبی الحسن علی فخر الدِّین،العالم الفاضل الجلیل،الأدیب،الشاعر،النسّابة ابن محمّد بن أحمد بن علی الأعرج،المنتهی نسبه إلی عبیدالله الأعرج ابن الحسین ابن الإمام زین العابدین علیه السّلام.کان سیداً جلیل القدر،رفیع المنزلة،عظیم الشأن،عإلی الهمّة،وافر الحرمة،کریم الأخلاق،عالماً،عاملاً،فاضلاً،فقیهاً،محدِّثاً،مدرِّساً بتحقیق وتدقیق،کانت امّه بنت الشیخ سدید الدِّین و الد العلاّمة الحلّی،یعنی:کان ابن اخت العلاّمة.له مصنّفات مشهورة،أکثرها شروح وتعالیق علی کتب خاله العلاّمة،منها:منیة اللّبیب فی شرح التهذیب،کنز الفوائد فی حلّ مشکلات القواعد،تبصرة الطالبین فی شرح نهج المسترشدین،وغیر ذلک،وُلِدَ لیلة النصف من شعبان 681ه فی الحلّة وتوفّی لیلة الاثنین 10 شعبان ببغداد سنة 754ه وحُمِلَ إلی المشهد الغروی.الکنی و الألقاب:446/2.

وذمّ العامل به، (1)وفی النهایة:لنا إجماع العترة علیهم السّلام،فإنّا نعلم بالضرورة أنّ مذهب الصادق و الباقر و الکاظم وأولادهم علیهم السّلام إنکار القیاس وذمّه،والمنع من العمل به،کما أنّا نعلم المذاهب المنقولة عن الشافعی وأبی حنیفة وغیرهما،و قد تقدّم أنّ إجماع العترة حجّة..إلخ. (2)

الأخبار الکثیرة المتواترة علی عدم جواز العمل بالقیاس

قال المحدّث الحرّ العاملی:والنصوص المتواترة التی یضیق عنها المقام دالّة علی ذلک،وهی تزید علی ألف حدیث منقولة فی أکثر من مئة کتاب من الکتب المُعتَمدة المشهورة بین الإمامیة الآن،و قد جمعناها فی أوائل کتاب القضاء من وسائل الشیعة،وذکرنا ما یؤیدها فی خاتمة ذلک الکتاب،ولا یظهر لها معارض عند التأمّل. (3)

أقول:و أمّا الأخبار الواردة فی المنع عن العمل بالقیاس،فلا تأمّل فی أنّها دالّة علی المنع من العمل به مطلقاً،ولا بدّ من معرفة مرادهم علیهم السّلام من لفظ القیاس فی تلک الأخبار حتّی یحکم علیه بالمنع من العمل به.

وغیر خفی علی مَن تتبّع تلک الأخبار وتأمّل فیها أنّ مرادهم من القیاس هو الأمر الذی أحدثه القائل بحجیته،یعنی:إلحاق فرع بأصل جامع علی سبیل النظر والاجتهاد،لا ما کان مفهوماً من کلام الشارع بحیث یفهمه ویعرفه أهل العرف،وکلّ من یعرف اللّغة،ولم یکن من المُحدِثات،ولم یحتج کسائر المفاهیم إلی النظر والاجتهاد والاستنباط،فیکثر فیه القیل و القال،والنزاع و الجدال،وتضطرب فیه الآراء،وتتشتّت لدیه الأهواء.

ص:547


1- (1) .مفاتیح الاُصول:664؛نهج الحقّ:403؛إحقاق الحقّ:310/2.
2- (2) .المصادر نفسها.
3- (3) .الفوائد الطوسیة:437،فائدة 92.

روایات النبی صلی الله علیه و آله فی ردّ القیاس

1.عن عوف بن مالک الأشجعی قال:قال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:

«تفترق امّتی علی بضع وسبعین فرقة أعظمها فتنةً قومٌ یقیسون الدِّین برأیهم،یحرّمون به ما أحلّ الله ویحلّون ما حرّم الله». (1)

قال الحاکم:هذا حدیثٌ صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه.وقال الهیثمی فی المجمع: (2)رواه البزّار و الطبرانی فی الکبیر،ورجاله رجال الصحیح.نعم،حکی الخطیب البغدادی عن یحیی بن معین أنّه قال:لیس لهذا الحدیث أصل. (3)

وقال ابن القیم:وهؤلاء کلّهم أئمّة ثقات حفّاظ إلاّ جریر بن عثمان،فإنّه کان منحرفاً عن علی علیه السّلام،ومع هذا فاحتجّ به البخاری فی صحیحه،و قد روی عنه أنّه تبرّأ ممّا نسب إلیه من الانحراف عن علی علیه السّلام،ونعیم بن حمّاد إمامٌ جلیل،وکان سیفاً علی الجهمیة; روی عنه البخاری فی صحیحه. (4)

2.ما نقله البیضاوی و الرازی و الغزالی وغیرهم عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«تعمل هذه الاُمّة برهةً بالکتاب،وبرهةً بالسنّة،وبرهةً بالقیاس،فإذا فعلوا ذلک فقد ضلّوا». (5)

3.ما نقله ابن القیم حیث قال:والرسول صلی الله علیه و آله لم یدْعُ امّته إلی القیاس قطّ،بل قد صحّ عنه أنّه أنکر علی عمر واُسامة محض القیاس فی شأن الحلّتین اللّتین أرسل بهما إلیهما فلبسها اسامة قیاساً للّبس علی التملّک والانتفاع و البیع وکسوتها لغیره،

ص:548


1- (1) .المستدرک علی الصحیحین:2957/8 ح8325؛مجمع الزوائد:179/1؛تاریخ بغداد:308/13؛المحصول:1139/4؛أعلام الموقّعین:53/1 و 250؛المستصفی:331/2؛جامع أحادیث الشیعة:328/1؛مستدرک الوسائل:257/17 ح21274؛الطرائف فی معرفة المذاهب:525/2.
2- (2) .مجمع الزوائد:182/1.
3- (3) .تاریخ بغداد:307/13.
4- (4) .أعلام الموقّعین:250/1؛عوالی اللآلی:64/4 ح18؛الجامع الصغیر للسیوطی:132/1.
5- (5) .مجمع الزوائد:182/1؛المحصول:1138/4؛المستصفی:331/2.

