االآراء الفقهیه: (قسم البیع 4) المجلد 7

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: النجفي، هادي، 1342 -

عنوان واسم المؤلف: الاراء الفقهیة/ تالیف هادي النجفي.

تفاصيل المنشور: تهران: شب افروز، 1393.

مواصفات المظهر: 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2-شابک : 978-600-92902-8-4

حالة الاستماع: فاپا/الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان: العربية.

ملحوظة: ج. 2 و 3 ( الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة: فهرس.

موضوع : المعاملات (فقه)

موضوع : أعمال الهرم

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP190/1/ن3آ36 1393

تصنيف ديوي: 297/372

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3555378

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقریظ شیخ المراجع

آیة اللّه العظمی الشیخ لطف اللّه الصافی الکلبایکانی _ مدظله العالی _

ص: 3

تاریخُ إنهاء الْجُزْءِ السّابِعِ من کِتاب «الآراء الفقهیة» لِمُنَضِّدِ عُقُودِهِ وَمُنْشِیهِ، وَمُحَرِّرِ مُتُوْنِهِ وَحَواشِیهِ، سَماحةِ آیةِ اللّه ِ الفقیهِ المحقِّقِ الشیخِ هادی النجفیِّ _ دامَ ظلُّهُ _ من نظم فضیلة العلاّمة القدیر المحقّق الحجة الشاعر المُفْلِق السیّد عبدالستار الحسنی البغدادی _ دام ظله _ :

الحمدُ لِلّهِ الذی جَعَلَ الآراءَ الفِقْهِیَّةَ مِضْمارا لِتَحریرِ ثِمارِ مَدارِکِ الأحکام، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ علی خِیَرَتِهِ مِنْ خلقهِ محمّدٍ وَآلِهِ ساداتِ الاْءنام.

وبعدُ: فَقَد أَطْلَعَنی مُتَفَضِّلاً مولانا سَماحةُ آیةِ اللّه ِ، الفقیهِ المُحَقّقِ والمجتهد(1)

ص: 4


1- 1 . أجازه کلٌّ من الفقهاء الأعلام التالیة أسماؤهم بالاجتهاد المطلق وهم: 1. والده العلاّمة آیة اللّه الشیخ مهدی غیاث الدّین النجفی قدس سره (1355-1422) ثلاثة من تلامیذ المؤسس آیة اللّه العظمی الشیخ عبدالکریم الحائری الیزدی قدس سره وهم: 2. آیة اللّه العظمی الحاج آقا الشیخ رضا المدنی الکاشانی (1321-1412) 3. آیة اللّه المعظم السیّد مصطفی الصفائی الخوانساری (1321-1413) 4. آیة اللّه المحقّق الحاج الشیخ محمّدباقر الکَمَرِئیّ (ح 1321-1416) واثنان من فقهاء أصفهان الخریجان من النجف الأشرف وهما: 5. المرجع الدینی آیة اللّه العظمی الشیخ محمّدتقی المجلسی (1348- معاصر) 6. شیخ العلماء بمدینة أصفهان آیة اللّه الشیخ مجتبی البهشتی (ح 1335- معاصر) وهذا غیر التقاریظ الکثیرة علی هذا الکتاب المصرحة فیها باجتهاد مؤلّفه المنشورة علی موقعه الإلکترونی ALNAJAFI.IR. وکما وصفه المرجع الدینی الکبیر آیة اللّه العظمی الشیخ بشیر النجفی _ دام ظله _ أحد کبار مراجع النجف الأشرف ب_ «صفوة المجتهدین وحامل رایة الفقهاء المصطفین آیة اللّه الشیخ هادی النجفی _ دام عزّه _».

النحریر سلیلِ الْفُقَهاءِ الاْءَعاظم، وَالْبُحُوْرِ الْخضارم، العلاّمَةِ النَّیْقَد الْمِسْبَارِ، الأستاذِ الشیخ هادی آل أبی المجد النَّجَفیّ _ دام ظِلُّهُ _ علی الْجُزْءِ السابع مِنْ مَوْسُوْعَتهِ(1) النّفیسةِ الْمُتْرَعَةِ بِجَواهِر الْفَوائِدِ الْفَرائِد الْمَوْسُوْمَة بِ_ (الآراء الفِقْهِیَّة)، فَأَلْفَیْتُهُ حاویا لاِءُمّاتِ(2) الْمَطالب الّتی خاضَ سَماحَتُهُ غِمارَها، کَما فَرَعَ(3) مِنَ الآراء السَّدیدةِ أَبْکارَها، وَسارَ فی مَهْیَعٍ لاحِبِ الْمَعالِمِ وَضّاحِ الصُّوی، مُوْفِیا بِالتَّتَبُّعِ _ فیما هُوَ بِسَبِیْلهِ _ علی الْغایَة، وَمَنْ کُتِبَ لَهُ التَّوْفیقُ _ من المُحَصِّلِیْن _ بِالاِطِّلاعِ عَلی هذا الْعِلْقِ الثَّمِیْن، شَهِدَ لِمُحَرِّرِ فُصُوْلِهِ، وَمُلْحِق فُرُوْعِهِ بِأُصُوْلهِ أنَّهُ فی مَجالِ (استنباط الأحکام) وَالصِّیالِ فی مُعْتَرَکِ (النَّقْضِ وَالاْءِبْرامِ): «لَقَوِیٌّ أَمِیْنٌ»(4).

وَقَدْ رَقَمْتُ هذِهِ الطّروسَ علی نَحْوِ الاِبْتِسارِ وَ الإیجازِ؛ لِضَعْفِ الحالِ وَاخْتِلالِ الْمِزاج، مُسْتَمیحا الْعُذْرَ مِنْ سَماحةِ شیخِنا الجلیلِ فی عَدَمِ إِیفاءِ الْبَیانِ حَقَّهُ لِما أَلْمَعْتُ إِلَیْهِ آنِفا، وَبِحَسبی أنْ یکونَ مَاثِلُ شُعُورِی شافِعا لِشاخِصِ قُصُوْرِی.

والسَّلامُ مِسْکُ الخِتام.

ص: 5


1- 1 . استعملتُ عِبارةَ (الموسوعة) مُجاراةً لأسالیب المُتَأَخِّرِین مَعَ أَنَّ التحقیقَ اللُّغَوِیَّ یأْباها فیما اصْطَلَحَ عَلَیْهِ الْعَصْرِیُّوْن.
2- 2 . قال بعض أئمّةِ اللُّغة: إِنَّ الاْءُمَّهاتِ للنّاس، وَالاْءُمّات لِغَیْرِهم وقد یُستعمل (الأُمّات) فی النّاس أیضا.
3- 3 . فَرَعَ: افْتَضَّ، والکلامُ مَبْنِیٌّ علی الاِسْتِعارَةِ المَکْنِیَّةِ.
4- 4 . سورة النمل /39.

وَزْنُ الأَبیاتِ مِنَ (الکامل)

قَدْ أَتْحَفَ الْفُقَهاءَ (هادِیْنا) إِلی نَهْجِ الْهُدی الْمُتأَلِّقِ الْوَضّاءِ

إذْ زَفَّ مِنْ سِفْرِ الْبُحُوثِ الْمُحْتَوِیْ لُبَّ الْفَقاهَةِ سابعَ الاْءَجزاءِ

أَعْظِمْ بِمِضْمارٍ لَهُ بِمَسائِلِ اسْ تِدْلالهِ أَوْفی عَلی النُّظَراءِ

حَیْثُ اغْتَدی لِذَوِیْ التَّتَبُّعِ مَنْجَما جَلَّتْ (مَکاسِبُهُ) عَنِ الاْءِطْراءِ

فِیْهِ قَدِ انْبَجَسَتْ عُیُوْنُ مَعارِفٍ بِمَعِیْنِها الْمُتَدَفِّقِ الْمِعْطاءِ

وَبِمَدِّها الْفِکْرُ الاْءَصِیْلُ قَدِ ارْتَوی رَِیّا، وَأَثْری أَیَّما إِثْراءِ

بِأَبِیْ عَلِیٍّ أَسْفَرَتْ صَفَحاتُهُ بِفَرائِدِ التَّحْقِیْقِ مِثْلَ ذُکاءِ(1)

وَتَبَلَّجَتْ بالنُّوْرِ فی إِشْراقِها أَحْکامُ شِرْعَةِ أَحْمَدَ الْغَرّاءِ

هُوَ عَیْلَمٌ(2) جَمَعَ الْجَواهِرَ وَازْدَهَتْ فِیْهِ (حدائِقُ) (رَوْضَةٍ) غَنّاءِ

أَقْصی الْعَنا قَدْ زالَ مُذْ أَرَّخْتُهُ: «سِفْرٌ أَضاءَ بِأَمْیَزِ الاْآراءِ»

(-1) (340) + (803) + (60) + (34)

1436=1-1437ه.ق

العبد الآبق الأقلُّ عَبدالستار عَفا عَنْهُ الملیکُ الغَفّار

ص: 6


1- 1 . ذُکاء بضم الذال المعجمة: من أسماء الشمس.
2- 2 . العَیْلَم بتقدیم الیاء علی اللام: من أسماء البحر.

فَصْلٌ: الولایات

اشارة

ص: 7

البحث حول الولایات ینعقد فی ثلاثة أجزاء:

1_ ولایة الأب والجدّ

2_ ولایة الفقیه

3_ ولایة عدول المؤمنین

وکلّها تکون بجعل الشارع الأقدس بحیث لو لم یَجْعَلْها لا یجوز لهم التصرف فی مال الغیر وأُموره، فلنبحث حول هذه الأجزاء بالاستقلال وعلیه تعالی الاِتِّکال، والهدِایَةُ إلی إصابَةِ شاکِلَة الصَّوابِ فی جمیع الأحوال.

ص: 8

تمهیداتٌ:

الأوّل: الإنسان تارة یتصرف فی ماله مباشرة، وأُخری یتصرف فی مال غیره

الأوّل: الإنسان تارة یتصرف فی ماله مباشرة، وأُخری یتصرف فی مال غیره والتصرف فی مال الغیر ینقسم إلی أقسام:

أ: یتصرف فی مال غیره بإذن مالکه من قبل التصرف وهذا یسمّی الوکالة ونحوها.

ب: یتصرف فی مال غیره بإجازة مالکه اللاحقة من بعد التصرف وهذا یسمّی الفضولی

ج: یتصرف فی مال غیره من دون الإذن السابق أو الإجازة اللاحقة بل من باب الولایة التی جعلها الشارع له فی هذا المال. وهذا الأخیر هو بحثنا الحاضر أعنی الولایات.

الثانی: الولایة فی اللغة

قال الخلیل بن أحمد الفراهِیْدِیُّ: «ولی: الولایة: مصدرُ المُوالاة، والولایة مصدر الوالی، والولاء: مصدر المَوْلَی.

والمَوالی: بنو العمّ... والمَوالی من أهل بیتِ النّبیّ صلی الله علیه و آله مَنْ یحرم علیه الصّدقة.

والمَوْلَی: المُعْتِق والحلیف والولیّ.

والولیّ: ولیّ النِّعم. والموالاة: اتّخاذُ المولی، والموالاة، أیضا: أن یَولیَ بینَ رَمْیَتَیْن أو فعلین فی الأشیاء کلها. وتقول: أصبته بثلاثة أسهم ولاءَ و[تقول] علی الولاء أی:

ص: 9

الشّیء بَعْدَ الشَّیء»(1).

وقال ابن فارس: «(ولی) الواو واللام والیاء: أصلٌ صحیح یدلُّ علی قرب. من ذلک الوَلْیُ: القرْب. یقال: تَبَاعَدَ بعد وَلْی، أی قُرْبٍ. وجَلَسَ ممّا یَلِینی، أی یُقارِبُنی. والوَلِیُّ: المَطَر یجیءُ بعد الوَسْمیّ، سمِّی بذلک لأنَّه یلی الوسمِیّ(2).

ومن الباب المَوْلی: المُعْتِقُ والمُعْتَق: والصَّاحب، والحلیف، وابن العَمّ، والنَّاصر، والجار؛ کلُّ هؤلاء من الوَلْیِ وهو القُرْب. وکلُّ مَن ولِیَ أمرَ آخرَ فهو ولیُّه. وفلانٌ أولی بکذا، [أی أحری به وأجدر. فأمَّا قولهم فی الشتم: أولی لکَ فحدّثنی علی بن عمر قال: سمعت ثعلبا(3)] یقول: أولی تهدُّد ووعید... والباب کلّه راجع إلی القرب»(4).

وقال الزمخشری: «و ل ی _ وَلِیَهُ وَلْیا: دنا منه، وأولیتُه إیّاه: أدنیته. وکُلْ ممّا یلیک، وجلستُ ممّا یلیه. وسقط الولیُّ وهو المطر الذی یلی الوسمیّ.

وقد وُلِیَتِ الأرضُ، وهی مَوْلِیَّةٌ. ووَلیَ الأمرَ وتولاّهُ، وهو وَلِیُّه ومولاه، وهو ولیّ الیتیم وولیّ القتیل وهم أولیاؤه. ووَلِیَ وِلایة. وهو والی البلد وهم ولاته. ورحم اللّه تعالی وُلاةَ العدل.

واستولی علیه. وهذا مولایَ: ابن عمّی، وهم مَوالیُّ. ومَولای: سیّدی وعبدی. ومَولّیً بیِّن الولایة: ناصر. وهو أولَی به. ووالاه موالاة ووالی بین الشیئین، وهما علی الولاء. وتقول العرب: والِ غنمک من غنمی أی اعزلها ومیّزها، وإذا کانت الغنم ضأنا ومِعزًی، قیل: والِها»(5).

وقال ابن الأثیر: «(ولا) فی أسماء اللّه تعالی «الوَلِیّ» هو النَّاصر. وقیل: المُتوَلّی لأمور العَالَم والخَلائِق القائِمُ بها.

ص: 10


1- 1 . کتاب العین /1068.
2- 2 . الوسْمیُّ: مَطَرُ أوّلِ الربیع. راجع لسان العرب 12/636.
3- 3 . التکملة من المجمل.
4- 4 . معجم مقاییس اللغة 6/141 و 142.
5- 5 . أساس البلاغة /509.

ومن أسمائه _ عزّ وجلّ _ «الوالیِ» وهو مَالِک الأشیاء جَمِیعها، المُتَصَرِّفُ فیه. وکأنّ الوِلایَة تُشْعِرُ بالتَّدْبِیر والقُدْرة والفِعْل، وما لم یَجْتَمِعْ ذلک فیها لم یَنْطَلِقْ عَلیه اسْمُ الوالیِ.(1)

... وقد تکرر ذکر «المَوْلَی» فی الحدیث، وهو اسْمٌ یَقع علی جَماعةٍ کَثِیرَة، فهو الرَّبُّ، والمَالکُ، والسَّیِّد، المُنْعِم، والمُعْتِقُ، والنَّاصِر، والمُحِبّ، والتَّابِع، والجارُ، وابنُ العَمّ، والحَلِیفُ، والعَقِید، والصِّهْر، والعَبْد، والمُعْتَقُ والمُنْعَم عَلَیه. وأکْثرها قد جاءت فی الحدیث، فَیُضافِ کُلّ واحِدٍ إلی ما یَقْتَضِیه الحدیثُ الوَارِدُ فیه. وکُلُّ مَن وَلِیَ أمْرا أو قام به فَهُو مَوْلاَهُ وَوَلِیُّه. وقد تَخْتَلِف مَصادرُ هذه الأسْماء. فالوَلایَةُ بالفَتْح، فی النَّسَب والنُّصْرة والمُعْتِق. والوِلاَیة بالکسْر، فی الإمَارة. والوَلاَءُ، المُعْتَق والمُوَالاَةُ مِن وَالَی القَوْمَ.

ومنه الحدیث «مَن کُنْتُ مَوْلاه فَعَلِیٌّ مَوْلاَه» یُحْمَل(2) علی أکْثر الأسْماء المَذْکورة.

قال الشَّافِعی _ رضی اللّه عنه _ : یَعْنی بذَلِک وَلاَء الإسْلام، کقوله تعالی: «ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ مَوْلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَأَنَّ الْکافِرِینَ لا مَوْلی لَهُمْ»(3).

وقول عمر لعَلیّ «أصْبَحْتَ مَوْلَی کُلِّ مُؤْمِن» أی ولِیَّ کُلِّ مُؤْمن.

وقیل: سبَب ذلک أنَّ أُسامةَ قال لِعَلِیِّ: لَسْتَ مَوْلایَ، إِنَّما مَوْلای رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال صلی الله علیه و آله : «مَنْ کُنْتُ مَوْلاهُ فعَلیٌّ مَوْلاه»(4).

أقول: وهذا باطِلٌ لا مَقِیْلَ له مِن الصِحَّة. والصحیحُ أنَّ ذلک بأمْرٍ مِن اللّه تعالی و «المولی» مُشْتَرَکٌ مَعْنَوِیٌّ ولَیْسَ مُشْتَرَکا لَفظِیّا علی التحقیق.

وقد اعترف أبوالثناء الآلوسی (ت 1270ق) مع مکابرتِه حتّی فی البدیهیّات أنّ

ص: 11


1- 1 . النهایة فی غریب الحدیث والأثر 5/227.
2- 2 . فی الهروی: «قال أبوالعباس: أی من أحبّنی وتولاّنی فلْیَتَولَّهْ. وقال ابن الأعرابی: الوَلِیّ: التابع الُمحِبّ».
3- 3 . سورة محمّد /11.
4- 4 . النهایة فی غریب الحدیث والأثر 5/228.

«المولی» یأتی بمعنی «الأوْلی» قال فی «روح المعانی»: ««مولاهم»(1): أی مالکهم الذی یلی أمورهم علی الإطلاق»(2).

وقال الراغب: «ولی: الوَلاَء والتَّوالی أنْ یحْصُلَ شَیْئَانِ فَصاعِدا حُصُولاً لیس بَینهما ما لیسَ منهما، وَیُسْتَعارُ ذلک للقُرْبِ من حیثُ المکانُ ومن حیثُ النِّسْبةُ ومن حیثُ الدِّینُ ومن حیْثُ الصَّداقةُ والنُّصرةُ والاعتِقادُ، والوِلایةُ النُّصرةُ، والوَلایةُ تولیِّ الاْءمرِ، وقیلَ الوِلایةُ والوَلایةُ نحوُ الدِّلالةِ والدَّلالةِ، وحقیقتُهُ تَولِّی الأمرْ.

وَالوَلِیُّ والموْلَی یُسْتعملان فی ذلک کلُّ واحِدٍ منهما یقالُ فی معنی الفَاعِل أی المُوالی، وفی معنی المَفعولِ أی المُوالَی، یقالُ للمُؤْمنِ هو وَلِیُّ اللّه ِ _ عزَّ وجلَّ _ ولم یَرِدْ موْلاهُ، وقد یقالُ: اللّه ُ تعالی وَلِیُّ المُؤْمِنینَ وَمَوْلاهُمْ»(3).

وقال الفیومی: «الوَلْیُ: مِثْلُ فَلْسِ الْقُرْبُ وَفِی الْفِعْلِ لُغَتَانِ أَکْثَرُهُمَا (وَلِیَه) (یَلِیهِ) بَکَسْرَتَیْنِ والثَّانِیَةُ مِنْ بَابِ وَعَدَ وَهِیَ قَلِیلَةُ الاسْتِعْمَالِ وَجَلَسْتُ مِمَّا (یَلِیهِ) أیْ یُقَارِبُهُ وَقِیلَ (الْوَلْیُ) حُصُولُ الثَّانِی بَعْدَ الاْءَوَلِ مِنْ غَیْرِ فَصْلٍ وَ (وَلِیتُ) الأمْرَ (أَلِیهِ) بِکَسْرَتَیْنِ (وِلاَیَةً) بِالکَسْرِ (تَوَلَّیْتُهُ) و (وَلِیتُ) البَلَدَ وَعَلَیْهِ و (وَلِیتُ) عَلَی الصَّبیِّ والمَرْأَةِ فَالْفَاعِلُ (والٍ) والْجَمْعُ (وُلاَةٌ) والصَّبِیَّ والْمَرْأَةُ (مَوْلِیٌّ) عَلَیْهِ وَالاْءَصْلُ عَلَی مَفْعُولٍ و (الْوَلاَیَةُ) بِالْفَتْحِ والْکَسْرِ النُّصرَةُ وَ (اسْتَوْلَی) عَلَیْهِ غَلَبَ عَلَیْهِ وتَمَکَّنَ مِنْهُ و (الْمَوْلَی) النَّاصِرُ و (الْمُوَالاَة) و (المَوْلَی) ابْنُ الْعَمِّ و (الْمَوْلَی) العَصَبَةُ و (الْمَوْلَی) النَّاصِرُ و (الْمَوْلَی) الحَلِیفُ وَهُوَ الَّذِی یُقَالُ لَهُ (مَوْلَیَ المُوَالاَة) و (المَوْلَی) الْمُعْتِقُ وَهُوَ (مَوْلَی النِّعْمةِ) و (المَوْلَی) الْعَتِیقُ وَهُمْ (مَوَالی) بَنی هاشِمٍ أَیْ عُتَقَاؤُهُمْ و (الْوَلاَءُ) النُّصْرَةُ لکِنَّهُ خُصَّ فی الشَّرْعِ (بِوَلاَء) الْعِتْقِ و (وَلَّیْتُهُ) (تَوْلِیَةً) جَعَلْتُهُ وَالِیا وَمِنْهُ بَیْعُ (التَّوْلِیَةِ) و (وَالاَهُ) (مُوَالاَةً) و (وِلاَءً) مِنْ بَابِ قَاتَلَ تَابَعَه و (تَوَالَتِ) الاْءَخْبَارُ تَتَابَعَتْ و (الْوَلِیُّ) فَعِیلٌ بِمَعْنَی فَاعِلٍ مِنْ (وَلِیَهُ) إذَا قَامَ بِهِ وَمِنْهُ «اللّه ُ وَلِیُّ

ص: 12


1- 1 . سورة الأنعام /62.
2- 2 . روح المعانی 7/230 من الطبعة الحدیثة و 7/177 من الطبعة القدیمة.
3- 3 . المفردات /570.

الّذِینَ آمنُوا» والْجَمْعُ (أَوْلِیَاءُ)»(1).

وقال ابن منظور: «ولی: ... ابن سیّده: وَلیَ الشیءَ ووَلیَ علیهِ وِلایةً ووَلایةً، وقیل: الوِلایة الحُطة کالإمارة، والوَلایةُ المصدر. ابن السکیت: الوِلایة، بالکسر، السلطان، والوَلایةُ والوِلایة النُّصرة. ویقال: هم علیَّ وَِلایةٌ أَی مجتمعون فی النُّصرة. وقال سیبویه: الوَلایة، بالفتح، المصدر، والوِلایة، بالکسر، الاسم مثل الإمارة والنِّقابة، لأَنّه اسم لما توَلَّیته وقُمْت به فإذا أَرادوا المصدر فتحوا.

... وقال الزّجّاج: یقرأُ وَلایتِهِم ووِلایَتِهم، بفتح الواو وکسرها، فمن فتح جعلها من النصرة والنسب، قال: والوِلایةُ التی بمنزلة الإمارة مکسورة لیفصل بین المعنیین، وقد یجوز کسر الولایة لأَن فی تولی بعض القوم بعضا جنسا من الصِّناعة والعمل، وکل ما کان من جنس الصِّناعة نحو القِصارة والخِیاطة فهی مکسورة. قال: والوِلایةُ علی الإیمان واجبة، المؤمنون بعضُهم أَولیاء بعض، وَلیٌّ بیِّن الوَلایة وَوالٍ بیِّن الوِلایة.

... وروی ابن سَلاّم عن یونس قال: المَوْلی له مواضع فی کلام العرب: منها المَوْلی فی الدِّین وهو الوَلِیُّ وذلک قوله تعالی: ذلک بأَنَّ اللّه َ مَوْلی الذین آمنوا وأنَّ الکافرین لا مَوْلی لهم؛ أَی لا وَلِیَّ لهم، ومنه قول سیّدنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله : مَنْ کُنتُ مَؤلاه فعلیٌّ مَؤلاه أَی مَن کنتُ وَلِیَّه.

... وروی أَنَ النبی صلی الله علیه و آله ، قال: مَن تَوَلاَّنی فلْیَتَوَلَّ عَلِیّا؛ معناه من نَصَرَنی فلیَنْصُرْه... وقوله صلی الله علیه و آله : اللهم والِ مَن والاه أَی أَحْبِبْ مَنْ أَحَبَّه وانْصُرْ من نصره»(2).

وقال الطریحی: «قوله: «اَوْلَی النَّاسِ بِإبْراهیم» یعنی أحقّهم به وأقربهم منه من الولی وهو القرب... والولایة أیضا النّصرة وبالکسر الأمارة مصدر ولیّت ویقال: هما لغتان بمعنی الدُولة... وفیه بُنی الإسلام علی خمس منها الولایةٌ الوَلایة بالفتح محبّة أهل البیت علیهم السلام واتباعهم فی الدّین وامتثال أوامرهم ونواهیهم والتّاسیّ بهم فی الأعمال

ص: 13


1- 1 . المصباح المنیر /672.
2- 2 . لسان العرب 15/407 و 408 و 409.

والأخلاق وأمّا معرفة حقّهم واعتقاد الأمامة فیهم فذلک من اُصول الدّین لا من الفروع العملیّة والوَلیّ من أسمائه تعالی وهو الناصر ینصر عباده المؤمنین، وقیل: المتولیّ لأمُور العالم والخلایق القائم بها وأصل الکلمة من الولی وهو القرب»(1).

الثالث: الولایة فی مصطلحها الفقهی

الوِلایة _ بکسر الواو _ فی المصطلح الفقهی عبارة عن السلطة علی الغیر أو تنفیذ القول علی الغیر أو، التصرف فی الأنفس أو الأموال أو کلاهما بحکم العقل أو الشرع بالإصالة أو بالعرض.

والمراد بالولایة الأصلیة هی الولایة المجعولة العقلیة أو الشرعیة لشخص خاص نحو ولایة الأب والجدّ، والمراد بالولایة العرضیة هی الولایة التی تنتقل من شخص إلی آخر نحو ولایة الوصی والقیم من جانب الأب أو الجدّ.(2)

الرابع: مقتضی الأصل فی الولایة

الأصل الأوّلی عدم ولایة أحد علی أحد وعدم نفوذ حکمه فیه، فإنّ الناس خُلقوا أحرارا وهم بحسب الخِلْقة والفِطْرة مسلّطون علی أنفسهم وأموالهم. فالتصرف فی شؤونهم وأموالهم یکون مخالفا لهذا الأصل الأوّلی.

وفی رسالة أمیرالمؤمنین علیه السلام لنجله الإمام الحسن علیه السلام ورد: «لا تکن عبد غیرک وقد جعلک اللّه حرّا»(3).

ولذاقال الشیخ الأعظم: «مقتضی الأصل عدم ثبوت الولایة لأحد»(4).

الخامس: قبل الورود فی البحث لابدّ من نقل مقال المحقّق النائینی ونقده:

اشارة

ص: 14


1- 1 . مجمع البحرین /97 و 98 من الطبعة الحجریة.
2- 2 . راجع فی هذا المجال: بلغة الفقیه 3/210، التنقیح فی شرح المکاسب 2/156، الحاکمیة فی الإسلام /174.
3- 3 . نهج البلاغة، الکتاب 31.
4- 4 . المکاسب 3/546.
مقالة المحقّق النائینی ونقده
اشارة

قال قدس سره فی دورته الأُولی: «هذه المسألة من فروع مسألة شروط المتعاقدین، حیث قال: ومن شروطهما: أن یکونا مالکین، أو المأذونین من المالک أو الشارع، فالمأذون من المالک هو الوکیل، والمأذون من الشارع هو من له الولایة علی التصرّف فی مال الغیر، والولایة علی أقسام:

قسم منها ذاتیّ، ویعبّر عنه بالإجباریّ، وهو ولایة الأب والجدّ علی [الصغیر و[ الیتیم وماله، وثبوتها لهما فی الجملة ضروریّ یطّلع علیه المتتبّع فی الأبواب المتفرّقة.

ففی باب الوصیّة: ینفذ إذن الوالد فی المضاربة بمال ولده الصغیر بحیث لا ضمان علی المأذون.

وفی باب الحجر: ولیّ الطفل قبل البلوغ والمتصرّف فی ماله هو الأب والجدّ.

وفی باب النکاح: ینفذ عقد الأب والجدّ علی الصغیر.

وقسم منها مجعول بجعلٍ شرعیٍّ تعبّدیٍّ: کولایة الحاکم.

وقسم منها مجعول بجعلٍ خَلْقیٍّ: کولایة القیّم من قبل الأب والجدّ بعد موتهما علی الصغیر»(1).

ویرد علیه: الولایة الذاتیة مختصة بذات ذی الجلال والإکرام ولا تکون إلاّ له

ویرد علیه(2): الولایة الذاتیة مختصة بذات ذی الجلال والإکرام ولا تکون إلاّ له تعالی ومنحصرة بذاته سبحانه، وأمّا ولایة الأب والجدّ فمجعولة بجعل شرعی ولکن موضوعها ذاتیٌّ لأنّ الاُبوّة والبنوّة ذاتیتان تکوینیتان وغیر مَجْعُولَتَیْنِ. ولا فرق بین الولایات الثَّلاثِ فی أنّها مجعولة بجعل شرعی من قبل الشارع الأقدس.

ولعلّ المحقّق النائینی رحمه الله التفت إلی هذا الإشکال وعدل عن مقالته وقال فی دورته الثانیة من بحث البیع: «... إنّ الاولیاء المتصرفین فی الأُمور الراجعة إلی القاصرین طوائف مترتبة لا یجوز للمتأخر منهم التصرف مع وجود المتقدم الأُولی الأب والجدّ ولا إشکال

ص: 15


1- 1 . منیة الطالب 2/225 و 226.
2- 2 . المورد هو الاستاذ المحقّق _ مد ظله _ فی العقد النضید 4/162.

فی ولایتهما علی الصبی والمجنون فی الجملة وأنّ ولایتهما تکون بجعل إلهی فیکون کلُّ واحد منهما ولیّا إجباریا من قبل الشارع»(1).

أقول: لعل مراد النّائینیّ من الذاتی لیس فی مقابل غیر الذاتی فی باب الإیساغوجی بل مراده من الذاتی هو الإجباری أی اللزومی کما فسّره کذلک.

یمکن أن نَسْتَنْتِجَ من هذا التمهید أمورا:

أ: الأصل الأوّلی عدم ثبوت ولایة أحدٍ علی أحد، فبالنتیجة الولایة تحتاج إلی دلیل قطعی حتّی تثبت.

ب: الولایات کلّها بجعل شرعی إلاّ ولایة اللّه تعالی فإنّها ذاتیّة لأنّه _ عزّ وجلّ _ خالق للکون والخالق والربّ هو الولی.

ج: الولایات بعضها فی طول بعض مثلاً مع وجود الأب أو الجدّ لا تثبت للفقیه الولایة علی أموال الأیتام والقُصَّر. ومع وجود الفقیه لا تثبت الولایة لعدول المؤمنین.

ص: 16


1- 1 . المکاسب والبیع 2/330.

الأوّل: ولایة الأب والجدّ

اشارة

استدلّ الشیخ الأعظم(1) فی إثبات ولایة الأب والجدّ بأدلة ثلاثة:

الدلیل الأوّل: الإجماع

الوارد فی کلمات القوم نحو الشیخ فی وکالة الخلاف(2) والمبسوط(3)، وحُکی(4) من منتهی المطلب(5) للعلاّمة، والأردبیلی فی مجمع الفائدة(6) وسیّدی الریاض(7) والمفتاح(8).

وفیه: ثبوت الإجماع حتّی المُحَصَّل منه فی المقام مسلَّمٌ بل المسألة من ضروریات الفقه(9) ولکن احتمال المدرکیتة یسقطه عن الاعتبار، لإمکان استناد المجمعین إلی الروایات الواردة فی المقام.

الدلیل الثانی: الروایات المستفیضة

اشارة

فی الأبواب المختلفة من الفقه نحو:

باب أنّ من اتّجر بمال الطفل وکان ولیّا له استحب له تزکیته... .(10)

ص: 17


1- 1 . المکاسب 3/535.
2- 2 . الخلاف 2/381.
3- 3 . المبسوط 3/346.
4- 4 . الحاکی هو المحقّق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان 8/165.
5- 5 . منتهی المطلب 8/26.
6- 6 . مجمع الفائدة والبرهان 8/157.
7- 7 . ریاض المسائل 8/220.
8- 8 . مفتاح الکرامة 12/670.
9- 9 . کما فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/136.
10- 10 . وسائل الشیعة 9/87، الباب 2 من أبواب من تجب علیه الزکاة.

باب حکم الأخذ من مال الولد والأب.(1)

باب جواز تقویم الأب جاریة البنت والإبن الصغیرین ووطئها بالملک إذا لم یکن وطأها الإبن.(2)

باب جواز بیع الولی کالأب والجدّ للأب مال الیتیم وجواریه مع المصلحة وإن لم یوص إلیه وجواز شراء منه.(3)

باب ثبوت الحجر عن التصرف فی المال علی الصغیر والمجنون والسفیه حتّی تزول عنهم الموانع.(4)

باب أنّ من أذن لوصیّه فی المضاربة بمال ولده الصغار من غیر ضمان جاز له ذلک ولم یضمن.(5)

باب ثبوت الولایة للأب والجدّ للأب خاصة مع وجود الأب لا غیرهما علی البنت غیر البالغة الرشیدة وکذا الصبی.(6)

باب ثبوت الولایة للجدّ للأب فی حیاة الأب خاصة علی الصغیرة فإن زوّجاها صح عقد السابق وإن اقْتَرنا صحَّ عقد الجدّ.(7)

باب أنّه لا یجوز للرجل أن یطأ جاریة ولده إلاّ أن یتملکها أو یحللها له مالکها مع عدم وط ء الولد لَها، وأنّه یجوز أن یقوم أمة ولده الصغیر ویشتریها ویطأها.(8)

ص: 18


1- 1 . وسائل الشیعة 17/262، الباب 78 من أبواب ما یکتسب به.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/267، الباب 79 من أبواب ما یکتسب به.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/409، الباب 1 من أبواب کتاب الحجر.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/427، الباب 92 من أبواب کتاب الوصایا.
6- 6 . وسائل الشیعة 20/275، الباب 6 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
7- 7 . وسائل الشیعة 20/289، الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
8- 8 . وسائل الشیعة 21/140، الباب 40 من أبواب نکاح العبید والإماء.
مناقشة المحقّق الإیروانی فی دلالة الروایات المستفیضة ونقدها

قال قدس سره : «إلاّ أنّ الأخبار المذکورة لیس عنوانهانفوذ معاملات الأب فی حقّ ابنه، وإنّما عنوانها جواز استیلاء الأب علی مال ابنه وأکله منه وتصرّفه فیه استقالاً تصرّفَ الملاّک فی أملاکهم، لا التصرّف فیه لأجل ابنه بعنوان الولایة علیه، بل مورد کثیر من الأخبار هو تصرّف الأب فی مال ولده البالغ ومساقها مساق آیة لا جناح علیکم: «أَنْ تَأْکُلُوا مِنْ بُیُوتِکُمْ أَوْ بُیُوتِ آبائِکُمْ أَوْ بُیُوتِ أُمَّهاتِکُمْ»(1) إلی آخر الآیة.

وفی بعض تلک الأخبار التعلیل بقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله لرجل: «أنت ومالک لأبیک»(2)، وفی جملة من الأخبار تقیید جواز الأکل بصورة الاضطرار والحاجة، وقد حملت هذه الأخبار علی الأخذ بمقدار النفقة الواجبة علی الولد، وفی روایة ابن سنان(3) المنع عن الأخذ إذا کان الولد ینفق علیه بأحسن النفقة فتکون هذه الروایة شاهدة علی الحمل المذکور.

وعلی کلّ حال الأخبار أجنبیّة عمّا هو المدّعی فی المقام، والتمسّک بفحواها للمقام موقوف علی العمل بإطلاقها فی موردها وعدم حملها علی ما ذکرناه من المحمل»(4).

أقول: یرد علیه: أوّلاً: بأنّ الروایات الواردة فی المقام لا تختص بما ذکره المحقّق الإیروانی فقط؛ لأنّ وجود هذا المحمل فی هاتین الروایتین وارد ولکن قد ذکرنا لک تسعة أبواب من الروایات فی المقام ومحمله لا تجری فیها.(5)

وثانیا: ولایة الأب والجدّ تکون أمرا عرفیّا طبیعیّا حاصِلاً فی جمیع المِلَلِ(6)

ص: 19


1- 1 . سورة النور /61.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/262، ح1، صحیحة محمّد بن مسلم.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/263، ح3، صحیحة أو حسنة عبداللّه بن سنان.
4- 4 . حاشة المکاسب 2/362.
5- 5 . راجع العقد النضید 4/164.
6- 6 . کما علیه الفقیه الشریعتمداری فی تقریر أبحاثه 4/15.

والنِّحَلِ بل السیرة العقلائیة قائمة علیها کما سیأتی لاحِقا، فما ورد من الروایات المستفیضة الدالة علیها یستفاد منها إمضاء الشارع فقط دون التأسیس ولذا لم ترد آیة أو روایة مستقلة دالة علیها علی نحو التنصیص والتصریح والاستقلال لعدم الحاجة إلی تأسیسها وإثباتها شرعا.

الدلیل الثالث: فحوی سلطنتهما علی بُضْعِ البنت فی باب النکاح

(1)

بتقریب: إنّ بضع البنت أهمّ من أموالها فإذا ثبتت للأب والجدّ الولایةُ علی بضعها ونکاحها فبالأولویة القطعیة تثبت لهما الولایة علی أموالها.

لا یقال: ناقش الشیخ الأعظم فی الاستدلال علی صحة بیع الفضولی بفحوی الروایات الدالة علی صحة نکاح الفضولی کما مرّت مناقشته فی هذا الکتاب(2)، وقال: «امضاء العقود المالیة یستلزم إمضاء النکاح دون العکس»(3). فهذه المناقشة بعینها تجری فی المقام، وفحوی سلطنتهما علی بضع البنت لا تثبت ولایتهما علی أموالها.

لأنّا نقول: أوّلاً: مرّ جوابنا عن مناقشة الشیخ الأعظم قدس سره فراجع ما حررناه هناک.(4) فالمناقشة مردودة عندنا حتّی بالنسبة إلی بیع الفضولی.

ثانیا: إنّ الشارع إذا جعل الولایة للأب والجدّ فی تزویج البنت، وهذا التزویج هو تصرف وتسلیط علی أهمّ شؤونها و ربّما یَطُوْلُ أمدا بعیدا أو مادامَت الحیاة، فبطریق أولی یجعل الشارع الولایة لهما فی التصرف والتسلیط علی أموالها التی لیست بهذه الاْءَهَمِیَّةِ ولم تکن مادامَت الحیاة أو أمدا بعیدا. «وهذه الأولویة ملحوظة فی مقام الجعل والتسبیب لا فی مقام العمل بعد وقوعه کما فی الأولویة فی باب الفضولی»(5).

وثالثا: المناقشة تجری «فیما إذا تحقّق فی الخارج نکاح فضولی وبیع فضولی أو

ص: 20


1- 1 . المکاسب 3/535.
2- 2 . الآراء الفقهیة 5/205.
3- 3 . المکاسب 3/358.
4- 4 . الأراء الفقهیة 5/206 وما بعدها.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/137.

فرض تحقّقهما، فالحکم بصحّة الأوّل لا یدلّ بالفحوی علی الحکم بصحّة الثانی، وأمّا جعل الولایة للأب والجدّ علی إیجاد نکاح البنت وإنشائه ابتداءً، فهو یستلزم ولایته علی التصرّف فی أموالها بالأولویّة بلا إشکال، فلا یقاس أحد المقامین بالآخر»(1).

الدلیل الرابع: السیرة العقلائیة

اشارة

السیرة القطعیة العقلائیة جاریة فی الأزمنة والأمکنة والأعصار والأمصار علی اختلاف مِلَلِهِم ونحلهم علی جواز تصرفات الأب والجدّ فی أموال أولادهما وثبوت الولایة لهما علیها ولم یثبت ردع شرعی عنها بل ورد إمْضاؤُها فی الشریعة المقدسة بالروایات المستفیضة الواردة فی الأبواب التسعة الماضیة.

بتقریب آخر: «عملُ العرف وطبعُ النّاسِ فی جوازِ ولایتهما عَلی الطّفل حیث انّهما یُسلّطانِ عَلی الطّفل بالطّبعِ ویتصرّفانِ فی ماله أیضا بالطّبع ولذا لا تختصّ هذِهِ المسألة بالإسلامِ بل کانت حاصلةً فی جمیعِ المللِ والنّحلِ.

وحیث کانت المسألة أمرا عرفیّا طبیعیا حاصلة فی جمیعِ الملل، لیس لأصل المسألة دلیلٌ مستقیمٌ فلم ترد روایةٌ أو آیةٌ دالّةٌ علی ولایةِ الأب والجدٌّ مستقیما لعدم الحاجة إلی إثباتها. نَعم: وردت روایاتٌ فی الأبواب المختلفة یُستفادُ منها إمضاءُ الشّارع وِلایةَ الأب والجدّ»(2).

وهذا الدلیل غیر مذکور فی کلام الشیخ الأعظم ولکنّه قطب رَحی الولایة لهما ولذا ذکرتُهُ بتقریبین والحمدللّه.

ثمّ إنّ هنا مسائل لابدّ من البحث حولها:
المسألة الأولی: عدم اعتبار العدالة فی ولایتهما
اشارة

ذهب المشهور(3) من أصحابنا _ قدس اللّه أسرارهم _ إلی عدم اعتبار العدالة فی

ص: 21


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/8.
2- 2 . تقریر أبحاث الفقیه الشریعتمداری 4/15.
3- 3 . المکاسب 3/535.

ولایة الأب والجدّ ولکن خالفهم ابن حمزة فی الوسیلة(1) وفخرالمحقّقین فی الإیضاح.(2)

واستدلّ الشیخ الأعظم علی ما ذهب إلیه المشهور من عدم اعتبار العدالة بأدلة ثلاثة.

الدلیل الأوّل: الإجماع

الإجماع المدّعی فی کلام العلاّمة حیث یقول: «الفسق لا یسلب ولایة النکاح عند علمائنا أجمع، فللفاسق أن یزوِّج ابنته الصالحة البالغة بإذنها والصغیرة والمجنونة مطلقا وبه قال مالک وأبوحنیفة والشافعی فی أحد القولین وأحمد فی إحدی الروایتین»(3).

مضافا إلی إنّ الإجماع إذا کان موجودا فی ولایة الأب الفاسق أو الجدّ کذلک علی بضع البنت فبطریق الأولویة یکون موجودا فی ولایتهما وإنْ کانا فاسقَیْن علی أموالها وإذا کان موجودا فی الأموال کان موجودا فی غیرها لعدم القول بالفصل.

ویرد علیه: أوّلاً: بأنّ هذا الإجماع منقول ولا یمکن تحصیله لعدم عنوان المسألة فی کتب الأصحاب قدیما.

وثانیا: یمکن أن یکون الإجماع مدرکیّا بحیث یستفاد من الأدلة التی تاتی فی المقام واحتمال المدرکیة یسقطه عن الاعتبار.

وثالثا: قد عرفت وجود المخالف فی المسألة وهما ابن حمزة وفخر المحققین ومع وجود المخالف کیف ینعقد الإجماع؟

الدلیل الثانی: الإطلاقات

الإطلاقات الواردة فی الأبواب التسعة من الروایات المستفیضة التی مرّت الإشارة إلی محلّها لعدم التفصیل فیها بین کون الأب أو الجدّ أو الولی المتصرِّف عادلاً أو فاسقا ولو کانت العدالة معتبرة فلابدّ من التنبیه علیها لا أَقَلَّ فی إحدی الروایات حالَ کَوْنِها کلّها خالیة عن هذا التقیید.

ص: 22


1- 1 . الوسیلة /279 و 373.
2- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 3 . تذکرة الفقهاء 23/321، مسألة 180؛ نقل عنه فی مفتاح الکرامة 16/81.

أذکر لک نموذجا منها:

معتبرة أبی الربیع _ خُلَید بن أوفی الشامی _ قال: سُئل أبو عبداللّه علیه السلام عن الرجل یکون فی یدیه مال لأخ له یتیم وهو وصیّه، أیصلح له أن یَعْمَلَ به؟ قال: نعم، کما یعمل بمال غیره والربح بینهما، قال: قلت: فهل علیه ضمان؟ قال: لا، إذا کان ناظرا له.(1)

وحسنة محمّد بن مسلم عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه سُئل عن رجل أوصی إلی رجل بولده وبمال لهم وأذن له عند الوصیة أن یعمل بالمال، وأن یکون الربح بینه وبینهم، فقال: لا بأس به من أجل أنّ أباهم قد أذن له فی ذلک وهو حیٌّ.(2)

وصحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی الرجل یکون لبعض وُلده جاریةً ووُلده صغارٌ، هل یصلح أن یطأها؟ فقال: یقوّمها قیمة عدل ثمّ یأخذها ویکون لوُلده علیه ثمنها.(3)

وصحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع قال: سألت أباالحسن علیه السلام عن الصبیة یزوّجها أبوها ثمّ یموت وهی صغیرة فتکبر قبل أن یدخل بها زوجها، یجوز علیها التزویج أو الأمر إلیها؟ قال: یجوز علیها تزویج أبیها.(4)

وصحیحة علی بن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک له غلمانا وجواری ولم یوص، فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها اُمّ ولد؟ وماتری فی بیعهم؟ فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم کان مأجورا فیهم، قلت: فما تری فی من یشتری منهم الجاریة فیتّخذها اُمّ ولد؟ قال: لا بأس إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، ولیس لهم أن یرجعوا عمّا صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(5)

ص:23


1- 1 . وسائل الشیعة، 9/89، ح6، الباب 2 من أبواب من تجب علیه الزکاة.
2- 2 . وسائل الشیعة 19/427، ح1، الباب 92 من أبواب کتاب الوصایا.
3- 3 . وسائل الشیعة 21/140، ح1، الباب 40 من أبواب نکاح العبید والأماء.
4- 4 . وسائل الشیعة 20/275، ح1، الباب 6 من أبواب عقد النکاح واولیاء العقد.
5- 5 . وسائل الشیعة 19/421، ح1، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا؛ وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.

وأنت تری أَنَّ هذه النَّماذِجَ الخمسة من الروایات کلّها مطلقات ومثلها غیرها، فهذا الإطلاق یدلّ علی عدم اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ والولی ولم یرد مخصص فی المقام إلاّ أنّ هذا الاطلاق مُقابَلٌ بالمعارض کما سیأتی.(1)

لایقال: «لا یجوز التمسک بإطلاق الأدلة لأنّه لم یرد لنا دلیل صیغ إطلاقه لذلک لما قلنا أنّه لم یرد فی المسألة دلیل مستقیم [أی منصوص]. نعم، وردت فی المسائل المتفرعة والمتفرقة لهذه المسألة روایات یستفاد منها أنّ أصل الولایة فی الجملة محَرزا»(2).

لأنّا نقول: «عمل العرف وطبع النّاس» «فی جمیع الملل والنحل» عند هذا القائل وسیرة العقلاء عندنا لا یفرّقون فی ولایة الأب والجدّ بین کونهما عادلَیْن أو فاسقَیْن ولو کانت العدالة فیهما معتبرة عند الشارع لابدّ من التنبیه علیها فی الروایات الواردة فی إمضاء هذه السیرة مع أنها کلّها مطلقات بالنسبة إلی هذا التقیید والشرطیة ولم ینبّه علیها الشارع فی شیءٍ منها فالإطلاق جار ویستفاد منها عدم اعتبار العدالة فی ولایتهما.

الدلیل الثالث: الأصل

التمسک بالأصل وارد فی المقام فی کلمات جمع مِن أعلام الطائفة کالمحققین الأردبیلی(3) والسبزواری(4) والسیّد المجاهد(5) وصاحبی الجواهر(6) والمکاسب(7).

الأصل الوارد فی کلماتهم یمکن أن یفسّر بالأصل اللفظی والأصل العملی.

ص:24


1- 6 . فی عنوان الأصل اللفظی من بحث: الأصل یقتضی عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقین.
2- 1 . تقریر أبحاث الفقیه الشریعتمداری 4/18.
3- 2 . مجمع الفائدة والبرهان 9/233.
4- 3 . الکفایة 1/589.
5- 4 . المناهل /105.
6- 5 . الجواهر 27/201 (26/102).
7- 6 . المکاسب 3/535.

وأمّا الأصل اللفظی: فهو إطلاق الأدلة الاجتهادیة والروایات الماضیات، وهو علی قسمین:

الأوّل: هو الآیات الثلاث الواردة فی الوفاء بالعقد(1) وحلیة البیع(2) وتجارة عن تراض(3). وإطلاقها یَنْفِیْ العدالة فی ولایة الأب والجدّ کما احتمله السیّد المجاهد.(4)

الثانی: وهو إطلاق الروایات الماضیات فی الأبواب التسعة یدل علی نفی اعتبار

العدالة فیهما.

وعلی هذا المعنی الأخیر یکون عطف «الاطلاقات» علی «الأصل» تفسیریا فی کلام الشیخ الأعظم(5).

وأمّا الأصل العملی: الذی یظهر من الشیخ الأعظم أنّه یقصده لأنّ ظاهرَ العطفِ المغایرةُ فلا یخلو من الأصلین:

أ: أصل البراءة

والمراد به جریان أصالة البراءة عن تقیید ولایتهما بالعدالة.

ولکن یذهب کثیر من المحققین إلی عدم جریان أصل البراءة فی المعاملات کالمحقّق السیّد الخوئی حیث یقول: «المراد بالأصل فی المقام لیس هو البراءة قطعا إذ لا کلام لنا فی ثبوت تکلیف حتّی تنفیه بالبراءة، وإنّما الکلام فی اشتراط العدالة وعدمه، فالمورد خارج من موارد جریان البراءة»(6).

یذهب قلیلهم إلی جریان أصل البراءة فی المعاملات لنفی قیودها وشروطها

ص:25


1- 7 . قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» سورة المائدة /1.
2- 8 . قوله تعالی: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ» سورة البقرة /275.
3- 9 . قوله تعالی: «إلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» سورة النساء /29.
4- 10 . المناهل /105.
5- 1 . المکاسب 3/535.
6- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/138؛ وراجع مصباح الفقاهة 5/13 طبعة منشورات الوجدانی.

المشکوکة ومنهم المحقّق المیرزا علی الإیروانی(1) المتوفی سنة 1354ق بانّ الشک فی صحة المعاملة وفسادها مسبّبة عن الشک فی قیدیة القید وسببیة السبب، ومع جریان أصل البراءة فی السبب والقیدیة یزول الشک فی المسبب والقید وتصیر المعاملة صحیحة من دون القید.

وفی المقام بعد أن نشک فی قیدیة العدالة لولایة الأب والجدّ ومعاملتهما یجری أصل البراءة وتنفی القیدیة، فتکون ولایتهما غیر مقیدة بالعدالة فیصح بیع الأب أو الجدّ الفاسقَیْن.

أقول: بنظرنا القاصر لا یجری أصل البراءة فی الاْءحْکامِ الوضعیة فی المعاملات لوجوه:

الأوّل: الحکم الوضعی فی باب البیع هو المبادلة والنقل والانتقال ولیس فیه کلفة

علی المکلَّف بحسب طبعه حتّی یرفعه حدیث الرفع وأدلة البراءة النقلیة، بل قد یرغب فیه المکلَّف ویقدم علیه بنفسه کما لا یخفی.

الثانی: الحکم الوضعی فی المعاملات غیر ثابت للمکلَّف بخصوصه وغیر وارد علیه، فإنّ المبادلة سواء کانت أمرا انتزاعیا عن حکم تکلیفی أم کانت حکما وضعیا، لا تختص بمکلَّف، بل موضوعها المالان وتبادلاتهما لیس موضوعها المکلَّف، بل هی واردة علی الفعل والمخاطَب بها جمیع المکلفین من العالِمین والجاهلین.

إن قلت: فکیف وقع تطبیق حدیث الرفع علی الطلاق المکرَه فی الروایات(2)؟ وهل هذا إلاّ جریانه فی الأحکام الوضعیة؟

قلت: قد مرّ منّا «إذا کان الفعل موضوعا لحکم آخر ویکون فی ثبوت ذلک الحکم

ص:26


1- 3 . نهایة النهایة فی شرح الکفایة 2/91 ولکن عدل عنه فی کتابه «الأصول فی علم الأصول» 2/298 وقال: «فلا یرفع الحدیث [حدیث الرفع] الأحکام غیر الالزامیة ولا الأحکام الوضعیة».
2- 1 . وسائل الشیعة 23/226، ح12، الباب 12 من أبواب کتاب الأیمان صحیحة صفوان بن یحیی وأحمد بن محمّد بن أبینصر البزنطی عن أبیالحسن علیه السلام .

ثقلاً یرفعه الحدیث بفقرتی «ما اضطروا إلیه وما استکرهوا علیه فلا یترتب ذلک الحکم الوضعی نحو الإکراه فی البیع أو الطلاق أو العتق(1) بخلاف فقرة «لایعلمون» لأنّها تَرْفع التکلیف فقط لا الوضع فنحن نذهب إلی التفصیل بین فقرات حدیث الرفع فی شموله للأحکام الوضعیة، وفقرة الاضطرار والاستکراه تشملها وأمّا ما لایعلمون فلا، وتوضیحه یطلب من بحث الاُصول»(2).

الثالث: إنّ الحکم الوضعی الواقعی غیر قابل للوضع الظاهری لا بجعل الاحتیاط ولا بغیره. فإذا لم یکن قابلاً للوضع الظاهری فلا یکون قابلاً للرفع الظاهری أیضا، هذا إذا کان مؤدی حدیث الرفع هو الرفع الظاهری.

أمّا بِناءً علی کون مؤداه هو الحلیة الظاهریة فلا یتوهم أحد فی ارتفاع الأحکام الوضعیة بها، إذا لم یتوهم أحد بتکفل أصالة الحلّیّة لرفع الحکم الوضعی [وهو البطلان[ فتدبّر.(3)

الرابع: علی فرض جریان أصل البراءة فی تقیید الولایة بالعدالة ونفی القیدیة والشرطیة بها، لا یترتب علیها الحکم بصحة المعاملة ونفوذها، لأنّهما _ الصحة والنفوذ _

«لا یعدّان من الآثار الشرعیّة لجریان الأصل، بل یعدّان من اللّوازم العقلیّة لأصل البراءة، وبالتالی فإنّ الصحّة والنفوذ لیسا من نتائج جریان الأصل بذاته، بل من لوازمه العقلیّة، وقد ثبت فی مباحث الاُصول أنّ الحجّة فی الاُصول الجاریة فی الشکّ السببی والمسبّبی کون المسبّب أثرا شرعیّا یثبته الأصل بذاته لا بلوازمه العقلیّة. بمعنی أنّه حینما نشکّ فی صحّة عقد الأب الفاسق، ینبغی للأصل الجاری حینئذٍ إثبات صحّة البیع، أمّا البراءة الشرعیّة من شرطیّة عدالة الأب فهی لیست بنفسها مثبتة للصحّة، وإنّما هی من لوازمها العقلیّة، ولا یعدّ من مصادیق ترتّب الحکم علی الموضوع، بل من مصادیق ترتّب اللاّزم

ص:27


1- 2 . راجع دروسٌ فی مسائل علم الأصول 4/258 لشیخنا الاُستاذ قدس سره .
2- 3 . الآراء الفقهیة 5/112.
3- 4 . راجع فی هذا المجال منتقی الأصول 4/407 و 406 من تقریرات السیّد الروحانی قدس سره .

العقلی علی الملزوم العقلی، وقد ثبت عدم اعتباره»(1).

وبعبارة أُخری: علی فرض جریان أصل البراءة فی المقام لا یثبت أنّ الولایة ثابتة لهما علی نحو الإطلاق إلاّ بنحو الأصل المثبت واللازم العقلی الذی لم یقل أحدٌ باعتباره فی الأُصول العملیة.

وبالجملة: لا یمکن أن یکون مراد الشیخ الأعظم قدس سره من الأصل العملی فی المقام هو أصالة البراءة.

ب: الاستصحاب

أن یکون مراده قدس سره من الأصل العملی هو استصحاب عدم اشتراط العدالة فی ولایتهما ویمکن تقریره بوجهین:

الوجه الأوّل: الاستصحاب النعتی

الاستصحاب النعتی الذی کان بمفاد لیس الناقصة فی عدم اشتراط ولایتهما بالعدالة فی الشریعة المقدسة.

ویرد علیه: إنَّ هذا الاستصحاب یتوقف علی وجود الموضوع المتصف بالعدم فی زمان سابق لکی یستصحب ذاک العدم الواقع وصفا للموضوع، فیناقش فیه بأنّ الولایة متی ثبتت لهما فی الشریعة المقدسة من دون اشتراط العدالة فیها حتّی یُستصحب ویُقال: إنّهما کما کانت ولم یشترط العدالة فیها فعلاً.

وبعبارة أوْضَح: لیس لنا العلم بالحالة السابقة وهی إثبات الولایة من دون العدالة فی الزمان السابق فی الشریعة حتّی نستصحبها الآن.

الوجه الثانی: استصحاب العدم الأزلی

جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی بمفاد لیس التامة أو استصحاب العدم المحمولی بتقریب: أنّه قبل نزول الشریعة المقدسة لم تکن هناک ولایة مقیدة بالعدالة، فتکون الولایة مسبوقة بعدم إتصافها بالعدالة أزلاً، فالآن وبعد تنزیل الشریعة یُستصحب

ص:28


1- 1 . العقد النضید 4/168.

ذاک العدم الأزلی قبلها ویُحکم بعدم اعتبار العدالة فی ولایتهما.

وبعبارة اُخری: إنّ ولایة الأب والجدّ وهکذا اشتراطها بالعدالة کانتا غیر موجودتان فی الشریعة المقدسة، ثمّ علمنا بوجود الولایة وثبوتها وشککنا فی تحقّق اشتراط العدالة معها فالأصل عدم تحقّق اشتراط العدالة مع الولایة.

ویرد علیه: أوّلاً: الاستدلال لابدّ بأن یتم علی جمیع المبانی ونعلم بأنّ استصحاب العدم الأزلی محلّ خلاف بین أعلام الطائفة فبعضهم یثبته وبعضهم ینفیه، والشیخ الأعظم(1) من النافین فلا یمکن أن یکون مراده هذا استصحاب العدم الأزلی، وتبعه المحقّقون النائینی(2) والبروجردی(3) والخمینی(4).

ونحن من المثبتین مع المحقّق الخراسانی(5) والسیّدین الحکیم(6) والخوئی(7) _ قدس اللّه أسرارهم _ .

وثانیا: علی فرض جریان استصحاب العدم الأزلی فی نفی اشتراط الولایة بالعدالة لایثبت إطلاقها وأنّ الولایة لهما ثابتةٌ علی نحو الإطلاق إلاّ بنحو الأصل المثبت لأنّ صحة ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن یعدّ لازما عقلیا لاستصحاب عدم اشتراط ولایتهما بالعدالة، ومن المعلوم عدم حجیة لوازم الأصول العملیة والأصل المثبت.

وثالثا: وجود المعارض بالنسبة إلی هذا الاستصحاب، وبین استصحاب عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن أزلاً، فیثبت الأوّل الولایة وینفیها الثانی فبالمعارضة یسقط الاستصحابان.

ص:29


1- 1 . فرائد الاصول 3/210 وما بعدها.
2- 2 . أجود التقریرات 2/328؛ فوائد الاصول 2/530 و 4/445.
3- 3 . نهایة الاصول /335.
4- 4 . تهذیب الأصول 1/491؛ رسالة الاستصحاب /160 المطبوعة ضمن الرسائل له قدس سره .
5- 5 . کفایة الاصول /223 طبعة آل بیت علیهم السلام .
6- 6 . مستمسک العروة الوثقی 1/113 الطبعة الثانیة بالغری الشریف.
7- 7 . مصباح الاصول 3/160؛ المحاضرات 4/360.

ورابعا: استصحاب عدم اشتراط الولایة بالعدالة أزلاً معارض باستصحاب عدم لحاظ اطلاق ولایتهما، لأنّهما _ التقیید والاطلاق _ أمران متضادان یحتاج کلّ منهما من لحاظه واستصحاب عدم أحدهما معارض باستصحاب عدم الآخر فیتعارضان.

فهذا استصحاب العدم الأزلی یبتلی بالمعارض من طریقین ووجهین فلا یجری فی المقام.

ولذا قال السیّد الخوئی: «لا أصل لِهذا الأصل»(1).

الأصل یقتضی عدم ولایة الأَبِ والجدِّ الفاسِقَیْنِ

أقول(2): ولکن یمکن تقریر الأصل بمایلی إذا تصل النوبة إلی جریان الأصل یقتضی عدم ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن، لأنّ المراد به إمّا الأصل اللفظی أو الأصل العملی.

وأمّا الأصل اللفظی: فیمکن أن یستدل له بتوقیع المروی بسند معتبر وفیه: فلا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه.(3)

وهذه الفقرة من التوقیع الشریف بإطلاقها تَدُلُّ علی ممنوعیة التصرف فی أموال الغیر بلا فرق بین الصغار والکبار وبلا فرق بین الحرمة التکلیفی والوضعی، وَالْقَدر المتیقن من رفع هذه الممنوعیة هو تصرّف الأب والجدّ العادلَیْن وأمّا الْفاسِقانِ عند الشک فی جواز تصرفهما فیبقیان فی اطلاق الحرمة والممنوعیة. فالأصل اللفظی یقتضی اشتراط الولایة منهما بالعدالة.

وأمّا الأصل العملی: فینقسم علی قِسْمَیْنِ:

أ: الأصل العملی الحکمی: وهو فی المقام استصحاب بقاء أموال طرفی المعاملة علی ما هو علیها قبلها، وعدم تحقّق النقل والانتقال وبقاء ملکیة الصغیر علی أمواله بعد تصرّف الأب والجدّ الفاسقَیْن.

ص:30


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/139.
2- 2 . هذه المقالة مأخوذة من الاستاذ المحقّق _ مدظله _ فی العقد النضید 4/173 و 174.
3- 3 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

ب: الأصل العملی الموضوعی وهو بناءً علی جریانه یجری نوعین:

1_ استصحاب عدم الجعل: أی عدم جعل الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن، لأنّ الولایة الشرعیة تنحلّ بعدد الأولیاء وبالنسبة إلی عدولهم فلا شک فی ثبوتها وبالنسبة إلی

فسّاقهم مقتضی استصحاب عدم الجعل عدمها.

ولکن المحقّق النائینی(1) یمنع عن جریان استصحاب عدم الجعل لکونه مثبتا ولکن نحن نقول بجریانه، فالحکم بجریان هذا الاستصحاب مبنائی.

2_ استصحاب عدم المجعول: لأنّ الولایة من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم وبعد ثبوتها شرعا نشّک فی أنّها مجعولة للأب والجدّ الفاسقَیْن أم لا؟ فنستصحب عدم تحقّق مجعولیة للولایة لهما بِوَصْفِهِما فاسِقَیْنِ.

الدلیل الرابع: سیرة العقلاء
اشارة

لم یذکرها الشیخ الأعظم وهی العمدة فی المقام کما هی کذلک فی أصل ثبوت ولایتهما، وأنّ العقلاء لایفرّقون فی ثبوت الولایة للأب والجدّ بین کونهما فاسِقَیْنِ أو عادِلَیْنِ.

کما اعترف بذلک الشیخ الأردکانی المتوفی عام 1375ش إذ قال: «إنّ مقتضی السیرة وارتکاز العقلاء أیضا عدم اعتبار العدالة حیث أنّهما یقتضیان ثبوت الولایة لهما حتّی مع فسقهما، نعم الأقوی عدم ثبوتها مع کفرهما إذا کان المولی علیه مسلما...»(2).

نعم، یمکن أن یقال: بأنّهم یقدّمون الأب علی الجدّ ومع فقدهما یَرَوْنَ الجدّ الأُمّیّ هو الولی أو بنته أی أُمّ الصغیر، وسوف نبحث لاحقا عن هذه السیرة العقلائیة فانتظر.

فذلکة القول فی عدم اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ

الدلیل الثانی وهو والإطلاقات الواردة فی الأبواب التسعة من الروایات لو لم تُقابَلْ بالمعارض والدلیل الرابع _ وقد مرّ آنفا من سِیْرَةِ العقلاء _ یدّلان علی عدم اشتراط

ص:31


1- 1 . فوائد الاصول 2/533 و 536.
2- 2 . غنیة الطالب 3/173، طبعة بیروت عام 1403، مؤسسة الوفاء. بتصحیح الشیخ غلامرضا مولانا البروجردی.

ولایتهما بالعدالة والحمد للّه العدل.

ادعاء تقیید المطلقات والسیرة العقلائیة

قد ادُّعِیَ تقیید الدلیلین بالمقیِّد العقلی والشرعی ولذا تردد العلاّمة فی وصایا القواعد(1) وذهب ولده الفخر إلی اشتراط العدالة فی وصایا الإیضاح(2) وقبلهما ابن

حمزة(3) ذهب إلی اشتراطها أیضا.

وأمّا المقیِّد العقلی

فقال الفخر: «والأصح عندی أنّه لا ولایة له [أی للأب] مادام فاسقا لأنّها ولایة علی من لا یدفع عن نفسه ولا یعرب عن حاله ویستحیل من حکمة الصانع أن یجعل الفاسق أمینا یقبل إقراراته وإخباراته علی غیره مع نص القرآن علی خلافه، فإن عاد عادت ولایته»(4).

فالدلیل العقلی: هو استحالة أن یَجْعَلَ الحکیمُ الفاسقَ علی الولایة، لأنّ الفاسق لا یکون أمینا.

أقول: هذه الکبری تامة ولا یمکننی المناقشة فیها إلاّ أنّها لیس لها صغری فی المقام، لأنّ الأب أو الجدّ مهما کانا فاسقَیْن وفاجرَیْن ولکن عواطفهما بالنسبة إلی أولادهما تمنعان من إساءة تصرفهما فی أموالهم.

فحینئذ تشریع الولایة لهما مع لحاظ هذه العواطف الکامنة فی نَفْسَیْهِما لایتنافی مع حکمة الحکیم علی الإطلاق.

وأشار إلی ما حررتُهُ المحقّق الثانی فی مقالته هذا: «والفرق بینه وبین الأجنبی قائم لأنّ شفقته المرکوزة فی الجِبِلَّةِ تمنعه من تضییع مصلحة أولاده»(5).

ص:32


1- 3 . قواعد الأحکام 2/564.
2- 4 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 1 . الوسیلة /373 فی أحکام الوصیة.
4- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
5- 3 . جامع المقاصد 11/276.

وبعبارة اُخری: لا مانع من جعل الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن «إذا رأی الحکیم فی ولایة الأب مصلحة ولأجلها جعل له الولایة والسلطنة، وهذه المصلحة هی رأفة الأب علی ولده وإن کان فی أعلی مراتب الفسق، إذ سائر الناس لیسوا بأرأف به من أبیه وجدّه ولو کانوا فی أعلی مراتب العدالة، وهذه الرأفة هی التی توجب حفظ مال الصبی.

وبالجملة: أنّ المصلحة النوعیة وهی الشفقة علی الولد بمقتضی الطبیعة البشریة توجب جعل الولایة لهما، وعلی تقدیر کونهما متلفین لأموال الولد فللحاکم عزلهما کما هو واضح»(1).

ثمّ: قد یُتصور حالات ثَلاثٌ للأب أو الجدّ الفاسقَیْن بالنسبة إلی تصرفاته فی مال

الطفل الصغیر فی محضر الحاکم الشرع الجامع لشرائط الإفتاء المبسوط یده فی التصرف والحکم.

أ: یثبت لِحاکِمِ الشرع سوء تصرف الأب والجدّ الفاسِقَیْنِ فی أموال الصغیر فعلی الحاکم منهما عن التصرف فی الأموال وحَجْرُهُما عنها.

ب: لم یثبت له سوء تصرفاتهما فحینئذ لاشک فی ثبوت الولایة ونفوذ تصرفاتهما. وعند الشک فی تَصَرُّفاتِهِما وحینئذٍ تجری أصالة الصحة فیها ویُسْتَفادُ منها نفوذها وتمامیتها.

ج: تصرفاتهما محلّ ریب وشک للحاکم بحیث لایمکن جریان أصالة الصحة مع وجود هذا الارتیاب فعلی الحاکم أن یجتهد فی استظهار حالهما فإن ظهر فسقهما حجرهما، وإن ثبت استقامتهما أقامهما علی ولایتهما، وفی فرض بقاء الریب یجعل علیهما ناظرا أمینا حتّی یُشْرِفَ علی تصرفاتهما.

وقد یظهر بعض ما ذکرناه من مقالة المحقّق الثانی حیث یقول: «ومن حیث أنّ الفاسق لا یرکن إلیه ولیس أهلاً للاستئمان. وربما لم توجد الشفقة المانعة عن تضییع مصلحة الطفل فی بعض الأفراد، فإن الناس متفاوتون، وأسباب الفسق

ص:33


1- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/141.

والذی یقتضیه النظر أن ولایته ثابتة بمقتضی النص والإجماع، واشتراط العدالة فیه لا دلیل علیه. والمحذور مندفع بأن الحاکم متی ظهر عنده بقرائن الأحوال اختلال حال الطفل إذا کان للأب علیه ولایة عزله ومنعه من التصرف فی ماله واثبات الید علیه، وإن ظهر خلافه فولایته ثابتة. وإن لم یعلم حاله استعلم بالاجتهاد، وتتبْع سلوکه وشواهد أحواله»(1).

وأمّا الدلیل الشرعی

فقد مرّ من الفخر قوله: «مع نص القرآن علی خلافه»(2). ولکنّه قدس سره لم یذکر آیة من القرآن الکریم فی کلامه.

وقال المحقّق الثانی: «إنّ الوصیة تتضمن الرکون قطعا والفاسق ظالم فلا یجوز الرکون إلیه لقوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا»(3).(4)

وقال الشیخ الأعظم: «وفی دلالة الآیة [الرکون] نظر»(5). ولکنّه لم یشر إلی وجه النظر فیها.

ولکن مناسبة الحکم والموضوع تَقْتَضی أنّ مراد الفخر من القرآن هو آیة الْنَّبَأ(6) لا آیة الرکون، وعلی أیّ حال نبحث عن الآیتین فی المقام.

أ: وأمّا آیة الرکون
اشارة

فهی قوله تعالی: «وَلا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ وَما لَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِیاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ»(7).

ص:34


1- 1 . جامع المقاصد 11/276.
2- 2 . إیضاح الفوائد 2/628.
3- 3 . سورة هود /113.
4- 4 . جامع المقاصد 11/275.
5- 1 . المکاسب 3/536.
6- 2 . سورة الحجرات /6.
7- 3 . سورة هود /113.

بتقریب: أَنَّ کلّ فاسقٍ ظالِمٌ بالضرورة والآیة الشریفة تنهی عن الرکون إلیه وبالتالی تسلیم مال الصغیر إلی الفاسق یَعدّ رکونا إلی الظالم وهو مَنْهِیٌّ عنه فی الآیة الشریفة.

وبعبارة أُخری: «تسلیم المال إلیه [الی الأب الفاسق] والمعاملة معه بعنوان أنّه ولی الطفل رکون إلیه وهو منهی عنه»(1).

وبتقریب آخر: الآیة الشریفة تنهی عن الرکون إلی الظالم وإعطاء الولایة للفاسق الذی یعدّ ظالما لا یجتمع مع هذا النهی لعدم معقولیة النهی عن الرکون إلیهم ثمّ إعطاء الولایة لهم، «وهذا مسافة الخلف بین القول والعمل».

وبعبارة أُخری: «جعل الولایة للظالم رکون إلیه والرکون إلیه محرّم فإذا کان محرّما فهو قبیح ولایعقل صدور القبیح من الحکیم جلّ وعلا»(2).

وأنت تری بأنّ الاستدلال بالآیة الشریفة متوقف علی الأمرین:

الأوّل: الفاسق ظالمٌ والمراد بالظلم فی الآیة الشریفة مطلق الفسق.

الثانی: جعل الولایة للفاسق الذی یعدّ ظالما نوع من الرکون إلیه وهو منهی عنه.

وکلا الأمرین قابل للمناقشة، نبحث أوّلاً من أجوبة الأعلام حول الاستدلال بآیة الرکون وردودها ثمّ نبحث بعد ذلک من الجواب المختار حوله.

وأمّا أجوبة الأعلام
اشارة
1_ فمقالة المحقّق الخراسانی

قال رحمه الله : «یمکن أن یقال: إنّ ولایة الأب والجدّ الفاسقین لیست من باب الرکون إلی الظالم، بل لما عرفت من أنّه من قبیل تسلیط المالک علی ملکه، فإنّ الطفل وماله مالاً لأبیه، فافهم»(3).

لأنّ الخراسانی یعتقد أنَّ: «للوالد مرتبة من الاختصاص ونحو من الاضافة إلی مال

ص:35


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/371 للمحقّق الأصفهانی.
2- 5 . کتاب البیع 2/599 للسیّد الخمینی رحمه الله .
3- 1 . حاشیة المکاسب /90.

الولد ونفسه یقتضی جواز أکله من ماله بقدر الحاجة أو مطلقا...»(1).

وعلی مبناه قدس سره هذه الولایة خارجَةٌ عن مدلول آیة الرکون تخصّصا.

ولکن یمکن أن یناقش فی مبناه من أنّ الولد وماله لیس ملکا للوالد فلا یکون تسلیطه علی مال الصغیر من قبیل تسلیط المالک علی ملکه فلا یخرج عن مدلول آیة الرکون تخصصا.

وإذا ثبت عدم الملکیة تثبت الولایة وهی رکون إلی الظالم.

2_ إجابة المحقّق الهَمَدانی قدس سره

قال: «وأمّا آیة الرکون، فالنّظر فی دلالتها ظاهرٌ، لأنّ الرکّون إلی الظّالم امّا مجرّد المیل إلیه، فلا ربط له بالمقام. وأمّا الاعتماد وتفویض الأمر إلیه، وجعله أمینا، فهذا تکلیفٌ تحریمیٌّ متعلّق بالعباد، ولا یدلّ علی أنّ الشارع لا یجعل الأمر بید الفاسق، بل یدلّ علی عدم جواز إیکال المکلّفین الأمر بیده، فیدلّ علی عدم جواز نصب الحاکم قیّما ظالما، لا أنّ الشّارع لا ینصبُ الفاسق.

اللّهم إلاّ أن یقال، إنّا نعلم من النّهی کونه مشتملاً علی مفسدة، فلا یصدرُ من اللّه تعالی.

وفیه: أنّ فی النّصب قد یکون مصلحةً راجحةً _ کما فی ما نحن فیه _ واضرارُ بعضٍ فی بعض المقامات غَیرُ مقتضٍ لحرمان الأیتام کلّیةً عن الإنتفاعات، کما لا یخفی»(2).

وتبعه السیّد الحکیم رحمه الله وقال: «مع أنّ الآیة لا تشمل فعل الشارع، فانّ النهی والأمر لا یشمل الناهی والآمر، والاشتراک فی المفسدة غیر ظاهر، لإمکان الاختلاف ولو لوجود المزاحم کما هو ظاهر، وقبول الأخبار والإقرار وإن کان من فعل المکلّف لکنّه أمر آخر

خارج عن مفهوم الولایة بلحاظ نفوذ التصرف وترتّب الأثر علیه»(3).

وتبعهما السیّد الخمینی وذهب إلی أنّ قیاس فعل الباری بأفعال المکلفین یکون

ص:36


1- 2 . حاشیة المکاسب /91.
2- 3 . حاشیة المکاسب /278 للحاج آقا رضا الهمدانی.
3- 1 . نهج الفقاهة /484.

مع الفارق جدّا.(1)

وتبعهم شیخنا الاستاذ قدس سره حیث یذکر هذه الإجابة ولم یرد علیها، قال: «قد یورد علی الاستدلال بالآیة بوجه آخر، وهو أنّ الکلام فی المقام فی الولایة الشرعیة للأب والجدّ الفاسقین بالإضافة إلی مال الطفل، وهذه الولایة علی تقدیر ثبوتها لهما رکون من الشارع إلیهما لا من العباد لیدخل فی المنهی عنه فی الآیة.

لایقال: إذا کان الرکون إلی الفاسق من العباد قبیحا وذا مفسدة یکون من الشارع أیضا کذلک، خصوصا بملاحظة قوله سبحانه: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(2).

فإنّه یقال: لا منافاة بین قبح فعل من العباد وعدم قبحه من اللّه سبحانه، ألا تری قتل العباد وإتلاف أموالهم أمر قبیح ومحرّم، مع أنّ اللّه سبحانه یتوفّی الأنفس حین موتها، وینزل البلاء من الزلازل والطوفان علی قوم ویدمّرهم علی بکرة أبیهم... إلی غیر ذلک.

وقوله سبحانه: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(3) خطاب موجّه إلی العباد ولا یعم اللّه سبحانه»(4).

أقول: یمکن أن یناقش فی هذه الإجابة بأنّ ظاهر آیة الرکون دال علی أنّ الرکون إلی الظالم یؤدّی إلی غضب الربّ وهو ممّا یستحق فاعله النار بدلالة «فَتَمَسَّکُمُ النّارُ» ولایعقل أن ینهی اللّه تعالی عن عمل ویَعِدُ فاعله النار، ثمّ یَعْمَلُ اللّه تعالی بهذا الفعل و «إذا لم یرض برکون العباد إلی الظالم فهو تعالی أولی بعدم الرکون إلیه»(5). أعنی أنّ النهی عن الرکون إلی الظالم لازمه العقلی عدم رکون الآمر إلیه.

نعم، قیاس فعله تعالی بفعلنا مع الفارق لأنّ «أفعاله تعالی موافقة لصلاح النظام الکلّی التکوینیّ، لا النظام التشریعیّ المحدود، کما أنّ جعله التشریعیّ لابدّ وأن یوافق

ص:37


1- 2 . کتاب البیع 2/600.
2- 3 . سورة الصف /2.
3- 4 . سورة الصف /2.
4- 5 . إرشاد الطالب 4/180.
5- 6 . حاشیة المکاسب /90 للخراسانی.

صلاح نظام التشریع العامّ، وهما ممّا لا تحیط به العقول المحدودة»(1).

«وبتعبیر آخر: أنه قد یستقل العقل بقبح فعل مطلقا أو بخصوص الحکیم، کالظلم وإغراء الناس بالجهل ومثله لا یصدر عن اللّه سبحانه، وقد لایستقل، کما فی بعض الأفعال التی منع الشرع العباد عنها، وفی مثله لا طریق لنا إلی إحراز المفسدة فیما إذا صدر عن الشارع»(2).

فیحنئذ یبعد «الاستدلال بآیة «وَلا تَرْکَنُوا»(3) من باب «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ»(4) علی أنّ اللّه تعالی أیضا لا یرکن إلی الظالم»(5).

وجه البعد کما مرّ من الاستاذ رحمه الله عدم المنافاة بین قبح فعل العباد وعدم قبحه من اللّه تعالی، وعدم قیاس فعله تعالی مع أفعالنا، والخطاب موجّه إلی العباد ولا یعم اللّه تعالی.

فهذه الإجابة یمکن أن نأخذ بها فی الاستدلال بآیة الرکون.

ولعلّ أوّل من تعرّض لهذه الإجابة هو الفقیه المامقانی حیث یقول: «وجه النظر: إنّ الکلام إنّما هو فی أنّه هل جعل الشارع للفاسق منهما ولایة أم لا؟ ولیس الکلام فی أنّه یجوز للمولّی علیه أن یفوض أمره إلی الأب والجدّ الفاسقین حتّی یتوجّه إلیه النهی، والآیة إنّما تفید النهی عن الرکون إلی الظالم وهو حکم تکلیفی لا یصح توجیهه إلی الصغیر»(6).

أقول: لا بأس بقبول هذه الإجابة.

ص:38


1- 7 . کتاب البیع 2/600.
2- 1 . إرشاد الطالب 4/180.
3- 2 . سورة هود /113.
4- 3 . سورة الصف /2.
5- 4 . حاشیة المکاسب 2/364 للمحقّق الإیروانی.
6- 5 . غایة الآمال 6/301.
3_ جواب المحقّق الإیروانی

قال: «فإنّ نفوذ تصرفات الأب الفاسق عقدا وإیقاعا فی مال ابنه لیس رکونا إلی الظالم وإلاّ کانت المعاملة مع الفاسق بالبیع والشراء رکونا إلیه وکانت فاسدة»(1).

وتبعه المحقّق الإصفهانی وقال: «أوّلاً: أنّ اتخاذ الفاسق أمینا بالتوکیل أو بالتودِّیع أو بالوصایة لیس رکونا إلی الظالم، ولذا لا شبهة فی الأوّلین والثالث مختلف فیه.

وثانیا: أنّ المعاملة مع الولی الفاسق لیس مِنْ اتخاذه أمینا، بل من حیث إنّه أمین من قبله تعالی یعامل معه، بل یجب تسلیم المال إلیه، والمعاملة مع الظالم لیس رکونا إلیه واعتمادا علیه»(2).

وقال السیّد الحکیم: «... کما یظهر من ملاحظة موارد الاستیمان المالکی من الوکیل والودعی وعامل المضاربة وغیرهم من الاُمناء»(3).

واعترض علیهم الاستاذ المحقّق _ مدظله _ ب_ «أنّ الرکون من مادّة رَکَنَ کما فی قوله تعالی: «آوِی إِلی رُکْنٍ شَدِیدٍ»(4) ومفهومه لغة هو الاعتماد والسکون والمیل، وأمّا الولایة فتعنی تفویض الأمر إلی الولی وجعله صاحبا للاختیار والسلطنة والقدرة علی التصرف فیما یشاء، وهذه الاُمور تعدّ من أظهر مصادیق الرکون»(5).

ویمکن أن یناقش علیه _ مدظله _ بأنّا لم نجعل الولایة للولی الفاسق بل جعلها اللّه تعالی وبعد جعل الولایة له نحن ندخل فی المعاملة معه والمعاملة مع الفاسق لیست رکونا إلیه، لاسیّما إذا کان نقدا أو نسیئة بحیث نأخذ منه الشیء ونؤدی ثمنه فی ما بعد، فما ذکره _ مدظله _ غیر تام.

ص:39


1- 6 . حاشیة المکاسب 2/363 للإیروانی.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/371 للأصفهانی.
3- 2 . نهج الفقاهة /484.
4- 3 . سورة هود /80.
5- 4 . العقد النضید 4/181.
4_ النسبة بین الفاسق والظالم ما هی؟

هل تساوت النسبة بینهما؟ ذهب المحقّق الإصفهانی إلی أنّ النسبة بینهما عام وخاص مطلق وقال: «إنّ الظالم أخص من الفاسق عرفا، ولا یلتفت إلی أنّ الفاسق ظالم لنفسه فتدبر»(1).

وتبعه السیّد الخمینی رحمه الله وقال: «مضافا إلی أنّ الظالم _ عرفا _ هو الذی ظلم غیره، والفاسق لیس ظالما عرفا»(2).