وردّها عمر قیاساً لتملّکها علی لبسها،فاُسامة أباح،وعمر حرّم قیاساً،فأبطل رسول الله صلی الله علیه و آله کلّ واحد من القیاسین..إلخ. (1)

4.النصوص الواردة عن النبی الکریم صلی الله علیه و آله من طریق عترته الطاهرة علیهم السّلام،قال جعفر بن محمّد الصادق علیه السّلام:نهی النبی صلی الله علیه و آله عن الحکم بالرأی و القیاس،قال:

«إنّ أوّل مَن قاس إبلیس،ومن حکم فی شیء من دین الله برأیه خرج من دین الله. (2)

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«إیاکم وأصحاب الرأی،فإنّهم أعیتهم السُّنن أن یحفظوها فقالوا فی الحلال و الحرام برأیهم فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلَّ الله فضلّوا وأضلّوا». (3)

وقال علی بن موسی الرضا علیه السّلام:إنّ النبی صلی الله علیه و آله قال:

«قال الله جلّ جلاله:ما آمن بی مَن فسّر برأیه کلامی،وما عرفنی من شبّهنی بخلقی،وما علی دینی مَن استعمل القیاس فی دینی..»إلخ. (4)

وقال الصادق علیه السّلام:قال رسول الله صلّی اللّه علیه و آله:

«من عمل بالقیاس فقد هلک وأهلک،ومَن أفتی الناس و هو لا یعلم الناسخ من المنسوخ و المُحْکَم من المتشابه فقد هلک وأهلک». (5)

نصوص أهل البیت علیهم السّلام فی ردّ القیاس

و قد نقل فی التراث القیم جامع أحادیث الشیعة عن أهل بیت النبی الکریم العترة الطاهرة علیهم السّلام قریبٌ من 156 حدیثاً،وفی وسائل الشیعة حدود 52 حدیثاً فقط فی باب 6

ص:549


1- (1) .أعلام الموقّعین:249/1.
2- (2) .جامع أحادیث الشیعة:342/1 ح37؛مستدرک الوسائل:253254/17 ح21266؛حلیة الأولیاء:197/3.
3- (3) .جامع أحادیث الشیعة:358/1 ح68؛عوالی اللآلی:65/4 ح21؛مستدرک الوسائل:256/17 ح21272.
4- (4) .جامع أحادیث الشیعة:328/1 ح8؛أمالی الصدوق:15 ح3؛التوحید:38 ح23.
5- (5) .عوالی اللآلی:75/4 ح60؛بحار الأنوار:118/2 ح24 وص121 ح36.

من أبواب صفات القاضی،ونحن نذکر هنا بعضاً منها تیمّناً وتبرّکاً بکلامهم علیهم السّلام،لعلّ الله تعالی یزیدنا شرفاً وعزّاً فی الدُّنیا و الآخرة،وکرامةً لسِفرنا هذا.

قال أمیر المؤمنین علیه السّلام:

«من نصب نفسه للقیاس لم یزَل دهره فی التباس،ومن دانَ الله بالرأی لم یزَل دهره فی ارتماس». (1)

وقال علیه السّلام:

«لو کان الدِّین بالقیاس لکان باطن الرجل أولی بالمسح من ظاهرها». (2)

وقال علی بن الحسین زین العابدین علیه السّلام:

«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول الناقصة و الآراء الباطلة و المقاییس الفاسدة ولا یصاب إلاّ بالتسلیم». (3)

وقال أبو جعفر الباقر علیه السّلام:

«من أفتی الناس برأیه فقد دان الله بما لا یعلم،ومَن دان الله بما لا یعلم،فقد ضادّ الله حیث أحلَّ وحرّم فیما لا یعلم». (4)

وقال أبو الحسن موسی علیه السّلام:

«مالکم و القیاس!إنّ الله لا یسئل کیف أحلّ وکیف حرّم». (5)

محمّد بن حکیم قال:قلت لأبی عبدالله علیه السّلام:

إنّ قوماً من أصحابنا قد تفقّهوا وأصابوا علماً ورووا أحادیث،فیرِدْ علیهم الشیء فیقولون فیه برأیهم،فقال:«لا،وهل هلک من مضی إلاّ بهذا وأشباهه». (6)

ص:550


1- (1) .جامع أحادیث الشیعة:326/1 ح1؛الکافی:58/1 ح17.
2- (2) .جامع أحادیث الشیعة:333/1 ح28؛مستدرک الوسائل:264/17 ح21297 وص267.
3- (3) .جامع أحادیث الشیعة:333/1-334 ح30؛کمال الدِّین:324/1 ح9.
4- (4) .جامع أحادیث الشیعة:326/1 ح1؛الکافی:58/1 ح17.
5- (5) .جامع أحادیث الشیعة:327/1 ح5؛الکافی:57/1 ح16؛المحاسن:214.
6- (6) .جامع أحادیث الشیعة:332/1 ح22؛مستدرک الوسائل:263/17؛المحاسن:212 ح88.