وفی العقد النضید نسب إلی بعض الأعلام ب_ «انّ النسبة بینهما عموم من وجه، فقد یکون الرجل ظالما ولکنّه لیس بفاسق، حیث یجتنب المحرمات(3)، وقد یکون فاسقا

غیر ظالم، وقد یجتمع فیه الفسق والظلم، وبالتالی فالدلیل أعمّ من المدّعی»(4).

واعترض علیه وقال: «وفیه: بالرغم من أنّ إطلاق صفة الظالم فی العرف یختصّ بمن یظلم غیره ولا یشمل من یظلم نفسه، إلاّ أنّه لا اعتبار به، للإطلاقات الکثیرة من الآیات والأخبار الشاملة لمن ظلم نفسه، کقوله تعالی: «سُبْحانَکَ إِنِّی کُنْتُ مِنَ الظّالِمِینَ»(5) الحاکیة عن لسان یونس علیه السلام ، مع أنّه لم یکن ظالما إلاّ علی نفسه، وکذلک الحال فی بقیّة الآیات التی اطلقت فیها صفة الظالم علی مَنْ ظلم نفسه، کقوله تعالی: «رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی»(6) وقوله تعالی: «ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ»(7)، وبالتالی فصفة الظالم المستعملة فی القرآن، عنوان عامٌ یشمل الظالم نفسه وغیره، وکلّ فاسقٌ لا شکّ أنّه یعدّ

ص:40


1- 5 . حاشیة المکاسب 2/371 وثالثا.
2- 6 . کتاب البیع 2/602.
3- 7 . وفی المصدر: «عن سائر المحرمات» وما ضبطناه الأولی.
4- 1 . العقد النضید 4/180.
5- 2 . سورة الأنبیاء /87.
6- 3 . سورة النمل /44.
7- 4 . سورة آل عمران /117.

ظالما لنفسه»(1).

أقول: لم یرد اعتراض الاستاذ المحقّق _ مدظله _ عندی کما سأذکره لک فانتظر.

5_ جواب السیّد الخوئی

قال: «المراد [من الآیة الشریفة] عدم الرکون إلی الظالم فیما یرجع إلی أُمور الدین والآخرة دون غیره، مثلاً إذا أخبر الظالم عن حرمة شیء أو نبوّة أحد فلا یمکن الرکون إلی قوله لاستلزامه النار فی الآخرة لعدم مطابقة قوله الواقع، وأمّا توکیل الظالم فی بیع ماله أو أمر آخر فهو لیس رکونا إلیه علی نحو یوجب مسّ النار کما فی الآیة المبارکة، وتوکیل الظالم لیس من المحرّمات الشرعیة قطعا، مضافا إلی أنّ جعله ولیّا لیس رکونا إلی الظالم بعد ما صار أمینا بالولایة»(2).

وتبعه فی العقد النضید(3).

أقول: تخصیص الرکون بالأُمور الدینیة والأُخرویة بقرینة(4) ما ورد فی الآیة الشریفة من قوله تعالی: «فَتَمَسَّکُمُ النّارُ» لیس بِوَجْهٍ وَجِیْهٍ؛ لأنّ فی فعل کثیر من الذنوب والآثام وعد اللّه العقاب والنار، والایعاد بها لا یوجب تخصیصها بالأُمور الأُخرویة والدینیة.

6_ جواب المختار

قد مرّ فی بحث معونة الظالمین(5) الاستدلال بهذه الآیة الشریفة وکلمات اللغویین حول معنی الرکون قلتُ هناک: «الرکون فی اللغة: المیل والسکون والاعتماد والإطمئنان، ومن الواضح أنّ الرکون یحصل غالبا إلی أرباب الحکم والقدرة والسلطة والثروة بحیث یمکن أنْ یعتمد علیهم عند أعین الناس الذین یعلمون ظاهرا من الدنیا وهم عن الآخرة

ص:41


1- 5 . العقد النضید 4/180.
2- 6 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/140، ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/10.
3- 7 . العقد النضید 4/182.
4- 8 . کما ذکره فی المحاضرات 3/10.
5- 1 . الآراء الفقهیة 3/113.

غافلون»(1).

والآن أُضِیْفُ أنَّهُ: یمکن أنّ یکون المراد من «الَّذِینَ ظَلَمُوا» ولاة الجور وأئمته(2) فیخرج الفاسق الظالم لنفسه بل یخرج الظالم لغیره ما لم یدخل فیهم.

والشاهد علی ما ذکرنا: أنّ الرکون إلیهم یُعدّ من الکبائر الذی وعد اللّه علیه النار.

والشاهد الآخر علی ما ذکرناه لم یلزم تخصیص الأکثر المستهجن إذا یشمل الظالم کلّ فاسق.

والشاهد الثالث ما ورد من الروایات(3) فی ذیلها نحو خبر سهل بن زیاد(4) ومرسلة العیاشی(5) فراجعهما.

وعلی ما ذکرنا حتّی لو قلنا بأنّ کلّ فاسق ظالم وبأنّ ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن تَدْخُلُ فی عنوان الرکون لم یتم الاستدلال بالآیة الشریفة لإثبات العدالة فی ولایتهما والحمد للّه.

ب: وأمّا آیة النَّبَأ
اشارة

فهی قوله تعالی: «إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ»(6).

وهذه الآیة بمناسبة الحکم والموضوع هی المرادة فی استدلال الفخر بالنص القرآنی کما مرّ.

بتقریب: إنّ هناک ملازمة بین جعل الولایة وبین حجیة إخبار الولی الفاسق بالنسبة إلی المولّی علیه وأمواله، والآیة الشریفة تنفی حجیة خبر الفاسق، وبالتالی لابدّ من اعتبار

ص:42


1- 2 . الآراء الفقهیة 3/114.
2- 3 . کما یراه السیّد الخمینی دعوی ممکنة ظاهرة فراجع مقالته فی کتاب البیع 2/600.
3- 4 . راجع فی هذا المجال: البرهان فی تفسیر القرآن 3/137 طبعة مؤسسة بعثت.
4- 5 . الکافی 9/628، ح12 (5/108).
5- 6 . تفسیر العیاشی 2/324، ح72.
6- 7 . سورة الحجرات /6.

العدالة فی ولایة الأب والجدّ. ولکن هناک إجابات عن الاستدلال بهذه الآیة الشریفة أذکر لک بعضها:

1_ إجابة المحقّق الخراسانی

یستفاد من مقالته حول آیة الرکون(1) جوابٌ بالنسبة إلی آیة النبأ أیضا وإلاّ لمْ یصرح هو بجواب حول الاستدلال بآیة النبأ وهو: الأخبار الدالة علی «أنت ومالک لابیک» یدلّ علی أنّ أموال الولد ملک للإب، وآیة النبأ تنفی ثبوت ولایة الفاسق علی أموال الغیر ولکن لا تنفی ولایته علی أمواله المتعلّقة به ومنها أموال اُولاده الصغار فالآیة لا تدلّ علی نفی ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن.

وتبعه المحقّق الإصفهانی فی آخر کلامه حیث یقول: «... بملاحظة أنّه وماله لأبیه فهو کالولایة والسلطنة علی نفسه وماله عادلاً کان أو فاسقا فتدبر»(2).

ویرد علیه: ما اوردناه علیه هناک من عدم تمامیة هذا المبنی.(3)

2_ جواب المحقّق الأصفهانی

قال قدس سره : «إنّ عدم قبول قول الفاسق من حیث هو غیر مُنافٍ لقبول إقراراته وإخباراته من حیث ولایته ووکالته ونحوهما حیث إنّه من ملک شیئا ملک الإقرار به ونحوه، خصوصا بعد الاتفاق علی ولایة الفاسق أبا کان أو جدّا علی تزویج الصغیر والصغیرة...»(4).

وتبعه الاستاذ المحقّق _ مدظله _ وذهب إلی أنّ مدلول قاعدة «من ملک شیئا ملک الإقرار به» یفید حجیة خبر الولی الفاسق فتکون القاعدة مخصّصة لإطلاق آیة النبأ ومتقدمة علیها»(5).

ص:43


1- 1 . حاشیة المکاسب /90.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/372.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 36.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/371.
5- 5 . العقد النضید 4/185.

واعترض السیّد الخمینی علی هذا الجواب بأنّ آیة النبأ «کافلة لحکم فعلیّ، له إطلاق _ علی فرض الدلالة _ فتعارض دلیل اعتبار قول الأولیاء.

کما أنّ «من ملک شیئا ملک الاقرار به» لو کان مفاد روایة أو معقد إجماع _ یکشف عن الحکم علی هذا العنوان _ لکان مفاده معارضا للآیة الکریمة بالعموم من وجه فلابدّ من الأخذ بها ورفض إطلاق الروایة أو معقد الإجماع»(1).

وأجاب الاستاذ المحقّق _ مدظله _ عن هذا الاعتراض بقوله: «إنّ النسبة بین مدلولی القاعدة والآیة هی العموم من وجه، فالقاعدة تفید حجّیة إقرار المالک فیما ملکه، سواءً کان عادلاً أو فاسقا، والآیة تنفی حجّیة إقرار الفاسق مطلقا سواء ملک أم لم یملک، وتتعارضان فی مورد الاجتماع، وبالرغم من معارضة القاعدة للکتاب، لکنّها مقدَّمة علیه لخصوصیّة تستلزم تقدّمها وهی أنّ المعارضة لو استلزمت لغویة أحد العنوانین المتعارضین، أصبح العنوان المذکور نصّا وما یقابله ظاهرا، والقاعدة تقتضی تقدیم النصّ علی الظاهر، وما نحن فیه یعدّ مصداقا للخصوصیّة المذکورة، لأنّه لو حصرنا موضوع قاعدة «مَنْ ملک» بالعادل سقط عنوان «من ملک» عن التأثیر، وأصبح لغوا وانحصر الأثر بخصوص خبر العادل ممّا یستلزم سقوط القاعدة، وهذه الخصوصیّة هی التی تقلب الموازین، وتجعل المعارض نصّا وما یقابله ظاهرا، فیقدّم علیه بمقتضی قاعدة تقدیم النصّ علی الظاهر، وفیما نحن فیه تتقدّم القاعدة علی الآیة الشریفة وتخصّصها»(2).

أقول: قال الشیخ الأعظم بالنسبة إلی قاعدة «من ملک»: «ولکن الإنصاف أنّ القضیة المذکورة فی الجملة إجماعیة بمعنی أنّه ما من أحد من الأصحاب ممّن وصل إلینا کلامهم إلاّ وقد عمل بهذه القضیة فی بعض الموارد بحیث نعلم أنْ لامستند له سواها، فإنّ من ذکرنا خلافهم إنّما خالفوا فی بعض موارد القاعدة ولکنّهم عملوا بها فی مورد آخر»(3).

وبناءً علی مقالة الشیخ الأعظم لابدّ من الأخذ بجواب الاستاذ المحقّق _ مد ظله _

ص:44


1- 1 . کتاب البیع 2/603.
2- 2 . العقد النضید 4/185 و 186.
3- 3 . الطهارة 2/450؛ رسائل فقهیة /194.

عن اعتراض السیّد الخمینی رحمهم الله لأنّ النسبة بین إطلاق آیة النبأ وإطلاق أدلة ولایة الأب والجدّ عموم من وجه ومحل الاجتماع ولایة الأب والجدّ الفاسقَیْن ویمکن القول

بترجیح أدلة الولایة _ لما ذکره الاستاذ مدظله _ لأنّه لو قلنا بترجیح إطلاق الآیة لم یبق تحت أدلة الولایة إلاّ الفرد النادر ولکن لو قلنا بترجیح اطلاق أدلة الولایة یبق تحت إطلاق الآیة الکثیر لأنّ نبأ الفاسق غیر الولی کثیر ولکن الأب والجدّ العادِلَیْنِ أقلّ من القلیل.

3_ إجابة المحقّق السیّد الخوئی

قال: «إنّما تدلّ [آیة النبأ] علی عدم قبول إخبار الفاسق عن الغیر فیما یترتّب علیه الآثار بلحاظ قوله تعالی «فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ»(1) وأمّا إذا أخبر عن شؤون نفسه من دون أن یترتّب علیه أثر علی الغیر کما إذا قال: إنّ ثوبی ملک فلان أو نجس أفلا یجوز قبوله بدعوی أنه فاسق، فإنه لابدّ من قبوله بما أنّه ذو الید لا بما أنّه فاسق، وفی المقام أیضا نقبل إخبارات الأب الفاسق بما أنه ولی لا بما أنه فاسق. وبعبارة اُخری: الآیة المبارکة بقرینة ذیلها إنّما تدلّ علی عدم اعتبار خبر الفاسق بصفة أنّه فاسق لا علی نحو الاطلاق کعنوان أنّه مالک أو ذو ید أو ولیّ، فکما نقبل إقرار الفاسق بما أنّه مالک للمال فکذا نقبل إخباره عن أموال الطفل بما أنّه ولیّه بعد ثبوت ولایته، فالاستدلال بهذه الآیة ممّا لا مورد له»(2).

أقول: یمکن أن تُناقَشَ هذه الإجابة أوّلاً: إنّما تتم الإجابة لو اعتبرنا ذیل آیة النبأ علّة للحکم وأمّا إذا اعتبرناه حکمة کما هو الصحیح، والشاهد علیه شأن نزولها فی قضیة بنی المصطلق والولید.

وثانیا: ثمّ علی فَرْضِ تمامیة مقالة السیّد الخوئی رحمه الله وکون الإصابة والندامة علة للحکم یمکن فی بعض الموارد _ علی نحو الموجبة الجزئیة _ ترتبهما فی ما إذا أخبر

ص:45


1- 1 . هود /113.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/140 و 141.

الفاسق عن شؤون نفسه أو بما أنّه مالکٌ أو ذو یدٍ أو ولیٌّ فیأتی حکم عدم اعتبار قول الفاسق حینئذ ومثاله واضح نحو: إخباره بشراء أرض أو نکاح بنت یریدهما المخبر إلیه.

4_ الجواب المختار

لا یمکن تخصیص أدلة الولایة بآیة النبأ لوجوه:

أوّلاً: علی فرض تعارض إطلاقی أدلة الولایة وآیة النبأ وتقدیم جانب إطلاق الآیة الشریفة یثبت اعتبار الوثاقة فی الولی دون العدالة وبینهما برزخ لا یبغیان.

وثانیا: آیة النبأ لا تنفی ولایة مطلق الفاسق بل تقیّدها علی فرض إصابة قوم بجهالة ثمّ حصول الندامة علیها وفی أیِّ مورد لم تکن هذه الإصابة والندامة فلا بأس بإعمال ولایة الولی الفاسق فالدلیل أخص من المدعی.

وثالثا: أدلة الولایة تثبت الولایة للأب والجدّ الفاسقَیْن وآیة النبأ تسقط حجیة خبر الولی الفاسق قبل التبیّن فَمَوْرَدا الاْءطلاقَیْنِ مُخْتَلِفانِ لأنّه یمکن القول باعتبار ولایة الأب الفاسق وعدم قبول إخباراته قبل التبیّن.

فلا یمکن الأخذ بإطلاق آیة النبأ وتقیید أدلة الولایة بها.

والحاصل: الدلیل الشرعی لتخصیص أدلة الولایة من القرآن الکریم لم یثبت ولم یتم الاستدلال بآیتی الرکون والنبأ فولایة الأب والجدّ لم تقیّد بالعدالة والحمدللّه.

المسألة الثانیة: هل تشترط المصلحة أو عدم المفسدة فی جواز تصرفاتهما
اشارة

قال الشیخ الأعظم: «وهل تشترط فی تصرفهما المصلحة أو یکفی عدم المفسدة أم لا یعتبر شیءٌ؟ وجوه»(1).

الوجوه والأقوال فی المسألة
اشارة

ذهب العلاّمة فی القواعد إلی اشتراط المصلحة فی تصرفات الولی وقال: «وإنّما یصحّ بیع مَنْ له الولایة مع المصلحة للمولّی علیه»(2).

ص:46


1- 1 . المکاسب 3/536.
2- 2 . القواعد 2/21.

وقال فی التذکرة: «الضابط فی تصرف المتولّی لأموال الیتامی والمجانین اعتبار الغبطة، وکون التصرّف علی وجه النظر والمصلحة، فللولیّ أن یتّجر بمال الیتیم، ویضارب به ویدفعه إلی مَنْ یضارب له به، ویجعل له نصیبا من الربح، ویستحبّ له ذلک، سواء کان الولیّ أبا أو جدّا له أو وصیّا أو حاکما أو أمینَ حاکمٍ، وبه قال علیّ علیه السلام وعمر وعائشة والضحّاک.(1)

ولا نعلم فهی خلافا إلاّ ما روی عن الحسن البصری کراهة ذلک؛ لأنّ خزنه أحفظ وأبعد له من التلف.(2)

والأصحّ ما ذکرناه»(3).

وقال السیّد العاملی بعد نقل کلامه: «وظاهره أنّه ممّا لا خلاف فیه بین المسلمین وأنّه لا فرق فی ذلک بین الأب والجدّ والوصی والحاکم وأمینه»(4).

وقال أستاذه جدی الشیخ جعفر فی شرح کلام العلاّمة فی القواعد: «بحسب الدنیا مع تعلّق الغرض بها والآخرة کذلک، وظاهرهم الإجماع علی ذلک وفی العقل والنقل من الکتاب والسنة ما یدلّ علی ذلک»(5).

وقال السیّد العاملی فی ذیل عبارة قواعد العلاّمة أیضا: «هذا الحکم إجماعیٌ علی الظاهر وقد نسبه المصنف [العلاّمة] إلی الأصحاب... وأقرّه علی ذلک القطب والشهید»(6).

أقول: مراده من کلام العلاّمة ما مرّ منه فی تذکرة الفقهاء(7) آنفا ومراده من تقریر القطب والشهید، هذه العبارة فی الحاشیة النجاریة للشهید علی القواعد: «قطب الدین

ص:47


1- 3 . المغنی 4/317؛ الشرح الکبیر 4/564.
2- 4 . المغنی 4/317؛ الشرح الکبیر 4/564.
3- 1 . تذکرة الفقهاء 14/245، مسألة 443.
4- 2 . مفتاح الکرامة 16/90.
5- 3 . شرح القواعد 2/145.
6- 4 . مفتاح الکرامة 12/681.
7- 5 . تذکرة الفقهاء 14/245.

البویهی _ نقلاً عنه _ : لو باع الولّی بدون ثمن المثل لِمَ لا ینزَّل منزلة الإتلاف، لأنّا قائلون بجواز إقراض ماله وهو یستلزم جواز إتلافه؟ وتوقّف زاعما أنّه لایقدر علی مخالفة الأصحاب»(1).

ولکن قال فی الجواهر: «وإن کان فیه ما فیه، خصوصا بالنسبة إلی الأبوین فإنّ النصوص واضحة الدلالة فی جواز الاقتراض لهما والمعاملة وتقویم الجاریة... ونحو ذلک من غیر اعتبارها، ولذلک اکتفی الأُستاذ فی شرحه فیهما بعدم المفسدة بل قال: «وکذا مطلق الاولیاء فی الاقتراض مع الملاءة»(2).(3)

أقول: ذهبت جماعةٌ من الأصحاب إلی اشتراط المصلحة فی تصرفات الولی نحو: شیخ الطائفة(4) وابن إدریس(5) والمحقّق(6) والعلاّمة(7) والشهید(8) والمحقّق الثانی(9)

والشهید الثانی(10) والأردبیلی(11) والسیّد العاملی(12) والفاضل المراغی(13). وهذا هو القول الأوّل فی المقام.

ص:48


1- 6 . الحاشیة النجاریة /224 و 225.
2- 7 . شرح القواعد 2/146.
3- 8 . الجواهر 23/533 (22/332).
4- 9 . المبسوط 2/200.
5- 10 . السرائر 1/441.
6- 11 . شرائع الإسلام 2/78 و 79.
7- 12 . قواعد الأحکام 2/21؛ تذکرة الفقهاء 14/245.
8- 13 . الدروس 3/318.
9- 14 . جامع المقاصد 4/87.
10- 1 . المسالک 3/166 و 4/35.
11- 2 . مجمع الفائدة والبرهان 4/14.
12- 3 . مفتاح الکرامة 16/90، 15/343 و 12/681.
13- 4 . العناوین 2/559.

واحتمل الشهید عدم اشتراط المصلحة فی قواعده(1) بَیْدَ أنَّهُ لم یَخْتَرْهُ ولکن نُسب(2) إلیه عدم اشتراطها فی الولی الاجباری _ وهو الأب والجدّ _ . واختاره جدی الشیخ جعفر وقال: «وأمّا فیهما _ أی الأب والجدّ _ فالشرط عدم المفسدة(3) وکذا مطلق الاُولیاء فی الاقتراض مع الملاءَة والاقتصار علی ما ذکره الفقهاء وتنزیل الروایات أوفق فی النظر وأسلم من الخطر»(4).

فاختار الشیخ جعفر اشتراط عدم وجود المفسدة فی تصرفات مطلق الولی ولکن احتاط فی آخر کلامه بوجود المصلحة.

وتبعه ولده الشیخ حسن وقال: «ویجب فی ولایة الحاکم مراعاة المصلحة والغبطة؛ اقتصارا علی مورد الیقین، بخلاف ولایة الأب والجدّ، فیکفی فیهما عدم المفسدة»(5).

وتبعهما المحقّق القمی(6) وصاحب الجواهر(7) والشیخ الأعظم(8). فهذا هو القول الثانی فی المقام.

وهاهنا وجه ثالث _ لم أجد قائلاً به _ وهو عدم اشتراط ولایتهما بالشرطین _ وجود المصلحة أو عدم وجود المفسدة _ ولهما الولایة المطلقة علی مال الصغیر، لأنّ

ص:49


1- 5 . القواعد والفوائد 1/352، قاعدة 133.
2- 6 . العناوین 2/560.
3- 7 . واختار فی کشف الغطاء 1/210 اشتراط عدم المفسدة فی ولایتهما فقط وقال: «ولولایة الإجبار _ کولایة الأب والجدّ _ ما لیس لغیرها فلا یعتبر فیها سوی عدم الفساد...».
4- 8 . شرح القواعد 2/146.
5- 9 . أنوار الفقاهة 8/58، نقل عنه فی هدی الطالب 6/101.
6- 10 . جامع الشتات 1/192 و 193 من الطبعة الحجریة.
7- 11 . الجواهر 23/533 (22/332) و 29/627 (28/297).
8- 12 . المکاسب 3/540.

المال مالهما التنزیلی _ کما علیه المحقّق الخراسانی(1) فی ما مرّ(2)_ وکما قیل بها فی تصرف المولی فی مال مملوکه لسلطنته علیه. فهذا الأخیر وجه ولیس بقول.

هذا کلّه فی الوجوه والأقوال فی المسألة.

1_ أدلة اشتراط ولایة الولی بوجود المصلحة
أ. الکتاب
اشارة

قوله تعالی: «لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(3).

بتقریب: نهی اللّه سبحانه فی الآیة الشریفة عن التصرف فی مال الیتیم إلاّ علی وجه یکون التصرف أحسن بحال الیتیم، والتصرف الأحسن لا یتم إلاّ بوجود المصلحة فیه. فالآیة الشریفة تدلّ علی اشتراط المصلحة فی التصرف فی مال الیتیم مطلقا _ أی بلا فرق بین الجدّ وغیره _ .

ولذا قال صاحب الحدائق: «وفیها [أی فی الآیة] إشارة إلی ما صرح به الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة للیتیم فی التصرف فی ماله»(4).

ویقرّ الشیخ جعفر(5) بدلالة الآیة الشریفة کما مرّ کلامه.(6)

وقال الشیخ الأعظم: «فإنّ إطلاقه یشمل الجدّ ویتمّ فی الأب بعدم الفصل»(7).

أقول: والوجه فی تمامیة الاستدلال فی الأب بعدم الفصل، لعدم صدق الیتم مع وجود الأب فی لُغَةِ العرب لأنّهم یرون أنَّ «الیُتْمَ انقطاعُ الصبی عن أبیه قبل بلوغه»(8).

ص:50


1- 1 . حاشیة المکاسب /90 و 91.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 35.
3- 3 . سورة الأنعام /152؛ سورة الإسراء /34.
4- 4 . الحدائق 18/422.
5- 5 . شرح القواعد 2/145.
6- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 47.
7- 7 . المکاسب 3/538.
8- 8 . المفردات /550 للراغب؛ ولسان العرب 12/645 لابن منصور.

ویمکن أن یناقش فی الاستدلال بهذه الآیة الشریفة لاشتراط المصلحة بأنّ

«القرب» یحتمل مَعانِیَ أربعة وکذلک لفظ «أحسن» أیضا یُحْتَمَلُ فیه مَعانٍ أَرْبَعَةٌ:

وأمّا معانی القرب

فالأوّل: مطلق التقلیب والتحریک حتّی من مکان إلی آخر فلا یشمل مثل إبقائه علی حال أو عند أحد.

الثانی: وضع الید علیه بعد أن کان بعیدا عنه ومجتنبا، فالمعنی: فتجنّبوا عنه ولاتقربوه إلاّ إذا کان القرب أحسن، فلا یشمل حکم ما بعد الوضع.

الثالث: ما یعدّ تصرفا عرفا _ کالاقتراض والبیع والإجارة وما أشبه ذلک _ فلا یدلّ علی تحریم إبقائه بحاله تحت یده إذا کان التصرف فیه أحسن منه إلاّ بتنقیح المناط.

الرابع: مطلق الأمر الاختیاری المتعلَّق بمال الیتیم، أعم من الفعل والترک والمعنی: لاتختاروا فی مال الیتیم فعلاً أو ترکا إلاّ ما کان أحسن من غیره، فیدلّ علی حرمة الإبقاء فی الفرض المذکور لأنّ إبقاءه قربٌ له بما لیس أحسن»(1). هذه هی محتملات القرب عند الشیخ الأعظم واختار(2) هو الاحتمال الثالث.

توضیح معانی «القرب» فی کلام الشیخ الأعظم والمناقشة فیها

«الاحتمال الأوّل: أن یکون المراد من «القرب» مطلق النقل والانتقالات، فإذن الآیة تمنع عن مطلق النقل والانتقالات المتصوّرة فی الأموال، سواءً الاعتباریّة منها أو الخارجیّة کالأکل، وعلیه فلو قصد أحدٌ أن یتقرّب إلی هذه الأموال _ اعتبارا أو خارجیّا _ لابدّ له أن یتصرّف فیها باللتی هی أحسن، لکن لا مانع فیما إذا قصد الاحتفاظ بهذه الأموال وعدم التصرّف فیها، وإن کان التصرّف یعدّ الأحسن والأولی بالنسبة للمال.

وبعبارة أُخری: أنّ الآیة الشریفة لا تُلزم الولیّ بالتصرّف، وإنّما یُلزمه بالتصرّف الأحسن فیما لو قصد التصرّف.

ص:51


1- 1 . المکاسب 3/574 و 575.
2- 2 . المکاسب 3/575.

الاحتمال الثانی: ما یستفاد من ظاهر الآیة من أنّ متعلّق النهی فیها هو وضع الید، فیکون المراد من «القرب» الاستیلاء علی المال ووضع الید علیه، فالآیة تدلّ علی أنّه ینبغی أن یکون الاستیلاء بأحسن ما یکون. وأمّا الأحکام التی تترتّب علی وضع الید فإنّ الآیة لم تَتَعرّضْ لها.

الاحتمال الثالث: أن یکون المراد من «القرب» وجوب أن یکون ما یقوم به الولی

فی ما یتعلّق بهذه الأموال من التقلّبات الخارجیة أو مجرد الاستیلاء، بل مطلق المعاملات الاعتباریة الواقعة علی هذه الأموال.

الاحتمال الرابع: أن یکون المراد من «القرب» وجوب أن یکون ما یقوم به الولی فی ما یتعلّق بهذه الأموال من التقلّبات سواءً الوجودیّة منها أو العدمیّة، وسواءً کانت فعلاً أو ترکا بالّتی هی أحسن.

والفارق بین هذا الاحتمال وما سبقه، سَعَةُ دائرة الاحتمال الأخیر، بحیث یشمل حتّی الأُمور العدمیّة، خلافا لسائر الاحتمالات، ولذلک فلو کان ترک التصرّف هو الأحسن، لزمه ذلک کما هو الحال فیما لو کان التصرّف أحسن.

هذا، وقد اختار الشیخ الاحتمال الثالث دون غَیْرِهِ من الاحتمالات، فینبغی أن نبحث عن السبب فی اختیاره المذکور من خلال ملاحظة الاحتمالات الأربعة، وموافقتها مع القواعد العامّة:

أمّا الاحتمال الرابع: فهو بعیدٌ عن مفهوم «القرب»، لأنّه أمرٌ وجودیّ ولا مجال لتطبیق الأمر الوجودی علی الأمر العدمی عقلاً وعرفا، فالآیة تنهی عن التقرّب إلی مال الیتیم، ومجرّد ترک التصرّف وعدم التقرّب لا یعدّان تقرّبا إلیه.

أمّا الاحتمال الثانی: فهو أیضا ساقط لاتّفاق جمیع الفقهاء علی التمسّک بهذه الآیة والاستدلال بها علی عدم جواز التصرّف فی مال الیتیم الذی لا ولیّ له، فإذا انحصرت دلالة الآیة بخصوص وضع الید، دون التعرّض لحکم التصرّفات اللاّحقة علی الوضع، لبطل الاستشهاد بها علی بطلان التصرّف إلاّ بالتی هی أحسن.

أمّا الاحتمال الأوّل: فهو أیضا باطلٌ.

ص:52

وبالتالی فغایة ما یمکن أن یُقال فی توجیه اختیار الشیخ، هو أنّ متعلّق النهی فی الآیة تارةً ذاتٌ مطلقة وأُخری ذات متعنونة بعنوان، وعلی الثانی یجب ملاحظة الخصوصیّة المأخوذة فی تعلّق النهی، فإنّ الآیة تنهی عن القرب، ومتعلّق متعلّق الحکم هو المال المعدود من العناوین الاعتباریة، ولذلک یقتضی أن یختصٌ النهی بالتصرّفات الاعتباریّة دون غیرها»(1).

ولکن یمکن أن یناقش علیه ب_ «أنّ النهی إذا توجّه إلی العناوین الاعتباریة یوجب

توسعة النهی لا تضییقه، دون ما إذا توجّه إلی العناوین والجهات الذاتیّة التی توجب الاختصاص والتضییق، کالنهی المتوجّه إلی ذات مالٍ کالثوب، فإنّ النهی عن التقرّب إلی الثوب یعنی النهی عن خصوص لبسه، أمّا النهی المتوجّه إلی العناوین الاعتباریّة معمّمٌ وشاملٌ لجمیع التصرّفات، ولذلک نجد أنّ الفقهاء حکموا فی قوله علیه السلام : «لا یجوز لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره إلاّ بطیبة نفسه» بشموله لعموم التصرّفات، سواءً الخارجیّة منها أو الاعتباریّة، لأنّ المال عنوان ویوجب تعمیم الحکم الوارد علیه، وبالتالی فینبغی أن یکون اختیارنا من بین الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل دون الثالث، لأنّ الظاهر من النهی عن التقرّب النهی عن العنوان الذی یوجب تعمیم الحکم إلی التصرّفات الاعتباریّة والخارجیّة».(2)

وأمّا معانی لفظ «الأحسن»

فقال الشیخ الأعظم: «فیحتمل أن یراد به ظاهره من التفضیل، ویحتمل أ یراد به الحسن. وعلی الأوّل، فیحتمل التصرّف الأحسن من ترکه _ کما یظهر من بعض _ ویحتمل أن یراد به ظاهره وهو الأحسن مطلقا من ترکه ومن غیره من التصرّفات. وعلی الثانی، فیحتمل أن یراد ما فیه مصلحة، ویحتمل أن یراد به ما لا مفسدة فیه، علی ما قیل: من أنّ أحد معانی الحسن ما لا حرج فی فعله»(3).

ص:53


1- 1 . العقد النضید 4/(297-299).
2- 1 . العقد النضید 4/299.
3- 2 . المکاسب 3/575.

ثمّ اختار(1) قدس سره من بین الاحتمالات الاحتمال الثانی وهو التفضیل المطلق.

توضیح معانی «الأحسن» فی کلام الشیخ الأعظم والمناقشة فیها

الاحتمال الأوّل: إرادة معنی التفضیل من دلالة الهیئة علیه بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه نحو: أن یکون بیع مال الیتیم أحسن من ترکه. کما علیه الأردبیلی(2) وصاحب الجواهر(3).

الاحتمال الثانی: إرادة معنی التفضیل بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه ومن غیره من التصرفات کما یظهر اختیاره من الفاضل النراقی(4).

الاحتمال الثالث: إرادة معنی الحسن بحیث یکون التصرف فیه مصلحة للیتیم وإن کان هناک ما هو أصلح منه، کما إذا باع الولی مال الیتیم بثمن رابح مع إمکان بیعه بثمنٍ أزید منه.

الاحتمال الرابع: إرادة معنی الحسن بحیث یکون التصرف لامفسدة فیه لمال الیتیم، وحمل کلمة الأحسن علی معنی الحَسَن وهو علی معنی عدم وجود المفسدة کما یظهر هذا المعنی من بعض العامة علی ما نقل الشهید الثانی عنهم من قولهم: «... أو أنّ ما نهی الشارع عنه فهو قبیح، وإن لم ینهَ عنه فهو حَسَنٌ، سواء أمر به کالواجب والمندوب، أم لا کالمباح»(5).

أقول: إرادة معنی «الأحسن» منسلخا عن التفضیل وهو «الحَسَن»، وإن وردت فی کلام النحاة: أنّ اسم التفضیل قد یأتی عاریا من معنی التفضیل فیتضمَّن معنی اسم الفاعل نحو قوله تعالی: «رَبُّکُمْ أَعْلَمُ بِکُمْ»(6) أو معنی الصفة المُشَبَّهة نحو قوله تعالی:

ص:54


1- 3 . المکاسب 3/575.
2- 4 . زبدة البیان /394.
3- 5 . الجواهر 26/317 (25/161).
4- 6 . عوائد الأیام /561.
5- 1 . تمهید القواعد /41 القاعدة، نقله الإسنوی فی التمهید /62.
6- 2 . سورة الإسراء /54.

«وَهُوَ الَّذِی یَبْدَوءُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَیْهِ»(1) کما قاله نجم الأئمة الرضی: «... واعلم أنّه یجوز استعمال أفعل... مجردا عن معنی التفضیل مؤوّلاً بِاسْمِ الفاعل والصفة المشبهة قیاسا عند المبرّد وسماعا عند غیره وهو الأصح... وتقول: الأحسن والأفضل بمعنی الحَسَن والفاضل»(2).

لکنّه إسقاط لِلْهَیْئَةِ ودلالتها من دون وجه فلا یمکن الأخذ بالاحتمالین الأخیرین. مضافا إلی المناقشة فی حمل کلمة «الأحسن» علی معنی عدم وجود المفسدة فی الاحتمال الأخیر.

وأمّا الاحتمال الثانی الذی اختاره الشیخ الأعظم فلم یلتزم الفقهاء بلزوم أن یکون التصرف أحسن من جمیع الأمور ولم یفتوا بذلک.(3)

فیبقی لنا الاحتمال الأوّل من الأخذ بدلالة هَیْئَة أفعل بحیث یکون التصرف أحسن من ترکه فقط لا أحسن من ترکه ومن جمیع التصرفات غیره.

ما هو مدلول نهی «لا تَقْرَبُوا»؟
اشارة

لابدّ من البحث حول مدلول النهی الوارد فی الآیة الشریفة فی المقامین:

المقام الأوّل: ما تَقْتَضِیْهِ الآیة الشریفة

هل النهی فیها تکلیفیٌّ مَحْضٌ أو إرشادٌ إلی بطلان التصرفات فیکون وَضْعِیّا مَحْضا أو کلاهما؟

یظهر من الشیخ الأعظم(4) أنّه إرشادی ووضعی ویدلّ علی بطلان التصرفات الاعتباریة إذا لم تکن علی وجه الأحسن.

ویرد علیه: أوّلاً: التصرفات التی یمکن أن تتعلّق بمال الصغیر اثنان:

الأوّل: التصرفات الخارجیة کوضع الید علیه أو أکله أو شربه ونحوها.

ص:55


1- 3 . سورة الروم /27.
2- 4 . شرح الکافیة 3/459.
3- 5 . کما یظهر من الاستاذ المحقّق فی العقد النضید 4/300.
4- 1 . المکاسب 3/575، قوله: «... فلا یدلّ علی تحریم ابقائه...».

الثانی: التصرفات الاعتباریة کالبیع والإجارة ونحوهما.

والدلیل علی انحصار تعلُّق النهی بالقسم الثانی مفقود.

وثانیا: مجرد التصرفات الاعتباریة لا تکونُ محرّمة للقطع بأنّ مجرد التصرف التسبیبی فی مال الیتیم لایعدّ من المحرمات الشرعیة نحو البیع الفضولی ما لم یتعقب بالقبض والإقباض.

وذهب المحقّق السیّد الخوئی إلی أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تکلیفی محض، قال قدس سره : «بل معنی القرب هو الإتیان إلی الشیء خارجا والاستیلاء [علیه] فتارةً ینسب إلی الأفعال کقوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ»(1) والاُخری إلی الأعیان کقوله تعالی: «ولا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ»(2) فالمعنی هنا واللّه العالم أنّه لا یجوز الاستیلاء علی مال الیتیم وتملّکه إلاّ بوجه یکون حسنا ومصلحةً وعلیه فیکون النهی متمحِّضا للتکلیفی لعدم ارتباط الآیة بالمعاملات بوجه لیکون النهی إرشادا إلی الفساد کما ذکرنا مرارا من کون النهی فی باب المعاملات إرشاد إلی الفساد.

وبالجملة: إنّ الآیة خارجة عن المعاملات ولیست لها تماس بها لکی یباحث فی فسادها وعدمها، بل هی مسوقة للنهی عن أکل ماله والاستیلاء علیه فهی نظیر «علی الید ما أخذت حتّی تؤدی».

ثمّ إنّه لا یفرق فی ذلک بین کون الاستیلاء حدوثا أو بقاءً فلو کان مال زید الصغیر ودیعةً عند عمرو فإلی سنةٍ أحرزه، ثمّ استولی علیه وتملَّکه وتصرف فیه تصرف المُلاّک فتشمله الآیة أیضا إذا النهیُ منحلٌ إلی نواهی عدیدة علی نحو العموم الاستغراقی»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: لا یدلّ دلیلٌ علی تخصیص النهی بالتکلیفی المحض، وتخصیص کلمة «القرب» بخصوص أکل مال الیتیم أیضا کذلک.

ص:56


1- 2 . سورة الأنعام /151.
2- 3 . سورة الأنعام /152.
3- 1 . مصباح الفقاهة 5/77 و 78.

وثانیا: الآیة الشریفة وردت فی کتاب اللّه مَرَّتَیْنِ: فی سورتی الأنعام(1) والإسراء(2) وفیهما کانت مغیاة ب_ «حَتّی یَبْلُغَ أَشُدَّهُ»(3)، ولا معنی للأخذ بهذه الغایة إذا کان النهی تکلیفیّا مَحْضا فیصیر معنی الآیة لا یجوز أکل مال الیتیم قبل بلوغه وأمّا بعده فیجوز لأنّ الحرمة مغیاة به. ومن المعلوم عدم تمامیة هذا المعنی.

ولکن الصحیح عندنا أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تعبیرٌ کنائیٌ یشمل التصرفات الخارجیة والاعتباریة معا فیدلّ علی النهی التکلیفی المولوی بالنسبة إلی الأوّل وعلی النهی الإرشادی الوضعی بالنسبة إلی الثانی ولایدلّ دلیل علی اختصاصه بأحدهما، فالنهی تکلیفی ووضعی معا.

المقام الثانی: موانع ظهور الآیة الشریفة مِنْ حیثُ الاقتضاء الدّلالیّ
اشارة

إلی هنا فی المقام الأوّل من البحث ثبتت تمامیة اقتضاء الآیة الشریفة للدلالة علی نهی الأولیاء من التصرفات الخارجیة والاعتباریة المتعلقة بأموال الأیتام إلاّ بالتی هی أحسن أی مراعاة المصلحة فیها.

ثمّ یقع البحث فی المقام الثانی حول مانع ظهور هذا الاقتضاء الدلالی فی الآیة الشریفة فقد یقال: بوجود مانع یمنع عن هذا الظهور وهو المانع:

المانع
اشارة

النهی الوارد فی الآیة الشریفة لابدّ أن یحمل علی النهی المولوی التکلیفی فقط لوجهین:

الأوّل:

الأصل الأوّلی فی النواهی هی الحرمة التکلیفیة والمولویة علی جمیع

المبانی فی مدلول صیغة النهی.

الثانی:

قرائن عدیدة تدلّ علی أنّ النهی الوارد فی الآیة الشریفة تکلیفیٌ ومولویٌ محض:

ص:57


1- 2 . سورة الأنعام /152.
2- 3 . سورة الإسراء /34.
3- 4 . سورة الإسراء /34.

منها: السیاق الوارد قبلها، لأنّها وقعت بعد قوله تعالی: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ...»(1).

ومنها: النواهی الواردة قبلها کلّها تکلیفیّة مَحْضَةٌ نحو قوله تعالی: «أَلاّ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئا... وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ... وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ...»(2).

وفی مقابلة هذَیْنِ الْوَجْهَیْنِ، وجه آخر علی حمل النهی علی الوضع والإرشاد دون التکلیف والمولویة، وهو:

الوجه الآخر: استدلال الفقهاء بهذه الآیة الشریفة علی بطلان المعاملات علی أموال الیتامی من دون مراعاة مصلحتهم ممّا یقتضی حمله علی الحرمة الوضعیة فقط.

وبالجملة: إذا أخذنا المعنی الأوّل من معانی القرب _ کما أخذنا _ فَإِنَّ النَّهْیَ الْوارِدَ فی الآیة الشّریفةِ یَدُلُّ علی مطلق التصرفات الخارجیة والاعتباریة، ولکن نعلم بأنّ التصرفات الخارجیة لا یمکن تعلّق النهی الوضعی بها وکذلک التصرفات الاعتباریة لا یمکن تعلّق النهی التکلیفی بها، فلا یمکن الاستدلال بالنهی الوارد فی الآیة الشریفة أصلاً ولا یتحقّقُ الظُّهُورُ.

إجابة المحقّق الاصفهانی

قال قدس سره : «ولا مناص عن هذا المحذور إلاّ بالإلتزام بأحد أمرین: إمّا حمل النهی علی الحرمة المولویة فی جمیع التصرفات؛ بارادة التصرفات المعاملیة المستتبعة للقبض والإقباض، لا بما هی عقود وتصرفات تسبیبیة فقط.

وإمّا حمل النهی فی الملزوم علی المولویة فی غیر المعاملات، وعلی الارشادیة فیها، ولا مانع من حمل النهی عن العام بداعی المولویة فی بعض أفراده؛ وبداعی الإرشادیة فی بعض أفراده الاُخر کما حقّق فی محلّه»(3).

ص:58


1- 1 . سورة الأنعام /151.
2- 2 . سورة الأنعام /151.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/423.

بیان مراده: «لا شکّ أنّ المجعول لو کان واحدا غیر قابل للانحلال، فلا مجال لاتّصافه بالمولویّة والوضعیّة، دون ما إذا کان واحدا قابلاً للانحلال والتعدّد، والنهی المجعول فی الآیة الشریفة مندرج فی القسم الأخیر فهو صورة واحدٌ ولکنّه متعدّدٌ لبّا، وبالتالی لا مانع من دلالته علی الحرمة التکلیفیّة بالنسبة إلی التصرّفات الخارجیّة، وعلی الحرمة الوضعیّة فی التصرّفات الاعتباریّة، وبذلک یندفع الإشکال»(1).

وبعبارة أُخری: یجوز استعمال لفظ واحد له معنی واحد فی الإرشاد والتکلیف معا بدواعی متفاوتة وأغراض متباینة نحو قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»(2) حیث أن تحلیل البیع یدلّ علی أنّ الشارع الأقدس لا یسدّ طریق البیع وأنّه منفتحٌ فی التکلیف والوضع، وکذلک تحریم الربا یدلّ علی أنّه سدّ طریقه وأنّه مسدودٌ فی التکلیف والوضع وهذا هو الجواب المختار عندنا.

وأمّا فی ما نحن بِصَدَدِهِ: «فإنّ الشارع قد استعمل هیئة «لا تَقْرَبُوا» فی معنی واحد وهی النسبة الزجریّة، لکن بما أنّها قابلة للإنحلال بحسب الدواعی المختلفة، لذلک تتعدّد بتعدّد الدواعی، فتدلّ علی الحرمة التکلیفیّة فی التصرّفات الخارجیّة، وعلی الحکم الوضعی والإرشاد إلی الفساد فی التصرّفات الاعتباریّة، وبذلک یندفع ما قیل من عدم إمکان اجتماع الحکمین المتباینین فی متعلّق النهی»(3).

جواب الاستاذ المحقّق _ مدظله _

«إنّ من الواضح أنّ إطلاق عنوان التصرّف علی التصرّفات الاعتباریّة التی لا تستتبعها القبض والإقباض، یعدّ إطلاقا مسامحیّا اعتباریّا، بمعنی أنّ إنشاء البیع أو الصلح وغیرهما من التصرّفات الاعتباریّة لا یعدّ تصرّفا حقیقیّا عرفیّا، إلاّ بعد ترتّب الآثار الخارجیّة من النقل والانتقال علیها ومع عدم ترتّبهما لا مجال لإطلاق التصرّف علیها إلاّ مسامحة، والآیة الشریفة تنهی عن جمیع أشکال التقرّب إلی مال الیتیم، بحیث تعمّ جمیع

ص:59


1- 1 . العقد النضید 4/307.
2- 2 . سورة البقرة /275.
3- 3 . العقد النضید 4/309.

التصرّفات الخارجیّة المتعقّبة بالقبض والإقباض، وبالتالی فالآیة مولویّة وبعیدة عن أن تکون إرشادیّة.

نعم، اتّفقت کلمة الأصحاب _ ومنهم المحقّق الأصفهانی(1)_ علی أنّ النهی

المولوی إذا تعلّق بالتصرّف المستتبع للقبض والإقباض فإنّه یفید حرمتهما وفسادهما، إذا النهی المتعلّق بآثار البیع یعدّ کاشفا قطعیّا عن فساد البیع، وقد أثبتنا ذلک خلال البحث عن قوله صلی الله علیه و آله : «إنّ اللّه إذا حرّم شیئا حرّم ثمنه»(2) من أنّ الشارع إذا حرّم شیئا فإنّ مدلوله المطابقی هی الحرمة التکلیفیّة، ولکن من خلال مدلوله الإلتزامی _ الذی یعدّ حکما وضعیّا _ یرشد إلی فساده أیضا، فیکون وزانه وزان قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(3) من أنّ الأمر بالوفاء حکم تکلیفی ولیس إرشادا إلی اللّزوم، لکن هذا الحکم التکلیفی یستتبعه حکم وضعی وهو الحکم بالصحّة، وکذلک الأمر فی المقام، فإنّ النهی التکلیفی المتعلّق بالتصرّف المستتبع للقبض والإقباض یلازمه حکم وضعی دالّ علی الفساد.

وخلاصة الکلام: ثبت أنّ النهی المذکور فی الآیة الشریفة مولوی ولیس بإرشادی وإن یستتبعه»(4).

المناقشة فی جواب الاستاذ _ مدظله _

ویمکن أن یرد علیه: أوّلاً: التصرف الاعتباری حتّی إذا لم یستتبعه القبض والإقباض یعدّ تصرفا عرفیّا حقیقیا، مثلاً: إذا اشترا شیئا ودفع ثمنه وجعله عند البائع ودیعة هل یعدّ هذا تصرفا عند العرف أم لا؟ ومن الواضح أنّه تصرف فَتَکُوْنُ التصرفات الاعتباریة من مَصادِیْقِ التصرف عرفا وحقیقةً.

نعم، إذا أجْری صیغة المعاملة أو وقّعها ولم یدفع الثمن ولم یأخذ المثمن یعدّ باطلاً عند الفقهاء لأنّه بیع الکالی بالکالی.

ص:60


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/423، کما مرّ عبارته قدس سره .
2- 1 . تأتی مصادرها.
3- 2 . سورة المائدة /1.
4- 3 . العقد النضید 4/311.

لا یقال: الآن وفی العصر الحاضر کلّ البیوع المهمة تکون هکذا وقّعوا السند المعاملی وبعد مدّة یأخذ العین وبعد مدّة أُخری یعطی الثمن کما فی المعاملات الدارجة بین الدول أو المعاملات علی شَبَکاتِ الإنترنت أو المعاملات المهمة ذات الأبْعادِ المُتَعَدِّدَةِ والمتکثرة.

لأنا نقول: الاجماع قائم عند الفقهاء بأنّ بیع الکالی بالکالی

باطل، فلابدّ أن نجعل هذا السند المعاملی المُوَقَّعِ مقدمة للمعاملة وخریطة لها وَإیْعادٌ بها من الجانبین، وأنّ البیع

والمعاملة یتحقق بعد وصول أحد المالین إلی الطرف الآخر بلا فرق بین الثمن أو المثمن فحینئذ یلزم البیع والمعاملة والعقد، وللتفصیل محلّ آخر.

وثانیا: یمکن أن نأخذ بالشق الثانی فی مقالة المحقّق الأصفهانی الماضیة حیث قال: «... وإمّا حمل النهی فی الملزوم علی المولویة فی غیر المعاملات وعلی الإرشادیة فیها...»(1). وهذا هو مختارنا کما مرّ(2) فی ذیل عنوان «إجابة المحقّق الأصفهانی» آنفا.

وثالثا: قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب(3) بأنّ النبوی المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شیئا حرّم ثمنه» روایة عامیة مع ورود کلمة «أکل» فی أکثر روایاتهم(4) وأنّ عمومها متروک عند الفریقین لأنّ کثیرا من الأشیاء یحرم أکله ولا یحرم بیعه، فلا ینتج من هذه الروایة العامیة قاعدة کلّیّة فی المعاملات.

ورابعا: وأمّا قولُهُ تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(5) فَیَدُلُّ بِإطْلاقِهِ علی وجوب الوفاء بالعقود والعهود الاجتماعیة والاقتصادیة ومنها: المعاملات والبیوع والتجارات، ولا یمکن القول بوجوب الوفاء بها إلاّ بعد صحتها وتمامیتها، فالآیة الشریفة یُسْتَفادُ منها شیئان: 1_ صحة المعاملات والبیوع والتجارات والعقود والعهود. 2_ وجوب الالتزام

ص:61


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/423.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 58.
3- 3 . راجع الآراء الفقهیة 1/34.
4- 4 . کما فی سنن أبیداود 2/251؛ مسند أحمد 1/247 و 293؛ وسنن البیهقی 6/13.
5- 5 . سورة المائدة /1.

ولزوم الوفاء والإیفاء بها کما مرّ فی أوّل الکتاب.(1)

وبالجملة: لایمکن الالتزام بهذا الجواب المأخوذ من الشق الأوّل من مقالة المحقّق الاصفهانی.(2)

ما المراد من الموصول فی الآیة الشریفة؟

اختلفوا فی أنّ المراد «بالتی» أیّ شیءٍ؟ وفیها ثلاثة محتملات:

1_ أنّ المراد بها «النیّة» فیکون معنی الآیة الشریفة: لا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالنیّة الحسنة. والباء فیها زائدة.

2_ أنّ المراد بها «الکیفیة» فیصیر معنی الآیة الشریفة: لا تقربوا مال الیتیم إلاّ

بالکیفیة الحسنة فیکون المراد بها أحسن الوجوه المتصورة، وهو مختار الاستاذ المحقّق(3) _ مدظله _ .

3_ أنّ المراد بها «الطریقة» فیفید معنی الآیة الشریفة: «لا تقربوا مال الیتیم إلاّ بالطریقة التی هی أحسن. والباء تکون للسببیة. «ولیس هو وصفا للقرب کما توهم وإلاّ کان الصحیح أن یقال «إلاّ بالذی هو أحسن»(4) وهذا مختار السیّد الخوئی.(5)

وقال: «وذکر بعض المفسرین أنّ المراد به النیة وبعضهم أنّ المراد به الکیفیة أی کیفیة القرب. ولا شاهد علی شیءٍ منهما. والظاهر فی النظر أنّ المراد به الطرق، أی لاتقربوا إلاّ بالطرق الشرعیة دون غیرها»(6).

ویمکن أن یناقش الاحتمال الأوّل وهو النیة بمایلی:

أوّلاً: زیادة حَرْفِ «الباء» خلاف الأصل الأوّلی.

ص:62


1- 6 . راجع الآراء الفقهیة 1/14.
2- 7 . حاشیة المکاسب 2/423.
3- 1 . العقد النضید 4/312.
4- 2 . مصباح الفقاهة 5/78.
5- 3 . مصباح الفقاهة 5/78.
6- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/63.

وثانیا: لایفید صرف النیة الحسنة بل لابدّ أنّ تکون التصرفات علی طبق المصالح الواقعیة للیتیم ولا تصححها النیة الحسنة إذا لم تطابق المصالح الواقعیة فی الخارج.

ویمکن أن یناقش الاحتمال الثانی وهو الکیفیة:

أوّلاً: الحکم بلزوم مراعاة الکیفیة الحسنة فی جمیع التصرفات الواقعة علی أموال الأیتام یقتضی لازما فاسدا، لا یمکن الالتزام به من فقیه، وهو الامتناع عن التصرف فی ما لو تساوت المصالح، ولم یقدر الولی عن تحصیل الکیفیة الأحسن منها.

وثانیا: اختصاص جواز التصرف تکلیفا ووضعا بأحسن الکیفیات وحصره بها، یوجب العُسر والحرج للولی بحیث لا یجوز له أیّ تصرف حتّی یُحْرِزَ أنّه أحسن التصرفات فلابدّ له من إیقاف تصرفاته حتّی یُحْرِزَ أنّه أحسن، وإحرازُهُ فی غایة الصعوبة بل علی شُرف الاستحالة الخارجیة _ لا العقلیة _ فلا یمکن الأخذ بهذا الاحتمال أیضا.

فیبقی لنا الاحتمال الثالث وهو الطریقة الشرعیة کما هو مختار المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله .

وإذا کان المراد بالموصول هو الطریقة الشرعیة فالآیة الشریفة لاتستفاد منها

مراعاة المصلحة فی التصرفات الواردة علی أموال الیتامی، بل هی فی مقام بیان عدم جواز التقرب إلیها إلاّ بالطریقةِ الشرعیة التی هی أحسن وأمّا الطریقة الشرعیة ما هی؟ فهی ساکتة بالنسبة إلیها فلابدّ من مراجعة غیرها من الأدلة فی تعیینها.

نعم، یمکن الاستدلال فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی بقوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(1).

لاسیّما بقرینة الروایات الواردة فی ذیلها اللآتی سوف یأتی بعضها فی ما بعد.

ولکن مع ذلک کلّه، ظهور الآیة الشریفة فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الأولیاء فی أموال الأیتام ممّا لا یکاد یخفی لاسیّما بقرینة الروایات الواردة فی ذیلها ولإنّها إذا

ص:63


1- 1 . سورة البقرة /220.

عُرضت علی أهل اللِسانِ العربیّ السابِرِینَ لمقاصد اللغة یقبلون دلالتها علی اعتبار المصلحة بلا ریب وکذلک العرف، والعرف ببابک.

الاشکالات علی دلالة الآیة الشریفة علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب والجدّ
اشارة

وهنَّ خمسة:

الإشکال الأوّل

وهو إشکال عام یجری بالنسبة إلی غیر الأب والجدّ أیضا بتقریب: ظاهر الآیة الشریفة یفید لزوم مراعاة الأحسن والأصلح بالنسبة إلی التصرفات فی أموال الأیتام ولکنّه کما مرّ لایمکن الأخذ بالتی هی أحسن علی الإطلاق وبمعناه الحقیقی بضرورة الفقه فینحصر أنّ المراد من الأحسن هو التصرف الحَسَن ویندرج فیه ما لا مفسدة فیه.

ویجاب عنه: أوّلاً: بضرورة الفقه نرفع الید عن مراعاة الأحسن الحقیقی وعلی الإطلاق ولکن لماذا نرفع الید عن مراعاة الأحسن الإضافی والمقدور والممکن عند التصرف فی أموال الأیتام؟!

وثانیا: علی فرض أنّ المراد بالأحسن یعنی الحسن وعلی فرض أن نرفع الید عن معنی التفضیل ولکن بأیّ دلیل دخل فی المعنی الحسن ما لیس فیه المفسدة؟ لأنّ الحسن والمصلحة معناه المنفعة ولکن، عدم المفسدة یفرض ما تساوی طرفاه بالنسبة إلی النفع

والضرر وهما شیئان مختلفان.

لا یقال: «قیام القرینة القرآنیة علی أنّه لیس المراد من هذه الصیغة حقیقتها، بل المراد منها الأحسن فی مقابل الفاقد للحُسن، کما فی قوله تعالی فی سورة الإسراء: «وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِیمِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً»(1) حیث استعملت صیغة أفعل التفضیل فی مقابل ما لیس فیه الحسن، إذ لایعقل أن یشتمل غیر القسطاس المستقیم علی الحُسن، وبالتالی فالمستعمل فی الآیة أفعل التفصیل وهو ما وصف به سبحانه القسطاس المستقیم، لکن أراد من الأحسن الحَسَن، وهکذا الأمر فی المقام، فبالرغم من

ص:64


1- 1 . سورة الإسراء /35.

وَصْفِ(1) التقرّب اللاّزم إلی مال الیتیم بالأحسن، لکن یُراد منه الحَسَن ولیس الأحسن، ونظائر هذه الإطلاقات کثیرة فی الآیات القرآنیة حیث تطلق صیغة أفعل التفضیل ویُراد منها دونه، کما فی قوله: «ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(2)، وکثرة الاستعمال تفید استقرار ظهور الأحسن فی الحَسَن فی ما نحن فیه، ولا أقلّ أنّها تکون سببا لإجمال المراد فی ما زاد علی اشتراط أصل المصلحة، ومقتضی الدلیل لزوم الاقتصار علی المتیقّن وهو أصل المصلحة. وهکذا ثبت من خلال القرینة الداخلیة والخارجیّة أنّ الأحسن المذکورة فی الآیة لا تدلّ علی معنی زائد علی أصل المصلحة»(3).

لأنّا نقول: فی کلِّ مورد قامت القرینة علی عدم إمکان الأخذ بالمعنی الحقیقی لصیغة أفعل التفضیل نرفع الید عنه ولکن فی مورد عدم قیام القرینة فلا، وحتّی بالنسبة إلی الآیتین یمکن الأخذ بمعناه الحقیقی لأنّ الوزن بالقسطاس خیر من ترک التوزین والوزن بالقسطاس المستقیم خیر من الوزن بالقسطاس غیر المستقیم فیکون الوزن بالقسطاس المستقیم أحسن بالنسبة إلی غیره، وکذلک جدال مخالفی المذهب لها أفراد متعددة ومصادیق متکثرة لابدّ أن یکون بنحو الأحسن وعلی أتقن الاستدلال وأفضل البیان وأجمل الشکل، وکذلک التصرفات فی مال الأیتام لها صور مختلفة لابدّ أن یختار الولی أحسنها وأصلحا وأنفعها له، نعم بضرورة الفقه نرفع الید عن الأحسن الحقیقی

والمطلق کما مرّ.

الإشکال الثانی

لو سَلّمنا دلالة الآیة الشریفة علی رعایة الأحسن والأصلح ولکنّها مخصصة

ص:65


1- 2 . فی المصدر: توصیف، والتوصیف خطأٌ فاحشٌ شائعٌ وإنْ ورد فی کلام الأعاظم.
2- 3 . سورة النحل /125.
3- 4 . العقد النضید 4/202 و 203.

بإطلاقات الروایات(1) الواردة حول ولایة الجدّ الدالة علی عدم اشتراطها بالمصلحة بل کفایة عدم المفسدة فیها، قال الشیخ الأعظم: «وأمّا الآیة الشریفة فلو سلّم دلالتها، فهی مخصّصة بما دلّ علی ولایة الجدّ وسلطنته، الظاهرة فی أنّ له أن یتصرّف فی مال طفله بما لیس فیه مفسدة له»(2).

وبعبارة اُخری: اطلاق هذه الروایات یقیّد اطلاق الآیة الشریفة بالنسبة إلی تصرفات الجدّ فقط.

ویجاب عنه: لابدّ فی تصرفات الجدّ أیضا من ملاحظة المصلحة وهی مشروطة بها ولا تکفی فیها عدم المفسدة حتّی بالنسبة إلی ولایته علی بُضع الیتیمة، فما یُستفید من إطلاق الروایات غیر تام لأنّ الروایات المشار إلیها راجعة إلی اُولویة الجدّ علی الأب لا عدم اعتبار المصلحة فی تصرفات الجدّ.

وعلی فرض تمامیة ما یُسْتَفادُ من إطلاقها وکفایة عدم المفسدة فهو معارض مع اطلاق الآیة الشریفة فیقدّم إطلاق الآیة علیها بالحکومة علی مبنی السیّد الخوئی(3) قدس سره وتلمیذه الاستاذ المحقّق(4) _ مدظله _ .

وعلی فرض التعارض: یتعارضان ویتساقطان فیُرْجَعُ إلی العام الذی فوقهما وهو قوله علیه السلام : «فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر إذنه»(5). والمتیقن الذی یخرج من هذا العموم هو التصرفات المقرونة بالمصلحة وأمّا غیرها فَهِیَ باقِیَةٌ علی عدم الحلیة.

ص:66


1- 1 . مرّت الاشارة إلی محلّها فی الدلیل الثانی من أدلة ولایة الأب والجدّ راجع صفحة 17 من هذا المجلد وهکذا راجع صحیحة محمّد بن مسلم فی وسائل الشیعة 20/289، ح1؛ وموثقة عبید بن زرارة، ح2؛ وخبره، ح5 [20/290] وخبر علی بن جعفر أو معتبرته عندنا، ح8 [20/291].
2- 2 . المکاسب 3/541.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/19؛ التنقیح فی شرح المکاسب 2/149.
4- 4 . العقد النضید 4/205.
5- 5 . وسائل الشیعة 17/248، ح1.

وعلی فرض فقدان العام الفوق یُرجع إلی الأصل العملی وهو عدم جعل الولایة فی ما إذا کان التصرف فاقدا للمصلحة. أو أصالة عدم نفوذ التصرف الفاقد للمصلحة أو أنّ الأصل الأوّلی فی المعاملات هو الفساد، وفی التصرف فی مال الغیر هو الحرمة.

الاشکال الثالث

لابدّ فی اعتبار المصلحة فی تصرفات الجدّ فقط، دون الأب لاستناده إلی عدم القول بالفصل وهو قاصر عن اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب، لوجود القول بالفصل، قال الشیخ الأعظم: «مع أنّه لو سلّمنا عدم التخصیص، وجب الاقتصار علیه فی حکم الجدّ، دون الأب. ودعوی عدم القول بالفصل ممنوعة؛ فقد حکی عن بعض متأخّری المتأخّرین القول بالفصل بینهما فی الاقتراض مع عدم الیسر»(1).

أقول: مراده من «بعض متأخری المتأخرین» هو المحقّق الثانی صاحب جامع المقاصد حیث ذهب إلی جواز اقتراض الأب من مال ولده والاِءتِّجاربِهِ وعدم ضمانه وإن کان مُعْسِرا، دون غیره حتّی الجدّ، لأنّه فی ذیل قول العلاّمة فی القواعد: «ولو ضمن [الولی] واتّجر لنفسه وکان ملیّا ملک الربح واستحب له الزکاة»(2)، قال: «یستثنی من ذلک الأب وإن کان معسرا»(3).

ویکفی فی دفع الإجماع المرکب وجود القول بالفصل بین تصرف الأب والجدّ، فلا یتم اعتبار المصلحة فی تصرفات الأب خاصة.

ویجاب عنه: أوّلاً: بأنّه لیس فی خصوص تصرفات الأب دلیل لکی نستکشف منه الحکم، بل مجموعة من الأدلة تدلّ علی ولایة الاُولیاء وعمدتها الإجماع وضرورة الفقه، وهما دلیلان لبیّان یجب الاقتصار علی الْقَدر المتیقن وهوفی موارد وجود المصلحة والمنفعة فی التصرفات. بل قد مرّ أنّ شأن الولایة وموردهافرض وجود المصلحة.

ص:67


1- 1 . المکاسب 3/541 و 542.
2- 2 . قواعد الأحکام 1/329.
3- 3 . جامع المقاصد 3/5.

وثانیا: إذا تمت دلالة الآیة الشریفة وظهورها علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی، فلا یتردّد أحد فی شمول هذا المدلول بالنسبة إلی الأب أیضا، وإن کان اللفظ قاصِرا عن أدائها.

وثالثا: الإجماع المرکب هو علی خلاف قول المحقّق الثانی لأنّ القائلین باعتبار المصلحة مطلقا یَرَوْنَ الأب والجدّ داخِلَیْنِ فی أدلة اعتبار المصلحة، والقائلین بعدم اعتبارها فی حقّهما یَرَوْنَهُما معا خارِجَیْنِ من أدلة اعتبار المصلحة وأنّها مخصصة بهما، ولا یفرِّق أحدٌ بین الأب والجدّ فتفصیل المحقّق الثانی لا وَجْهَ لَهُ.

ورابعا: علی فرض تعارض الأدلة فی الأب وتساقطها یکون المرجع الأصول اللفظیة والعملیة الماضیة فی الجواب عن الإشکال الثانی وهو المنع عن التصرف من دون المصلحة والمنفعة.

الاشکال الرابع

وهو ادِّعاءُ انصراف الآیة الشریفة عن الأب والجدّ وأنّ المخاطَب فیها غیرهما، فهی تدلّ علی اشتراط التصرفات بمراعاة المصالح فی ولایة غیرهما.

ویجاب عنه بِأَنَّ: «دَعْوی الاِنْصِرافِ عنها ممنوعة، وعهدة إثباتها علی مدّعیها، لأنّ الانصراف متقوّمٌ بقیام السبب الدال علیه وهو مفقود فی المقام، بل إنّ إطلاق الخطاب فی قوله تعالی: «لا تَقْرَبُوا» یشمل کلّ مخاطَب یصلح أن یکون مخاطَبا له، ومع عدم وجود القرینة الصارفة، یکون الخطاب شاملاً للأب والجدّ فضلاً عن غیرهما، کما هو الحال فی غیرها من الآیات الناهیة کقوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنی»(1) وأضرابها»(2).

الاشکال الخامس

«إنّ هناک شکوکا حول صدق عنوان الیتیم علی من فقد أباه دون جدّه، وبالتالی یکون الجدّ أجنبیّا عن خطاب الآیة الشریفة، وتشمل الأغیار عداهما.

ص:68


1- 1 . سورة الإسراء /32.
2- 2 . العقد النضید 4/201.

وفیه: أنّ الحاکم فی معرفة المراد من هذه الخطابات هو العُرْفُ، ثمَّ أهل اللّغه، وقد اتّفقت کلمتهم فی تفسیر الیتیم بمن هو فاقدٌ لأبیه، سواءً کان له جدٌّ حیّ أم لم یکن، فیشمل خطاب الآیة الجدّ وغیره، هذا وقد ذهب بعض الأعلام إلی صدق الیتیم علی من فقد أُمّه دون أبیه، وهذه الدعوی لو ثبتت استلزم اندراج الأب والجدّ کِلَیْهما فی من توجّه إلیهم الخطاب من دون الحاجة إلی الاستعانة بدلیل عدم الفصل، ولکنّها دعوی ممنوعة، لأنّ الثابت أنّ الفارق بین الإنسان والحیوان فی الیتم وعدمه، هو فقد الأب فی الأوّل والاُمّ فی الثانی»(1).

فذلکة القول فی دلالة الآیة الشریفة

آیة «لا تَقْرَبُوا» تدلّ علی اعتبار مراعاة المصلحة فی تصرفات الاُولیاء بلا فرق بین التصرفات الاعتباریة والتصرفات الخارجیة وبلا فرق بین الأب والجدّ وغیرهما، نعم بضرورة الفقه لا تدلّ علی مراعاة الأصلح والأنفع کما مرّ، وأمّا دلالتها علی مراعاة الأصلح والأنفع النسبی والغالبی والممکن فلا ینکر، واللّه العالم.

وهذا تمام الکلام حول الآیة الشریفة ودلالتها علی اعتبار المصلحة والحمد للّه.

ب: السنة
اشارة

تدلّ علی اعتبار المصلحة بعض الروایات:

منها: معتبرة عبداللّه بن یحیی الکاهلی قال: قیل لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّا ندخل علی أخ لنا فی بیت أیتام ومعه خادم لهم فنقعد علی بساطهم ونشرب من مائهم ویخدمنا خادمهم، وربما طعمنافیه الطعام من عند صاحبنا وفیه من طعامهم، فماتری فی ذلک؟ فقال: إن کان فی دخولکم علیهم منفعة لهم فلا بأس، وإن کان فیه ضرر فلا، وقال علیه السلام : «بَلِ الاْءِنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ»(2) فأنتم لا یخفی علیکم وقد قال اللّه _ عزّ وجلّ _ «وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(3).(4)

ص:69


1- 3 . العقد النضید 4/203 و 204.
2- 1 . سورة القیامة /14.
3- 2 . سورة البقرة /220.
4- 3 . وسائل الشیعة 17/248، ح1، الباب 71 من أبواب ما یکتسب به.

بتقریب: إنّ المعتبرة باعتبار منطوق فقرة «إن کان فی دخولکم علیهم منفعة لهم فلا بأس» یدلّ علی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی.

التنافی المزعوم

وقد زعم بعض معاصری(1) الشیخ الأعظم وجود التنافی بین صدرها وذیلها فلا یمکن الأخذ بها.

وأمّا التنافی: فالمعتبرة «تتضمن قضیّتین شرطیّتین الاُولی قوله: «إن کان فی دخولهم علیهم منفعة لهم فلا بأس»، والثانیة قوله: «وإن کان فیه ضرر فلا»، وهما متضمّنتان لمنطوقین ومفهومین، أمّا منطوقهما فلا تنافی بینهما ولا تضادّ، إنّما التنافی بین

المفهومین لأنّ التصرّف فی مال الیتیم علی ثلاثة أنحاء: ما فیه المنفعة، وما فیه المضرّة، وما لیس فیه المنفعة والمضرّة، ویتحقّق تعارض المفهومین فی القسم الثالث من التصرّف، حیث یُفِیْدُ مفهوم القضیّة الشرطیّة الاُولی أَنَّ ما لا منفعة فیه ففیه بأس، والقضیّة الثانیة تفید أنّه إذا لم یکن التصرّف ضرریّا فلا بأس به، وهکذا یتعارضان ولا مجال للجمع الدلالی بینهما، لأنّ الأُولی تنفی الجواز والثانیة تثبت، فیتساقطان بتعارضهما وینبغی الرجوع إلی أصل آخر، وهی لیست البراءة بل عموم قوله علیه السلام »(2). فلا یحلّ لأحد أن یتصرف فی مال غیره بغیر بأذنه(3)، فتکون النتیجة هی الحرمة فی محل الاجتماع، ووجود التنافی بین الصدور الذیل ثابت، فالأخذ بالمعتبرة والحکم بدلالتها علی وجود المصلحة فی تصرفات الولی مشکل.

ولکن ذهب الشیخ الأعظم إلی أنّ المراد بالجملة الأولی لیس شیئا غیر الضرر بقرینة مورد المعتبرة وما جاء فی الجملة الثانیة هو تفسیر للجملة الأولی وبالتالی فلا

ص:70


1- 4 . قال الإشکوری فی بُغیة الطالب 2/107: «المُورد هو صاحب الجواهر»، أقول: لم أجده فی الجواهر کما صرح به المحقّق المروج فی هدی الطالب 6/263.
2- 1 . العقد النضید 4/314.
3- 2 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال، التوقیع المروی بسند صحیح.

منافاة بین صدرها وذیلها وقال: «بناءً علی أنّ المراد من منفعة الدخول ما یوازی عوض ما یتصرّفون من مال الیتیم عند دخولهم، فیکون المراد بالضرر فی الذیل: أن لایصل إلی الأیتام ما یوازی ذلک، فلا تنافی بین الصدر والذیل علی ما زعمه بعض المعاصرین: من أنّ الصدر دالّ علی إناطة الجواز بالنفع، والذیل دالّ علی إناطة الحرمة بالضرر، فیتعارضان فی مورد یکون التصرّف غیر نافع ولا مضرّ. وهذا منه مبنیّ علی أنّ المراد بمنفعة الدخول النفع الملحوظ بعد وصول ما بإزاء مال الیتیم إلیه، بمعنی أن تکون المنفعة فی معاوضة ما یتصرّف من مال الیتیم بما یتوصّل إلیهم من ماله، کأن یشرب ماءً فیعطی فلسا بإزائه، وهکذا... وأنت خبیر بأنّه لا ظهور للروایة حتّی یحصل التنافی»(1).

ویرد علیه: أنَّ التنافی بین الجملتین موجود لأنّ الجملة الاُولی تدل علی أنّ مناط الجواز هی المنفعة والجملة الثانیة تدلّ علی أن مناط عدم الجواز هو الضرر ففی فرض التساوی إمّا أَنْ تَجْرِیا فتتنافیان وإمّا لا تجریان فلا یستفاد حکم الصورة التساوی من المعتبرة ولعلّ عدم الجریان أظهر.

جواب المیرزا النائینی عن التنافی

لم یرض النائینی بجواب الشیخ الأعظم وذهب إلی أنّ المراد بالمنفعة فی الصدر هی المنفعة المتعارفة فیکون لمفهومها وفی مقابلها صورتان: الصورة الاولی: وجود الضرر، والصورة الثانیة: فرض التساوی وعدم المنفعة والضرر معا، فصرح فی الذیل بالصورة الاُولی فقط، وقال: «لو لم یکن الدخول صلاحا لهم سواء کان ضرریا أو لا _ ففیه البأس، وذکر أحد فردی المفهوم لخصوصیة موجبة لذکره فی الشرطیة الثانیة لا یوجب أن تکون الشرطیة الاُولی ساکتةً عمّا لم یکن فیه صلاح وفساد، لأنّ ظاهر الشرط فی الثانی أنّ المدار علی الأوّل، فهو تابع للأوّل، مع أنّه لو کان کذلک فمقتضی الأصل _ وهو عدم ولایة أحدٍ علی مال غیره _ هو اعتبار الصلاح فلا تعارض بین الصَّدْرِ والذیل»(2).

ص:71


1- 3 . المکاسب 3/577 و 578.
2- 1 . منیة الطالب 2/244 و 243.

مراده: الصورة الثانیة وهی أنَّ فرض التساوی فی المعاملات نادر ولم تذکرها المعتبرة لندرتها ولکن إطلاق الصدر یشملها ویحکم علیها بالحرمة ولکن لیس للذیل إطلاق حتّی یشملها.

إجابة السیّد الخوئی عن التنافی

قال: «أن الروایة أجنبیّة عما نحن فیه؛ لأنّها واردة فی التصرّفات الخارجیّة، أی حکم الاستیلاء علی مال الیتیم تکلیفا، وهو خارج عن محلّ الکلام. ومن الظاهر أنّه لو اعتبر فی التصرّف فی مال الیتیم رجوع نفع مصطلح إلی الیتیم لم یقدم أحد علی التصرّف فی مالهم ولا علی الدخول علیهم ولا علی الجلوس فی بساطهم وهکذا، فلا یمکن حفظ کیان الیتیم»(1).

قد یقال: «بل المراد من الضرر فی الذیل أن لایوصل إلی الأیتام ما یوازی المصروف من مالهم لأنّ مورد السؤال هو خدمة خادمهم للوارد فی مدّة قصیرة وأکل شیء من طعامهم وأمثال ذلک من الأشیاء التی لا تقع بإزائها الثمن عادة فلو دخل علیهم واستفاد منهم هذه الأشیاء الیسیرة وأوصل بإزاء ذلک خیرا إلیهم فقد نفعهم یکون دخوله علیهم من القرب والتصرّف بما هو أحسن وإلاّ یکون دخوله ضررا علیهم وعلیه فلا تنافی بین الصدر والذیل حتّی یحتاج إلی التوجیه الذی ارتکبه [الشیخ الأعظم]»(2).

أقول: بهذه الإحابات ینفی التنافی المدعی والحمد للّه.

ومنها: خبر علی بن المغیرة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إن لی ابنة أخ یتیمة فربما أُهدی لها الشیء فآکل منه ثمّ أطعمها بعد ذلک الشیء من مالی فأقول: یا رب هذا بذا فقال علیه السلام : لا بأس.(3)

والروایة ضعیفة سندا لأنّ ذُبْیان بن حکیم الأودی أو الأزدی، وعلی بن المغیرة مجهولان مهملان لیس لهما توثیق.

ص:72


1- 2 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/67.
2- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/67. تعلیقة آیة اللّه الشهید الشیخ الأحمدی علی المحاضرات.
3- 1 . وسائل الشیعة 17/249، ح2.

قد یقال: ترک الاستفصال فی الروایة بین مساواة المال المدفوع إلیها مع المأکول أو قلّته أو کثرته والحکم فی الجمیع ب_ «لا بأس» یدلّ علی عدم اعتبار المصلحة والمنفعة للیتیم.

وفیه: الروایة لیس لها إطلاق، لأنّ العلاقة العاطفیة بین العم وبنت الأخ الیتیمة تقتضی کون المال المدفوع إلیها أکثر من المأکول بکثیر عادةً، فالروایة لا تشمل حکم التساوی والقلّة.

ولکن العمدة فیها ما ذکره السیّد الخوئی فی المعتبرة من أنّها وردت فی مورد خاص وهو الأکل والشرب والتصرف الخارجی والحکم التکلیفی فقط.

ومنها: موثقة أو صحیحة ابن مسکان عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: لما نزلت «إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْما إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نارا وَسَیَصْلَوْنَ سَعِیرا»(1) أخرج کلُّ من کان عنده یتیم، وسألوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی إخراجهم فأنزل اللّه: «وَیَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(2).(3)

بتقریب: أَنَّ الآیة الثانیة تدلّ علی مراعاة الإصلاح فی أموال الیتامی دون الأصلح أو الأحسن الْواقِعِیَّیْنِ، فتدل علی مراعاة المصلحة فی أموالهم بالتصرفات الخارجیة والاعتباریة.

والشاهد علی ما ذکرنا مرسلة عبداللّه بن الحجاج عن أبی الحسن موسی علیه السلام قال: قلت له: یکون للیتیم عندی الشیء وهو فی حجری أنفق علیه منه، وربّما أصیب ممّا

یکون له من الطعام، وما یکون منّی إلیه أکثر، قال: لا بأس بذلک.(4)

وهذه المرسلة تدل علی مراعاة المصلحة فی أموالهم لأن السائل یقول: «وما

ص:73


1- 2 . سورة النساء /10.
2- 3 . سورة البقرة /220.
3- 4 . وسائل الشیعة 17/255، ح5، الباب 73 من أبواب ما یکتسب به.
4- 1 . وسائل الشیعة 17/255، ح4.

یکون منّی إلیه أکثر».

ونحوها مرسلة علیّ عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سألته عن قول اللّه فی الیتامی: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ»(1) قال: یکون لهم التمر واللبن، ویکون لک مثله علی قدر ما یکفیک ویکفیهم، ولا یخفی علی اللّه المفسد من المصلح.(2)

ومنها: صحیحة عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام فی قول اللّه _ عزّ وجلّ _ : «فَلْیَأْکُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(3) قال: المعروف هو القوت، وإنّما عنی الوصی أو القیم فی أموالهم وما یصلحهم.(4)

ومنها: صحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبداللّه علیه السلام فی قول اللّه _ عزّوجلّ _ : «وَمَنْ کانَ فَقِیرا فَلْیَأْکُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(5) فقال: ذلک رجل یحبس نفسه عن المعیشة فلا بأس أن یأکل بالمعروف إذا کان یصلح لهم أموالهم، فإن کان المال قلیلاً فلا یأکل منه شیئا... الحدیث.(6)

ومنها: صحیحة ابن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک غلمانا وجواری ولم یوص، فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ وماتری فی بیعهم؟ قال: فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم وکان مأجورا فیهم، قلت: فماتری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ فقال: لا بأس بذلک إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، فلیس لهم أن یرجعوا فیما صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(7)

ص:74


1- 2 . سورة البقرة /220.
2- 3 . وسائل الشیعة 17/255، ح3.
3- 4 . سورة النساء /6.
4- 5 . وسائل الشیعة 17/250، ح1، الباب 72 من أبواب ما یکتسب به.
5- 6 . سورة النساء /6.
6- 7 . وسائل الشیعة 17/251، ح3.
7- 8 . وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.

بتقریب: أنها تنص فی اعتبار المصلحة بفقرتی: «الناظر فیما یصلحهم» المکررة،

وعنوان الولی القیم عام یشمل کل من یتولّی اُمور الأیتام من الجدّ أو غیرهم.

ج: الإجماع

المصرح به فی کلام العلاّمة فی التذکرة(1) والشهید فی الحاشیة النجاریة(2) حاکیا عن قطب الدین البویهی، والشیخ جعفر فی شرح القواعد(3) والسیّد العاملی فی مفتاح الکرامة(4) بالنسبة إلی اعتبار المصلحة فی تصرفات الولی. بل فی کلام ابن ادریس: «هذا الذی تقتضیه اُصول المذهب»(5).

وفیه: قد مرّ(6) فی بحث الوجوه والأقوال فی المسألة قولٌ بعدم اشتراط المصلحة وکفایة عدم وجود المفسدة فی تصرفات الولی وذِکْرُ الْقائِلِیْنِ به. فلیس فی البین إجماع.

نعم، یمکن أن یقال: بأنّ قدماء الأصحاب قائلون باعتبار المصلحة فی تصرفات الولی کما صرح به الفاضل الأصفهانی فی شرحه علی الروضة: «أنّ المتقدمین عمّموا الحکم باعتبار المصلحة من غیر استثناء»(7).

وثانیا: هذا الإجماع _ علی فرض تَمامِیَّتِهِ ولم یتم _ مدرکیٌ أو لاأقل من احتمال کونه مدرکیّا فلا یغنی ولا یسمن من جوع.

د: العقل

العقل حاکم ومستقل بأنّ جعل الولایة للأیتام لیس إلاّ لأجل حفظ منافع الصغار وحقوقهم وأموالهم، فلابدّ أن یقیّد به الحکم الشرعی بجعل الولایة.

ص:75


1- 1 . تذکرة الفقهاء 14/245.
2- 2 . الحاشیة النجاریة /225.
3- 3 . شرح القواعد 2/145.
4- 4 . مفتاح الکرامة 12/681؛ و 16/90.
5- 5 . السرائر 1/441.
6- 6 . هذا المجلد صفحة 48.
7- 7 . المناهج السویة فی شرح الروضة البهیة / مخطوطة، نقل عنه فی المکاسب 3/540.

ومضافا إلی أنّ سیرة العقلاء قائمة علی مراعاة مصالحهم ومنافعهم ولم یَنْهَ الشارِعُ المقدس عنه فلابدّ أن یکون معتبرا عنده.