ومناظرة الصادق علیه السّلام مع أبی حنیفة،وکان علیه السّلام ینهاه عن القیاس،ویشدّد الإنکار علیه ویقول:«بلَغَنی أنّک تقیس الدِّین برأیک،لا تفعل فإنّ أوّل من قاس إبلیس». (1)

ویحدّثنا أبو نعیم بإسناده عن عمرو بن جمیع قال:

دخلت علی جعفر بن محمّد أنا وابن أبی لیلی وأبو حنیفة،وعن عبدالله بن شبرمة قال:دخلت أنا وأبو حنیفة علی جعفر بن محمّد،فقال لابن أبی لیلی:«مَن هذا معک؟»قال:هذا رجلٌ له بصرٌ ونفاذ فی أمر الدِّین،قال:«لعلّه یقیس أمر الدِّین برأیه؟»قال:نعم...إلخ. (2)

عن سعید الأعرج قال:قلت لأبی عبدالله علیه السّلام:

إنّ من عندنا ممّن یتفقّه یقولون:یرِد علینا ما لا نعرفه فی کتاب الله ولا فی السنّة،نقول فیه برأینا،فقال أبو عبدالله علیه السّلام:«کذبوا،لیس شیء إلاّ و قد جاء فی الکتاب،وجاءت فیه السنّة». (3)

عن أبی بصیر قال:قلت لأبی عبدالله علیه السّلام:

ترِد علینا أشیاء لیس نعرفها فی کتاب الله ولا سنّة(نبیه)،فننظر فیها؟قال:«لا،أمّا أنّک إن أصبت لم تؤجَر و إن أخطأت کذبت علی الله عزّوجلّ». (4)

فراجع صدر هذا الدرس تجد مقدار الروایات المرویة عنهم علیهم السّلام.

ص:551


1- (1) .الإمام الصادق و المذاهب الأربعة:316/1؛جامع أحادیث الشیعة:344/1.
2- (2) .حلیة الأولیاء:196197/3؛الإمام الصادق و المذاهب الأربعة:316/1؛جامع أحادیث الشیعة:344345/1؛تاریخ حصر الاجتهاد:3639.
3- (3) .جامع أحادیث الشیعة:332/1 ح24؛الاختصاص:281.
4- (4) .جامع أحادیث الشیعة:332/1 ح25؛الکافی:56/1 ح11.

الخلاصة

لقد علمت أنّ الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة القیاس لیست صالحة قاطعة للنزاع وللمفیدة للعلم بأنّ الشارع جعل القیاس حجّة فیما لا نصّ فیه.وحیث عرفت أنّ جمیع ما ذکره مثبتو القیاس من الأدلّة لا تنهض بإثبات الحجّیة له،فنبقی نحن و الشکّ فی حجیته،والشکّ فی الحجّیة کاف للقطع بعدمها،إذ الأصل عدم حجّیة الظنّ إلاّ ما خرج وثبت بالدلیل العلمی.وفی ضوء ما ذکرناه نری عدم الحاجة إلی عرض أدلّة نفاة القیاس ومناقشتها.

لیس فی الشرع دلیلٌ علی أنّه یجوز استعمال القیاس،ومن المعلوم أنّه إذا ثبت جواز العبادة بالقیاس من جهة العقل،فثبوت العبادة به یحتاج إلی دلیل شرعی،و قد علمنا أنّه لیس فی الشرع دلیلٌ علی أنّ القیاس دین الله تعالی یجوز استعماله،لا من جهة الکتاب،ولا السنّة المتواتر بها،ولا الإجماع،ولا العقل،أمّا بیان الملازمة،فلأنّ التکلیف یستدعی وجود دلالة،وإلاّ لکان التکلیف به من دون دلالة علیه تکلیفاً بما لا سبیل إلی العلم به،و هو تکلیفٌ بالمُحال،و أمّا بطلان اللاّزم فبالاستقراء.

إنّ إجماع الإمامیة بل ضرورة المذهب علی ترک العمل بالقیاس،فقد أطبق أصحابنا الإمامیة علی منع العمل بالمستنبطة،وحکی إجماعهم فیه غیر واحد منهم،بل منعه یعدّ من ضروریات المذهب.

ولکن قال المحقّق الکرکی:و قد وقع فیه الخلاف،فمتقدّمو أصحابنا لا یعملون بشیء منه،والمتأخّرون عملوا بما نصّ علی علّة حکم الأصل أمّا بنصٍّ أو إیماء علی ما تقرّر فی الاُصول.قال الشیخ الطوسی:وأقوی ما اعتُمد فی ذلک إجماع الطائفة المحقّة،و قد ثبت أنّ إجماعهم حجّة،وقال العلاّمة الحلّی:ذهب الأصحاب کافّة،عدا ابن الجنید من قدمائنا فی أوّل أمره،وبعض العامّة إلی حرمة العمل به.وقال فی المعالم

ص:552

والفوائد المدنیة:إنّ منعه وبطلانه یعدّ من ضروریات المذهب.وقال الشریف المرتضی:حتّی صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوماً ضرورةً منهم وغیر مشکوک فیه من المذاهب.

و قد ادّعی جملة من العلماء إجماع العترة الطاهرة علیهم السّلام علی المنع من العمل به،وتواتره عنهم صلوات الله علیهم،فقال فی المعارج:ونقل عن أهل البیت المنع منه متواتراً نقلاً ینقطع به العذر.وحکی السید المجاهد فی المفاتیح عن تهذیب الاُصول ونهایة الوصول ومنیة اللّبیب ونهج الحقّ:إجماع أهل البیت علیهم السّلام علی المنع من العمل بالقیاس،وذمّ العامل به.

ثم الأخبار الکثیرة بل المتواترة علی عدم جواز العمل بالقیاس،فقال المحدّث الحرّ العاملی:والنصوص المتواترة التی یضیق عنها المقام دالّة علی ذلک،وهی تزید علی ألف حدیث منقولة فی أکثر من مئة کتاب من الکتب المُعتَمدة المشهورة بین الإمامیة الآن،وغیر خفی علی مَن تتبّع تلک الأخبار وتأمّل فیها أنّ مرادهم من القیاس هو الأمر الذی أحدثه القائل بحجیته،یعنی:إلحاق فرع بأصل جامع علی سبیل النظر والاجتهاد،لا ما کان مفهوماً من کلام الشارع بحیث یفهمه ویعرفه أهل العرف،وکلّ من یعرف اللّغة،ولم یکن من المُحدِثات،ولم یحتج کسائر المفاهیم إلی النظر والاجتهاد والاستنباط،فیکثر فیه القیل و القال،والنزاع و الجدال،وتضطرب فیه الآراء،وتتشتّت لدیه الأهواء.

وهناک روایات وردت عن النبی صلی الله علیه و آله فی ردّ القیاس،مثل:ما روی عن عوف بن مالک الأشجعی،حیث قال الحاکم:هذا حدیثٌ صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه،وقال الهیثمی فی المجمع:رواه البزار و الطبرانی فی الکبیر ورجاله رجال الصحیح.نعم،حکی الخطیب البغدادی عن یحیی بن معین أنّه قال:لیس لهذا الحدیث أصل،وفی قباله قال ابن قیم الجوزیة:وهؤلاء کلّهم أئمّة ثقات حفّاظ إلاّ جریر بن

ص:553

عثمان،فإنّه کان منحرفاً عن علی علیه السّلام،ومع هذا فاحتجّ به البخاری فی صحیحه.ومثل ما نقله البیضاوی و الرازی و الغزالی وغیرهم عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال:«تعمل هذه الاُمّة برهةً بالکتاب،وبرهةً بالسنّة،وبرهةً بالقیاس،فإذا فعلوا ذلک فقد ضلّوا».

وورد أیضاً عن طریق العترة الطاهرة عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه نهی عن الحکم بالرأی و القیاس،وقال:«إنّ أوّل مَن قاس إبلیس،ومن حکم فی شیء من دین الله برأیه خرج من دین الله».وقال:«إیاکم وأصحاب الرأی،فإنّهم أعیتهم السُّنن أن یحفظوها فقالوا فی الحلال و الحرام برأیهم فأحلّوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحلَّ الله فضلّوا وأضلّوا».وغیرها من الأحادیث المرویة فی الوسائل وجامع الأحادیث،وغیرهما.

و قد نُقل عن أهل بیت النبی الکریم العترة الطاهرة علیهم السّلام فی جامع أحادیث الشیعة قریبٌ من 156 حدیثاً،وفی وسائل الشیعة حدود 52 حدیثاً فقط فی باب 6 من أبواب صفات القاضی،فلیراجع.قال الباقر علیه السّلام:«من أفتی الناس برأیه فقد دان الله بما لا یعلم،ومَن دان الله بما لا یعلم فقد ضادّ الله حیث أحلَّ وحرّم فیما لا یعلم».

وراجع مناظرة الإمام الصادق علیه السّلام مع أبی حنیفة.

ص:554

الأسئلة

1.لماذا إذا ثبت جواز العبادة بالقیاس من جهة العقل،فثبوت العبادة به یحتاج إلی دلیل شرعی؟

2.وضّح إجماع الإمامیة و العترة الطاهرة علی المنع من العمل بالقیاس.

3.وضّح کلام الحرّ العاملی فی النصوص المتواترة الدالّة علی عدم جواز العمل بالقیاس.

4.اُذکر روایة عوف بن مالک الأشجعی،وما ذکر فی سندها.

5.اُذکر بعض ما ورد عن طریق العترة الطاهرة عن النبی صلی الله علیه و آله فی النهی عن الحکم بالرأی و القیاس.

6.اُذکر مناظرة الإمام الصادق علیه السّلام مع أبی حنیفة فی القیاس.

ص:555

ص:556

الدرس الستون بعد المئة

إشارات وتنبیهات حول القیاس

اشارة

لا بدّ من إیراد شبهات فیها فوائد جمّة للمشتغلین بالدرس و التدریس وللمنتهین،فنقول:

التنبیه الأوّل حکی صاحب الکبریت الأحمر عن بعضهم أنّ القیاس والاجتهاد واحد

*قال الزرکشی:وحکی صاحب الکبریت الأحمر عن بعضهم أنّ القیاس والاجتهاد واحد،لحدیث معاذ«أجتهد رأیی»،والمراد منه القیاس بالإجماع.وقال إلکیا:یمتاز القیاس عن الاجتهاد بأنّه فی الأصل بذل المجهود فی طلب الحقّ سواء طلب من النصّ أو القیاس.و قد قال الشافعی فی الرسالة:إنّ القیاس الاجتهاد،وظاهر ذلک لا یستقیم،فإنّ الاجتهاد أعمّ من القیاس،والقیاس أخصّ (1); لأنّ القیاس یفتقر إلی الاجتهاد و هو من مقدّماته،ولیس الاجتهاد یفتقر إلی القیاس،ولأنّ الاجتهاد یکون بالنظر فی العمومات وسائر طرق الأدلّة،ولیس ذلک بقیاس.

**ولکن قال المحقّق السید رضا الصدر:قد اشتهر بین اخواننا أهل السنّة إطلاق

ص:557


1- (1) .البحر المحیط:9/4.وراجع:المستصفی:279/2،صفوة الاختیار:290-291،منهاج الوصول إلی معیار العقول:762.

الاجتهاد علی استخراج الحکم الشرعی بالرأی أو القیاس أو الاستحسان.

قال الاُستاذ محمّد معروف الدوالیبی:فإذا عرضت قضیة ولیس فی أحکام الکتاب و السنّة و الإجماع نصٌّ علیها،فإنّ الکتاب و السنّة قد اعترفا کما مرّ سابقاً بالاجتهاد کأصل رابع من اصول الشریعة،فقد جاء فی الکتاب قوله تعالی: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ ، (1)وجاء أیضاً قوله تعالی: کَذلِکَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ ، (2)وقوله تعالی: کَذلِکَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ . (3)واحتجّ من السنّة بحدیث معاذ بن جبل. (4)

ولقد اورد علیه:

بأنّه لم یدرک بوجود أی اعتراف فی هذه الآیات الکریمة بأنّ الاجتهاد أصلٌ رابع من اصول الشریعة الإسلامیة،فإنّ الخطاب فی الآیة الاُولی یختصّ بنفس الرسول ولا یشترک معه غیره،و أنّ قوله تعالی: بِما أَراکَ اللّهُ ظاهر فی أنّ حکمه بین الناس إنّما یکون بما أنزل الله إلیه من الکتاب،کما یشهد بذلک صدر الآیة الکریمة.و أمّا الآیتان الأخیرتان،فهما تفیدان مطلوبیة التفکّر و التعقّل فی الآیات،فهما ترشدان إلی الأصل الأوّل من اصول الشریعة و هو القرآن الکریم،وأین هما من الدلالة علی أصل رابع؟ (5)