بل یمکن أن یقال: فی جمیع أنواع الولایات یکون مقتضی جعلها مراعاة مصلحة المولّی علیه وهذه الاقتضاء قضیة ارتکازیة ثابتة عند العقلاء وعلیه سیرتهم، لأنّهم «حین ما یجتمعون وینتخبون مِن بینهم مَنْ یکون حاکما وسلطانا علی مجموعة من

الناس، وإنّما یفعلون ذلک لأجل أن یکون الحاکم المنصوب راعیّا لمصالح عامة الناس لا مصلحة نفسه أو فئة معینة وبالتالی فطبیعة الولایة بنفسها تقتضی رعایة مصلحة المولّی علیه»(1).

ولعل إلی ما ذکرنا أشار شیخ الطائفة فی قوله: «من یلی أمر الصغیر والمجنون خمسة: الأب والجدّ ووصیّ الأب أو الجدّ والإمام أو من یأمره الإمام.

فأمّا الأب والجدّ فإن تصرّفهما مخالف لتصرّف غیرهما فیکون لکلّ واحد منهما أن یشتری لنفسه من ابنه الصغیر من نفسه فیکون موجبا قابلاً قابضا مقبضا، ویجوز تصرّفهما مع الأجانب، ولا یجوز لغیرهما إلاّ مع الأجانب فأمّا فی حقّ نفسه فلا یجوز.

فإذا ثبت ذلک فکلّ هؤلاء الخمسة لا یصحّ تصرّفهم إلاّ علی وجه الاحتیاط، والحظّ للصغیر المولّی علیه لأنّهم إنّما نصبوا لذلک فإذا تصرّف علی وجه لا حظّ له فیه کان باطلاً لأنّه خالف ما نصب له»(2).

وبالجملة: الأدلة الشرعیة بالنسبة إلی جعل الولایة حتّی لو کان لها إطلاق _ ولم یکن _ تقید بحکم العقل المستقل والسیرة العقلائیة وإرتکازاتهم بمراعاة المصلحة للمولّی علیه وعدم نفوذ الولایة من دونها، والحمد للّه الذی خلق العقل وجعله حجة باطنة وأفضل شیءٍ عُبد به.

ص:76


1- 1 . العقد النضید 4/199.
2- 2 . المبسوط 2/200.
تنبیهات
الاولی: المراد من الجد

هل المراد من الجدّ الذی له الولایة هو خصوص الجدّ الأدنی _ أی أَبُوْ الأب _ أم هو مطلق الجدّ وإن علا فیشمل أبا الجَدِّ وَجَدَّ الجَدِّ؟

تنّظر صاحب الجواهر فی إطلاق الجدّ وقال: «وکیف کان ففی تعدّی الحکم إلی أب الجدّ وجدّ الجدّ وإن علا مع الأب نظر»(1).

وتبعه المحقّق الأصفهانی ویری اختصاص الجدّ بالأدنی وقال: «... مع قطع النظر عن انصراف الجدّ إلی الأدنی لا ظهور لجملة منها (من الروایات) فی غیر الجدّ الأدنی... فإنّ ظاهر هذه الأخبار کون موردها الجدّ الأدنی. نعم بعضها الآخر بعنوان الأب والجدّ،

لکنه یمکن دعوی الانصراف وعدم الإطلاق للأعلی بملاحظة الأخبار الأولی فتدبر»(2).

ولکن الشیخ الأعظم یری أنّ المراد بالجدّ عام فیشمل أبا الجدّ وجدّ الجدّ وهکذا وإن علا قال: «ثمّ لا خلاف ظاهرا _ کما ادّعی _ فی أنّ الجدّ وإن علا یشارک الأب فی الحکم، ویدلّ علیه ما دلّ علی أنّ الشخص وماله _ الذی منه مال ابنه _ لأبیه، وما دلّ علی أنّ الولد ووالده لجدّه»(3).

وتبعه السیّد الخوئی وقال: «والظاهر ثبوتها (أی الولایة) له (أی للجد الأعلی) لأنّ بعض الأخبار وإن کانت مختصة بالجدّ الأدنی إلاّ أن بعضها مطلقة یعمّ الجدود ولا وجه لدعوی انصرافها من الجدّ إلی الجدّ الأدنی»(4).

لتنقیح البحث لابدّ من مراجعة روایات الباب وهنّ علی طائفتین:

الطائفة الاولی: ما یختص بالجدّ الأدنی

منها: صحیحة محمّد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام قال: إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو

ص:77


1- 3 . الجواهر 27/202 (26/102).
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/376.
3- 2 . المکاسب 3/542.
4- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/22؛ ونحوها فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/151.

جائز علی ابنه، ولابنه أیضا أن یزوّجها، فقلت: فإن هوی أبوها رجلاً وجدّها رجلاً فقال: الجدّ أولی بنکاحها.(1)

ومنها: موثقة الفضل بن عبدالملک عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه وکان أبوها حیّا وکان الجدّ مرضیّا جاز، قلنا: فإن هوی أبو الجاریة هوی، وهوی الجدّ هوی وهما سواء فی العدل والرضی، قال: أحبّ إلیّ أن ترضی بقول الجدّ.(2)

ومنها: معتبرة عبید بن زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: إذا زوّج الرجل ابنة ابنه فهو جائز علی ابنه، قال: ولابنه أیضا أن یزوّجها، فإن هوی أبوها رجلاً وجدّها رجلاً فالجدّ أولی بنکاحها، الحدیث.(3)

الطائفة الثانیة: مطلقات أو معلّلات

فتشمل الجدّ وإن علا بإطلاقها أو بالتعلیل الوارد فیها:

منها: موثقة عبید بن زرارة قال: قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : الجاریة یرید أبوها أن

یزوّجها من رجل ویرید جدّها أن یزوّجها من رجل آخر فقال: الجدّ أولی بذلک ما لم یکن مضارّا، إن لم یکن الأب زوّجها قبله، ویجوز علیها تزویج الأب والجدّ.(4)

وبإطلاقها تشمل الجدّ الأدنی والأعلی. اللهم إلاّ أن یقال: «إنّ السؤال لم یکن»(5) مطلقا منذ البدایة لینعقد الجواب مطلقا، بل کان مقیدا بالأدنی ویتبعه الجواب.

ویمکن أن یجاب عنه: بأنّ الجواب یکون مطلقا ولو لم یکن السؤال کذلک والقاعدة تقتضی لزوم الأخذ بإطلاق الجواب.

ومنها: صحیحة هشام بن سالم ومحمّد بن حکیم عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إذا زوّج

ص:78


1- 4 . وسائل الشیعة 20/289، ح1، الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد.
2- 5 . وسائل الشیعة 20/290، ح4.
3- 6 . وسائل الشیعة 20/291، ح7.
4- 1 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
5- 2 . العقد النضید 4/211.

الأب والجدّ کان التزویج للأوّل، فإن کانا جمیعا فی حال واحدة فالجدّ أولی.(1)

إطلاقها ظاهر.

ومنها: خبر علی بن جعفر _ عند القوم _ وحسنته عندنا عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال: سألته عن رجل أتاه رجلان یخطبان ابنته فهوی أن یزوّج أحدهما وهوی أبوه الآخر، أیّهما أحقّ أن ینکح؟ قال: الذی هوی الجدّ (أحقّ بالجاریة) لأنّها وأباها للجدّ.(2)

لیست الروایة مطلقة ولکنها معلّلة، والتعلیل الوارد فیها یشمل الجدّ وهو قوله علیه السلام : «لأنّها وأباها للجدّ».

وسندها صحیح لاِءنَّ عَلِیَّ بن جعفرٍ العُرَیْضی رَواها فی کِتابِه ولصاحب الوسائل سند صحیح إلی کتاب علی بن جعفر فبهذا السند تکون صحیحة.

وبالجملة: إطلاق بعض الروایات وتعلیل بعضها الآخر یدلاّن علی أنّ المراد بالجدّ مطلق ویشمل الجدّ وإن علا، نعم آیة أُولی الأرحام وهی قوله تعالی: «وَأُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ»(3) أجنبیّة عن الدلالة لأنّها واردة فی المواریث والفرائض.

والحاصل: نحن مع الشیخ الأعظم والسیّد الخوئی وشیخنا الاستاذ(4) رحمه الله والاستاذ

المحقّق(5) _ مدظله _ بأنّ المراد من الجدّ مطلق الجدّ وإن علا، واللّه العالم.

الثانیة: هل ولایة الجدّ _ فی تزویج حفیدته _ مختصة بحال حیاة الأب؟

أو أنّهاثابتة مطلقا _ فی حال حیاة الأب ومماته _ ؟ قولان: الثانی _ وهو ثبوت

ص:79


1- 3 . وسائل الشیعة 20/289، ح3.
2- 4 . وسائل الشیعة 20/291، ح8.
3- 5 . سورة الأنفال /75.
4- 6 . إرشاد الطالب 4/192.
5- 1 . العقد النضید 4/212.

ولایته مطلقا _ هو المشهور. بین المتأخرین، ونُسب الأوّل إلی المشهور بین القدماء(1). کما هو مختار الصدوق(2) والشیخ(3) وأَبْناءِ الجنید(4) والبراج(5) وزهرة(6) وأبی الصلاح(7) وسلاّر(8). ومال إلیه من المتأخرین الفاضل الأصفهانی(9).

مستند القول الأوّل وهو اختصاص ولایة الجدّ بحیاة الأب

لیس إلاّ ما مرّ من قوله علیه السلام فی موثقة الفضل بن عبدالملک: «إنّ الجدّ إذا زوّج ابنة ابنه وکان أبوها حیّا وکان الجدّ مرضیّا جاز»(10).

بتقریبین: الأوّل: مفهوم الشرط: المأخوذ فی کلام الإمام علیه السلام شرطان: 1_ حیاة الأب، 2_ کون الجدّ مرضیا، فإذا کانا مَوْجُوْدَیْنِ معا تثبت الولایة للجدّ، وإذا فقد أحدهما _ حیاة الأب أو کون الجدّ غیر مرضی فی اعتقاده وأفعاله أی غیر عادل _ فولایته تنتفی بمفهوم القضیة الشرطیة.

وهذا التقریب ورد فی کلام صاحب الجواهر حیث یقول: «أنّها [أی دلالتها] من مفهوم الشرط _ لإرادة بیان الجواز فی هذا الحال فضلاً عن حال موت الأب، ردّا علی من اعتبر موت الأب فی ثبوت ولایة الجدّ من العامة»(11).

ویرد علیه: بأنّ ما ورد فی الموثقة من قبیل مفهوم الوصف لا مفهوم الشرط _ کما

ص:80


1- 2 . کما فی حاشیة المکاسب 2/377 للمحقّق الاصفهانی.
2- 3 . الهدایة /260.
3- 4 . النهایة 2/311 و 312.
4- 5 . راجع المختلف 7/100.
5- 6 . المهذب 2/195.
6- 7 . غنیة النزوع /342.
7- 8 . الکافی فی الفقه /292.
8- 9 . المراسم /148.
9- 10 . کشف اللثام 7/59 و 60.
10- 11 . وسائل الشیعة 20/290، ح4.
11- 12 . الجواهر 30/304 (29/171).

علیه بعض ویراه المحقّق الأصفهانی(1) هو الحق _ فلا یتم هذا التقریب «لأنّ الشرطیة هنا لتحقیق الموضوع لا لتعلیق الحکم»(2). مضافا إلی إعراض المشهور عن اعتبار العدالة فی ولایة الأب والجدّ.

الثانی: مفهوم الوصف: الوارد فی قوله علیه السلام : «وکان أبوها حیّا» مفهوم هذا الوصف یدلّ علی انتفاء ولایة الجدّ إذا لم یکن أبوها حیّا.

ویرد علیه: ما اُورده المحقّق الأصفهانی بقوله: «أنّ الوصف إنّما یکون له مفهوم إذا لم یکن لإیراده فی الکلام فائدة وهی هنا دفع توهم ولایة الجدّ بعد فقد الأب کما عن بعض العامة(3)»(4).

ولذا قال السیّد الخوئی: «لیس لهذه الجملة مفهوم، لأنّ العامّة علی الظاهر متّفقون علی عدم ثبوت الولایة للجدّ مع وجود الأب _ للآیة الشریفة _ ومن المحتمل أنّ الإمام علیه السلام أراد من هذا القید الإشارة إلی ذلک، أی ثبوت الولایة للجدّ ولو مع وجود الأب، فالمراد حتّی إذا کان حیّا. وهذا وإن کان تأویلاً للروایة، إلاّ أنّه قریب جدّا بعد اتّفاق العامّة علی ما ذکرناه، فلیس للقضیّة مفهوم من هذه الجهة»(5).

وأمّا سند الروایة: فَسَیَأْتی الإشکال فی السند مِنْ قِبَلِ جعفر بن سماعة وأنّه هَلْ هُوَ جعفر بن محمّد بن سماعة الذی وثقه النجاشی(6) وصرّح بوقفه أو غیره؟

ص:81


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/377.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/377.
3- 3 . العامة متفقون علی عدم ثبوت الولایة للجدّ مع وجود الأب _ علی الظاهر _ کما ورد فی الحاوی الکبیر 9/91؛ ومغنی المحتاج 3/149؛ الاُمّ 5/13؛ المجموع 16/147 و 154؛ المغنی 7/346، والفقه علی المذاهب الأربعة 2/354؛ و 4/26.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/377.
5- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/24.
6- 6 . رجال النجاشی /117، رقم 305.

ذهب ابن داود(1) إلی أنّ جعفر بن سماعة غیر حفید سماعة وضعّفه وتبعه المامقانی(2)، ولکن المجلسی مع أنّه یری وحدتهما فی وجیزته(3) اختار ضعف سند

الروایة فی مرآة العقول(4) مدعیّا أنّ فی رجاله بعض الواقفیة.

وذهب إلی اتحادهما العلاّمة فی خلاصته(5) حیث لم یعنون غیر جعفر بن محمّد بن سماعة، والقهبائی فی مجمع الرجال(6)، والشیخ عبدالنبی الجزائری فی حاوی الأقوال(7)، والتفرشی فی نقد الرجال(8) المیرزا الاسترآبادی فی منهج المقال(9) وأبوعلی الحائری فی منتهی المقال(10) والسیّد الخوئی فی معجم رجال الحدیث(11).

ونحن مع الاتحاد لأنّ الانتساب إلی الجِدّ شائعٌ وفساد مذهب الروای لم یضرّ باعتبار الروایة إذا کان ثقة وَصَدُوْقا فی مقالته فتم سند الروایة عندنا وهی موثقة الإسناد کما مرّ.

وبالجملة: سند الروایة تامٌّ ولکن دلالتها لم تتم فلا یتم القول بأنّ ولایة الجدّ مختصة بحال حیاة الأب واللّه العالم.

ص:82


1- 7 . رجال ابن داود /385.
2- 8 . تنقیح المقال 15/156، رقم 3881.
3- 9 . الوجیزة فی الرجال /44، رقم 365، قال: جعفر بن سماعة ثقة غیر امامی هو ابن محمّد بن سماعة، وقیل: ضعیف غیره.
4- 1 . مرآة العقول 20/133.
5- 2 . ترتیب خلاصة الأقوال /124، رقم 22.
6- 3 . مجمع الرجال 2/28.
7- 4 . حاوی الأقوال /199، رقم 1051.
8- 5 . نقد الرجال /69، رقم 32 (1/344، رقم 969).
9- 6 . منهج المقال 3/201، رقم 1049: قال: «والحقّ أنّه جعفر بن محمّد بن سماعة...».
10- 7 . منتهی المقال 2/247، رقم 553.
11- 8 . معجم رجال الحدیث 2/377.

مقالة الاستاذ المحقّق _ مدظله _ ونقده

ولکن مع ذلک کلّه قال فی العقد النضید: «... لا سبیل للاطمئنان إلی اتّحاد جعفر ابن سماعة مع جعفر بن محمّد بن سماعة، بل الدلیل علی خلافه، ولو سلّمنا اتّحادهما فإنّ ذلک غیر مفید فی المقام، ولا ینفعنا فی الاعتماد علی هذه الروایة لاعتقادنا بعدم حجیّتها، وإن نلتزم بوثاقة جعفر بن محمّد، وذلک لإعراض مشهور الفقهاء عن العمل بها _ خلافا لما ادّعاه العلاّمة فی التذکرة من الإجماع علی العمل بها، بل إنّ مضمونها تخالف فتوی المشهور من جهتین: اشتراط العدالة فی الجدّ، واشتراط ولایته بحیاة الأب، وبالتالی فمن یلتزم بسقوط الروایة بإعراض الشمهور عنها _ کما هو الحقّ الذی نلتزم به _ علیه أن یحکم بسقوط هذه الروایة عن الحجیّة»(1).

أقول: الأُستاذ المحقّق _ مدظله _ متحد معنا فی نتیجة الاستدلال دون طریقه

ولکن یرد علیه: أوّلاً: الاطمئنان حاصل لنا فی اتحاد جعفر بن سماعة وجعفر بن محمّد بن سماعة لما مرّ من أنّ الانتساب إلی الجدّ شائع.

وثانیا: إعراض الأصحاب ثابت بالنسبة إلی الفقرة الثانیة وهی قوله علیه السلام : «وکان الجدّ مرضیّا» الدالة علی اعتبار العدالة فی ولایة الجدّ. وأمّا بالنسبة إلی الفقرة الاُولی وهیقوله علیه السلام : «وکان أبوها حیّا» کیف یثبت اعراض الأصحاب مع ذهاب مشهور القدماء إلیه کما مرّ ومیل کاشف اللثام إلیه.

وثالثا: ردّ العلاّمة اعراض الأصحاب عن الروایة حیث ادعی الإجماع علی العمل بها کما نقله الاستاذ المحقّق _ مدظله _ ومع ادعاء هذا الاجماع کیف یثبت إعراض الأصحاب عنها.

ص:83


1- 9 . العقد النضید 4/221.

وأمّا مستند القول الثانی: وهو ثبوت ولایة الجدّ مطلقا _ أی بلا فرق بین حال حیاة الأب ومماته فَهُوَ _ :

أ_ الإطلاقات

الماضیة فی ولایة الجدّ الواردة فی تزویج حفیدته الشاملة لحالتی حیاة الأب ومماته.

ولذا قال صاحب الجواهر: «مضافا إلی إطلاقه (إطلاق موثّق عبید(1)) جواز تزویج کلّ منهما علیها»(2).

ب: التعلیل

الوارد فی صحیحة علی بن جعفر: «لأنّها وأباها للجدّ»(3)، یقتضی ثبوت الولایة للجدّ مطلقا فی حال حیاة أبیها ومماته.

ج: أقوائیة

ولایة الجدّ من ولایة الأب کما صرح بها بعض الروایات الماضیة «ولذا یقدم الجدّ علی الأب مع المزاحمة، فیبعد جدّا اشتراط ولایته ببقاء حیاة الأب فتدبر»(4).

وقال صاحب الجواهر بعد موثق عبید(5): «الدالّ علی قوّة ولایة الجدّ من ولایة

الأب فلا یؤثر فیها موت الأضعف کالعکس، بل هو أولی...»(6).

د: استصحاب

ولایة الجدّ فی حال حیاة الأب بعد مماته ولذا قال فی الجواهر: «وللاستصحاب

ص:84


1- 1 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
2- 2 . الجواهر 30/305 (29/172).
3- 3 . وسائل الشیعة 20/291، ح8.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/377 للمحقّق الأصفهانی.
5- 5 . وسائل الشیعة 20/289، ح2.
6- 1 . الجواهر 30/305 (29/172).

فی بعض الأفراد»(1).

وقد ناقشه الاستاذ المحقّق(2) _ مدظله _ بأنّ جریان الاستصحاب مشروط باتحاد قضیتی المتیقنة والمشکوکة وفی ما نحن فیه نشک فی اتحادهما فی الموضوع لاحتمال أن تکون حیاة الأب قیدا أو شرطا لولایة الجدّ. وهی مفقودة فی القضیة المشکوکة.

الثالثة: مع فقدان الأب هل تختص الولایة بالجدّ أم یُشارِکُهُ أبوه وجدّه؟

قال السیّد المجاهد: «وهل الأجداد فی مرتبة واحدة، فکلّهم اولیاء بالاستقلال أو لا؟ بل الأقرب إلی الأب یمنع الأبعد، صرّح بالثانی فی جامع المقاصد(3) والمسالک(4) والکفایة. ویظهر الأوّل من إطلاق الشرائع والنافع والتبصرة والإرشاد والتحریر والقواعد والتذکرة والدروس واللمعة وکنز العرفان والروضة والریاض»(5).

وقال الشیخ الأعظم: «لو فُقد الأب وبقی الجدّ، فهل أبوه أو جدّه یقوم مقامه فی المشارکة أو یخصّ هو بالولایة؟ قولان»(6).

أقول: مرادهم من هذا الفرع التنبیه علی أنّ ولایة الأجداد هل هی ثابتة لجمیع طبقاتهم وإن علوا فی عرض واحد، أم هی طولیة فلا تثبت لاِءبی الجَدّ إلاّ بعد فقد الجدّ ولا تثبت لجدّ الجدّ إلاّ بعد فقد أبی الجَدّ وهکذا لا تثبت للأعلی إلاّ بعد فقد الأدنی؟ فیه قولان، قد مرّ القائلون بهما فی کلام السیّد المجاهد.

دلیل طولیة ولایة الأجداد

قوله تعالی: «أُولُوا الاْءَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ»(7)

ص:85


1- 2 . الجواهر 30/304 (29/171).
2- 3 . کما فی العقد النضید 4/223.
3- 4 . جامع المقاصد 5/187.
4- 5 . المسالک 7/171.
5- 6 . المناهل /105.
6- 7 . المکاسب 3/542.
7- 8 . سورة الأنفال /75؛ سورة الأحزاب /6.

بتقریب: الآیة الشریفة بالنسبة إلی الولایة کالمیراث تدلّ علی وجود الطبقات والترتیب، فمادام الجدّ کان حیّا لم تثبت ولایة بالنسبة إلی أبی الجَدّ، لأنّه _ الجدّ _ کان أولی وأقرب بالمولّی علیه من أبی الجدّ. فَوِلایَةُ أبی الجدِّ متوقفة علی فقد الجدّ وهکذا فقد الأدنی حتّی تصل النوبة إلی الأعلی، لأنّ الآیة الشریفة جعلت الأولویة بالنسبة إلی أولی الأرحام ومنها اُولویة الولایة.

بعبارة أُخری: الآیة الشریفة تثبت وجود الولایة الطولیة بحسب طبقات الولاة کماتثبت المیراث بحسب طبقات الإرث. ومع وجود الجدّ الأدنی لم تصل النوبة إلی الجدّ الأعلی فی الولایة وأنّ الأقرب یمنع ولایة الأبعد بالنسبة إلی المولّی علیه.

ویرد علیه: أوّلاً: الآیة الشریفة مختصة بباب الإرث، وعلی فرض عدم اختصاصها یمکن الاستدلال بها فی مسألة تغسیل المیت وتجهیزه کما فعله صاحب الجواهر(1).

وأمّا دلالتها علی باب الولایات فلا تتم، وعلی فرض جریانها فی الولایات تثبت بها ولایة أولی الأرحام حصرا وتنفی بها ولایة الأجانب دون استفادة الطولیة أو العرضیة منها، فتدبر.

وثانیا: علی فرض تمامیة دلالتها علی طولیة ولایة أُولی الأرحام یستلزم تخصیص الأکثر المستهجن، لأنّ الولایة فی طبقات الأرث منحصرة بالأب والجدّ الأبی فقط، وهذه یستلزم خروج کثیر من الأفراد والطبقات بحیث یصیر التخصیص مستهجنا.

وثالثا: علی فرض تمامیة دلالتها یلزم عدم ثبوت الولایة للجدّ فی حیاة الأب _ کما علیه العامة _ مع أنّه قد مرّ ثبوتها فی حیاته ومماته ومن هذا التخصیص یظهر أنّ أدلة الولایة حاکمة علی هذه الدلالة.

وبالجملة: هذه الآیة الشریفة أجنبیة مِن الدِّلالة علی مَنْ له الولایة وثبوتها وطولیتها أو عرضیتها وطبقاتها وترتیبها، واللّه سبحانه هو العالم.

ص:86


1- 1 . راجع الجواهر 4/57 من طبعة جماعة المدرسین.

فظهر مما ذکرنا عدم وجود الطولیة بالنسبة إلی ولایة الأب والجدّ بحیث ولایة الأب تکونُ مقدمة علی ولایة الجدّ بل أنّهما فی عرض واحد فلا یتم ما ذکره العلاّمة رحمه الله فی وصایا التذکرة من قوله: «ولایة الأب مقدّمة علی ولایة الجدّ»(1).

الرابعة: المراد من الأب والجدّ النسبیین

«إنّ الظاهر اختصاص الولایة بالأب والجدّ النسبیین دون الرضاعیین، لأنّهما _ علی فرض صدق الأب والجدّ علیهما حقیقةً _ تنصرف الأدلة عنهما، ولم نقف علی تعرض أحدٍ للحوق الرضاعیین بالنسبیین. ودلیل تنزیل الرضاع منزلة النسب ناظر إلی الأوصاف والأحکام الظاهرة. وعلی فرض الشک فی شمول دلیل الولایة لهما فمقتضی الأصل عدمها.

وأمّا ولایة الأب والجدّ علی مَن وُلِد منهما بالزنا، فالظاهر ثبوتها لهما، لصدق الأب والجدّ علیهما حقیقةً بالنسبة إلی هذا الولد. وهذه المعانی الحقیقیّةُ العرفیة موضوعات للأحکام الشرعیة.

وأولی بثبوت الولایة للأب والجدّ ما إذا کان تولد الولد منهما علی الوجه المحرّم غیر الزنا، کالتولد من وطی محرّمٍ بالعرض کالوطی فی حال الحیض والإحرام والصوم، أو من تلقیح ماء أجنبی فی جوف المرأة [علی القول بحرمته] فإنّ الولد فی جمیع هذه الصور لصاحب الماء، ومقتضی موضوعیة المعانی العرفیة للأحکام الشرعیة ثبوت الولایة وغیرها من الأحکام الشرعیة للأب والجدّ إلاّ ما خرج کالإرث، فإنّ الزنا مانع عنه»(2).

ص:87


1- 2 . تذکرة الفقهاء 22/22 (2/510 من الطبعة الحجریة).
2- 1 . هدی الطالب 6/124.

الثانی: ولایة الفقیه

اشارة

قبل الإیْغالِ(1) فی البحث لابدّ من التذکیر بِأُمُوْرٍ:

الأوّل: البحث العلمی المحض لا السیاسی

نبحث عن ولایة الفقیه بحثا کلیّا علمیّا فقهیّا بحتا ولا نبحث عنه بحثا مصداقیا سیاسیا اجتماعیا. فلابدّ من لحاظ هذا الأمر فی طیّ البحث.

الثانی: تاریخ هذا البحث بالاجمال

تَرْجِعُ أَصالة هذا البحث إلی أکثر من ألف سنة حیث ذهب الشیخ المفید رحمه الله المُتَوَفّی سنة 413 إلی أنّ إقامة الحدود محوّل إلی «سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه _ تعالی _ وَهُمْ أئِمَّةُ الهُدی من آل محمّد علیهم السلام ومن نصبوه لذلک من الاُمراء والحکّام وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء شیعتهم»(2).

وتبعه تلمیذه شیخ الطائفة الطوسی(3) والحلبی(4) وسلاّر(5) والعلاّمة(6) والشهید(7)

ص:88


1- 1 . کلّ داخلٍ فی شیء دخولَ مستعجلٍ فقد أوْغَل فیه. [ترتیب جمهرة اللغة 3/602.]
2- 2 . المقنعة /810.
3- 3 . النهایة /300.
4- 4 . الکافی فی الفقه /172 و 423.
5- 5 . المراسم /263.
6- 6 . القواعد 1/525.
7- 7 . الدروس 2/47.

والکرکی(1) والشهید الثانی(2).

وحاصل کلام الفقهاء فی هذه المصادر وغیرها ترسیم حکومة شرعیة، الحاکم فیها هو الإمام المعصوم علیه السلام ومع الابتلاء بغیبته _ عجل اللّه تعالی فرجه وظهوره _ الفقیه هو الذی یقوم مقامه فی بعض الاُمور لا کلّها نحو إقامة الحدود وأخذ الحقوق والإفتاء للنّاس والقضاء بینهم وسدّ الثغور وتبلیغ الشریعة والدفاع عنها وإقامتها وحفظ بیضة الإسلام وحفظ المذهب الحقّ الإمامی الاِءثْنَیْ عَشَرِیّ وغیرها.

وهذه الحکومة الشرعیة عندهم غیر الحکومة التی أقامها الظلمةُ الغالبون علی الحکم والسلطة فی کلِّ عصر ومصر.

ففی کل عصر عندهم حکومتان وحاکمان، الحکومة الظاهریة الظالمة المتغلبة علی الحکم وحاکمها أمیر أو ملک أو رئیس، والحکومة الواقعیة الشرعیة العادلة وحاکمها فی عصر الظهور الإمام المعصوم علیه السلام وفی عصر غیبته علیه السلام الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء.

نعم، فی عصر الظهور إذا تصدی للحکومة الظاهریة غیر الإمام علیه السلام فهو غاصب لحقّه وحکومته تکون غاصبة ظالمة باطلة غیر مشروعة.

وأمّا فی عصر الغیبة فالحکومة الشرعیة الواقعیة للفقیه وأمّا الحکومة المتصدیة المتغلبة علی الأمر فلا تکون غاصبة ظالمة غیر مشروعة إذا أستجاز فی تصرفاته من فقیه عصره کما فعله الصفویون واستجازوا من فقهاء عصرهم وشیوخ إسلامهم نحو الکرکی وبهاءالدین محمّد العاملی والشیخ محمّدباقر المجلسی والسبزواری قدس سرهم وغیرهم.

أو فتحعلی شاه القاجاری حیث استجاز فی حرب الروس من فقیه عصره جدّی الشیخ جعفر کاشف الغطاء رحمه الله وأمّا إذا تصدی للأمر من دون الاستجازة فتصرفاته باطلة غیر مشروعة، وأمّا کونها عادلة أو ظالمة، مفیدة بحال النّاس أو مضرّة بحیاتهم فَهِیَ مشروطةٌ بأعمالها الواقعیة وکیفیة مواجهتها معهم ومنافعهم ومعیشتهم وحرّیّاتهم.

ص:89


1- 8 . رسائل المحقّق الکرکی 1/142.
2- 9 . المسالک 1/476.

فَرُبَّ حُکُوْمَةٍ مجازة من الفقیه تکون عوائدها ومنافعها للنّاس کثیرة نحو حکومة بعض ملوک الصفویة وربّما علی عکسها نحو حکومة بعض ملوک القاجاریة الجبّانیین کما فی حرب الروس والاتفاق معهم باتفاقیتی گلستان وترکمن چای.

وَرُبَّ حُکُوْمَةٍ غیر مجازة من الفقیه تخدم رعیتها وشعوبها نحو حکومة آل بویه والصفاریین وَالزَّنْدِیّیْنَ.

وَرُبَّ حُکُوْمَةٍ غیر مجازة من الفقیه لم تخدم شعوبها بل أخذت منهم حرّیّاتهم وسلّطت علیهم وحبستهم وأخذت أموالهم وسَعَتْ فی تخریب البلاد وظلم العباد ولیست همّهم إلاّ کونهم علی السلطة والحکم والقدرة کأکثر سلاسل الملوک والحکام.

وبالجملة: یتصوّر الفقهاء فی عصر الغیبة حُکُوْمَتَیْنِ فی عرض واحد: الحکومة الشرعیة وحاکمها الفقیه العادل والحکومة المتغلبة المسلَّطة وحاکمها علی أیّ حالٍ ظالم وجائر، وهو إمّا مأذون من الحکومة الشرعیة أو غیر مأذون، وهذا الاستیذان یحصل له جواز تصرفاته فی بیت مال المسلمین وفی البلاد والعباد جوازا شرعیّا دینیّا. ولکن لا یصیّره عادلاً مراعیّا لحقوق النّاس وساعیّا لحفظ البلاد والعباد ومنافعهم بل هذا الأمر الأخیر منوط بأعمال الحاکم وکیفیة حکمه وسیرته العملیة مع رعایاه وشعبه.

ینظر الفقهاء إلی الحکومة الشرعیة علی هذا النحو حتّی بَزَغَ نجم السیّد الإمام الخمینی رحمه الله وَرأی بأنّ الحکومة الشرعیة فی عصر الغیبة تمکّنت من أن تقوم بدلاً من الحکومة المتغلبة علی الحکم وَجازَ للفقیه أن یجلس علی کرسی الحکومة الظاهریة وأن یتصدی للحکم بنفسه ویُبَدِلَها بها، وَیُطَبِّقَ الحکومة الشرعیة علی الحکومة الظاهریة.

وهذا التطبیق بین الحکومتین من إبداعاته وتأسیساته وَلِکَوْنه هُوَ مُؤَسّس هذِهِ النَّظریّة، والفقهاء قبله یرُون الفارق بینهما.(1)

فَوَقَعَتْ هنا مغالطة واضحة وهی أنّ وِلایَةَ الفقیه بمعنی الحکومة الشرعیة یقول بها

ص:90


1- 1 . راجع فی هذا المجال إلی أوّل بحث ولایة الفقیه فی کتابه البیع 2/67: ضرورة الحکومة الإسلامیة.

الفقهاء علی مدی قرون، ولکن تطبیقها علی الحکومة الظاهریة وجعلها نظریة للحکم فهو من إبداعات الإمام الخمینی رحمه الله .

وأمّا وضوحها: فالمخالفون لهذا التطبیق والنظریة السیاسیة فی الحکم ینکرون أصل ولایة الفقیه حال کون ثبوتها فی الجملة من ضروریات الفقه الشیعی، والموافقون له یأتون بأقوال الفقهاء علی مدی القرون والأعصار تَأْیِیْدا للتطبیق والنظریة السیاسیة، ویغفلون من أنّ هذه النظریة السیاسیة والتطبیق هُوَ من أبکار أفکاره ومن تأسیساته فی عالم الحکم والسیاسیة.

نعم، یَصِحُّ أن یقال: بأنّ هذه الفکرة والنظریة لها أصول وَجُذُوْرٌ علی مدی قرون وأعصار وأمّا إنکار إبداعها وتأسیسها مِنْ قِبَلِ السیّد الإمام الخمینیّ رحمه الله فَظُلْمٌ لَهُ وَلاِءفْکارِه

وآرائه وأنظاره العلمیة والفقهیة والسیاسیة وإنکار لضروری قَبِلَهُ العالَم بأسره وهو أنّ هذه النظریة السیاسیة سُجلتْ باسم السیّد الخمینی رحمه الله وأنّه أسس حکومة فی إیران العزیزة بعد الثورة الإسلامیة علی أساس هذه النظریة وهی الجُمهوریة الإسلامیة وتصدّی لقیادتها عشر سنین وإلی آخر حیاته المبارکة _ قدس اللّه سره _ .

ص:91

الثالث: تحریر محل النزاع

ظهر ممّا ذکرنا فی تاریخ هذا البحث، أنّا نبحث عن ولایة الفقیه بحثا علمیّا فقهیّا کما بحثها الفقهاء العظام مدی القرون والأعصار، ولا نبحث عنها بأنّها نظریة للحکم فی عالم السیاسة التی أسسها الإمام الخمینی رحمه الله ، وبین البحثین موضوعا وحکما وأدلة ونظریة وتطبیقا فُروقٌ واضحة لا ینکرها إلاّ المکابر.

فالبحث الفقهی یأتی بالتفصیل إن شاء اللّه تعالی، والبحث السیاسی خارج عن موضوع کتابنا الفقهی فلا نتعرض له، وله محل آخر وبحوث اُخر وَلَهُ عُلَماءُ آخَرون وأدلة أُخری ومناقشات أُخری وممیّزات أُخری، ومباحثه باعتقادی أکثر أن تکون إلآهِیَّةً سَماوِیَّةً تکون شَعْبِیَّةً أَرْضِیَّةً، وأکثر مِنْ أَنْ تَکونَ نَظَریَّةً تکونُ عَمَلِیَّةً وأکثر أن تلاحظ فیها حقوق الوالی لابدّ أن تلاحظ فیها حقوق الرعیة والشعب. وأکثر أن تلاحظ فیها رُؤْی لابدّ أن تلاحظ فیها فوائد ومنافع ترجع إلی البلاد والعباد لأنّ الحکومة من شئون الحکمة العملیة لا النظریة، والعلّة المحدثة لها حفظ البلاد والعباد ومنافعهم وتنظیم أُمورهم ومعایشهم ودفع المظالم عنهم فهی تکون العلّة المبقیة لها مع تذکار مقالة أمیرالمؤمنین علیه السلام بأنّ: «مَنْ ظَلَمَ عبادَ اللّه ِ کان اللّه ُ خَصْمَهُ دونَ عبادِهِ... ولیس شیءٌ أدعی إلی تغییرِ نعمةِ اللّه ِ وتعجیلِ نقمتِهِ مِنْ اقامةٍ علی ظلمٍ فإنّ اللّه سمیعٌ دعوةَ المُضْطهدینَ وهو للظالمینَ بالمرصادِ»(1).

وأختم هذه الشقشقة بکتاب اللّه تعالی حیث یقول عزّ من قائل: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدا رابِیا وَمِمّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما یَنْفَعُ النّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الاْءَرْضِ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الاْءَمْثالَ»(2).

ص:92


1- 1 . نهج البلاغة، الکتاب 53. وهو عهده إلی الأشتر النخعی المروی بسند صحیح کما مرّ. وقد شَرَحَهُ جَماعة من الأعلام، منهم: العالم القانونیّ الشهیر الأستاذ توفیقٌ الفَکِیْکیُّ البغدادیّ وعنوانُ شرحه «الراعی والرعیة» وَقدّمَ له فی طبعته الأولی العلاّمة السیّد هبة الدین الحسینی الشهرستانی قدس سره .
2- 2 . سورة الرعد /17.

الرابع: من هو الفقیه؟

قد مرّ فی أوّل هذا المجلد معنی الولایة فی اللغة(1) والاِصطلاحُ(2) فلابدّ حینئذ مِنْ بَیانِ أنّ المراد بالفقیه مَنْ هو؟ حتّی یتبیّن مصطلح «ولایة الفقیه».

فلذا أقول: الفقه فی اللغة هو إدراک الشیء والعلم به وکلّ علمٍ بشیءٍ فهو فقه أو العلم فی الدین.

قال الخلیل: الفِقْهُ: العِلْم فی الدّین. یُقالُ: فَقُهَ الرّجل یَفْقُهُ فِقْها فهو فَقیهٌ.

وفَقِهَ یَفْقَهُ فِقْها إذا فَهِمَ. وأفقهتُه: بَیَّنْتُ لهُ. والتَّفَقُّهُ: تَعَلُّمُ الفِقْهِ»(3).

وقال ابن فارس: «فقه: الفاء والقاف والهاء أصلٌ واحد صحیح، یدلُّ علی إدراکِ الشَّیء والعِلْمِ به. تقول: فَقِهْتُ الحدیث أفْقَهُه. وکلُّ عِلْمٍ بشیء فهو فِقْه. یقولون: لا یَفْقَه ولا یَنْقَه. ثمّ اختُصَّ بذلک علمُ الشّریعة(4)، فقیل لکلِّ عالم بالحلال والحرام: فقیه. وأَفْقَهْتُک الشَّیء، إذا بَیّنتْهُ لک»(5).

وقال الزمخشری: «ف ق ه: افْقَهْ عنی ما أقول لک، وقال أعرابیّ لعیسی بن عمر: شهدت علیک بالفقه أی بالفهم والفطنة، وفی الحدیث «من أراد اللّه به خیرا فقّهه فی الدین» وفقّهتُ فلانا کذا وأفقهته إیّاه: فهّمته ففقهه وتفقّهه»(6).

وقال الفیومی: «الفِقْهُ: فَهم الشَّیء قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَکُلُّ عِلْمٍ لِشَیء فَهُوَ فَقْهٌ و (الْفِقْهُ)

ص:93


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 9.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 14.
3- 3 . کتاب العین /751.
4- 4 . قالُوْا: وإنَّما اخْتَصّ بهِ لِشَرَفِهِ وفی ذلکَ یقول الشاعرُ القدیم مِنَ (الوافر): إذا ما اعْتَزَّ ذُوْ عِلْمٍ بِعِلْمٍ فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلی بِاعْتَزارِ فَکَمْ طِیْبٍ یَفُوْحُ وَلا کَمِسْکٍ وَکَمْ طَیْرٍ یَطیرُ ولا کَبازِ ومِنْ دُرَّة السیّد بحرالعلوم: وَإنَّ عِلْمَ الْفِقْهِ فی الْعُلُومِ کَالْقَمَرِ السّاطِعِ فی النّجُوْمِ
5- 5 . معجم مقاییس اللغة 4/442.
6- 6 . أساس البلاغة /346.

عَلَی لِسَانِ حَمَلةِ الشَّرْعِ عِلْمٌ خَاصٌّ. و (فَقِهَ فَقَها) مِنْ بَابِ تَعِبَ إذا عَلِمَ و (فَقُهَ) بالضَّمِّ مِثْلُهُ وَقِیلَ بِالضَّمِّ إذا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِیَّةً قَالَ أَبُو زَیْدٍ رَجُلٌ (فَقُِهٌ) بِضَمِّ الْقَافِ وَکَسْرِهَا وَامْرَأَةٌ (فَقُهَةٌ) بالضَّمِّ وَیَتَعَدَّی بِالاْءَلِفِ فَیُقَالُ (أَفْقَهْتُکَ) الشَّیءَ وَهُوَ (یَتَفَقَّهُ) فی الْعِلْمِ مِثْلُ یَتَعَلَّمُ»(1).

ولکن الفقه فی الاِصطلاح «هو العلم بالأحکام الشرعیة العملیة المکتسب من أدلتها التفصیلیة»(2) أو «العلم بالأحکام الشرعیة الفرعیة عن أدلتها التفصیلیة»(3) أو «اسم للعلم بالمسائل التی لا یکون ثبوتها عن صاحب الشریعة من الضروریات عند الأُمّة، سواء کان ثبوتها عنه ضروریّا عند ذلک العالم أو لا»(4) أو العلم التفصیلی بالأحکام الشرعیة من الأدلة الأربعة: الکتاب، السنة، الاجماع، العقل. هذا هو تعریف الفقه فی مصطلح الفقهاء.

ولکن ثبوت الحقیقة الشرعیة بالنسبة إلی مصطلح الفقه «غیر معلوم حتّی یتعیّن حمل اطلاق الکتاب والأخبار علیه، بل واستعماله فی خصوص المعنی المصطلح غیر معلوم أیضا، نعم قد یستظهر إطلاقه علیه من بعض الروایات. ثمّ إنّه بعد انتشار علم الفقه وتدوینه فی الکتب فی عصر الصادقَیْن(5) علیهماالسلام لا یبعد القول بحصول النقل فی الجملة»(6).

وعلی ما ذکرنا لا یمکن حمل لغة الفقه فی القرآن الکریم والروایات النبویة والعلویة علی المصطلح الفقهی، نعم بعد عصر الصادقین علیه السلام وتدوین علم الفقه لا یبعد ادعاء النقل فی معنی الفقه من معانیه اللغویة إلی مصطلح الفقهاء.

ص:94


1- 7 . المصباح المنیر /479.
2- 1 . التعریفات /138 للسیّد الشریف الجرجانی.
3- 2 . معالم الدین /26 طبعة جماعة المدرسین بقم.
4- 3 . هدایة المسترشدین 1/67.
5- 4 . الصادِقانِ هُما الإمامان المعصومانِ محمّدٌ بن علی الباقر وَنَجله جَعْفَر بن محمّد الصادقُ علیهماالسلام . وَقد جاء هذا التعبیرُ مِنْ باب (التغلیب).
6- 5 . هدایة المسترشدین 1/54.

والفقیه: هو العالم بعلم الفقه اجتهادا فی جمیع سَبْعَةٍ وخمسین بابا من الأبواب الفقهیة بحیث یکونُ عنده الاجتهاد الفعلی فی الجمیع أو لاأقل فی معظمها.

فلا یطلق علی العالِم بالفقه تقلیدا أو علی المتجزی الذی یقدر علی استنباط بعض المسائل السهلة أو علی المجتهد المطلق الذی لیس عنده استنباط فِعْلِیٌّ فی جمیع الأبواب الفقهیة أو معظمها وأُمّهاتها.

کما لا یطلق علی من عنده العلم التفصیلی الاِجتهادی بالْفِقْهِ الأَکبر وهو العقائد الحقّة لمذهب الإمامیة الاِثنی عشریة _ أی علم الکلام _ أو غیرها من العلوم الإسلامیة فی شتی أنواعها ومختلَف أقسامها من الأدبیة والتاریخیة والکلامیة والفلسفیة والعرفانیة

وأجلها شأنا وهی التفسیریة. وإن کانت الأخیرة تحتاج إلی جمیع العلوم الإسلامیة ولذا عبرنا عنها بأجل العلوم الإسلامیة.

وإن کان الفقیه یحتاج إلی جمیع هذه العلوم ولکن علی قدر احتیاجه لا علی نحو التخصّص فی الجمیع بحیث یطلق علیه عناوین الأدیب والمورخ والمتکلّم والفیلسوف والعارف والمفسر.

نعم، الفقیه لابدّ أن یکون مجتهدا مطلقا فی علمی الرجال والأُصول _ أی أُصول الفقه _ لأنّهما من المقدمات القریبة لِلإجْتِهاد فإذا کان فی العلمین مقلِّدا یکون فی فقهه أیضا مقلِّدا ولیس بمجتهد حقیقة، والتفصیل یطلب من بحث الاجتهاد والتقلید فی علمی الفقه وأُصوله.

والحاصل: الفقیه: هو الذی عنده الآراء الاِجتهادیة مِن الأدلة التفصیلیة فی جمیع أبواب الفقه أو معظمها.

وبعبارة أُخری: المجتهد المطلق الذی عنده آرائه فی معظم الأبواب الفقهیة.

ولذا فسّر الشیخ الأعظم قدس سره : «الحاکم والمراد منه: الفقیه الجامع لشرائط الفتوی»(1).

ص:95


1- 1 . المکاسب 3/545.

الخامس: ولایات الرسول صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام

اشارة

قد مرّ فی أوّل هذا المجلد(1) ذاتیة ولایة اللّه تعالی وأنّ الولایة الذاتیة منحصرة بذاته سبحانه وقد جعلها اللّه لنبیّه الخاتم صلی الله علیه و آله واُوصیائه الأئمة المعصومین علیهم السلام ویمکن استفادتها من الأدلة الأربعة:

أ: الکتاب

یدلّ علی ولایة رسول اللّه علیه السلام قوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2). وقوله تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ یَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِینا»(3). وقوله تعالی: «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ»(4). بناءً علی رجوع الضمیر فی «أَمْرِهِ» إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله کما قال الطوسی(5) والطبرسی واللفظ للثانی: «حذّرهم سبحانه وتعالی عن مخالفة نبیه صلی الله علیه و آله »(6).

وفی روایة فرات الکوفی عن أبیجعفر علیه السلام قال: نزلت فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وجری مثلها من النبی فی الأوصیاء فی طاعتهم.(7) فتدلّ علی ولایتهم أیضا.

وقوله تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیما»(8).

ویدلّ علی ولایته صلی الله علیه و آله وولایة اُوصیائه المعصومین علیهم السلام قَوْلُهُ تَعالی: «یا أَیُّهَا

ص:96


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 15.
2- 2 . سورة الأحزاب /6.
3- 3 . سورة الأحزاب /36.
4- 4 . سورة النور /63.
5- 5 . التبیان 7/466.
6- 6 . مجمع البیان 7/249.
7- 7 . تفسیر فرات الکوفی /289، ح392.
8- 8 . سورة النساء /65.

الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُوءْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الاْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً»(1).

والآیة من مختصاتهم علیهم السلام کما ورد فی الروایات.(2)

وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(3).

ولأجل الروایات الواردة فی ذیلها راجع العوالم.(4)

وقوله تعالی: «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما»(5).

بضمیمة ما ورد من الروایات(6) فی ذیل الآیة الشریفة.

وقوله تعالی: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعا وَلا تَفَرَّقُوا»(7).

بضمیمة ما ورد من الروایات(8) وتطبیق حبل اللّه علی أمیرالمؤمنین علیه السلام .

وقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ»(9).

ص:97


1- 9 . سورة النساء /59.
2- 10 . العوالم 15/2/573؛ غایة المرام 1/350.
3- 1 . سورة المائدة /55.
4- 2 . العوالم 15/2/413.
5- 3 . سورة النساء /54.
6- 4 . راجع غایة المرام 1/356 والبرهان فی تفسیر القرآن 2/92 ونورالثقلین 2/75 وأجودالبیان فی تفسیر القرآن 5/ ذیل الآیة الشریفة للمؤلِّف.
7- 5 . سورة آل عمران /103.
8- 6 . راجع غایة المرام 1/324 والعوالم القسم الثانی 15/127 وأجود البیان فی تفسیر القرآن 4/40 للمؤلِّف.
9- 7 . سورة المائدة /67.

بضمیمة خطبة الغدیر(1) ونزول:

قوله تعالی: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الاْءِسْلامَ دِینا»(2).

وقوله تعالی: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیرا»(3).

بضمیمة الروایات.(4)

وقوله تعالی: «فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَکُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَکُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ»(5).

بضمیمة الروایات.(6)

قوله تعالی: «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَوءُفٌ بِالْعِبادِ»(7).

بضمیمة ما ورد فی ذیلها من الروایات.(8)

وقوله تعالی: «مِنَ الْمُوءْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی

ص:98


1- 8 . راجع الغدیر 1/(11-9).
2- 9 . سورة المائدة /3.
3- 10 . سورة الأحزاب /33.
4- 11 . العوالم 15/2/316؛ غایة المرام 1/363.
5- 1 . سورة آل عمران /61 ولدلالتها ورد مناقشات الآلوسی راجع تفسیری أجودالبیان فی تفسیر القرآن 3/346.
6- 2 . العوالم 15/2/289؛ غایة المرام 1/380.
7- 3 . سورة البقرة /207.
8- 4 . تفسیر الثعلبی 2/126؛ المستدرک علی الصحیحین 3/132؛ اُسد الغابة 4/25؛ خصائص الوحی المبین /92 لابن بطریق؛ والعوالم 15/2/206؛ غایة المرام 1/431؛ وتفسیری أجودالبیان فی تفسیر القرآن 2/ ذیل الآیة الشریفة.

نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً»(1).

لدلالتها راجع کتابی: «ولایت و امامت»(2).

وقوله تعالی: «قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی»(3).

بضمیمة الروایات(4) ومقالة العلاّمة الحلّی رحمه الله : «ووجوب المودة یستلزم وجوب الطاعة»(5).

وقوله تعالی: «وَیُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِینا وَیَتِیما وَأَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَلا شُکُورا»(6).

ولدلالتها راجع الروایات(7) و کتاب «زین الفتی فی تفسیر سورة هل أتی»(8).

وقوله تعالی: «فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ»(9).

بضمیمة الروایات(10) ومقالة الفضل بن روزبهان الأصفهانی السنی المتعصب حیث یقول: «ونعلم أنّ التوسل بأصحاب العباء من أعظم الوسائل وأقرب الذرائع»(11).

وقوله تعالی: «وَیَقُولُ الَّذِینَ کَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ کَفی بِاللّهِ شَهِیدا بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتابِ»(12).

ص:99


1- 5 . سورة الأحزاب /23.
2- 6 . ولایت و امامت /97 باللغة الفارسیة، المطبوع عام 1370ش بقم المقدسة.
3- 7 . سورة الشوری /23.
4- 8 . راجع العوالم 15/2/529؛ غایة المرام 1/392.
5- 9 . نهج الحق /175.
6- 10 . سورة الانسان 9-8.
7- 11 . العوالم 15/2/381.
8- 12 . للحافظ العاصمی.
9- 1 . سورة البقرة /37.
10- 2 . غایة المرام 2/8.
11- 3 . نقله عنه فی دلائل الصدق 2/136 من الطبعة القدیمة؛ 4/412 من طبعة آل البیت.
12- 4 . سورة الرعد /43.

ودلالتها مذکورة فی کتابی: «ولایت و امامت»(1).

وقوله تعالی: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْوءُلُونَ»(2).

بضمیمة الروایات(3) ومقالة ابن حجر(4) فی ذیلها: «أی عن ولایة علی علیه السلام وأهل البیت»(5).

وقوله تعالی: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ»(6).

بضمیمة ما ورد من العامة(7) فی ذیلها.

وقوله تعالی: «وَإِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماما قالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ»(8).

وقوله تعالی: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(9).

وقوله تعالی: «وَإِنَّکَ لَتَدْعُوهُمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ»(10).

لدلالتها راجع إلی کتابی.(11)

ص:100


1- 5 . ولایت و امامت /116.
2- 6 . سورة الصافات /24.
3- 7 . العوالم 15/2/472.
4- 8 . الْهَیْتَمِیّ (بالتّاء لا بالثاء) وهو غیر ابن حَجَر العسقلانی وکلاهما من فقهاء الشافعیّة.
5- 9 . الصواعق المحرقة /89.
6- 10 . سورة الرعد /7.
7- 11 . راجع تفسیر الطبری 13/72؛ مستدرک الصحیحین 3/129؛ کنزالعمال 1/251 و6/157؛ الدر المنثور 4/45؛ التفسیر الکبیر 19/14 للفخر الرازی؛ تاریخ مدینة دمشق، ترجمة الإمام علی بن أبیالطالب 2/416 و 417؛ نور الأبصار /90؛ کفایة الطالب /232؛ شواهد التنزیل 1/294 و 296؛ نظم درر السمطین /90؛ والعوالم 15/2/77.
8- 12 . سورة البقرة /124.
9- 13 . سورتی النحل /43 و الأنبیاء /7.
10- 1 . سورة المؤمنون /73.
11- 2 . سه مقاله در اصل امامت /42.

وقوله تعالی: «أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ»(1).

کما عدّ فی تفسیر القمی(2) مصداق «أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ...» محمّد وآل محمّد من بعده.

وفی الکافی(3) أنّهم الأنبیاء والأئمة علمهم فوق علم أهل زمانهم.

وفی تفسیر العیاشی(4) إنّه علی علیه السلام .

وفی تفسیر القمی(5) «أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدی » من خالف أهل بیته [أی أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله ] من بعده.

وقوله تعالی: «وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْیَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُکَ مِنْهُ یَصِدُّونَ»(6).

نقل الحافظان الأصفهانیان أبونعیم(7) وابن مردویة(8) عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : فیّ نزلت هذه الآیة. وراجع أیضا کتابی غایة المرام(9) والعوالم(10).

نختم الآیات الکریمة الواردة فی شأن ولایة المعصومین علیهم السلام بهذا البیان: «روی أحمد بن حنبل عن ابن عبّاس أنّه قال: ما فی القرآن آیة فیها «الَّذِینَ آمَنُوا» إلاّ وعلیٌّ رأسها وقائدها وشریفها وأمیرها. وقد عاتب اللّه أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله فی القرآن، وما ذُکِرَ

ص:101


1- 3 . سورة یونس /35.
2- 4 . تفسیر القمی 1/312.
3- 5 . الکافی 1/500، ح1 (1/202، ح1).
4- 6 . تفسیر العیاشی 2/277، ح18.
5- 7 . تفسیر القمی 1/312.
6- 8 . سورة الزخرف /57.
7- 9 . نزول القرآن فی علی علیه السلام / مخطوط و نقل عنه ابن بطریق فی خصائص الوحی المبین /169، ح125 و 126.
8- 10 . ما نزل من القرآن فی علی علیه السلام /319.
9- 11 . غایة المرام 2/41 طبع مؤسسة البعثة.
10- 12 . عوالم العلوم، القسم الثانی من 15/161 فی أکثر من خمسة عشر صفحة.

علیٌّ إلاّ بخیر»(1) (2).

وفی تفسیر العیاشی عن أبی الجارود، قال: سَمِعتُ أباجعفر علیه السلام یقول: نزل القرآن علی أربعة أرباع: رُبع فینا، ورُبع فی عدوِّنا، ورُبع فی فرائضٍ وأحکام، ورُبع سُنن وأمثال، ولنا کرائم القرآن.(3)

ب: السنة الشریفة
اشارة

ذکر الشیخ الأعظم خَمْسَ روایاتٍ فی المقام:

1_ صحیحة أیوب بن عطیة الحذاء قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: أنا أولی بکلّ مؤمن من نفسه، ومن ترک مالاً فللوارث، ومن ترک دینا أو ضیاعا فإلیَّ وعلیَّ.(4)

2_ الحدیث المتواتر بین الفریقین فی یوم الغدیر ومجمله قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

«الحمدللّه، [نحمده]، ونستعینه، ونؤمن به، ونتوکّل علیه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سیّئات أعمالنا، الذی لا هادی لمن أضلّ، ولا مُضلّ لمن هدی، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأنَّ محمّدا عبده ورسوله.

أمّا بعدُ: أیُّها النّاس قد نبّأنی اللطیف الخبیر: أنّه لم یُعمَّر نبیٌّ إلاّ مثلَ نصفِ عمر الذی قبلَه. وإنّی أُوشِک أن أُدعی فأُجیب، وإنّی مسؤول، وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟».

قالوا: نشهدُ أنّک قد بلّغتَ ونصحتَ وجهدتَ، فجزاکَ اللّه خیرا.

ص:102


1- 13 . فضائل الصحابة 2/654، ح1114؛ واُنظر ترجمة الإمام علیّ علیه السلام لابن عساکر 2/430، 938 وحکاه عنه فی الصواعق المحرقة /76؛ ومختصر کنزالعمال فی هامش مسند أحمد 5/31، 38؛ وتاریخ الخلفاء /171؛ ومناقب الإمام أمیرالمؤمنین لابن سلیمان 1/146، ح81 بتفاوت؛ وینابیع المودّة 1/377؛ والمناقب للخوارزمی /266، ح249؛ وحلیة الأولیاء 1/64؛ وشواهد التنزیل 1/49 ذیل ح50؛ وحکی فی نهج الحقّ /209 عن مسند أحمد.
2- 14 . کشف الغطاء 1/82.
3- 1 . تفسیر العیاشی 1/84، ح1.
4- 2 . وسائل الشیعة 26/251، ح14، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة.

قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، وأنَّ محمّدا عبدهُ ورسوله، وأنَّ جنّته حقّ وناره حقّ، وأنَّ الموت حقّ، وأنَّ الساعة آتیة لا ریبَ فیها وأنَّ اللّه یبعثُ من فی القبور؟».

قالوا: بلی نشهد بذلک. قال: أللّهمّ اشهد، ثمّ قال: أیّها النّاس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم.

قال: «فإنّی فَرَط(1) علی الحوض، وأنتم واردون علیَّ الحوض، وإنَّ عَرْضه ما بین صنعاءَ(2) وبُصری(3)، فیه أقداح عدد النجوم من فضّة، فانظروا کیف تخلِفونی فی الثقَلَینِ».

فنادی منادٍ: وما الثقَلان یا رسول اللّه؟

قال: «الثقَل الأکبر کتاب اللّه طرفٌ بید اللّه _ عزّوجلّ _ وطرفٌ بأیدیکم، فتمسّکوا به لا تضلّوا، والآخر الأصغر عترتی، وإنَّ اللطیف الخبیر نبّأنی أنّهما لن یتفرّقا حتّی یردا علیّ الحوض، فسألت ذلک لهما ربّی، فلال تَقدَّموهما فتهلکوا، ولا تقصروا عنهما فتهلکوا».

ثمّ أخذ بید علیّ فرفعها حتّی رُؤی بیاض آباطهما وعرفه القوم أجمعون، فقال: «أیّها النّاس من أولی النّاس بالمؤمنین من أنفسهم؟».

قالوا: اللّه ورسوله أعلم.

قال: «إنَّ اللّه مولای، وأنا مولی المؤمنین، وأنا أولی بهم من أنفسهم فمن کنت مولاه فعلیّ مولاه، یقولها ثلاثَ مرّات _ وفی لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرّات _ ثمّ قال: أللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحِبَّ من أحبّه، وأبغِضْ من أبغضه وانصُرْ من نصره، واخذُلْ من خذله، وأَدرِ الحقَّ معه حیث دار، ألا فلیبلّغ الشاهدُ الغائب».

ثمّ لم یتفرّقوا حتّی نزل أمین وحی اللّه بقوله: «الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی» الآیة.

فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «اللّه أکبر علی إکمال الدین، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتی، والولایة لعلیٍّ من بعدی».

ص:103


1- 3 . الفَرَط: المتقدم قومه إلی الماء، ویستوی فیه الواحد والجمع.
2- 4 . صنعاء: عاصمة الیمن الیوم.
3- 5 . بُصری: قَصَبة کورة حوران من أعمال دمشق.

ثمّ طَفِق القوم یهنِّئون أمیرالمؤمنین _ صلوات اللّه علیه _ وممّن هنّأه _ فی مُقدّم الصحابة _ الشیخان: أبوبکر وعمر کلٌّ یقول: بَخٍ بخٍ لک یا ابن أبیطالب أصبحتَ وأمسیتَ مولایَ ومولی کلّ مؤمن ومؤمنة.

وقال ابن عبّاس: وجبت _ واللّه ِ _ فی أعناق القوم.

فقال حسّان: ائذنْ لی یا رسول اللّه أن أقول فی علیٍّ أبیاتا تسمعهُنّ.

فقال: «قُلْ علی برکة اللّه».

فقام حسّان، فقال: یا معشر مشیخة قریش أتبعها قولی بشهادةٍ من رسول اللّه فی الولایة ماضیة، ثمّ قال:

یُنادیهِمُ یومَ الغدیرِ نبیُّهمْ بخُمٍّ فأسمِعْ بالرسولِ مُنادِیا»(1)

وقال السیّد هاشم البحرانی رحمه الله بعد أن نقل حدیث الغدیر من التاسع والثمانین من مصادر العامة: «خبر غدیر خُمّ قد بلَغ حدَّ التَواتُر من طریق العامّة والخاصّة، حتّی إنّ محمّد بن جریر الطَبَری صاحب (التاریخ) أخرَج خبَر غَدیر خُمّ وطرُقَه من خمسةٍ وسَبعین طَریقا، وأفرَد له کتابا سمّاه (کتاب الولایة)(2) وهذا الرجل عامّی المَذْهَب.

وذکر أبوالعبّاس أحمد بن محمّد بن سعید بن عُقْدَة [الحافظ الکوفیّ الزیدیّ مَذْهَبا] خبَر یوم الغَدیر، وأفرَد له کتابا، وطُرقه من مائة وخمسة طُرق. وهذا قد تَجاوز حدّ التَواتُر، فلا یوجد خبَر قَطّ(3) نُقِل من طُرقٍ بقَدر هذه الطُّرق، فیجب أن یکونَ أصلاً متَّبعا وطریقا مَهْیعا، والدلیل علی ما ذکَرناه _ لم یوجد خبر له طرق کخَبر غَدیر خُمّ _ ما حکاه

ص:104


1- 1 . الغدیر 1/(36-34) من الطبعة الحدیثة.
2- 1 . ذکره یاقوت فی معجم الاُدباء 18/(80-84)؛ والحافظ الذهبی فی تذکرة الحفاظ 2/713؛ وابن بطریق فی العمدة /111؛ والشیخ الطوسی فی الفهرست /150، رقم 640؛ وابن حجر فی تهذیب التهذیب 7/339؛ وابن طاوُس فی الطرائف 1/142؛ وابن شهرآشوب فی معالم العلماء /106، رقم 715؛ وغیرها، راجع أهل البیت فی المکتبة العربیة /661.
3- 2 . کذا وَرَد فی کلام السیّد البحرانی والصواب: فلا یوجد خَبَرٌ أبَدا؛ لأنّ (قَطّ) إنما تأتی مَعَ نفی الماضی لا مع الفعل المُضارع.

السیّد العلاّمة علیّ بن موسی بن طاوُس، ومحمّد بن علیّ بن شهرآشوب، ذکرا عن شهرآشوب، قال: سَمِعتُ أباالمَعالی الجُوَینیّ [الفقیه الشافِعِیّ] یتعجّب ویقول: شاهَدتُ مجلّدا ببغداد فی یَدی صَحّاف فیه روایات غَدیر خُمّ، مکتوبا علیه: المجلدة الثامنة والعشرون من طُرق قوله: «مَن کنتُ مَولاه فعلیٌّ مَولاه» ویَتلوه فی المجلدة التاسعة والعشرین...(1).

حکایة لطیفة:

ذکر ابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغة قال: حدّثنی یحیی بن سعید بن علیّ الحَنْبَلی المعروف بابن عالیة مِن ساکنی قَطُفْتَا(2) بالجانب الغربیّ من بغداد وأحد الشهود المعدّلین بها، قال: کنتُ حاضرا عند الفَخر إسماعیل ابن علیّ الحَنْبَلیّ الفقیه المَعروف بغُلام ابن المَنِّیّ، وکان الفَخر إسماعیل هذا مقدّم الحنابلة ببغداد فی الفقه والخِلاف، ویشتغل بشیءٍ فی علم المَنْطِق، وکان حُلْوَ العبارةِ، وقد رأیتُه أنا وحضَرتُ

عنده، وسمِعتُ کلامَه، وتوفّی سنة عشر وستّمائة.

قال ابن عالیة: ونحن عنده نتحدّث إذ دخَل شخصٌ من الحَنابلة، قد کان له دَینٌ علی بعض أهلِ الکوفة، فانحَدر إلیه یُطالِبه به، واتفق أن حضَرت زیارة یوم الغَدیر والحَنْبَلیّ المَذکور فی الکوفة، وهذه الزیارة هی الیوم الثامن عشر من ذی الحِجّة، ویجتَمع بمَشهد أمیرالمؤمنین علیه السلام من الخَلائق جموعٌ عظیمة تَتَجاوز حدّ الإحصاء.

قال ابن عالیة: فجعل الشیخ الفَخْر یسأل ذلک الشخص: [ما فعلت]؟ ما رأیتَ؟ هل وصَل مالُک إلیک؟ هل بقی لک منه بقیّة عند غریمک؟ وذلک الشخص یُجاوبه حتّی قال [له]: یا سیّدی، لو شاهَدت یومَ الزّیارةِ یوم الغَدیرِ وما یجری عند قبر علیّ بن أبیطالب من الفضائح والأقوالِ الشنیعة وسبّ الصّحابة جِهارا بأصواتٍ مرتفعةٍ من غیر مراقبة ولا خیفة؟

ص:105


1- 3 . الصراط المستقیم 1/12.
2- 4 . قَطُفْتَا: إحدی محالّ الجانب الغربی من بغداد، بینها وبین دجلة أقلّ من مِیل وهی مُجاورة لمقبرة الشیخ معروفٍ الکرخیّ وَلَها ذِکْرٌ فی کتاب «اثبات الوصیّة» للمسعودی فی أنّ أمیرالمؤمنین علیّا علیه السلام مَرّ بها عند حربَهِ للخوارج.

فقال إسماعیل: أیّ ذنبٍ لهم، واللّه ما جَرّأهم علی ذلک، ولا فتَح لهم هذا الباب إلاّ صاحب هذا القَبر. فقال ذلک الشخص: ومن هو صاحب القبر؟ قال: علیّ ابن أبیطالب. قال: یا سیّدی، هو الذی سنَّ لهم ذلک وعلّمهم إیّاه وطرَقهم إلیه؟ قال: نعم _ واللّه _ قال: یا سیّدی، فإن کان مُحِقّا فما لنا نتولّی فُلانا وفلانا؟ وإن کان مُبطِلاً فما لنا نتولاّه، ینبَغی أن نَبرأ [إما] منه أو منهما.

قال ابن عالیة: فقام إسماعیل مُسرِعا فلَبِس نعلیه، وقال: لعن اللّه إسماعیلَ الفاعل بن الفاعل(1)، إن کان یعرف جواب هذه المسألة، ودخَل دارَ حَرَمهِ، وقُمنا نحن وانصرَفنا(2)»(3).

3_ مقبولة عمر بن حنظلة.(4)

4_ معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم.(5)

5_ التوقیع المروی بسند حسنٍ.(6)

ووجه تمسّکه بهذه الثلاثة الأخیرة(7) هو البرهان الإنّی لإثبات ولایتهم علیهم السلام لأنّ

فاقد الشیء لا یکون معطیا له بَداهَةً وحیث أنّهم جعلوا الحکومة والولایة للفقیه فهم اُولی بها ومصدرها ولذا قال الشیخ الأعظم: «حیث علّل فیها حکومة الفقیه وتسلّطه علی النّاس بأنّی قد جعلته کذلک وأنّه حجتی علیکم»(8).

ص:106


1- 1 . (بن الفاعل) لیس فی المصدر.
2- 2 . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9/307.
3- 3 . غایة المرام 1/(165-163).
4- 4 . وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
5- 5 . وسائل الشیعة 27/139، ح6.
6- 6 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
7- 7 . ویأتی البحث حولها مفصلاً فانتظر.
8- 1 . المکاسب 3/547.

وأضفت إلی ما ذکره:

6_ الحدیث المتواتر بین الأُمّة الإسلامیة المسمّی بالثَّقَلَیْنِ(1) وهو ما رواه مسلم فی صحیحه بسنده عن «یزید بن حیان قالَ: انطلقت أنا وحصین بن سبرة وعمر بن مسلم إلی زید بن أرقم فلمّا جلسنا إلیه قال له حصین: لقد لقیتَ یازید خیرا کثیرا رأیتَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسمعت حدیثه وغزوت معه وصلّیت خلفه لقد لقیت یازید خیرا کثیرا، حدِّثنا یازید ما سمعت من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال: یابن أخی واللّه لقد کبرت سنّی وقدم عهدی ونسیت بعض الّذی کنت أعِی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فما حدّثتکم فاقبلوا ومالا فلا تکلّفونی.

ثمّ قال: قام رسول اللّه صلی الله علیه و آله یوما فینا خطیبا بماء یدعی خُمّا بین مکّة والمدینة فحمد اللّه واثنی علیه ووعظ وذکر، ثمّ قال: أمّا بعد ألاّ أیّها النّاس فانّما أنا بشر یوشک أن یأتی رسول ربّی فاجیب وأنا تارک فیکم ثَقَلَیْن أوّلهما کتاب اللّه فیه الهدی والنّور فخذوا بکتاب اللّه واستمسکوا به فحثّ علی کتاب اللّه ورغّب فیه، ثمّ قال: وأهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی اذکّرکم اللّه فی أهل بیتی، فقال له حصین: ومَنْ أهل بیته یازید؟ ألیس نسائه من أهل بیته؟ قال: نسائه من أهل بیته ولکن أهل بیته من حُرِمَ الصّدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علیّ وآل عقیل وآل جعفر وآل عبّاس، قال: کلّ هؤلاء حرم الصّدقة؟ قال: نعم»(2).

والترمذی فی صحیحه بسنده «عن جابر بن عبداللّه قال: رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حجّته یوم عرفة وهو علی ناقته القصوی یخطب فسمعته یقول: یا أیّها النّاس انّی قد ترکت فیکم ما إن أخذتم به لن تضلّوا کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی»(3).

قال آیة اللّه الحاج آقا حسین الطبَّاطبائیُّ البروجردی قدس سره فی شأن حدیث

الثَّقَلَیْن: «الحدیث المعروف بحدیث الثَّقَلَیْنِ المجمع علیه بین الفریقین فانّه قد رواه عن

ص:107


1- 2 . الثَّقَل محرکة: متاع المسافر وحسْمه والجمع أثقال وکلّ شیءٍ خطیر نفیس مصون، له قدر ووزن ثَقَلٌ عند العرب. تاج العروس 14/85.
2- 3 . صحیح مسلم 2/325، طبع مصر سنة 1327، 15/179بشرح الإمام النووی.
3- 4 . صحیح الترمذی 2/308.

النّبیّ صلی الله علیه و آله أربع وثلاثون من الصّحابة والصّحابیات وأخرجه مضافا إلی علماء الإمامیّة ومحدّثیهم أکثر من الثّمانین والمأة من أکابر أهل السّنّة ومشاهیر علمائهم ومحدّثیهم فی جوامعهم وصحاحهم وسننهم بأسانید صحیحة»(1). ثمّ بحث عن مصادره فی کتب العامة وعن دلالته علی وجوب التمسک بالکتاب والعترة الطاهرة فی قریب من تسعین صفحة فراجع جامع أحادیث الشیعة(2).

وقال فی وجه تسمیة الکتاب والعترة بالثقلین: «وما قیل فی وجه تسمیة الکتاب العزیز والعترة الطّیبة بالثَّقَلَین أو یمکن أن یقال أُمور:

الأوّل: کون کلّ واحد من الکتاب والعترة معدنا للعلوم العلّیة والحقائق الدّینیّة ومنبعا للأسرار النّفیسة والأحکام الإلهیّة.

والثّانی: ثقالة التّمسّک بهما والعمل بما یتلقّی عنهما ورعایة حقوقهما علی النّاس لانّهما یأمران بالعبودیّة والإخلاص للّه تعالی ومخالفة الهوی والعدل والاحسان وینهیان عن الفحشاء والمنکر وعن متابعة النّفس والشّیطان وعن الظّلم والعدوان ومعلوم أنّ تباعة الحقّ والإخلاص ومخالفة الهوی وترک الفحشاء أثقل الأشیاء وأمرّها.

الثّالث والرّابع: ثقالتهما علی نفوس کارهیهما وثقل عمل مَنْ تمسّک بهما.

الخامس: علوّ قدرهما ووعظم شأنهما کما صرّح به کثیر من الأعاظم.

السادس: عمارة الدّین بهما کما تعمر الدّنیا بالإنس والجنّ.

السّابع: کون کلّ منهما مصونا عن الخطأ والخطل وعن السّهو والزّلل وطهارتهما عن الدّنس والرّجس وعن الباطل والکذب ویؤیّده بعض فقرات الحدیث ویناسبه المعنی اللّغویّ لانّ الثّقل فی اللّغة کما تقدّم الشّیء النّفیس المصون.

الثّامن: بقاء الکتاب والعترة للتّمسّک والاهتداء فی کلّ زمن إلی قیام السّاعة وصونهما عن الضّیاع والزّوال فی جمیع الأعصار إلی یوم القیامة کما هو شأن کلّ مصون

ص:108


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/46.
2- 2 . جامع أحادیث الشیعة 1/(132-46).

ثقیل ولازم کلّ نفیس خطیر فإنّ الذّکر نزّله اللّه وهو له حافظ وجعل أهل الذّکر قرینه وهو لهم ناصر.

التّاسع: اعتماد النّبیّ صلی الله علیه و آله ورکونه إلیهما فی بقاء آثاره فإنّ دینه باق ببقائهما لأنّ

الکتاب معجزته الباقیة والعترة معادن أسراره العلّیّة فیکونان ثقلیه وناصریه»(1).

7_ حدیث إنذار العشیرة: المروی فی ذیل قوله تعالی: «وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الاْءَقْرَبِینَ»(2)، قال الطبری فی تاریخه المسمّی ب_ «تاریخ الاُمم والملوک» بسنده «عن عبداللّه بن عباس عن علیّ بن أبیطالب علیه السلام قال: لما نزَلت هذه الآیة «وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الاْءَقْرَبِینَ» علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله دعانی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال لی یا علیّ، إنّ اللّه أمرنی أن أنذر عشیرتی الأقرَبین، فَضِفْتُ بذلِک ذَرْعا، وعَلِمتُ أنّی مَتی أُنادِهم بهذا الأمر، أرَ منهم ما أکرَه، فصَمَتُّ حتّی جاءنی جَبْرَئیل علیه السلام ، فقال: یا محمّد، إنّک إن لم تفعَل ما اُمِرَت به، یُعذّبک ربّک. فاصنَع لنا صاعا من طعام واجعَل علیه رِجْلَ شاةٍ واملأ لنا عُسّا من لبَن، ثمّ اجمَع بنی عبدالمطّلب حتّی اُکلِّمَهم واُبلِّغَهم ما اُمِرتُ به، ففعَلتُ ما أمرنی به، ثمّ دعَوتُهم وهو یومئذٍ أربَعون رجُلاً، یَزیدون رجلاً أو یَنقُصون رجلاً، فیهم أعمامُه: أبوطالب، وحمزة، والعَبّاس، وأبولَهَب.

فلمّا اجتَمعوا إلیه دعا بالطّعام الذی صنَعتُ لهم، فجِئتُ به. فلمّا وضَعتُه تناوَل رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله بَضْعَةً من اللَّحْم، فشَقْها بأسنانه، ثمّ ألقاها فی نواحی الصَّحْفَة. ثمّ قال: کُلوا بسم اللّه، فأکلوا حتّی مَالَهُم بشیءٍ من حاجةٍ، وأیم اللّه الذی نفسُ علیٍّ بیَدِه إن کانَ الرَجُل الواحد منهم لیأکُل ما قدَّمتُه لجَمیعهِم. ثمّ قال: اسقِ القَومَ یا علیّ، فجئْتُهم بذلک العُسّ فشَرِبوا منه حتّی روَوا جمیعا، وأیم اللّه إن کان الرجلُ منهم لیَشْرَب مِثلَه.

فلمّا أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یکلِّمهم؛ بَدَرهُ أبولَهَب إلی الکلام، فقال: لَشَدَّ ما سحَرکُم صاحِبکُم! فتفرّق القومُ ولم یتکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال من الغَد: یا علیّ، إنّ هذا الرجل قد

ص:109


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/(85-79) وراجع تعلیل تَسْمِیَتِهِما بالثَّقلین کتاب الصواعق المحرقة لابن حَجَرِ الهیتمی المکیّ (ت 974ه أو 973ه).
2- 2 . سورة الشعراء /214.

سبَقنی إلی ما سَمِعت مِن القَول، فتفرّق القومُ قبل أن اُکلِّمهم، فعد لنا الیوم إلی مثل ما صنَعْتَ بالأمس، فأکلوا حتّی مالهم بشیءٍ من حاجةٍ. ثمّ قال: اسقِهم، فجئتهُم بذلک العُسّ فشَرِبوا منه جمیعا حتّی رَوَوا.

ثمّ تکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال: یا بَنی عبدالمُطَّلِب، إنّی واللّه ما أعلَمُ أنّ شابّا فی العرَب جاء قَومَه بأفضَل ممّا جِئتُکم به. إنّی جِئتُکم بخیر الدنیا والآخِرة، وقد أمرنی اللّه أن أدعُوَکم إلیه، فأیّکُم یُؤازِرُنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی ووصیّی وخلیفَتی فیکم؟

فأحجَم القومُ عنها جمیعا، وقلت أنا _ وإنّی لأحْدَثُهم سِنّا، وأرمَصُهم عَیْنا، وأعظَمُهم بَطْنا، وأحمَشُهم ساقا _ قلت: أنا یا رسول اللّه، أکونُ وزیرُک علیه. فأعاد القولَ، فأمَسکوا، وأعَدْتُ ما قلتُ. فأخَذ برقَبَتی، ثمّ قال لهم: هذا أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم، فاسَمعوا له وأطیعوا. فقام القومُ یضحَکون ویقولون لأبیطالب: قد أمَرک أن تسمَع لابنِک وتُطیع»(1).

هذه الروایة مرویة فی مختلف کتب العامة نحو مسند أحمد(2) وفضائل الصحابة(3) له أیضا وتفسیر الطبری(4) وتفسیر الثعلبی(5) وکنزالعمال للمتقی الهندی(6) وشرح نهج البلاغة لابن أبیالحدید(7). وأنّه نقل عن أبیجعفر الإسکافی المتوفی سنة 240 من مشایخ المعتزلة البغدادیین قال فی هذه الروایة: «قد روی فی الخبر الصحیح»(8).

وقد بحث فی دلالة هذه الروایة أعلام الإمامیة _ أعلی اللّه کلمتهم _ فی کتبهم نحو:

ص:110


1- 1 . تاریخ الطبری 2/216 و 217.
2- 2 . مسند أحمد 1/111.
3- 3 . فضائل الصحابة 2/650، ح 1108.
4- 4 . تفسیر الطبری 19/74 (19/140 من الطبعة الحدیثة).
5- 5 . الکشف والبیان 7/182.
6- 6 . کنزالعمال 6/397.
7- 7 . شرح نهج البلاغة 13/210.
8- 8 . شرح نهج البلاغة 13/244.

أصحاب دلائل الصدق(1) والغدیر(2) والمراجعات(3) وفضائل الخمسة(4).

8_ حدیث المنزلة: المروی فی الصحیحین وغیرهما من مصادر العامة، ففی صحیح البخاری بسنده عن إبراهیم بن سعد عن أبیه قال: قال النبی صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : أما ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارون من موسی.(5)

وفی البخاری أیضا بسنده عن مُصْعَب بن سعد عن أبیه أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله خرج إلی تبوک واستخلف علیّا علیه السلام فقال: أتُخَلّفنی فی الصبیان والنساء؟ قال: ألا ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارون من موسی إلاّ أنّه لیس نبیّ بعدی.(6)

وفی صحیح مسلم بإسناده عن سعید بن المسیب، عن عامر بن سَعْد بن أبیوَقّاص، عن أبیه، قال: قال رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله لعلیّ: أنتَ منّی بمَنزِلة هارونَ مِن موسی إلاّ أنّه لا نبیّ بَعدی.

قال سعید: فأحبَبتُ أن اُشافِهَ بها سَعْدا، فلقیتُ سعدا فحدّثتُه ما حدّثنی به عامر، فقال: أنا سمِعتُه، فقلت: أنت؟ فوضَع إصبَعَیْهِ علی اُذُنَیهِ وقال: نعم، وإلاّ فاستکَّتا»(7).

ومسلم بإسناده عن شُعبة، عن الحکم، عن مُصْعَب بن سعد بن أبیوقاص، عن سَعْد [بن] أبیوقّاص، قال: خلّف رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّ بن أبیطالب فی غَزاةِ تَبوک؛ فقال: یا رسول اللّه، تُخلّفنی فی النِّساء والصِّبْیان! فقال: أما تَرضی أن تکونَ مِنّی بمَنزِلة هارونَ مِن موسی غیر أنّه لا نبیّ بعدی؟(8)

ص:111


1- 9 . دلائل الصدق 2/359 [(6/623) من الطبعة الحدیثة)].
2- 10 . الغدیر 1/(289-278)، [3/(408-393) من الطبعة الحدیثة].
3- 11 . المراجعات /303.
4- 12 . فضائل الخمسة 1/(384-380).
5- 13 . صحیح البخاری 4/208 (5/89، ح202).
6- 14 . صحیح البخاری 5/129 (6/18، ح 408).
7- 1 . صحیح مسلم 4/1870، ح30.
8- 2 . صحیح مسلم 4/1870، ح31.