قال ابن منظور وابن الأثیر الجزری:الاجتهاد بذل الوسع فی طلب الأمر،و هو افتعال من الجهد الطاقة،والمراد به هاهنا(أی فی حدیث معاذ)ردّ القضیة التی تعرض للحاکم من طریق القیاس إلی الکتاب و السنّة،ولم یرد الرأی الذی رآه من قِبل نفسه

ص:558


1- (1) .النساء:105.
2- (2) .یونس:24.
3- (3) .الروم:28.
4- (4) .المدخل إلی علم اصول الفقه:53؛الاجتهاد و التقلید:25؛معالم المدرستین:362/2-363.
5- (5) .الاجتهاد و التقلید:2526.

من غیر حمل علی کتاب أو سنّة. (1)

وفیه:إنّ صحّة إطلاق الاجتهاد علی استخراج الحکم بالرأی بحسب اللّغة محلّ تأمّل من جهة کونه أمراً سهلاً،فإنّ المعتبر فی مفهوم الاجتهاد کون المطلوب فیه ذا کلفة ومشقّة.

وقال أهل اللّغة فی معنی الاجتهاد:هو بذل الوسع و الطاقة فی طلب الأمر لیبلغ مجهوده ویصل إلی نهایته. (2)

وقال الغزالی:الاجتهاد عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع فی فعل من الأفعال،ولا یستعمل إلاّ فیما فیه کلفة وجهد،فیقال:اجتهد فی حمل حجر الرحا،ولا یقال:اجتهد فی حمل خردلة. (3)

وقیل:إنّ المتبادر من الاجتهاد فی القرن الأوّل من الاجتهاد هو بذل الجُهد،أعنی ما ذکره ابن الأثیر وابن منظور،و هو المعنی اللّغوی المذکور،ثمّ تطوّر مدلول الاجتهاد لدی المسلمین وأصبح یدلّ علی اصطلاحهم،وحدیث معاذ وغیره أیضاً استعمل فی معناه اللّغوی. (4)

مضافاً علی ذلک أنّ فی استخراج الحکم الشرعی بالرأی تناقضٌ خفی،إذ الحکم الشرعی هو الذی صدرَ من جانب الله تعالی،و أمّا الحکم الذی استُخرج بالرأی فقد صدرَ عن صاحب الرأی و هو غیر الله تعالی،کما قال الجرجانی فی شرح المواقف:إنّه علیه السّلام لم ینصّ علی کثیر من الأحکام الشرعیة،بل وَکَلَها إلی آراء المجتهدین. (5)

ص:559


1- (1) .لسان العرب:397/2؛جامع الاُصول:140/8.
2- (2) .المصباح المنیر:137/1؛لسان العرب:397/2.
3- (3) .المستصفی:510/2.وراجع:التعریفات للجرجانی:66.
4- (4) .معالم المدرستین:28/2 و 367؛دائرة معارف القرن العشرین:236/3.
5- (5) .شرح المواقف:390/8.

و أمّا حدیث معاذ،فقد مرّ سابقاً البحث حول سنده،و أمّا متنه ففیه دلالات توجب الرَّیب فی صحّته أیضاً:

الدلالة الاُولی:هذا الاصطلاح فی الاجتهاد أمرٌ حادث بعد النبی صلی الله علیه و آله ولم یعهد فی حیاته المقدّسة إطلاق الاجتهاد علی هذا المعنی.

الثانیة:یلزم من هذا القول نقص فی دین الإسلام،إذ فیه تصریحٌ بعدم وجود أحکام فی الکتاب و السنّة.

الثالثة:یلزم منه اعتراف الرسول صلی الله علیه و آله بنقص فیما جاء به،وتصریحه بذلک.

الرابعة:یلزم منه کون معاذ عالماً بجمیع ما فی الکتاب،وجمیع ما فی السنّة،ولم یعرَف فی الصحابة رجلٌ یکون عالماً بجمیع الکتاب و السنّة،سوی مَن جعله الرسول عِدلاً للکتاب فی نصّ حدیث الثقلین و قد مرّ البحث سابقاً فی مبحث حجّیة سنّة أهل البیت علیهم السّلام،فراجع.

الخامسة:یلزم منه انتهاء نزول القرآن وانتهاء السنّة النبویة فی وقت إرسال معاذ إلی الیمن،وذلک باطل; لأنّهما انتهیا بوفاة الرسول صلّی اللّه علیه و آله.

السادسة:یلزم منه جعل جمیع أصحاب الرأی أصحاب تشریع،وجعل تشریعاتهم عِدلاً لتشریعات الکتاب و السنّة،وعلیه لا یبقی للدِّین حدّ.

السابعة:یلزم منه اختصاص الحکم فی باب القضاء بالشبهة الحکمیة مع أنّ أکثر الأقضیة یرجع إلی اختلاف الخصمین فی الموضوعات حال اتّفاقهما فی الحکم،بل یلزم منه عدم تمییز معاذ بین الشبهة فی الحکم و الشبهة فی الموضوع.

الثامنة:إن سأل سائل معاذاً:إذا حضرت واقعة ولم تعرف حکمها،لماذا لم تؤجّل القضاء حتّی تکتب إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وتسأل الحکم منه صلی الله علیه و آله ثمّ تقضی بها؟فلا أدری ما هو جواب معاذ؟وأی شیء کان یمنع معاذاً من المکاتبة؟وأی مانع کان

ص:560

للنبی الکریم صلی الله علیه و آله من إرشاد معاذ إلی ذلک؟

فالذی یظهر من جمیع ذلک أنّ النصّ المذکور موضوع علی لسان معاذ،کما مرّ سابقاً هذا الاحتمال،و أنّ الوضع کان بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله بشهادة القرآن الحکیم،فإنّ فیه دلالات وإشعارات علی حرمة الاجتهاد بالرأی،وإلیک قوله تعالی: فَإِنْ لَمْ یَسْتَجِیبُوا لَکَ فَاعْلَمْ أَنَّما یَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَیْرِ هُدیً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ (1)

وفی القرآن أیضاً دلالات وإشارات علی حرمة الرجوع و التعبّد إلی الذین یجتهدون بآرائهم،وإلیک قوله تعالی: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا یُشْرِکُونَ . (2)

إنّ اتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالی هو التعبّد بتشریعاتهم،والعمل بها کما جاء فی التفسیر.

قال ابن قیم الجوزیة:فقد روی عن حذیفة وغیره قال:لم یعبدوهم من دون الله،ولکنّهم أحلّوا لهم وحرّموا علیهم فاتّبعوهم.

وقال أبو البختری فی قوله عزّ وجلّ: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ،قال:أما أنّهم لو أمروهم أن یعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم،ولکنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم،فکانت تلک الربوبیة. (3)

التنبیه الثانی فإنّ القیاس ارتکاب لطریق لا یؤمن معه الخطأ،فیکون قبیحاً

قال العلاّمة الحلّی فی نهج الحقّ وکشف الصدق:فإنّ القیاس ارتکاب لطریق لا

ص:561


1- (1) .القصص:50.
2- (2) .التوبة:31.
3- (3) .أعلام الموقّعین:190191/2؛الاجتهاد و التقلید:2631.

یؤمن معه الخطأ،فیکون قبیحاً،ولأنّه یؤدّی إلی الاختلاف،فإنّ کلّ واحد من المجتهدین قد یستنبط علمه غیر علم الآخر،فتختلف أحکام الله تعالی وتضطرب،ولایبقی لها ضابط،و قد قال الله تعالی: وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً . (1)، (2)

ولمزید الاطّلاع نذکر کلام الشاطبی:الشریعة کلّها ترجع إلی قول واحد فی فروعها و إن کثُر الخلاف،کما أنّها فی اصولها کذلک،ولا یصلح فیها غیر ذلک،والدلیل علیه امور أحدها أدلّة القرآن،ثمّ ذکر آیات من القرآن الکریم إلی أن قال:

الثالث:إنّه لو کان فی الشریعة مساغ للخلاف لأدّی إلی تکلیف ما لا یطاق؛لأنّ الدلیلین إذا فرضنا تعارضهما،وفرضناهما مقصودین معاً للشارع،فأمّا أن یقال:إنّ المکلّف مطلوب بمقتضاهما أو لا،أو مطلوب بأحدهما دون الآخر،والجمیع غیر صحیح; فالأوّل:یقتضی(افعل)(لا تفعل)لمکلّف واحد من وجه واحد،و هو عین التکلیف بما لا یطاق،والثانی:باطل؛لأنّه خلاف الفرض،وکذلک الثالث إذ کان الفرض توجّه الطلب بهما،فلم یبق إلاّ الأوّل فیلزم منه ما تقدّم. (3)

و قد ورد عن السبط الشهید الحسین بن علی علیه السّلام ما یرشد إلی ذلک،و هو قوله علیه السّلام لنافع بن الأزرق (4)رأس الخوارج الأزارقة:

ص:562


1- (1) .النساء:82.
2- (2) .نهج الحقّ وکشف الصدق:403.وراجع:مبادئ الوصول:216؛الطرائف فی معرفة مذاهب الطوائف:524526/2؛معالم المدرستین:365366/2.
3- (3) .الموافقات:70/4-71.وراجع:دائرة معارف القرن العشرین:238/3 و 239.
4- (4) .أبو راشد نافع بن أزرق الحنفی،خرج بالبصرة وتصرّف کور الأهواز،وفارس،وکرمان فی أیام حکومة عبدالله بن الزبیر،و هو أوّل من أحدث الخلاف بین الخوارج،وأحدث البراءة من القعدة و المحنة،والأزارقة تقول:کلّ کبیرة کفر،و أنّ الدار دار کفر یعنون دار مخالفیهم،و أنّ کلّ مرتکب معصیة کبیرة ففی النار خالداً مخلّداً،ویکفّرون علیاً علیه السّلام فی التحکیم،ویکفّرون

«یا نافع من وضع دینه علی القیاس لم یزَل الدهر فی الالتباس،مائلاً عن المنهاج،ظاعناً فی الاعوجاج،ضالاًّ عن السبیل،قائلاً غیر الجمیل..»الخبر. 1

التنبیه الثالث إنّ ردّ الفرع إلی الأصل،واستخراج حکم الواقعة من الاُصول الکلیة لیس إفتاءً بالرأی

إنّ ردّ الفرع إلی الأصل،واستخراج حکم الواقعة من الاُصول الکلیة لیس إفتاءً بالرأی،و إنّما هو إفتاءٌ بالدلیل بالکتاب و السنّة،غایة الأمر أنّ الکتاب أدلی و السنّة أشارت إلی القاعدة،والمجتهد یستخرج حکم الواقعة الجزئیة من الضوابط الکلیة،و هذا هو الاجتهاد الصحیح الذی هو رمز بقاء الشریعة،و أنّ الإفتاء بالمقاییس الظنیة التی لم تثبت حجّیتها بدلیل قاطع هو الإفتاء بالرأی،والصحابة بعد رحیل النبی الکریم إذا لم یجدوا فی الواقعة المستجدّة دلیلاً من الکتاب و السنّة أفتوا بتلک المقاییس،وربّما تشاوروا فأخذوا بالراجح من الآراء،ومن المعلوم أنّ الإفتاء بهذا النوع من الرأی لیس إفتاءً بحکم الله سبحانه. 2

التنبیه الرابع المعروف عن الأشاعرة هو أنّ أفعاله تعالی لیست معلّلة بالأغراض

المعروف عن الأشاعرة هو أنّ أفعاله تعالی لیست معلّلة بالأغراض،واحتجّوا لذلک بأنّه لو کان فعله تعالی لغرض لکان ناقصاً لذاته،مستکملاً بتحصیل ذلک الغرض؛لأنّه

ص:563

لا یصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح من عدمه،و هو معنی الاستکمال. (1)

فإذا کان فعله عاریاً عن الغرض یکون تشریعه الذی هو أیضاً من أفعاله تعالی خالیاً عنه.