ذکر السیّد البحرانی مأة حدیث من مصادر العامة بالنسبة إلی حدیث المنزلة فراجع کتابه غایة المرام.(1)

قال معلّم الأُمّة الشیخ المفید فی دلالة هذا الحدیث: «فتضمّن هذا القول من رسول اللّه صلی الله علیه و آله نصَّه علیه بالإمامة، وإبانته عن الکافّة بالخلافة، ودلّ به علی فضلٍ لم یَشْرَکه فیه سواه، وأوجَب له به علیه السلام جمیعَ منازل هارون من موسی، إلاّ ما خصّه العُرْف من الاُخوّة واستثناه هو علیه السلام من النبوّة.

ألا تری أنّه _ علیه وآله السلام _ جَعَل له کافّةَ منازل هارون من موسی، إلاّ المستثنی منها لفظا أو عقلاً. وقد علم کلُّ من تأمَّلَ معانِیَ القرآن، وتصفّح الروایات والاْءخبار، أنّ هارون علیه السلام کان أخا موسی لأبیه واُمّهِ وشریکَه فی أمره، ووزیرَه علی نبوّته وتبلیغِه رسالات ربّه، وأنّ اللّه تعالی شَدَّ به أزرَه، وأنّه کان خلیفتَه علی قومه، وکان له من الإمامة علیهم وفَرْضِ الطاعةِ کإمامته وفَرْضِ طاعته، وأنّه کان أحبَّ قومه إلیه وأفضلَهم لدیه.

قال اللّه _ عزّوجلّ _ حاکیا عن موسی علیه السلام : «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی * وَیَسِّرْ لِی أَمْرِی * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی * یَفْقَهُوا قَوْلِی * وَاجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَأَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی»(2) فأجاب اللّه تعالی مسألتَه وأعطاه سُؤْلَهُ فی

ذلک واُمنِیَّتَه، حیث یقول: «وَقالَ مُوسی لاِءَخِیهِ هارُونَ اخْلُفْنِی فِی قَوْمِی وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِیلَ الْمُفْسِدِینَ»(3).

فلما جَعَل النبیُ صلی الله علیه و آله علیّا علیه السلام منه بمنزلة هارون من موسی، أوجَب له بذلک جمیعَ ما عَدَدناه، إلاّ ما خصَّه العُرْفُ من الأُخُوّة واستثناه من النُبوَّة لفظا.

وهذه فضیلةٍ لم یشرَک فیها أحدٌ من الخلق أمیرَالمؤمنین علیه السلام ولا ساواه فی معناها ولا قاربه فیها علی حال، ولو عَلِم اللّه تعالی أنَّ بنبیّه علیه السلام فی هذه الغَزاة حاجةً إلی الحرب

ص:112


1- 3 . غایة المرام 1/(222-175).
2- 4 . سورة طه /25-32.
3- 1 . سورة الأعراف /142.

والاْءنصار، لَما أَذِنَ له فی تخلیفِ أمیرالمؤمنین علیه السلام عنه حَسَب ما قدّمناه، بل عَلِم أَنّ المصلحةَ فی استخلافه، وأنَّ إقامته فی دار هِجرته مُقامه أفضلُ الاْءعمال، فدبَّر الخلقَ والدین بما قضاه فی ذلک وأمضاه، علی ما بیّناه وشرحناه»(1).

9_ تبلیغ سورة البراءة: تواترت الروایات بین الفریقین بإرجاع أبیبکر من تبلیغها وإرسال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بها والواقعة حدثت عام التاسع من الهجرة النبویة وهی علی ما فی مصادر العامة(2): «إنّ النبیَّ صلی الله علیه و آله بعث أبابکر ببراءة إلی أهل مکة: لا یحج العام مشرک ولا یطوف بالبیت عریان ولا یدخل الجنة إلاّ نفس مسلمة ومن کان بینه وبین رسول اللّه مدّة فأجله إلی مدّته واللّه بریء من المشرکین ورسوله، قال: فسار بها ثلاثا، ثمّ قال لعلیٍّ: الحقه، فردَّ علیَّ أبابکر وبلغها أنت، قال: ففعل فلما قدم علی النبی أبوبکر بکی وقال: یا رسول اللّه أحدث فیَّ شیء؟ قال: لا ولکن أمرت أنْ لا یبلغها إلاّ أنا أو رجل منّی»(3).

وقد ذکر نصوص الروایات العامیات السیّد هاشم البحرانی فی غایة المرام(4).

والعلاّمة الأمینی قدس سره بعد أن عدّ أکثر من سبعین شخصا من العامة فی القرون المتمادیة رووها قال وفی الاستدلال بها: «وفی القصة إیعاز إلی أنّ من لا یستصلحه

الوحی المبین لتبلیغ عدّة آیات من الکتاب کیف یأتمنه علی التعلیم بالدین کلّه، وتبلیغ الأحکام والمصالح کلّها»(5).

بل کیف یأتمنه علی إمامة الاُمّة والخلافة بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وبدلاً منه؟!!

ص:113


1- 2 . الارشاد 1/(158-156).
2- 3 . مسند أحمد 1/150 و 151؛ فضائل الصحابة 2/562، ح946 و 2/640، ح 1088؛ صحیح البخاری 1/165، ح35 و 6/124، ح177؛ تفسیر الطبری 10/76 من الطبعة الحدیثة (10/46)؛ والمناقب /165 للخوارزمی.
3- 4 . ولایت و امامت /176 للمؤلِّف.
4- 5 . غایة المرام 2/(92-85).
5- 1 . الغدیر 7/(350-338)ا [6/(495-476) من الطبعة الحدیثة].

«فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ»(1).

10_ حدیث الرأیة: فی واقعة الخیبر عام السابع الهجری فی فتح أحدی قلاعه المسماة ب_ «القموص» أو «الناعم» حیث أرسل النبی صلی الله علیه و آله أبابکر فی الیوم الأوّل مع الجیش المسلمین فرجع من دون فتح ثمّ فی الیوم الثانی أرسل صلی الله علیه و آله عمر فرجع من دون ظفر وفی الیوم الثالث أرسل صلی الله علیه و آله أحدا من الأنصار فرجع هکذا ثمّ قال محمّد بن عمر الواقدی المتوفی سنة 207 فی کتابه المغازی ما نصه: «... فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لأعطینَّ الرأیة غدا رجلاً یحبّه اللّه ُ ورسولُهُ یفتح اللّه علی یدیه، لیس بِفَرّار، أبشر یا محمّد بن مسلمة غدا إن شاء اللّه یقتل قاتل أخیک وتولی عادیة الیهود فلما أصبح أرسل إلی علی بن أبیطالب علیه السلام وهو أرمد فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إلیه، فقال: افتح عینیک. ففتحهما، فتفل فیهما. قال علی علیه السلام : مارمدت حتّی الساعة. ثمّ دفع إلیه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر فکان أوّل من خرج إلیهم الحارث أخو مرحب فی عادیته فانکشف المسلمون وثبت علی علیه السلام فاضطربا ضربات فقتله علی علیه السلام ورجع أصحاب الحارث إلی الحصن فدخلوه واغلقوه علیهم فرجع المسلمون إلی موضعهم وخرج مرحب وهو یقول:

قد علمت خیبر أنّی مَرْحَبُ شاکی السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

أضرب أحیانا وحینا أضرب

فحمل علی علیه السلام فقطره علی الباب وفتح الباب وکان للحصن بابان»(2).

وقد نقل البخاری الحدیث فی مواضع متعددة من صحیحه(3) منها: بسنده «عن سَلَمة بن الأکوع، قال: کان علیّ علیه السلام [قد] تخلّف عن النبیّ صلی الله علیه و آله فی خیبر، وکان به رَمَدٌ،

ص:114


1- 2 . سورة یونس /35.
2- 3 . المغازی 2/654.
3- 4 . فراجع صحیح البخاری 4/133، ح 178 و 5/87، ح197 و 5/279، ح230 و 231 (4/20).

فقال: أنا أتخلّف عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ! فخرج علیّ فلحق بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، فلمّا کان مساء اللیلة التی فتحها [اللّه] فی صباحها، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لاُعطینّ الرایة _ أو لیأخُذنّ الرایة _ غدا رجلاً یُحبّه اللّه ورسوله _ أو قال: یُحبّ اللّه ورسوله _ یفتح اللّه علیه، فإذا نحن بعلی بن أبیطالب وما نرجوه، فقال: هذا علیّ بن أبیطالب، فأعطاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ففتح اللّه علیه»(1).

وأمّا دلالته: هل یصلح للإمامة العظمی والخلافة الکبری بدلاً مِن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله مَنْ یحبُّ اللّه َ ورسولَه، ویحبّه اللّه ُ ورسولُه ویفتح اللّه علی یدیه ولیس بفرّار أو مَنْ فَرَّ مِنْ العدوّ ورجع خائبا مکسورا مأیوسا من دون فتح ولا ظفر؟! فَالْعَقْلُ حاکم وحکمه واضح.

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من السنة الشریفة وهذا غیض من فیض وقطرة من بحارها الواردة فی شأن مولانا ومقتدانا وسیّدنا ووصیّ نبیّنا وخلیفته من دون فصل بعده صلی الله علیه و آله أسداللّه وأسد رسوله أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب علیه السلام ولتفصیلها فراجع إلی الکتب المفصلة فی هذا الباب والحمد للّه علی «أوّل النعم»(2).

ج: الإجماع

قال الشیخ الأعظم: «وأمّا الإجماع فغیر خفیّ»(3).

أقول: الإجماع من المسلمین بطوائفهم المتعددة وعقائدهم المختلفة وآراءهم المتشتّة ثابت علی ولایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأنّه أولی من المؤمنین بأنفسهم.

والإجماع من الطائفة المحقّة الشیعة الإمامیة الاِثنی عشریة ثابت علی ولایة أمیرالمؤمنین علیّ بن أبیطالب وأحد عشر من اُولاده المعصومین علیهم السلام .

ص:115


1- 1 . صحیح البخاری 5/88، ح 198 (4/12).
2- 2 . ورد فی صحیحة الفضیل عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: من وجد برد حبّنا فی کبده فلیحمد اللّه علی أوّل النعم، قال: قلت: جعلت فداک، ما أوّل النعم؟ قال: طیب الولادة. [وسائل الشیعة 9/547، ح10].
3- 3 . المکاسب 3/548.

والإجماع من الفِرَق الشیعیة المتعددة ثابت علی ولایة أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام وإن اختلفوا فی مابعده علیه السلام کالزیدیة والإسماعیلیة والفطحیة والواقفة وغیرهم.

وکذا الأمر بالنسبة إلی تفضیل أمیرالمؤمنین علیه السلام علی غیره من أصحاب رسول

اللّه صلی الله علیه و آله وافقنا _ الشیعة بالمعنی العام _ جماعة من العامة الذاهبین إلی مذهب الاعتزال فی عقیدتهم کما نقل عنهم ابن أبیالحدید المعتزلی فی أوّلِ شرحه علی نهج البلاغة واختاره حیث یقول: «وقال البغدادیون قاطبة ؛ قدماؤهم ومتأخروهم، کأبیسهل بِشْر بن المعتمر، وأبیموسی عیسی بن صبیح، وأبیعبداللّه جعفر بن مبشّر، وأبیجعفر الإسکافی، وأبیالحسین الخیاط، وأبیالقاسم عبداللّه بن محمود البلْخِیّ وتلامذته: إنّ علیّا علیه السلام أفضلُ من أبیبکر.

وإلی هذا المذهب ذهب من البصریین أبوعلیّ محمّد بن عبدالوهاب الجُبّائیّ أخیرا، وکان من قبلُ من المتوقّفین، کان یمیل إلی التفضیل ولا یصرّح به، وإذا صنّف ذهب إلی الوقف فی مصنّفاته. وقال فی کثیر من تصانیفه: إن صحّ خبرُ الطّائر فعلیٌّ أفضل.

ثمّ إن قاضیَ القضاة(1) رحمه الله ذکر فی شرح «المقالات» لأبیالقاسم البلخیّ أنّ أباعلیّ رحمه الله ما مات حتّی قال بتفضیل علیّ علیه السلام ؛ وقال: إنّه نقل ذلک عنه سماعا، ولم یوجد فی شیء من مصنّفاته. وقال أیضا: إن أباعلیّ رحمه الله یوم مات استدنَی ابنه أباهاشم إلیه، _ وکان قد ضَعُف عن رفع الصوت _ فألقی إلیه أشیاء، من جملتها القولُ بتفضیل علیّ علیه السلام .

وممن ذهب من البصریین إلی تفضیله علیه السلام الشیخ أبوعبداللّه الحسین بن علیّ البصریّ _ رضی اللّه عنه _ ، کان متحققا بتفضیله، ومبالغا فی ذلک، وصنّف فیه کتابا مفردا.

وممن ذهب من البصریین قاضی القضاة أبوالحسن عبدالجبار بن أحمد رحمه الله ذکر ابن مَتّویه عنه فی کتاب الکفایة فی علم الکلام أنه کان من المتوقفین بین علیّ علیه السلام وأبی بکر، ثمّ قطع علی تفضیل علیّ علیه السلام بکامل المنزلة.

ومن البصریین الذاهبین إلی تفضیله علیه السلام أبومحمّد الحسن بن مَتّویه صاحب

ص:116


1- 1 . هُوَ أحْمَد بن عبدالجبّار الهمذانیّ المعتزلیّ.

«التذکرة» نصّ فی کتاب «الکفایة» علی تفضیله علیه السلام علی أبیبکر؛ واحتجّ لذلک، وأطال فی الاحتجاج.

فهذان المذهبان کما عرفت.

وذهب کثیر من الشیوخ رحمهم الله إلی التوقف فیهما؛ وهو قول أبیحذیفة واصل بن عطاء، وأبیالهُذَیْل محمّد بن الهُذَیْل العلاّف؛ من المتقدمین. وهما _ وإن ذهبا إلی التوقّف بینه علیه السلام وبین أبیبکر وعمر_ قاطعان علی تفضیله علی عثمان... .

وأما نحن فنذهب إلی ما یذهب إلیه شیوخنا البغدادیون؛ من تفضیله علیه السلام . وقد ذکرنا فی کتبنا الکلامیة ما معنی الأفضل؛ وهل المراد به الأکثر ثوابا أو الأجمعُ لمزایا الفضل والخلال الحمیدة، وبیّنا أنّه علیه السلام أفضلُ علی التفسیرین معا»(1).

وفی هذا المجال علیک بمراجعة رسالة تفضیل بنیهاشم ورسالة تفضیل علی علیه السلام کلاهما بقلم أبیعثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعروف المُتَوَفی سنة 255ق _ وکان عثمانیا مروانیا _(2)، وَهُما مَذْکُوْرانِ فی أوّل کتاب کشف الغُمَّةِ فی معرفة الأئمة(3) لعلی بن عیسی الإربلی المتوفی سنة 692، وقال الجاحظ فی الرسالة الثانیة: «... فثبت بما ذکرناه من إجماع الفریقین ودلالة الکتاب والسنة أنّ علیّا أفضل(4)... وبقی أمیرالمؤمنین علی ابن أبیطالب _ صلوات اللّه علیه _ فیکون أحقّ بالإمامة لما أجمعت علیه الاُمّة ولدلالة الکتاب والسنة علیه»(5).

ثمّ لا ینقضی تعجّبی عن اعتراض المحقّق المُروِّج رحمه الله علی الاستدلال بالإجماع _ بعد اعتراضه بأنّه من الضروریات _ فی المقام حیث یقول: «لکن لا مسرح للاستدلال

ص:117


1- 1 . شرح نهج البلاغة 1/(9-7).
2- 2 . علی ما قاله الإربلی فی کشف الغمة 1/85.
3- 3 . کشف الغمة 1/(85-66)، طبع المجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام عام 1426.
4- 4 . کشف الغمة 1/82.
5- 5 . کشف الغمة 1/85.

بالإجماع هنا، لعدم کونه دلیلاً مستقلاً حینئذ»(1).

د: العقل القطعی
اشارة

قسّم الشیخ الأعظم الدلیل العقلی إلی قسمین:

1_ الدلیل العقلی المستقل

(2)

قال: «فالمستقل منه [أی من الدلیل العقلی] حکمه بوجوب شکر المنعم بعد معرفة أنّهم اُولیاء النعم»(3).

مراده قدس سره : إنّهم علیهم السلام وَسائطُ للفیض الإلهی فهم اُولیاء النعم والعقل یستقل بوجوب

شکر المنعم، ولا یتُّم هذا الشکر إلاّ بإطاعتهم والتسلیم لهم وقبول ولایتهم علیهم السلام .

ویرد علیه: أوّلاً: ما یترتب علی ترک حُکْمِ العقل المستقل بلزوم شکر المنعم ومخالفته هو الذَّم أو قطع الإحسان من المحسن والمنعم وکلاهما أجنبیان عن العقاب، وما هو المهم هنا من إثبات لزوم متابعتهم ونفوذ تصرفاتهم.

وثانیا: وجوب شکر المنعم لا یثبت وجوب معرفة المنعم، لأنّ شکره لا یتوقف علی معرفته. فمع عدم معرفتهم کیف یمکن الحکم بلزوم متابعة المجهول ونفوذ تصرفاته.

نعم، یُمْکِنُ إثبات وجوب معرفة المنعم باحتمال العقاب وظنّ الضرر علی فرض ترکها، ودفع الضرر المحتمل الذی یمکن أی یکون عقابا لازم عقلاً ویترتب علی مخالفته الضرر بمعنی العقاب، ولکن هذا البیان لا یجری فی وجوب الطاعة ولزوم المتابعة ونفوذ التصرفات، لأنّ مع الشک فی هذه الأُمور تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان. فلا یتم هذا الاستدلال.

اللهم إلاّ أن یقال: شکر المنعم یعنی الخضوع التام للمنعم فی جمیع الأمور فلا بأس

ص:118


1- 6 . هدی الطالب 6/135.
2- 7 . الدلیل العقلی المستقل: هو الدلیل الذی صغراه وکبراه ومفادهما من العقل ولا یحتاج إلی ضمّ مقدمة خارجیة، بل هو [العقل] یَتَکَفَّلُ لإثبات النتیجة بنفسه کحکم العقل بوجود التحسین والتقبیح الْعَقْلِیَّیْنِ.
3- 8 . المکاسب 3/548.

بشموله فی وجوب الطاعة ولزوم المتابعة ونفوذ التصرفات، ولکن دون إثبات وجوب هذا الشکر خَرْطٌ للقتاد.

2_ الدلیل العقلی غیر المستقل

(1)

قال الشیخ الأعظم: «والغیر المستقلّ حکمه بأنّ الاُبوّة إذا اقتضت وجوب طاعة الأب علی الإبن فی الجملة، کانت الإمامة مقتضیة لوجوب طاعة الإمام علی الرعیّة بطریق أولی؛ لأنّ الحقّ هنا أعظم بمراتب، فتأمّل»(2).

مراده قدس سره : حکم العقل الذی یتوقف علی مقدمة شرعیة _ وهی ولایة الأب ووجوب طاعته شرعا _ ، بالاُولویة بعد ثبوت هذه المقدمة الشرعیة بحکم العقل بالاولویة القطعیة بولایة الإمام المعصوم علیه السلام ولزوم طاعته.

قال المحقّق الاصفهانی: «إنّ الاُبوة لیست إلاّ حیثیة مقدمیة الأب إعدادا لتکوین الولد، فإذا کانت مقتضیة لوجوب إطاعته فی أوامره الشخصیة شرعا کانت المقدمیة فی مجاری الفیض ووسائط التکوین أقوی، فتجب إطاعتهم علیهم السلام بنحو أولی.

وهذا التقریب أولی ممّا ذکره قدس سره من کون حقّ الإمام علیه السلام علی الرعیة أعظم، فإنّ حیثیة الإمامة والرعیة حیثیة التربیة الروحانیة باخراجهم من ظلمة الجهل إلی نور العلم، فهو ملاک آخر غیر ملاک الأُبوة والمقدمیة للتکوین»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: لم تتم المقدمة الشرعیة وهی ولایة الأب ووجوب طاعته، بل تمّت حرمة إیذاء الوالدین الذی ینتهی إلی عقوقهما کما علیه شیخنا الاستاذ رحمه الله (4).

وثانیا: علی فرض وجوب إطاعة الوالد فمن المعلوم أنّ إطاعته فی جمیع المراتب لیست واجبة مثلاً إذا أمره بتملیک أمواله له لا یجب ذلک علی الولد قطعا «فکیف یمکن

ص:119


1- 1 . الدلیل العقلی غیر المستقل: هو الدلیل الذی فی ترتب النتیجة علیه نحتاج إلی ضمّ مقدمة خارجیة غیر الأحکام العقلیة نحو مباحث الاستلزامات العقلیة.
2- 2 . المکاسب 3/548.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/383 للمحقّق الاصفهانی.
4- 2 . إرشاد الطالب 4/202.

التعدی منه إلی وجوب إطاعة الأئمة علیهم السلام مطلقا، إذ لم یثبت وجوب الإطاعة فی حق الأب مطلقا وفی جمیع المراتب حتّی یمکن التعدّی منه إلی وجوبها فی الأئمة علیهم السلام مطلقا»(1).

وثالثا: «المناط فی وجوب إطاعة الأب غیر معلوم، ولیس المدرک فی وجوب إطاعته عبارة عن کونه موجبا لحیاة الولد حتّی نتعدّی منه إلی وجوب إطاعة الأئمّة علیهم السلام وإلاّ للزم وجوب إطاعة من أنقذ أحدا من الغرق أو المرض لأنّه أوجب حیاته ومع ذلک لا یجب علیه إطاعته بوجه، ویحتمل أن یکون المناط هو تربیة الولد فعلاً وهی مفقودة فی الأئمّة علیهم السلام ».

ورابعا: قال المحقّق الاصفهانی فی نقد مقالته: «فاقتضاء حقٍّ لوجوب الإطاعة لا یلازم اقتضاء حقٍّ آخر لوجوب الإطاعة شرعا بالمساواة فضلاً عن الاُولویة، وإذا لو حظ حیثیة التربیة؛ وأنّ تربیة الروح أعظم من تربیة الجسم، فلازمه وجوب إطاعة کل متعلِّم لمعلِّمه شرعا مع أنّه لیس کذلک فتدبر»(2).

فلا یتم استدلال الشیخ الأعظم بالعقل القطعی ولعلّه قدس سره أمرنا بالتأمل فیه.

ولکن یمکن الاستدلال بحکم العقل القطعی غیر المستقل بمایلی:

الخلافة عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله والإمامة العظمی والولایة الکبری مقام رفیع لا یمکن عقلاً أن تصل إلی کلّ عامی جاهل بالأحکام الشرعیة بحیث یکون کل النّاس أفقه

منه حتّی المخدرات فی البیوت، ویحکم بغیر ما أنزل اللّه فی فدک وغیر فدک ویمیت السنة ویحیی البدعة وقال بالنسبة إلی بِدَعِهِ: «نعم البدعة هذه»(3)، ومَنْ لیس له الفضائل من التقوی والعلم والجهاد والإیمان، ولم تصل إلی الکافر الفاسق الغادر الکذّاب، مع فرض وجود فرد یُنسب إلیه کل الفضائل وهو مولانا ومقتدانا وإمامنا أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب _ علیه صلوات المصلین _ والعقل حاکم بالحکم القطعی بینهم فی ما أقوله.

ص:120


1- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160.
2- 4 . حاشیة المکاسب 2/383.
3- 1 . کما فی صحیح البخاری 3/58 بالنسبة إلی صلاة التراویح، موطأ مالک 1/114، ح3.

والشاهد علی أنّه ربّ الفضائل وتنسب إلیه علیه السلام مقالة ابن أبیالحدید المعتزلی فی أوّل شرحه علی نهج البلاغة حیث یقول: «وما أقولُ فی رجل أقَرّ له اعداؤه وخصومه بالفضل، ولم یمکنهم جَحْدُ مناقبه، ولا کتمانُ فضائله، فقد علمتَ أنه استولی بنو أمیةَ علی سلطان الإسلام فی شرق الأرضِ وغربها، واجتهدوا بکلّ حیلة فی إطفاء نوره، والتحریضِ علیه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه علی جمیع المنابر، وتوعّدوا مادِحِیه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من روایة حدیث یتضمّن له فضیلة، أو یرفع له ذکرا، حتّی حظَروا أنْ یسمّی أحد باسمه؛ فما زاده ذلک إلاّ رفعةً وسُمُوّا؛ وکان کالمسک کلّما سُتِر انتشر عَرْفه، وکلّما کُتِم تَضوَّع نَشْرُه؛ وکالشمس لا تُسْتَر بالراح، وکضوْء النهار إن حُجِبت عنه عین واحدة، أدرکته عیون کثیرة!

وما أقول فی رجل تُعْزَی إلیه کلُّ فضیلة، وتنتهی إلیه کل فِرْقة، وتتجاذبه کلُّ طائفة، فهو رئیس الفضائل ویَنبوعها، وأبو عُذْرِها، وسابق مضمارها، ومجلِّی حَلْبتِها، کلُّ مَنْ بزغ فیها بعده فمنه أخذ، وله اقتفی، وعلی مثاله احتذی.

وقد عرفت أنّ أشرفَ العلوم هو العلم الإلهیّ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فکان هو أشرفَ العلوم. ومن کلامه علیه السلام اقتُبِس، وعنه نُقِل، وإلیه انتهی؛ ومنه ابتدأ، فإنّ المعتزلة(1) _ الذین هم أهلُ التوحید والعدْل، وأرباب النظر، ومنهم تعلَّم النّاس هذا الفن _ تلامذتُه وأصحابه؛ لأنّ کبیرَهم واصل بنُ عطاء تلمیذُ أبیهاشم عبداللّه بن محمّد بن الحنفیة(2)، وأبوهاشم تلمیذ أبیه، وأبوه تلمیذه علیه السلام . وأما الأشعریة فإنّهم ینتمون إلی أبیالحسن علی بن [إسماعیل بن] أبیبشر الأشعریّ، وهو

تلمیذ أبی علیّ الجُبائیّ، وأبو علیّ أحد مشایخ المعتزلة؛ فالأشعریة ینتهون بأخَرَةٍ إلی أستاذ المعتزلة ومعلّمهم، وهو علی بن أبیطالب علیه السلام .

وأما الإمامیة والزیدیة فانتماؤهم إلیه ظاهر.

ص:121


1- 2 . أنظر أمالی المرتضی 1/148 وما بعدها؛ فی کلام المؤلف عن سند المعتزلة إلی علیّ علیه السلام .
2- 3 . هو إمام الْکَیْسانِیَّةِ؛ وعنه انتقلت البیعة إلی بنی العباس. (تنقیح المقال 2/212 من الطبعة الحجریة).

ومن العلوم: علم الفقه؛ وهو علیه السلام أصله وأساسه، وکلّ فقیه فی الإسلام فهو عیال علیه، ومستفید من فقهه؛ أما أصحابُ أبیحنیفة کأبییوسف ومحمّد وغیرهما، فأخذوا عن أبیحنیفة، وأما الشافعیّ فقرأ علی محمّد بن الحسن، فیرجع فقهه أیضا إلی أبیحنیفة، وأما أحمد بن حنبل، فقرأ علی الشافعی فیرجع فقهه أیضا إلی أبیحنیفة؛ وأبوحنیفة قرأ علی جعفر بن محمّد علیه السلام ، وقرأ جعفر علی أبیه علیه السلام ، وینتهی الأمر إلی علیّ علیه السلام . وأما مالک بن أنس، فقرأ علی ربیعة الرأی، وقرأ ربیعة علی عِکْرمة، وقرأ عکرمة علی عبداللّه بن عباس، وقرأ عبداللّه بن عباس علی علیّ بن أبیطالب؛ وإن شئت رددتَ إلیه فقهَ الشافعیّ بقراءته علی مالک کان لک ذلک؛ فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

وأما فقه الشیعة: فرجوعه إلیه ظاهر...

ومن العلوم: علم تفسیر القرآن، وعنه أُخِذَ، ومنه فُرّع. وإذا رجعتَ إلی کتب التفسیر علمتَ صحة ذلک؛ لأنّ أکثره عنه وعن عبداللّه بن عباس، وقد علم الناس حالَ ابن عباس فی ملازمته له، وانقطاعه إلیه، وأنّه تلمیذُه وخرّیجه. وقیل له: أین علمک من علم ابن عمک؟ فقال: کنِسْبة قطرة من المطر إلی البحر المحیط.

ومن العلوم: علمُ الطریقة والحقیقة، وأحوال التصوّف؛ وقد عرفتَ أن أربابَ هذا الفنّ فی جمیع بلاد الإسلام؛ إلیه ینتهون، وعنده یقفون؛ وقد صرّح بذلک الشِّبْلیّ، والْجُنید، وسَرِیّ(1)، وأبویزید البِسْطامیّ، وأبومحفوظ معروف الکرخیّ؛ وغیرهم. ویکفیک دَلالة علی ذلک الخِرْقة(2) التی هی شعارهم إلی الیوم، وکونهم یُسنِدونها بإسناد متصل إلیه علیه السلام .

ص:122


1- 1 . هو سری بن المُغَلِّس السَّقَطی؛ خال الجنید وأستاذه، وصاحب معروف الکرخی؛ وأوّل من تکلم ببغداد فی لسان التوحید وحقائق الأحوال. مات سنة 251 [وقبره قائمٌ إلی الیوم فی المقبرة الشُّونِیزیة المعروفةِ بمقبرة الجُنید فی الجانب الغربیّ من بغداد]. (طبقات الصوفیة للسلمی /48).
2- 2 . فصل السهروردی فی الباب الثانیعشر من کتابه عوارف المعارف (4/191 وما بعدها _ علی هامش الإحیاء) الکلام فی شرح خرفة المشایخ الصوفیة ولبسها. [ومن مأثور قول العلاّمة المُفَسِّر الشهیر أبی الثناء السیّد محمود الآلوسیّ البغدادی الشافعیّ ثمّ الحنفیّ (ت 1270ه) قولُهُ فی «غرائب الاغتراب»: «فَلَبِسْتُ الْخِرْقَةَ وَإنْ کان فی سَنَدِها خُرُوْق»].

ومن العلوم: علم النحو والعربیة؛ وقد علم النّاس کافة أنّه هو الذی ابتدعه وأنشأه، وأمْلَی علی أبیالأسود الدؤلیّ جوامعَه وأصوله، من جملتها: الکلام کلّه ثلاثة أشیاء: اسم وفعل وحرف. ومن جملتها: تقسیم الکلمة إلی معرفة ونکرة، وتقسیم وجوه الإعراب إلی الرفع والنصب والجر والجزم(1)، وهذا یکاد یُلحق بالمعجزات؛ لأن القوة البشریة لا تفِی بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.

وإن رجعت إلی الخصائص الخُلقیة والفضائل النفسانیة والدینیة وجدتَه ابن جَلاها وطَلاّع ثنایاها(2).

وأما الشجاعة: فإنه أنسَی النّاسَ فیها ذکر مَنْ کان قبله، ومحا اسم من یأتی بعده، ومقاماتُه فی الحرب مشهورة یُضرب بها الأمثال إلی یوم القیامة؛ وهو الشجاع الذی ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من کتَیبة، ولا بارز أحدا إلاّ قتله؛ ولا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولی إلی ثانیة؛ وفی الحدیث: «کَانَتْ ضَرَباته وترا»؛ ولما دعا معاویةَ إلی المبارزة لیستریح النّاس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفک، فقال معاویةُ: ما غششتنی منذ نصحتنی إلاّ الیوم! أتأمرنی بمبارزة أبیالحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرِق! أراک طمعت فی إمارة الشام بعدی! وکانت العرب تفتخر بوقوفها فی الحرب فی مقابلته، فأما قتلاه فافتخارُ رهطِهم بأنّه علیه السلام قتَلهم أظهر وأکثر، قالت أخت عمرو ابن عبدوَدّ ترثیه:

ص:123


1- 1 . معجم الأدباء 14/(42-50).
2- 2 . اقتباس من قول سحیم بن وثیل الریاحی: أنا ابُنُ جَلاَ وَطَلاَّعُ الثَّنَایا مَتَی أضَع الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِی وابن جلا، أی الواضح الأمر؛ وطلاع الثنایا: کنایة عن السمو إلی معالی الأمور، والثنایا فی الأصل: جمع ثنیة؛ وهی الطریق فی الجبل. وانظر اللسان 18/165.

لو کان قاتلُ عمرٍ وغیر قَاتِلِهِ بکیتُه أَبَدا ما دُمْتُ فی الأبدِ(1)

لکنَّ قاتِلَهُ مَنْ لا نظیر له وکان یُدْعَی أبوه بَیْضةَ الْبَلَدِ(2)

وانتبه یوما معاویة، فرأی عبداللّه بن الزبیر جالسا تحت رجلیه علی سریره، فقعد،

فقال له عبداللّه یداعبه: یا أمیرَالمؤمنین، لو شئت أن أفْتِکَ بک لفعلت، فقال: لقد شَجُعت بعدنا یا أبابکر، قال: وما الذی تنکره من شجاعتی وقد وقفتُ فی الصفّ إزاءَ علیّ بن أبیطالب! قال: لا جَرَم! إنه قتلک وأیاک بیسری یدیه، وبقیتِ الیمنی فارغةً، یطلب مَنْ یقتله بها.

وجملة الأمر أن کلَّ شجاع فی الدنیا إلیه ینتهی، وباسمه ینادی فی مشارق الأرض ومغاربها.

وأما القوّة والأیّد(3): فبه یُضرب المثل فیهما؛ قال ابن قتیبة فی «المعارف»(4): مَا صَارعَ أحدا قطّ إلاّ صرَعه. وهو الذی قلَع بابَ خَیْبَر، واجتمع علیه عُصبة من النّاس لیقلِبوه فلم یقلبوه؛ وهو الذی اقتلع هُبَلَ من أعلی الکعبة، وکان عظیما جدا، وألقاه(5) إلی الأرض. وهو الذی اقتلع الصخرة العظیمة فی أیام خلافته علیه السلام بیده بعد عَجْز الجیش کله عنها، وأنبط(6) الماء من تحتها.

وأمّا السخاء والجود: فحاله فیه ظاهرة؛ وکان یصوم ویَطْوِی ویؤثر بزاده؛ وفیه

ص:124


1- 3 . من أبیات ذکرها صاحب اللسان 8/395؛ وروایته: لَوْ کانَ قاتلَ عَمْرٍو غَیْر قاتله بکیتُه ما أقامَ الرّوحُ فی جَسَدِی لکِنّ قاتِلَهُ مَنْ لا یعابُ بِهِ وَکانَ یُدْعَی قدیما بیضة البلَدِ
2- 4 . بیضة البلد، یرید أبیطالب؛ أی أنه فرد لیس مثله فی الشرف کالبیضة التی هی تریکة وحدها، لیس معها غیرها؛ کذا فسر فی اللسان.
3- 1 . معناه: القُوّة أیضا.
4- 2 . المعارف /90.
5- 3 . فی نسخة: «فألقاه».
6- 4 . فی نسخة: «فأنبط».

أنزل: «وَیُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِینا وَیَتِیما وَأَسِیرا * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَلا شُکُورا»(1). وروی المفسرون أنه لم یکن یملک إلاّ أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم لیلاً، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرّا، وبدرهم علانیة؛ فأنزل فیه: «الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّیْلِ وَالنَّهارِ سِرّا وَعَلانِیَةً»(2)

وروی عنه أنّه کان یَسقِی بیده لنخْلِ قوم من یهود المدینة، حتّی مَجَلَت(3) یَده، ویتصدق بالأجْرة، ویشدُّ علی بطنه حجَرا.

وقال الشعبیّ وقد ذکره علیه السلام : کان أسخَی النّاس؛ کان علی الخُلُق الذی یحبّه اللّه: السخاء والجود، ما قال: «لا» لسائل قطّ.

وقال عدوّه ومُبْغضِه الذی یجتهد فی وَصْمِه معاویة بن أبیسفیان لِمَحْفَن(4) بن أبیمحْفَن الضبیّ لما قال له: جئتک مِنْ عند أبخل النّاس، فقال: ویحک! کیف تقول إنّه أبخل النّاس، لو مَلَک بیتا من تِبْر وبیتا من تِبْن، لأنفد تِبْره قبل تِبْنَه.

وهو الذی کان یکنُس بیوت الأموال ویصلّی فیها، وهو الذی قال: یا صفراء، ویا بیضاء، غرّی غیری. وهو الذی لم یخلِّفْ میراثا، وکانت الدنیا کلّها بیده إلاّ ما کان من الشام.

وأما الحلم والصفح: فکان أحلمَ النّاس عن ذَنْب، وأصفحَهم عن مسیء؛ وقد ظهر صحّة ما قلناه یومَ الجمل؛ حیث ظفِر بمرْوان بن الحکم _ وکان أعدی النّاس له، وأشدهم بغضا _ فصفح عنه.

وکان عبداللّه بن الزّبیر یشتِمه علی رؤس الأشهاد، وخطب یوم البصرة فقال: قد

ص:125


1- 5 . سورة الإنسان /9 و 10.
2- 6 . سورة البقرة /274.
3- 7 . مجلت یده، أی ثخن جلده وتعجر وظهر فیه ما یشبه البثر من العمل بالأشیاء الصلبة الخشنة؛ ومنه حدیث فاطمة، أنّها شکت إلی علیّ مجل یدیها من الطحن. النهایة لابن الأثیر 4/80.
4- 1 . کذا ضبطه الذهبی بالقلم فی المشتبه /464.

أتاکم الوَغَد(1) اللئیم علیّ بن أبیطالب _ وکان علیّ علیه السلام یقول: ما زال الزبیر رجلاً مِنّا أهلَ البیت حتّی شبّ عبداللّه _ فظفر به یوم الجمل، فأخذه أسیرا، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرَینَّک؛ لم یزده علی ذلک.

وظفِر بسعید بن العاص بعد وقعة الجمل بمکّة، وکان له عدوّا، فأعرض عنه ولم یقلْ له شیئا.

وقد علمتم ما کان من عائشة فی أمره، فلما ظفِر بها أکرمها، وبعث معها إلی المدینة عشرین امرأة من نساء عبدالقیس عمّمهنّ بالعمائم، وقلّدهنّ بالسیوف، فلما کانت ببعض الطریق ذکرتْه بما لا یجوز أن یُذکر به، وتأفّفت وقالت: هَتَک ستری برجاله وجنده الذین وکَلَهم بی، فلما وصلت المدینة ألقی النساء عمائمهنّ، وقلن لها: إنّما نحن نسوة.

وحاربه أهل البصرة، وضربُوا وجهه ووجوه أولاده بالسیوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفِر بهم رفع السیف عنهم، ونادَی منادیه فی أقطار العسکر: ألاَ لایُتبَع(2) مُولٍّ، ولا یُجهَزُ علی جَرِیح، ولا یُقتل مستأسر، ومن ألقی سلاحه فهو آمن، ومن تحیّز إلی عسکر الإمام فهو آمن. ولم یأخذ أثقالَهم، ولا سبیَ ذراریَّهم، ولا غَنِم شیئا من أموالهم، ولو شاء أن یفعل کلّ ذلک لفعل، ولکنّه أبی إلاّ الصفح والعفو وتقیّل سنةَ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یوم فتح

مکة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تُنْسَ.

ولما ملک عسکر معاویة علیه الماء، وأحاطوا بشریعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش کما قتلوا عثمان عطشا، سألهم علیّ علیه السلام وأصحابه أن یشرعوا(3) لهم شربَ الماء، فقالوا: لا واللّه، ولا قطرة حتّی تموت ظمأ کما مات ابن عفان؛ فلما رأی علیه السلام أنه الموتُ لامحالَة تقدم بأصحابه، وحمل علی عساکر معاویة حَمَلاَتٍ کثیفة، حتّی أزالهم عن مراکزهم بعد قتل ذَریع، سقطت منه الرؤس والأیدی، وملکوا علیهم الماء، وصار أصحاب معاویة فی الفلاة، ولا ماء لهم، فقال له أصحابه وشیعته: امنعهم الماء

ص:126


1- 2 . فی نسخة: «الوغب»؛ وهما بمعنی.
2- 3 . فی نسخة: «ألا یتبع مول».
3- 1 . کذا فی نسخة، وفی نسخة: «یسوغوا».

یا أمیرالمؤمنین، کما منعوک، ولا تَسقِهم منه قطرة، واقتلهم بسیوف العطش، وخذهم قبضا بالأیدی فلا حاجة لک إلی الحرب، فقال: لا واللّه لا أکافئهم بمثل فعلهم، أَفْسِحوا لهم عن بعض الشریعة، ففی حدّ السیف ما یغنی عن ذلک. فهذه إن نَسَبْتَها إلی الحلم والصفح فناهیک بها جمالاً وحسنا، وإن نسبتَها إلی الدّین والورع فأخلِقْ بمثلها أن تصدر عن مثله علیه السلام !

وأمّا الجهاد فی سبیل اللّه: فمعلوم عند صدیقه وعدوّه أنّه سیّد المجاهدین، وهل الجهاد لأحد من النّاس إلاّ له! وقد عرفتَ أنّ أعظمَ غزاة غزاها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأشدّها نکایة فی المشرکین بدر الکبری؛ قتل فیها سبعون من المشرکین، قتل علیٌّ نصفَهم، وقتل المسلمون والملائکة النصف الآخر. وإذا رجعتَ إلی مغازی محمّد بن عمر الواقدی وتاریخ الأشراف لیحیی بن جابر البلاذُری وغیرها علمتَ صحة ذلک، دعْ مَنْ قتله فی غیرها کأحُد والخندق وغیرهما؛ وهذا الفصل لا معنی للإطناب فیه؛ لأنّه من المعلومات الضروریة، کالعِلْم بوجود مکّة ومصر ونحوهما.

وأمّا الفصاحةُ: فهو علیه السلام إمام الفصحاء، وسیّد البلغاء؛ وفی(1) کلامه قیل: دون کلام الخالق، وفوق کلام المخلوقین. ومنه تعلّم النّاس الخطابة والکِتابة، قال عبدالحمید بن یحیی: حفظتُ سبعین خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت. وقال ابن نُباتة(2): حفظت من الخطابة کنزا لا یزیده الإنفاق إلاّ سعة وکثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علیّ بن أبیطالب.

ولما قال مِحْفَن بن أبیمِحْفَن لمعاویة: جئتُک من عند أعْیَا النّاس، قال له: ویحک! کیف یکون أعیا النّاس! فو اللّه ما سنّ الفصاحة لقریش غیره... .

وأمّا سجاحة الأخلاق، وبِشْر الوجه، وطلاقة المحیَّا، والتبسّم: فهو المضروبُ به المثل فیه حتّی عابه بذلک أعداؤه؛ قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دُعابة شدیدة. وقال

ص:127


1- 2 . فی نسخة: «وعن کلامه».
2- 3 . هو عبدالرحیم بن محمّد بن محمّد بن إسماعیل الفارقی الجذامی.

علیّ علیه السلام فی ذاک: عجبا لابن النابغة! یزعم لأهل الشام أن فیّ دعابة، وأنّی امرؤ تِلْعابة، وأعافِس وأمارس(1)! وعمرو بن العاص إنّما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم علی استخلافه: للّه أبوک لو لا دُعابة فیک! إلاّ أنّ عمر اقتصر علیها، وعمرو زاد فیها وسمّجها.

قال صعصعة بن صوحان وغیره من شیعته وأصحابه: کان فینا کأحدنا، لِینَ جانب، وشدة تواضع، وسهولة قیاد، وکنّا نهابه مهابة الأسیر المربوط للسیّاف الواقف علی رأسه.

وقال معاویة لقیس بن سعد: رحِم اللّه أباحسن؛ فلقد کان هشّا بشّا، ذا فُکاهة، قال قیس: نعم، کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یمزَحُ ویبتسم إلی أصحابه، وأراک تُسرّ حَسْوا فی ارتِغاء(2)، وتعیبه بذلک! أما واللّه لقد کان مع تلک الفکاهة والطلاقة أهیَبَ من ذی لِبدَتَیْن قد مسّه الطَّوی، تلک هیبة التّقوی، ولیس کما یهابک طَغامُ أهل الشام!

وقد بقیَ هذا الخُلُق متوارَثا متناقَلاً فی محبِّیه وأولیائه إلی الآن، کما بقیَ الجفاء والخشونة والوعورة فی الجانب الآخر، ومَنْ له أدنی معرفة بأخلاق النّاس وعوائدهم یعرف ذلک.

وأمّا الزهد فی الدنیا: فهو سیّد الزهاد، وبدَل الأبدال، والیه تشدُّ الرحال، وعنده تنُفْفَضُ الأحلاس؛ ما شِبعَ من طعام قطّ. وکان أخشنَ النّاس مأکلاً وملبسا؛ قال عبداللّه ابن أبیرافع: دخلت إلیه یوم عید، فقدّم جِرابا مختوما، فوجدنا فیه خبزَ شعیر یابسا مرضوضا، فقُدّم فأکل، فقلت: یا أمیرالمؤمنین، فکیف تختِمه؟ قال: خفت هذین الولدین أن یلُتّاه بسمن أوزیت.

وکان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، ولیف أخری، ونعلاه من لیف. وکان یلبَس

ص: 128


1- 1 . التلعابة؛ بفتح التاء وکسرها: الکثیر اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أیضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثیر فی النهایة 1/117 و 3/59 و 110، و 4/59 و 89.
2- 2 . فی المثل: «هو یسر حسوا فی ارتغاء»؛ یضرب لمن یظهر أمرا وهو یرید غیره. (السان العرب 19/46).

الکِرباسَ(1) الغلیظ، فإذا وجود کمه طویلاً بشَفرة؛ ولم یخِطْه، فکان لا یزال متساقطا علی ذراعیه حتّی یبقی سدیً لا لحمة له. وکان یأتدم إذا ائتدم بخلّ أو بملح؛ فإن ترقّی عن ذلک فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلک فبقلیل من ألبان الإبل؛ ولا یأکل اللحم إلاّ قلیلاً، ویقول: لا تجعلوا بطونَکم مقابر الحیوان. وکان مع ذلک أشدّ النّاس قوةً وأعظمهم أیْدا، لا یُنقِض(2) الجوع قُوّته، ولا یُخَوِّن(3) الإقلالُ مُنّته. وهو الذی طلّق الدنیا وکانت الأموال تُجبی إلیه من جمیع بلاد الإسلام إلاّ من الشام، فکان یفرّقها ویمزّقها، ثمّ یقول:

هذا جنایَ وخیاره فیهْ إذْ کلّ جانٍ یدُه إلی فیهْ(4)

وأمّا العبادة: فکان أعبدَ النّاس وأکثرَهم صلاة وصوما؛ ومنه تعلّم النّاس صلاة اللیل، وملازمة الأوراد وقیام النافلة؛ وما ظنّک برجل یبلغ من محافظته علی وِرده أن یُبْسَطُ له نِطَعٌ بین الصفّین لیلة الهرِیر، فیصلّی علیه وِرْدَه، والسهام تقع بین یدیه وتمرّ علی صماخیهِ یمینا وشمالاً، فلا یرتاع لذلک، ولا یقوم حتّی یفرُغ من وظیفته! وما ظنّک برجل کانت جبهته کثَفِنَة البعیر لطول سجوده.

وأنت إذا تأمّلت دعواتِه ومناجاتِه، ووقفتَ علی ما فیها من تعظیم اللّه سبحانه وإجلاله، وما یتضمّنه من الخضوع لهیبته، والخشوع لعزّته والاستخذاء له، عرفتَ ما ینطوِی علیه من الإخلاص، وفهمت من أیّ قلبٍ خرجتْ، وعلی أیّْ لسان جرت!

وقیل لعلی بن الحسین علیه السلام _ وکان الغایةَ فی العبادة: أین عبادتک من عبادة جَدّک؟ قال: عبادتی عند عبادة جدّی کعبادة جدّی عند عبادة رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ص:129


1- 1 . الکرباس بالکسر: ثوب من القطن الأبیض، معرب.
2- 2 . فی نسخة: «ینقص».
3- 3 . یخون: ینقص؛ وفی نسخة: «یخور».
4- 4 . البیت أنشده عمرو بن عَدِیٍّ حینما کان غلاما، وکان یخرج مع الخدم یجتنون الملک (جذیمة الأبرش) الکمأة؛ فکانوا إذا وجدوا کمأة خیارا أکلوها وأتوا بالباقی إلی الملک؛ وکان عمرو لا یأکل منه، ویأتی به کما هو، وینشد البیت. وانظر: القاموس 3/(259-260)؛ وحدیث علی ورد مفصلاً فی حلیة الأولیاء 1/81.

وأمّا قراءته القرآن واشتغاله به: فهو المنظور إلیه فی هذا الباب؛ اتفق الکلّ علی أنّه کان یحفظ القرآن علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولم یکن غیره یحفظه، ثمّ هو أوّلُ مَنْ جَمَعه؛ نقلوا کلّهم أنّه تأخّر عن بیعة أبیبکر؛ فأهل الحدِیث لا یقولون ما تقوله الشیعة من أنه تأخّر مخالفة للبیعة؛ بل یقولون: تشاغل بجمع القرآن؛ فهذا یدلّ علی أنّه أوّلُ مَنْ جمع

القرآن؛ لأنّه لو کان مجموعا فی حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لما احتاجَ إلی أن یتشاغل(1) بجمعه بعد وفاته صلی الله علیه و آله . وإذا رجعتَ إلی کتب القراءات وجدت أئمة القراء کلهم یرجعون إلیه؛ کأبیعمرو بن العلاء وعاصم بن أبیالنَّجود وغیرهما؛ لأنّهم یرجعون إلی أبیعبدالرحمن السُّلَمِیِّ القارئ، وأبوعبدالرحمن کان تلمیذه، وعنه أخذ القرآن؛ فقد صار هذا الفن من الفنون التی تنتهی إلیه أیضا، مثل کثیر مما سبق.

وأمّا الرأیُ والتدبیر: فکان من أسَدِّ النّاس رأیا، وأصحِّهم تدبیرا؛ وهو الذی أشار علی عمر بن الخطاب لما عزم علی أنْ یتوجّه بنفسه إلی حرب الروم والفرْس بما أشار. وهو الذی أشار علی عثمان بأمور کان صلاحه فیها، ولو قبلها لم یحدُث علیه ما حدث. وإنّما قال أعداؤه: لا رأیَ له؛ لأنّه کان متقیِّدا بالشریعة لا یری خلافَها، ولا یعمل بما یقتضی الدِّینُ تحریمه. وقد قال علیه السلام : لو لا الدین والتّقی لکنتُ أدهی العرب. وغیره من الخلفاء کان یعمل بمقتضی ما یستصلِحُه ویستوقفه؛ سواء أ کان مطابقا للشرع أم لم یکن. ولا ریب أنّ مَنْ یعمل بما یؤدی إلیه اجتهاده، ولا یقف مع ضوابط وقیود یمتنع لأجلها ممّا یری الصلاح فیه، تکون أحواله الدنیویة إلی الانتظام أقرب، ومَنْ کان بخلاف ذلک تکون أحواله الدنیویة إلی الانتثار أقرب.

وأما السیاسةُ: فإنه کان شدیدَ السیاسة، خشِنا فی ذات اللّه، لم یراقب ابنَ عمّه فی عمل کان ولاّه إیاه، ولا راقب أخاه عَقِیلاً فی کلام جَبَهه به. وأحرق قوما بالنار، ونقض دار مَصْقَلة بن هُبَیرة ودار جریر بن عبداللّه البَجَلِیّ، وقطع جماعةً وصلب آخرین.

ومن جملة سیاسته فی حروبه أیامُ خلافته بالجمل وصِفّین والنهروان، وفی أقلّ

ص:130


1- 1 . نسخة: «تشاغل».

القلیل منها مقْنَع، فإنّ کلَّ سائس فی الدنیا لم یبلغ وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مِمّا فعل علیه السلام فی هذه الحروب بیدِه وأعوانه.

فهذه هی خصائص البَشَر ومزایاهم قد أوضحنا أنّه فیها الإمام المتّبع فعلُه، والرئیس المقتفَی أثره.

وما أقول فی رجلٍ تحبّه أهلُ الذّمة علی تکذیبهم بالنبوّة، وتعظّمه الفلاسفة علی معاندتهم لأهل الملّة، وتصوِّرُ ملوک الفرنج والروم صورتَه فی بِیَعها وبیوت عباداتها، حاملاً سیفَه، مشمرا لحربه، وتصوِّر ملوکُ الترک والدّیْلم صورته علی أسیافها! کان علی

سیفِ عَضُد الدولة بن بُوَیْه وسیف أبیه رکن الدولة صورتُه، وکان علی سیف إلب أرسلان وابنه مَلکشاه صورته؛ کأنهم یتفاءلون به النصر والظفر.

وما أقولُ فی رجل أحبّ کلُّ واحدٍ أن یتکثّر به، وودّ کلُّ أحدٍ أن یتجمّل ویتحسّن بالانتساب إلیه؛ حتّی الفتوّة التی أحسن ما قیل فی حدّها: ألاّ تستحسنَ من نفسک ما تستقبحه من غیرک، فإنّ أربابها نسبوا أنفسهم إلیه، وصنّفوا فی ذلک کتبا، وجعلوا لذلک إسنادا أنهوْه إلیه، وقصروه علیه، وسَمَّوْه سیّدَ الفتیان، وعضّدوا مذهبهم إلیه بالبیت المشهور المرویّ، أنه سُمِع من السماء یوم أحُد:

لا سیفَ إلاّ ذوالفَقَا ر ولا فَتیً إلاّ علیّ

وما أقول فی رجل أبوه أبوطالب سیّد البطْحاء، وشیخ قریش، ورئیس مکة، قالوا: قلّ أنْ یسوَّد فقیر، وساد أبوطالب وهو فقیر لاَ مال له، وَکانت قریش تسمیّه الشیخ.

وفی حدیث عفیف الکندیّ، لما رأی(1) النبیّ صلی الله علیه و آله یصلِّی فی مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس: أیّ شیء هذا؟ قال: هذا ابن أخی، یزعم أنّه رسولٌ من اللّه إلی النّاس، ولم یتّبعه علی قوله إلاّ هذا الغلام _ وهو ابن أخی أیضا _ وهذه الامرأة، وهی زوجته. قال: فقلتُ: ما الذی تقولونه أنتم؟ قال: ننتظر ما یفعل الشیخ _ یعنی أباطالب. وأبوطالب هو الذی کَفَل رسولَ اللّه صلی الله علیه و آله صغیرا، وحماه وحاطه کبیرا، ومنعه من مشرکی

ص:131


1- 1 . الخبر فی أسد الغابة 3/414 مع اختلاف فی الروایة.

قریش، ولقِیَ لأجله عنتا عظیما، وقاسی بلاء شدیدا، وصبرَ علی نصره والقیام بأمره. وجاء فی الخبر أنّه لما توفی أبوطالب أوحِی إلیه علیه السلام وقیل له: اخرج منها، فقد مات ناصرک.

وله مع شرف هذه الأبوّة أنّ ابن عمه محمّد سیدُ الأولین والآخرین، وأخاه جعفر ذوالجناحین، الذی قال له رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أشبَهْتَ خَلْقی وخُلقی» فمر یحجل فرحا. وزوجته سیّدة نساء العالمین، وابنیه سیّدا شباب أهل الجنة؛ فآباؤه آباء رسول اللّه، وأمهاته أمهات رسول اللّه، وهو مسوط بلحمه ودمه، لم یفارقه منذ خلق اللّه آدم، إلی أن مات عبدالمطلب بین الأخوین عبداللّه وأبیطالب، وأمّهما واحدة، فکان منهما سیّدَا النّاس؛ هذا الأوّل وهذا التالی، وهذا المنذر وهذا الهادی!.

وما أقول فی رجل سَبَق النّاس إلی الهدی، وآمن باللّه وعبدَه، وکلّ من فی الأرض

یعبد الحجر، ویجحد الخالق؛ لم یسِقْه أحد إلی التوحید إلاّ السابق إلی کلِّ خیر، محمّد صلی الله علیه و آله .

ذهب أکثر أهلِ الحدیث إلی أنّه علیه السلام أوّل النّاس اتباعا لرسول اللّه صلی الله علیه و آله إیمانا به، ولم یخالف فی ذلک إلاّ الأقلّون. وقد قال هو علیه السلام : أنا الصدّیق الأکبر، وأنا الفاروق الأوّل، أسلمت قبل إسلام النّاس، وصلّیت قبل صلاتهم. ومن وقف علی کتب أصحاب الحدیث تحقّق ذلک وعلمه واضحا. والیه ذهب الواقدی، وابن جریر الطبری، وهو القول الذی رجّحه ونصره صاحب کتاب «الاستیعاب»(1).

ولأنّا إنما نذکر فی مقدمة هذا الکتاب جملةً من فضائله عَنّت بالعَرض لا بالقصد؛ وجب أن نختصر ونقتصر، فلو أردنا شرحَ مناقبه وخصائصه لاحتجْنا إلی کتاب مفرد

ص:132


1- 1 . الاستیعاب لابن عبدالبر النمری القرطبی 2/457.

یماثل حَجْم هذا بل یزید علیه، وباللّه التوفیق(1)»(2).

أقول: وهذا غیض من فیض واعتراف من عالمٍ سنیٍ معتزلیٍ مُنْصِفٍ بالنسبة إلی أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فیه کفایة «إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَهُوَ شَهِیدٌ»(3).

وأختم هذا المقال بما رواه أبوالقاسم علی بن محمّد بن علی الخزّاز القمی الرازی من أعلام القرن الرابع قال: «أخبرنا القاضی أبو الفرج المعافا بن زکریّا البغدادی(4)، قال:

حدَّثنا أبو سلمان أحمد بن أبی هراسة، قال: حدَّثنا إبراهیم بن إسحاق النهاوندی، عن عبداللّه بن حمّاد الأنصاری، قال: حدَّثنا إسماعیل بن أبی اُویس، عن أبیه، عن عبدالحمید الأعرج، عن عطاء، قال: دخلنا علی عبداللّه بن عبّاس وهو علیل بالطائف، فی العلّة الّتی

ص:133


1- 2 . وانظر ترجمته وأخباره أیضا فی: أسد الغابة 4/(16-40)؛ والاستیعاب 2/(256-274)؛ والإصابة 4/(269-271)؛ وإنباه الرواة 1/(10-12)؛ وتاریخ الإسلام للذهبی 2/(191-207)؛ وتاریخ بغداد 1/(133-138)؛ وتاریخ أبیالفدا 1/(181-182)؛ وتاریخ الطبری 6/(88-91)؛ وتاریخ ابن کثیر 7/(332-361) و 8/(1-13)؛ وتذکرة الحفاظ 1/(10-13)؛ وتهذیب الأسماء واللغات 1/(344-349)؛ وتهذیب التهذیب 7/(334-339)؛ وحلیة الأولیاء 1/(61-87)؛ والریاض النضرة 2/(153-249)؛ وشذرات الذهب 1/(49-51)؛ وصفة الصفوة 1/(119-144)؛ وطبقات ابن سعد 6/6؛ وطبقات القراء لابن الجزری 1/(546-547)؛ ومروج الذهب 2/(45-50)؛ والمعارف /(88-92)؛ ومعجم الأدباء 14/(41-50)؛ ومعجم الشعراء /(279-280)؛ ومقاتل الطالبین /(24-45)؛والنجوم الزهرة 1/(119-120).
2- 3 . شرح نهج البلاغة 1/(30-16).
3- 4 . سورة ق /37.
4- 5 . المعافی بن زکریّا المعروف بابن طراز، عامی المذهب ترجم له الخطیب وابن خلکان والذهبی، وذکروا أنه کان فقیها مأمونا فی روایته. وقال الخطیب: أعلم النّاس فی وقته بالفقه. یروی عن البغوی والمحاملی. أنظر: تاریخ بغداد 13/230؛ وفیات الأعیان 5/221؛ سیر أعلام النبلاء 16/544.

توفّی فیها، ونحن زهاء ثلاثین رجلاً من شیوخ الطائف وقد ضعف، فسلَّمنا علیه وجلسنا.

فقال لی: یا عطاء، مَنْ القوم؟ قلت: یا سیّدی هم شیوخ هذا البلد، منهم: عبداللّه بن سلمة بن حضرمی الطائفی وعمارة بن أبی الأجلح، وثابت بن مالک، فمازلت أعدّ له واحدا بعد واحد، ثمّ تقدَّموا إلیه فقالوا: یابن عمّ رسول اللّه، إنّک رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وسمعت منه ما سمعت، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمّة، فقوم قد قدَّموا علیا علی غیره، وقوم جعلوه بعد ثلاثة.

قال: فتنفَّس ابن عباس وقال: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: علی مع الحقّ، والحقّ مع علی، وهو الإمام والخلیفة من بعدی، فمن تمسّک به فاز ونجی، ومن تخلّف عنه ضلَّ وغوی، یلی تکفینی وغسلی ویقضی دینی، وأبو سبطیّ الحسن والحسین، ومن صلب الحسین تخرج الأئمّة التسعة، ومنّا مهدیّ هذه الاُمّة.

فقال له عبداللّه بن سلمة الحضرمی: یابن عمّ رسول اللّه فهلاّ کنت تعرّفنا قبل هذا؟ فقال: قد واللّه أدّیت ما سمعت، ونصحت لکم، ولکن لا تحبّون الناصحین.

ثمّ قال: اتّقوا اللّه عباد اللّه، تقیّة من اعتبر تمهیدا، واتقی فی وجل، وکمش(1) فی مهل، ورغب فی طلب، ورهب فی هرب، واعملوا لآخرتکم قبل حلول آجالکم، وتمسّکوا بالعروة الوثقی من عترة نبیّکم، فإنّی سمعته صلی الله علیه و آله یقول: من تمسّک بعترتی من بعدی کان من الفائزین.

ثمّ بکی بکاءا شدیدا، فقال له القوم: أتبکی ومکانک من رسول اللّه صلی الله علیه و آله مکانک؟ فقال لی: یا عطاء، إنّما أبکی لخصلتین: هول المطلع، وفراق الأحبّة.

ثمّ تفرَّق القوم عنه، فقال لی: یا عطاء، خذبیدی واحملنی إلی صحن الدار،

(فأخذناه بیده أنا وسعید، وحملناه إلی صحن الدار)، ثمّ رفع یدیه إلی السماء وقال: اللهمّ إنّی أتقرّب إلیک بمحمّد وآل محمّد، اللهمّ إنّی اتقرّب إلیک بولایة الشیخ علی بن أبی

ص:134


1- 1 . وکمش: شمَّر وجدَّ، ویقال: رجل کمش، أی عزوم ماض سریع فی أموره. انظر: النهایة فی غریب الحدیث 4/200؛ لسان العرب 6/343.

طالب. فما زال یکرّرها حتّی وقع إلی الأرض، فصبرنا علیه ساعة، ثمّ أقمناه فإذا هو میّت رحمه الله »(1).

وإذا ثبتت الولایة فی حقّ أمیرالمؤمنین علیه السلام فهی ثابتة فی شأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالطریق الاُولویة وفی شأن أولاده المعصومین علیهم السلام بالقیاس المساواة فی الإمامیة، والحمدللّه ربّ العالمین.

وبما ذکرنا ظهر ثبوت الولایة لهم علیهم السلام بالدلیل العقلی القطعی فلا یتم ما ذکره السیّد الخوئی قدس سره من: «أنّ الولایة بهذا المعنی إنّما ثبتت بالآیات والأخبار لا بالوجهین العقلیین أبدا»(2).

اللهم إلاّ أن یکون مراده قدس سره عدم تمامیة دلیلی الشیخ الأعظم کما مرّ منّا أیضا. والحمد للّه علی الولایة.

ص: 135


1- 1 . کفایة الأثر فی النصوص علی الأئمّة الاثنی عشر /75، ح5.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160.

السادس: أقسام ولایة النبی صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام

اشارة

تنقسم ولایتهم علیهم السلام علی أقسام متعددة منها:

1_ الولایة التکوینیة

وهی الولایة علی عالَم الکون والتکوین والوجود والموجودات بحیث إرادتهم وأوامرهم تنفذ فی عالَم الوجود، وعالَم الکون مسخرٌّ لهم ومشیتهم تجری فی عالَم الوجود وطاعتهم واجبة علی الموجودات فی عالم التکوین ولکن کلّ ذلک بحول من اللّه وقوته وبإذنه وإرادته ومشیته تبارک و تعالی. لا علی نحو الاستقلال بحیث انّهم بأنفسهم وبالاستقلال من اللّه تعالی یفعلون هذه الاُمور، بل یفعلون بترخیص وإذن وإرادة وحول وقوة من اللّه تبارک وتعالی ویستمدّون فی جمیع آناتهم من الربّ الجلیل.

فهم علیهم السلام أُمراء الوجود والکون، جعلهم اللّه تعالی وأعطاهم هذه الإمارة، ولکن لیس لهم بالاستقلال شییء.

ومن هذا التعریف یظهر ضعف مقالات بعض ممّن عاصرناه من تعریفها ب_ «السلطة علی عالم الوجود»(1)، لأنّ هذه السلطة نتیجة الولایة التکوینیة لا تعریفها.

ومن إثبات هذه الولایة «لبعض الاُولیاء الکرام أیضا مرتبة من الولایة التکوینیة»(2) «إذ... وکرامات الاُولیاء نحو تصرف منهم فی عالم التکوین»(3).

الولایة التکوینیة وإن کانت مقولة بالتشکیک، لکنّها لا تثبت لغیر المعصومین علیهم السلام وما صدر من بعض علی نحو: السحر والشعوذة وتسخیر الْقُوی المرئیة أو غیر المرئیة مثل الجن والشیاطین أو تأثیر بعض الأذکار والأدعیة أو النوم المغناطیسی أو الهیبنوتیزم أو التلِ باتی أو الحس السادس وأمثال ذلک فلیست من الولایة التکوینیة بشیءٍ.

ص:136


1- 1 . کما فی کتاب: الحاکمیة فی الإسلام /162 لشیخنا آیة اللّه السیّد محمّدمهدی الموسوی الخلخالی _ مدظله _ .
2- 2 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الاسلامیة 1/74.
3- 3 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الاسلامیة 1/75.

وعلی أیّ حالٍ فکلُّ تصرف فی عالم التکوین لیس من الولایة التکوینیة بحیث تطلق علی آخذ الکتاب من الرَّف وکاتب القرطاس بالقلم(1) وأنّها لیست ب_ «ثابتةٍ(2) لکلِّ

أحد من النّاس بل لکلِّ موجود من الموجودات... وما یُحکی عن بعض العارفین... من الکرامات والاُمور الغریبة یشیر إلی مرتبتهم الخاصة فی هذا القسم من الولایة»(3)، فلا تتم هذه المقالة عندنا، لأنّها ثابتة للمعصومین علیهم السلام فقط.

ووافقنا علی أنّها مختصة بهم علیهم السلام لکونهم مظاهر أسمائه تعالی، بعض مشایخنا _ مدظله _ حیث یقول: «وهذه المرتبة من الولایة مختصة بهم وکانت من مقتضیات ذواتهم النوریة ونفوسهم القدسیة التی لا یبلغ إلی دون مرتبتها مبلغ ولذلک لیست قابلة للإعطاء إلی غیرهم...»(4).

تنبیهٌ

الولایة التکوینیة فی حقّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام ثابتة بالإجماع والبتّ والقطع ولکن لن ینسب إلیهم خلق العالَم وربوبیّته وتقسیم الأرزاق بین الخلائق والإحیاء والإماتة، لأنّ الخالق والربّ والرازق والمحیی والممیت هو اللّه تعالی وإنّهم علیهم السلام قد نفوا هذه الاُمور عن ساحتهم فقال الرضا علیه السلام فی دعائه: «اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الحول والقوّة، فلا حول ولا قوّة إلاّ بک.

اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الّذین ادّعوا لنا ما لیس لنا بحقّ.

اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک من الّذین قالوا فینا ما لم نقله فی أنفسنا.

اللّهمّ لک الخلق ومنک الرزق، و «إِیّاکَ نَعْبُدُ وَإِیّاکَ نَسْتَعِینُ»(5).

ص:137


1- 4 . فقه الولایة والحکومة الاسلامیة 1/25.
2- 5 . وفی المصدر: ثابت.
3- 1 . فقه الولایة والحکومة الاسلامیة 1/39 و 40.
4- 2 . ولایة الاُولیاء /65 و 66، تألیف شیخنا آیة اللّه الشیخ المیرزا محمّدتقی المجلسی الإصفهانی _ مدظله _ .
5- 3 . سورة الفاتحة /5.

اللّهمّ أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلین وآبائنا الآخرین.

اللّهمّ لا تلیق الربوبیّة إلاّ بک، ولا تصلح الإلهیّة إلاّ لک، فالعن النصاری الّذین صغّروا عظمتک، والعن المضاهئین لقولهم من بریّتک.

اللّهمّ إنّا عبیدک وأبناء عبیدک، لا نملک لأنفسنا نفعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حیاة ولا نشورا.

اللّهمّ من زعم أنّنا أرباب فنحن إلیک منه براء، ومن زعم أنّ إلینا الخلق وعلینا

الرزق فنحن منه براء کبراءة عیسی علیه السلام من النصاری.

اللّهمّ إنّا لم ندعهم إلی ما یزعمون، فلا تؤاخذنا بما یقولون واغفر لنا ما یدّعون.

ولا تذر علی الأرض منهم دیّارا «إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَلا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّارا»(1).

ورُوی عن زُرارة أنّه قال: قلت للصادق علیه السلام : إنَّ رجلاً من ولد عبداللّه بن سبأ یقول بالتفویض.

قال علیه السلام : «وما التفویض؟».

قلت: یقول: إنّ _ عزّوجلّ _ خلق محمّدا وعلیّا _ صلوات اللّه علیهما _ ثمّ فوّض إلیهما، فخلقا ورزقا، وأحییا وأماتا.

فقال علیه السلام : «کذب عدوّ اللّه، إذا انصرفت، إلیه فاقرأ علیه الآیة التی فی سورة الرعد «أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَکاءَ خَلَقُوا کَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَیْهِمْ قُلِ اللّهُ خالِقُ کُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهّارُ»(2). فانصرفت إلی الرجل فأخبرته فکأنّما ألقمته حجرا، أو قال: فکأنّما خرس»(3).

وعن الرضا علیه السلام أنّه قال فی حدیث: ومن قال إنّ اللّه فوّض أمر الخلق والرزق إلی

ص:138


1- 1 . سورة نوح /27.
2- 2 . سورة الرعد /16.
3- 3 . الاعتقادات/(323-320) للشیخ الصدوق رحمه الله .

حججه فقد قال بالتفویض... والقائل بالتفویض مشرک، الحدیث.(1)

وروی الراوندی بإسناده عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : لا ترفعونی فوق حقّی فإنّ اللّه تعالی إتخذی عبدا قبل أن یَتَّخِذَنی نبیّا.(2)

وفی صحیحة أبی الصَّلْتِ عبدالسلام بن صالحٍ الْهَرَوِیّ قال: جئتُ إلی باب الدار التی حبس فیها الرضا علیه السلام بسرخس وقد قید علیه السلام ، فاستاذنت علیه السجان، فقال: لا سبیل لک إلیه علیه السلام ؛ قلت: ولم؟ قال: لأنّه ربّما صلّی فی یومه ولیلته ألف رکعة وإنّما ینفتل من صلوته ساعة فی صدر النهار وقبل الزوال وعند اصفرار الشمس فهو فی هذه الاوقات قاعد فی مصلاه ویناجی ربّه، قال: فقلت له: فاطلب لی منه فی هذه الاوقات إذنا علیه،

فاستاذن لی، فدخلت علیه وهو قاعد فی مصلاه متفکرا؛ قال أبوالصلت: فقلت له: یابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما شیء یحکیه عنکم النّاس؟ قال: وما هو؟ قلت: یقولون إنّکم تدّعون إنّ النّاس لکم عبید، فقال: اللّهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغیب والشهادة أنت شاهد بأنّی لم أقل ذلک قطّ ولا سمعت أحدا من آبائی علیهم السلام قاله قطّ وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأُمّة وأنّ هذه منها، ثمّ أقبل علیَّ، فقال لی: یا عبدالسلام إذا کان النّاس کلّهم عبیدنا علی ما حکوه عنّا فممّن نبیعهم؟ قلت: یابن رسول اللّه صدقت، ثمّ قال: یا عبدالسلام أمنکر أنت لما أوجب اللّه تعالی لنا من الولایة کما ینکره غیرک؟ قلت: معاذ اللّه، بل أنا مقرٌّ بولایتکم»(3).

وفی خبر الحسن بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث:... فمن ادعی للأنبیاء ربوبیة وادعی للأئمة ربوبیة أو نبوة أو لغیر الأئمة إمامة فنحن منه براء فی الدنیا والآخرة، الحدیث.(4)

وفی صحیحة محمّد بن أبیحمزة عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: جاء رجل إلی

ص:139


1- 4 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 1/124، ح17.
2- 5 . نوادر الراوندی /125، ح143 ونقل عنه فی بحارالأنوار 25/265، ح5.
3- 1 . عیون الأخبار الرضا علیه السلام 2/183، ح6.
4- 2 . عیون الأخبار الرضا علیه السلام 2/201، ح1.

رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال: السلام علیک یا ربّی، فقال: مالک لعنک اللّه! ربی وربّک اللّه، أما واللّه لکنت ما علمت لجبانا فی الحرب لئیما فی السلم.(1)

وفی حسنة سَدِیر قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام : إنَّ قوما یزعمون أنَّکم آلهة یتلون علینا بذلک قرآنا: «یا أَیُّهَا الرُّسُلُ کُلُوا مِنَ الطَّیِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّی بِما تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ»(2)، قال: یا سدیر سمعی وبصری وشعری وبشری ولحمی ودمی من هؤلاء براء، برء اللّه منهم ورسوله، ما هؤلاء علی دینی ودین آبائی، واللّه لا یجمعنی وإیّاهم یوم القیمة إلاّ وهو علیهم ساخط، قال: قلت: فما أنتم جعلت فداک؟ قال: خّزان علم اللّه وتراجمة وحی اللّه ونحن قوم معصومون أمر اللّه بطاعتنا ونهی عن معصیتنا نحن الحجَّة البالغة علی من دون السماء وفوق الأرض.

قال الحسین بن اشکیب: وسمعت من أبیطالب عن سدیر إن شاء اللّه.(3)

وفی خبر خالد الجّوان قال: کنت أنا والمفضَّل بن عمرو ناس من أصحابنا بالمدینة، وقد تکلّمنا فی الربوبیَّة، قال، فقلنا: مرّوا إلی باب أبیعبداللّه علیه السلام حتّی نسأله، قال، فقمنا بالباب، قال، فخرج إلینا وهو یقول: «بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ»(4).

قال الکشّی: إسحق وعبداللّه و خالد من أهل الارتفاع(5).(6)

وفی خبر صالح بن سهل قال: کنت أقول فی أبیعبداللّه علیه السلام بالربوبیَّة، فدخلت علیه فلمَّا نظر الیّ قال: یا صالح انّا واللّه عبید مخلوقون لنا رب نعبده وان لم نعبده عذّبنا.(7)

ص:140


1- 3 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /299، ح534.
2- 4 . سورة المؤمنین /51.
3- 5 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /306، ح551.
4- 1 . سورة الأنبیاء /26 و 27.
5- 2 . الارتفاع: الغُلُوُّ أو قریبُ منه.
6- 3 . اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی /326، ح591.
7- 4 . اختیار معرفة الرجال معروف برجال الکشی /341، ح632.

وقد ذکر العلاّمة المجلسی رحمه الله أکثر من تسعین روایة عنهم علیهم السلام فی باب نفی الغلو فی النبی والأئمة _ صلوات اللّه علیه وعلیهم _ فراجع بحار أنواره(1).

وأمّا ما ورد «فی نهج البلاغة من قول أمیرالمؤمنین علیه السلام : فإنّا صنائع ربنا والنّاس بعد صنائع لنا(2)، فلا یراد به الخلقة، بل الهدایة والتربیة، ولذا ذکر النّاس فقط لا جمیع الخلق ومنه قولهم: المرأة صنیعة الرجل أی مرباته»(3).

وقد یقال: بأنّ اللّه تعالی یخلق ویرزق ویحیی ویمیت «مقارنا لإرادتهم ودعائهم وسؤالهم من اللّه تبارک وتعالی وذلک لکرامتهم عند اللّه وزیادة قربهم منه وإظهار فضلهم ورفعة مقامهم بین عباده لکی یصدّقوهم وینقادوا لهم ویهتدوا بهداهم ویقتدوا بهم کما قد ذکره أهل المعرفة فهذا لیس بشرک بلا ارتیاب»(4).

ولکن العلاّمة المجلسی قدس سره ینفی هذه المقالة کما یأتی.

ولذا قال العلاّمة المجلسی قدس سره فی آخر باب نفی الغلو: «وأمّا التفویض فیطلق علی معان...: أحدهما أن یقال: إنّهم یفعلون جمیع ذلک بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقیقة، وهذا کفر صریح دلّت علی استحالته الأدلّة العقلیّة والنقلیّة، ولا یستریب عاقل

فی کفر من قال به.

وثانیهما: أنّ اللّه تعالی یفعل ذلک مقارنا لإرادتهم کشقّ القمر وإحیاء الموتی وقلب العصا حیّة وغیر ذلک من المعجزات، فإنّ جمیع ذلک إنّما تحصل بقدرته تعالی مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا یأبی العقل عن أن یکون اللّه تعالی خلقهم وأکملهم وألهمهم ما یصلح فی نظام العالم، ثمّ خلق کلّ شیء مقارنا لإرادتهم و مشیّتهم.

وهذا وإن کان العقل لا یعارضه کفاحا لکن الأخبار السالفة تمنع من القول به فیما عدا المعجزات ظاهرا بل صراحا، مع أنّ القول به قول بما لا یعلم إذ لم یرد ذلک فی

ص:141


1- 5 . بحارالأنوار 25/(350-261) [11/(218-168)].
2- 6 . نهج البلاغة، الکتاب 28.
3- 7 . دراساتٌ فی ولایة الفقیه 1/76.
4- 8 . ولایة الأولیاء /69.

الأخبار المعتبرة فیما نعلم.

وما ورد من الأخبار الدّالّة علی ذلک کخطبة البیان وَأَمْثالِها فلم یوجد إلاّ فی کتب الغلاة وأشباهم، مع أنّه یحتمل أن یکون المراد کونهم علّة غائیّة لإیجاد جمیع المکوّنات، وأنّه تعالی جعلهم مطاعین فی الأرضین والسماوات، ویطیعهم بإذن اللّه تعالی کلّ شیء حتّی الجمادات، وأنّهم إذا شاؤا أمرا لا یردّ اللّه مشیّتهم، ولکنّهم لا یشاؤن إلاّ أن یشاء اللّه.

وأمّا ما ورد من الأخبار فی نزول الملائکة والرّوح لکلّ أمر إلیهم وأنّه لا ینزل ملک من السماء لأمر إلاّ بدأبهم فلیس ذلک لمدخلیّتهم فی ذلک، ولا الاستشارة بهم، بل له الخلق والأمر تعالی شأنه، ولیس ذلک إلاّ لتشریفهم وإکرامهم وإظهار رفعة مقامهم»(1).

وقد ذکر السیّد الخوئی فی معانی التفویض: «ثالثها: تفویض أمر الخلق وما یتبعه من الشؤون إلی بعض عباده»(2). ثمّ قال فی شأنه: «وأمّا الثالث: فهو أیضا مخالف لضرورة العقل والدین فإنّه تعالی هو الخالق والرازق، وأنّ له السلطنة التامة والغناء المطلق وأنّ جمیع مخلوقاته تحت سلطنته وقدرته، لایستقلّ أحدٌ منهم فی فعله، والآیات القرآنیة فی حصر الخلق والرزق وغیرهما من شؤون المخلوقات فی کونها للّه تعالی وحده کثیر لا حاجة إلی ذکرها فی المقام»(3).

أدلتها:

وأمّا من الکتاب فعدّة من الآیات نحو قوله تعالی نقلاً عن عیسی بن مریم علیهماالسلام :

«أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْرا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الاْءَکْمَهَ وَالاْءَبْرَصَ وَأُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ»(4).

وما قاله تعالی فی شأن سلیمان النبی علیه السلام : «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّیحَ تَجْرِی بِأَمْرِهِ رُخاءً

ص:142


1- 1 . بحارالأنوار 25/347 و 348.
2- 2 . رسالة الأمر بین الأمرین /76، المطبوعة فی المجلّد التاسع والأربعین من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .
3- 3 . رسالة الأمر بین الأمرین /77.
4- 1 . سورة آل عمران /49.

حَیْثُ أَصابَ»(1).

وقوله تعالی: «یا نارُ کُونِی بَرْدا وَسَلاما عَلی إِبْراهِیمَ»(2).

وقوله تعالی: «وَآتَیْنا ثَمُودَ النّاقَةَ»(3).

وقوله تعالی فی شأن داود النبی علیه السلام : «وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِیدَ»(4).

وقوله تعالی: «قالَ أَلْقِها یا مُوسی * فَأَلْقاها فَإِذا هِیَ حَیَّةٌ تَسْعی * قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِیدُها سِیرَتَهَا الاْءُولی»(5).

وقوله تعالی خطابا لإبراهیم علیه السلام : «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّیْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَیْکَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلی کُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا ثُمَّ ادْعُهُنَّ یَأْتِینَکَ سَعْیا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(6).

وقوله تعالی حکایة عن موسی علیه السلام : «فَأَلْقی عَصاهُ فَإِذا هِیَ ثُعْبانٌ مُبِینٌ * وَنَزَعَ یَدَهُ فَإِذا هِیَ بَیْضاءُ لِلنّاظِرِینَ»(7).

وقوله تعالی: «وَکُلَّ شَیْءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ»(8).

بضمیمة ما ورد فی ذیله من حدیث الصدوق بسنده عن أبیالجارود عن أبیجعفر علیه السلام عن أبیه، عن جدّه صلی الله علیه و آله قال: لمّا اُنزلت هذه الآیة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله «وَکُلَّ شَیْءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ»(9) قام أبوبکر وعمر من مجلسهما فقالا: یا رسول اللّه هو التوراة؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجیل؟ قال: لا، قالا: فهو القرآن؟ قال: لا. قال: فأقبل

ص:143


1- 2 . سورة ص /36.
2- 3 . سورة الأنبیاء /69.
3- 4 . سورة الاسراء /59.
4- 5 . سورة سبأ /10.
5- 6 . سورة طه /(21-19).
6- 7 . سورة البقرة /260.
7- 8 . سورة الأعراف /107 و 108.
8- 9 . سورة یس /12.
9- 10 . سورة یس /12.

أمیرالمؤمنین علیٌّ علیه السلام فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : هو هذا، إنّه الإمام الّذی أحصی اللّه تبارک

وتعالی فیه علم کلّ شیء.(1)

وقوله تعالی:«وَلَوْ أَنَّ قُرْآنا سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاْءَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی»(2).

بضمیمة ما ورد فی ذیله من روایة الکلینی بسنده عن أبیالحسن الأوّل علیه السلام ، قال: قلتُ له: جُعِلْتُ فِدَاکَ، أخبرنی عن النّبی صلی الله علیه و آله وَرِثَ النَّبِیِّینَ کُلَّهُمْ؟ قالَ: «نَعَمْ».

قلتُ: مِنْ لَدُنْ آدَمَ حتَّی انْتَهی إلی نَفْسِهِ؟ قال: «ما بَعَثَ اللّه ُ نَبِیّا إلاّ وَمُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله أَعْلَمُ مِنْهُ».

قال: قلتُ: إنَّ عیسی بن مریمَ کانَ یُحْیِی الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّه ِ، قال: «صَدَقْتَ»، وسُلَیْمانَ بنَ داودَ کان یَفْهَمُ مَنْطِقَ الطَّیْرِ، وکانَ رسولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله یَقْدِرُ علی هذه المنازلِ؟

قال: فقال: «إنَّ سلیمانَ بن داودَ قالَ للهدهدِ حینَ فَقَدَهُ وشکَّ فی أمرهِ: «فَقالَ ما لِیَ لا أَرَی الْهُدْهُدَ أَمْ کانَ مِنَ الْغائِبِینَ»(3) حینَ فَقَدَهُ، فغضِبَ علیه، فقال: «لاَءُعَذِّبَنَّهُ عَذابا شَدِیدا أَوْ لاَءَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطانٍ مُبِینٍ»(4) وإنَّما غَضِبَ لأنّه کان یدُلُّهُ علی الماءِ، فهذا _ وهو طائرٌ _ قد أُعطیَ ما لم یعطَ سلیمان، وقد کانت الرّیح والنّمل والإنسُ والجنُّ والشَّیاطینُ الْمَرَدَةٌ له طائعینَ، ولم یکن یعرفُ الماءَ تحت الهواء، وکان الطّیرُ یعرفهُ، وإنَّ اللّه یقول فی کتابِه: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآنا سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاْءَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی»(5). وقد وَرِثنا نحن هذا القرآنَ الّذی فیه ما تسیّر به الجبال، وتقطَّعُ به البلدانُ، وتُحْیا به الموتی، ونحن نعرفُ الماءَ تحت الهواء، وإنَّ فی کتاب اللّه لآیاتٍ ما یرادُ بها أمرٌ إلاّ أنْ یأذن اللّه ُ به مع ما قد یأذن اللّه ممّا کتبه الماضون، جعله اللّه لنا فی أُمِّ الکتاب؛ إنَّ اللّه َ

ص:144


1- 1 . معانی الأخبار /95، ح1.
2- 2 . سورة الرعد /31.
3- 3 . سورة النمل /20.
4- 4 . سورة النمل /21.
5- 5 . سورة الرعد /31.

یقولُ: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِی السَّماءِ وَالاْءَرْضِ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ»(1) ثمّ قال: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»(2) فنحنُ الّذین اصطفانا اللّه _ عزّوجلّ _ ، وأورثنا هذا الّذی فیه تبیانُ کلِّ شیءٍ».(3)

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من الآیات الشریفة تدلّ علی الولایة التکوینیة فی شأن الأنبیاء السلف وإذا ثبتت فی حقّهم ثبتت بالطریق الأولی فی شأن محمّد وآل محمّد علیهم السلام .

وأمّا من السنة فکثیر من الروایات تدل علی ولایتهم التکوینیة:

منها: صحیحة عبدالصمد بن بشیر عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: کان مع عیسی بن مریم علیه السلام ستّة أحرف، وکان مع آدم علیه السلام خسمة وعشرون حرفا، وکان مع نوح ثمانیة، وجمع ذلک کلّه لرسول اللّه صلی الله علیه و آله إنّ اسم اللّه ثلاثة وسبعون حرفا، وحجب عنه واحدا.(4)

ومنها: صحیحة أبیبصیر عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: کان سلیمان عنده اسم اللّه الأکبر الّذی إذا سئل به أعطی، وإذا دعی به أجاب، ولو کان الیوم لاحتاج إلینا.(5)

ومنها: صحیحة أبیبصیر قال: دخلت علی أبیعبداللّه علیه السلام أو أبیجعفر علیه السلام فقلت: أنتم ورثة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ قال: نعم.

قلت: فرسول اللّه صلی الله علیه و آله وارث الأنبیاء، علم کلّ ما علموا؟ فقال لی: نعم، فقلت: أنتم تقدرون علی أن تحیوا الموتی، وتبرئوا الأکمه والأبرص؟

فقال لی: نعم، بإذن اللّه، ثمّ قال: ادن منّی یا أبا محمّد، فمسح [یده] علی عینی ووجهی فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبیوت وکلّ شیء فی الدار.

قال: [فقال:] أتحبّ أن تکون هکذا ولک ما للناس، وعلیک ما علیهم یوم القیامة، أو تعود کما کنت ولک الجنّة خالصا؟ قلت: أعود کما کنت.

ص:145


1- 6 . سورة النمل /75.
2- 7 . سورة فاطر /32.
3- 8 . الکافی 1/560، ح7 (1/226).
4- 1 . بصائر الدرجات 1/375، ح4، تحقیق مؤسسة الإمام المهدی «عج»، قم.
5- 2 . بصائر الدرجات 1/378، ح2.

قال: فمسح علی عینی، فعدت کما کنت.

قال علیّ [بن الحکم]: فحدّثت به ابن أبیعمیر، فقال: أشهد أنّ هذا حقّ کما أنّ النهار حقّ.(1)

ومنها: صحیحة عبداللّه بن المغیرة قال: مرّ العبد الصالح علیه السلام بامرأة بمنی وهی تبکی، وصبیانها حولها یبکون، وقد ماتت بقرة لها، فدنا منها، ثمّ قال لها: ما یبکیک یا أمة اللّه؟

قالت: یا عبداللّه، إنّ لی صبیانا أیتاما وکانت لی بقرة، معیشتی ومعیشة صبیانی

کان منها، فقد ماتت وبقیت منقطعة بی وبولدی ولا حیلة لنا، فقال لها: یا أمة اللّه، هل لک أن اُحییها لک؟ قال: فأُلهمت أن قالت نعم یا عبداللّه، قال: فتنحّی ناحیة فصلّی رکعتین، ثمّ رفع یدیه وحرّک شفتیه، ثمّ قام فمرَّ بالبقرة فنخسها نخسا، أو ضربها برجله فاستوت علی الأرض قائمة، فلمّا نظرت المرأة إلی البقرة قد قامت، صاحت: عیسی بن مریم وربّ الکعبة، قال: فخالط النّاس وصار بینهم ومضی بینهم _ صلوات اللّه علیه وعلی آبائه الطاهرین _ .(2)

ومنها: صحیحة أبیحمزة الثمالی قال: قلت لأبیعبداللّه علیه السلام : تبقی الأرض بغیر إمام؟

قال: لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت.(3)

ونحوها فی الکافی بسند صحیح.(4)

ومنها: صحیحة علی بن جعفر: عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال: «قال أبوعبداللّه علیه السلام : إنَّ اللّه _ عزّوجلّ _ خلقنا فأحسن خلقنا، وصوَّرنا فأحسن صُوَرَنا، وجعلنا خزّانهُ فی سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشّجرة، وبعبادتنا عُبِدَ اللّه _ عزوّوجلّ _ ، ولولانا ما

ص:146


1- 3 . بصائر الدرجات 1/480، ح1.
2- 1 . بصائر الدرجات 1/486، ح2.
3- 2 . بصائر الدرجات 2/869، ح2.
4- 3 . الکافی 1/437، ح10 (1/179).

عُبِدَ اللّه».(1)

ومنها: معتبرة المفضل بن عمر: عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «ما جاء به علیٌّ آخذ به، وما نهی عنه أنتهی عنه، جری له من الفضل مثل ما جری لمحمّدٍ صلی الله علیه و آله ، ولمحمّدٍ صلی الله علیه و آله الفضل علی جمیع مَنْ خلق اللهُ _ عزّوجلّ _، المتعقِّب علیه فی شیءٍ من أحکامه کالمتعقِّب علی اللّه وعلی رسوله، والرّادُّ علیه فی صغیرةٍ أو کبیرةٍ علی حدِّ الشّرکِ باللّه؛ کان أمیرالمؤمنین علیه السلام باب اللّه الّذی لا یُؤْتی إلاّ منه، وسبیله الّذی مَنْ سلک بغیره هلک، وکذلک یجری لأئمة الهدی واحدا بعد واحدٍ، جعلهم اللّه أرکان الأرض أن تمید بأهلها، وحجَّته البالغةَ علی مَنْ فوق الأرض ومَنْ تحت الثّری.

وکان أمیرالمؤمنین _ صلوات اللّه علیه _ کثیرا ما یقول: أنا قسیم اللّه بین الجنّة والنّار، وأنا الفاروق الأکبر، وأنا صاحب العصا والمِیسَم، ولقد أقرَّتْ لی جمیعُ الملائکة

والرّوح والرّسل بمثل ما أقرُّوا به لمحمّدٍ صلی الله علیه و آله ، ولقد حُمِلْتُ علی مثل حَمُولَتِهِ وهی حمولةُ الرَّبِّ، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یُدْعی فَیُکْسی وأُدْعی فأُکسی، ویُسْتَنْطَقُ وأُسْتَنْطَقُ، فَأَنْطِقُ علی حدِّ منطقه، ولقد أُعْطِیتُ خصالاً ما سبقنی إلیها أحدٌ قبلی: عُلِّمتُ المنایا والبلایا والأنساب وفصل الخِطاب، فلم یَفُتْنِی ما سَبَقَنِی، ولم یَعْزُبْ عَنِّی ما غاب عنِّی، أُبَشِّرُ بإذنِ اللّه، وأُؤَدِّی عنهُ، کُلُّ ذلک من اللّه، مَکَّنَنِی فیه بِعِلْمِهِ».(2)

ومنها: صحیحة برید العجلی: عن أبیجعفرٍ علیه السلام فی قول اللّه تبارک وتعالی: «فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَالْحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما» قال: «جعل منهم الرّسل والأنبیاء والأئمة، فکیف یُقِرُّون فی آل إبراهیم علیه السلام ، ویُنْکِرُونَهُ فی آل محمّدٍ؟!».

قال: قلت: «وَآتَیْناهُمْ مُلْکا عَظِیما»؟ قال: «الملک العظیم أنْ جعل فیهم أئمةً مَنْ أطاعَهُمْ أطاعَ اللّه َ؛ ومَنْ عَصَاهُمْ عَصَی اللّه َ؛ فهو المُلْکُ العَظِیمُ».(3)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم: عن أبیجعفر علیه السلام فی قول اللّه _ عزّوجلّ _: «إِنَّ

ص:147


1- 4 . الکافی 1/476، ح6 (1/193).
2- 1 . الکافی 1/482، ح1 (1/196).
3- 2 . الکافی 1/511، ح5 (1/206).

فِی ذلِکَ لاَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ»(1) قال: هم الأئمّة علیهم السلام ؛ قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : اتَّقوا فراسة المؤمن فإنّه ینظر بنور اللّه _ عزّوجلّ _ فی قول اللّه تعالی: «إِنَّ فِی ذلِکَ لاَآیاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِینَ».(2)

ومنها: صحیحة ضُرَیْسِ الکُنَاسی قال: کنتُ عند أبیعبداللّه علیه السلام وعندهُ أبوبصیرٍ، فقال أبوعبداللّه علیه السلام : «إنَّ داود وَرِثَ علمَ الأنبیاءِ، وإنَّ سلیمانَ وَرِثَ داودَ، وإنَّ محمّدا صلی الله علیه و آله وَرِثَ سلیمانَ، وإنّا وَرِثْنَا محمّدا صلی الله علیه و آله ، وإنَّ عندنا صحف إبراهیم وألواح موسی».

فقال أبوبصیرٍ: إنَّ هذا لهو العلم.

فقال: «یا أبا محمّدٍ، لیس هذا هو العلمَ، إنَّما العِلْمُ ما یَحْدُثُ باللّیلِ والنّهارِ یوما بیومٍ، وساعةً بساعةٍ».(3)

«تِلْکَ عَشَرَةٌ کامِلَةٌ» من الروایات الصحیحة فإن شئت أکثر فراجع بصائر الدرجات لمحمّد بن حسن الصفار وکتاب الحجة فی کافی الکلینی _ أعلی اللّه مقامهما _ .

وأمّا الإجماع: علی ولایتهم علیهم السلام التکوینیة فقد مرّ(4) منّا فی التنبیه الماضی أنّه ثابت عند الشیعة الإمامیة بلا إشکال.

وأمّا الدلیل العقلی: علی ولایتهم التکوینیة أیضا فثابت لأنّهم علیهم السلام وسائط فیض الواجب وحلقة الوصل بین القدیم والحادث وبهم فتح اللّه وبهم یختم وبهم یُنزِّل الغیث وبهم یُمْسِکُ السماء أن تقع علی الأرض إلاّ بإذنه وبهم یُنَفِّسُ الهَّمُّ ویکشف الضرّ وعندهم ما نزلت به رُسُلُهُ وهبطت به ملائکته، وهذا مجمل الکلام فی الولایة التکوینیة والتفصیل یطلب من علم الکلام واللّه العالم.

ص:148


1- 3 . سورة الحجر /75.
2- 4 . الکافی 1/541، ح3 (1/218).
3- 5 . الکافی 1/559، ح4 (1/225).
4- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 137.
2_ الولایة التشریعیة

وهی عبارة أُخری عن السلطة التشریعیة بمعنی أنّ أمر الدین فوّض من جانب الشارع الأقدس إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین علیهم السلام بعده فی بعض الموارد لا کلّها علی نحو الموجبة الجزئیة کما یأتی أمثلتها، یدل علیها:

أ: من الکتاب

قوله تعالی: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(1)

وقوله _ عزّوجلّ _ : «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2).

وقوله _ عزّوجلّ _ : «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ»(3).

وقوله تعالی لسلیمان بن داود: «هذا عَطاوءُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ»(4).

وقوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(5).

وقوله _ عزّوجلّ _ : «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(6).

ص:149


1- 1 . سورة النساء /105.
2- 2 . سورة الحشر /7.
3- 3 . سورة النساء /80.
4- 4 . سورة ص /39.
5- 5 . سورة الأحزاب /6.
6- 6 . سورة المائدة /55.

ب: ومن السنة

عدّة من الروایات المعتبرة.

منها: صحیحة أبیاُسامة، عن أبیجعفر علیه السلام قال: إنّ اللّه خلق محمّدا صلی الله علیه و آله عبدا فأدّبه حتّی إذا بلغ أربعین سنة أوحی إلیه، وفوّض إلیه الأشیاء فقال:

«وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(1).(2)

ومنها: موثقة زرارة، أنّه سمع أبا عبداللّه وأباجعفر علیهماالسلام یقولان:

إنّ اللّه فوّض إلی نبیّه صلی الله علیه و آله أمر خلقه لینظر کیف طاعتهم، ثمّ تلا هذه الآیة:

«وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».(3)

ومنها: معتبرة حمران قال: سألت أباجعفر علیه السلام عن أشیاء من الصلاة والدیات والفرائض وأشیاء من أشباه هذا، فقال: إنّ اللّه فوّض إلی نبیّه صلی الله علیه و آله .(4)

ومنها: صحیحة زرارة، عن أبیجعفر علیه السلام قال: وضع رسول اللّه صلی الله علیه و آله دیة العین ودیة النفس و[دیة] الأنف، وحرّم النبیذ وکلّ مسکر.

فقال له رجل: فوضع هذا رسول صلی الله علیه و آله من غیر أن یکون جاء فیه شیء؟

قال: نعم، لیعلم من یطع الرسول ممّن یعصیه.(5)

ومنها: صحیحة أبیإسحاق النحوی _ وهو ثعلبة بن میمون _ قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: إنّ اللّه أدّب نبیّه علی محبّته، فقال:

«إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ» ثمّ فوّض إلیه، فقال: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وقال: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ».

ص:150


1- 1 . سورة الحشر /7.
2- 2 . بصائر الدرجات 2/685، ح1.
3- 3 . بصائر الدرجات 2/686، ح2.
4- 4 . بصائر الدرجات 2/688، ح8.
5- 5 . بصائر الدرجات 2/690، ح13.

ثمّ قال: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله فوّض إلی علیّ بن أبیطالب علیه السلام وائتمنه.(1)

ومنها: صحیحة فضیل بن یسار قال: سمعتُ أباعبداللّه علیه السلام یقول لبعض أصحاب قیسٍ الماصر: «إنَّ اللّه _ عزّوجلّ _ أدّب نبیّه، فأحسن أدبه، فلمّا أکمل له الأدب، قال: «إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ»، ثمّ فوّض إلیه أمر الدِّین والأُمَّةِ لِیَسُوسَ عبادَهُ، فقال _ عزّوجلّ _: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان مسدَّدا مُوَفَّقا، مؤیَّدا بروح القدس، لا یَزِلُّ ولا یُخْطِئُ فی شیءٍ ممّا یَسُوسُ به الخَلْقَ، فَتَأدَّبَ بآدابِ اللّه ِ.

ثمّ إنَّ اللّه _ عزّوجلّ _ فرض الصّلاة رکعتین رکعتین عشر رکعاتٍ، فأضاف رسول

اللّه صلی الله علیه و آله إلی الرَّکعتین رکعتین، وإلی المغرب رکعةً، فصارت عَدِیلَ الفریضة، لا یجوز ترکهنَّ إلاّ فی السَّفر، وأفرد الرّکعة فی المغرب فترکها قائمةً فی السّفر والحضر، فأجاز اللّه له ذلک کلّه، فصارت القریضة سبع عشرة رکعةً.

ثمّ سنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله النّوافل أربعا وثلاثین رکعةً مِثْلَیِ الفریضة، فأجاز اللّه _ عزّوجلّ _ له ذلک، والفریضة والنّافلة إحدی وخمسون رکعةً، منها رکعتان بعد العتمة جالسا تعدّان برکعةٍ مکان الوتر.

وفرض اللّه فی السّنة صوم شهر رمضان. وسنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله صوم شعبان وثلاثة أیّام فی کلِّ شهرٍ مِثْلَیِ الفریضة، فأجاز اللّه _ عزّوجلّ _ له ذلک.

وحرّم اللّه _ عزّوجلّ _ الخمر بعینها، وحرّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله المسکر من کلِّ شرابٍ، فأجاز اللّه له ذلک.

وعاف رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشیاء وکرَّهها، لم ینه عنها نهی حرامٍ، إنّما نهی عنها نهیَ إعافةٍ وکراهةٍ، ثمّ رخّص فیها، فصار الأخذ بِرُخَصِهِ واجبا علی العباد کوجوب ما یأخذون بنهیه وعزائمه، ولم یُرَخِّصْ لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیما نهاهم عنه نهی حرامٍ، ولا فیما أمَرَ به أمْرَ فرضٍ لازمٍ، فکثیر المسکر من الأشربة نهاهم عنه نهیَ حرامٍ، لم یُرَخِّصْ

ص:151


1- 6 . بصائر الدرجات 2/696، ح7.

فیه لأحدٍ، ولم یُرَخِّصْ رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله لأحدٍ تقصیر الرّکعتین اللَّتین ضمَّهُما إلی ما فرض اللّه _ عزّوجلّ _ ، بل ألزمهم ذلک إلزاما واجبا، لم یُرَخِّصْ لأحدٍ فی شیءٍ من ذلک إلاّ للمسافر، ولیس لأحدٍ أن یُرَخِّصْ ما لم یُرَخِّصْهُ رسولُ اللّه صلی الله علیه و آله ، فوافق أمرُ رسولِ اللّه ِ صلی الله علیه و آله أمرَ اللّه ِ _ عزّوجلّ _ ، ونَهْیُهُ نهیَ اللّه ِ _ عزّوجلّ _ ، ووَجَبَ علی العباد التَّسلیمُ له کالتَّسلیمِ للّه تبارک وتعالی.(1)

ومنها: معتبرة إسحاق بن عمار عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: «إنَّ اللّه _ تبارک وتعالی _ أدّب نبیَّه صلی الله علیه و آله ، فلمّا انْتهی به إلی ما أراد، قال له: «إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ»، ففوَّض إلیه دِینَهُ، فقال: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» وإنَّ اللّه _ عزّوجلّ _ فرض الفرائض، ولم یَقْسِمْ للجدِّ شیئا، وإنَّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أطعمه السّدس، فأجاز اللّه _ جلّ ذکره _ له ذلک؛ وذلک قول اللّه _ عزّوجلّ _: «هذا عَطاوءُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ»(2)».(3)

ومنها: معتبرة عبداللّه بن سنان قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام : «لا واللّه ِ، ما فَوَّضَ اللّه ُ إلی أحدٍ من خلقه إلاّ إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإلی الأئمة علیهم السلام ، قال اللّه _ عزّوجلّ _: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(4)، وهی جاریةٌ فی الأوصیاء علیهم السلام ».(5)

و من طریق العامة ما رواه الترمذی فی سننه فی فضائل علیّ بن أبیطالب علیه السلام من أنّ جیشا رجع إلی المدینة وکان یرأسهم الإمام علی بن أبیطالب علیه السلام وقد کان معهم أسری وأعجبت واحدة منهنّ الإمام علیه السلام فأخذها لنفسه وواقعها وقد ساء ذلک عند الجماعة، والظاهر أنّهم هم الثلاثة، وبنوا علی أن یخبروا النبی صلی الله علیه و آله ، فلمّا وصل الجیش إلی المدینة _ وکانت العادة أن یزوروا النبی صلی الله علیه و آله بلامة حربهم ثمّ یرجعوا إلی دورهم وینزعوا

ص:152


1- 1 . الکافی 1/662، ح4 (1/266).
2- 2 . سورة ص /39.
3- 3 . الکافی 1/665، ح6 (1/267).
4- 1 . سورة النساء /105.
5- 2 . الکافی 1/666، ح8 (1/268).

لامتهم _ وقد حضر واحد منهم النبی صلی الله علیه و آله وهو لابس لامته وأخبر النبی صلی الله علیه و آله بالحال فسکت النبی صلی الله علیه و آله ثمّ جاءه الثانی وأخبره بالخبر وسکت النبی صلی الله علیه و آله أیضا حتّی جاءه ثالثهم فأخبره بالحال وعند ذلک غضب صلی الله علیه و آله وقال: ماذا تریدون من علی بن أبیطالب، أفلست أولی بکم من أنفسکم؟ قالوا نعم، وقال: وهو یعنی علی بن أبیطالب خلیفتی وقائم مقامی من بعدی.(1)

ومن طریقهم ما رواه أبوالمؤید موفق بن أحمد الخوارزمی الحَنَفِیّ، بإسناده عن جابر، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّ اللّه تعالی لمّا خلَق السماوات والأرضَ دَعاهُنَّ فأجَبْنَهُ، فعَرض علیهنّ نُبوّتی وولایة علیّ بن أبیطالب فقَبِلَتاهُما، ثمّ خَلَق الخَلْقَ وفوَّض إلینا أمرَ الدِّین، فالسعید مَن سَعِد بنا، والشَّقیُّ من شَقِیَ بنا، نحن المُحَلِّلون لحَلالِه والمحَرِّمونَ لحَرامهِ.(2)

والروایات فی هذا المجال کثیرة فإن شئت راجع بصائر الدرجات 2/685 باب التفویض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و 2/693 باب فی أنّ ما فوّض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقد فوّض إلی الأئمة علیهم السلام ، والکافی 1/660 (1/265) باب التفویض إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإلی الأئمة فی أمر الدین، وبحارالأنوار 25/328 (11/205) فصل فی بیان التفویض ومعانیه.

وقال العلاّمة المجلسی فی آخره: «الثانی: [من معانی التفویض] التفویض فی أمر الدین، وهذا أیضا یحتمل وجهین:

أحدهما: أن یکون اللّه تعالی فوّض إلی النبیّ والأئمة علیهم السلام عموما أن یحلّوا ماشاؤا ویحرّموا ماشاؤا من غیر وحی وإلهام أو یغیّروا ما أوحی إلیهم بآرائهم وهذا باطل لا یقول به عاقل، فإنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان ینتظر الوحی أیّاما کثیرة لجواب سائل ولا یجیبه من عنده، وقد قال تعالی: «وَما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی»(3).

وثانیهما: أنّه تعالی لمّا أکمل نبیّه صلی الله علیه و آله بحیث لم یکن یختار من الأمور شیئا إلاّ ما

ص:153


1- 3 . سنن الترمذی 5/632، ح3712 ونقل عنه فی التنقیح فی شرح المکاسب 2/161.
2- 4 . المناقب /80 للخوارزمی ونقل عنه فی غایة المرام 2/137.
3- 1 . سورة النجم /3 و 4.

یوافق الحقّ والصواب ولا یحلّ بباله ما یخالف مشیّته تعالی فی کلّ باب فوّض إلیه تعیین بعض الاُمور کالزیادة فی الصلاة وتعیین النوافل فی الصلاة والصوم وطعمة الجدّ وغیر ذلک ممّا مضی وسیأتی إظهارا لشرفه وکرامته عنده، ولم یکن أصل التعیین إلاّ بالوحی، ولم یکن الاختیار إلاّ بالهام، ثمّ کان یؤکّد ما اختاره صلی الله علیه و آله بالوحی، ولا فساد فی ذلک عقلاً وقد دلّت النصوص المستفیضة علیه ممّا تقدّم فی هذا الباب وفی أبواب فضائل نبیّنا صلی الله علیه و آله من المجلّد السّادس.

ولعلّ الصدوق رحمه الله أیضا إنّما نفی المعنی الأوّل حیث قال فی الفقیه: «وقد فوّض اللّه _ عزّوجلّ _ إلی نبیّه صلی الله علیه و آله أمر دینه ولم یفوّض إلیه تعدّی حدوده»(1). وأیضا هو رحمه الله قد روی کثیرا من أخبار التفویض فی کتبه ولم یتعرّض لتأویلها»(2).

ومن مصادیق هذه الولایة التشریعیة ما فعله أمیرالمؤمنین علیه السلام من وضع الزکاة فی أیام خلافته الظاهریة علی الخیل وَالْبَراذِیْن لاحتیاج دولته إلی الاْءَمْوالِ کما مرّ فی آخر مباحث المکاسب المحرمة.(3)

ومن مصادیقها ماورد فی صحیحة علی بن مهزیار قال: کتب إلیه أبوجعفر علیه السلام _ وقرأت أنا کتابه إلیه فی طریق مکّة _ قال: إنّ الذی أوجبت فی سنتی هذه، وهذه سنة عشرین ومائتین، فقط لمعنی من المعانی، أکره تفسیر المعنی کلّه خوفا من الانتشار، وساُفسّر لک بعضه إن شاء اللّه، إنّ موالیّ _ أسأل اللّه صلاحهم _ أو بعضهم قصّروا فیما یجب

علیهم، فعلمت ذلک فأحببت أن اُطهّرهم واُزکّیهم بما فعلت فی عامی هذا من أمر الخمس (فی عامی هذا)، قال اللّه تعالی: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَکِّیهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ * أَ لَمْ یَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ یَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَیَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُوءْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ

ص:154


1- 2 . الفقیه 1/41 ذیل ح82، باب صفة وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله .
2- 3 . بحارالأنوار 25/348 (11/217).
3- 4 . راجع الآراء الفقهیة 3/476.

تَعْمَلُونَ»(1) ولم اُوجب ذلک علیهم فی کلّ عام، ولا اُوجب علیهم إلاّ الزکاة التی فرضها اللّه علیهم، وإنّما أوجبت علیهم الخمس فی سنتی هذه فی الذهب والفضّة التی قد حال علیهما الحول، ولم اُوجب ذلک علیهم فی متاع ولا آنیة ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه فی تجارة ولا ضیعة إلاّ ضیعة ساُفسّر لک أمرها، تخفیفا منّی عن موالیّ، ومَنّا منّی علیهم لما یغتال السلطان من أموالهم ولما ینوبهم فی ذاتهم، فأمّا الغنائم والفوائد فهی واجبة علیهم فی کلِّ عام، الحدیث.(2)

وأمّا تفسیر الولایة التشریعیة ب_ «کون الأئمة علیهم السلام نافذی التصرّف فی الأموال وَالاْءَنْفُسِ شَرْعا، فهی أیضا ثابتة بلا ریب لقوله تعالی «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(3) وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ» وقوله صلی الله علیه و آله فی یوم الغدیر: «ألست أولی بکم من أنفسکم؟ قالوا بلی. قال: من کنت مولاه فهذا علی مولاه» وغیر ذلک ممّا دلّ علی ثبوت الولایة لهم فی الأموال والأنفس، فللإمام علیه السلام أن یبیع دار زید أو یطلّق زوجته أو یزوّجها من أحد وهکذا من دون اعتبار رضا المالک أو الزوج»(4).

فعجیبٌ کما مرّ تعریفها ثمّ أعقبه هذا القائل بقوله: «لا یقال: إنّهم بناءً علی ذلک یتمکّنون من التصرف فی أعراض المسلمین.

فإنه یقال: إنّ تصرّفاتهم إنّما تنفذ فیما إذا کانت بالأسباب المقرّرة شرعا لا بغیرها نظیر تصرّف نفس المالک فی ملکه، مثلاً لهم أن یبیعوا دار أحد أو یطلّقوا زوجته ثمّ بعد انقضاء عدّتها یزوّجها الأمام علیه السلام من نفسه مثلاً، لا أنّهم یتصرّفون فی زوجة الغیر من دون طلاق أو زواج، فتعالوا عن ذلک علوّا کبیرا»(5).

ص: 155


1- 1 . سورة التوبة /105-103.
2- 2 . وسائل الشیعة 9/501، ح5، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس.
3- 3 . سورة الأحزاب /6.
4- 4 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/160؛ ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/29.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/161 و 162؛ ونحوها فی محاضرات فی الفقه الجعفری 3/30.
3_ الولایة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة

وهی عبارة عن وجوب طاعتهم علیهم السلام فی ما یرجع إلی تبلیغ الأحکام الشرعیة وبیان المقررات الإلهیة.

هذه الولایة ثابتة فی حقِّهم علیهم السلام بلا إشکال ولا تحتاج إلی اقامة البرهان وتکون من القضایا التی قیاساتها معها لأنّ وجوب إطاعتهم علیهم السلام فی ما یرجع إلی أحکام الدین من لوازم النبوة والإمامة ولولاه لمّا کان معنی لنبوة النبی أو إمامة الولی علیهماالسلام .

وبعبارة أُخری: «وجوب إطاعتهم فیما یرجع إلی تبلیغ الأحکام، فهو من لوازم التصدیق بنبوّتهم أو إمامتهم، إذ بعد التصدیق بالنبوّة أو الإمامة، یکون ما أخبر به بما أنّه نبیٌّ أو إمام إخبارا عن اللّه سبحانه، وإطاعته جلّ شأنه واجبة، فالقول بعدم وجوب إطاعتهم فی ذلک مساوق لإنکار نبوّتهم وإمامتهم. وهذا ظاهر غیر محتاج إلی البحث والاستدلال»(1).

ثمّ فلیعلم أنّ التبلیغ له جانبان: «أحدهما: علاقة التبلیغ بالنبی نفسه (المبلِّغ) کوظیفة إلهیة کبری یجب علیه القیام بها، وذلک بإیصال الأحکام إلی النّاس، وهذا هو حقّ طبیعی لا یحتاج إلی جعل منصب علی نحو الابتداء والاستقلال مضافا إلی مقام النبوة التی هی بمعنی رابطة الوحی.

والجانب الآخر هو علاقة التبلیغ بالنّاس بِمَعْنی أن علی النّاس أن یقبلوا بکلام

ص:156


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/26.

النبی، وهذا الجانب هو ولایة التبلیغ التی یعتبر النّاس کلام المبلِّغ بمقتضاها حجة»(1).

قد أُشیر إلی جعل کلا الجانبین فی قوله تعالی: «آتانِیَ الْکِتابَ وَجَعَلَنِی نَبِیّا»(2).

وقوله تعالی: «إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماما»(3).

وقد أُشیر إلی جعل الجانب الأوّل فی قوله تعالی: «وَما عَلَی الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِینُ»(4).

وقوله _ عزّوجلّ _ : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا إِنْ عَلَیْکَ إِلاَّ الْبَلاغُ»(5)

ص: 157


1- 2 . الحاکمیة فی الإسلام /186.
2- 3 . سورة مریم /30.
3- 1 . سورة البقرة /124.
4- 2 . سورة النور /54.
5- 3 . سورة الشوری /48.
4_ الولایة الحکومیة أو الشخصیة

الرسول صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام إذا أسس حکومة وقبل ریاستها وصدارتها، فأوامره الحکومیة مطاعة ویجب علی النّاس إطاعته فی هذه الأوامر لأنّهم ساسة العباد والحکّام علی البلاد، وکذلک إذا لم یتصدی للحکومة ولکن صدر منه علیه السلام أوامر شخصیة فلابدّ للنّاس من إطاعته علیه السلام فی هذه الأوامر تکریما لمقام القیادة والزعامة.

والدلیل علیه من الکتاب: قوله تعالی «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(1).

بتقریب: ظهور عطف إطاعة الرسول صلی الله علیه و آله علی إطاعة اللّه سبحانه یوجب التغایر بینهما مضافا إلی تکرار فعل الأمر قبلهما، یثبت أنّ إطاعة الرسول فی الآیة الشریفة لم یقصد منها إطاعة الرسول بما أنّه رسول من اللّه تعالی وإلاّ یدخل إطاعته فی إطاعة اللّه، فیصیر إطاعة الرسول صلی الله علیه و آله فی أوامر الحکومیة أو الشخصیة واجبا ولذا عطف علی الرسول، اولی الأمر وهم أَوْصِیاؤُهُ المَعْصُوْمُوْنَ علیهم السلام کما مرّ.

وقوله تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ»(2).

بتقریب: أنَّ أوامر الرسول صلی الله علیه و آله داخِلَةٌ فی قضائه وعطف قضاء اللّه تعالی علی

ص:158


1- 1 . سورة النساء /59.
2- 2 . سورة الأحزاب /36.

الرسول صلی الله علیه و آله ، یظهر فی مغایرتهما، وقد نهی اللّه سبحانه عن الاختیار بعد قضاءهما وأمرهما، فکأنّ المؤمن یکون مسلوب الاختیار بعد أمرهما، والمراد بأمر الرسول صلی الله علیه و آله هنا أوامره الحکومیة أو الشخصیة لعین ما مرّ فی الآیة السابقة.

وقوله تعالی: «إِنِّی لَکُمْ رَسُولٌ أَمِینٌ * فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَطِیعُونِ»(1).

وقوله تعالی: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ»(2).

وقوله تعالی: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا»(3).

والدلیل علیه من السنة: عدّة من الروایات الصحاح

منها: ما ورد فی الزیارة الجامعة(4) عن الإمام الهادی علیه السلام : من أطاعتکم فقد أطاع اللّه ومن عصاکم فقد عَصی اللّه.(5)

ومنها: صحیحة زرارة عن أبیجعفر علیه السلام قال: ذروةُ الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشیاء ورضا الرّحمن _ تبارک وتعالی _ الطّاعة للإمام بعد معرفته. ثمّ قال: إنّ اللّه _ تبارک وتعالی _ یقول: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا».(6)

ومنها: صحیحة أبیالصباح الکنانی قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام : نحن قومٍ فرض اللّه _ عزّوجلّ _ طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال، ونحن الرّاسخون فی العلم، ونحن

ص:159


1- 3 . سورة الشعراء /125 و 126.
2- 1 . سورة النساء /64.
3- 2 . سورة النساء /80.
4- 3 . قد ذهبنا إلی اعتبار سندها فی ما انتشر منّا علی موقعنا الإلکترونی alnajafi.ir.
5- 4 . الفقیه 2/609، ح3213.
6- 5 . الکافی 1/455، ح1 (1/185).

المحسودون الذین قال اللّه: «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1).(2)

ومنها: صحیحة الحسین بن أبیالعلاء قال: ذکرت لأبیعبداللّه علیه السلام قولنا فی الأوصیاء: إنّ طاعتهم مفترضةٌ، قال: فقال: نعم، هم الّذین قال اللّه _ عزّوجلّ _ : «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(3) وهم الّذین قال اللّه _ عزّوجلّ _ : «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا»(4).(5)

ومنها: صحیحة معمَّر بن خلاد قال: سأل رجلٌ فارسیٌّ أباالحسن علیه السلام ، فقال: طاعتک مفترضةٌ؟ فقال: نعم. قال: مثل طاعة علیِّ بن أبیطالبٍ علیه السلام ؟ فقال: نعم.(6)

ومنها: خبر محمّد بن زید الطبری قال: کنت قائما علی رأس الرّضا علیه السلام بخراسان _ وعنده عدّةٌ من بنیهاشمٍ وفیهم إسحاق بن موسی بن عیسی العبّاسی _ فقال: یا إسحاق، بلغنی أنّ النّاس یقولون إنّا نزعم أنّ النّاس عبیدٌ لنا، لا وقرابتی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما قلته قطّ، ولا سمعته من أحدٍ من آبائی قاله، ولا بلغنی عن أحدٍ من آبائی قاله، ولکنّی أقول: النّاس عبیدٌ لنا فی الطّاعة، موالٍ لنا فی الدّین، فلیبلّغ الشّاهد الغائب.(7)

فی هذا المجال راجع باب فرض طاعة الأئمة علیهم السلام فی الکافی 1/455 (1/185).

ص: 160


1- 6 . سورة النساء /54.
2- 7 . الکافی 1/457، ح6 (1/186).
3- 8 . سورة النساء /59.
4- 9 . سورة المائدة /55.
5- 10 . الکافی 1/458، ح7 (1/187).
6- 1 . الکافی 1/458، ح8 (1/187).
7- 2 . الکافی 1/459 ح10 (1/187).
5_ الولایة علی الأموال والأنفس

بمعنی نفوذ تصرفات الرسول صلی الله علیه و آله واوصیائه المعصومین علیهم السلام فی الأنفس والأموال شَرْعا من دون اعتبار رضا الشخص أو المالک، مثلاً: یجوز للإمام علیه السلام أن یزوّج بنت زید لعمرو من دون إذن زید أو یطلّق زوجته أو یبیع داره ونحوه.

أذکر لک نموذجا آخَرَ: «إذا رغبت امرأة فی أن تزوج نفسها برجل، ورأی النبی أن تتزوج برجل آخر لمصلحة عَلِمَها، وزوَّجها بمن یراه، قُدِّم فعلُه ورأیُه. ورُجِح حقّه حتّی إنّه إذا تَمّ العقدان فی وقتٍ واحدٍ، صحَّ عقدُ الرسول وتزویجُه، وبطلَ عقدُها وتزویجُها نفسها للرجل الآخر»(1).

ویدلّ علی ثبوت هذه الولایة من الکتاب:

قوله تعالی: «النَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»(2).

وقوله تعالی: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُوءْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ»(3).

ومن السنة: قوله صلی الله علیه و آله فی خبر متواتر یوم الغدیر: ألستُ اُولی بکم من أنفسکم؟ قالوا: بلی، قال: من کنت مولاه فهذا علی مولاه.(4)

ص:161


1- 1 . الحاکمیة فی الإسلام /230.
2- 2 . سورة الأحزاب /6.
3- 3 . سورة المائدة /55.
4- 4 . مرّت مصادره.

وخبر سفیان بن عُیَیْنَة الهِلالیِّ مَوْلاهُمْ (من العامّة): عن أبیعبداللّه علیه السلام : أنَّ النَّبیّ صلی الله علیه و آله قال: أنا أولی بکلِّ مؤمنٍ من نفسه، وعلیٌّ أولی به من بعدی، الحدیث.(1)

وصحیحة أیوب بن عطیة الحَذّاء قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: أنا أولی بکلِّ مؤمن من نفسه، ومن ترک مالاً فللوارث، ومن ترک دینا أو ضیاعا فإلیَّ وعلیَّ.(2)

وما ورد من الروایات من أنّ الأئمة علیهم السلام بمنزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله فی جمیع الشؤون إلاّ النبوة.

ثمّ فلیعلم بأنّ هذه الولایة من المعصوم علیه السلام مقیدة بالطرق المشروعة ووجود المصلحة وعدم وجود الإضرار علی نفس الغیر.(3)

«لا یقال: إنّهم بناءً علی ذلک یتمکّنون من التصرف فی أعراض المسلمین.

فإنه یقال: إنّ تصرّفاتهم إنّما تنفذ فیما إذا کانت بالأسباب المقرّرة شرعا لا بغیرها نظیر تصرّف نفس المالک فی ملکه، مثلاً لهم أن یبیعوا دار أحد أو یطلّقوا زوجته ثمّ بعد انقضاء عدّتها یزوّجها الإمام علیه السلام من نفسه مثلاً، لا أنّهم یتصرّفون فی زوجة الغیر من دون طلاق أو زواج، فتعالوا عن ذلک علوا کبیرا... نعم، سیرة الأئمّة علیهم السلام لم تجر علی التصرف فی أموال المسلمین أو أنفسهم، بل کانوا یشترون شیئا من مالکه بإجازته ولا یتصرفون فی أموالهم بدون إذنهم، إلاّ أنّ ذلک یحتمل أن یکون من باب التقیة أو لأجل ما یرونه من المصالح، وکیف کان فهی لا تدلّ علی عدم ولایتهم کما هو ظاهر، هذا کلّه فی الولایة بمعنی نفوذ تصرّفاتهم فی الأموال و الأنفس»(4).

ص:162


1- 5 . الکافی 2/346، ح6 (1/406).
2- 1 . وسائل الشیعة 26/251، ح14، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجریرة والإمامة.
3- 2 . لأجل تفصیل هذه القیود راجع الحاکمیة فی الإسلام /230 و 231.
4- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/161 و 162.
6_ ولایة القضاء وإجراء الحدود

ولایة القضاء: هی السلطة القضائیة وولایة الحکم الشرعی قال الشهید فی تعریفها: «ولایة شرعیة علی الحکم والمصالح العامة من قبل الإمام علیه السلام »(1).

والقضاء: هو «ولایة الحکم شرعا لمن له أهلیة الفتوی بجزئیات القوانین الشرعیة علی أشخاص معیّنین من البریّة بإثبات الحقوق استیفائها وللمستحقّ کما فی المسالک(2) والتنقیح(3) وکشف اللثام(4) وغیرها(5)»(6).

قال فی الجواهر: «وبالجملة: هی من مناصب محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام الذین هم ولاة الأمر والمستنبطون»(7). وقال: «... ومن ذلک کلّه ظهر لک: أنّ القضاء الذی هو من توابع النبوة والإمامة والرئاسة العامة فی الدین والدنیا غیر محتاج ثبوته إلی دلیل...»(8).

وولایة إجراء الحدود: هی «السلطة علی إجراء الحدود الشرعیة والتعزیرات بمعنی معاقبة المجرمین والعصاة بعد محاکمتهم وثبوت تخلفهم وجرمهم»(9).

ثمّ هاتان الولایتان أوّلاً وبالذات تختصان بالمعصومین علیهم السلام وثانیا وَبِالْعَرَضِ فُوَّضَتْ مِنْ قِبَلِهِم إلی الفقهاء الذین لهم شرائط الإفتاء کما مرّ فی بحوثنا فی فقه القضاء مفصلاً.

والدلیل علیهما بعد ما مرّ من کلام صاحب الجواهر حیث قال: «غیر محتاج ثبوته

ص:163


1- 1 . الدروس 2/65.
2- 2 . المسالک 13/325.
3- 3 . التنقیح الرائع 4/230.
4- 4 . کشف اللثام 10/5.
5- 5 . کإیضاح الفوائد 4/293 والمهذب البارع 4/451.
6- 6 . الجواهر 41/7 (40/8).
7- 7 . الجواهر 41/8 (40/9).
8- 8 . الجواهر 41/11 (40/11).
9- 9 . الحاکمیة فی الإسلام /203.

إلی دلیل»: من الکتاب عدّة من لآیات نحو:

قوله تعالی: «إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ»(1).

وقوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوی»(2).

وقوله تعالی: «وَإِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ»(3).

وقوله تعالی: «فَلا وَرَبِّکَ لا یُوءْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیما»(4).

وقوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُوءَدُّوا الاْءَماناتِ إِلی أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(5).

وقوله تعالی: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ»(6).

وقوله تعالی: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الاْءَرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ فِی الدُّنْیا وَلَهُمْ فِی الاْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ»(7).

وقوله تعالی: «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»(8).

وقوله تعالی: «الزّانِیَةُ وَالزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْکُمْ

ص:164


1- 10 . سورة النساء /105.
2- 11 . سورة ص /26.
3- 1 . سورة المائدة /42.
4- 2 . سورة النساء /65.
5- 3 . سورة النساء /58.
6- 4 . سورة النساء /59.
7- 5 . سورة المائدة /33.
8- 6 . سورة المائدة /38.

بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ تُوءْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الاْآخِرِ وَلْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُوءْمِنِینَ»(1).

وقوله تعالی: «وَالَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَدا وَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ»(2).

ومن السنة: عدة من الروایات:

منها: صحیحة سلیمان بن خالد عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: اتّقوا الحکومة، فإنَّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین لنبیِّ، أو وصیّ نبیٍّ.(3)

ومنها: موثقة إسحاق بن عمار أو معتبرته عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: قال أمیرالمؤمنین علیه السلام لشریح: یا شریح! قد جلست مجلسا لا یجلسه إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ، أو شقیّ.(4)

ومنها: معتبرة أبیخدیجة قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم، إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(5)

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبیعبداللّه علیه السلام فی حدیث: ینظران من کان منکم ممّن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه، فإنّما استخفَّ بحکم اللّه، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی اللّه، وهو علی حدّ الشرک باللّه. الحدیث.(6)

ص:165


1- 7 . سورة النور /2.
2- 8 . سورة النور /4.
3- 9 . وسائل الشیعة 27/17، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.
4- 1 . وسائل الشیعة 27/17، ح2.
5- 2 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
6- 3 . وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.

ومنها: موثقة حفص بن غیاث، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام من یقیم الحدود؟ السلطان؟ أو القاضی؟ فقال: إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم.(1)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبیجعفر علیه السلام قال: قلت له: رجل جنی إلیَّ أعفو عنه؟ أو أرفعه إلی السلطان؟ قال: هو حقّک إن عفوت عنه فحسن، وإن رفعته إلی الإمام فانّما طلبت حقّک، وکیف لک بالإمام.(2)

ومنها: موثقة سماعة بن مهران، عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: من أخذ سارقا فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإنْ قال الّذی سرق له: أنا أهبه له لم یدعه إلی الإمام حتّی یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع الإمام، وذلک قول اللّه _ عزّوجلّ _ «وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ»(3) فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام، فلیس لأحد أن یترکه.(4)

ومنها: صحیحة الفضیل، قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: من أقرَّ علی نفسه عند

الإمام بحقّ من حدود اللّه مرّة واحدة، حرّا کان أو عبدا، أو حرّة کانت أو أمة، فعلی الإمام أن یقیم الحدّ علیه للّذی أقرَّ به علی نفسه کائنا من کان إلاّ الزانی المحصن، فإنّه لا یرجمه حتّی یشهد علیه أربعة شهداء، فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة، ثمّ یرجمه، قال: وقال أبوعبداللّه علیه السلام : ومَنْ أقرَّ علی نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود اللّه فی حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یقیم علیه الحدّ الّذی أقرَّ به عنده حتّی یحضر صاحب الحقّ أو ولیّه فیطالبه بحقّه.

قال: فقال له بعض أصحابنا: یا أباعبداللّه فما هذه الحدود الّتی إذا أقرَّ بها عند الإمام مرّة واحدة علی نفسه اُقیم علیه الحدّ فیها؟

فقال: إذا أقرَّ علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه، فهذا من حقوق اللّه، وإذا أقرَّ علی نفسه أنّه شرب خمرا حدّه، فهذا من حقوق اللّه، وإذا أقرَّ علی نفسه بالزنا وهو غیر محصن

ص:166


1- 4 . وسائل الشیعة 28/49، ح1، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود.
2- 5 . وسائل الشیعة 28/38، ح1، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود.
3- 6 . سورة التوبة /112.
4- 7 . وسائل الشیعة 28/39، ح3.

فهذا من حقوق اللّه، قال: وأمّا حقوق المسلمین فإذا أقرَّ علی نفسه عند الإمام بفریة لم یحدّه حتّی یحصر صاحب الفریة أو ولیّه، وإذا أقرَّ بقتل رجل لم یقتله حتّی یحضر أولیاء المقتول، فیطالبوا بدم صاحبهم.(1)

ومنها: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبیجعفر علیه السلام قال: مَنْ شهر السلاح فی مصر من الأمصار فعقر اقتصّ منه ونفی من تلک البلد، و من شهر السلاح فی مصر من الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم یقتل فهو محارب، فجزاؤه جزاء المحارب، وأمره إلی الإمام إن شاء قتله وصلبه، وإن شاء قطع یده ورجله، قال: وإن ضرب وقتل وأخذ المال فعلی الإمام أن یقطع یده الیمنی بالسرقة ثمّ یدفعه إلی أولیاء المقتول فیتبعونه بالمال ثمّ یقتلونه.

قال: فقال له أبوعبیدة: أرأیت إنْ عفا عنه أولیاء المقتول؟ قال: فقال أبوجعفر علیه السلام : إن عفوا عنه کان علی الإمام أن یقتله لأنّه قد حارب وقتل وسرق.

قال: فقال أبوعبیدة: أرأیت إن أراد أولیاء المقتول أن یأخذوا منه الدیة ویدعونه، ألهم ذلک؟ قال: لا، علیه القتل.(2)

ومنها: صحیحة جمیل بن درّاج، قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن قول اللّه _ عزّوجلّ _: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ

یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ»(3) إلی آخر الآیة، أیُّ شیءٍ علیه مِنْ هذه الحدود الّتی سمّی اللّه _ عزّوجلّ _؟ قال: ذلک إلی الإمام إن شاء قطع وإن شاء نفی، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل، قلت: النفی إلی أین؟ قال: من مصر إلی مصر آخر، وقال: إنَّ علیّا علیه السلام نفی رجلین من الکوفة إلی البصرة.(4)

ص: 167


1- 1 . وسائل الشیعة 28/56، ح1، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود.
2- 2 . وسائل الشیعة 28/307، ح1، الباب 1 من أبواب حد المحارب.
3- 1 . سورة المائدة /33.
4- 2 . وسائل الشیعة 28/308، ح3.
7_ ولایة الإذن والنَّظارة علی المصالح العامة

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «الولایة تتصوّر علی وجهین:

الأوّل: استقلال الولی بالتصرّف مع قطع النظر عن کون تصرّف غیره منوطا بإذنه أو غیر منوطٍ به، ومرجع هذا إلی کون نظره سببا فی جواز تصرّفه.

الثانی: عدم استقلال غیره بالتصرّف، وکون تصرّف الغیر منوطا بإذنه وإن لم یکن هو مستقلاً بالتصرّف، ومرجع هذا إلی کون نظره شرطا فی جواز تصرّف غیره. وبین موارد الوجهین عموم من وجه.

ثمّ إذنه المعتبر فی تصرّف الغیر:

إمّا أن یکون علی وجه الاستنابة، کوکیل الحاکم.

وإمّا أن یکون علی وجه التفویض والتولیة، کمتولّی الأوقات من قِبَل الحاکم.

وإمّا أن یکون علی وجه الرضا کإذن الحاکم لغیره فی الصلاة علی میّتٍ لا ولیّ له».(1)

ثمّ قال بعد ورقة: «وأمّا بالمعنی الثانی _ أعنی اشتراط تصرّف الغیر بإذنهم _ فهو وإن کان مخالفا للأصل، إلاّ أنّه قد ورد أخبار خاصّة بوجوب الرجوع إلیهم، وعدم جواز الاستقلال لغیرهم بالنسبة إلی المصالح المطلوبة للشارع الغیر المأخوذة علی شخص معیّن من الرعیّة، کالحدود والتعزیرات، والتصرّف فی أموال القاصرین، وإلزام النّاس

ص:168


1- 1 . المکاسب 3/546.

بالخروج عن الحقوق، ونحو ذلک.

ویکفی فی ذلک ما دلّ علی أنّهم أُولو الأمر وولاته؛ فإنّ الظاهر من هذا العنوان عرفا: من یجب الرجوع إلیه فی الاُمور العامّة التی لم تحمل فی الشرع علی شخص

خاصّ»(1).

أقول: ولایة الإذن والنظارة هی لزوم الاستیذان منهم علیهم السلام وجریان الأعمال والأُمور تحت نظارتهم العالیة وإشرافهم التّامّ، والوجه فی ذلک هو التحفظ علی النظام والإبقاء علی الملّة والشریعة وریاستها، نحو: ما مرّ من الشیخ الأعظم قدس سره أمثال صرف أو تصرف بعض الأموال العامة أو المشترکات أو بیت المال والحقوق الشرعیة أو الأموال الخاصة أو حتّی بعض الواجبات الکفائیة.

والأموال العامة مثل التصرف فی الأنفال.

والمشترکات کالماء والنار والکلاء.

وبیت المال والحقوق الشرعیة نحو التصرف فی سهم الإمام علیه السلام من الخمس أو المجهول المالک من الأموال ونحوها.

والأموال الخاصة مثل تقاص الدائن من أموال المدین، أو بیع مال الغائب أو الممتنع وإنفاقه علی مَنْ یجب نفقته علیه.

والواجبات الکفائیة: نحو بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وکتجهیز المیت الذی لا ولیّ خاص له ومثل الصلاة علیه.

مضافا ما ذکرنا یمکن التمثیل لِمَصادِیْقِ هذه الولایة فی الأبواب الفقهیة بما یلی:

1_ وجوب دفع مابقی من الزکاة فی ید ابن السبیل _ بعد وصوله إلی بلده _ إلی الفقیه.

2_ وجوب دفع الزکاة ابتداءً أو بعد الطلب إلیه.

3_ تخیّره بین أخذ خمس أرض الذمی.

ص:169


1- 1 . المکاسب 3/548.

4_ ولایته علی مال الإمام علیه السلام ومیراث مَنْ لا وارث له.

5_ توقّف إخراج الوَدَعی الحقوق علی إذنه.

6_ ولایَتُهُ علی إجراء الحدود علی إشکال یسند إلی ابنی زُهْرَةَ وإدریس.

7_ أداء دین الممتنع من ماله.

8_ توقّف حلف الغریم علی إذنه.

9_ القبض فی الوقف علی الجهات العامّة.

10_ نظارته لذلک.

11_ توقّف التَّقاصِّ من مال الغائب علی إذنه.

12_ ومن الحاضر فی وجه کما قیل.

13_ بیع الوقف حیث یجوز ولا ولیّ له.

14_ قبض الثمن إذا امتنع البائع.

15_ وقبضه من قِبَل کلّ ممتنع عن قبول القبض وقبض حقّه.

16_ الدین المأیوس عنه صاحبه.

17_ وبیع الرهن المتسارع إلیه الفساد بإذنه.

18_ وتولیة إجارة الرهن لو امتنعا.

19_ وتعیین عدل یقبض الرهن لو لم یرضیا.

20_ وتعیین ما یباع به الرهن مع تعدّدالنقد.

21_ باب الحجر علی المفلّس.

22_ أو السفیه فی قولٍ.

23_ وولایته علی الذی حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع وجود أبیه أو جدّه أو الوصی عنهما علی المشهور.

24_ وقبض ودیعة الغائب لو احتج إلی الأخذ.

25_ إجباره الوصیّین علی الاجتماع أو الاستبدال بهما.

26_ ضمّ المُعین إلی الوصیّ العاجز.

ص:170

27_ عزل الخائن علی القول بعدم انعزاله بنفسه.

28_ إقامة الوصیّ فیمن لا وصیّ له.

29_ أو مات وصیّه.

30_ أو کان وانعزل.

31_ وفی تزویج المجنون.

32_ والسفیهة البالغة.

33_ فرض المهر لمفوّضة البضع.

34_ وضرب أجل العنّین.

35_ وبعث الحکمین من أهل الزوجین.

36_ وإجبار الممتنع علی أداء النفقة.

37_ طلاق زوجة المفقود.

38_ وإجبار المُظاهر علی أحد الأمرین.

39_ وإجبار المولی کذلک.

40_ واحتیاج إنفاق الملتقط علی اللقیط إلی إذنه.

وغیر ذلک ممّا یطّلع علیه المتتبّع، وقد جمع الموارد الفاضل المراغی قدس سره فی عناوینه(1).

أدلتها

1_ تدل علیها الإطلاقات الواردة فی لزوم طاعة الأئمة(2) علیهم السلام وأنّهم ولاة الأمر(3) وأنّهم أهل الذکر الذین أمر اللّه الخلق بسؤالهم.(4)

قد مرّ بعضها فی الأبحاث السابقة فلا نعیدها.

ص:171


1- 1 . العناوین 2/562.
2- 2 . الکافی 1/455 (1/185) باب فرض طاعة الأئمة علیهم السلام .
3- 3 . الکافی 1/509 (1/205) باب أنّ الأئمة ولاة الأمر و... .
4- 4 . الکافی 1/522 (1/210) باب أنّ أهل الذکر الذین أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة علیهم السلام .

2_ الأدلة الماضیة آنفا فی ذیل عنوان ولایة القضاء وإجراء الحدود تدلّ علی أنّ لهم ولایة الإذن والنظارة فی المصالح العامة.

3_ معتبرة طلحة بن زید عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحقّ النّاس بالصلاة علیها.(1)

وعن علی علیه السلام أنّه قال: إذا حضر السلطان الجنازة فهو أحقّ بالصلاة علیها من ولیها.(2)

ونحوها فی الجعفریات(3).

4_ مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام : لا یصلح الحکم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام.(4)

وروی نحوها فی الجعفریات(5).

اعتراض السیّد الخوئی علی الشیخ الأعظم

ذهب الشیخ الأعظم(6) إلی أنّ اشتراط إجازتهم فی صحة التصرفات علی خلاف الأصل، وهو یقتضی عدم الاشتراط.

واعترض السیّد الخوئی قدس سره علیه وقال: «ولا یخفی أنّ مقتضی الأصل یختلف باختلاف الموارد، فمقتضاه فی بعض الموارد عدم الاشتراط وفی بعضها الآخر هو الاشتراط وتوضیحه: أنّه إن کان هناک إطلاق یقتضی صحة ذلک التصرف علی نحو الإطلاق من دون حاجة إلی إجازة الأئمّة علیهم السلام کما فی صلاة المیّت فإنّه دلّ الدلیل علی صحتها ووجوبها علی المسلمین ولم یق_یّدها بإجازة الإمام علیه السلام لأنّ الدلیل إنّما دلّ علی

ص:172


1- 5 . وسائل الشیعة 3/114، ح3، الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة.
2- 6 . دعائم الإسلام 1/235 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 2/279، ح5.
3- 7 . الجعفریات /209 و 210 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 2/279، ح2 و 3.
4- 8 . دعائم الإسلام 1/182.
5- 1 . الجعفریات /22.
6- 2 . المکاسب 3/458.

أنّ السلطان أولی بالصلاة من غیره وأمّا أنّها مق_یّدة بإجازته فلا، ففی مثله نتمسّک بذاک الدلیل فی رفع قیدیة إجازة الإمام علیه السلام .

کما أنّه إن کان لدلیل ذلک التصرف دلالة یقتضی عدم صحّة التصرف بدون إجازة الإمام علیه السلام کما فی التصرف فی أموال النّاس بالبیع ونحوه أو فی أنفسهم بالقصاص والتعزیر ونحوهما، فإنّ الثابت من ذلک جوازهما مع إجازة الإمام، وأمّا بدونها فإطلاق ما دلّ علی حرمة الإیذاء وعدم جواز التصرف فی أموال النّاس من دون رضاهم یقتضی حرمتهما فنتمسّک بذلک الدلیل.

وأمّا إذا لم یکن هناک دلیل علی أحدهما ووصلت النوبة إلی الأصل العملی فإن کان الشک راجعا إلی تقیید وجوب التصرف أو العمل بإجازة الإمام علیه السلام کصلاة الجمعة مثلاً حیث علمنا بصحّتها ووجوبها مع إجازة الإمام علیه السلام وشککنا فی وجوبها بدون إذنه علیه السلام فهو شک فی التکلیف نرجع فیه إلی البراءة وبها نثبت عدم الوجوب بلا إذن الإمام علیه السلام ومرجعه إلی اشتراط الوجوب بالإذن والإجازة.

وإن کان الشکّ راجعا إلی تقیید صحة العمل بالإجازة بعد الفراغ عن ثبوت أصل الوجوب فنرجع فی التقیید إلی البراءة ونرفعه بها، ومرجع ذلک إلی أنّ العمل صحیح من دون حاجة إلی إجازة الإمام علیه السلام »(1).

ص: 173


1- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/162 و 163.
8_ ولایة الإمامة

وهی ولایة الحکومة بمعنی حقّ الزعامة السیاسة والاجتماعیة وقیادة الدولة الاسلامیة بانضمام القیادة الدینیة المعنویة الروحیة والمرجعیة الدینیة ونتیجتها حجیة أقواله وأفعاله.

بعبارة أُخری: إنّ هاهنا ولایتین: الأوّلی: ولایة الحکومة والزعامة والریاسة وهی القیادة السیاسیة ورئاسة البلاد وتسمّی ولایة الأمر.

والثانیة: القیادة والمرجعیة الدینیة والروحیة.

فإذا جُمعتا فی شخص واحد یسمّی إماما وتسمّی ولاءه ولایة الإمامة.

فهاهنا أشخاص ثلاث وولایات ثلاثة:

1_ ولی الأمر وهو القائد السیاسی ورئیس البلاد وولایته ولایة الأمر.

2_ المرجع الدینی والقائد الروحی والمعنوی وولایته ولایة الدینیة والمعنویة.

3_ الإمام وهو الذی جمع بین القیادة السیاسیة والمرجعیة الدینیة وولایته ولایة الإمامة.

فالإمام هو القائد الدینی والروحی والمعنوی والسیاسی وولایته أَعَمُّ من ولایة الأمر والولایة الدینیة وقد جمع بین الولایتین فی ولایته التی تسمّی بولایة الإمامة.

فالنسبة بین ولاء الإمامة وولایتی الأمر والدینیة عام وخاص مطلق.

والنسبة بین ولایة الأمر وَالولایة الدینیة عام وخاص من وجه، إذ قد یکون الشخص رئیسا للبلاد والقائد السیاسی ولیس له القیادة والمرجعیة الدینیة وقد یکون

ص:174

عکسه یعنی أنّه قائد روحی ومرجع دینیّ ولیس له القیادة السیاسیة وریاسة البلاد. فانسبة بینهما عموم من وجه.

وقد تجمع المرجعیة الدینیة والقیادة السیاسیة فی شخص واحد فهو الإمام وَتُسَمّی ولایَتُهُ ولایة الإمامة.

وولایة الإمامة من مناصب الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله واُوصیائه المعصومین الإثنی عشر علیهم السلام .

والشاهد علی ما ذکرنا تعریف الإمامة فی کتب متکلّمی الأصحاب بأنّها ریاسة عامة فی أُمور الدین والدنیا، بالأوّل أشاروا إلی المرجعیة الدینیة وبالثانی إلی القیادة السیاسیة أذکر لک تعریفین:

قال مَیْثم(1) بن علی البحرانی المتوفی عام 699ه . ق فی کتابه قواعد المرام فی علم الکلام فی تعریف الإمامة: «هی رئاسة عامة فی اُمور الدین والدنیا بالأصالة»(2).

وقال العلاّمة الحلّی المتوفی عام 726: «الإمامة: ریاسة عامة فی أُمور الدین والدنیا لشخص من الأشخاص»(3).

الدلیل علی ولایة الإمامة

قد مرّت فی البحوث السالفة ما یدلّ علی هذه الولایة من الآیات والروایات فلا نعیدها.

وأُنبّه هنا علی أنّ آیة اللّه الحاج آقا حسین البروجردی رحمه الله المتوفی سنة 1380ق قد أثبتَ فی مقدمة کتاب جامع أحادیث الشیعة(4) المرجعیة الدینیة لأئمة أهل البیت علیهم السلام علی جمیع الفرق الإسلامیة وعلی کافّة المسلمین، فراجع ما حرره هناک واستظهر أُمورا

ص:175


1- 1 . ذَکَرَ بعضُ المحقّقین فی علم الرجال: أنَّ کُلَّ مِیْثمٍ بکسر المِیْم إلاّ مَیْثَم بْنَ عَلِیٍّ البَحرانیّ هذا فَهُوَ بِفَتْحِها.
2- 2 . قواعد المرام فی علم الکلام /174.
3- 3 . منهاج الصلاح فی اختصار المصباح /528.
4- 4 . جامع أحادیث الشیعة 1/(45-25).

خمسة:

«الأوّل: انّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یترک الامّة بعده سدی مهملة بلا إمام هادٍ وبیان شافٍ بل عیّن لهم أئمّة هداة دعاة سادة قادة حفاظا وبیّن لهم المعارف الإلهیّة والفرائض الدّینیّة والسّنن والآداب والحلال والحرام والحِکم والآثار وجمیع ما یحتاج إلیه النّاس إلی یوم القیامة حتّی ارش الخدش ولم یأذن صلی الله علیه و آله لأحد أن یحکم أو یفتی بالرّأی والنّظر والقیاس

لعدم کون موضوع من الموضوعات أو أمر من الاُمور خالیا عن الحکم الثّابت له من قبل اللّه الحکیم العلیم بل أملی صلی الله علیه و آله جمیع الشّرائع والأحکام علی الإمام علیّ بن أبیطالب علیه السلام وأمره بکتابته وحفظه وردّه إلی الأئمة من ولده علیهم السلام فکتبه علیه السلام بخطّه وادّاه إلی أهله.

والثّانی: انّه صلی الله علیه و آله أملی هذا العلم علی علیّ بن أبیطالب علیه السلام فقط ولم یطّلع علیه فی عصره صلی الله علیه و آله غیره أحد، وأُوصی إلیه أن یکون هذا الکتاب بعده عند الأئمّة الأحد عشر فیجب علی الأُمّة کلّهم أن یأخذوا علم الحلال والحرام وجمیع ما یحتاجون إلیه فی أمر دینهم بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله من علیّ بن أبیطالب والأئمّة من ولده علیهم السلام فإنّهم موضع سرّ النّبیّ صلی الله علیه و آله وخزّان علمه وحفّاظ دینه.

والثّالث: إنّ الکتاب کان موجودا عند الأئمّة علیهم السلام وأراه الإمامان أبوجعفر محمّد بن علیّ بن الحسین بن علیّ بن أبیطالب وابنه أبوعبداللّه جعفر ابن محمّد الصّادق علیهم السلام جماعة من أصحابهما الإمامیّة وغیرهم من الجمهور لحصول الاطمینان أو الاحتجاج علی ما کانا یتفرّدان به من الفتاوی عن سائر الفقهاء ویقسمان باللّه أنّه إملاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وخطّ علی بن أبیطالب علیه السلام .

والرّابع: کون الکتاب معروفا عند الخاصّة والعامّة فی عهد الإمامین علیهماالسلام لانّهما کثیرا ما یقولان فی جواب استفتاآت الجمهور کغیاث بن إبراهیم وطلحة بن زید والسّکونی وسفیان بن عیینة والحکم بن عتیبة ویحیی بن سعید وأمثالهم: إنّ فی کتاب علیّ علیه السلام کذا، وکذا فی جواب مسائل الأصحاب کزرارة ومحمّد بن مسلم وعبداللّه بن سنان وأبیحمزة وابن بکیر وعنبسة بن بجاد العابد ونظائرهم.

والخامس: إنّ ما عند الأئمّة علیهم السلام من علم الحلال والحرام والشّرائع والأحکام نزل

ص:176

به جبرئیل علیه السلام واخذوه من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فتحرم علی الأمّة مخالفتهم فی الحکم والفتوی اعتمادا علی الرّأی والقیاس والاجتهاد ویجب علیهم الأخذ بأحادیثهم وفتاویهم وردّ ما یَرِدُ عن مخالفیهم لأنّ ما عندهم أوثق ممّا عند غیرهم، ومعلوم أنّ ما ورد فی کون أحادیث الأئمّة الأثنی عشر وعلومهم علیهم السلام عن النّبی صلی الله علیه و آله من طرق العامّة والخاصّة قد تجاوزت حدّ التّواتر بل لایسعها المجلّد الضّخْم ولسنا بصدد استقصائها فی هذا الکتاب وانّما نذکر أیضا بعضها فی المقام للتّنبیه والتّذکار وإلاّ فإثباته لا یحتاج إلی الذّکر والبیان»(1).

وقد ثَبَتَتْ فی البحوث السالفة خلافتهم علیهم السلام بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله بلافصل وهذه لیست إلاّ القیادة السیاسیة والزعامة الدنیویة.

وحیث ثبتَ کلا القیادتین والزعامتین والریاستین والمرجعیتین فقد ثَبَتَتْ ولایة الإمامة والحمد للّه.

ص: 177


1- 1 . جامع أحادیث الشیعة 1/36 و 37.

السابع: مناصب الفقیه

اشارة

للفقیه الجامع للشرائط عدّة مناصب:

1_ الإفتاء

یجوز للفقیه الإفتاء فی ما یحتاج إلیه العامیُّ فی عمله جوازا تکلیفیا ووضعیّا بمعنی نفوذه علی مقلّدیه ومن یجب علیه الرجوع إلیه، لأنّ الجواز التکلیفی لا یشترط فیه الشرائط. بل الإفتاء علیه واجب ولو بالاحتیاط.

والمراد بالعامی هو من لم یبلغ رتبة الاجتهاد وإن کان له حظٌّ من العلم.

ومورد الإفتاء: المسائل الفرعیة وهی القضایا المتکفلة للأحکام الخمسة التکلیفیة التی تتعلق بأفعال المکلفین أو الأحکام الوضعیة المجعولة لمضوعاتها.

وهکذا مورد الإفتاء: الموضوعات المستنبطة، الشرعیة منها کالصلاة والصوم والکرّ والسفر والرضاع، والعرفیة کالغناء والآنیة حیث یرجع فیها إلی الفقیه من جهة سعتها وضیقها بالإضافة إلی الحکم المترتب علیها.

والمفتی والمستفتی والإفتاء کانوا موجودین من عصر الأئمة علیهم السلام وهم یقرّرونَها بل یرشدونها کما یظهر من کلمات الأصحاب قدس سرهم :

قال الشریف المرتضی رحمه الله : «أنّه لا خلاف بین الأُمّة قدیما وحدیثا فی وجوب رجوع العامیّ إلی المفتی، وأنّه یلزمه قبول قوله، لأنّه غیر متمکّنٍ من العلم بأحکام الحوادث، ومن خالف فی ذلک کان خارقا للإجماع»(1).

وقال الشیخ الطوسی رحمه الله : «أنّی وَجدتُ عامّة الطّائفة مِنْ عَهد أمیرالمؤمنین علیه السلام إلی زَماننا هذا یَرجعون إلی عُلمائها، وَیَستفتونهم فی الأحکام والعبادات، ویُفتونهم العُلماءُ فیها، ویُسوّغون لهم العَمَل بما یفتونهم به، وما سَمِعنا أحدا منهم قال لمُسْتَفتٍ: لا یجوزُ لک الاستفتاء ولا العَملُ به، بل یَنبَغی أن تَنظُرَ کما نَظَرتُ وتَعْلَم کما عَلِمتُ، ولا أنکرَ علیه العمل بما یُفتُونهم، وقد کان منهم الخَلقُ العَظیم عاصَروا الأئمة علیهم السلام ، ولم یُحْکَ عَنْ واحد

ص:178


1- 1 . الذریعة إلی اُصول الشریعة 2/796.

ٍ مِن الأئِمة النّکیرَ علی أحدٍ مِنْ هؤلاء ولا إیجاب القول بخلافه، بل کانوا یُصّوبونَهم فی ذلک، فَمَن خالفه فی ذلک کانَ مُخالفا لما هو المعلوم خلافه»(1).

وقال المحقّق الحلی رحمه الله : «اتفاق علماء الأعصار علی الإذن للعوام فی العمل بفتوی العلماء من غیر تناکر، وقد ثبت أنّ إجماع أهل کلِّ عصرٍ حجة»(2).

وقال العلاّمة: «الحق أنّه یجوز للعامی أن یقلد فی فروع الشرع خلافا لمعتزلة بغداد وجوزه الجبائی فی مسائل الاجتهاد دون غیرها.

لنا: قوله تعالی: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ» أوجب التعلیم علی بعض الفرقة فجاز لغیرهم التقلید، ولأن الحادثة إذا نزلت بالعامی فإن لم یکن مکلَّفا فیها بشیء فهو باطل بالإجماع، وإن کان مکلَّفا بالاستدلال، فإن کان بالبرائة الأصلیة فهو باطل بالإجماع، وإن کان بغیرها فإن لزمه ذلک حین استکمل عقله فهو باطل بالإجماع، وإن کان حین حدوث الحادثة لزم تکلیف ما لا یطاق»(3).

وقال الشهید: «یجب التفقة... ووجوبه کفایة... وعلیه أکثر الإمامیة، وخالف فیه بعض قدمائهم(4) وفقهاء حلب(5) _ رحمة اللّه علیهم _ فاوجبوا علی العوام الاستدلال، واکتفوا فیه: بمعرفة الاجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلی الوقائع، أو النصوص الظاهرة، أو أن الأصل فی المنافع الإباحة وفی المضار الحرمة، مع فقد نص قاطع فی متنه ودلالته والنصوص محصورة.

ویدفعه: إجماع السلف والخلف علی الاستفتاء من غیر نکیر ولا تعرض لدلیل بوجه من الوجوه، وما ذکروه لا یخرج عن التقلید عند التحقیق، وخصوصا عند من اعتبر

ص:179


1- 2 . عدّة الاُصول 2/730.
2- 1 . معارج الاُصول /197.
3- 2 . تهذیب الوصول إلی علم الاُصول /291.
4- 3 . کالسیّد المرتضی فی جوابات المسائل الرسیة الأولی، راجع الرسائل الشریف المرتضی 2/320.
5- 4 . کابن زهرة الحلبی فی الغنیة 2/414.

حجیة خبر الواحد، فان فی البحث عنه عرضا عریضا»(1).

ولذا قال الشیخ الأعظم بعد ذکر أدلة جواز التقلید: «ولکن العمدة من هذه الأدلة: الإجماع والسنة»(2).

ولکن قال هنا: «ولا إشکال ولا خلاف فی ثبوت هذا المنصب للفقیه إلاّ ممّن لا

یری جواز التقلید للعامی»(3).

والمستثنی فی کلامه هم القائلون بحرمة التقلید من فقهاء حلب والمحدِّثین.

فمن الأوّل ابن زهرة قال: «فصل: لا یجوز للمستفتی تقلید المفتی، لأنّ التقلید قبیح، ولانّ الطائفة مجمعة علی أنّه لا یجوز العمل إلاّ بعلم.

ولیس لأحد أن یقول: قیام الدلیل _ وهو إجماع الطائفة علی وجوب رجوع العامی إلی المفتی، والعمل بقوله مع جواز الخطأ علیه _ یؤمّنه من الاقدام علی قبیح، ویقتضی إسناد عمله إلی علم.

لأنّا لا نسلّم إجماعها علی العمل بقوله مع جواز الخطاء علیه، وهو موضع الخلاف، بل إنّما أمروا برجوع العامی إلی المفتی فقط، فأمّا لیعمل بقوله تقلیدا فلا.

فإن قیل: فما الفائدة فی رجوعه إلیه إذا لم یجز له العمل بقوله؟

قلنا: الفائدة فی ذلک أن یصیر له بفتیاه وفتیا غیره من علماء الإمامیة سبیلٌ إلی العلم بإجماعهم، فیعمل بالحکم علی یقین»(4).

ومن الثانی الشیخ الحر العاملی قال بعد نقل روایة الاحتجاج فی مذمّة تقلید الیهود علمائهم والفرق بین تقلیدهم وتقلید عوام الشیعة للفقهاء: «التقلید المرخص فیه هنا إنّما هو قبول الروایة لا قبول الرأی والاجتهاد والظن وهذا واضح وذلک لا خلاف

ص:180


1- 5 . ذکری الشیعة 1/41.
2- 6 . رسالة الاجتهاد والتقلید /48.
3- 1 . المکاسب 3/545.
4- 2 . غنیة النزوع 2/414.

فیه...»(1).

واستفاد فی کتابه الآخر من الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم: «... عدم جواز التقلید مطلقا، ولیس له أیضا مخصِّص صریح یعتدُّ به...»(2).

أقول: أنتَ تری فی نقل کلمات فقهاء حلب والمحدثین أنّهم لا ینکرون منصب الإفتاء للفقیه بل هم ینکرون تقلید العامی له بوجوه غیر مرضی والفرق بینهما واضح فحینئذ لا یتم استثناء الشیخ الأعظم قدس سره لأنّ من لا یری جواز تقلید العامی للفقیه، یقرّ منصب الإفتاء للفقیه ولکن یری أنّ عمل العامی علی فتیاه منوط بالعلم عند فقهاء حلب وبذکر مستند الروایة عند المحدثین وسبحان من لا یسهو.

والتفصیل یطلب من بحث الاجتهاد والتقلید فی أوّل الفقه وآخر الاُصول والحمدللّه الأوّل والآخر.

2_ القضاء

قد مرّ(3) تعریف ولایة القضاء وأقول فی تعریف القضاء: «هو فصل الخصومة بین المتخاصمین والحکم بثبوت دعوی المدعی أو بعدم حقّ له علی المدعی علیه»(4).

ولکن یمکن أن یقال بأنّ فصل الخصومة وإنهائها هو من ثمرات القضاء ویکون من آثار الحکومة لا نفسها.

ولذا یمکن أن یقال فی تعریف القضاء: «هو إنشاء الحکم الجزئی لحصول الموضوع أو المتعلّق لکلیة المجعول فی الشریعة بمفاد القضیة الحقیقیة، أو الحکم بعدم الحصول فیما إذا وقعت الخصومة والمنازعة فی حصول أحدهما بین شخصین أو أشخاص، أو تعیین الحکم فی واقعة خارجیّة بتطبیق الکبری المقررة فی الشرع علی تلک

ص:181


1- 3 . وسائل الشیعة 27/132 ذیل ح20 من الباب 10 من أبواب صفات القاضی.
2- 4 . الفوائد الطوسیة /324، الفائدة 75.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 163.
4- 2 . مبانی تکملة المنهاج 1/5، المجلد 41 من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .

الواقعة فیما إذا وقعت المخاصمة فی حکم تلک الواقعة، إمّا لجهل المتخاصمین بتلک الکبری الکلیة المجعولة: فی الشرع أو اختلافهم فی تلک الکبری.

وقد یطلق الحکم علی ما ذکر وعلی مطلق الحکم بحصول الموضوع فیما إذا وقعت الشبهة فیه بین النّاس من غیر مخاصمة کالحکم برؤیة الهلال، کما یطلق أیضا علی تعیین الوظیفة الفعلیة علی النّاس فی مورد أو موارد لرعایة المصلحة العامة الموجبة له، ویعبّر عن هذا القسم بالحکم الابتدائی»(1).

والفرق بین القضاء والإفتاء: «أنّ الفتوی: عبارة عن بیان الأحکام الکلّیّة من دون نظر إلی تطبیقها علی مواردها، وهی _ أی الفتوی _ لا تکون حجّة إلاّ علی من یجب علیه تقلید المفتی بها، والعبرة فی التطبیق إنّما هی بنظره دون نظر المفتی.

وأمّا القضاء: فهو الحکم بالقضایا الشخصیّة التی هی مورد الترافع والتشاجر، فیحکم القاضی بأنّ المال الفلانی لزید، أو أنّ المرأة الفلانیّة زوجة فلان، وما شاکل ذلک، وهو نافذ علی کلّ أحد حتّی إذا کان أحد المتخاصمین أو کلاهما مجتهدا.

نعم، قد یکون منشأ الترافع الاختلاف فی الفتوی، کما إذا تنازع الورثة فی الأراضی، فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، وادّعی الباقی حرمانها فتحا کما لدی القاضی، فإنّ حکمه یکون نافذا علیهما وإن کان مخالفا لفتوی من یرجع إلیه المحکوم علیه»(2).

ثمّ فلیعلم أنّ القضاء منصب وولایة قد جعلها اللّه للرسول صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام کما مرّ(3) وجعلها الأئمة علیهم السلام للفقهاء العدول من الشیعة الإمامیة وتدلّ علی هذا الجعل عدّة من الروایات:

منها: معتبرة أبی خدیجة سالم بن مکرم الجمّال قال: قال أبوعبداللّه جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضا إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل

ص:182


1- 3 . تنقیح مبانی الأحکام، القضاء والشهادات /6 لشیخنا الاستاذ آیة اللّه التبریزی قدس سره .
2- 1 . مبانی تکملة المنهاج 1/5، المجلد 41 من موسوعة الإمام الخوئی قدس سره .
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 163.

منکم، یعلم شیئا من قضایانا، فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیا، فتحاکموا إلیه.(1)

ومنها: معتبرة أُخری له قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(2)

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبیعبداللّه علیه السلام ... قال: ینظران من کان منکم ممّن قد ر وی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه، فإنّما استخفَّ بحکم اللّه، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی اللّه، وهو علی حدّ الشرک باللّه. الحدیث.(3)

ومنها: ما ورد فی العهد الأشتر النخعی بسند معتبر عن أمیرالمؤمنین علیه السلام : ... واختر للحکم بین النّاس أفضل رعتیک فی نفسک ممّن لاتضیق به الأُمور، والعهد.(4)

ومنها: التوقیع المروی بسند حسن عن صاحب الزمان «عج»: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه، وأمّا محمّد بن

عثمان العمری _ رضی اللّه عنه _ ، وعن أبیه من قبل، فإنّه ثقتی، وکتابه کتابی.(5)

والقدر المتیقن من الحوادث الواقعة هی الحکومة والقضاء، والتفصیل یطلب من بحوثنا فی کتاب القضاء.

3_ الولایة
اشارة

وهی ولایة التصرف فی الأموال والأنفس وهی «المقصود بالتفصیل هنا»(6) فی

ص:183


1- 3 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.
2- 4 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
3- 5 . وسائل الشیعة 27/136، ح1.
4- 6 . وسائل الشیعة 27/223، ح9، الباب 8 من أبواب صفات القاضی.
5- 1 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
6- 2 . المکاسب 3/546.

بحث ولایة الفقیه.

وهی فی الجملة ممّا لا ینکر ویعدّ من المسلمات والضروریات فی الفقه: قال المحقّق الثانی: «اتفق أصحابنا علی أنّ الفقیه العادل الإمامی الجامع لشرائط الفتوی _ المعبّر عنه بالمجتهد فی الأحکام الشرعیة _ نائب من قبل أئمة الهدی علیهم السلام فی حال الغیبة فی جمیع ما للنیابة فیه مدخل، وربّما استثنی الأصحاب القتل والحدود»(1).

قال صاحب الجواهر: «ولکن ظاهر الأصحاب _ عملاً وفتویً فی سائر الأبواب _ عمومها [أی عموم ولایة الحاکم] بل لعلّه من المسلمات أو الضروریات عندهم، بل صرّح غیر واحد منهم...»(2).