وفیه أوّلاً:إنّ الاستدلال ضعیف،لأنّ الاستکمال بالغرض إنّما یلزم إذا کان الغرض عائداً إلیه سبحانه وتعالی،لا إذا کان تفضّلاً علی العباد واستصلاحاً لأحوالهم.

وثانیاً:یلزم منه إبطال القیاس وذلک أنّ القیاس إنّما یصحّ بعد ثبوت العلل واستعمالها،فإن ادّعی واحد منهم أنّ ثبوت العلل إنّما یحتاج فیه إلی غَلَبة الظنّ دون القطع،قیل له:إذا ثبت ما تدّعون من استحالة التعلیل علی الله تعالی،کیف یبقی مجال الظنّ أو غیره؟و هذا لا جواب لهم عنه إلاّ بإبطال القیاس،أو جواز التعلیل علی الله تعالی. (2)

وثالثاً:إنّ کلّ فعل لا یقع لغرض،فإنّه عبث،والعبث قبیح،والله تعالی یستحیل منه القبیح. (3)

ورابعاً:إنّ النقل صریح بکونه تعالی لا یفعل إلاّ لغرض،کقوله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ (4)وقوله تعالی: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ (5)وقوله تعالی: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما لاعِبِینَ . (6)

ص:564


1- (1) .شرح المواقف:224/8؛کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد:238؛اللّوامع الإلهیة:221.
2- (2) .راجع:الطرائف فی معرفة المذاهب:525/2؛الإنصاف:418/2.
3- (3) .کشف المراد:238؛اللّوامع الإلهیة:221.
4- (4) .الذاریات:56.
5- (5) .المؤمنون:115.
6- (6) .الدخان:38.

الخلاصة

التنبیه الأوّل:حکی الزرکشی عن بعضهم أنّ القیاس والاجتهاد واحد،لحدیث معاذ«أجتهد رأیی»،والمراد منه القیاس بالإجماع.وقال إلکیا:یمتاز القیاس عن الاجتهاد بأنّه فی الأصل بذل المجهود فی طلب الحقّ سواء طلب من النصّ أو القیاس.وقول الشافعی:لا یستقیم،فإنّ الاجتهاد أعمّ من القیاس،والقیاس أخصّ; لأنّ القیاس یفتقر إلی الاجتهاد و هو من مقدّماته،ولیس الاجتهاد یفتقر إلی القیاس،ولأنّ الاجتهاد یکون بالنظر فی العمومات وسائر طرق الأدلّة،ولیس ذلک بقیاس.

وقال المحقّق السید الصدر:قد اشتهر بین اخواننا أهل السنّة إطلاق الاجتهاد علی استخراج الحکم الشرعی بالرأی أو القیاس أو الاستحسان،ثمّ نقل کلام الاُستاذ محمّد معروف الدوالیبی،ثمّ أورد علیه،بأنّه لم یدرک بوجود أی اعتراف فی هذه الآیات الکریمة بأنّ الاجتهاد أصلٌ رابع من اصول الشریعة الإسلامیة،فإنّ الخطاب فی الآیة الاُولی یختصّ بنفس الرسول،و أنّ قوله تعالی: بِما أَراکَ اللّهُ ظاهر فی أنّ حکمه بین الناس إنّما یکون بما أنزل الله إلیه من الکتاب کما یشهد بذلک صدر الآیة الکریمة.و أمّا الآیتان الأخیرتان،فهما تفیدان مطلوبیة التفکّر و التعقّل،فهما ترشدان إلی الأصل الأوّل و هو القرآن الکریم،وأین هما من الدلالة علی أصل رابع؟

وفیه:إنّ صحّة إطلاق الاجتهاد علی استخراج الحکم بالرأی بحسب اللّغة محلّ تأمّل من جهة کونه أمراً سهلاً،فإنّ المعتبر فی مفهوم الاجتهاد کون المطلوب فیه ذا کلفة ومشقّة،ولا یستعمل إلاّ فیما فیه کلفة وجهد فیقال:اجتهد فی حمل حجر الرحا،ولا یقال:اجتهد فی حمل خردلة.

مضافاً علی ذلک أنّ فی استخراج الحکم الشرعی بالرأی تناقضٌ خفی،إذ الحکم الشرعی هو الذی صدرَ من جانب الله تعالی،و أمّا الحکم الذی استُخرج بالرأی فقد

ص:565

صدرَ عن صاحب الرأی و هو غیر الله تعالی،والشاهد علی ذلک تعبیر الجرجانی،حیث قال:إنّه علیه السّلام لم ینصّ علی کثیر من الأحکام الشرعیة،بل وکلها إلی آراء المجتهدین.