وقال: «وبثبوت النیابة لهم فی کثیر من المواضع علی وجهٍ یظهر منه عدم الفرق بین مناصب الإمام أجمع، بل یمکن دعوی المفروغیّة منه بین الأصحاب، فإنّ کتبهم مملوءة بالرجوع إلی الحاکم _ المراد به نائب الغیبة _ ... وبأنّ الضرورة قاضیة بذلک فی قبض الحقوق العامّة والولایات ونحوها، بعد تشدیدهم فی النهی عن الرجوع إلی قضاة الجور وعلمائهم وحکّامهم، وبعد علمهم بکثرة شیعتهم فی جمیع الأطراف وطول الزمان.

وبغیر ذلک ممّا یظهر بأدنی تأمّل فی النصوص وملاحظتهم حال الشیعة _ وخصوصا علمائهم _ فی زمن الغیبة، وکفی بالتوقیع الذی جاء للمفید من الناحیة المقدّسة وما اشتمل علیه من التبجیل والتعظیم، بل لو لا عموم الولایة لبقی کثیر من

الاُمور المتعلّقة بشیعتهم معطّلة.

فمن الغریب: وسوسة بعض النّاس فی ذلک، بل کأنّه ما ذاق من طعم الفقه شیئا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا، ولا تأمّل المراد من قولهم: «إنّی جعلته علیکم حاکما وقاضیا وحجّةً وخلیفةً» ونحو ذلک، ممّا یظهر منه: إرادة نظم زمان الغیبة لشیعتهم فی کثیر

ص:184


1- 3 . رسالة فی صلاة الجمعة، المطبوعة فی ضمن المجلد الرابع من آثار المحقّق الکرکی /17؛ ونقل عنه فی الجواهر 22/676 (21/396).
2- 4 . الجواهر 16/557 (16/178)، کتاب الخمس.

من الاُمور الراجعة إلیهم؛ ولذا جزم فیما سمعته من المراسم(1) بتفویضهم علیهم السلام لهم فی ذلک.

نعم، لم یأذنوا لهم فی زمن الغیبة ببعض الأُمور التی یعلمون عدم حاجتهم إلیها؛ کجهاد الدعوة المحتاج إلی سلطان وجیوش واُمراء ونحو ذلک ممّا یعلمون قصور الید فیها عن ذلک ونحوه، وإلاّ لظهرت دولة الحقّ کما أومأ إلیه الصادق علیه السلام بقوله: «لو أنّ لی عدد هذه الشویهات _ وکانت أربعین _ لخرجت»(2).

وبالجملة: فالمسألة من الواضحات التی لا تحتاج إلی أدلّة»(3).

مراتب ولایة الفقیه

مراتبها تتصوّر علی الثَّلاث:

الأُولی: کون الفقیه ولیّا فی ما یُحرز من الدلیل الشرعی لابدّیة وجوده فی الخارج أو مطلق محبوبیته ومطلوبیته، سواء کان راجعا إلی الشخص کحفظ مال الصغیر والسفیه والغائب، أو إلی النوع کالاُمور التی یقطع برضا الشارع لها أو لابدّیتها من بناء المدارس والمساجد والقناطر والمستشفیات وفتح الطرق العامة وأمثالها إذا کانت مورد حاجة النّاس.

وهذه المرتبة هی القدر المتیقن من ولایة الفقیه ولم یناقش فیه أحد.

الثانیة: کون الفقیه نائبا عن الإمام علیه السلام ، فله ما للإمام علیه السلام من ولایة الأمر والتدخل فی السیاسات الراجعة إلی النظام والبلدان ولو لم یقطع برضا الشارع له ومطلوبیته أو لم یصل إلی حدّ اللزوم واللابدّیّة.

وهذه المرتبة محلّ نقاش وإیراد واعتراض.

الثالثة: کون الفقیه ولیّا علی النّاس بما یکون الإمام علیه السلام والرسول صلی الله علیه و آله فی ولایتهم

ص:185


1- 1 . المراسم /261.
2- 2 . روی الکلینی نحوها فی روضة الکافی 8/26، ح5.
3- 3 . الجواهر 22/(678-676) [21/396 و 397].

علی الأموال والأنفس کما مَرّ(1) فی أقسام ولایتهم، وبمعنی اولویته بالمؤمنین من أنفسهم. وهذه المرتبة «غیر ثابتة للفقیه مسلّما من جهة انحصار الأدلة الواردة فی الاُولویة بالنسبة إلی خصوص النبی صلی الله علیه و آله وعترته الطاهرة من الأئمة الإثنیعشر علیهم السلام »(2).

نعم، «نُسب ذلک إلی بعض فقهائنا»(3) نحو: الشیخ محسن خَنْفَر النجفی(4) قدس سره المُتوفی سنة 1270ه . ق من معاصری صاحب الجواهر وبینهما مداعبة یذکرها السیّد الخوئی وقال: «وقد حکی عن بعض معاصری صاحب الجواهر أنّه کان بانیا علی ولایة الفقیه علی نحو ولایة الإمام وهی الولایة العامّة، وقد اعترض علیه صاحب الجواهر فی مجلس فقال: زوجتک طالق فأجابه المعاصر بأنی لو کنت أعتقد اجتهادک لاجتنبت عن زوجتی إلاّ أنّ اجتهادک محل کلام عندی، وکان له مقام علمی شامخ».(5)

وکما یحکیها آیة اللّه الشیخ علی آل کاشف الغطاء قدس سره المتوفی سنة 1411ق هکذا: «فقد نقل لی بعض الأفاضل الثقاة أنه وقع النزاع فی الولایة العامة بین المرحوم المحقّق صاحب الجواهر، وبین المرحوم المحقّق الشیخ محسن خنفر المذکور، فی ثبوت الولایة العامة للمجتهد، وقد أخذ الشیخ محسن خنفر یقیم الأدلة علیها فالتفت الشیخ محمّدحسن رحمه الله وقال: إن کان الأمر کما یزعم الشیخ محسن فزوجته طالق، فأجابه المرحوم الشیخ محسن الإشکال فی الصغری»(6).

ص:186


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 161.
2- 2 . کتاب القضاء /46 لآیة اللّه المرحوم السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره المتوفی عام 1405ق.
3- 3 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/32.
4- 4 . أنت تجد ترجمته فی تکملة أمل الآمل 4/299، رقم 1804 والکرام البررة 3/297، رقم 445؛ وأعیان الشیعة 9/47؛ وتکملة نجوم السماء 1/108؛ الطلیعة من شعراء الشیعة 2/173، رقم 241؛ معارف الرجال 2/175، رقم 295؛ الفوائد الرضویة /374؛ ماضی النجف وحاضرها 2/259؛ مصفی المقال /388؛ معجم رجال الفکر والأدب فی النجف 2/530؛ معجم المؤلِّفین 8/183؛ مکارم الآثار 6/1985، رقم 1216.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/164.
6- 6 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/386.

ونحو السیّد عبدالحسین الموسوی اللاری المتوفی سنة 1342ه . ق حیث یقول: «وعلی ذلک لم یَبْقَ إجمالٌ ولا إشکالٌ فی أنّ السلطنةَ المطلقةَ الثابتة لِلأئمّة علیهم السلام مِن قِبَلِ النبیِّ صلی الله علیه و آله بتنصیصِهِ علی خلافتهم عنه ثابتةٌ لِلفقیهِ مِن قِبَلِ الأئمّة علیهم السلام بتنصیصهم علی خلافته عنهم أیضا إلاّ فیما کان مِن خصائص الأئمّة علیهم السلام ؛ فإنّها خارجةٌ عن إطلاقِ خلافةِ

الفقیهِ عنهم، کما أنّ خصائص النبیّ صلی الله علیه و آله أیضا خارجةٌ عن إطلاقِ خلافةِ الأئمّة عنه»(1).

والحاصل: المرتبة الاُولی ثابتة من دون المناقشة والمرتبة الثالثة غیر ثابتة لم یقل بها إلاّ الشاذ فیقع الکلام فی أدلة المرتبة الثانیة وهی نیابة الفقیه عن الإمام المعصوم علیه السلام .

وهذا أوان الشروع فی بحث أدلة ولایة الفقیه فنقول:

ص: 187


1- 1 . رسالة فی ولایة الفقیه /17، المطبوعة فی ضمن رسائل سیّد لاری، المجلّد الثالث.
أدلة النیابة
مقدمات ثلاثة
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تقدیم: مقدمات:

المقدمة الاولی: إنّ الأحکام الثابتة للإمام علیه السلام علی ثلاثة أقسام:

«تارة: تکون من خواص الإمام علیه السلام بحیث یتکفل دلیلها لزوم قیام الإمام علیه السلام بها بنفسه، فلا یجوز له فیه الاستنابة حتّی فی حال حضوره.

وأُخری: تکون من خواص زمان الحضور بحیث یؤخذ فی موضوعها حضور الإمام علیه السلام .

وثالثة: لا تکون کذلک بل یعتبر فیها إذن الإمام علیه السلام .

فدلیل النیابة لو تم، فهو إنّما یتکفل ثبوت النحو الثالث من الأحکام للفقیه، دون النحوین الأوّلین إذ الأوّل لا یقبل النیابة حتّی فی حیاة أو حضور الإمام علیه السلام فلا یشرع لغیره. والثانی مقید بحال الحضور، فهو غیر مشروع فی زمن الغیبة أصلاً.

فدلیل النیابة إنّما یتکفل ثبوت نیابة الفقیه فی العمل المشروع الذی یقبل النیابة دون غیره فتدبر»(1).

المقدمة الثانیة: ما هو ضابط الموارد التی یعتبر فیها إذن الإمام؟

من المعلوم أنّ عمل الإمام علیه السلام لا یکون ضابطا «لأنّه کما یحتمل أنْ یکون لأجل

ص:189


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /297.

توقف صحة التصرف علی إذنه کذلک یحتمل أنْ یکون لأَجل امامته ونفوذ تصرفه المطلق حتّی فی الموارد التی یعلم بعدم نفوذ تصرف الفقیه فیها، کموارد النحو الأوّل.

وأقرب ما یمکن ان یُدَّعی فی تحدید الضابط هو: کونه کلّ ما کان من الأُمور العامة التی یرجع فیها إلی الرئیس عرفا بحیث تکون عن وظائفه وکلمته فیها هی النافذة، کحفظ أموال الیتیم وأموال المجانین ونحو ذلک.

فیقع الکلام فی أنّ إذْن الفقیه وتصرفه نافذ فی هذه الموارد أولا؟ وهذا الضابط وإن لم یرفع اللبس فی بعض الموارد لکنّه أقرب ما یکون أن یقال فی الضابط»(1).

المقدمة الثالثة: اشتراط ولایة الفقیه بمشروعیة الفعل فی حدّ نفسه

المقدمة الثالثة: اشتراط ولایة الفقیه بمشروعیة الفعل فی حدّ نفسه ووجود المصلحة وعدم وجود الإضرار علی نفس الغیر کما أخذناها فی ولایة النبی صلی الله علیه و آله وأُوصیائه المعصومین علیهم السلام علی الأموال والأنفس.(2)

وبعبارة أُخری: «إنّ موضوع البحث ما کان الفعل سائغا ومشروعا فی نفسه، غایة الأمر أن یکون مشروعا بإذن الفقیه بمقتضی الدلیل، وأمّا الفعل الذی یکون فی نفسه محرما وغیر مشروع وانّما تحتمل مشروعیته بالإذن، فدلیل الولایة لا یتکفل مشروعیته.

وبعبارة [ثالثة]: أنّ دلیل الولایة لو تم فإنّما یدلّ علی نفوذ إذن الفقیه فیما هو مشروع فی نفسه ومع قطع النظر عن الإذن، کالطلاق والتصدق بمجهول المالک، دون ما لم یکن مشروعا فی نفسه وأنّما یحتمل مشروعیته بالإذن»(3).

کما صرح بهذه المقدمة الأخیرة المحقّق الاصفهانی قدس سره .(4)

ص: 189


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /293.
2- 2 . بحث الولایة علی الأموال والأنفس من أقسام ولایة الرسول صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام راجع صفحة 161 من هذا المجلد.
3- 3 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /294.
4- 4 . راجع حاشیته علی المکاسب 2/387.
1_ إثبات ولایة الفقیه بالروایات
اشارة

یمکن أن یستدل للنیابة بعدّة من الروایات:

1/1_ منها: خبر أبی البختری

1/1_ منها: خبر أبی البختری عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: إنّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبیاءِ، وذاک أنّ الأنبیاء لم یُورِثُوا درهما ولا دینارا، وإنّما أوْرَثُوا أحادیث من أحادیثهم، فمن أخذ بشیءٍ منها، فقد أخذ حظّا وافرا، فانظروا علمکم هذا عمّن تأْخذونه؟ فإنّ فینا _ أهل البیت _ فی کلِّ خلفٍ عدولاً یَنْفُونَ عنه تحریف الغالین وانْتِحَالَ المبطلین وتأویلَ الجاهلین.(1)

ونحوها: صحیحة عبداللّه بن میمون القداح عن أبیعبداللّه علیه السلام ، قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : من سلک طریقا یَطْلُبُ فیه عِلْما، سَلَکَ اللّه ُ به طریقا إلی الجنّة، وإنَّ الملائکةَ لَتَضَعُ أجنحتها لطالب العلم رضا به، وإنّه لیستغفرُ لطالب العلم مَنْ فی السّماء ومَنْ فی الأرض حتّی الحوت فی البحر، وفضل العالم علی العابد کفضل القمر علی سائر النّجوم لیلة البدر، وإنَّ العلماءَ وَرَثَةُ الأنبیاءِ؛ إنّ الأنبیاءَ لم یُوَرِّثُوا دینارا ولا درهما، ولکن وَرَّثوا العلم، فمن أخذ منه، أخذ بحظٍّ وافرٍ.(2)

بتقریب: أنّ الوارث یثبت له جمیع ما کان ثابتا لمورِّثه ومنها: الولایة.

أو ینتقل ما للمورّث من الأشیاء إلی الورثة ومن ذلک الولایة المطلقة فهی تنتقل إلی الوارث وَهُم الفقهاء.

ص:190


1- 1 . الکافی 1/76، ح2 (1/32)، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/78، ح2، الباب 8 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . الکافی 1/82، ح1 (1/34)؛ الفقیه 4/384، ح5834.

وقال السیّد الخمینی رحمه الله فی تقریب الاستدلال: «ثمّ إنّ مقتضی کون الفقهاء ورثة الأنبیاء _ ومنهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وسائر المرسلین الذین لهم الولایة العامّة علی الخلق _ انتقال کلّ ما کان لهم إلیهم، إلاّ ما ثبت أنّه غیر ممکن الانتقال، ولا شبهة فی أنّ الولایة

قابلة للانتقال، کالسلطنة التی کانت عند أهل الجور موروثة خلفا عن سلف.

وقد مرّ: أنّه لیس المراد بالولایة هی الولایة الکلّیة الإلهیّة، التی دارت علی لسان العرفاء، وبعض أهل الفلسفة، بل المراد هی الولایة الجعلیّة الاعتباریّة، کالسلطنة العرفیّة وسائر المناصب العقلائیّة، کالخلافة التی جعلها اللّه تعالی لداود علیه السلام ، وفرّع علیها الحکم بالحقّ بین النّاس، وکنصب رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّا علیه السلام بأمر اللّه تعالی خلیفة وولیّا علی الاُمّة.

ومن الضروریّ أنّ هذه أمر قابل للانتقال والتوریث، ویشهد له ما فی نهج البلاغة: «أری تراثی نهبا».

فعلیه تکون الولایة _ أی کونه «أَوْلی بِالْمُوءْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» فیما یرجع إلی الحکومة والأمارة _ منتقلة إلی الفقهاء»(1).

الروایة الاُولی ضعیفة الإسناد بِوَهْبِ بْنِ وَهْبٍ أبیالبَخْتَرِیّ کما اعترف بها السیّد الخمینی(2) قدس سره .

ولکن الثانیة صحیحة الإسناد کما مرّت.

ویردعلیه: أوّلاً: ما ینتقل إلی الوارث من المورِّث هو ترکته من الأموال وأمّا الصفات النفسانیة کالعلم والتقوی والشجاعة والعدالة فلا تنتقل، وکذا الولایة المجعولة فی حقِّ أحد بعد موته لا تنتقل إلی الورثة، أفلا تری إذا مات الرسول صلی الله علیه و آله أو الإمام لا ینتقل مقام النبوة أو الإمامة إلی ورثته الخاصة علی نحو العموم.

وثانیا: وذیل خبر أبیالبختری قرینة علی أنّ الوراثة هی فی العلم خاصة وأحادیثهم ونشر أحکامهم وحفظها وتبلیغها، کما صرح فیه: «الأنبیاء لم یورثوا درهما

ص:191


1- 1 . کتاب البیع 2/646.
2- 2 . کتاب البیع 2/646.

ولا دینارا وإنّما اورثوا أحادیث من أحادیثهم...».

وثالثا: یمکن أن یکون المراد من العلماءهم الأئمة علیهم السلام خاصة بقرینة ذیل الروایة: «فإنّ فینا أهل البیت فی کلِّ خلف عدولاً...»، وکما ورد فی صحیحة جمیل عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول: یغدو النّاس علی ثلاثة أصنافٍ: عالمٍ، ومتعلِّمٍ، وغُثَاءٍ، فنحن العلماء، وشیعتنا المتعلِّمون، وسائر النّاس غُثَاءٌ.(1)

ورابعا: ما ورد فی الروایة: «فمن أخذ بشیء منها فقد أخذ حظّا وافرا فانظروا علمکم هذا عمّن تأخذونه؟» لیس أمرا متوجها إلی العلماء(2) بل یکون أمرا متوجها إلی المتعلِّمین من الاُمّة فی عصر الظهور. وإلاّ العالم إذا کان عالما یعلم من أین یأخذ علمه وإلاّ لم یکن عالما.

وخامسا: ذیل خبر أبیالبختری وبدایة صحیحة القدّاح یدلاّن علی أنّهما واردتان فی بیان فضل العلماء ومقاماتهم، ومناسبة الحکم والموضوع تؤید هذه الدلالة.

ص: 192


1- 3 . الکافی 1/82، ح4 (1/34)، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/68، ح18، الباب 7 من أبواب صفات القاضی.
2- 1 . کما فی کتاب البیع 2/647.
2/1_ ومنها: معتبرة السکونی

2/1_ ومنها: معتبرة السکونی عن أبیعبداللّه علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ مَا لَمْ یَدْخُلُوا فِی الدُّنْیَا، قِیلَ: یَا رَسُولَ اللّه ِ، وَمَا دُخُولُهُمْ فِی الدُّنْیَا؟ قَالَ: اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ، فَإذَا فَعَلُوا ذلِکَ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلی دِینِکُمْ.(1)

رواها السیّد فضل اللّه الراوندی فی نوادره(2) بسند وصفه النوری(3) بالمعتبر.

بتقریب: أَنَّ الْمُعْتَبَرَةَ تُفِیْدُ أنَّ الفُقَهاء اُمناءٌ لرسل اللّه علیهم السلام «فی جمیع الشؤون المتعلّقة برسالته، وأوضحها زعامة الاُمّة، وبسط العدالة الاجتماعیّة، وما لها من المقدّمات والأسباب واللوازم.

فأمین الرسول أمین فی جمیع شؤونه، ولیس شأن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ذکر الأحکام فقط، حتّی یکون الفقیه أمینا فیه، بل المهمّ إجراء الأحکام، والأمانة فیها أن یجریها علی ما هی علیه»(4).

ویرد علیه: أوّلاً: ظاهر المعتبرة أنّ الفقهاء أُمناء لرسل اللّه علیهم السلام فی تبلیغ أحکامهم، لأنّها مستودعة عندهم لیوصلوها إلی الجهّال لأنّ الرسل کانوا اُمناء علی وحی اللّه تعالی وأحکامه، من دون النظر إلی جعل الولایة.

ثانیا: المراد بالأمین یعنی الذی لا یخون فی الودیعة المجعولة عنده من الأحکام أو غیرها، أمّا ثبوت الولایة له فهو خارج عن مدلول اللفظ.

ثالثا: الولایة لم تکن من أظهر خواص المشابهة بین الرسل والفقهاء حتّی یثبت بها ظهور لکلمة «الأمانة» وبعد اثبات الظهور ثبتت ولایتهم.

ورابعا: بعد عدم إثبات الظهور لکلمة «الأمانة»، تصیر مجملة فلا تفید فی اثبات الولایة.

ص:193


1- 1 . الکافی 1/114، ح5، (1/46).
2- 2 . النوادر /156، ح226.
3- 3 . مستدرک الوسائل 17/320، ح29، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
4- 4 . کتاب البیع 2/634.

وخامسا: «ربما یمکن دعوی ظهوره فی بیان مرتبة فضلهم»(1) فلا تثبت بها الولایة.

ص: 194


1- 5 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .
3/1_ ومنها: مرسلة ابن أبیشعبة الحرّانی

3/1_ ومنها: مرسلة ابن أبیشعبة الحرّانی عن سیّد الشهداء علیه السلام عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال فی حدیث: مجاری الاُمور والأحکام علی أیدی العلماء باللّه، الاُمناء علی حلاله وحرامه.(1)

بتقریب: أنّ هذا الکلام «صادر لضرب دستور کلّی للعلماء قاطبة فی کلّ عصر ومصر؛ للحثّ علی القیام بالأمر بالمعروف، والنهی عن المنکر فی مقابل الظلمة، وتعییرهم علی ترکهما؛ طمعا فی الظلمة، أو خوفا منهم»(2).

أقول: هذا التقریب لم یتم، لأنّ کل من وجب علیه القیام فی مقابل الظلمة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لا تثبت له الولایة، لأنّ وجوب القیام شیء وثبوت الولایة شیء آخر. فلذا لابدّ من بیان تقریب آخر وهو:

بتقریب آخر: ظاهر المرسلة «التشریع، أی فلتکن مجاری الأُمور والأحکام بید العلماء.

وبتعبیر آخر: الأحکام غیر الأُمور، وکون الثانی عطفا تفسیریا للأوّل خلاف الظاهر، فیکون مقتضی الحدیث أنّ الولایة وحق التصدی للاُمور والأحکام بید العلماء»(3).

ویرد علیه: أوّلاً: الروایة مرسلة.

وثانیا: المراد بالعالم باللّه لیس إلاّ خُصُوْص الأئمة المعصومین علیهم السلام کما یراه المحقّق الخراسانی وقال: «هو خصوص الأئمة، کما یَشْهَدُ به سائر فقراته الّتی سیقت فی مقام توبیخ النّاس علی تفرقّهم عنهم علیهم السلام ، حیث انه صار سببا لغصب الخلافة وزوالها عن أیدی من کانت مجاری الاُمور بأیدیهم»(4).

وکما قال أیضا فی کتاب قضائه: «إنّ الظاهر إرادة الأئمّة علیهم السلام من العلماء سیّما بعد

ص:195


1- 1 . تحف العقول /238.
2- 2 . کتاب البیع 2/651.
3- 3 . إرشاد الطالب 4/213.
4- 4 . حاشیة المکاسب /94.

ملاحظة قول أبیعبداللّه علیه السلام فی خبر یونس: «یغدو النّاس علی ثلاثة أصناف عالم ومتعلّم وغثاء، فنحن العلماء وشیعتنا المتعلّمون وسائر النّاس غثاء»(1) فتأمّل. ویشهد لما ذکرنا

ما قیل من أنّ سائر فقرات الروایة إنّما سیقت فی مقام توبیخ النّاس علی تفرقهم عنهم علیهم السلام حیث إنّه صار سببا لنصب الخلافة وزوالها عن أیدی من کانت مجاری الاُمور بأیدیهم، وهذا الخبر مرویّ مرسلاً فی تحف العقول ولم یحضرنی الآن فراجع»(2).

وقال ثالثةً فی تقریر بحوثه فی القضاء: «إنّ هذه الصفة إنّما هی للأئمة علیهم السلام کما یؤیّده تفسیره فی بعض الأخبار: «نحن العلماء»(3) وکما أطلق فی بعضها أیضا علی الفقیه «المتعلّم(4)»(5)... ثمّ علی فرض ثبوت الولایة المطلقة بمثل قوله: «مجاری الأمور بید العلماء» للفقیه، فلا یلزم منه تخصیص الأکثر کی یوهن دلیله لأجله کما توهّم، إذ ولایة الأئمّة علیهم السلام إنّما هی فی غیر ما یکون من قبیل الأحکام والمسبّبات الشرعیّة، کالملکیّة والزوجیّة بأن یجوز له التصرّف بلا إذن ممّنْ له الولایة. وولایتهم علی النّاس فی ما لَهم الاختیار فیه _ من الأفعال العادیة والمتعارفة _ وإن کانت ثابتة ولکنّه لا یثبت للفقیه لا للتخصیص بل وللتخصّص، وقصور أدلّته عن شمول مثل ذلک فإنّ مثل قوله: «مجاری الأمور بید العلماء» لا یدلّ علی وجوب امتثال الفقیه فی أوامره العادیة کما کان فی الأئمة علیهم السلام کذلک. وأدلّ دلیل علی ولایة الفقیه هو هذا کما لا یخفی. وحینئذٍ لا یلزم تخصیص الأکثر فیها کما لا یخفی لو أخرج بعد ذلک عنها شیء»(6).

ص:197


1- 5 . وسائل الشیعة 27/18، ح5، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.
2- 1 . کتاب القضاء /31 للمحقّق الآخوند الخراسانی قدس سره .
3- 2 . بصائر الدرجات /9-8؛ وسائل الشیعة 18/46 من الطبعة الإسلامیة.
4- 3 . الکافی 1/(32-33)؛ عوالی الئالی 1/358، 2/241؛ وسائل الشیعة 18/46.
5- 4 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /232، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره ، طهران، 1386.
6- 5 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /233.

وقال المحقّق الأصفهانی: «وسیاقها یدل علی أنّها فی خصوص الأئمة علیهم السلام ، والظاهر أنّه کذلک، فإنّ المذکور فیها هم العلماء باللّه لا العلماء بأحکام اللّه، ولعل المراد أنّهم علیهم السلام بسبب وساطتهم للفیوضات التکوینیة التشریعیة تکون مجاری الأُمور کلها حقیقة بیدهم علیهم السلام لا جعلاً، فهی دلیل الولایة الباطنیة لهم کولایته تعالی؛ لا الولایة الظاهریة التی هی من المناصب المجعولة»(1).

أقول: کلامه الأوّل من اختصاص العلماء باللّه بالأئمة علیهم السلام متین أمّا أنّ المرسلة

تختص بالولایة الباطنیة محلّ منع وإشکال سیّما بعد مرور جمیعها وأنّ سیّد الشهداء علیه السلام ذکرها فی مقابلة یزید ومعاویة سلطنتهما ولم یعتقد أحد حتّی من العامة العمیاء أنّ لهما الولایة الباطنیة، فالمرسلة لو دلّت علی الولایة تثبت الولایة الظاهریة والسلطنة والحکومة والخلافة علی النّاس وهو المجعول فی یوم الغدیر لأمیرالمؤمنین علیِّ علیه السلام .

وثالثا: «الظاهر أنّ «مجاری» جمع مجری اسم مکان، لا مصدر میمیّ، یعنی محالّ جریان الأُمور والأحکام، والمراد منها: المصالح والمفاسد والمدارک الناشئة والجاریة منها الأحکام جریان الماء من المنبع، ومن المعلوم أنّها بیدهم علیهم السلام بمعنی أنّها لا یعرفها غیرهم أصلاً، نعم لو کانت العبارة أنّ الأُمور بید العلماء، أو مجاری الأُمور ید العلماء، لکان ظاهرا فی العموم، ولیست کذلک»(2).

ورابعا: «لو کان المراد من الحدیث ما ذکر لکان الحدیث: الاُمور والأحکام بید العلماء؛ إذ لا حاجة إلی إضافة المجاری؛ لیحتاج فی معناها إلی التکلّف، بل ظاهر الحدیث بملاحظة ما قبله وبعده بأن اُمور اللّه ومناصبة التی وقعت بأیدی غیر أهلها مجاریها بید العلماء. بمعنی أنهم لو أظهروا الحق ولم یتفرقوا عنه ولم یختلفوا فی السنة بعد البینة لکانت جاریة فی مجراها، وکان المتصدی لها أهلها المقرر لها فی السنة»(3).

وخامسا: علی فرض أنّ المراد بالعالم باللّه هو الفقیه ذیل الحدیث «الاُمناء علی

ص:197


1- 6 . حاشیة المکاسب 2/388.
2- 1 . هدایة الطالب 3/252.
3- 2 . إرشاد الطالب 4/213.

حلاله وحرامه» یختص دائرة أمانته بتبیین الحلال والحرام وإظهار الأحکام الشرعیة.

وسادسا: ویمکن یرد هذا الاستدلال «من جهة عدم کونه علیه السلام فی مقام بیان المجاری...، بل یدل علی سلوک المجاری المعینة لرتق أمور النّاس وفتقها بید العلماء، لا أن تعیین المجری أیضا بیدهم.

فحینئذ کلّ ما ثبت من الشرع أو العرف کونه مجری لرفع حوائج النّاس، فسلوکه بید العلماء. والمفروض أنّه لم یثبت من الشرع ولا من العرف کون الأولویة علی الأنفس من المجاری: أما بحسب الشرع فلاختصاص الأدلة بغیرهم، وأما بحسب العرف فهو أیضا کذلک مع احتمال کونها من خصائصهم»(1).

أقول: والعجب من آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره حیث أخرج(2) من بحث

ولایة الفقیه ولایته علی الأموال والأنفس بالقطع والیقین ثمّ یستشکل علی المرسلة بخروج الولایة علی الأموال والأنفس منها، مع أنّ المستدلّ بها هنا یستفاد لثبوت المرتبة الثانیة من ولایة الفقیة التی مرّت(3) أنّ البحث یقع فیها وسبحان من لا یَسْهُوْ.

ص: 198


1- 3 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .
2- 4 . راجع کتاب القضاء /46.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
4/1_ ومنها: قوله صلی الله علیه و آله : علماء أُمّتی کأنبیاء بنیإسرائیل.

(1)

وقوله صلی الله علیه و آله : منزلة الفقیه فی هذا الوقت کمنزلة الأنبیاء فی بنیإسرائیل.(2)

وعن أبیهریرة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: ... فإنّی أفتخر یوم القیامة بعلماء اُمّتی فأقول علماء اُمّتی کسائر الأنبیاء قبلی، الحدیث.(3)

بتقریب: تشبیه العلماء بالأنبیاء عموما وبأنبیاء بنیإسرائیل خصوصا یدلّ علی أنّ له منصب الولایة العامة کما کانت لموسی _ علی نبیّنا وآله وعلیه السلام _ وکثیر من الأنبیاء نحو داود وسلیمان علیهم السلام علی بنیإسرائیل.

وبعبارةٍ أُخری: الروایات تدلّ علی «أنّ أمر الأُمة بید العلماء کما أنّ أمر الأُمم السالفة کان بید الأنبیاء فلهم التصدی للمصالح النوعیة الدینیة والدنیویة ولیسوا کسائر أفراد الأُمة الذین لم تثبت فیهم تلک الفضیلة وإنْ لم یثبت بذلک لهم کلّ ما ثبت للنبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام من وجوب الاطاعة وسائر شئون الرسالة کالولایة علی الأموال والأنفس کیف وهم الأفضلون والمفضلون علی سائر النّاس بعد النبی والأئمة کما ورد فی الآثار الواردة فی شأنهم»(4).

ویرد علیه: أوّلاً: الروایات کلّها مرسلات وبعضها عامیات.

وثانیا: قال المحقّق الخراسانی: «أمّا المنزلة، فالمتّیقن منها أنّها فی تبلیغ الأحکام بین الأنام، مع عدم ثبوت الولایة المطلقة لأنبیاء بنیإسرائیل، فتأمّل»(5).

وقال أیضا فی کتاب قضائه: «لأنّ المتیقّن فیه أنّ التنزیل إنّما هو فی تبلیغ الأحکام بین الأنام لا فی جمیع وظائفهم وأُمور الراجعة إلیهم، مع أنّ الولایة المطلقة

ص:199


1- 1 . عوالی اللآلی 4/77.
2- 2 . الفقه الرضوی /238.
3- 3 . جامع الأخبار /111.
4- 4 . ولایة الاُولیاء /77.
5- 5 . حاشیة المکاسب /94.

لجمیع أنبیاء بنیإسرائیل غیر ثابتة»(1).

وقال ثالثةً فی تقریر بحوثه فی القضاء: «فالمراد منه الأئمّة علیهم السلام کما فسرّ بقوله: «نحن العلماء». ولو سلّم فلا یدلّ علی ذلک أنّ التشبیه إنّما هو من جهة التبلیغ وتبیین الأحکام، ولأنّه الخصیصة الواضحة للأنبیاء، فهو وجه الشبه لا غیر. وأمّا أفضلیّتهم

فلأفضلیّة الشریعة أو لمشقّتهم فی تحصیله بخلاف الأنبیاء فتأمّل»(2).

وثالثا: «إنّ کونهم کأنبیاء بنیإسرائیل لیس دلیلاً علی اثبات الولایة العامة لهم إلاّ بتخیل عموم التشبیه ولکنّه مدفوع بأنّ المتیقن من التنزیل فیها أنّه بلحاظ تبلیغ الأحکام بین الأنام کما یناسبه جدا التشبیه بأنبیاء بنیإسرائیل لا بنفس النبی صلی الله علیه و آله إذ لم یثبت لهم الولایة المطلقه حتّی علی التصرف فی الأموال والأنفس، فلعلّ وظیفتهم کانت مجرد تبلیغ الأحکام إلی الأنام أو الحکم بینهم وإجراء الحدود والسیاسات فلا یجدی التشبیه مع هذا الاحتمال فی إثبات المطلوب»(3).

ورابعا: بفرض ثبوت الولایة «لأنبیاء بنیإسرائیل لم یعلم کونهم بماهم الأنبیاء ولاة علی النّاس، بل الظاهر المستفاد من الرجوع إلی سیرتهم عدم تصدی أکثرهم إلاّ لتبلیغ أحکام موسی _ علی نبیّنا وآله وعلیه السلام _ نعم، کان بعضهم ملوکا ووالیا وسلطانا کداود وسلیمان متصدیا لوظائف الولاة لکن لا بماهم أنبیاء بل بما هم ملوک»(4).

وخامسا: یمکن أن یکون «وجه الشبه هو الفضیلة والزلفی عند اللّه تعالی لا فی الشئون والمناصب الدنیویة والتصرف فی الأموال والأنفس»(5).

وسادسا: هذه المرسلات یمکن أن تکون فی «بیان فضیلة العلماء ومقامهم عند

ص:200


1- 6 . کتاب القضاء /31.
2- 1 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /233، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره .
3- 2 . ولایة الاُولیاء /76.
4- 3 . ولایة الاُلیاء /76.
5- 4 . ولایة الاُولیاء /76.

اللّه لا تشریع الولایة الثابتة للأنبیاء والعلماء، مع أنّ ثبوت الولایة _ کما تقدم _ لکلِّ واحد من أنبیاء بنیإسرائیل غیر ظاهر»(1).

وبعبارة جامعة: قال السیّد الخوئی فی الروایتین الأُْوْلَیَیْنِ: «التنزیل والتشبیه لابدّ و(2)أن یکون فی أظهر الآثار والخواص وأظهرها فی أنبیاء بنیإسرائیل أمران:

أحدهما وجوب إطاعتهم فی الأحکام ولزوم قبول قولهم فی تبلیغها، وإنّما شبّههم بأنبیاء بنیإسرائیل من أجل أنّ أنبیاءهم کانوا مختلفین فی النبوّة فبعضهم کان نبی بلدته وآخر کان نبیّ محلّته أو قریته وثالث کان نبی أقربائه بل کان نبی داره، وکانت إطاعتهم

لازمة فی تبلیغ الأحکام والعلماء أیضا مختلفون فبعضهم عالم بلده وآخر عالم محلّته أو قریته وهکذا، فتجب إطاعتهم فی تبلیغ الأحکام بمقتضی هذا الحدیث.

وثانیهما: رفعة محلّهم وعظمة منزلتهم عند اللّه وکأنّه أراد فی الحدیث بیان أنّ علماء اُمّتی لا یقصرون فی عظمة المنزلة عن أنبیاء بنی إسرائیل إذا عملوا بعلمهم والسرّ فی ذلک أنّ تلمیذ مدرسة تارة یکون أرقی منزلة من معلّم بالمدرسة النازلة کبعض تلامذة المدرسة الثانویة بالإضافة إلی معلّم المدرسة الإبتدائیة أو تلامذة المدرسة العالیة فی الطبّ بالاضافة إلی دکتور المحلّ وهکذا من جهة عظمة المدرسة وأهمیّتها، والمدرسة المحمّدیة صلی الله علیه و آله کذلک بالإضافة إلی أنبیاء بنیإسرائیل الذین کانوا مدرّسین لاُمّتهم معالم الإسلام، فیکون تلامذة تلک المدرسة العالیة أشرف مقاما وأعظم منزلة من معلّمی بنیإسرائیل إذا عملوا بوظائفهم فإنّ نیابة الإمام علیه السلام من أهم المقامات ولا أقل من تساویهم معهم فی الشرف هذا کلّه مع أنّ ثبوت الولایة بهذا المعنی فی أنبیاء بنیإسرائیل أوّل الکلام فکیف بمن یقوم مقامهم وینزّل منزلتهم. فالحدیث لا دلالة له علی الولایة المطلقة بوجه بل إنّما ورد فی بیان فضیلتهم وعلوّ مقامه ولعلّه ظاهر»(3).

ص: 201


1- 5 . إرشاد الطالب 4/213.
2- 6 . کذا فی المصدر والصواب «لابُدَّ أَنْ یکونَ» بحذف الواو؛ إذْ لا مَوْضِع لها.
3- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/167.
5/1_ ومنها: مرسلة الکراجکی

5/1_ ومنها: مرسلة الکراجکی المتوفی سنة 449 ه . ق عن الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام أنّه قال: الملوکُ حکّام النّاس والعلماءُ حکّام علی الملوک.(1)

ورواها الآمدی فی غرره مرسلاً عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: العلماء حکّام(2) علی النّاس.(3)

بتقریب: أنَّ «وجه الاستدلال إمّا بأنّ الملوک حکّام عرفیة وأنّ العلماء حکّام، حقیقیّة، من قبل الشّارع.

فیجب علی الحکّام العرفیة، متابعة الحکّام الحقیقیّة وهذا معنی ولایة الحکّام الحقیقیّة علی النّاس وبأنّ معنی حکومة السّلاطین، کون حکومتهم، یقتضی حکومة العلماء، بمعنی أنّهم مجرون لأحکام العلماء، فإذا کانوا فی سبیل حکومة العلماء، فهم حاکمون علی النّاس، فی إجراء أحکام العلماء، فعلی کلِّ حالٍ یثبت ولایة العلماء»(4).

وبعبارة اُخری: إنّ «حکومة الملوک والسلاطین علی النّاس هی الزعامة لهم والد خالة فی اُمورهم العامة من باب السلطنة والولایة کما ورد «أنّ السلطان ولیُّ مَنْ لاولیَّ له»(5) فکذلک العلماء لهم الزعامة والولایة علی جمیع النّاس حتّی علی اُمرائهم فیجب علیهم الإطاعة لأمر علمائهم والتبعیة لأفعالهم والسماع لرأیهم والوقوف علی حکمهم وفی الحقیقه الأُمراءُ والحکّام بمنزلة القوی المجریة لآراءِ العلماءِ وحکمِ الفقهاءِ فعلیهم أنّ ینفذوا حکمهم ویجروا أمرهم فالأمر أمرهم والحکم حکمهم والمتبع هو رأیهم والملوک والاُمراء کالأیادی لهم لإنجاح مقاصدهم وکالعُمّال والرعیة الساعین تحت

ص:202


1- 1 . کنز الفوائد 2/33 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/316، ح17.
2- 2 . قال النوری: وفی نسخة: حکماء. ویری السیّد الخمینی خطأ هذه النسخة راجع کتاب البیع 2/651.
3- 3 . غررالحکم 1/20، ح559 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17/321، ح33.
4- 4 . الدلالة إلی من له الولایة /58 لشیخنا آیة اللّه الشیخ الحاج آقا علی الصافی الگلپایگانی قدس سره .
5- 5 . تأتی مصادرها والبحث حولها فانتظر.

رایتهم»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: أَنَّ الرِّوایَتَیْنِ مُرْسَلَتان.

وثانیا: إثبات حکومة الملوک علی النّاس ینفی إطلاق حکومة العلماء کما لا یخفی وَلِذا لَمْ یَذْکُرِ السیّدُ الخُمِیْنیُّ رحمه الله مُرْسَلَةَ الکَراجَکیّ.

وثالثا: «غایة ما یستفاد من الروایة [الکراجکیة] هو حکومة العلماء علیهم، من باب أنّه لابدّ من رجوع السّلاطین إلیهم، فی فهم الأحکام أو فی القضاء وأمّا حکومتهم علیهم، بأنّهم اُولی من السّلاطین، فیما تحت یدهم، بحیث انّه کان للعلماء، منعهم وإعطائهم، حتّی فیما یبیح لهم، فغیر معلوم»(2).

ص: 203


1- 6 . ولایة الاولیاء /77.
2- 1 . الدلالة إلی من له الولایة /59.
6/1_ ومنها: مرسلة الرضی

6/1_ ومنها: مرسلة الرضی عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: إنّ أوْلَی النّاسِ بالأنبیاء أعْلَمُهُم بما جَاؤُوا به، ثمّ تلا علیه السلام : «إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِیُّ وَالَّذِینَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِیُّ الْمُوءْمِنِینَ»(1).(2)

بتقریب: إذا ثبتت اُولویة العلماء بالأنبیاء علیهم السلام لأنّهم أعلم النّاس بما جاؤوا به ثبتت ولایتهم، لأنّها _ الولایة _ لا تنتقل إلی أُناس کانوا بعیدین عن الأنبیاء ولم تکن بینهم وبین الأنبیاء صلة.

ویرد علیه: أوّلاً: أنَّ الروایة مرسلة.

وثانیا: «لا دلالة فی کون اُولی النّاس بالأنبیاء أعلمهم علی الولایة، مع أنّ الظاهر إنّ المراد، أُولی النّاس بالخلافة منهم، ولذا خصصّه بأعلم النّاس ولا فی إطلاق الخلافة علیهم، ولا فی جعلهم حاکما، ولا قاضیا، لعدم إطلاق فی الخلافة، ولعلّها فی تبلیغ الأحکام الّتی هی من شئون الرّسالة»(3).

وثالثا: «إنّ الأظهر من الأعلمیّة: الأعلمیّة المطلقة وبالقیاس إلی جمیع من عداه ولو فی خصوص عصره، لا الأعلمیّة فی الجملة ولو بالنسبة إلی شخص واحد، فیختصّ بأوصیائهم؛ إذ لیس فی العلماء من یکون أعلم من جمیع أهل زمانه؛ ضرورة وجود الإمام فی کلّ عصر، فیکون المراد من أولویة الأعلم بالأنبیاء؛ أولویته بالخلافة منهم»(4).

وبعبارة أُخری: «أنّ الظاهر منه ردع المخالفین فی مسألة الخلافة. ولو سلّم، فلا إشکال فی أنّ أعلم النّاس _ فعلاً _ هو ولیّ اللّه الأعظم الحجة ابن الحسن _ عجل اللّه فرجه الشریف _»(5).

وبعبارة ثالثة: هذا التعبیر [الاولویة] «لا یخلو من إجمال فی المراد بالاُولویة مع

ص:204


1- 1 . سورة آل عمران /68.
2- 2 . نهج البلاغة، الحکمة 96.
3- 3 . حاشیة المکاسب /94، للمحقّق الخراسانی.
4- 4 . هدایة الطالب 3/254.
5- 5 . کتاب القضاء /48 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قدس سره .

أنّ موضوعه الأعلم المطلق لا مطلق العام وحینئذ یمکن أن یکون المراد اُولی النّاس بالخلافة منهم ولذا خَصَّصَهُ بأعلم النّاس کما لا یخفی»(1).

ورابعا: «إنّ اُولویة العلماء بالأنبیاء إنّما هی بکونهم أقرب إلیهم یوم القیامة من

حیث المنزلة والمقام وهی لا تقتضی الولایة علی التصرف فی الأموال والأنفس أبدا»(2).

وخامسا: علی فرض اقتضاءها الولایة لا یثبت بالاُلویة إطلاق الولایة کما لا یخفی.

وسادسا: یمکن أن یکون «معنی اُولویة العلماء بالأنبیاء اُولویتهم فی الأسرار وإعانة الأنبیاء فی إجراء مقاصدهم وإنفاذ القوانین التی بعثوا لأجلها وذلک أجنبی عن مسئلة ولایة التصرف فی الأموال والأنفس مضافا إلی أنّ الاُولویة والأجدریة والألیقیة أعم من إعطاء المنصب فعلاً بمعنی أنّه لو بنی علی إعطاء المنصب لأحدٍ فهم اُولی بالإعطاء من غیرهم مع أنّ أعلم النّاس کلاً بما جاءوا به هم الأئمة والاُوصیاء فلا یشمل کلّ عالمٍ بشیءٍ ممّا جاءوا به»(3).

وسابعا: «أنّ الاستدلال بذلک موقوف علی کون الکبری لذلک: أنّ کلّ مَنْ کان کذلک فله کلّ ما کان للأنبیاء، وهو ممنوع؛ إذ غایة ما یستفاد منه أنّ کلّ مَنْ کان کذلک فهو أفضل مِنْ غیره، فیکون من جملة ما دلّ علی فضیلة العالم»(4).

وثامنا: رواها ورّام فی مجموعته(5): إنّ أُولی النّاس بالأنبیاء أعملهم الخ، بتقدیم المیم علی اللام لا أعلمهم، وقال العلاّمة المجلسی بعد نقل الروایة من نهج البلاغة: «بیان: فی بعض النسخ أعملهم وهو أظهر»(6)، وقال أیضا: «فی أکثر النسخ أعلمهم والأصوب

ص:205


1- 6 . ولایة الاولیاء /78.
2- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/168.
3- 2 . ولایة الاولیاء /77.
4- 3 . هدایة الطالب 3/254.
5- 4 . تنبیه الخواطر ونزهة النواظر /32.
6- 5 . بحارالأنوار 1/183، ذیل ح79.

أعملهم کما یدلّ علیه التتمة...»(1) ومع ثبوت هذه النسخة تَکُوْنُ الروایةُ أجنبیةً عن محل الکلام بالمرّة کما تنبّه علیه المحقّق الشهیدی(2) رحمه الله .

ص:206


1- 6 . بحارالأنوار 68/189، ذیل ح55.
2- 7 . هدایة الطالب 3/254.
7/1_ ومنها: ما روی الصدوق بالأسانید الثلاثة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه

قال: اللهم ارحم خلفائی ثلاث مرّات، قیل له: ومَنْ خلفاؤک؟ قال: الذین یأتون من بعدی ویروون أحادیثی وسنتی فیُعلّمونها النّاس من بعدی.(1)

وعن معانی الأخبار(2) بسند رابع.

وعن الأمالی(3)بسند خامس وفی آخره: «ثمّ یُعلّمونها اُمّتی».

ورواها فی الفقیه(4) مرسلاً آخره: «یروون حدیثی وسنتی».

بتقریب: قال السیّد الخمینی: «فهی روایة معتمدة لکثرة طرقها... وکیف کان: معنی خلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله أمر معهود من أوّل الإسلام، لیس فیه إبهام، والخلافة لو لم تکن ظاهرة فی الولایة والحکومة، فلا أقلّ من أنّها القدر المتیقّن منها، وقوله صلی الله علیه و آله «الذین یأتون من بعدی» معرّف للخلفاء، لا محدّد لمعناها، وهو واضح.

مع أنّ الخلافة لنقل الروایة والسنّة لا معنی لها؛ لأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یکن راویا لروایاته، حتّی یکون الخلیفة قائما مقامه فی ذلک.

فیظهر من الروایة أنّ للعلماء جمیع ما له صلی الله علیه و آله ، إلاّ أن یدلّ دلیل علی إخراجه فیتّبع»(5).

وبعبارة أُخری: «فإنّ الظاهر من الذین یروون حدیثی وسنتی هو من کان راویا للسنة الواقعیة وأهلاً للإرشاد والتعلیم بتبیینها وتبلیغها أعنی الفقهاء لا مطلق الراوی وإن لم یکن مبیّنا للسنة الواقعیة کأبیهریرة وعایشة ولا أهلاً للإرشاد والتعلیم بل یکون کمجرد ضبط الصوت، لما فی ذیل الروایة من قوله «فیعلِّمونها النّاس»، فتدلّ الروایة حینئذ علی أنَّ مَنْ کان شأنه الروایة والتعلیم والإرشاد وهو الفقیه العالم بالسنة هو الخلیفة

ص:207


1- 1 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 2/37، ح94.
2- 2 . معانی الأخبار /374، ح1.
3- 3 . أمالی الصدوق، المجلس الرابع والثلاثون ح 4/247، رقم 266.
4- 4 . الفقیه 4/420، ح5919.
5- 5 . کتاب البیع 2/628.

للرسول، وحیث أنّ الخلیفة یطلق عرفا علی مَنْ یقوم مقام ذیالخلیفة فیقتضی إطلاقها کونه قائما مقامه فی جمیع ماله من المناصب إلاّ ما خرج بالدلیل»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: أنَّ «هذه الروایة وإن کانت علی نقل «العیون» و «معانی

الأخبار» مسندة، إلاّ أنّ فی سندها ضعف؛ لأنّ سند العیون هو إسناد إسباغ الوضوء وسند «معانی الأخبار» فیه عیسی بن عبداللّه العلوی عن أبیه، مع أنه لم یعلم أنّ الیعقوبی هو داود بن علی الهاشمی والمنقولات فی المستدرک(2) مرسلات.

ودعوی أنّ هذه الروایة لکثرة طرقها لا تخرج عن بعض المراسیل التی یعمل بها الأصحاب کمراسیل ابن أبیعمیر، لا یمکن المساعدة علیها أوّلاً، فإن المراسیل لا یعمل بها حتّی مراسیل ابن أبیعمیر، وثانیا علی تقدیر العمل بمراسیل ابن أبیعمیر فهو لشهادة الشیخ وغیره بأنه لا یرسل إلاّ عن ثقة»(3).

وثانیا: قال المحقّق الخراسانی: «لا مجال للتمسّک بإطلاق الخلیفة علیهم، إذ المتیقّن منه بل الظاهر کونهم خلیفة فی تبلیغ الأحکام وانتشارها بین الأنام. ویؤیّد ذلک تفسیر النبیّ صلی الله علیه و آله خلفاءه الّذین ترحّم علیهم ثلاثا بعد السؤال عنهم بالّذین یروون حدیثه ولیعلّمون النّاس الأحکام من بعده»(4).

وثالثا: «الخلافة قد بُیّن فی نفس الحدیث وهو نقل السنة»(5).

ورابعا: «یحتمل قریبا أن یکون المراد من «الخلفاء» الأئمة المعصومین علیهم السلام فإنّهم خلفاء الرسول صلی الله علیه و آله وأمّا الفقهاء فهم خلفاء خلفائه، کما یشهد لذلک قوله صلی الله علیه و آله «یأتون

ص:208


1- 6 . ولایة الاُولیاء /78.
2- 1 . المستدرک 17/287، الباب 8 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 10؛ و17/300، ح48؛ و 17/301، ح52 ؛ والمجموع الرائق للسیّد هبة اللّه _ نقلاً عن «الأربعین» لقطب الراوندی _ /178.
3- 2 . ارشاد الطالب 4/207.
4- 3 . کتاب القضاء /32.
5- 4 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/36.

بعدی» فتأمّل»(1).

وخامسا: «إنّ النبی صلی الله علیه و آله وإن کان له منصب الزعامة الدینیة، بمعنی بیان أحکام الشرع، ومنصب الزعامة الدنیویة، بمعنی کونه زعیما للمسلمین بالمعنی المتقدّم إلاّ أنّ هذه الرّوایة وأمثالها ناظرة إلی الخلافة، أی مرتبة من الزّعامة الدینیة، بمعنی نشر الأحکام وإبلاغها للنّاس، ویشهد لذلک ما فی ذیلها من قوله: «یرون أحادیثی وسنتی ویعلّمونها للنّاس من بعدی»، وأجر التّعلیم.

ودعوی کون ذلک من بابِ المُعَرِّفِ للولیّ، حیث إنّ المعروف والمتیقن من معنی

الخلافة هی الزعامة الدنیویة لا یمکن المساعدة علیها، فإنّه قد عطف فی بعض النقل علی الاُمة أصحابه، ومن الظاهر أنه لم یکن لأصحابه ولایة علی المؤمنین بالمعنی المزبور؛ لیکون العلماء من غیرهم خلفاء بالمعنی المزبور»(2).

وسادسا: «ولکنَّ الإنصاف أنّه لا یبعد القول بالفرق بین قوله صلی الله علیه و آله فی مقام الدعاء: «اللهم ارحم خلفائی» وقوله فی مقام تعیین الخلیفة «هذا خلیفتی» فإنّ الأوّل فی مقام الإنشاء والدعاء لخلفائه دون تعیین الخلیفة، وهذا بخلاف الثانی فإنّه فی مقام الإخبار عمّن هو خلیفته فیمکن الأخذ بإطلاقه والقول بأنّه خلیفته فی جمیع الجهات دون الأوّل إذ الخلافة، مقول بالتشکیک فالخلیفة فی جمیع ما یرجع إلی الشخص له مرتبة من الخلافة، والخلیفة فی بعض الجهات له مرتبة اُخری، والإضافة تفید العموم فی حقِّ کلِّ مَنْ هو خلیفته فی جهة أو فی جهات.

وقوله: «الذین یأتون من بعدی ویروون حدیثی». یشمل الأئمة الذین هم خلفائه فی کلِّ الجهات والعلماء والرواة الذین لا یعلم حدّ خلافتهم فلعلّ خلافتهم مختصة بنشر الأحکام وإبلاغها کما یناسبه لفظ «یروون حدیثی» أو هو مع فصل الخصومات، ولا دلالة لهذه العبارة علی تعیین مرتبة الخلافة.

ص:209


1- 5 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/36.
2- 1 . ارشاد الطالب 4/207.

ولو فرض کون الأوّل کالثانی فی الإطلاق فی نفسه، ولم نقل بأنّ ظاهره الاستخلاف فی روایة الحدیث والسنة ولکن لا ریب فی احتفافه بما یصلح للقرینیة أعنی قوله بعد ذلک: «الذین یأتون بعدی ویروون حدیثی وسنتی». وهی تمنع عن انعقاد الظهور الإطلاقی فی الخلافة لجمیع الجهات حیث یحتمل جدا أنّهم خلیفته فیما هو من أظهر خواص الرسالة من تبلیغ الأحکام وبیانها للناس.

هذا مع أنّه لو أُرید من الروایة أنّ مطلق الراوی للحدیث والسنة کان خلیفته بقول مطلق فی جمیع الجهات لکان منافیا لمادلّ علی حصر خلفائه فی اثْنَیْ عَشَرَ. اللهم إلاّ ان یقال بالخروج عن إطلاقها فی بعض الجهات بالنسبة إلی غیرهم، وتبقی دالة مثل تلک الأدلة علی الخلافة فی جمیع الجهات بالإضافة إلیهم، وبالجملة فالروایة لا تخلو من إجمال وشبهة فیشکل الاستدلال بها علی الولایة العامة للفقیه فتدبر»(1).

ص: 210


1- 2 . ولایة الاُولیاء /79.
8/1_ ومنها: خبر علی بن أبِیحَمْزَةَ

قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَی بْنَ جَعْفَرٍ علیه السلام یَقُولُ: «إذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ، بَکَتْ عَلَیْهِ الْمَلاَئِکَةٌ وَبِقَاعُ الاْءَرْضِ، الَّتِی کَانَ یَعْبُدُ اللّه َ عَلَیْهَا، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ، الَّتِی کَانَ یُصْعَدُ فِیهَا بِأَعْمَالِهِ، وَثُلِمَ فِی الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ یَسُدُّهَا شَیْءٌ؛ لاِءَنَّ الْمُؤْمِنِینَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الاْءِسْلاَمِ کَحِصْنِ سُورِ الْمَدِینَةِ لَهَا.(1)

رواها الصدوق(2) بسنده الصحیح عن علی بن رئاب عن موسی بن جعفر علیه السلام ولکن من دون کلمة «الفقهاء»، ولکن مع ضمّ قاعدة أنّ الأصل عدم الزیادة، تثبت کلمة «الفقهاء» وصحح السند. فلا نحتاج فی الاعتماد علی سندها إلی مقالة السیّد الخمینی(3).

بتقریب: «إنّ فی الإسلام نظاما وحکومة بجمیع شؤونها، لا یبقی شکّ فی أنّ الفقیه لا یکون حصنا للإسلام _ کسور البلد له _ إلاّ بأن یکون حافظا لجمیع الشؤون؛ من بسط العدالة، وإجراء الحدود، وسدّ الثغور، وأخذ الأخاریج والضرائب، وصرفها فی مصالح المسلمین، ونصب الولاة فی الأصقاع، وإلاّ فصرف الأحکام لیس بإسلام.

بل یمکن أن یقال: الإسلام هو الحکومة بشؤونها، والأحکام قوانین الإسلام، وهی شأن من شؤونها، بل الأحکام مطلوبات، بالعرض، وأُمور آلیّة لإجرائها وبسط العدالة.

فکون الفقیه حصنا للإسلام کحصن سور المدینة لها، لا معنی له إلاّ کونه والیا، له نحو ما لرسول اللّه وللأئمّة _ صلوات اللّه علیهم أجمعین _ من الولایة علی جمیع الأُمور السَّلْطانیّة.

وعن أمیرالمؤمنین علیه السلام : «الجنود بإذن اللّه حصون الرعیّة...» إلی أن قال: «ولیس تقوم الرعیّة إلاّ بهم»(4).

فکما لا تقوم الرعیّة إلاّ بالجنود، فکذلک لا یقوم الإسلام إلاّ بالفقهاء الذین هم حصون الإسلام، وقیام الإسلام هو إجراء جمیع أحکامه، ولا یمکن إلاّ بالوالی الذی هو

ص: 211


1- 1 . الکافی 1/91، ح3 (1/38).
2- 2 . علل الشرائع /462، ح2.
3- 3 . کتاب البیع 2/631.
4- 4 . نهج البلاغة عبده /606.

حصن»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: التعبیر ب_ «حصون» وارد فی معتبرة إسماعیل بن جابر عَنْ

أَبِیعَبْدِاللّه ِ علیه السلام ، قَالَ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ، والاْءَتْقِیَاءُ حُصُونٌ، وَالاْءَوْصِیَاءُ سَادَةٌ.(2)

وَفِی رِوَایَةٍ أُخْری: الْعُلَمَاءُ مَنَارٌ، وَالاْءَتْقِیَاءُ حُصُونٌ، وَالاْءَوْصِیَاءُ سَادَةٌ»(3).

فما یقول المستدلّ بالنسبة إلی الأتقیاء أتثبت لهم الولایة؟!

وثانیا: «کون الفقهاء حصونا للإسلام فمقتضاه کونهم رادعین عن التحریف والتأویل فی أحکام الشرع، فإن الإسلام فی نفسه عبارة عن الأحکام والقوانین المجعولة من الشرع، والریاسة العامة وثبوت الولایة کولایة الرسول صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام لا یستفاد منها بوجه کما لا یخفی»(4).

وثالثا: الروایة «لا تشمل الولایة لأنّ المستفاد منها أنّ حفظ الإسلام والمسلمین بسبب إجراء الأحکام الشرعیة بینهم وإنفاذ القوانین التی بعث الأنبیاء لأجلها بید الفقهاء کما أنّ سور البلدة یدفع عن أهلها غوایل الأعادی والطغاة ویمنع عنهم هجوم الخصوم والعصاة والحصن بکسر الحاء والسور حایط المدینة والإضافة بیانیة والمقصود أنّ الفقهاء حصون الإسلام کما أنّ سور المدینة حصن لها»(5).

ورابعا: لو فُرض تمّ ما ذکره المستدِّل وَقَبِلْنا أنّ «الإسلام هو الحکومة بشؤونها..و والأحکام مطلوبات بالعرض واُمور آلیة لإجرائها وبسط العدالة... فکون الفقیه حصنا... لا معنی له إلاّ کونه والیا» ولکن من أین استفاد رحمه الله أنّ للفقیه «ما لرسول اللّه والأئمة _ صلوات اللّه علیهم أجمعین _ من الولایة».

وخامسا: إنّ هاهنا ثلاث کلمات «الفقهاءُ حصونُ الإسلامِ» فمن أین یُستفاد إطلاق ولایة الفقیه من هذه الکلمات الثلاثة؟!

ص: 212


1- 5 . کتاب البیع 2/632.
2- 1 . الکافی 1/78، ح5 (1/33).
3- 2 . الکافی 1/78، ح6 (1/33).
4- 3 . إرشاد الطالب 4/209.
5- 4 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه /42.
9/1_ ومنها: صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع

قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع أمره إلی قاضی الکوفة فصیر عبدالحمید القیم بماله، وکان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواری، فباع عبدالحمید المتاع، فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهنَّ إذ لم یکن المیت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی لأنهنَّ فروج.

قال: فذکرت ذلک لأبیجعفر علیه السلام وقلت له: یموت الرجل من أصحابنا، ولا یوصی إلی أحد، ویخلف جواری فیقیم القاضی رجلاً منّا فیبیعهنَّ، أو قال: یقوم بذلک رجل منّا فیضعف قلبه لأنهنَّ فروج، فماتری فی ذلک؟ قال: فقال: إذا کان القیم به مثلک، ومثل عبدالحمید فلا بأس.(1)

بتقریب: أنَّ الصحیحة «صریحة فی ثبوت الولایة لأمثال ابن بزیع وعبدالحمید، وجواز التصرّف له فی أموال الصغار ونظائره. والمراد من المثل، لیس المثلیّة فی الإسلام والإیمان وإن کان ظاهرا، بل المقصود أنّه لو کان المتصدّی لأُمور الصغار مثل عبدالحمید فی الجهة المقتضیة لثبوت الولایة له، وهو المقام العلمی والفقهی، وکونه راویا وعالما بأمور الصغار والأحکام و عادلاً فلا بأس فیه. فهی إمّا ظاهرة فی ولایة الفقیه والحاکم للشرع، أو هو القدر المتیقّن من المثل والمضمون.

ودعوی أنّ الروایة إنّما تدلّ علی إذن الإمام لمحمّد بن إسماعیل وعبدالحمید فی ذلک التصرّف ونحوه، وهو لا یستلزم ولایة غیرهما من العلماء والفقهاء، وجواز التصدّی لهم، إذا لم یکونوا مأذونین من قبله، مدفوعة؛ إذ الظاهر من الروایة والمتبادر منها، أنّ الإمام علیه السلام فی مقام بیان الحکم الواقعی المجعول لأمثالهما کما یشعر بذلک قول الروای «فما تری فی ذلک»؛ لوضوح أنّ السؤال إنّما وقع عن الحکم الشرعی، والرأی الثابت فی نفس الأمر، وقوله علیه السلام : «فلا بأس» جواب عنه، وراجع إلیه أیضا، لا أنّه أجاز فعله، وأمضی ما مضی، وأذن فیما سیأتی.

والحاصل: أنّ المستفاد من الروایة، أنّ دخالة أمثال عبدالحمید وابن بزیع _ من العلماء فی أُمُوْرِ الصغار _ ممّا لا یحتاج إلی إذن القاضی وتعیینه ونصبه. بل جواز ذلک،

ص: 213


1- 1 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.

وثبوت الولایة لهم أمر شرعی وحکم الهی.

ثمّ إنّه بناءً علی ظهور الروایة فی ولایة العالم الفقیه فقط _ کما هو غیر بَعِیْدٍ _ یقید به إطلاق ما یدلّ من النصوص علی جواز التصرّف والتصدّی لکلّ شخص من

المؤمنین(1)، أو یحمل علی صورة عدم التمکّن من الوصول إلی الفقیه، وإن کان دعوی الإطلاق غیر خالیة من الإشکال»(2).

وبعبارة أُخری: «وجه الاستدلال بهذه الروایة هو تصحیح الإمام علیه السلام وامضائه عمل محمّد بن إسماعیل بن بزیع وعبدالحمید، ووجه تصحیحه علیه السلام إمّا من باب کونهما فقیهین أو کونهما عدلین وعلی کلّ حالٍ یستفاد من الروایة ولایة الفقیه فی الجملة، إمّا بالمنطوق من باب کونهما فقیهین أو بالاولویة بناء علی کونهما عدلین، لأنّه بعد ثبوت الولایة لعدول المؤمنین من هذه الروایة تثبت للفقیه بطریق الأُولی، لأنَّ ولایة العدول من المؤمنین تکون فی طول ولایة الفقیه.

إن قلت: حیث یکون زمان حضور امام علیه السلام والأمر إلیه علیه السلام ، أرجع أمر الصغار فی مورد السؤال به وبعبدالحمید، فهذا جعل ولایة خاصة لهما فی زمان حضوره علیه السلام ، وهذا غیر مربوط بما نحن فیه.

قلت: هذا مناف لقوله علیه السلام «إذا کان القیم به مثلک أو مثل عبدالحمید» الظاهر فی جعل الولایة لهما ولغیرهما، إمّا من باب کونهم فقهاء أو عدول»(3).

أقول: الروایة من حیث السند تامة ولکن من حیث الدلالة یمکن حملها علی ولایة عدول المؤمنین لأنّ عبدالحمید هو ابن سالم العطار، «روی عن أبی الحسن

ص: 214


1- 1 . راجع: الکافی 7/66 باب من مات علی غیر وصیة وله وارث صغیر فیباع علیه والتهذیب 9/232 باب الزیارات، ح20؛ وسائل الشیعة 19/421، کتاب الوصایا باب 88. ح1 و 2 و 3.
2- 2 . الهدایة إلی من له الولایة /805 و 806، المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.
3- 3 . الدلالة إلی من له الولایة /66.

موسی علیه السلام وکان ثقة من أصحابنا الکوفیین»(1) ولکن لا تثبت له الفقاهة لاسیّما مع أنّه لا ینقل عنه المشایخ الثلاثة فی الکتب الأربعة حتّی روایة واحدة فکیف یمکننا الحکم بأنّه فقیه؟!

وتمکن المناقشة فی هذا البیان بأنّ أباجعفر الثانی _ وهو الجواد _ علیه السلام قال: «إذا کان القیم به مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس». وتمثیل عبدالحمید بابن بزیع الذی وصفه النجاشی ب_ «کثیر العمل» و «کان من رجال أبیالحسن موسی علیه السلام وأدرک أباجعفر الثانی علیه السلام » و «کان علی بن النعمان وصَّی بکتبه له» و «سمع من منصور بن یونس وحماد

بن عیسی ویونس بن عبدالرحمن وهذه الطبقة کلّها» و «ثقة ثقة عین» وفی حسنة الحسین بن خالد الصیرفی قال: کنّا عند الرضا علیه السلام ونحن جماعة، فذکر محمّد بن إسماعیل بن بزیع فقال: وددت أن فیکم مثله.(2)

وحیث ظهر لک فقاهة ابن بزیع فتمثیل عبدالحمید بن سالِمٍ یُعْلِمُنا بأنّه أیضا فقیهٌ. فتستفاد ولایة الفقیه من الصحیحة بلا إشکال.

نعم، موردها فی القیمومیة علی مال الإیتام، وقد مرّ منّا(3) فی أوّل البحث عدم النقاش فیها وأمّا التعدی منها إلی الصورة الثانیة من صور ولایة الفقیه التی یکون البحث فیها محلّ تأمل بل منع.

ویأتی(4) بعض الاعتراضات علی دلالتها وجوابها ومدی ما یستفاد منها فی بحث ولایة عدول المؤمنین فانتظر.

ص: 215


1- 4 . کذا ذکره النجاشی /339، رقم 906 فی ترجمة ابنه محمّد بن عبدالحمید.
2- 1 . رجال النجاشی /330، رقم 893.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
4- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 347.
10/1_ ومنها: صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری

قال: سألت الرضا علیه السلام عن رجل مات بغیر وصیة وترک أولادا ذکرانا وغلمانا صغارا، وترک جواری وممالیک هل یستقیم أن تباع الجواری؟ قال: نعم.

وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ولد صغار وکبار أیحلّ شراء شیء من خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک، فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا کان الأکابر من ولده معه فی البیع فلا بأس إذا رضی الورثة بالبیع، وقام عدل فی ذلک.(1)

بتقریب: أنَّ هذه الصحیحة «وإن کانت هی تدلّ علی صحّة تصرّفات العادل وقیامه، بأُمور الصغار مطلقا لکن بناءً علی ظهور ما تقدّم من ابن بزیع فی اختصاص الجواز والقیام بالفقیه، یقیّد به إطلاقها، أو تحمل علی صورة فقد الفقیه، أو عدم التمکّن من الوصول إلیه، إذا قلنا: أنّ اختصاص الولایة بالفقیه من باب القدر المتیقّن من الروایة، لا لظهورها فیه»(2).

وبِعِبَارةٍ أُخری: «حاصل وجه استدلال بالروایة علی ولایة الفقیه، أنّ هذه الروایة وإن وردت، فی ولایة عدول المؤمنین، لکن بعد تقیید إطلاقها، بالروایة السّابقة، یعنی روایة محمّد بن إسماعیل بن بزیع، الدّالة علی ولایة الفقیه، تکون نتیجة الرّوایتین، ولایة الفقیه، ثمّ مع عدم الوصول به، تصل النّوبة بولایة العدول»(3).

وبعبارة ثالثة: «المراد من العادل المذکور فیها، لیس مطلق العادل ولو لم یکن عالما فقیها، ومن المحتمل قریبا أن یکون المراد منه هو العالم الفقیه المتولّی لأُمور الصغار فی سائر الموارد، بقرینة سؤال الراوی وقوله: «فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستخلفه الخلیفة» فیشعر أنّ فرض السؤال ومورده تولیة الذی کان هو من أهل الرأی والقضاوة، إلاّ أنّه لم یستعمله الخلیفة. وبتعبیر آخر لم یکن رسمیّا وقانونیّا منصوبا من قبل السلطان

ص: 216


1- 1 . وسائل الشیعة 17/362، ح1.
2- 2 . الهدایة إلی من له الولایة /807.
3- 3 . الدلالة إلی من له الولایة /67.

والخلیفة»(1).

أقول: ویرد علیها: أوّلاً: عدم إمْکانِ التَّعَدِّی من القیومیة علی أموال الأیتام

_ وهی الصورة الاُولی من صور ولایة الفقیه _ إلی الصورة الثانیة التی تکونُ هی مَحَلّ النفی والإثبات.

وثانیا: هذه الصحیحة تدلّ علی اعتبار ولایة عدول المؤمنین کما یأتی فی بحثها(2) فانتظر.

ص: 217


1- 4 . الهدایة إلی من له الولایة /807.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 361.
11/1_ ومنها: معتبرة أبیخدیجة

قال: بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، فقال: قل لهم: إیّاکم إذا وقعت بینکم خصومة، أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء، أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بینکم رجلاً، قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنِّی قد جعلته علیکم قاضیا، وإیّاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر.(1)

ومنها: معتبرته الأُخری قال: قال أبوعبداللّه علیه السلام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضا إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم، یعلم شیئا من قضایانا، فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیا، فتحاکموا إلیه.(2)

بتقریب:نهی الإمام علیه السلام الشیعة عن مراجعة قضاة الجور المنصوبین من قِبَلِ الظلمة وأمرهم بمراجعة الفقهاء العظام، وجعل علیه السلام الفقیه قاضیا بینهم، ومن المعلوم أنّ قضاة الجور مضافا إلی تَصَدِّیْهِم لفصل الخصومات والدعاوی یشتغلون ببعض أُمور العامة نحو: جعل القیم للقُصَّر والغُیَّب والتصرف فی أموالهم وأخذ الحقّ من المماطل وحبسه وبیع ماله والحکم بثبوت الهلال وجعل المتولی للاُوقاف العامة أو الخاصة التی لیس لها متولٍ خاص أو کان وانقرض وإجراء الحدود الشرعیة ونحوها، فی جمیع هذه الموارد الإمام علیه السلام جعل الفقیه بدیلاً عن قضاة الجور وهذا یعنی ولایته.

ویرد علیه: نعم، هاتان المعتبرتان تدلاّن علی ثبوت منصب القضاء ولذا قال المحقّق النائینی: «فاختصاصهما بالقضاء واضح»(3) بمعناها العام للفقیه، ولیس فیها بحث، لأنّ هذه الموارد کلّها یدخل فی الصورة الاُولی من تقسیم صور ولایة الفقیه التی لا کلام فیها، وإنّما الکلام فی الصورة الثانیة، والمعتبرتان أجنبیتان عنها ولم تقدرا ثبوتها، واللّه العالم.

ولذا قال خالنا الشیخ حسن ابن الشیخ جعفر کاشف الغطاء: «ولایة الحاکم عامّة لکلّ ما للإمام علیه السلام ولایةٌ فیه؛ لقوله علیه السلام : «حجّتی علیکم» وقوله علیه السلام : «فاجعلوه

ص: 218


1- 1 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.
3- 3 . منیة الطالب 2/235.

حاکما» حیث فهم الفقهاء منه أنّه بعمنی الولیّ المتصرّف، لا مجرّد أنّه یحکم فی القضاء، ولأنّ الضرورة قاضیة بمثل هذا المنصب، ولانّ النائب فی القضاء الذی هو أعظم کیف لا ینوب فیما هو أقلّ، ویتولّی المنصوب الخاصّ لجمیع ذلک فالعامّ مثله، ولما ورد فی جملةٍ

من الأخبار من الإذن فی ولایة الأیتام لجملةٍ من أصحابهم.(1)

وکذا الحاکم الشرعی وکیل عن الصاحب علیه السلام فیما یعود إلیه من أنفاله وأمواله، وقبضه قبضه؛ لمکان الضرورة والإجماع وظواهر أخبار النیابة والولایة، ولعموم «ما عَلَی الْمُحْسِنِینَ مِنْ سَبِیلٍ»(2).

بل لو فقد الحاکم الشرعی قامت عدول المؤمنین مقامه فی الولایات وفیما یرجع إلی الحاکم وفیما یختصّ بالإمام علیه السلام ؛ لمکان الضرورة ولعموم أدلّة الإحسان وعموم «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ»(3).

بل قد یقال: إنّه مع الاضطرار ینوب العدل العارف بالحکم الشرعی عن الإمام فی الحکم والفصل بین المتنازعین؛ لمکان الضرورة القاضیة بلزوم قطع الخصومات ورفع المنازعات.

وبالجملة، فروایة أبی خدیجة: «فاجعلوه قاضیا فإنّی قد جعلته قاضیا» یُفهم منها التسریة إلی کلّ ما یدخل تحت نصب القاضی ذلک الیوم، والمعلوم ذلک الیوم أنّ مَنْ نُصب قاضیا رجعت إلیه جمیع الأُمور العامّة فیما نصب فیه من البلدان، بل ربما یدّعی أنّ مجرّد غیبة الإمام علیه السلام وارتفاع سلطنته قاضٍ بمقتضی اللطف بتولّی جمیع ما یعود إلی العالم بأحکامه، وإلاّ لزم الهرج والمرج وتعطیل الحقوق وضیاع الأموال وتشتّت الأُمور العامّة، وکما قضت الضرورة بالأخذ بالظنّ بعد انسداد باب العلم وقضت بجواز الاجتهاد والتقلید قضت بتفویض الأمُور إلی العالم بالأحکام الشرعیّة الفرعیّة.

ص: 219


1- 1 . راجع وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
2- 2 . سورة التوبة /91.
3- 3 . سورة التوبة /71.

نعم، ما دام موجودا لا یرجع إلی غیره؛ اقصارا فی الضرورة علی قدرها»(1).

وقال شیخنا فی الروایة فی إرشاده: «فغایة ما تدلّ علیه المشهورة أنّ الشارع نصب الفقیه قاضیا بحیث ینفذ حکمه فی المرافعات وبه یتحقّق الفصل فی الخصومات ویتم أمر المرافعات وبعض الأُمور الأُخر مثل ما ذکر، ولا دلالة لها علی الولایة بالمعنی الذی هو محل الکلام بمعنی أنّ مجرد إعطاء منصب القضاء للفقیه فی مورد فصل الخصومة لا یقتضی ولایة التصرف فی الأُمور العامة فضلاً عن أن یکون له الولایة المطلقة

بالتصرف فی النفوس والأموال»(2).

ص: 220


1- 4 . أنوار الفقاهة 9/275 و 276.
2- 1 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه /55.
12/1_ ومنها: ما رُوی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: السلطان ولیٌّ من لا ولیَّ له.

(1)

وقد وصفها الشیخُ الأعظم ب_ : «قد اشتهر فی الألسن وَتَداوَلَ فی بعض الکتب(2)»(3).

واستفاد صاحبُ الجواهر(4) منها عموم ولایة الحاکم.

وقیّدها السیّد الخمینی(5) بالسلطان العادل.

بتقریب: أنَّ السلطان العادل وهو الفقیه «ولیُّ مَنْ مِن شأنه أن یکون له ولیّ بحسب شخصه أو صنفه أو نوعه أو جنسه، فیشمل الصغیر الذی مات أبوه، والمجنون بعد البلوغ، والغائب، والممتنع، والمریض، والمغمی علیه، والمیّت الذی لا ولیّ له، وقاطبة المسلمین إذا کان لهم مِلک، کالمفتوح عنوة، والموقوف علیهم فی الأوقات العامّة، ونحو ذلک.

لکن یستفاد منه ما لم یمکن یستفاد من التوقیع [الآتی]، وهو الإذن فی فعل کلّ مصلحة لهم، فَتَثْبُتْ به مشروعیّة ما لم یثبت مشروعیّته بالتوقیع المتقدّم، فیجوز له القیام بجمیع مصالح الطوائف المذکورین.

نعم، لیس له فعل شیء لا تعود مصلحته إلیهم، وإن کان ظاهر «الولیّ» یوهم ذلک؛ إذ بعد ما ذکرنا: من أنّ المراد ب_ «من لا ولیّ له» مَن مِن شأنه أن یکون له ولیّ،یراد به کونه ممّن ینبغی أن یکون له من یقوم بمصالحه، لا بمعنی: أنّه ینبغی أن یکون علیه ولیٌّ، له علیه ولایة الإجبار، بحیث یکون تصرّفه ماضیا علیه.

والحاصل: أنّ الولیّالمنفیّ هو الولیّ للشخص لا علیه، فیکون المراد بالولیّ

ص: 221


1- 1 . مسند أحمد 1/250؛ سنن الترمذی 2/281، ح1108؛ سنن الدارمی 2/137؛ سنن ابن ماجه 1/605، ح1879؛ سنن أبیداود 2/229، ح2083؛ السنن الکبری للبیهقی 7/106 و 124 و 138؛ کنزالعمال 16/309، ح 44643 و 44644؛ مجمع الزوائد 4/285.
2- 2 . کما فی المسالک 7/147؛ وعوائد الأیام /563؛ والجواهر 30/336 (29/188).
3- 3 . المکاسب 3/558.
4- 4 . الجواهر 30/336 (29/188).
5- 5 . کتاب البیع 2/653.

المثبت، ذلک أیضا، فمحصّله: إنّ اللّه جعل الولیّ الذی یحتاج إلیه الشخص وینبغی أن یکون له، هو السلطان، فافهم»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: إنَّ الروایة عامیة، وقال صاحب الحدائق: «وهذا الخبر لم نقف

علیه فی أخبارنا، والظاهر أنّه عامیٌّ، ومع تسلیمه فالحکم مختص بالإمام، إذ المتبادر من السلطان هو إمام الأصل کما لا یخفی»(2).

وقد یقال فی شأنها: «وفیه: أنّه لم یعرف له سند ولم یوجد فی روایات أصحابنا بل قیل أنّها من مجعولات العامة لوجوب طاعة السلطان مع أنّ فی دلالتها علی المطلوب ما لا یخفی»(3).

وثانیا: قال الشیخ الأعظم: «وهذا أیضا _ بعد الانجبار سندا أو مضمونا(4) _ یحتاج إلی أدلّة عموم النیابة، وقد عرفت ما یصلح أن یکون دلیلاً علیه(5)، وأنّه لا یخلو عن وهن فی دلالته، مع قطع النظر عن السند، کما اعترف به جمال المحقّقین فی باب الخمس بعد الاعتراف بأنّ المعروف بین الأصحاب کون الفقهاء نوّاب الإمام علیه السلام ،(6) ویظهر من المحقّق الثانی أیضا _ فی رسالته الموسومة ب_ «قاطع اللجاج»(7) فی مسألة جواز أخذ الفقیه اُجرة أراضی الأنفال من المخالفین کما یکون ذلک للإمام علیه السلام إذا ظهر _ الشکّ(8) فی عموم

ص: 222


1- 6 . المکاسب 3/559 و 560.
2- 1 . الحدائق 23/239.
3- 2 . ولایة الاولیاء /89.
4- 3 . قال الشهیدی قدس سره : منشأ التردید هو الشکّ فی أنّ المتداول فی الألسنة متن الروایة ونقلت باللفظ، أو مضمونها ونقلت بالمعنی (هدایة الطالب 3/265).
5- 4 . راجع المکاسب 3/(551-553).
6- 5 . حاشیة الروضة /320، ذیل عبارة: أو إلی نوابّه وهم الفقهاء.
7- 6 . کذا فی النسخ، والمعروف تسمیتها ب_ «قاطعة اللجاج».
8- 7 . کذا فی بعض النسخ، وفی سائر النسخ: للشکّ.

النیابة(1)، وهو فی محلّه»(2).

وثالثا: لا تدلّ «علی مرجعیة السلطان فی الاُمور العامّة، فإنّه لو لم نقل بما قیل: من ورودها بالنسبة إلی المیّت الّذی لا ولیّ له، بل قلنا بولایته علی کلِّ من لا ولیّ له حتّی الموقوف علیهم فی الأوقات العامّة فضلاً عن مثل الصبیّ والمجنون والغائب، إلاّ أنّه حیث إنّ ظاهرها ولایة السلطان علی من یحتاج إلی الولیّ فتختصّ بالاُمور الحسبیّة، فلا تدلّ علی ولایته علی إقامة الجمعة، وإجراء الحدود، وأخذ الزکاة جبرا، ونظم البلاد، وما یرجع إلی الأُمور العامّة»(3).

ورابعا: «الظاهر من السلطان هو الإمام علیه السلام دون الفقیه بدعوی أنّ «اللاّم» فیه عوض عن المضاف إلیه وهو اللّه تعالی، فیختصّ به علیه السلام ، فیحتاج إسراء الحکم إلی الفقیه إلی عموم النیابة لا مطلق من تسلّط علی النّاس ولو بخصوص الحقّ؛ کی یعمّ الفقیه بنفسه لو کان تسلّط علیهم، فتدبّر»(4).

ص: 223


1- 8 . قاطعة اللجاج فی تحقیق حلّ الخراج (رسائل المحقّق الکرکی) 1/257.
2- 9 . المکاسب 3/558 و 559.
3- 10 . منیة الطالب 2/236.
4- 1 . هدایة الطالب 3/265.
13/1_ ومنها: التوقیع المروی بسند حسنٍ عن إسحاق بن یعقوب

قال: سألت محمّد بن عثمان العمری أن یوصل لی کتابا، قد سألت فیه عن مسائل أشکلت علیّ، فورد التوقیع بخطّ مولانا صاحب الزمان علیه السلام : أمّا ما سألت عنه أرشدک اللّه وثبّتک _ إلی أن قال _ : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه، وأمّا محمّد ابن عثمان العمری _ رضی اللّه عنه _ ، وعن أبیه من قبل، فإنّه ثقتی، وکتابه کتابی.(1)

قد وصفه الشیخ محمّدطه نجف المتوفی سنة 1323 بأنّه مقطوع به أو کالمقطوع.(2)

قال صاحب الجواهر: «ضرورة کون المراد منه: أنّهم حجّتی علیکم فی جمیع ما أنا فیه حجّة اللّه علیکم إلاّ ما خرج»(3).

قال الشیخ الأعظم فی تقریب الاستدلال به: «فإن المراد ب_ «الحوادث» ظاهرا: مطلق الاُمور التی لابدّ من الرجوع فیها عرفا أو عقلاً أو شرعا إلی الرئیس، مثل النظر فی أموال القاصرین لغیبةٍ أو موتٍ أو صغرٍ أو سَفَهٍ.

وأمّا تخصیصها بخصوص المسائل الشرعیّة، فبعید من وجوه:

منها: إنّ الظاهر إیْکالُ(4) نفس الحادثة إلیه لیباشر أمرها مباشرةً أو استنابةً، لا الرجوع فی حکمها إلیه.

ومنها: التعلیل بکونهم «حجّتی علیکم وأنا حجّة اللّه»؛ فإنّه إنّما یناسب الاُمور التی یکون المرجع فیها هو الرأی والنظر، فکان هذا منصب ولاة الإمام علیه السلام من قِبَل نفسه، لا أنّه واجب من قِبَل اللّه سبحانه علی الفقیه بعد غیبة الإمام علیه السلام ، وإلاّ کان المناسب أن یقول: «إنّهم حُجج اللّه علیکم» کما وصفهم فی مقام آخر ب_ «أنّهم اُمناء اللّه علی الحلال والحرام».

ومنها: أنّ وجوب الرجوع فی المسائل الشرعیة إلی العلماء _ الذی هو من

ص: 224


1- 1 . وسائل الشیعة 27/140، ح9، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.
2- 2 . کما نقل عنه آیة اللّه الشیخ علی کاشف الغطاء فی کتابه: النور الساطع فی الفقه النافع 1/371.
3- 3 . الجواهر 41/22 (40/18).
4- 4 . وفی المصدر: وکول.

بدیهیّات الإسلام من السلف إلی الخلف _ ممّا لم یکن یخفی علی مثل إسحاق بن یعقوب، حتّی یکتبه فی عداد مسائل أشکلت علیه، بخلاف وجوب الرجوع فی المصالح العامّة إلی رأی أحدٍ ونظره؛ فإنّه یحتمل أن یکون الإمام علیه السلام قد وکّله فی غیبته إلی شخص أو

أشخاص من ثقاته فی ذلک الزمان.

والحاصل: إنّ الظاهر أنّ لفظ «الحوادث» لیس مختصّا بما اشتبه حکمه ولا بالمنازعات.

ثمّ إنّ النسبة بین مثل هذا التوقیع وبین العمومات الظاهرة فی إذن الشارع فی کلّ معروف لکلّ أحد، مثل قوله علیه السلام : «کلّ معروف صدقة»، وقوله علیه السلام : «عون الضعیف من أفضل الصدقة» _ وأمثال ذلک _ وإن کانت عموما من وجه، إلاّ أنّ الظاهر حکومة هذا التوقیع علیها وکونها بمنزلة المفسّر الدالّ علی وجوب الرجوع إلی الإمام علیه السلام أو نائبه فی الاُمور العامّة التی یفهم عرفا دخولها تحت «الحوادث الواقعة»، وتحت عنوان «الأمر» فی قوله: «أُولِی الاْءَمْرِ»(1).

وعلی تسلیم التنزّل عن ذلک، فالمرجع بعد تعارض العمومین إلی أصالة عدم مشروعیّة ذلک المعروف مع عدم وقوعه عن رأی ولیّ الأمر.

هذا، لکن المسألة لا تخلو عن إشکال، وإن کان الحکم به مشهوریا»(2).

وقال المحقّق الاصفهانی فی تقریبه: «أنّ عموم الحوادث لکونها جمعا محلی باللام یقتضی أنْ یکون الفقیه مرجعا فی کل حادثة یرجع فیها الرعیة إلی رئیسهم، سواء تعلّق بالسیاسات أو بالشرعیات، دون خصوص الشبهات الحکمیة والمسائل الشرعیة بإرادة الفروع المتجددة من الحوادث الواقعة، واستشهد المنصف قدس سره للعموم بوجوه:

أحدها: أنّ الظاهر الرجوع فی نفس تلک الحوادث إلی الفقیه لا فی حکمها، فیرجع فی بیع مال الیتیم إلیه لا فی حکمه وهکذا.

ص: 225


1- 1 . الوارد فی قوله تعالی، «أَطِیعُوا اللّهَ»، سورة النساء /59.
2- 2 . المکاسب 3/(557-555).

وثانیها: أنّ مقتضی إضافة حجیة الفقیه إلی نفسه المقدسة أنّه منصوب بالنیابة من قبله، فهو نائب عن الإمام فیما هو وظیفته علیه السلام من التصرفات، لا فیما یتعلّق بحکم اللّه تعالی فإنّه حجة من اللّه تعالی علی حکمه، کما وصف فی مقام آخر بأنّهم أمناء اللّه علی حلاله وحرامه.

وثالثها: أنّ الرجوع فی حکم الحوادث الواقعة إلی العالم به أمر یعد من بدیهیات الاسلام، ولم یکن یخفی علی مثل إسحاق بن یعقوب حتّی یکتبه فی عداد المسائل التی أشکلت علیه»(1).

وقال السیّد الخمینی رحمه الله فی تقریبه: «وأمّا دلالته: فتارة من ناحیة قوله علیه السلام : «أمّا الحوادث الواقعة...» إلی آخره.

وتقریبها: أنّ الظاهر أنّه لیس المراد بها أحکامها، بل نفس الحوادث، مضافا إلی أنّ الرجوع فی الأحکام إلی الفقهاء من أصحابهم علیهم السلام ، کان فی عصر الغیبة من الواضحات عند الشیعة، فیبعد السؤال عنه.

والمظنون أنّ السؤال کان بهذا العنوان، فأراد السائل الاستفسار عن تکلیفه أو تکلیف الأُمّة فی الحوادث الواقعة لهم، ومن البعید أن یعدّ السائل عدّة حوادث فی السؤال، ویجیب علیه السلام : بأنّ الحوادث کذا، مشیرا إلی ما ذکره.

وکیف کان: لا إشکال فی أنّه یظهر منه أنّ بعض الحوادث التی لا تکون من قبیل بیان الأحکام، یکون المرجع فیها الفقهاء.

وأُخری من ناحیة التعلیل: «بأنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه».

وتقریبها: بأنّ کون المعصوم حجّة اللّه، لیس معناه أنّه مبیّن الأحکام فقط؛ فإنّ زرارة ومحمّد بن مسلم وأشباههما أیضا أقوالهم حجّة، ولیس لأحد ردّهم وترک العمل بروایاتهم، وهذا واضح.

بل المراد بکونه وکون آبائه الطّاهِرِیْنَ علیهم السلام حجج اللّه علی العباد، أنّ اللّه تعالی

ص: 226


1- 3 . حاشیة المکاسب 2/388.

یحتجّ بوجودهم وسیرتهم وأعمالهم وأقوالهم، علی العباد فی جمیع شؤونهم، ومنها العدل فی جمیع شؤون الحکومة.

فأمیرالمؤمنین علیه السلام حجّة علی الأُمراء وخلفاء الْجَوْرِ، وقطع اللّه تعالی بسیرته عذرهم فی التعدّی عن الحدود، والتجاوز والتفریط فی بیت مال المسلمین، والتخلّف عن الأحکام، فهو حجّة علی العباد بجمیع شؤونه.

وکذا سائر الحجج، ولا سیّما ولیّ الأمر الذی یبسط العدل فی العباد، ویملأ الأرض قسطا وعدلاً، ویحکم فیهم بحکومة عادلة إلهیّة.

وأنّهم حجج اللّه علی العباد أیضا؛ بمعنی أنّه لو رجعوا إلی غیرهم فی الاُمور الشرعیّة والأحکام الإلهیّة _ من تدبیر اُمور المسلمین، وتمشیة سیاستهم، وما یتعلّق بالحکومة الإسلامیّة _ لا عذر لهم فی ذلک مع وجودهم.

نعم، لو غلبت سلاطین الجور، وسلبت القدرة عنهم علیهم السلام ، لکان عذرا عقلیّا مع کونهم أولیاء الاُمور من قبل اللّه تعالی.

فهم حجج اللّه علی العباد، والفقهاء حجج الإمام علیه السلام ، فکلّ ما له لهم؛ بواسطة جعلهم حجّة علی العباد، ولا إشکال فی دلالته لو لا ضعفه.

مضافا إلی أنّ الواضح من مذهب الشیعة، أنّ کون الإمام حجّة اللّه تعالی، عبارة اُخری عن منصبه الإلهیّ، وولایته علی الاُمّة بجمیع شؤون الولایة، لا کونه مرجعا فی الأحکام فقط، وعلیه فیستفاد من قوله علیه السلام : «فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة اللّه» أنّ المراد أنّ ما هو لی من قبل اللّه تعالی، لهم من قبلی.

ومعلوم أنّ هذا یرجع إلی جَعْلٍ إلهیّ له علیه السلام ، وجَعْلٍ مِنْ قِبَلِهِ للفقهاء، فلابدّ للإخراج من هذه الکلّیة من دلیل مخرج فیتّبع»(1).

ویری آیةُ اللّه الشیخ علی کاشف الغطاء الفقهاءَ ولاة الأمر فی هذا العصر(2) وقال:

ص: 227


1- 1 . کتاب البیع 2/(637-635).
2- 2 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/356.

«أنّ الحجة یجب اتباعها فیکون العالم واجب الإتباع، وهذا یقتضی أن تکون له الولایة، وحذف المتعلق یقتضی العموم لکلّ ما کانت للإمام علیه السلام الولایة علیه.

وقد أورد علی الاستدلال به بأن الحجة معناها ما یحتج به علی النّاس حتّی لا یبقی عذر لهم فی التقصیر فی امتثال التکالیف بدعوی عدم العلم بها والإطلاع علیها، وأین ذلک من الولایة. ولکن الإنصاف أن إطلاق الحجة علی الشخص ظاهر فیما ذکرناه، لا فیما ذکره المورد. نعم، لو أطلقت الحجة علی القول کان ظاهرها ما ذکره»(1).

وقال الشهید السیّد محمّدباقر الصدر: «النیابة العامة للمجتهد المطلق العادل الکفوء عن الإمام وفقا لقول امام العصر علیه السلام «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه» فإنّ هذا النص یدلّ علی أنّهم المرجع فی کل الحوادث الواقعیة بالقدر الذی یتصل بضمان تطبیق الشریعة علی الحیاة لأَن الرجوع إلیهم بما هم رواة أحادیثهم وحملة الشریعة یعطیهم الولایة بمعنی القیمومة علی تطبیق الشریعة وحقّ الاشراف الکامل من هذه الزاویة»(2).

واعترض المحقّق الخراسانی علی تقریب الشیخ الأعظم بقوله: «ولا فی إرجاع الحوادث الواقعة إلیهم، فی التوقیع الشریف، لاحتمال معهودّیة الحوادث، وإشارة إلی خصوص ما ذکره فی السؤال، وقوّة أنْ یکون المراد، إرجاع حکم الحوادث الواقعة، والفروع المتجدّدة الّتی لیس منها بخصوصها أثر فی الأخبار، ولا لجعلهم حجة من قبله، فإنّ الحجیّة من قبله غیر مستلزم للولایة المطلقة، لعدم ملازمة عقلاً، ولا عرفا بین الحجیّة والولایة، وإنْ عُلِمَ ولایةُ حجة اللّه _ عجل اللّه فرجه _، کما عرفت، فتأمل جیّدا»(3).

وقال أیضا فی کتاب قضائه: «و «أمّا الحوادث الواقعة...» ظاهر فی العهد والمعهود غیر معلوم، فیحتمل أن یکون السؤال عن الأحکام الّتی تصیر محلّ الحاجة والابتلاء فتکون الحوادث کنایة عنها، أو کان المراد الرجوع فی أحکام الحوادث الواقعة إلیهم لو

ص: 228


1- 3 . النور الساطع فی الفقه النافع 1/371.
2- 4 . یقود الحیاة /24 (/16 من الطبعة الاُولی).
3- 1 . حاشیة المکاسب /94.

کان المسؤول عنه غیرها. ولا دلالة للتعلیل علی ذلک بعد احتمال أن یکون المراد أنّهم الحجّة من قبله فی تبلیغ الأحکام کی لا یکون للنّاس علیه الحجّة کما أنّه حجّة اللّه علی کافّة الخلق فتکون للّه الحجّة البالغة»(1).

وقال ثالثةً فی تقریر أبحاثه فی القضاء: «فالاستدلال علیها بصدره _ حیث إنّه أرجع إلی الرواة فی نفس الحوادث _ مشکل، لظهور أنّ الإرجاع إنّما هو فی حکمها الشرعی المستنبط عن الکلیّات الملقاة إلیه من الأئمة وکذا ذیله، فإنّ الحجّة یقال علی جهة التبلیغ. فالعلماء حجج الأئمّة من حیث تبلیغهم الأحکام. فبهم یحتجّون الأئمّة علی النّاس کما أنّ اللّه یحتجّ علی النّاس بوجود الإمام من حیث تبلیغه أحکامه. فحیث الاحتجاج هو لحیثیّة التبلیغ»(2).

وتبعه المحقّق الشهیدی وقال: «وکیف کان، فقد مرّ الإشکال فی دلالته علی المطلب بأنّه من المحتمل قویّا أن یکون اللاّم فی «الحوادث» للعهد علی الحوادث التی سأل إسحاق عن حکمها، فإفادته للعموم تتبع إرادة العموم منه فی السؤال، وهی غیر معلومة؛ إذ لیست عبارة السؤال بأیدینا، فلعلّها مختصّة ببعض الحوادث بأن کان السؤال

عن حوادث مخصوصة قد تعرّض لها فی السؤال.

وبالجملة: یحتمل أن یکون المراد هو الأمر بتعلّم الأحکام من الفقیه، کما یؤیّده _ بل یدلّ علیه _ أنّه المنساق إلی الأذهان من عنوان الحدیث برواة الحدیث وختمه بأنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة اللّه تعالی؛ إذ الظاهر من ذلک أنّ قیامهم مقامه _ علیه السلام وروحی له الفداء _ إنّما هو فی الحجّیة وتوسّطهم بینه علیه السلام وبین من انقطع عن درک فیض حضوره علیه السلام ، کما أنّه علیه السلام واسطة بینهم وبین اللّه تعالی، ومن الظاهر أنّ توسّطه علیه السلام بین اللّه وبینهم إنّما هو فی بیان الأحکام ونشر الحلال والحرام، فلیکن توسّطهم بینه علیه السلام وبین

ص: 229


1- 2 . کتاب القضاء /32.
2- 3 . تقریرات السیّد القوچانی لدروس فقه الآخوند الخراسانی، کتاب القضاء، /232، المطبوعة فی ضمن مجموعة الرسائل الفقهیّة لآیة اللّه السیّد محمّدحسن آقا النجفی القوچانی قدس سره ، تهران، 1386.

النّاس أیضا فی ذلک.

قوله: «منها: إنّ الظاهر»(1).

أقول: فیه: إنّه إنّما یتمّ لو کان التعبیر بقوله: فارجعوها، من باب الإفعال لا بما فی المتن من المجرّد، فإنّ الظاهر منه الرّجوع فی حکمها کما لا یخفی، فتأمّل.

قوله: «ومنها: أنّ وجوب الرّجوع»(2).

أقول: فیه: إنّ إسحاق بن یعقوب لم یذکر فی کتب الرجال بوثاقة ولا فقه ولا جلالة، فلا بعد فی خفاء ما ذکر علیه کما خفی علیه حرمة الفقاع إلی زمان الغیبة، وکذلک خفی علیه قتل سیّد الشهداء علیه السلام وأنّ بنی أُمیّة _ لعنهم اللّه _ قد قتلوه حقیقة لا أنّه شبّه لهم، حیث إنّه سأل الحجّة علیه السلام عن ذلک کما یعلم من جوابه علیه السلام فی التوقیع»(3).

ولکن المحقّق الأصفهانی ردّ تقریب الشیخ الأعظم بقوله: «والجواب: أنّ الجمع المحلّی باللام إنّما یفید العموم حیث لا عهد، ولم یعلم أنّ المسؤل عنه أی شیء عبّر عنه بالحوادث الواقعة فکیف یؤخذ فیها بالعموم، ویحتمل إرادة الفروع المتجددة، کما یحتمل إرادة الحوادث التی هی علائم الظهور، وأنّها ما هی؛ فارجع إلی ما ورد فی الأخبار علی لسان رواة الأخبار.

وأمّا الشواهد فالأوّل منها مدفوع: بأنّ اللازم سکوت الخبر عن الرجوع إلی الرواة فی المسائل الشرعیة، لأنّه رجوع إلیهم فی حکم الوقائع لا فی نفسها، مع أنّ الخبر من الأدلة التی یستدل بها علی حجیة الخبر وحجیة الفتوی؛ فلابدّ من الحمل علی معنی جامع

فیسقط عن الشهادة بعد الخدشة فی العموم.

والثانی منها مدفوع: بأنّ النّبی والإمام علیهماالسلام یبلغان عن اللّه تعالی، فهما حجتان للّه تعالی علی عباده علی حکمه تعالی، والراوی _ بما هو رواٍ _ لا یخبر إلاّ عن الإمام علیه السلام ؛ فهو حجة له علیه السلام علی من سمعه من الراوی، فبهذه المناسبة أضاف حجیته إلی اللّه تعالی؛

ص: 230


1- 1 . المکاسب 3/555.
2- 2 . المکاسب 3/556.
3- 3 . هدایة الطالب 3/261.

وحجیة الرواة إلی نفسه المقدسة، مضافا إلی أنّ مفاد الحجیة صحة الاحتجاج بالشخص أو بالشیء فی مقام المؤاخذة علی مخالفة ما قامت علیه الحجة، فیناسب قیام الدلیل علی حکم شرعی سواء کان الحجة إخبار الراوی أو رأی المجتهد ونظره.

وأمّا مطلق النظر کنظر الفقیه فی بیع مال الیتیم فلا معنی لاتصافه بالحجیة، فإنّ البیع الواقع عن مصلحة بنظره صحیح نافذ؛ لا أنّه حجة له أو لغیره علی أحدٍ، فما فی طی کلامه قدس سره _ من أنّه یناسب الاُمور التی یکون المرجع فیها هو الرأی والنظر _ وإن کان صحیحا فی الجملة؛ إلاّ أنّه لا دخل له بکلِّ رأیٍ ونظرٍ کما لا یخفی علی أهل النظر فتبصّر.

والثالث منها مدفوع: بوقوع مثل ذلک عن من هو أجلّ من إسحاق بن یعقوب بمراتب، فهذا أحمد بن إسحاق المعدود من الوکلاء والسفراء والأبواب فقد سأل أباالحسن الهادی علیه السلام وقال: «مَنْ أُعامل وعمّن آخذ وقول مَنْ أقبل؟ فقال علیه السلام : العمری ثقتی فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی، وما قال لک عنّی فعنّی یقول؛ فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»(1).

وبالجملة: بمثل هذا ونحوه صار وجوب الرجوع إلی الرواة الثقات من بدیهیات الإسلام، وحیث وقع السؤال من إسحاق بن یعقوب فی زمان الغیبة کلّیّة، فلذا أجاب بالرجوع إلی رواة الأحادیث دون شخص خاص من الثقات فتدبر»(2).

وقد لخّص المحقّق السیّد الخوئی تقریب الشیخ الأعظم واستشکل علیه بقوله: «وقد ادعی المصنّف [الشیخ الأعظم] ظهور «الحوادث» فی مطلق الاُمور التی لابدّ فیها من الرجوع إلی الرئیس شرعا أو عرفا، فلابدّ فی جمیعها من الرجوع إلی الفقیه والاستیذان منه، ولیس المراد بالرجوع إلیه فیها بیان حکمها.

وأقام علی ذلک شواهد ثلاثَةً:

أحدها: إرجاع نفس الحادثة إلی رواة الأحادیث کما هو ظاهر الروایة، لا حکمها.

ص: 231


1- 1 . وسائل الشیعة 27/138، ح4، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، معتبرة أحمد بن إسحاق.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/389 و 390.

ثانیها: التعلیل بقوله قدس سره «فإنّهم حجّتی علیکم» إذ لو کان المراد بالرجوع إلیهم الرجوع إلیهم فی بیان المسائل الشرعیّة الواجب علیهم من اللّه سبحانه، لکان الأنسب التعلیل بکونهم حجّة اللّه سبحانه، لأنّه یجب علیهم من اللّه سبحانه، فالتعلیل یناسب الولایة التی تکون منصوبة للإمام علیه السلام من اللّه، والإمام علیه السلام یجعلها لمن ینصبه والیا، فیکون والیا من قبل الإمام لا من اللّه تعالی، کما فی الولاة المنصوبین فی زمان حضورهم علیهم السلام .

ثالثها: أنّ الرجوع إلی الفقهاء لمعرفة الأحکام الشرعیّة _ الذی کان أمرا بدیهیّا فی الإسلام _ لم یکن یشکل علی مثل «إسحاق بن یعقوب» حتّی یعدّه فی عداد ما اُشکلت علیه من المسائل، فلابدّ وأن یکون المراد السؤال عمّن یرجع إلیه فی الاُمور العامّة ویعتبر إذنه فیها، فإنّه یمکن أن یکون مجهولاً عنده، لاحتمال أن یکله علیه السلام إلی شخص خاص.

وفی جمیعها نظر:

أمّا الوجه الأوّل، ففیه: أن ظاهر الرجوع فی الحادثة الرجوع فی حکمها، فلو کانت العبارة هکذا «فارجعوها إلی رواة حدیثنا» لکان ظاهرا فیما ذکره، إلاّ أنّه لیس کذلک، وإنّما أمر بالرجوع فی الحادثة إلیهم، فهو نظیر أن یقال: «ارجع فی الأمر الکذائی إلی فلان» أی شاوره فیه، لا أن یتصرّف فیه.

وأمّا الوجه الثانی، ففیه: أنّ التعلیل تامٌّ ولو کان المراد الرجوع إلیهم فی الفتوی؛ وذلک لأنّ الفقیه وإن کان ینقل الحکم الإلهی، إلاّ أنّه ینقله بواسطة الإمام علیه السلام ، فصحّ أن یقال: إنّه حجة الإمام، بمعنی أنّه علیه السلام یحتجّ بأقواله علی العوام یوم القیامة، کما ورد فی بعض الأخبار: «أنّ النبی یوم القیامة یسأل عن تبلیغ الأحکام، والنبی صلی الله علیه و آله یسأل الإمام علیه السلام ، والإمام یسأل الفقهاء، فإذا أثبتوا أنّهم بلّغوا تمّت به الحجّة علی العوام».

وأمّا الوجه الثالث، ففیه: أنّ المعهود فی زمان الحضور _ کما هو معلوم _ الرجوع إلی الإمام علیه السلام فیما یقع من الحوادث بلا واسطة أو معها، وفی عصر الغیبة الصغری کان الرجوع إلی النوّاب، فلا یبعد أن یشکل علی بعض الأکابر من یرجع إلیه فی الحوادث الواقعة التی تحدث جدیدا ولم یبیّن حکمها من الکتاب والسنّة، مثل الولد الذی جعلت نطفته فی الرحم بالتقلیح، فبمن یلحق الولد؟ ومثل ما لو صلّی أحد فی بلد ثمّ سافر بالطائرة إلی بلد

ص: 232

آخر ووصل إلیه قبل دخول وقت تلک الصلاة، فهل یجب علیه التکرار أم لا؟ فَمَنْ المرجع فی هذه الحوادث؟ فیشکل علیه ذلک، فیسأل الإمام»(1).

وردّ المحقّق الأردکانی مقالة الشیخ الأعظم بقوله: «والمصنف رحمه الله [الشیخ الأعظم] أفاد فی تقریب دلالة التوقیع علی اثبات ولایة الفقیه علی الوجه الثانی وجوها أربعة لا تخلو عن مناقشة:

الأوّل: وهو ظهور الحوادث فیما یلزم الرجوع فیه من الوقایع إلی الإمام علیه السلام حضوره من دون فرق بین الأحکام وغیرها من إجراء الحدود والنظر فی أموال السفهاء والمجانین والصغار والغائبین إلی غیر ذلک من الاُمور التی یقوم بها الإمام علیه السلام .

وفیه: إنّ السؤال غیر معلوم، فیحتمل أنْ یکون المراد بالحوادث الوقایع المخصوصة المتضمن لها السؤال، والجمع المحلیَّ باللام وإن کان مفیدا للعموم حیث لا عهد إلاّ أنّه مع احتمال العهد ممنوع.

الثانی: وهو أنّ التعلیل بقوله علیه السلام «فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه علیهم» یدلُّ علی أنّ ما کان لهم من قبل اللّه تعالی ویقبل التفویض فهو لرواة الأحادیث الذین هم الفقهاء.

وفیه: أنّ الحجَّة لغة وعرفا یطلق علی ما یحتج به کما یقال القطع حجة، ونحوه الظن فإطلاق الحجة علیهم انّما هو بملاحظة کونهم وسائط فی إیصال الأحکام إلی العباد فیحتج بهم علیهم.

وقد ورد «إنّ اللّه یسأل یوم القیامة عن العبد هلاَّ عملت؟ فیجیب: ما علمت، فیقال هلاَّ تعلَّمت؟»(2) فلا یستفاد من التوقیع أزید من کون وظیفتهم تبلیغ الأحکام.

لکن قد یقال أنّ لفظ الحجة وإنْ کان بحسب اللغة والعرف یطلق علی المعنی المذکور، إلاّ أنّ دعوی استعماله فی لسان المتشرِّعة فی المعنی المخصوص قریبة کما فی

ص: 233


1- 1 . محاضرات فی الفقه الجعفری 3/(40-38).
2- 1 . ورد نحوها فی معتبرة مسعدة بن زیاد المرویة فی أمالی الطوسی، المجلس الأوّل ح10/9.

لفظ الإمام، فإنّه لغة عبارة عمّن یقتدی به، إلاّ إنّه إذا اطلق بلا قرینة یحمل علی غیر هذا المعنی، وهو ولی العصر علیه السلام عند الشیعة وعند العامة علی واحد من الأئمة الأربعة، فلفظ الحجة عند استعماله بلا قرینة یطلق علی الحجة الخاصة، فیستفاد من التوقیع تفویض المنصب إلی الرواة ویشهد لذلک قوله علیه السلام وأنا حجة اللّه علیهم.

نعم، إنّما الإشکال فی مقدار الأمر المفوَّض مِنْ أنّه هل هو جمیع المناصب الثابتة له القابلة للتفویض أو بعضها والقدر المتیقن منها هو الإفتاء والقضاوة.

الثالث: إنّ الإمام علیه السلام أرجع نفس الحوادث إلی رواة الأحادیث، فهی ظاهرة فی الاُمور العامة لا أحکامها، حتّی یدَّعی ظهورها فی تبلیغها.

وفیه: أنّ التقدیر لازم علی کلِّ حال، إذ لا معنی لإیکال نفس الحادثة إلیهم، لأنّه تحصیل للحاصل، فالمراد إمّا ارجاع حکمها إلیهم أو ارجاع الشأن اللازم فیها فلا منافاة بین إرادة الحوادث المجهولة الحکم من الحوادث وبین وکول نفسها إلیهم.

الرابع: إنّ مثل إسحاق بن یعقوب لا یخفی علیه وجوب الرجوع فی المسائل الشرعیة إلی الفقهاء، لأنّه من البدیهیات فی الإسلام بخلاف الرجوع إلیهم فی الاُمور العامة، إذا یحتمل أنْ یکون الإمام قد جعله لشخص خاص أو اشخاص من ثقاته فی ذلک الزمان فیرید معرفته فوقّع الإمام _ روحی له الفداء _ بأنّ المُراجع فی هذه الاُمور الرواة.

وفیه: أوّلاً: أنّ جلالة قدر مثل إسحاق غیر مناف لسؤاله عن ذلک، لوقوع مثله عن جماعة منهم علی بن المسیَّب الهمدانی وعبدالعزیز بن المهتدی، فإنّهما سألا الرضا علیه السلام عمّن یاخذا معالم دینهما؟ قال الأوّل منهما: «شقتی بعیدة ولست أصلُ إلیک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی؟ فقال علیه السلام من زکریا بن آدم القمی»(1) وقال الثانی: «إنّی لا ألقاک فی کلّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی فقال علیه السلام خذ عن یونس بن عبدالرحمن»(2) بل صدر ذلک عن أحمد بن إسحاق مع أنّه اجلَّ من إسحاق بن یعقوب بمراتب إذ هو معدود من

ص: 234


1- 1 . رجال الکشی /366؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/146، ح27 ضعیفة.
2- 2 . رجال الکشی /306؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/148، ح34 حسنة.

السفراء والوکلاء فقد سئل أباالحسن الهادی علیه السلام قال: مَنْ اُعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال علیه السلام : العمری ثقتی فما ادَّی إلیک عنّی یؤدّی، وما قال لک فعنی یقول فاسمع له واطع فإنّه الثقة المأمون»(1).

وثانیا: إنّه لم یعلم أنْ یکون سؤاله عن تعیین تکلیف المسلمین فی الغیبة الکبری حتّی یقال أنّ الجواب ظاهر فی عموم الوقایع، بل یحتمل سؤاله عن حال المسلمین فی الغیبة الصغری لکونه بتوسط محمّد بن عثمان العمری الذی کان سفیرا من قبله، کما یظهر لک بالرجوع إلی ذیل التوقیع، قال علیه السلام : «وأمّا محمّد بن عثمان العمری فرضی اللّه عنه وعن أبیه من قبل فإنّه ثقتی وکتابه کتابی»(2)، فلعل إسحاق بن یعقوب کان سؤاله عن المرجع

فی المسائل المتجدِّدة فی ذلک العصر، لا عن المرجع فی الاُمور العامة»(3).

وناقش السیّد الروحانی رحمه الله فی دلالة التوقیع بقوله: «وقد نوقش فی دلالة هذه الروایة علی ولایة الفقیه بأن قوله علیه السلام : «وأما الحوادث الواقعة»، وإن کان جمعا محلّی بالألف واللام لکن دلالته علی العموم انّما هی بالإطلاق وعدم القرینة، وسیاق الحدیث ظاهر فی أنّه جواب عن سؤال موضوعه الحوادث ولم یعلم أنّ المسؤل عنه حوادث خاصة معینة شخصیة خارجیة أو أنّه مطلق الحوادث التی قد تقع، وهو إنّما یفید لو کان السؤال عن الثانی ولکنّه لا یعلم، فلا یدلّ الأمر بالإرجاع إلی الفقیه فی الحوادث علی الرجوع إلیه فی مطلق الحوادث، إذ من المعلوم أنّ المراد بالحوادث فی الشرط الحوادث الواقعة مورد السؤال ولم یعلم أنّها مطلق الحوادث. فلا إطلاق للکلام فتدبر.

وأما ما ذکره من القرائن علی دلالة الحدیث، فهو قابل للمناقشة.

أما ظهور التعبیر ب_ «فیها» فی الإرجاع فی نفس الحوادث لا فی أحکامها، فهو غیر مسلم لأنّ الظاهر من الرجوع فی القضیة إلی شخص هو الرجوع فیها لحلِّ الإشکال فیها، فقد تکون جهة الإشکال هی الحکم وقد تکون غیره کالتصرف ونفوذه ونحوه. فقوله علیه السلام :

ص: 235


1- 3 . الکافی 1/329؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/138، ح4 صحیحة.
2- 4 . وسائل الشیعة 27/140، ح9.
3- 1 . غنیة الطالب 3/(190-187).

«ارجعوا فیها» لا یظهر فی عدم الرجوع فی الحکم وإنّما الرجوع فی نفس الأمر، إذ الرجوع فی المسألة المشکوک حکمها یقال عنه رجوع فی المسألة، نعم لو عبر بإرجاعها إلی الرواة لا الرجوع فیها، لتم ما ذکر کما لا یخفی. فلاحظ.

ویؤید ما ذکرنا استدلال الأعلام بالروایة علی حجیة قول الفقیه فی مقام الفتوی، فإنّه لایتلاءم مع ما ذکره الشیخ قدس سره من عدم کون المنظور جهة بیان الحکم أصلاً.

وأما التعلیل بأنّهم حجتی وأنا حجة اللّه، فظهوره فیما ذکر ممنوع، إذ یمکن أن یکون النظر إلی مقام بیان الحکم الشرعی حیث أنّه موکول إلی الإمام علیه السلام ولذلک کان حجة اللّه علینا، وقد جعل الإمام علیه السلام الواسطة لتبلیغ الأحکام الفقهاء، فهم حججه علی النّاس وبالنسبة إلی اللّه _ عزّوجلّ _ حیث أنّه یکون بذلک معذورا.

بل التعلیل المذکور ظاهر فی کون النظر إلی مقام حجیة رأیه فی الحکم الشرعی، وذلک لأنّ معنی الحجیة المنجزیة والمعذریة، أو ما یلازمهما. ومن المعلوم أنّ المنجزیة والمعذریة إنّما تتصور فی الحکم الشرعی، أمّا فی صحة التصرفات ونفوذها فلا معنی

لکون رأی الفقیه منجزا، إذ لا موضوع یقبل التنجیز والتعذیر، لأنّهما بلحاظ العقاب والمؤاخذة وذلک أنّما یثبت فی مورد الحکم. فلاحظ.

وأمّا ظهور صحة الرجوع إلی الفقیه فی المسائل الشرعیة بحیث یکون من البدیهیات، فهو لایفیده شیئا فیما إدعاه، وذلک لأنّ ظهوره وبداهته انّما کان بواسطة مثل هذه النصوص والروایات بحیث لو لاها لکان ممّا یقبل التشکیک ولم تعلم بداهته فی تلک العصور وإن ثبتت الآن.

وجلالة قدره لا تمنع من سؤاله کیف وقد سأل من هو أجل قدرا منه عن وثاقة العمری وابنه وجواز أخذ معالم الدین عنهما.

مضافا إلی أن إسحاق بن یعقوب مجهول الحال کما قیل.

والعجب من الشیخ قدس سره أنّه یدعی بداهة جواز الرجوع إلی الفقهاء فی المسائل الشرعیة مع أنّه یناقش فی مبحث التقلید فی أدلة جواز التقلید کلّها بحیث تصل النوبة إلی تحکیم دلیل الانسداد وإعماله.

ص: 236

هذا کلّه مضافا إلی ضعف الروایة سندا.

ثمّ ان الشیخ قدس سره بعد أن استدل بهذا الحدیث ذکر أنه قد یدعی معارضة هذا الحدیث ومثل هذا العموم بما جاء من العمومات الظاهرة فی إذن الشارع فی کلِّ معروفٍ مثل: «کلُّ معروفٍ صدقة» و: «عون الضعیف من أفضل الصدقة»، فإنّها ظاهرة فی الإذن والترغیب فی عمل المعروف.

والنسبة بینهما العموم من وجه، لأنّهما یجتمعان فی حفظ مال الیتیم فانّه معروف وعون الضعیف، کما أنّه مما یحتاج إلی الإذن بمقتضی الأدلة الاولیة. ویفترقان فی مثل الحدود، فإنّها غیر معروف ومثل إعطاء الفقیر درهما فإنّها لا تتوقف علی إذن الإمام علیه السلام .

ومع کون النسبة بینهما هی العموم من وجه یحصل التعارض بینهما فی مورد الاجتماع، إذ العمومات دالة علی عدم جواز العمل بدون إذن الفقیه. وهذه الأدلة تدلّ علی جوازه لأنّه معروف، ومقتضی القواعد هو التساقط. فلا دلیل حینئذ علی لزوم الرجوع إلی الفقیه فیها.

ولکن التحقیق أنّ العمومات الدالة علی وجوب الرجوع إلی الفقیه لو تمت لکانت واردة علی هذه الأدلة، لأنّ أدلة الجواز قد أُخذ فی موضوعها عنوان المعروف، فإذا دل الدلیل علی أنّ حفظ مال الیتیم لا یجوز إلاّ بإذن الفقیه کان حفظه بغیر إذنه محرما وهو

یقتضی أن لا یکون معروفا، إذ الحرام لیس بمعروف، فهذه العمومات تکون رافعة لموضوع هذه الأدلة تعبدا وهو معنی الورود.

وهکذا بالنسبة إلی دلیل عون الضعیف، فإنّه مع دلالة الدلیل علی عدم جواز التصرف فی مال الیتیم أو المجنون إلاّ باذن الفقیه وعدم نفوذ التصرفات لا یکون المتعامل بماله والإتجار عوضا له لعدم نفوذ المعاملات والتصرفات، وقد عبر الشیخ علیه السلام عن ذلک بالحکومة ولکن الصحیح التعبیر بالورود.

هذا، مع انه لو تمت المعارضة والتساقط فاللازم الرجوع إلی الأصل، وقد عرفت

ص: 237

أنّه فی المعاملات یقتضی لزوم الرجوع إلی الفقیه لأَصالة عدم ترتب الأثر بدون إذنه»(1).

وقام شیخنا المجلسی بعد ذکر نقوده علی الشیخ الأعظم فی دفع المناقشات بقوله: «هذا وقد یناقش فی هذه الوجوه بما لایخفی أمّا الأوّل: فلأنَّ السؤال غیر معلوم فلعلَّ المراد من الحوادث هی الحوادث المعهودة بین الإمام علیه السلام والسائل وعلی فرض عمومها فالمتیقن منها هی الأمور التی تقع مورد الابتلاء من الموضوعات الکلیة التی لم یکن حکمها معلوما من الکتاب والسنة.

وأما الثانی: فلأَنَّ أدنی المناسبة بین نفس الحوادث وحکمها کاف للسؤال عن حکمها فیکون الفقیه هو المرجع فی الأحکام لا فی نفس الحوادث.

وأما الثالث: فلأَنَّ الحجة یناسبٍ المبلغیة فی الأحکام والرسالة علی الأنام أیضا کما فی قوله عز من قائل: «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ»(2) وقوله: «تِلْکَ حُجَّتُنا آتَیْناها إِبْراهِیمَ»(3) ونحو ذلک ممّا ورد بمعنی البرهان الذی یحتج به علی الطرف، وبهذا المعنی أیضا ورد قوله علیه السلام : «أنّ الأرض لا تخلو من حجة» لأنّ به یتم الحجة و «یَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَیَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ»(4)، ولذا وصفهم برواة الأحادیث الذین شأنهم التبلیغ.

وبالجملة: فالحجة لا تکون إلاّ فی تبلیغ أمر فیختص مدلولها فی المقام بتبلیغ الأحکام الشرعیة ولا یشمل التصرفات الشخصیة فی الأموال والأنفس، أو تصدی المصالح العامة من الحکومة وفصل الخصومة أو إجراء الحدود، فإنّ کلّ ذلک أجنبی عن

مفهوم الحجیة التی هی من الاحتجاج، فان اللّه تعالی یحتج علی العباد ببعث الأنبیاء والأنبیاء بنصب الخلفاء، والخلفاء باستنابة الفقهاء فی تبلیغ الأوامر والنواهی، والتصرفات لیس من محل الاحتجاج، فالتوقیع الشریف أجنبی عن المدعی، ولا یصلح للاستدلال به علی نیابة الفقیه فی الأُمور المزبورة ویختص مدلوله بالفتوی.

ص: 238


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /(305-302).
2- 2 . سورة الأنعام /144.
3- 3 . سورة الأنعام /83.
4- 4 . سورة الأنفال /42.

وأما الرابع: فکون إسحاق من أجِلاّء العلماء لا ینافی سؤاله من أمر جلّی ولذا یسئل مثل زرارة ومحمّد بن مسلم من الإمام ما لا یخفی علی أحد هذا مع أنّ سؤاله لا یکون ظاهرا فی تکلیف المسلمین فی الغیبة الکبری حتّی یکون الجواب ظاهرا فی عموم الوقائع بل یسئل عن حالهم فی الغیبة الصغری، فإنّ العمری الذی بتوسطه سئل إسحاق عن حکم الوقائع عن الإمام علیه السلام هو محمّد بن عثمان العمری کما یظهر من قوله فی ذیل الخبر، «وأما محمّد بن عثمان العمری فرضی اللّه عنه وعن أبیه من قبل فإنّه ثقتی وکتابه کتابی» وهو کان سفیرا من قبله علیه السلام فلعله یسئل بتوسطه عن المرجع فی الفروع المتجددة فی ذاک العصر لاعن المرجع فی الأُمور العامة.

أقول: ویمکن دفع النقاش عن ذلک بأنّه وإن یمکن کون اللام فی الحوادث للعهد وکون المراد بها هی الحوادث المعهودة، ولکن الظاهر أنّ المعهود هو مدخول اللام وهی الحوادث لا غیرها، وظاهر الرجوع فیها إلی رواة الحدیث هو إیْکالُ(1) نفس الحادثة إلیهم لا الرجوع فی حکمها إذ لو کان المراد هو الرجوع فیه لتعین التعبیر بقوله فارجعوا فی حکمها إلی رواة الحدیث لا التعبیر بقوله فارجعوا فیها إلیهم، اللهم إلاّ ان یقال أنّه لا منافاة بین التعبیر به وارادة الرجوع فی الحکم.

وجه عدم المنافاة أنّه لابدّ من ارتکاب التقدیر علی کلِّ حالٍ إذ الحادثة الواقعة لا معنی لإیکال نفسها إلی الغیر لأنّه تحصیل الحاصل فالمراد إمّا إیکال حکمها أو إیکال الشأن اللازم فیها إلیه وتعیّن الثانی غیر ظاهر.

وبالجملة: فالتوقیع الشریف لا یخلو من إجمال فی المراد وأنّ الرجوع إلیه هل هو فی حکم الحوادث لیدلّ علی حجیة الفتوی أو حسمها لیدلّ علی نفوذ القضاء أو رفع إشکالها وإجمالها أو إصلاحها لیشمل غیرهما.

هذا وقد یقال: إنّ کیفیة السؤال وإنْ کانت غیر مذکورة إلاّ أنّها تظهر من الجواب

وتعلم منه إذ المراد من الحوادث لیس کل ما یحدث ویقع فی الخارج کالأکل والشرب

ص: 239


1- 1 . وفی المصدر: وکول.

والنوم ونحوها بل الأُمور التی تقع فی المجتمع الإنسانی وتحتاج إلی مصلحٍ ومتصدٍ لها ومُقْدِمٍ فیها کالقتل والسرقة وغیرهما من الأعمال المنافیة لنظم الاجتماع وأمنه التی تحتاج الرعیة فیها إلی مرجع وزعیم ومصلح ومقتدر فتعم الروایة لإیکال مطلق الشأن اللازم فیها إلیه.

ولکن الانصاف هو إجمال التوقیع واحتمال کون المراد من الحوادث المسئول عنها هی الموضوعات الحادثة والأُمور المستحدثة المجهول حکمها والرجوع فیها إلی رواة الأحادیث لمعرفة حکمها کما قد یؤیده التعلیل بقوله «فإنّهم حجتی علیکم وأنا حجة اللّه» بالتقریب المتقدم فلاحظ.

ولا ینافی ذلک ما یقال: من أنّ الرجوع إلی العلماء فی معرفة الأحکام من البدیهیات التی لا تخفی علی مثل إسحاق فکیف یمکن أن یکتبه فی مسائل أشکلت علیه.

إذ فیه مضافا إلی ما سبق أنّه یکفی فی السؤال احتمال الإرجاع إلی صنف خاص من العلماء، ولذا صدر السؤال عن ذلک من جماعة کعبدالعزیز بن المهتدی سألت الرضا علیه السلام فقلت: إنّی لا ألقاک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی فقال علیه السلام : خُذْ من عن یونس بن عبدالرحمن(1)، وکعلی بن المسیب الهمدانی حیث قال الرضا علیه السلام : شقتی بعیدة ولستُ أصل إلیک فی کلِّ وقت فعمّن آخذ معالم دینی قال علیه السلام : من زکریا بن آدم القمی(2) ونحوهما غیرهما.

کما لا ینافی ذلک أیضا التعلیل بقوله علیه السلام : فإنّهم حجتی علیکم، فإنّه یناسب الأُمور الراجعة إلیه علیه السلام التی هی من منصبه، ولو کان المراد الرجوع فی الحکم کان المناسب التعبیر بقوله علیه السلام فإنّهم حجة اللّه تعالی.

وجه عدم المنافاة أنّه یکفی مصححا للتعبیر المذکور کونه واسطة فی الارجاع

ص: 240


1- 1 . وسائل الشیعة 27/148، ح34، حسنة.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/146، ح27، ضعیفة.

المذکور، بل التعبیر بالحجة یناسب التکلیف جدا، إذ الحجة ما یکون قاطعا للعذر ومصححا للعقاب، وذلک إنّما یکون فی التکلیف فإنّه المستتبع له کما لا یخفی، فالتعلیل من هذه الجهة علی الخلاف أدل وحینئذ فلا یبقی مجال للرکون إلی التوقیع الرفیع فی

إثبات الولایة فی الأُمور العامة للفقیه فضلاً عن صلاحیته لإثبات الولایة العامة فلاحظ وتدبر»(1).

وبما ذکرنا من مناقشات الأعلام لم یتم الاستدلال بالتوقیع الشریف فی المقام.

ص: 241


1- 1 . ولایة الاولیاء /(83-80).
14/1_ ومنها: مقبوله عمر بن حنظله

قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِاللّه ِ علیه السلام عَنْ رَجُلَیْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَیْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِی دَیْنٍ أَوْ مِیرَاثٍ، فَتَحَاکَمَا إِلَی السُّلْطَانِ وَإِلَی الْقُضَاةِ، أَیَحِلُّ ذلِکَ؟

قَالَ: «مَنْ تَحَاکَمَ إِلَیْهِمْ فِی حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، فَإِنَّمَا تَحَاکَمَ إِلَی الطَّاغُوتِ، وَمَا یَحْکُمُ لَهُ فَإِنَّمَا یَأْخُذُ سُحْتا وَإِنْ کَانَ حَقّا ثَابِتا لَهُ؛ لاِءَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُکْمِ الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللّه ُ أَنْ یُکْفَرَ بِهِ، قَالَ اللّه ُ تَعَالی: «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ»(1)».

قُلْتُ: فَکَیْفَ یَصْنَعَانِ؟

قَالَ: «یَنْظُرَانِ إِلی مَنْ کَانَ مِنْکُمْ مِمَّنْ قَدْ رَوی حَدِیثَنَا، وَنَظَرَ فِی حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا، وَعَرَفَ أَحْکَامَنَا، فَلْیَرْضَوْا بِهِ حَکَما؛ فَإِنِّی قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَیْکُمْ حَاکِما، فَإِذَا حَکَمَ بِحُکْمِنَا فَلَمْ یَقْبَلْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُکْمِ اللّه ِ وَعَلَیْنَا رَدَّ، وَالرَّادُّ عَلَیْنَا الرَّادُّ عَلَی اللّه ِ وَهُوَ عَلی حَدِّ الشِّرْکِ بِاللّه ِ».

قُلْتُ: فَإِنْ کَانَ کُلُّ رَجُلٍ اخْتَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا، فَرَضِیَا أَنْ یَکُونَا النَّاظِرَیْنِ فِی حَقِّهِمَا، وَاخْتَلَفَا فِیمَا حَکَمَا، وَکِلاَهُمَا اخْتَلَفَِ فِی حَدِیثِکُمْ؟

قَالَ: «الْحُکْمُ مَا حَکَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِی الْحَدِیثِ وَأَوْرَعُهُمَا، وَلاَ یَلْتَفِتْ إِلی مَا یَحْکُمُ بِهِ الاْآخَرُ».

قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّهُمَا عَدْلاَنِ مَرْضِیَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا،لاَ یُفَضَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلی صَاحِبِهِ؟

قَالَ: فَقَالَ: «یُنْظَرُ إِلی مَا کَانَ مِنْ رِوَایَتِهِمْ عَنَّا فِی ذلِکَ الَّذِی حَکَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَیْهِ مِنْ أَصْحَابِکَ، فَیُؤْخَذُ بِهِ مِنْ حُکْمِنَا، وَیُتْرَکُ الشَّاذُّ الَّذی لَیْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِکَ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَیْهِ لاَ رَیْبَ فِیهِ. وَإِنَّمَا الاْءُمُورُ ثَلاَثَةٌ: أَمْرٌ بَیِّنٌ رُشْدُهُ فَیُتَّبَعُ، وَأَمْرٌ بَیِّنٌ غَیُّهُ فَیُجْتَنَبُ، وَأَمْرٌ مُشْکِلٌ یُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَی اللّه ِ وَإِلی رَسُولِهِ؛ قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : حَلاَلٌ بَیِّنٌ، وَحَرَامٌ بَیِّنٌ، وَشُبُهَاتٌ بَیْنَ ذلِکَ، فَمَنْ تَرَکَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَکَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَهَلَکَ مِنْ حَیْثُ لاَ یَعْلَمُ».

قُلْتُ: فَإِنْ کَانَ الْخَبَرَانِ عَنْکُمْ مَشْهُورَیْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْکُمْ؟

قَالَ: «یُنْظَرُ، فَمَا وَافَقَ حُکْمُهُ حُکْم الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ، فَیُؤْخَذُ بِهِ، وَیُتْرَکُ مَا

ص: 242


1- 1 . سورة النساء /60.

خَالَفَ حُکْمُهُ حُکْمَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاکَ، أَرَأَیْتَ، إِنْ کَانَ الْفَقِیهَانِ عَرَفَا حُکْمَهُ مِنَ الْکِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَیْنِ مُوَافِقا لِلْعَامَّةِ، وَالاْآخَرَ مُخَالِفا لَهُمْ، بِأَیِّ الْخَبَرَیْنِ یُؤْخَذُ؟

قَالَ: «مَا خَالَفَ الْعَامَّةَ، فَفِیهِ الرَّشَادُ».

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاکَ، فَإِنْ وَافَقَهُمَا الْخَبَرَانِ جَمِیعا؟

قَالَ: «یُنْظَرُ إِلی مَا هُمْ إِلَیْهِ أَمْیَلُ حُکَّامُهُمْ وَقُضَاتُهُمْ، فَیُتْرَکُ، وَیُؤْخَذُ بِالاْآخَرِ».

قُلْتُ: فَإِنْ وَافَقَ حُکَّامُهُمُ الْخَبَرَیْنِ جَمِیعا؟

قَالَ: «إِذَا کَانَ ذلِکَ، فَأَرْجِهْ حَتّی تَلْقی إِمَامَکَ؛ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَیْرٌ مِنَ الاِقْتِحَامِ فِی الْهَلَکَاتِ».(1)

الروایة من حیث السند لو لم تکن معتبرة فلا أقل من أن تکون مقبولة فالسند لا بأس به.

ویراها صاحب الجواهر(2) نصب نائب الغیبة وقال: «ویمکن بناء ذلک _ بل لعلّه الظاهر _ علی إرادة النصب العامّ فی کلّ شیء علی وجهٍ یکون له ما للإمام علیه السلام کما هو مقتضی قوله علیه السلام : «فإنّی جعلته حاکما» أی ولیّا متصرّفا فی القضاء وغیره من الولایات ونحوها»(3).

قال الشیخ الأعظم قدس سره : «أمّا وجوب الرجوع إلی الفقیه فی الاُمور المذکورة، فیدلّ علیه مضافا إلی ما یستفاد من جعله حاکما، کما فی مقبولة ابن حنظلة، الظاهرة فی کونه کسائر الحکّام المنصوبة فی زمان النبیّ صلی الله علیه و آله والصحابة فی إلزام النّاس بإرجاع الاُمور

ص: 243


1- 1 . الکافی 1/167، ح10 (1/68)؛ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27/136، ح1، الباب 11 من أبواب صفات القاضی؛ و 27/106، ح1، الباب 9 من أبواب صفات القاضی؛ کما ذکرها فی وسائل الشیعة 27/13، ح4، الباب 1 من أبواب صفات القاضی؛ ووسائل الشیعة 1/34، ح12، الباب 2 من أبواب مقدمات العبادات.
2- 2 . الجواهر 41/20 (40/17).
3- 3 . الجواهر 41/21 (40/18).

المذکورة إلیه، والانتهاء فیها إلی نظره، بل المتبادر عرفا من نصب السلطان حاکما وجوب الرجوع فی الاُمور العامّة المطلوبة للسلطان إلیه»(1).

وقال المحقّق العراقی فی مسألة عدم جواز تفویض القضاء إلی المقلِّد: «... نعم، بعد الفراغ عن إثبات قابلیّة المحلّ یبقی الکلام فی صلاحیّة الفقیه لمثل هذا التفویض. وعلیه فیمکن أیضا منعه، لأنّه بعد ما لم یکن من الاُمور الحسبیّة الّتی عُلم من الشارع مطلوبیّة وجوده موقوف علی ثبوت الولایة العامّة وأنّ ما للإمام لهم. وهو أیضا فی غایة الإشکال،

لأنّ عمدة ما یصلح لإثباته هو عموم «وأمّا الحوادث الواقعة» وعموم «مجاری الاُمور بید العلماء باللّه» وإلاّ فعمومات الوراثة والخلافة وأمثال ذلک یمکن حملها علی مقام تبلیغ الأحکام وبیان الحلال والحرام.

ولایخفی أنّ الأوّل منهما منزّل علی اُمور معهودة فی المسؤول المشکوک کون المورد منها، خصوصا مع توصیف الحادثه بالواقعة، فإنّه لابدّ من حمله علی وقوعه حقیقة أو ما لابدّ من وقوعه. وعلی التقدیرین لیس ما نحن فیه من مصادیقه، لعدم إحراز مطلوبیّة وقوع التفویض من الشارع کما هو ظاهر. وأمّا الأخیر فهو من حیث «المجاری» وإن کان عامّا ولکن الکلام فی شمول «العلماء باللّه» لغیر الإمام علیه السلام .

نعم، بناءً علی العموم لا بأس باستفادة مرجعیّة الفقیه فی الاُمور العامّة النوعیّة. کما أنّه ربما یُستکشف ذلک من صرف الإمام من التحاکم إلیهم وإرجاعهم إلی فقهاء الشیعة، إذ من مثله ربما یستفاد کون الفقیه حاکما فی قبال حُکّامهم وأنّ له من الشأن ما لهم من الولایة علی الاُمور النوعیّة السیاسیّة الّتی کانوا مرجعا فیها، بل والولایة علی الحکم فی رؤیة الهلال والتصرّف فی أموال الغُیَّب والقُصَّر وحبس الغریم، بل وإحضار المدّعی علیه فی مجلس القضاء وإلزامه بالجواب وأمثاله، نظرا إلی أنّ هذه کلّها من شؤونهم»(2).

وقال فی توضیح تقریب العراقی، تلمیذه آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی رحمهماالله : «نعم،

ص: 244


1- 4 . المکاسب 3/554.
2- 1 . کتاب القضاء /12 و 13 للمحقّق العراقی.

قد یقرَّر وجه التمسک لا من جهة إطلاق لفظ «الحاکم» کما هو ظاهر کلام شیخنا الأنصاری قدس سره ، بل من جهة فحوی الروایة، وقد ذهب إلیه شیخنا الشیخ العراقی قدس سره فی نفوذ حکمه، وتبعه بعض الأعاظم من تلامذته، بحیث عمّما نفوذه من هذه الجهة حتّی فی حکمه فی ثبوت الهلال. وبیان الفحوی: هو أنّ النّاس لما جعلوا بینهم قضاةً وحکاما یرجعون إلیهم فی مطلق أمورهم من القضاوة وغیرها من الأُمور المذکورة، والإمام علیه السلام فی هذه الروایه لم یردعهم عن أصل هذا المطلب وکبراه وأنّه لابدّ أن یکون بین النّاس من یتکفل لهذه الأُمور، وإنّما ردعهم من جهة تعین المصداق، وخَطّأهم بالنسبة إلی من یجعلونه مصداقا للکبری المذکورة وما هو المرتکز فی الأذهان. هذا غایة البیان لوجه الدلالة، وإلی هذا التقریر ذهب المحقّق العراقی قدس سره .

ولا یرد علیه: أنه لیس من المعلوم کون هذه الأُمور من شؤون القضاة فی ذلک

العصر، حتّی یکون الردع عن الرجوع إلیهم إثباتها للفقیه بعد تعین المصداق، بل کان فی تلک الأزمنة قضاة وولاة وکانت لکلِّ منهم وظائف.

لوضوح أن المنهیّ عنه لیس هو الرجوع إلی خصوص القاضی _ علی فرض عدم کون شأن القاضی التصرف فی غیر القضاء _ بل النهی عن الرجوع إلی الحاکم بمعناه الأعم، حیث أنّ المرافعات أیضا کانت ترجع إلی الخلفاء، بل الصریح فی صدر الروایة، المراجعة إلی السلطان أو القاضی»(1).

فقال المحقّق النائینی رحمه الله فی دلالتها: «نعم، لا بأس بالتمسّک بمقبولة عمر بن حنظلة، فإنّ صدرها ظاهر فی ذلک، حیث إنّ السائل جعل القاضی مقابلاً للسلطان، والإمام علیه السلام قرّره علی ذلک، فقال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن رجلین من أصحابنا تنازعا فی دَینٍ أو میراثٍ فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة، أیحلّ ذلک؟ ... إلی آخره.

بل یدلّ علیه ذیلها أیضا، حیث قال علیه السلام : «ینظر إلی من کان منکم قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم

ص: 245


1- 1 . کتاب القضاء /50 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی.

حاکما» فإنّ الحکومة ظاهرة فی الولایة العامّة، فإنّ الحاکم هو الّذی یحکم بین النّاس بالسیف والسوط، ولیس ذلک شأن القاضی»(1).

وقال السیّد الخمینی رحمه الله : «وأمّا الدلالة؛ فلأجل تمسّک الإمام علیه السلام بالآیة الشریفة، فلابدّ من النظر إلیها، ومقدار دلالتها، حتّی یتبیّن الحال.

قال تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُوءَدُّوا الاْءَماناتِ إِلی أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(2).

لا شبهة فی شمول الحکم للقضاء الذی هو شأن القاضی، والحکم من الولاة والامراء، وفی «المجمع»: أمر اللّه الولاة والحکّام أن یحکموا بالعدل والنّصفة.

ونظیره قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»(3).

ثمّ قال تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ

مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَالرَّسُولِ...»(4).

کما لا شبهه أیضا(5) فی أنّ مطلق المنازعات داخلة فیه _ سواء کانت فی الاختلاف فی ثبوت شیء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل فی سلب حقّ معلوم من شخص أو أشخاص، أو التنازع الحاصل بین طائفتین المنجرّ إلی قتل وغیره _ التی کان المرجع بحسب النوع فیها هو الوالی لا القاضی، ولا سیّما بملاحظة ذکره عقیب وجوب إطاعة الرسول وأُولی الأمر؛ إطاعتهما بما هی إطاعتهما، هی الائتمار بأوامرهم المربوطة بالوالی.

ولیس المراد بها إطاعتهما فی الأحکام الإلهیّة؛ ضرورة أنّ إطاعة الأوامر الإلهیّة

ص: 246


1- 2 . منیة الطالب 2/236.
2- 3 . سورة النساء /58.
3- 4 . سورة ص /26.
4- 1 . سورة النساء /59.
5- 2 . (کما) وافیةٌ ومُغْنیة عن ذِکْرِ (أیضا) لأنَّها فی مَعْناها فذِکْرُ (أیضا) بعد (کما) حَشْوٌ ولا عبرة بالخَطَأ الشائع.

إطاعة للّه، لا إطاعة لهما، فلو صلّی قاصدا إطاعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أو الإمام علیه السلام ، بطلت صلاته.

نعم، إطاعة أوامرهم السلطانیّة إطاعة للّه أیضا؛ لأمره تعالی بإطاعتهم.

ثمّ قال تعالی: «أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ...»(1) إلی آخره.

وهذه الآیة أیضا مفادها أعمّ من التحاکم إلی القضاة وإلی الولاة، لو لم نقل: بأنّ «الطاغوت» عبارة عن خصوص السلاطین والأُمراء؛ لأنّ الطغیان والمبالغة فیه مناسب لهم لا للقضاة، ولو اطلق علی القضاة یکون لضرب من التأویل، أو بتبع السلاطین الذین هم الأصل فی الطغیان، ویظهر من المقبولة التعمیم بالنسبة إلیهما.

ثمّ إنّ قوله: «منازعة فی دین أو میراث»، لا شبهة فی شموله للمنازعات التی تقع بین النّاس فیما یرجع فیه إلی القضاة، کدعوی أنّ فلانا مدیون مع إنکاره، ودعوی أنّه وارث ونحو ذلک، وفیما یرجع فیه إلی الولاة والأُمراء، کالتنازع الحاصل بینهما لأجل عدم أداء دینه، أو إرثه بعد معلومیّته.

وهذا النحو من المنازعات مرجعها الأُمراء، فإذا قتل ظالم شخصا من طائفة، ووقع النزاع بین الطائفتین، لا مرجع لرفعه إلاّ الولاة.

ومعلوم أنّ قوله: «فی دین أو میراث» من باب المثال، والمقصود استفادة التکلیف

فی مطلق المنازعات، والاستفسار عن المرجع فیها، ولهذا أکّد الکلام لرفع الإبهام بقوله: «فتحاکما إلی السلطان، أو إلی القضاة»، ومن الواضح عدم تدخّل الخلفاء فی ذلک العصر _ بل مطلقا _ فی المرافعات التی ترجع إلی القضاة، وکذلک العکس.

فقوله علیه السلام : «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت» انطباقه علی الولاة أوضح، بل لولا القرائن لکان الظاهر منه خصوص الولاة.

وکیف کان: لا إشکال فی دخول الطغاة من الولاة فیه، ولا سیّما مع مناسبات

ص: 247


1- 3 . سورة النساء /60.

الحکم والموضوع، ومع استشهاده بالآیة التی هی ظاهرة فیهم فی نفسها.

بل لولا ذلک یمکن أیضا أن یقال بالتعمیم؛ للمناسبات المغروسة فی الأذهان، فیکون قوله بعد ذلک: «فکیف یصنعان؟» استفسارا عن المرجع فی البابین، واختصاصه بأحدهما _ ولا سیّما بالقضاة _ فی غایة البعد، لو لم نقل: بأنّه مقطوع الخلاف.

وقوله علیه السلام : «فلیرضوا به حکما» تعیین للحاکم فی التنازع، فلیس لصاحب الحق الرجوع إلی ولاة الجور، ولا إلی القضاة.

ولو تُوُهِّمَ من قوله علیه السلام : «فلیرضوا» اختصاصه بمورد تعیین الحکم، فلا شبهة فی عدم إرادة خصوصه، بل ذُکر من باب المثال، وإلاّ فالرجوع إلی القضاة _ الذی هو المراد جزما _ لا یعتبر فیه الرضا من الطرفین.

فاتضح من جمیع ذلک: أنّه یستفاد من قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته حاکما» أنّه علیه السلام قد جعل الفقیه حاکما فیما هو من شؤون القضاء، وما هو من شؤون الولایة.

فالفقیه ولیّ الأمر فی البابین، وحاکم فی القسمین، ولا سیّما مع عدوله علیه السلام عن قوله: «قاضیا» إلی قوله: «حاکما» فإنّ الأوامر أحکام، فأوامر اللّه ونواهیه أحکام اللّه تعالی.

بل لا یبعد أن یکون القضاء أعمّ من قضاء القاضی، وأمر الوالی وحکمه، قال تعالی: «وَما کانَ لِمُوءْمِنٍ وَلا مُوءْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(1) وکیف کان لاینبغی الإشکال فی التعمیم»(2).

ثمّ تعرض لحلّ الشبهتین وقال: «قد تنقدح شبهة فی بعض الأذهان: بأنّ عبداللّه علیه السلام فی أیّام إمامته، إذا نصب للإمارة أو القضاء شخصا أو أشخاصا، کان أمده إلی زمان إمامته،

وبعد وفاته وانتقال الإمامة إلی مَنْ بعده یبطل النصب وینعزل الولاة والقضاة.

وفیها ما لا یخفی؛ فإنّه مع الغضّ عن أنّ مقتضی المذهب أنّ الإمام إمام حیّا ومیّتا

ص: 248


1- 1 . سورة الأحزاب /36.
2- 2 . کتاب البیع 2/(642-639)

وقائما وقاعدا، أنّ النصب لمنصب _ سواء کان نصب الولاة، أو القضاة، أو نصب المتولّی للوقف، أو القیّم علی السفهاء والصغار _ لایبطل بموت الناصب.

فمن الضروریّ فی طریقة العقلاء، أنّه مع تغییر السلطان أو هیئة الدولة ونحوهما، لا ینعزل الولاة والقضاة وغیرهم من المنصوبین من قبلهم، ولا یحتاجون إلی نصب جدید.

نعم، للرئیس الجدید عزل من نصبه السابق وتغییره، ومع عدمه تبقی المناصب علی حالها.

وفی المقام: لا یعقل هدم الأئمة اللاحقین علیهم السلام نصب الإمام أبیعبداللّه علیه السلام ؛ لأنّه یرجع إمّا إلی نصب غیر الفقهاء العدول، وإرجاع الأمر إلیهم، فمع صلاحیة الفقهاء العدول _ کما یکشف عنها نصب أبیعبداللّه علیه السلام إیّاهم _ لا یعقل ترجیح غیرهم المرجوح بالنسبة إلیهم علیهم، ولو کان عدلاً إمامیّا.

وقد تقدّم: أنّه کالضروریّ لزوم کون الوالی عالما بالقوانین، والجاهل لا یصلح لهذا المنصب، ولا لمنصب القضاء.

أو إلی إرجاعهم إلی ولاة الجور وقضاته، وهو ظاهر الفساد، کالإهمال لهذا الأمر الضروریّ الذی تحتاج إلیه الأُمم، ولا یعقل بقاء عیشهم إلاّ بذلک، فمن نصبه الإمام علیه السلام منصوب إلی زمان ظهور ولیّ الأمر علیه السلام .

مضافا إلی أنّ من الضروریّ فی الفقه أنّ نصبه باق، ولا زال تمسّک الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة لإثبات منصب القضاء للفقهاء، کما أنّ من فهم منها الأعمّ استدلّ بها لذلک، وهذا واضح.

وهنا شبهة اُخری، وهی أنّ الإمام علیه السلام وإن کان خلیفة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وولیّ الأمر، وله نصب الولاة والقضاة، لکن لم تکن یده مبسوطة، بل کان فی سیطرة خلفاء الجور، فلا أثر لجعل منصب الولایة لأشخاص لا یمکن لهم القیام بأمرها، وأمّا نصب القضاة فله أثر فی الجملة.

وفیها: أنّه مع وجود أثر فی الجملة فی جعل الولایة أیضا کما لا یخفی _ فإنّ جعل

ص: 249

المرجع للشیعة یوجب رجوعهم إلیه ولو سرّا فی کثیر من الاُمور، کما نشاهد بالضرورة _

أنّ لهذا الجعل سرّا سیاسّا عمیقا، وهو طرح حکومة عادلة إلهیّة، وتهیئة بعض أسبابها، حتّی لا یتحیّر المفکّرون لو وفّقهم اللّه لتشکیل حکومة إلهیّة.

بل هو زائدا علی الطرح بعثهم إلی ذلک، کما هو واضح.

ولقد تصدّی بعض المفکّرین لطرح حکومة وتخطیطها فی السجن؛ برجاء تحقّقها فی الآتی، ووفّق بعضهم لذلک حتّی فی عصرنا.(1)

فالرسول صلی الله علیه و آله عیّن خلفاء بخصوصهم، وهو الأئمة الأطهار _ صلوات اللّه علیهم _ ، وفی نصبهم وتعیینهم مصالح، منها: تحقّق أُمّة عظیمة بلغت فی الحال _ بحمد اللّه _ عددا کثیرا جدّا.

بل الغالب فی العظماء من الأنبیاء وغیرهم الشروع فی الطرح أو العمل من الصفر تقریبا، فهذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قد قام بالرسالة ولم یؤمن به فی أوّل تبلیغه إلاّ طفل صغیر السنّ عظیم الشأن، وامرأة جلیلة.

ولکن قام بأعباء الرسالة ونشر الدعوة عن عزم راسخ، وإرادة قویّة، وقوّة قدسیّة، غیر آیس من حصول مقصده، وجاهد وتحمّل المشاقّ طیلة حیاته، حتّی بلغ الأمر إلی أن نشر الإسلام فی العالم، وبلغت عدّة المسلمین _ فی الحال _ قریبة من سبعمائة ملیونا، وستزید إن شاء اللّه «وَاللّهُ غالِبٌ عَلی أَمْرِهِ».

وأبوعبداللّه علیه السلام قد أسّس بهذا الجعل أساسا قویما للأُمّة وللمذهب؛ بحیث لو نشر هذا الطرح والتأسیس فی مجتمع التشیّع، وأبلغه الفقهاء والمفکّرون إلی النّاس _ ولا سیّما إلی المجامع العلمیّة وذوی الأفکار الراقیة _ لصار ذلک موجبا لانتباه الاُمّة والتفاتهم إلیه، وخصوصا طبقة الشبّان، فلعلّه یصیر موجبا لقیام شخص أو أشخاص بتأسیس حکومة إسلامیّة عادلة، تقطع أیادی الأجانب من بلاد المسلمین.

واللازم علی العلماء الأعلام والمبلّغین أیّدهم اللّه تعالی أن یقوموا بهذا الأمر

ص: 250


1- 1 . قد مثّل فی مجلس بحثه بجواهر لعل نهرو فی الهند وأحمد سوکارنو فی الأندونزیا.

الحیویّ، ویزیلوا الیأس من قلوبهم وقلوب الطلاّب والمحصّلین وسائر النّاس، فإنّه مبدأ الخمود والقعود عن الوصول إلی الحقّ»(1).

وقال الفقیه السیّدُ الگلپایگانی قدس سره : «یستفاد منها أنّ المرجع فی القضایا الواقعة بین المسلمین _ ممّا لا یخلو منه زمان ولا مکان ویبتلی به الرعیّة وأکثر الإُمّة _ هو العالم

بأحکامه تعالی والناظر فی حلاله وحرامه، وأنّ التمرّد عن أمره والتخلّف عن رأیه، وعدم الاعتناء بشأنه کالشرک باللّه والردّ علیه. فالعالم هو الذی ینفذ فی تلک القضایا أمره ویتّبع رأیه ونظره»(2).

وقال آیة اللّه السیّد محمّدمهدی الموسوی الخلخالی _ مدظله _ فی تقریب الاستدلال: «علی أیّة حال لقد اعتبر أکثر الفقهاء هذا الحدیث خاصّا بباب القضاء، ولا یُستفاد منه إلاّ ولایة القضاء؛ لأن السؤال والجواب الواردین فی ذلک الحدیث راجعان إلی القاضی المخالف والموافق الذی قال الإمام علیه السلام فی مورده: «ینظران من کان منکم» (أی من الشیعة) أی انتخِبُوا قاضیا شیعیا.

المقبولة والولایة علی شؤون القضاء: للقضاة المنصوبین من جانب الحکومات الإسلامیة فی الأزمنة الغابرة والحاضرة نوعان من الصلاحیات والاختیارات (الولایات) التی هی لائقة بمقام القاضی وشأنه، مثل ولایة نصب القیّم علی الأطفال الصغار، وعلی المجانین، والولایة علی حفظ أموالهم، ورعایتها وأمثال ذلک، فهل یمکن إثبات هذا المقدار من الولایات لقاضی الشیعة (الفقیه الجامع للشرائط) بواسطة هذا الحدیث أو لا؟

لقد حَصَرَ بعضُ العلماء مفادَ هذا الحدیث بولایة القضاء، ونَفَوا أیَّ نوع آخر من الولایات الجزئیة المذکورة من مفهوم هذا الحدیث.

ولکنّ التفکیکَ بین ولایة القضاء، والولایة علی شؤونها وإنْ کان ممکنا، ولکن حیث إنّ نصبَ قضاة الشیعة کان بهدف الاستغناء عن قضاة العامة، فإن الإنصاف یقضی

ص: 251


1- 2 . کتاب البیع 2/(645-642).
2- 1 . الهدایة إلی من له الولایة /802، المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.

بأن یکون قضاة الشیعة یتمتعون بجمیع الولایات المذکورة، حتّی یتحقق الاستغناءُ الکاملُ وإلاّ بقی الشیعة حیاری فی الموارد المذکورة لا یعلمون إلی من یرجعون لیعیَّن _ مثلاً _ قیّمٌ لاِءیتامهم، وهذه الولایة وإن أمکن إثباتها عن طریق ولایة الحسبة أیضا ولکن یجب الاعتراف والقبول بدلالة المقبولة، بالدلالة الالتزامیة أیضا.

المقبُولة والولایة علی التصرف فی الأُمور الاجتماعیة: هل یدل الحدیث المذکور علی ولایة القضاء وشؤونها؟ وهل یدل أیضا علی ولایة التصرف فی الأُمور الاجتماعیة أو السیاسیة والتنفیذیة أم لا؟

إن شمول المقبولَة بالنسبة إلی الموارد المذکورة یرتبط بثبوت الإطلاق فی ذلک

الحدیث والذی یمکن بیانه کما یأتی:

أ: مصطَلَح المنازعة الذی ورد فی السؤال المذکور یعم المنازَعة فی الحق والباطل بلحاظ الشبهة الحکمیة، أو الشبهة الموضوعیة، والنزاع فی استنقاذ الحق القطعیّ المعلوم، بل ویشمل أیضا النزاعات، والاختلافات الواقعة فی آراء المجتمع ووجهات نظرهم التی هی أیضا نوع من أنواع النزاع، حیث إنّ الأوّل بحاجة إلی الفتوی، والثانی بحاجة إلی القضاء، والثالث بحاجة إلی السلطة التنفیذیة، والرابع بحاجة إلی الحکومة، یعنی ولایة الأمر، علی أن الصور الثلاث برمتها یمکن تصوُّرها فی مورد السؤال عن «الدَّین» و «المیراث»؛ لأنّه ربما یکون النزاع والتخاصم فی أصل وارثیة أحد أو مدینیته وعدم معرفة الحکم الشرعی فی هذه الحالة تارة؛ وربما یکون من جهة الاختلاف فی الأداء وعدم الأداء للدین، أو تسلم المیراث وعدم تسلمه تارة أُخری ؛ کما أنه یمکن أن یکون النزاع والتخاصم بسبب تسدید الدین الثابت أو المیراث القطعی والذی لا یحتاج استیفاؤه إلی الفتوی والقضاء لعدم وجود اختلاف فی أصل ثبوت الحق، بل المقام بحاجة إلی وجود قوةٍ تنفیذیةٍ وسلطةٍ مجریةٍ تأخذ الحق من الغاصب وتُسلّمه إلی صاحبه الحقیقی.

ویمکن أن نعتبر أن یکون فرض «التحاکم إلی السلطان وإلی القضاة» فی الحدیث إشارة إلی کلا النوعین من النزاع (أی النزاع فی الحق والباطل، والنزاع فی أخذ الحق المعلوم) وعدم أخذه؛ لأنّ السُلطان یتمتع بسلطة تنفیذیة، والقاضی لا یملک إلاّ السلطة القضائیة،

ص: 252

وجعل هذین أحدهما فی مقابل الآخر فی السؤال المطروح فی الحدیث الحاضر دلیل علی التنوع فی النزاعات التی یجب الرجوع فیها إلیهم، ومن المعلوم أن وجود السلطة التنفیذیة بدون الحکومة غیر ممکن، والسلطة الحاکمة یحقّ لها التدخل فی الأُمور الاجتماعیة.

ب: الدلیل الآخر علی التعمیم عبارة عن کون لفظة الحاکم فی قوله علیه السلام : «فإنّی قد جَعَلتُه علیکم حاکما» تعم القاضی والوالی، یعنی أن الحاکم هو الذی یمتلک منصبَی القضاء والتنفیذ؛ لأن منصب القاضی کان منفصلاً عن منصب الوالی فی الحکومات الإسلامیة الماضیة، إذ کان القاضی یمتلک السلطة القضائیة، والوالی یمتلک السلطة التنفیذیة، وقد أعطی الإمام علیه السلام هذین المنصبین کلیهما إلی الفقیه تحت عنوان «الحاکم» وعلی هذا تکون بین الحاکم وکل من الوالی والقاضی نسبة العموم المطلق؛ والحاکم _ فی تعبیر الحدیث _ یشمل سمة القضاء وولایة الأمر والقیام بحفظ النظام، والأعمال التنفیذیة

أیضا.

والشاهد علی هذا التعمیم المذکور فی السؤال المطروح فی الحدیث حول الرجوع والتحاکم إلی السلطان والقاضی.

سؤال: ألیسَ هذا التعمیم لغوا لأنّ فقهاء الشیعة کانوا یفقدون فی عصر صدور هذا الحدیث الشریف کل سلطةُ تنفیذیة فی ظلِّ الحکومات التی کانوا یعاصرونها، ولم یکن فی إمکانهم أن یفعَلوا ما أشار إلیه الحدیث؛ لأن السلطات التنفیذیة کانت برمتها فی قبضة القوی والأطراف المخالفة لأهل البیت علیهم السلام ؟

الجواب: إن الأحکام الشرعیة تُشرَّع دائما فی قالب وصورة القوانین الکلیة العامة، ولا یُلاحَظ فیها زمن خاص، فیُفتَرض فیها أن تأخذ مجراها إلی التطبیق العملی کلما سنحت الفرص، وواتت الظروف، وعلی هذا الأساس لا مانع من أن یکون الإمام علیه السلام قد فوّض سمة الحکومة إلی الفقهاء وإن لم یمکن ممارسة هذه الحکومة فی فترة خاصة من الزمن ولکنها تتحقق فی الظرف المؤاتی.

ولکن المشکلة هی فی تعمیم لفظة المنازعة _ فی الحدیث المذکور _ بالنسبة

ص: 253

لموارد سلب الحق القطعیّ یعنی أن صدق المنازعة خاص بموارد الاختلاف فی الحق والباطل.

أما فی مورد الامتناع عن أداء الحق القطعی ورد الغصب الحقیقی فلا یصدق علیه عنوان النزاع والتحاکم بل یصدق فقط فی ما إذا کان هناک تظلّم وتَشَکٍّ من الظالم؛ لأن المفروض هنا عدم وجود مُدَّع ومنکر، بل امتناعٌ عن أداء الدَّین أو المیراث القطعی، ولا یحضر فی المقام الظالمُ والمظلومُ عند الحاکم بعنوان التحاکم (أی طرح النزاع والمطالبة بإجراء العدالة) لیقال فتحاکما إلی السلطان (وإلی القاضی)، بل هنا غاصِبٌ یجب أن یُستحضَر ویُجلَب ویؤخَذَ منه الحق، ویعطی إلی صاحبه.

وعلی هذا الأساس فإنّ مورد السؤال فی هذا الحدیث هو خصوص الاختلاف فی الحقّ والباطل من جهة الحکم الشرعی الکلّی، أو التشخیص الجزئی، وربما مارس السلطانُ القضاءَ أحیانا کما کان أمیرالمؤمنین علیه السلام نفسه یتولی القضاء ویمارسه مع الاحتفاظ بسمة ولایة الأمر والحاکمیة علی البلاد الإسلامیة، وکذلک کان صغار الولاة أیضا.

ولکن مع کلِّ هذا یجب أن نقبل بتعمیم لفظ «الحاکم» لغیر موارد الخصومة مثل

إصدار الأوامر فی القضایا الاجتماعیة والتنفیذیة والزام المتخلفین، وحکم الحاکم فی قضیة الهلال وجمیع الموضوعات غیر القضائیة کذلک؛ لأن لفظة «الحکم» لیست خاصة بموارد الخصومات، ولهذا السبب تُطلَق کلمة الحکم علی الأوامر والنواهی الشرعیة إلزامیةً وغیر إلزامیة، ویُعَبَّر عنها ب_ «الأحکام الخمسة»، وکذا تُسْتَعمل کلمة «الحکم» فی آیات القرآن الکریم، فیما هو أعم من موارد الخصومة مثل قوله تعالی: «فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ»(1).

والحکم فی هذه الآیة هو الأعم من الأمر والقضاء. وکذا فی قوله تعالی: «إِنَّ اللّهَ

ص: 254


1- 1 . سورة المائدة /48.

یَحْکُمُ ما یُرِیدُ»(1). ولهذا السبب یشمل حکم الحاکم الموضوعات غیر القضائیة مثل الحکم بثبوت الهلال، أیضا وإن کان هناک کلام فی حجیته.

والحاصل أن مورد السؤال فی المقبولة وإن کان خصوص الموارد القضائیة ولکن جواب الإمام علیه السلام أعمّ، ولهذا یمکن اعتبار مفاد المقبولة أعم من ولایة القضاء وولایة الحکم والحکومة. «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»»(2).

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی تقریب الاستدلال بالمقبولة.

ولکن جماعة من الأصحاب لم یقبلوا هذا التقریب واختصوا المقبولة بباب القضاء ورفع الخصومات والمنازعات وناقشوا فی التقاریب:

فمنهم: المولی صالح المازندرانی (م 1081) قال: «الحاکم وهو القاضی»(3).

ومنهم: المولی رفیع الدین محمّد بن حیدر النائینی رحمه الله الشهیر بالمیرزا رفیعا (م 1082) قال: «قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما» أی قد صیّرته حاکما علیکم، أو قد وصفته بکونه حاکما علیکم، وحکمت بذلک، وسمّیته بالحاکم.

یقال: جعل فلان زیدا أعلمَ النّاس: إذا وصفه بذلک وحکم به. ومنه قوله تعالی: «وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثا»(4) أی وصفوهم بذلک، وحکموا بکونهم إناثا.

وعلی الأوّل یکون حکومة المجتهد بنصبه علیه السلام لها، فلا یثبت له حکومة بدون النصب ما لم یدلّ دلیل آخَرُ.

وعلی الثانی یکون المجتهد متّصفا بالحکومة، ویکون قوله علیه السلام مبیّنا لاتّصافه بها.

والثانی أولی؛ لوجوه:

منها: أنّه لم یکونوا علیهم السلام فی تلک الأعصار ینصبون الحکّام.

ص: 255


1- 2 . سورة المائدة /1.
2- 3 . الحاکمیة فی الإسلام /(614-609).
3- 4 . شرح اصول الکافی 1/337.
4- 5 . سورة الزخرف /19.

ومنها: أنّهم لو نصبوا لأعلموا النّاس بنصب الفقیه للحکومة ابتداءً ولکان هذا من المعلوم عند الإمامیّة، ولو کان لنُقل، وإذ لم ینقل علم أنّه لم یکن.

ومنها: أنّه لم یُعهد نصب غیرالمعیّن.