و أمّا حدیث معاذ،ففی متنه دلالات توجب الرَّیب فی صحّته أیضاً:

الدلالة الاُولی:هذا الاصطلاح فی الاجتهاد أمرٌ حادث بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله،الثانیة:یلزم من هذا القول نقص فی دین الإسلام،إذ فیه تصریحٌ بعدم وجود أحکام فی الکتاب و السنّة.الثالثة:یلزم منه اعتراف الرسول صلی الله علیه و آله بنقص فیما جاء به،وتصریحه بذلک.الرابعة:یلزم منه کون معاذ عالماً بجمیع ما فی الکتاب و السنّة،ولم یعرَف فی الصحابة رجلٌ یکون کذلک سوی مَن جعله الرسول عِدلاً للکتاب فی نصّ حدیث الثقلین،الخامسة:یلزم منه انتهاء نزول القرآن وانتهاء السنّة النبویة فی وقت إرسال معاذ إلی الیمن.السادسة:یلزم منه جعل جمیع أصحاب الرأی أصحاب تشریع،وجعل تشریعاتهم عِدلاً لتشریعات الکتاب و السنّة،وعلیه لا یبقی للدِّین حدّ.السابعة:یلزم منه اختصاص الحکم فی باب القضاء بالشبهة الحکمیة مع أنّ أکثر الأقضیة یرجع إلی اختلاف الخصمین فی الموضوعات،بل یلزم منه عدم تمییز معاذ بین الشبهة فی الحکم و الشبهة فی الموضوع.الثامنة:إن سأل سائل معاذاً:إذا حضرت واقعة ولم تعرف حکمها،لماذا لم تؤجّل القضاء حتّی تکتب إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وتسأل الحکم منه صلی الله علیه و آله ثمّ تقضی بها؟فلا أدری ما هو جواب معاذ؟وأی شیء کان یمنع معاذاً من المکاتبة؟وأی مانع کان للنبی الکریم صلی الله علیه و آله من إرشاد معاذ إلی ذلک؟

فالذی یظهر من جمیع ذلک أنّ النصّ المذکور موضوع علی لسان معاذ،و أنّ الوضع کان بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله بشهادة القرآن الحکیم،فإنّ فیه دلالات وإشعارات علی حرمة الاجتهاد بالرأی،مثل قوله تعالی فی سورة القصص الآیة 50،وسورة التوبة الآیة 31،فإنّ اتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله تعالی هو التعبّد بتشریعاتهم،والعمل بها کما جاء فی التفسیر.

ص:566

التنبیه الثانی:قال العلاّمة الحلّی فی نهج الحقّ:فإنّ القیاس ارتکاب لطریق لا یؤمن معه الخطأ،فیکون قبیحاً،ولأنّه یؤدّی إلی الاختلاف،فإنّ کلّ واحد من المجتهدین قد یستنبط علمه غیر علم الآخر،فتختلف أحکام الله تعالی وتضطرب،ولا یبقی لها ضابط.وقال الشاطبی:إنّه لو کان فی الشریعة مساغ للخلاف لأدّی إلی تکلیف ما لا یطاق.

و قد ورد عن السبط الشهید الحسین بن علی علیه السّلام ما یرشد إلی ذلک،قال:«یا نافع من وضع دینه علی القیاس لم یزَل الدهر فی الالتباس..»إلخ.

التنبیه الثالث:إنّ ردّ الفرع إلی الأصل واستخراج حکم الواقعة من الاُصول الکلیة لیس إفتاءً بالرأی،و إنّما هو إفتاءٌ بالدلیل بالکتاب و السنّة،غایة الأمر أنّ الکتاب أدلی و السنّة أشارت إلی القاعدة،والمجتهد یستخرج حکم الواقعة الجزئیة من الضوابط الکلیة،و هذا هو الاجتهاد الصحیح الذی هو رمز بقاء الشریعة،و أنّ الإفتاء بالمقاییس الظنیة التی لم تثبت حجّیتها بدلیل قاطع هو الإفتاء بالرأی.

التنبیه الرابع:المعروف عن الأشاعرة هو أنّ أفعاله تعالی لیست معلّلة بالأغراض،واحتجّوا لذلک بأنّه لو کان فعله تعالی لغرض لکان ناقصاً لذاته،مستکملاً بتحصیل ذلک الغرض؛لأنّه لا یصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح من عدمه،و هو معنی الاستکمال،فإذا کان فعله عاریاً عن الغرض یکون تشریعه الذی هو أیضاً من أفعاله تعالی خالیاً عنه.

وفیه أوّلاً:إنّ الاستدلال ضعیف؛لأنّ الاستکمال بالغرض إنّما یلزم إذا کان الغرض عائداً إلیه سبحانه وتعالی،لا إذا کان تفضّلاً علی العباد واستصلاحاً لأحوالهم.

وثانیاً:یلزم منه إبطال القیاس،وذلک أنّ القیاس إنّما یصحّ بعد ثبوت العلل واستعمالها.

وثالثاً:یلزم منه صدور القبیح عنه تعالی،و هو یستحیل منه،إذ إنّ کلّ فعل لا یقع لغرض،فإنّه عبث،والعبث قبیح.

ورابعاً:إنّ النقل صریح بکونه تعالی لا یفعل إلاّ لغرض،کقوله تعالی فی سورة الذاریات الآیة 56،وسورة المؤمنون الآیة 115،وسورة الدخان الآیة 38.

ص:567

الأسئلة

1.لماذا یمتاز القیاس عن الاجتهاد؟

2.لِمَ لا تدلّ الآیات التی ذکرها الدوالیبی علی کون القیاس والاجتهاد أصلٌ رابع من اصول الشریعة؟

3.لماذا تکون صحّة إطلاق الاجتهاد علی استخراج الحکم بالرأی بحسب اللّغة محلّ تأمّل؟

4.وضّح کون استخراج الحکم الشرعی بالرأی تناقضاً خفیاً.

5.اُذکر بعض الدلالات التی توجب الریب فی صحّة حدیث معاذ.

6.لماذا یلزم من حدیث معاذ انتهاء نزول القرآن و السنّة النبویة فی وقت إرسال معاذ إلی الیمن؟

7.وضّح قول العلاّمة الحلّی فی نهج الحقّ.

8.بین الاجتهاد الصحیح الذی هو رمز بقاء الشریعة،ولِمَ لا یکون الإفتاء بالمقاییس من الاجتهاد الصحیح؟

9.وضّح استدلال الأشاعرة علی أنّ أفعاله تعالی لیست معلّلة بالأغراض؟

10.اُذکر الإیراد الأوّل و الثالث علی استدلال الأشاعرة.

11.لِمَ یلزم من الاستدلال المذکور إبطال القیاس؟

12.اُذکر الدلیل النقلی علی کون أفعاله تعالی معلّلة بالأغراض.

ص:568

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.