ومنها: أنّ الضرورة ماسّة بحکومة الفقیه: أمّا عند الغیبة، فظاهر، وأمّا مع ظهور الحجّة، فلعدم إمکان رجوع الکلّ فی کلّ الأحکام إلی الحجّة لا بوسط وحکومته بمعنی کونه جائز الحکم بعد ما تحاکما إلیه نافذَ الحکم حینئذٍ، وظهور الحجّة وغیبتُه سواء فی ذلک، ویکون حکومة اُخری لشخصٍ بخصوصه بنصب الحجّة عند ظهوره وتمکّنه.

ولو حمل علی الأوّل فإمّا أن یُحمل علی نصبه علیه السلام للفقیه فی عصره وفی الأعصار بعده، أو علی نصبه فی عصره.

وعلی الأوّل فیکون الفقیه منصوبا ما لم ینعزل بعزله، أو بعزل مَن یقوم مقامه.

وعلی الثانی ینقضی أیّام نصبه بانقضاء أیّامه علیه السلام حیث یکون الحکم لغیره بعده.

ویحتمل الحکم بنصبه بعده ما لم ینعزل؛ لاتّحاد طریقتهم علیهم السلام واستحسان اللاحق ما حسّنه السابق منهم، وکون المتأخّر خلیفةً للمتقدّم؛ فما لم یظهر منه خلاف ما جاء من المتقدّم حُکم بإبقائه له.

والظاهر من الحاکم القاضی _ وهو الذی یحکم فی الوقائع الخاصّة ویُنفذ الحکم کالحَکَم _ لا المفتی، وهو المبیّن للحکم الشرعی عموما»(1).

ومنهم: العلاّمة المجلسی رحمه الله قال: «قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»، اُستدلَّ به علی أنّه نائب للإمام فی کلّ أمر إلاّ ما أخرجه الدلیل ولا یخلو من إشکال، بل الظاهر أنّه رخّص له فی الحکم فیما رفع إلیه، لا أنّه یمکنه جبر النّاس علی الترافع إلیه أیضا، نعم یجب علی النّاس الترافع إلیه والرضا بحکمه»(2).

ومنهم: صاحب الحدائق قال: «غایة ما تدلّ [المقبولة] علیه الترافع إلیه فی

ص: 256


1- 1 . الحاشیة علی اصول الکافی /(226-224) ونقل عنه المجلسی فی مرآة العقول 1/223 تحت عنوان: «قال بعض الأفاضل»، وقال فی آخره: «ولا یخفی متانته ویمکن المناقشة فی کثیر منها».
2- 2 . بحارالأنوار 2/222 (1/349)؛ مرآة العقول 1/223.

الحکم والفتوی، وأنّه منصوب من قبلهم علیهم السلام لذلک لا بالنسبة إلی الولایة علی مال یتیم أو نکاح بالغ غیر رشید، أو من تجدد له الجنون أو السفه بعد البلوغ أو نحو ذلک، فإنّه لا أثر لشیء من ذلک فی الأخبار وإنّما ذلک فی کلامهم»(1).

ومنهم: الفاضل المراغی قال فی شأن مقبولة ابن حنظلة وروایة أبیخدیجة الماضیة: «وهذه الأخبار أیضا لا تقتضی الولایة إلاّ فی الفتوی والقضاء، ولا تدلّ علی کونه ولیّا مطلقا له التصرف کیف شاء، نعم تدلاّن علی اعتبار حکمهم وفتواهم کما استدلّ بهما الأصحاب، مع ما فیهما من البحث والإشکال»(2).

ومنهم: المحقّق الخراسانی رحمه الله قال: «ظهور کونهم حاکما وقاضیا فی خصوص رفع الخصومة کما یشهد ملاحظة المقبولة والمشهورة»(3).

ومنهم: قال المحقّق الأیروانی: «المقبولة والمشهورة صریحتان فی الحکومة فلا وجه للتمسّک بها علی عموم النیابة»(4).

ومنهم: المحقّق الاصفهانی فی تقریب الاستدلال بالمقبولة وأنّها لا تعمّ السیاسات وحفظ البلاد والعباد ونظامها قال: «إمّا بتقریب: أنّ المراد بالحاکم ما هو المتعارف من نصب السلطان للحاکم الذین یتصدون الأُمور العامة المتعلقة بالرعیة، وإمّا بأنْ یراد منه القاضی نظرا إلی کونه مورد السؤال، والتحاکم هو الترافع إلی القاضی، وقوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا» أی قضی إلی غیر ذلک من الشواهد، لا الحاکم بمعنی الوالی والرئیس، إلاّ أنّ جملة من الامور المحتاج إلیها _ من حفظ مال الغائب والقاصرین وتولی اُمورهم بنصب القیّم لهم _ من لوازم المنصوب قاضیا؛ وإنْ کان أجنبیا عن حیثیة القضاوة، کما هو المرسوم فی الحکومات الإسلامیة من کون التصدی لأمثال هذه الامور

ص: 257


1- 1 . الحدائق 23/239.
2- 2 . العناوین 2/570.
3- 3 . حاشیة المکاسب /94 و 70.
4- 4 . حاشیة المکاسب 2/374.

من شؤون القاضی، فجعله قاضیا _ کما ورد التعبیر به فی روایة اُخری(1) _ یستلزم الولایة علی هذه اللوازم.

نعم هذا المعنی أخص من الحاکم بالمعنی الأوّل، فإنّ الحاکم بالمعنی الأوّل مرجع جمیع الامور المهمة المرتبطة بحفظ البلاد والعباد وتدبیر شؤونهم، بخلاف المعنی الثانی فإنّه أجنبی عن جملة من تلک الامور کما یظهر بالمراجعة إلی شؤون القضاة، فإنّها لا تتجاوز دائرة الشرعیات ولا تعم السیاسات»(2).

ومنهم: المحقّق الشهیدی قال: «ویتجه الخدشة فی الاستدلال بهما [المقبولة والمشهورة] علی ولایة الفقیه بأنّ المتیقّن من أمثالهما بعد ملاحظة صدرها نصبه علیه السلام الفقیه لخصوص القضاء وقطع التخاصم؛ اللّهم إلاّ أن یدّعی أنّ جمیع أنحاء الولایات داخلة فی مفهوم الحاکم القاضی، فإعطاء منصب القضاوة للفقیه فی مورد فصل الخصوصمات یوجب إعطاء جمیع أنحاء الولایة له، إلاّ أنّه مشکل جدا سیّما فی لفظ القاضی؛ لأنّه [القضاء] _ علی ما حقّقناه فی جامع الدلالات فی القضاء والشهادات _ لیس کما یظهر من القوم من کونه من المشترک اللفظی، بل هو موضوع لمعنی جامع لشتات جمیع ما قیل بوضعه له من المعانی، وهو إنهاء الأمر وإیصاله إلی غایته، وأنّ إطلاقه علی من له ولایة فصل الخصومة إنّما هو بلحاظ إنهائه الخصومة وختمه، وأنّ تعریفه فی کلمات جماعة بالولایة الشرعیة علی الحکم وعلی المصالح العامة ممّا لا داعی إلیه، بل ینافیه قولهم بوجوب القضاء کفایة أو عینا علی اختلاف الحالات؛ لأنّ الولایة لیست من قبیل الأفعال، فلا یتّصف بالوجوب وغیره من الأحکام.

وکذلک الکلام فی لفظ «الحاکم» فإنّه من الحکم، وهو _ کما بیّناه فی کتابنا المذکور _ عبارة عن إخراج متعلّقه عن التردّد والاحتمال، ومن الواضح أنّ هذین المفهومین لم یؤخذ فیهما نحو من أنحاء الولایة فضلاً عن جمیعها، فتدبّر جیّدا.

ص: 258


1- 5 . وسائل الشیعة، الباب 1 من أبواب صفات القاضی، ح1.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/387 و 388.

أو یدّعی أنّ الولایة وإن لم تدخل فی مفهومها إلاّ أنّ بعض الولایات _ کولایة الحکم فی غیر مورد التخاصم کما فی الهلال، والولایة علی القصّر والأوقاف _ من شؤون القاضی ومن له الحکم فی الخصومات، ویکشف عن ذلک ثبوت هذه الولایات لقضاة الجور بزعمهم الفاسد وتصدیّهم له، وأنّها من شؤون القضاة عندهم، کما لعلّه یفصح عن ذلک خبر محمّد بن إسماعیل: «قد مات رجل من أصحابنا ولم یوصِ، فرفع أمره إلی قاضی الکوفة، فصیّر عبدالحمید القیّم بماله...»(1)، الخبر، حیث إنّه یدلّ علی أنّ نصب

القیّم علی مال الیتیم شغل القاضی، فإذا نصب الإمام الفقیه قاضیا یثبت له جمیع شؤون القضاوة التی منها ما ذکر، وکون مورد أدلّة النصب هو التنازع لا ینافی ذلک؛ إذ مجرّد ذلک لا یوجب رفع الید عن ظهور جعله قاضیا فی ذلک.

ویؤیّده أنّ الإمام علیه السلام فی مقام ردع الشیعة عن التحاکم إلیهم وجعل راوی أحادیثهم والعارف بأحکامهم قاضیا فی مقابلهم، وقضیّة المقابلة أن یکون مثل القاضی المنصوب من قبل سلطان الجور فی جمیع ماله من الشؤون والوظائف، مع أنّ الحکمة فی النصب إنّما هو رفع احتیاج الشیعة إلی قضاة الجور، ولا یحصل ذلک إلاّ بما ذکر.

والحاصل: أنّ کلّ ما کان من شؤون قضاة الجور، فهو ثابت للفقیه فی زمان الغیبة، والظاهر أنّ الولایات الثلاث المذکورة وظیفة قاضی الجور کما هو المشاهد فی عصرنا فتکون للفقیه أیضا، وأمّا سائر الولایات والمناصب، فالمرجع فی تعیین أنّها من وظائف قضاتهم حتّی یکون لقضاتنا أیضا أم لا، هو الرجوع إلیهم وتتبّع السیر والتواریخ.

ویمکن الخدشة فی هذه الدعوی بأنّها وإن کانت من شؤون القاضی عند العامّة بلا کلام فیه، إلاّ أن الکلام فی وجه ذلک.

فإن کان من جهة دخولها فی مفهومه، ففیه: أنّ مرجعه إلی الدعوی الأُولی وقد مرّ الکلام فیه.

وإن کان من جهة کونها من لوازم مفهوم القضاء وإنهاء أمر الخصومة عقلاً أو عادة،

ص: 259


1- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2.

ففیه: منع واضح للقطع بعدم الملازمة بینهما کذلک.

وإن کان من جهة جعل الجاعل وإعطائه هذه الولایات لمن جعل له ولایة القضاء، ففیه: أنّه أمر ممکن إلاّ أنّه لابدّ فی الحکم بوقوعه فی الشرع من دلیل یدلّ علیه، وهو منتفٍ؛ ضرورة أنّ دلیل نصب القاضی لا یدلّ إلاّ علی إعطاء منصب القضاء، وقد مرّ أنّه لا ملازمة بینه وبین سائر المناصب والولایات کی یدلّ علیه بالالتزام، ومجرّد ثبوت شؤون أُخر لمن له القضاوة بواسطة جعل سلاطینهم لا یوجب ثبوتها لقاضی الإمام علیه السلام بواسطة جعله، والمقابلة بین الأمرین إنّما تقتضی المساواة بینهما فیما کانت المقابلة فیه لا مطلقا، وهو فی المقام فی أحد المتقابلین أعنی قاضی الجور جهة القضاوة خاصّة لا هی بتمام شؤونها، ولا أقلّ من الشک، وهو کافٍ.

ومن هنا ظهر الحال فی مسألة الحکمة؛ فإنّها رفع الاحتیاج إلیهم فی جهة القضاء فقط؛ لعدم احتیاجهم إلیهم فی سائر الجهات مثل الولایات الثلاث المتقدّم ذکرها؛ لثبوتها لکلّ واحد من عدول المؤمنین.

فقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا هنا وفی الحواشی المتقدّمة أنّه لا دلیل علی ولایة الفقیه علی الوجه الأوّل(1) فی شیء إلاّ القضاء، فتدبّر»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد محسن الحکیم رحمه الله قال: «وأمّا الحاکم فی المقبولة فالظاهر منه من له وظیفة الحکم، امّا بمعنی الحکم بین النّاس فیختصّ بفصل الخصومة، أو مطلقا فیشمل الفتوی کما یناسبه العدول عن التعبیر بالحکم إلی التعبیر بالحاکم، حیث قال علیه السلام : «فلیرضوا به حکما، فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»، مضافا إلی ما یأتی مثله فی المشهورة، ولیس له ظهور بمعنی السلطان أو الأمیر کی یکون له ولایة التصرف فی الأُمور العامّة، فضلاً عن أن یکون بمعنی من له الولایة المطلقة بالتصرف فی النفوس والأموال.

ودعوی أنّ إطلاق الحکم الّذی جُعل من وظائفه یقتضی ذلک، فانّ قولنا: زید له

ص: 260


1- 1 . «أعنی استقلاله فی التصرف» المکاسب 3/551.
2- 2 . هدایة الطالب 3/(257-255).

الحکم، مثل قولنا: زید له الأمر، ظاهر فی نفوذ جمیع تصرّفاته التشریعیة والتکوینیة، مدفوعة بأنّ ذلک المعنی یأباه قوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه _ الخ»، فإنّه ظاهر فی الحکم المتعلّق بفعل المکلّف، فلاحظ»(1).

ومنهم: المحقّق الشیخ أبوالحسن الشعرانی قال فی تعلیقاته علی الوافی: «الظاهر من جعل رجل حاکما تفویض جمیع مناصب القاضی لا مناصب الإمام إلیه إلاّ أن مورده التراضی والتحکیم وکما یحتمل تقیید اطلاق الحکومة بالتراضی کذلک یمکن حمل قید التراضی علی الغالب، إذ لما لم یکن الفقهاء فی عصر الأئمة متمکنین من اجبار المدعی علیه وإنفاذ الحکم قهرا علیه لم یذکر فی الحدیث إلاّ مورد التراضی.

ومثل هذا لا یدلّ علی تقیید المطلق أعنی «قد جعلته حاکما» مثل ما ورد أن الاستطاعة هی الزاد والراحلة والتقیید بالراحلة وهی الدّابة لا یوجب تقیید اطلاق من استطاع إلیه سبیلاً فتحصل الاستطاعة بغیر الدّابة أیضا فقوله «قد جعلته علیکم حاکما» مطلق یشمل جمیع وظائف القضاة ولا یقید بالمورد المذکور فی الروایة نعم هذه دلالة

ضعیفة وتتم هنا بالاجماع ودلیل العقل. إذ لا یستقیم أمر النّاس زمان الغیبة إلاّ بقاض ینفذ حکمه ولو مع عدم تراضی المتحاکمین فلابدَّ إمّا أن یترک الترافع مطلقا. ویترک الصغار والمجانین والسفهاء بلا قیم ویهمل أمورهم وإمّا أن یرجع فیها إلی العلماء العدول أو إلی العوام الفساق فهذا هو دلیل ولایة الفقیه ویجعل ماسوی ذلک من الأحادیث به تام الدلالة»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی قال فی نقد تقریب استاذه العراقی: «هذا ولکن الإنصاف أنه لا یتمّ هذا الاستدلال، وإنّما عیّن الإمام علیه السلام فی هذه الروایة مرجعا للقضاوة فقط، وإن کان شأن الحاکم والقاضی فی السابق مطلق التصرفات، حیث أن الروایة من جهة المراجعة إلیهم فی سائر الأمور والردع والإمضاء ساکتة.

ص: 261


1- 3 . نهج الفقاهة /494.
2- 1 . الوافی 1/287.

لا یقال: إذا لم یثبت منه علیه السلام ردع عن المعنی المرتکز فی الأذهان، وکون الشخص المذکور مما لابدّ من وجوده، فیکفی ذلک _ أی عدم الردع _ فی إثبات المطلب.

فإنّه یقال: لو کان إرتکاز هذا المطلب مسلّما فی الأذهان فبمقدمات عدم الردع یتم المطلب ولا یرتبط بالروایة أصلاً، مع أنه لا یلزم من تعیین الحاکم بمعنی القاضی وعدم دلالته علی ثبوت مطلق الشؤون الثابتة للقاضی أو للحاکم بالمعنی الأعم للفقیه. ردع عما کان مرتکزا عند النّاس، ومنهم الراوی مع معرفته بالإمام علیه السلام وأنه بنفسه الشریفة یکون حقه السلطنة العامة، وأنّ الأمور لابدّ أن ترجع إلیه کمراجعة النّاس إلی السلطان الجائر.

نعم، لو کان الإرتکاز المذکور مسلّما وکان المفروض زمان عدم حضور الأمام علیه السلام ، کان عدم الردع عنه دلیلاً علی المطلب، ولکن المفروض خلافه. فلِمَ لا یمکن أن تکون هذه الأمور مما لابدّ أن ترجع إلی ذاته المقدّسة علیه السلام کما کان مرتکزا فی الأذهان عموما وخصوصا فی نفس الراوی؟ وإنّما هو علیه السلام عَیّن أشخاصا بین النّاس لخصوص القضاوة، کما أنّ حال سلاطین الجور کان کذلک. ولعمری هذه الطریقة أشدّ ارتکازا عمّا إدعاه شیخنا العراقی قدس سره وأقرب إلی عدم الردع بعد کون أصحاب الأئمة علیهم السلام متلبّسین بطریقة المخالفین وخلفائهم، وکونهم عارفین بشؤون الأئمة»(1).

ومنهم: الفقیه الشریعتمداری قال: «وأمّا استدلاله؛ بمقبولة عمر بن حنظلة، فیرد

أنّ القرینتین المنقولتین عن الشّیخ رحمه الله غیر تامّتین من جهة المورد، ومن جهة استعمال کلمة الحکومة. أمّا عدم مناسبتها فلانّ المستفاد من صدرها وذیلها أنّها فی مقام نصب القاضی والحاکم فی مورد الإختلاف، والتّنازع فی دین أو میراث؛ وفی هذا المورد صرّح الإمام علیه السلام أنّه لا یجوز التّرافع إلی الطّاغوت وسلطان الجور، بل یجب الرّجوع إلی قاضی الشّیعة، حیث قال علیه السلام : «فلیرضوا به حکما، وانّی قد جعلته علیکم حاکما».

فبناء علیه الاستظهار من کلمة الحاکم المعنی الأعمّ من دون ملاحظة قرائن

ص: 262


1- 2 . کتاب القضاء /51.

المقام، ومناسبة المورد. ومن دون ملاحظة الرّبط العلّی بین هاتین الجملتین _ جملة: «فلیرضوا به حکما»، و جملة: «انّی قد جعلته علیکم حاکما» _ لا یصحّ خصوصا بملاحظة ما ورد فی باب القضاء من أنّ الحکومة استعملت فی هذا الباب فی معنی القضاء، فلم یعلم کون المراد من الحاکم المعنی المصطلح الیوم من کون معناه صاحب الاختیار، حتّی أنّه لم یعلم أنّ المراد من الحکم فی قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»(1) المعنی الاعمّ من القضاء، بل یمکن أن یکون راجعا إلی قضاء داود فی مورد الاختلاف والتّنازع»(2)... «بالجملة؛ صدرُ الروایة وذیلُها، یُستفادُ منه أنّ المراد، نصبُ القاضِی ونصبُ الحاکم فی موردِ الاختلافِ.

وبعبارةٍ اُخری هاتین الجملتین کان بینهما ربطٌ علِیٌّ وهکذا الجملتان: جملة: «فَلْیَرضُوا به حکما» وجملة: «وَإنّی قد جَعَلتُه حاکما»؛ فالرّبط بینهما، ربطٌ علیٌّ وأنَّ طریقَ إجراء مورد الاختلاف، الحکمُ اِللّهیُ المَلَکُوتیّ، یعطینا أنّ موردَ النّظر، إنّما هو مسألةُ القضاوَةِ لا الأعمُّ منها؛ فَالاستظهارُ من کلمة الحاکم بالمعنی الاعمِّ من دونِ قَرائنِ المقام ومن دون الرّابطة العِلِّیَّةِ وشَأْنِ نُزولِ القضیّة، لا یصحّ خُصوصا بملاحظة ما وَرَدَ فی باب القضاء من أنّ الحاکم، اِستَعمل فی هذا الباب بمعنی القَضاء فلم یعلم کون المراد من الحاکم بالمعنی المصطلح الیومِ من کون معناه، صاحِبَ الاختیار حتّی انّه لم یعلم أنّ المراد من قوله تعالی: «یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الاْءَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ»، راجعةٌ إلی قَضاءِ داود علیه السلام الّذی هو خلیفةٌ فی مواردِ الاختلاف لا المعنی الاعمّ من القضاء فَدعوی الشّیخ رحمه الله ظُهورَ المعنی لکلمة الحاکم، انّما المعنی العَجَمِیُّ لا فی مورد استعمالِ العربِ والأئمة علیهم السلام »(3).

ومنهم: المحقّق السیّد الخوئی قال فی نقد تقریب استاذه النائینی: «وفیه: أنّ المرسوم فی تلک الأزمنة هو جعل الوالی والقاضی دون الحاکم والقاضی، لأنّ الحاکم

ص: 263


1- 1 . سورة ص /26.
2- 2 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/70.
3- 3 . تحقیق وتقریرات فی باب البیع والخیارات 4/91.

مرادف للقاضی کما هو ظاهر وإنّما المغایر له الوالی وهو عبارة عمّن یتولّی الاُمور، ولم یقل إنّی جعلته علیکم والیا وإلاّ لتّمت الدلالة علی المدّعی بأوضح وجه، ومن الغریب أنه قدس سره أیّد مدّعاه بما ورد فی صدر الحدیث من التقابل بین السلطان و القاضی وهو یدلّ علی تغایر الحاکم والقاضی. ولا یخفی ما فیه بعد ما ذکرناه من أنّ الحاکم بمعنی القاضی ویقابله الوالی والسلطان، ویشهد لما ذکرناه أمران:

الأوّل: قوله علیه السلام بعد تلک الجملة: «فإذا حکم بحکمنا» فإنّه لا یراد منه إلاّ القضاء.

الثانی: أنّ الحدیث إنّما ورد فی المرافعة والمناسب لها هو القضاء دون الولایة کما لا یخفی»(1).

ومنهم: آیة اللّه الاستاذ المنتظری قدس سره قال فی نقد تقریب استاذه الإمام الخمینی رحمه الله : «ولکن مع ذلک کلّه یمکن أن یناقش فی الاستدلال بالمقبولة علی نصب الفقیه والیا بوجوه:

الأوّل: ما ذکرناه فی الفصل السابق من الإشکال فی النصب العامّ ثبوتا بشقوقه الخمسة، فراجع. وإذا فرض عدم الإمکان ثبوتا لم تصل النوبة إلی مقام الإثبات. ولو فرض وجود ظاهر یدلّ علیه وجب تأویله بأن یحمل علی بیان الصلاحیة لا الفعلیة، وإنّما تتحقّق الفعلیة بالرضا والانتخاب ولذا قال: «فلیرضوا به حکما». وانّما أمر بذلک ردعا عن انتخاب الجائر أو انتخاب غیر من ذکره من الفقیه الواجد للشرائط، فتأمل.

الثانی: أنّ الولایة بالنصب کانت ثابتة عندنا للإمام الصادق علیه السلام بنفسه، وبعده أیضا للأئمة من ولده، فما معنی نصب الفقهاء ولاة بالفعل مع وجوده وظهوره؟ ولو قیل بعدم السلطة له بالفعل، قلنا إنّ الفقیه المنصوب من قبله أیضا کذلک.

والسائل سأل عن المرجع للمحاکمات فی عصر الإمام الصادق علیه السلام ، فلا مجال لاِءَنْ یُقالَ إنّ النصب منه علیه السلام کان لعصر الغیبة فإن السؤال علی هذا یبقی بلا جواب ویصیر المقام من قبیل استثناء المورد وهو قبیح.

ص: 264


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/169.

نعم، یعقل نصب القاضی للمخاصمات الواقعة بین الشیعة لعصر الإمام الصادق علیه السلام

أیضا بعد عدم جواز الرجوع إلی قضاة الجور.

ومورد السؤال أیضا التخاصم، کما إنّ مورد نزول الآیة المستشهد بها أیضا کان هو النزاع والتخاصم، کما مرّ.

والمجعول فی خبر أبیخدیجة بنقلیه أیضا هو منصب القضاء.

والمرجع للأُمور الحسبیّة وولایة الغیّب والقصّر والممتنع أیضا کان هم القضاة، کما هو المتعارف فی عصرنا أیضا. وقد ذکر الماوردی [الشافِعیّ] وأبویَعْلی [الحنبلیّ] أن نظر القاضی یشتمل علی عشرة أحکام أحدها فصل الخصومات، فراجع.

وذکر السلطان فی المقبولة ومشهورة أبیخدیجة أیضا کان من جهة أن المرجع للقضاء فی الأمور المهمة المعتنی بها کان هو شخص السلطان، مضافا إلی أن التنفیذ والإجراء أیضا کان بقدرته وقوّته، ولولاه لم یتمکّن القضاة من تنفیذ أحکامهم.

اللهم إلاّ أن یجاب عن هذا الإشکال بأنّه لیس المقصود الاستدلال بالمقبولة لجعل الولایة الکبری للفقیه، بل الإمارة والعمل من قبل الإمام المعصوم، کما فی العمّال المنصوبین من قبل الخلفاء. نظیر مالک الأشتر من قبل أمیرالمؤمنین علیه السلام .

فَیَصِحُّ نصب الفقهاء لذلک فی عصر الحضور وعصر الغیبة معا غایة الأمر کون تصرّفاتهم فی زمن عدم بسط الید محدودة، فتأمّل.

الثالث: إنّ الظاهر أنّ الإمام الصادق علیه السلام لم یکن بصدد الثورة ضد السلطة الحاکمة فی عصره لکی ینصب والیا فی قبالها، لعدم مساعدة الظروف علی ذلک. بل کان بصدد رفع مشکلة الشیعة فی عصره فی باب المخاصمات. کیف؟ ولم یعهد تدخّله علیه السلام بنفسه فی المسائل الولائیة المرتبطة بالولاة مع کونه حقّا له عندنا، فکیف ینصب لذلک الفقهاء فی عصره؟

وکون النصب لعصر الغیبة دون عصره مساوق للإعراض عن جواب السؤال ولاستثناء المورد وهو قبیح، کما مرّ.

اللّهم إلاّ أن یقال: إنّ القضاء کما مرّ لیس منجازا عن الولایة الکبری، بل هو من

ص: 265

شؤون الوالی. فالإمام علیه السلام جعل الولایة الکبری للفقیه لعصره ولما بعده غایة الأمر أنّ هذا الجعل بالنسبة إلی عصره کان منشئا للأثر بالنسبة إلی خصوص القضاء والأمور الحسبیة فقط، ولعلّه فی الأعصار المتأخرة یفید بالنسبة إلی جمیع الآثار کما تراه فی عصرنا حیث تهیأ الجوّ لإقامة دولة إسلامیة فی إیران.

ویکفی فی الابتلاء بموضوعٍ، الابتلاء ببعض شؤونه.

ویؤیّد ذلک أنّه علیه السلام بعد ما أرجع المتخاصمین إلی من وجد الصفات المذکورة وأمر برضاهما به حکما قال: «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما». إذ الظاهر من هذا التعبیر أنّ الذیل بمنزلة التعلیل لما سبقه، وقد مرّ أن لفظة «علیکم» قرینة علی إرادة الولایة وإلاّ کان الأنسب أن یقول: «بینکم». فیکون المراد: «إنّی جعلت الفقیه والیا علیکم»، فهو بجهة ولایته المشروعة یصحّ منه القضاء فیجب أن یرضوا به حکما.

وإنّما قال ذلک مع أنّ قضاء الوالی وَقُضاتهِ نافذ ولا یشترط فیه رضا الطرفین، لأنّ الوالی المتسلّط وقضاته تکون لِحُکْمِهِمْ ضمانة إجرائیة وأمّاالوالی الذی نصبه الإمام الصادق علیه السلام فهو نظیر نفس الإمام لم تکن ضمانة إجرائیة لحکمه إلاّ إیمان الشخص ورضاه، ولأجل ذلک أیضا عبّر بلفظ «الحکم»، الظاهر فی قاضی التحکیم المنتخب برضا الطرفین.

وبالجملة، فالذیل کبری کلیّة ذکرت علّة للحکم، فیجب الأخذ بعمومها.

الرابع: أنّ الحکومة ومشتقّاتها قد غلب استعمالها فی الکتاب والسنة فی خصوص القضاء، کقوله تعالی: «وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ»(1)، وقوله: «وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ لِتَأْکُلُوا فَرِیقا مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالاْءِثْمِ»(2).

وفی حدیث ابن فضال نقلاً عن خَطّ أبیالحسن الثانی علیه السلام فی تفسیر الآیة: «الحکام: القضاة».(3)

ص: 266


1- 1 . سورة النساء /58.
2- 2 . سورة البقرة /188.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/5، ح9، الباب 1 من أبواب صفات القاضی (27/15، ح9) موثقة.

وقد مرّ فی خبر سلیمان بن خالد عن الإمام الصادق علیه السلام : «اتّقوا الحکومة، فإنّ الحکومة إنّما للإمام العالم بالقضاء»(1). وقد مرّ أوائل هذا الفصل فی تفسیر الآیات الثلاث بعض کلمات أهل اللغة وموارد الاستعمال للحکم والحاکم والحکّام، فراجع.

بل یمکن أن یقال: إن إطلاق الحاکم والحکّام علی الوالی والولاة کقوله علیه السلام : «فصاروا ملوکا حکّاما، وأئمة أعلاما»(2)، وقوله: «وجعلوهم حکّاما علی رقاب

النّاس»(3)، قوله علیه السلام : «الملوک حکّام علی النّاس، والعلماء حکّام علی الملوک(4)»(5)، ونحو ذلک من موارد الاستعمال أیضا کان بملاحظة أنّ القضاء وفصل الخصومات کان من أهمّ شؤون الولاة. والقضاة أیضا إنّما کانوا یتصدّون لذلک بنصبهم وبالنیابة عنهم.

وبالجملة، لیس إطلاق الحاکم علی الوالی بالاشتراک اللفظی، أو بأن ینخلع اللفظ عن معنی القضاء ویستعمل فی الوالی مجازا. بل من جهة أنّ الوالی قاض حقیقة وأن القضاء من أهمّ شؤونه ولا تتمّ الولایة إلاّ به.

فیکون قوله: «حاکما» فی المقبولة مساوقا لقوله: «قاضیا» فی خبر أبیخدیجة بنقلیه.

والتعلیل کان بملاحظة أنّ القضاء لم یکن إلاّ لنبیّ أو وصی نبیّ کما فی خبر سلیمان بن خالد وغیره، ولا یکون مشروعا إلاّ بإجازة الوصیّ ونصبه. ومورد السؤال أیضا المنازعات. فالإمام الصادق علیه السلام أرجع المتنازعین من الشیعة إلی الفقیه وأمر بوجوب الرضا به حَکَما من جهة أنّه علیه السلام بولایته المطلقة الثابتة عندنا جعله قاضیا، فصار قضاؤه بذلک مشروعا فلم یجز التخلّف عنه. وقد مرّ آنفا وجه الأمر بالرضا والتعبیر

ص: 267


1- 4 . وسائل الشیعة 18/7، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17، ح3) صحیحة.
2- 5 . نهج البلاغة، فیض /802؛ عبده 2/177؛ لح 296، الخطبة 192.
3- 1 . نهج البلاغة، فیض /666، عبده 2/215، لح /326، الخطبة 210.
4- 2 . أَخَذَ هذا المعنی بعضُ الشُّعَراء فَقالَ من (الکامل): إِنَّ الأَْکابِرَ یَحْکُمُونَ عَلی الْوَری وَعلی الاْءَکابِرِ یَحْکُمُ الْعُلَماءُ
5- 3 . بحارالأنوار 1/183، کتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم وآدابه، الحدیث 92.

بالحکم.

ولیس ذکر السلطان فی المقبولة وخبر أبیخدیجة دلیلاً علی إرادة الأعمّ من القضاء بعد کون السؤال عن تکلیف المتنازعین.

وإنّماذکر السلطان من جهة أن الرجوع إلی القاضی المنصوب من قبل السلطان نحو رجوع إلی السلطان، ولأنّه ربّما کان السلطان بنفسه یتصدّی للقضاء فی الأمور المهمّة.

والتنازع سواء کان لادعاء طرف وإنکار آخر أو کان لاستنکاف أحد عن أداء دینه بعد معلومیّته کان مرجعه القضاة، وکذلک جمیع الأمور الحسبیة کما هو المتعارف فی أعصارنا أیضا. کما قد یشهد بذلک خبر إسماعیل بن سعد عن الرضا علیه السلام : «وعن الرجل یصحب الرجل فی سفر فیحدث به حدث الموت ولا یدرک الوصیة کیف یصنع بمتاعه وله أولاد صغار وکبار، أیجوز أن یدفع متاعه ودوابّه إلی ولده الأکابر أو إلی القاضی، وإن کان

فی بلدة لیس فیها قاض کیف یصنع؟»(1).

إذ یظهر بذلک أنّ مرجع أمر الصغار کان هو القاضی. وقد مرّ الإشارة إلی کلام الماوردی وأبییعلی وأنّهما جعلاً تکلیف القاضی أوسع من فصل الخصومات.

وعلی هذا فما ذکره الأستاذ الإمام _ مدظله _ فی بیان المقبولة من تقسیم التنازع إلی قسمین وإرادة استفادة جعل الولایة الکبری من هذا الطریق قابل للخدشة جدّا، فتأمّل.

وقد تحصّل ممّا ذکرناه بطوله أنّ المقبولة، وکذا خبر أبیخدیجة بنقلیه کلیهما فی مقام نصب القاضی للشیعة الإمامیة لرفع مشاکلهم فی الأُمور التی کانت ترتبط بالقضاة بعد ما حرّم علیهم الرجوع إلی قضاة الجور. فلا یصحّ الاستدلال بهما لإثبات الولایة المطلقة بالنصب.

فإن قلت: التعبیر بالطاغوت والاستشهاد بالآیة الشریفة لا یناسبان إرادة خصوص القضاء.

ص: 268


1- 1 . وسائل الشیعة 13/475، ح3، الباب 88 من أحکام الوصایا (19/422) صحیحة.

قلت: الرجوع إلی قضاة الجور والاعتناء بهم وبحکمهم کان فی الحقیقة رجوعا إلی السَّلاطِیْنِ. فإنّ القضاة کانوا من أذنابهم ومنصوبین من قبلهم، وقوّتهم کانت بقوّتهم. ألا تری أنّ من رجع إلی أحد العمّال فی دولة واعتنی به بما أنّه عامل هذه الدولة یَصْدُقُ علیه أنّه اعتنی بهذه الدولة وأمضی مشروعیتها. ومورد نزول الآیة أیضا کان هو القضاء، کما مرّ.

فَإنْ قُلْتَ: استعمال حرف الاستعلاء فی قوله: «علیکم» یناسب الولایة المطلقة، لما مرّ من أنّ المناسب للقضاء أن یقال: «بینکم».

قلت: لیس استعمال حرف الاستعلاء فی القضاء غلطا، إذ فی القضاء أیضا یوجد نحو استیلاء واستعلاء. فإنّ القاضی المنصوب من قبل السلطان له علوّ وقدرة بقدر من نصبه. والقاضی المنصوب من قبل الإمام الصادق علیه السلام أیضا له نحو قدرة معنویة لوجوب العمل بحکمه والتسلیم له، فیصحّ استعمال حرف الاستعلاء علی أیّ تقدیر.

الخامس: إنّ الظاهر کون المخاطب فی «منکم» و «علیکم» خصوص الشیعة الإمامیّة الاثنی عشریة، کما یشهد بذلک کلمة: «أصحابنا» فی کلام السائل. والشیعة فی

عصر الإمام الصادق علیه السلام کانوا قلیلین جدّا مسهّلکین بین سائر المسلمین، فلم یمکن تحقّق دولة وحکومة لهم. فیعلم بذلک أنّ الإمام علیه السلام لم یکن بصدد نصب الوالی، بل کان غرضه رفع مشکلة الشیعة فی منازعاتهم فأرجعهم إلی تعیین قاضی التحکیم بأن یختاروا رجلاً منهم ویرضوا به حکَما. ولو کان بصدد نصب الوالی لکان المناسب نصبه علی جمیع الأمّة لا علی الشیعة فقط.

اللّهم إلاّ أن یقال، کما مرّ فی کلام الأستاد _ مدظله _ : إنّ نظر الإمام الصادق علیه السلام لم یکن مقصورا علی عصره فقط، بل کان بصدد طرح حکومة عادلة إلاهیة وبیان شرائطها ومواصفاتها حتّی لا یتحیّر المفکّرون لو وفّقهم اللّه _ تعالی _ لإقامة دولة حقّة ولوفی الأعصار الآتیة. ویکفی فی صحة هذا الجعل بنحو یشمل عصره أیضا ترتّب بعض الآثار فی عصره، أعنی الأمور المرتبطة بالقضاة من القضاء والأمور الحسبیّة ونحوها، فتدبّر.

السادس: سلّمنا أنّ الحکم بمشتقّاته بحسب الوضع والمفهوم یعمّ القضاء وغیره

ص: 269

مما یشتمل علی البتّ والفصل ولکن لمّا کانت المقبولة سؤالاً وجوابا متعرضة لمسألة المنازعة فی الأموال والقضاء فیها، فالقضاء هو القدر المتیقن من الکلام، ولا دلیل علی إرادة الأعمّ.

والتمسک بالإطلاق إنّما یجری فی الموضوعات لافی المحمولات.

فلو قیل: «النار حارة» بلا ذکر قید نحکم بکون الموضوع طبیعة النار بإطلاقها فتشمل جمیع الأفراد، ولا نحکم بکون المحمول جمیع مراتب الحرارة وأفرادها. ولو قال المولی: «أکرم عالما» نجری فیه مقدّمات الحکمة فنقول: کان المولی فی مقام البیان وجعل الموضوع لحکمه طبیعة العالم فیثبت الإطلاق، ونتیجته کفایة أیّ عالم کان.

وأما إذا قال: «زید عالم» فلا یجری الإطلاق فی المحمول، ولا نحکم بکونه عالما بکل ما یحتمل کونه عالما به.

فکذلک إذا قال: «الفقیه حاکم أو خلیفتی أو حجتی أو وارثی أو أمینی أو نحو ذلک» لا یثبت به إلاّ الحاکمیة أو الخلافة أو نحوهما بالإجمال بلا عموم وشمول.

نعم، لو لم یوجد فی البین قدر متیقّن وکان المولی فی مقام بیان الوظیفة والتکلیف حکمنا بالإطلاق وإلاّ صار الجعل لغوا. وأمّا مع وجود القدر المتیقّن فلا لغویّة ولا إطلاق. هذا.

ولکن یمکن أن یقال: إنّا لا نری فرقا بین الموضوعات وبین المحمولات. إذ لو کان

المولی فی مقام الإهمال والإجمال فلا إطلاق أصلاً. وإن کان فی مقام البیان فإن لم یوجد قدر متیقّن ثبت الإطلاق فی کلیهما. وإن وجد القدر المتیقّن فی البین فإن قلنا بأنّ وجوده مضرّ بالإطلاق لافی الموضوع ولافی المحمول، وإن لم یکن مضرّا به ثبت الإطلاق فی کلیهما. فافرق بینهما بلا وجه.

والحقّ أنّه لو کانت هنا قرینة لفظیة متّصلة أو لبّیّة بحیث کانت کاللفظیّة المتّصلة منعت هذه من انعقاد الإطلاق قهرا.

وأمّا صرف وجود القدر المتیقّن بعد إعمال الدقّة فلا یصلح مانعا من انعقاد الإطلاق ولا حجّة لرفع الید منه من غیر فرق بین الموضوع وغیره.

ص: 270

فلو قال المولی: «جئنی برجل راکبا» وکان فی مقام البیان من کلّ جهة فکما تجری مقدّمات الحکمة فی الرجل ویثبت فیه الإطلاق ونتیجته التخییر والعموم البدلی بالنسبة إلی کلّ رجل فکذلک تجری من المجیء به وفی الرکوب أیضا، فلا یتعیّن نحو خاصّ من المجیء أو الرکوب بل یتخیّر المکلف بین أنواع کلّ منهما.

ولو قال: «أکرم عالما» فکما تجری مقدّمات الحکمة فی الموضوع ونتیجته کفایة أیّ عالم کان فکذلک تجری فی متعلّق الحکم أعنی الإکرام ونتیجته کفایة أی نوع من الإکرام.

وفی مقام الإنشاء قد یجعل المتعلق للحکم محمولاً فی القضیة فیقال مثلاً: «زید مکرم» ویراد وجوب إکرامه فلو کان فی مقام البیان یثبت الإطلاق فی المحمول بلا إشکال.

نعم، الإطلاق ربّما ینتج العموم الاستغراقی وربّما ینتج العموم البدلی، وهذا بحسب اختلاف الموارد، کما لا یخفی.

هذا مضافا إلی أنّ قوله: «جعلته علیکم حاکما» یصیر مفاده أنّ «حاکمیّة الفقیه مجعولة» فتصیر الحاکمیّة موضوعا للجعل، اللّهم إلاّ أن یقال هذا خلط بین الموضوع المصطلح فی علم الأصول والموضوع المصطلح فی علم النحو، والحاکمیّة بحسب المفاد محمول علی الفقیه وإن جعلت فی القضیة موضوعا.

وقد تلخّص ممّا ذکرناه هنا أنّ الحکم بالإطلاق مع تحقّق مقدّماته لا یفرق فیه بین الموضوع وبین غیره، وأنّ کون القضاء هو القدر المتیقّن من لفظ الحاکم فی المقبولة لا یوجب حمله علی خصوص القضاء، وکون المورد خصوص المنازعة أیضا لا یوجب

الاختصاص فإنّ المورد لا یخصّص بعد کون الجواب عامّا. فالإشکال السادس مدفوع وباطل من أساسه.

السابع: أنّ لفظ الحَکَم فی المقبولة ظاهر فی قاضی التحکیم، أی المحکَم من قبل المتخاصمین، فیکون المراد بالحاکم أیضا ذلک لِتَتَلاءَمَ الجملتان.

وعلی هذا فلیس فی المقبولة نصب لا للوالی ولا للقاضی. ولیس لفظ: «الجعل»

ص: 271

هنا بمعنی الإنشاء والإیجاد، بل بمعنی القول والتعریف. فیصیر محصَل کلام الإمام علیه السلام أنّی أقول لکم وأرشدکم أنّ الرجل الکذائی صالح لأن تختاروه وترضوا به حکما بینکم.

قال فی لسان العرب فی معانی الجعل:

«جعل الطین خزفا والقبیح حسنا: صیّره إیّاه. وجعل البصرة بغداد: ظنها إیاه... وقوله: «وَجَعَلُوا الْمَلائِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثا»(1)، قال الزجّاج: الجعل هیهنا بمعنی القول والحکم علی الشیء. کما تقول: قد جعلت زیدا أعلم النّاس، أی قد وصفته بذلک وحکمت به»(2).

أقول: یظهر من الأخبار المستفیضة أنّ القضاء لا یجوز ولا ینفذ إلاّ من النّبیّ أو الوصیّ، ففی خبر إسحاق بن عمار، عن أبیعبداللّه علیه السلام قال أمیرالمؤمنین علیه السلام لِشُرَیْحٍ: «یا شُرَیْحُ، قد جلست مجلسا لا یجلسه (ما جلسه خ. ل) إلاّ نبیّ أو وصیّ نبیّ أو شقیّ»(3). وفی خبر سلیمان بن خالد عنه علیه السلام ، قال: «اتقوا الحکومة، فإن الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء، العادل فی المسلمین لنبیّ (کتبیّ خ. ل) أو وصیّ نبیّ»(4).

وعلی هذا فلأحد أن یقول إنّ الإمام الصادق علیه السلام قد صار بصدد نصب الفقیه قاضیا لیصحّ وینفذ قضاؤه، وفی الحقیقة یصیر وصیّا للوصیّ، وأوصی للمتخاصمین من الشیعة أن یختاروه ویرضوا به حکما فی قبال قضاة الجور. وقد مرّ أن اعتبار الرضا لعلّه یکون من جهة أنّه لیس لقضاء هذا القاضی لعدم سلطته ضمانة إجرائیة سوی رضا الطرفین وإیمانهما، وبهذه الملاحظة أیضا عبّر عنه بالحکم. فیصیر مفاد کلام الإمام علیه السلام أنّه یحرم علیکم الرجوع إلی قضاة الجور، ویجب علیکم تحکیم رجل منکم وجد الصفات

المذکورة، ویجب الرضا بقضائه لأنّی جعلته قاضیا أو والیا فصار قضاؤه مشروعا نافذا بذلک.

ص: 272


1- 1 . سورة الزخرف /19.
2- 2 . لسان العرب 11/111.
3- 3 . وسائل الشیعة 18/7، ح2، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17) موثقة.
4- 4 . وسائل الشیعة 18/7، ح3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی، (27/17) صحیحة.

وبالجملة، الظاهر من الجملة تحقّق النصب، کما هو الظاهر من مشهورة أبیخدیجة أیضا. وجعل الجعل فی الحدیث بمعنی القول خلاف الظاهر جدّا. وما ذکرناه فی الفصل السابق من الخدشة ثبوتا فی نصب الوالی بنحو العموم لا یجری فی نصب القاضی، فإنّ عمل القاضی محدود فیمکن تعدد القضاة بتعدّد الفقهاء، وکلّ منهم یعمل بتکلیفه فی ظرف خاصّ ومنطقة محدودة، وهذا بخلاف الولایة بالمفهوم الوسیع الشامل لجمیع أعمال الولاة.

والحاصل أنّه لا یترتب کثیر إشکال علی جعل الإمام الصادق علیه السلام جمیع الفقهاء فی عصره والأعصار المتأخرة قضاة ینفذ قضاؤهم.

وأما جعل الجمیع ولاة نافذی الکلمة فی جمیع ما یرجع إلی الولاة من الأمور فهو الذی یوجب الاختلاف والهَرْج وَالْمَرْج(1)، کما مرّ.

وقد طال الکلام فی البحث فی المقبولة، وتحصّل لک إمکان الخدشة فی الاستدلال بها لنصب الفقهاء ولاة بالفعل»(2).

ومنهم: قال المحقّق الأردکانی ردّا علی النائینی: «وفیه: انّ الحاکم فی لسان العرب والروایات یطلق علی القاضی، وقد ورد فی تفسیر آیة «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَما مِنْ أَهْلِهِ وَحَکَماً مِنْ أَهْلِها»(3) أنّ الحَکَم هو القاضی وفی تفسیر قوله «وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ»(4) الحکام القضاة علی ما فی المکاتبة(5)، فالمراد من الحاکم فی المقبولة من له وظیفة الحکم بین النّاس فیختص بالقضاء وفصل الخصومه»(6).

ص: 273


1- 1 . بسکون الرّاء فیهما لا بِفَتْحِها کما شاع خَطَأً.
2- 2 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(455-445).
3- 3 . سورة النساء /35.
4- 4 . سورة البقرة /188.
5- 5 . وسائل الشیعة 27/15، ح9 موثقة ابن فضال.
6- 6 . غنیة الطالب 3/190.

ومنهم: آیة اللّه السیّد محمّد الروحانی رحمه الله قال فی تقریب الشیخ الأعظم ونقده: «وقد قرب الشیخ قدس سره دلالتها علی المدعی بأحد الوجهین:

الأوّل: أن الظاهر من جعله حاکما وقاضیا إسناد ما کان یسند للقضاة فی ذلک الحین والوقت له، وقد کان القاضی فی ذلک الوقت یتولی الامور العامة ویعهد إلیه بها. فیثبت للفقیه ذلک لأنّ الظاهر أن نصبه قاضیا علی غرار قضاة ذلک العصر.

الثانی: أن الظاهر عرفا من نصب الإمام علیه السلام الحاکم إسناد الامور العامة له وجعل السلطنة له دون غیره، فتکون الحکومة والسلطنة للفقیه بمقتضی الحدیث.

والانصاف أن یقال: أنّ الحاکم یطلق ویراد منه:

تارة: من له السلطنة والنفوذ والولایة، بحیث یکون له نصب القاضی ونحوه.

واخری: یراد منه القاضی ومن له الحکومة فی الخصومات وفصلها.

ولا یخفی أنّ المراد من لفظ الحاکم فی الحدیث لیس هو المعنی الأوّل، إذ هو لا یتناسب مع عصور الأئمة وعدم ولایتهم ونفوذ جعلهم الولی علی النّاس، مع أنه علیه السلام فی مقام جعل الفقیه حاکما لترتب أثر عملی علیه ولیس هو فی مقام بیان رتبة الفقیه لا أکثر، فیستبعد ارادة الوالی والسلطان من لفظ الحاکم لعدم ترتب أی أثر عملی علی ذلک، کما لا یخفی.

مضافا إلی ظهور ترتب الحکم المذکور علی کل من یجمع الشرائط المذکورة وهو لا یتناسب مع ارادة السلطان، إذ مقتضی السلطنة والولایة التفرد بها ووحدانیة القائم بشؤونها لا تعدده.

وعلیه، فیتعین کون المراد المعنی الثانی وهو القاضی. ومعه لا تکون الروایة دالة علی المدعی.

فإنّ ما ذکر من ظهور جعل القاضی ترتیب أحکام القاضی الثابتة له عرفا، انما یمکن أن یدعی لو کان الإمام علیه السلام قد عین شخصا معینا للقضاء وأرسله إلی بلد خاص ولم یبین وظیفته، فإنّه یمکن أن یقال بأنّ وظیفته ما هو وظیفة القاضی عرفا.

وأما فیما نحن فیه، فلا یتم ما ذکر، إذ الظاهر من مورد الروایة وانه للمتخاصمین

ص: 274

المختلفین فی اختیار الحاکم وجعل الإمام علیه السلام الحاکم هو الفقیه، کون الفقیه حاکما ونافذ القول فی مقام فصل الخصومات دون غیرها من الآثار، إذ لم تکن جهة القضاء وآثارها ملحوظة بنحو الکلیة والموضوعیة. وانما الملحوظ جعل الفقیه هو الخاصم للنزاع.

وبعبارة اخری: جعل الفقیه حاکما بلحاظ قضیة شخصیة، ولیس هم حکم ابتدائی لشخص معین أو لکل فقیه کی یدعی ما ذکر من ظهور ترتب جمیع آثار القاضی عرفا

علیه ومنها الولایة علی الامور العامة.

وبالجملة: فالروایة غیر دالة علی المدعی، مضافا إلی ضعف سندها بعمر بن حنظلة واعتماد المشهور علیها غیر جابر، فتدبر»(1).

ومنهم: شیخنا الاستاذ قدس سره قال: «فإنّه لا یستفاد منه إلاّ ثبوت منصب القضاء والحکم للفقیه»(2).

ومنهم: الاستاذ المحقّق _ مدظله _ قال فی شأن المقبولة: «فإنّ دعوی کونها فی مقام جعل الولایة والحکومة مطلقا ممنوعة، بل هی واردة فی جعل الحکومة فی المنازعات الحاصلة فی قضایا الدین والمیراث، فغایة ما تفیدها المقبولة الولایة فی إصدار الحکم لیس إلاّ، والشاهد علی ذلک وحدة اللسان بین هذه المقبولة والروایة المشهورة التی تقول: «فإنّی قد جعلته علیکم قاضیا»»(3).

ومنهم: آیة اللّه السیّد یوسف المدنی رحمه الله قال: «فالظاهر من لفظ الحاکم فیها من له وظیفة الحکم، إمّا بمعنی الحکم بین النّاس فیختص بباب القضاء أو مطلقا فیشمل الفتوی أیضا کما یناسبه علی ما تعرض له بعض الأعلام العدول عن التعبیر بالحکم إلی التعبیر بالحاکم حیث قال علیه السلام «فلیرضوا به حکما فأنّی قد جعلته علیکم حاکما» إلی ما یأتی مثله فی المشهورة الآتیة ولیس له ظهور بمعنی السلطان أو الأمیر کی یکون له ولایة التصرف فی الاُمور العامة فضلاً عن أن یکون بمعنی من له الولایة المطلقة بالتصرف فی

ص: 275


1- 1 . المرتقی إلی الفقه الأرقی، کتاب الخمس /(300-298).
2- 2 . إرشاد الطالب 4/212.
3- 3 . العقد النضید 4/286.

النفوس والأموال.

هذا مع أنّها وردت فی الشبهات الحکمیة دون الموضوعیّة لأنّ کلا منهما قد اعتمد فی حکمه علی روایة من روایاتهم کما هو المصرح به فی متنها والحال أنّ البحث فی المقام فی الثانی دون الأوّل فالروایة علی تقدیر تمامیتها من جمیع الجهات دلالةً وسندا أجنبیة عن محل الکلام.

والحاصل إنّ الروایة لا تدلّ إلاّ علی ثبوت الولایة لفقهاء الشیعة فی المواضع الثلاثة القضاء والفتوی والحکومة فی الجملة فلیس لها الدلالة علی الولایة بالمعنی المبحوث عنه فی المقام»(1).

ومنهم: آیة اللّه السیّد علی السیستانی _ مدظله _ قال: «ونحن نقول: لو کان الطاغوت کما قیل عبارة عن السلاطین والاُمراء، یمکن أن یکون لما ذهبوا إلیه من أن المراد من الحاکم هو السلطنة وجه، ولکن الطاغوت لیس عبارة عن السلاطین والأُمراء، فإنّ العرب فی الجاهلیة لم یکن لهم نظام قضائی، وکانوا یتحاکمون إلی شیخ العشیرة والقبیلة إذا حدث نزاع فی العشیرة، وکانوا یتحاکمون إلی الکهنة والأصنام بنحو الإستقسام بالأزلام وأمثال ذلک إذا کان النزاع بین عشیرة وعشیرة، أضف إلی ذلک أنّ الآیة المبارکة مدنیّة باتفاق المفسرین، وسبب نزول الآیة المبارکة هو أنّ بعض المنافقین أرادوا رفع النزاع مع بعض الیهود علی نحو التحاکم فی الجاهلیة فنزلت الآیة الشریفة، ومن الواضح أنّ الکاهن وغیره من الذین کان یُرجع إلیهم فی المنازعات ولم تکن لهم القوة التنفیذیة، وفی مفردات الراغب: «والطاغوت عبارة عن کل مُتَعد، وکل معبود من دون اللّه _ الی أن یقول _ «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ» فعبارةٌ عن کل متعد، ولِما تقدم سُمّی الساحر والکاهن والمارد من الجن والصارف عن طریق الخیر طاغوتا»(2). وقال الطبرسی: «إنّ المراد بالطاغوت فی الآیة کعب بن أشرف، وقیل غیره _ الی أنْ

ص: 276


1- 4 . الإرشاد إلی ولایة الفقیه 50 و 51.
2- 1 . مفردات الراغب، مادة (طغی).

یقول _ : وروی أصحابنا عن السیّدین الباقر والصادق علیهماالسلام أنّ المعنی به کل من یتحاکم إلیه ممن یحکم بغیر الحق»(1).

فلیس الطاغوت عبارة عن السلاطین والاُمراء کما قیل؛ إذ لم یکن فی زمن النبی صلی الله علیه و آله فی جزیرة العرب سلطان وأمیر حتّی یقال بأنه القدر المتیقن من الطاغوت، بل القدر المتیقن منه من یحکم بالجور أو ما ینسب إلیه الحکم کالأصنام، مضافا إلی أنّه لم یکن للطاغوت قوة تنفیذیة.

وذکر البعض تمهیدا لمعرفة الروایة أنّ السلطان غیر القضاة، والتحاکم فی تلک الأزمنة کان علی نحوین تحاکم إلی السلطان وتحاکم إلی القضاة، والتحاکم إلی السلطان کان فی المظالم الواضحة وفی موارد وضوح الحق، والتحاکم إلی القضاة کان فی الأمور المختلف فیها، واستنتج من ذلک أنّ وظیفة الولاة ووظیفة القضاة مجعولة للفقیه، حیث قال: کما لا شبهة أیضا فی أن مطلق المنازعات داخلة فیه _ سواء کانت فی الاختلاف فی

ثبوت شیء ولا ثبوته، أو التنازع الحاصل فی سلب حق معلوم من شخص أو أشخاص، أو التنازع الحاصل بین طائفتین المنجز إلی قتل وغیره _ الذی کان المرجع بحسب النوع فیها هو الوالی لا القاضی.(2)

وهذا الذی ذکره أیضا غیر تام، لأنّ السلطان کان یُطلق علی الوالی ورئیس الشرطة والمحافظ ونفس الخلیفة، وذکر السلطان فی قبال القاضی فی الروایة لأحد أمرین، إمّا من جهة اتّحاد الوالی والقاضی فی بعض البلدان، کما فی کتاب نظام الحکم، فیکون الوالی مجمع العنوانین فیصح التعبیر بأنّه یتحاکم إلی السلطان أو إلی القضاة، وإما من جهة دیوان المظالم الذی شکّله بعض الاُمویّین وکان هو المرجع فی المنازعات التی بین الاُمراء أو بین بعض الرعایا مع الاُمراء أو القضاة، وکان یتصدی لهذا القضاء نفس الخلیفة، وفی قباله القضاء بین الرعایا إذا حدثت بینهم منازعة.

ص: 277


1- 2 . مجمع البیان، تفسیر الآیة 60 من سورة النساء.
2- 1 . کتاب البیع للسیّد الخمینی قدس سره 2/639.

إذا فإنّ ما ذُکر من أنّ السلطان فی قبال القضاة: «فیتحاکمان إلی السلطان أو إلی القضاة» دلیل علی أن ما للسلطان وللقضاة للفقیه أیضا، وأنّ التحاکم إلی السلطان کان فی مظالم الواضحة، والتحاکم إلی القضاة کان فی صورة عدم وضوح الحق.

ویمکن الجواب عنه بما یلی:

إنّ المستدِل لم یُقِمْ شاهدا علی ما یدّعیه من التحاکم إلی السلطان فیما إذا کان الحقّ واضحا، والتحاکم إلی القضاة فیما إذا لم یکن الحق واضحا، بل یمکن القول بأنّه لا شاهد له من التاریخ والروایات، بل غیر موافق مع الشواهد، إذ ذُکر فی باب القضاء بأنّ المدعی علیه قد یُقرّ وقد یُنکر، ففی صورة الإقرار یکون الحق واضحا ولکن مع ذلک فهو داخلٌ فی التحاکم، وکذا بُحث فی القضاء بأنّه هل یعمل القاضی بعلمه أو لا؟ فعلی القول بجواز عمل القاضی بعلمه یکون الحق واضحا، ومع ذلک فهو داخل فی القضاء، نعم قد شُکّل دیوان المظالم فی عهد عبدالملک بن مروان وکانَتْ رئاسة الدیوان مع الخلیفة، ثمّ من بعده عمر بن عبدالعزیز، ثمّ فی زمن العباسیین کان دیوان المظالم دائرا، وقد ذَکر جمعٌ شرحَ هذا الدیوان، منهم: جرجی زیدان، وقبله [أبوبکرٍ(1)] ابن العربی فی کتابه آیات الأحکام، وملخّص ما یقوله ابن العربی: هو أنّ التنازع إمّا یکون بین الضعیفین فیقوّی القاضی أحدهما علی الآخر، وإمّا إذا کان التنازع بین قوی وضعیف أو بین قویین

_ والمراد من القوة أن یکون أحد المتنازعین أو کلیهما ذا منصب حکومی أو من أقرباء السلطان _ فبما أنّ سلطة القاضی کانت بین الرعایا ولم تکن لها سعة، لم یکن القاضی متمکنا من فصل الخصومة إذا کان النزاع بین قویّین أو قویّ وضعیف، فلذا شُکّل دیوان المظالم ورئاسة هذا الدیوان کانت للخلیفة، وفی صدر الإسلام کانت رئاسة جمیع الأمور للنبی صلی الله علیه و آله ، وهکذا بعض خلفائه، ثمّ بعد ذلک لکثرة المشاغل وسعة دائرة البلاد الاسلامیة، حُوّل القضاء إلی شخص والخلافة إلی شخص آخر وهکذا، وهذا هو الحال فی سائر البلدان، فقد یکون البلد یقتضی تعیین شخصین: أحدهما للولایة، والآخر للقضاء، وقد لا

ص: 278


1- 2 . أبوبکر هذا هو غیر محییالدین ابن عربی الصوفی الشهیر صاحب «الفتوحات المکیّة».

یکون البلد مقتضیا لتعیین أکثر من واحد، فیعیّن شخصٌ واحد للقضاء والولایة، والتردید فی الروایة ناظر إلی هذه الحیثیة، والمراد بالسلطان فی الروایة، من له السلطة لا نفس الخلیفة، کما فی روایة «أیّما مؤمن قدّم مؤمنا فی خصومة إلی قاض، أو سلطان جائر فقضی علیه بغیر حکم اللّه فقد شرکه فی الإثمّ»(1) والمراد بالسلطان هو الوالی، والشاهد علی ذلک صحیحة عبداللّه بن سنان «عن أبیعبداللّه علیه السلام : إذا تقدّمْتَ مع خصم إلی وال، أو إلی قاض فکن عن یمینه»(2).

والخلاصة فإنّ الوالی قد یکون قاضیا فیما إذا لم یکن هناک قاضٍ مُعَیَّنٌ أو لقلة الأشغال. وکیفما کان، لم یکن دیوان المظالم من جهة المظالم الواضحة کما قیل، وعلی فرض التسلیم لا یکون مرجع قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته حاکما»(3) إلاّ إلی فصل الخصومة، وأمّا إدارة شؤون المملکة بالتصرف فی الأمور العامة، فهو أمر لا یُستفاد من الروایة، إذ لیس معنی جعل البدیل فی حیثیة فصل الخصومة، کونه بدیلاً عنه فی سائر الشؤون أیضا.

ثمّ قال المستدِل: «فاتضح من جمیع ذلک أنّه یُستفاد من قوله علیه السلام «فإنّی قد جعلته حاکما» أنّه علیه السلام قد جعل الفقیه حاکما فیما هو من شؤون القضاء وما هو من شؤون الولایة، فالفقیه ولی الأمر فی البابین، وحاکم فی القسمین، سیّما مع عدوله علیه السلام عن قوله: «قاضیا» إلی قوله: «حاکما»، فإنّ الأوامر أحکام وأوامر اللّه ونواهیه أحکام اللّه تعالی، بل لا یبعد أن یکون القضاء أعمّ من القضاء...»(4)، فتری أنّه یدّعی بأنّ عدول الإمام من قاضٍ إلی حاکم

شاهد علی نصب الفقیه والیا وقاضیا، والحال أنّ الحاکم لم یأت بمعنی الوالی، ونحن تتبّعنا کثیرا فی ذلک ولم نر فی کلمات المتقدّمین أن یذکر الحاکم بمعنی الوالی

، نعم ذُکر ذلک فی ألسنة متأخری المتأخّرین، والحاکم فی اللغة هو القاضی وقد یطلق علی من ینفّذ حکم القاضی، وکما قلنا فإنّ الحاکم لم یُستعمل فی کتب اللغة وغیرها بمعنی الوالی

ص: 279


1- 1 . الکافی 7/411.
2- 2 . وسائل الشیعة 27/218.
3- 3 . تفدم تخریجها.
4- 4 . کتاب البیع للسیّد الخمینی قدس سره 2/479.

والسلطان، وکانوا یعبّرون عن الوالی بالعامل، فلذا نری فی نهج البلاغة وغیره من الکتب، یقال: «ومن کتاب له علیه السلام إلی عامله أو إلی عمّاله»(1)، أو یعبّر بالوالی، ولم یُعبّر فی الکتب عن الوالی بالحاکم، نعم فی کتاب المنجد وفی دائرة المعارف الإسلامیة ذُکر بهذا المعنی: «حکم یحکم حکما وحکومة فی البلاد: تولّی إدارة شؤونها فهو حاکم»، وهذا المعنی معنیً مستحدث ومن مصطلحات المتأخرین(2)، ولعل هذا مأخوذ من العثمانیین أو الإیرانیین حیث کانوا یطلقون الحکومة علی مَن یتولّی إدارة شؤون البلاد، فیُقال: الحکومة العثمانیة، ونحن کما أشرنا، تتبعنا کثیرا فی الآیات والروایات وکتب العامة والخاصة لنری أنّ الحاکم هل استعمل بمعنی الوالی والسلطان أو لا؟ ولم نر فی کلمات المتقدمین استعمال هذا اللفظ بهذا المعنی، فلیس فی الروایة عدول حتّی یقال: لا سیّما مع عدوله علیه السلام . مضافا إلی صدر الروایة وذیلها لا تدل إلاّ علی جعله قاضیا، حیث إنّ موضوع السؤال عن المنازعة فی دَیْن أو میراث، وبعد ما نهی الإمام علیه السلام من مراجعة السلطان أو القضاة، یسأل الراوی: کییف یصنعان، فأمر الإمام علیه السلام أن ینظرا أو انظر إلی من روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکما، ولا ریب فی أنّ الحکم بمعنی القاضی: «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما»»(3).

ومنهم: آیة اللّه الشیخ محمّدتقی المجلسی الإصفهانی _ مدظله _ قال: «... ولکن الإنصاف أنّ المقبولة لیست ظاهرة فی المُدعی لإطلاق الحاکم علی القاضی فی غیر واحد من الأخبار کما یظهر عن الوسائل فی کتاب القضاء وکفی فی ذلک تفسیر الآیة المبارکة «وَلا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ»(4) بما فی المکاتبة،

ص: 280


1- 1 . انظر: نهج البلاغة 3/18، کتاب 18.
2- 2 . ومن الواضح مثل کتاب «المنجد» وکتاب «المعجم الوسیط» من المعجمات المتأخرّة لا یُحْتَجُّ بِها علی لُغَة العرب الأصیل. [المؤلِّف]
3- 3 . الاجتهاد والتقلید والاحتیاط /(110-105)، تقریر بحوث آیة اللّه السیستانی _ دام ظمله _ بقلم العلاّمة الحجة السیّد محمّدعلی الربانی _ دامت برکاته _ .
4- 4 . سورة البقرة /188.

فإنّه علیه السلام کتب بخطه «الحکام القضاة»(1)، بل قیل أنّ معنی لفظ الحاکم هو القاضی ومجرد کون المتعارف فی ذلک الزمان ارجاع الاُمور العامة إلی نظر الحاکم لا یقتضی ظهور لفظ الحاکم فی ذلک، ولا قرینة علی أنّ المراد جعله حاکما یرجع إلیه فی تلک الاُمور کحکام ذلک العصر، فالمتیقن حینئذ هو الرجوع إلی الفقیه فی الفتوی وفصل الخصومة ولو بتوابعه، ومن جملتها التصدی للاُمور الحسبیة.

اللهم إلاّ أن یقال بقیام قوله علیه السلام : «فإنّی قد جعلته علیکم حاکما» فی مقام العلة لما قبله وحیث أضاف جعل الحکومة له إلی نفسه الشریف یظهر منه أنّه جعل له ما کان لنفسه الشریف من الحکومة فیثبت به ذلک له مطلقا إلاّ ما خرج بالدلیل فلاحظ وتدبر»(2).

ومنهم: آیة اللّه السیّد محمّدسعید الحکیم _ مدظله _ قال: «لکنّه یشکل بأنّ الحکام المنصوبین من قبل النبی صلی الله علیه و آله ومن قام مقامه الذین یرجع إلیهم فی الأمور العامة لیس إلاّ ولاة الأقطار والأمصار، ولا قرینة علی حمل الحاکم فی المقبولة علیهم بعد أن کان من موارد استعماله الشایعة هو القاضی فی الخصومة التی هی مورد الحدیث، حتّی أنه قد یظهر من بعض اللغوین اختصاصه به، ولو لأنّه المنصرف منه.

ولا سیّما بعد عدم شیوع التعبیر فی تلک العصور عن الولاة فی الأقطار والبلدان بالحکام، بل بالولاة والعمال. وعدم تعارف تولیهم للقضاء بین النّاس وفصل خصوماتهم، لأن المهم فیهم الکفاءة الإداریة، دون الفقه والقضاء، بل الشایع نصبهم أو نصب السلطان والخلیفة قضاة یختصون بهذه المهمة.

مضافا إلی معتبر أبیخدیجة: «بعثنی أبوعبداللّه علیه السلام إلی أصحابنا، وقال: قل لهم: إیاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء أن تتحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفساق. اجعلوا بینکم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنی قد جعلته علیکم قاضیا. وإیاکم أن یخاصم بعضکم بعضا إلی السلطان الجائر»(3)، ونحوه معتبره

ص: 281


1- 1 . وسائل الشیعة 27/15، ح9 موثقة ابن فضال.
2- 2 . ولایة الاولیاء /84 و 85.
3- 3 . وسائل الشیعة 27/139، ح6، الباب 11 من أبواب صفات القاضی.

الآخر(1).

فإن جعل القاضی وإن لم ینافِ جعل الحاکم بمعنی الوالی، إلاّ أن التعلیل بهما معا لوجوب الترافع لا یخلو عن حزازة، لأن العلة أحدهما. بل من القریب جدا تأخر حدیث أبیخدیجة عن حدیث عمر بن حنظلة، ومن البعید جدا مع سبق سعة الجعل الاقتصار علی بیان الجعل الضیق.

ومن هنا یقرب کون معتبری أبیخدیجة قرینة علی أن المراد بالحاکم فی حدیث ابن حنظلة هو القاضی دون الوالی لو فرض تردد الحاکم فیه بین المعنیین.

وبذلک یظهر أنه لا مجال لحمل الحاکم فی الحدیث علی الوالی بقرینة العدول عن التعبیر بالحکَم للتعبیر بالحاکم. إذ هو فرع ثبوت المعنی المذکور للحاکم، وحسن إرادته فی المقام، وعدم القرینة الصارفة عنه، والجمیع لا یخلو عن إشکال أو منع، کما یظهر مما سبق.

علی أن العدول قد یکون لِنکنة بیانیة، وتجنبا للتکرار. أو لأجل التعدیة ب_ «علی» الظاهرة فی نحو من القهر والسیطرة للحاکم فی مقام القضاء وفصل الخصومة وبنحو یستتبع وجوب القبول والطاعة.

بل من القریب الاختلاف بینهما بنحو من الاعتبار، فإطلاق الحکم علی القاضی بلحاظ الرجوع إلیه للنظر فی الخصومة والحکم فیها. وإطلاق الحاکم علیه بلحاظ أن له الحکم والفصل فیها، وإن لم یتیسر لنا العثور فی اللغة علی أصل للفرق المذکور.

ومثله دعوی: أن حمل الحاکم علی القاضی فی المقبولة لا یناسب سوق الجملة لتعلیل الأمر بتحکیمه، لظهوره فی التعلیل بالکبری التی هی الأعم من الحکم المعلل، المناسب لکون الحاکم أوسع سلطنة من الحکم.

لاندفاعها بأنّه یکفی فی کبرویة التعلیل کونه مشیرا إلی کبری نفوذ جعلهم علیهم السلام ، فکأنه قال: فلیرضوا به حکما، فإنی قد جعلته علیکم حاکما، وکل ما جعلته یجب العمل

ص: 282


1- 4 . وسائل الشیعة 27/13، ح5، الباب 1 من أبواب صفات القاضی.

علیه، نظیر قول القائل: إذا أردت التصرف فی أموالی فراجع ولدی الأکبر، لأنی قد وکلته.

وفائدة ذلک إما التنبیه علی أن منصب القضاء مختص بهم علیهم السلام بالأصل وتابع لهم، وأن ثبوته للفقیه بتوسط جعله من قبلهم له، ولیس ثابتا له بالأصل، کالإفتاء، أو للتنبیه علی أن إرجاعه علیه السلام فی القضاء للفقیه لا ینافی ما تضمنته النصوص(1) من اختصاص

المنصب بهم علیهم السلام ، لأن المنصوب من قبلهم علیهم السلام بمنزلتهم.

هذا ویظهر من بعض الأعاظم قدس سره أن المراد بالحاکم فی المقبولة لیس هو القاضی، ولا الولاة المنصوبین من قبل السلطان، لیجری ما سبق، بل السلطان نفسه، لأن الحاکم هو الذی یحکم بین النّاس بالسیف والسوط، ولیس ذلک شأن القاضی، ولأن السائل قد جعل القاضی مقابلاً للسلطان، فقال: «فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة». وعلی ذلک یکون المجعول هو السلطنة العامة الثابتة للنبی صلی الله علیه و آله والإمام، وما یناسبها من الولایة العامة علی القضاء وغیره من شؤون السلطنة والحکم.

وأما ما ذکره سیّدنا المصنف قدس سره [السیّد محسن الحکیم] من أن هذا المعنی یأباه قوله علیه السلام : «فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه...» لظهوره فی الحکم المتعلق بفعل المکلف. ففیه: أن السلطان بالمعنی المذکور حیث کان له القضاء ففرض أدائه لوظیفته فیه لا ینافی جعل السلطنة بنحو العموم له.

فالعمدة فی دفع ما ذکره بعض الأعاظم قدس سره أنه بعد إطلاق الحاکم علی القاضی لغة _ کما سبق _ فاللازم الاقتصار علیه، ولو لأنه المتیقن من المجعول لیناسب المورد. ولا سیّما بلحاظ معتبری أبیخدیجة المتقدمین، وعدم شیوع إطلاق الحاکم بالمعنی المذکور، بل یعبر عنه بالخلیفة والوالی والسلطان، کما عبر عنه فی السؤال.

بل لم یتضح صحة إطلاقه عرفا علی من له السلطنة والحکم، وإنما یطلق علی من له الحکم فعلاً، لأنه یملک السیف والسوط، ومن الظاهر عدم إرادة ذلک، لأنه أمر تکوینی تابع لعلته الخارجیة، ولیس أمرا اعتباریا قابلاً للجعل.

ص: 283


1- 1 . وسائل الشیعة 27/17، ح2 و 3، الباب 3 من أبواب صفات القاضی.

ومثله ما قد یدعی من أن المراد بالحاکم مطلق من له الحکم، مع عدم اختصاص الحکم بالقضاء فی فصل الخصومات، بل یطلق علیه وعلی الأحکام الشرعیة التکلیفیة والوضعیة والسلطنة علیهم، والحکم المراد بقول اللّه تعالی: «إِنَّ اللّهَ یَحْکُمُ ما یُرِیدُ»(1)، وقوله سبحانه: «إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ یَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَیْرُ الْفاصِلِینَ»(2)، وقوله عزّ من قائل:«ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُوءْتِیَهُ اللّهُ الْکِتابَ وَالْحُکْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنّاسِ کُونُوا عِبادا لِی مِنْ دُونِ اللّهِ»(3)... إلی غیر ذلک.

وکأنه إلی هذا یرجع ما ذکره النراقی فی محکی عوائد الأیام. قال: «لیس المراد بالحکم خصوص ما یکون بعد الترافع، لأعمیته لغة وعرفا. وعدم ثبوت الحقیقة الشرعیة فیه».

لکنه یشکل بأن المعنی المذکور بهذه السعة لو فرض رجوعه لقدر جامع واحد لیس من شأنه أن یجعل لأحد اعتبارا، بل بعض أفراده ثابت للإنسان بلا حاجة للجعل، کالحکم فی القضایا التکوینیة والتشریعیة بحق، کقیام زید وجلوس عمرو وحرمة المیتة ووجوب الصلاة، وبعضها ثابت له شرعا بالأصل، کالحکم والإدارة لشؤون عائلته وممالیکه وأمواله ونحوها، وبعضها ثابت له شرعا بتوسط جعل غیر الإمام علیه السلام ، کالحکم فی أمر الأوقاف التی یجعله الواقف ولیا علیها، والأیتام الذین یوصی بهم إلیه أبوهم، وبعضه مما یمتنع جعله له، کالحکم بالأحکام الشرعیة التکلیفیة والوضعیة تشریعا، وسائر موارد الإدارة والحکم بغیر الحق، وبعضها قابل للجعل من قبل الإمام علیه السلام ، کمناصب القضاء، والولایة الخاصة، والعامة التی تبتنی علیها السلطنة العامة.

ومن الظاهر أن المراد فی المقام هو خصوص ما یقبل الجعل من الإمام علیه السلام ، وهو مردد بدوا بین المناصب الثلاثة المذکورة، وحیث لا جامع عرفی بینها تعین الاقتصار علی أحدها، والمتعین الأوّل، لأنه المتیقن أو الظاهر من أجل ما سبق.

ص: 284


1- 1 . سورة المائدة /1.
2- 2 . سورة الأنعام /57.
3- 3 . سورة آل عمران /79.

هذا مضافا إلی أن المقبولة لو کانت بصدد بیان الولایة العامة للفقیه، لزم ثبوتها للفقهاء فی عهد ظهور الأئمة علیهم السلام وما ألحق به وهو عهد الغیبة الصغری، ولو کان البناء علی ذلک لظهر العمل علیه فی هذه المدة الطویلة التی تقارب مائتی عام ولو بصورة محددة لا تنافی التقیة، أو تنافیها تسامحا، کما تسامح کثیر من الشیعة فی أمر التقیة غفلة أو بمقتضی اندفاعاتهم العاطفیة، ولکثر السؤال عن فروع ذلک، لوضوح أنه بطبعه یقتضی التسابق والتشاح وظهور المشاکل بنحو أکثر بکثیر من اقتصار ثبوت ولایة القضاء لهم، لأن التصدی للقضاء إنما یکون بعد الترافع من قبل الخصمین ورضاهما بشخص القاضی، بخلاف إعمال الولایة، فإنه لا یتوقف علی شیء، بل للولی المبادرة لذلک. وذلک وحده کاف فی الکشف عن عدم إرادة جعل الولایة فی المقبولة»(1).

ومنهم: آیة اللّه الشیخ ناصر مکارم الشیرازی _ مدظله _ قال: «... والانصاف ان

قوله «بینهما منازعة فی دین أو میراث» وقوله «من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل» وقوله «ما یحکم له فانما یأخذه سحتا» وکذا الاستدلال بالآیة الشریفة (بما عرفت من شأن نزولها) وما ورد فی ذیلها من اختلافهما فی الحکم الذی هو کالصریح فی الاختلاف فی القضاء لا الولایة، فهذه قرائنُ خَمْسة(2) قویة ظاهرة فی ان المراد من الحکم فیها هو القضاء، وأظهر منها ما ورد فی ذیل الروایة من إعمال المرجحات بین مأخذ الحکمین الذی بمعنی المستند للفتوی أو القضاء فإنّه لا معنی لکون الحکم فیه بمعنی الولایة، فهذه شواهد قویة علی کونها بصدد بیان منصب القضاء والفتوی لا غیر.

وعلی کلّ حالٍ، الانصاف أنّ ملاحظة صدر الروایة وذیلها تنادی بأعلی صوتها علی أنّها بصدد بیان تعیین القضاة العدول.

نعم یمکن أن یکون الذیل ناظرا إلی مرجع الفتوی أو القضاء فی الشبهات الحکمیة، فإنّ مراجعة القضاة لا یختص بالشبهات الموضوعیة، لاسیّما مع ما عرفت من

ص: 285


1- 1 . مصباح المنهاج، کتاب التجارة، 2/(424-420).
2- 1 . کما فی المصدر، والصحیح: خَمْسٌ.

أنّ المتعارف فی تلک الأزمنة وحدة القاضی والمفتی فی کثیر من الأحیان، ولذا استدل بها جمع کثیر علی قبول منصب القضاء الفقهاء»(1).

أقول: فظهر ممّا ذکره الأعلام اختصاصها بالقضاء، نعم یمکن التعدی إلی تصرفات القضاة العامة فی تلک العصور بقرینة المقابلة واختتم البحث حول الروایات بمقالات:

صاحب الحدائق حیث یقول: «إنّی لم أقف بعد التتبع للأخبار علی شیءٍ من هذه العمومات والإطلاقات [المتضّمنة لثبوت ولایة الحاکم] لا فی النکاح ولا فی المال، وإن کان ذلک مشهورا فی کلامهم ومسلَّما بینهم ومتداولاً علی رؤوس أقلامهم... وبالجملة فإنّ عدّ الحاکم الشرعی فی جملة الأولیاء کما ذکروا وإن کان مسلّما بینهم ومتّفقا علیه عندهم، إلاّ أنّه خالٍ عن الدلیل من الأخبار، نعم یمکن تخصیص ذلک بالإمام علیه السلام من حیث الولایة العامّة، وأنّه أولی بالنّاس من أنفسهم»(2).

والشیخ الأعظم قدس سره حیث یقول: «وبالجملة: فإقامة الدلیل علی وجوب طاعة الفقیه کالإمام علیه السلام _ إلاّ ما خرج بالدلیل _ دونه خرط القتاد!»(3).

والمحقّق الآخوند الخراسانی یقول فی کتاب قضائه: «وبالجملة: لا مجال للتأمّل فی عدم دلالة هذه الأخبار علی الولایة المطلقة للفقیه واللّه العالم»(4).

ولذا قال المحقّقان النائینی(5) والأصفهانی(6) بالنسبة إلی دلیل هذا البحث: «فیه

ص: 286


1- 2 . أنوار الفقاهة، کتاب البیع، 1/498.
2- 3 . الحدائق 23/238 و 239.
3- 4 . المکاسب 3/553.
4- 1 . کتاب القضاء /32.
5- 2 . قاله المحقّق النائینی فی رسالته المخطوطة: «وسیلة النجاة فی صلاة الجمعة» ونقل عنه آیة اللّه السیّد علی السیستانی فی تقریر أبحاثه فی الإجتهاد والتقلید والاحتیاط /122 بقلم العلاّمة الحجة السیّد محمّدعلی الربانی.
6- 3 . المصدر الأخیر.

تزلزل عظیم».

ولذا قال الاستاذ المحقّق _ مدظله _ : «وخلاصة الکلام: ثبت أنّه لیس لنا نصٌّ واضح وصریح یمکن من خلاله إثبات ولایة الفقیه، کما مرّ تفصیل ذلک فی البحث عن ولایة الفقیه، حیث أثبتنا أنّ جمیع النصوص المستشهد بها إمّا ساقطة من جهة السند، أو من جهة الدلالة، أو کلیهما.

ولو سلّمنا دلالتها علی ولایة الفقیه، فهی غیر مفیدة لإثبات ما یدّعیه مَنِ استدلّ بها علی الولایة المطلقة للفقیه، لعلمنا بأنّ هذه الولایة المجعولة إنّما هی لأجل تمشیة الاُمور التی لا یرضی الشارع بتعطیلها وترکها، کرعایة أموال الیتامی والصغار، وإدارة الموقوفات، والأموال العامّة وغیرها من الاُمور الحسبیّة المناطة إدارتها بالفقهاء الثِّقاتِ العدول، وبالتالی فإنّ حِکمة جعل الولایة وأساسها محفوفة بما یفید أنّ الغرض منه عدم تعطیل الأُمور المشهورة بالاُمور الحسبیّة، فإنّ ذات الغرض المحفوف بجعل هذه الولایة، یقتضی إقامته والتصدّی له، فلا إطلاق فیها حتّی یجعل فیها الشارع أسباب التسابق والتنافس»(1).

ص: 287


1- 4 . العقد النضید 4/287.
2_ إثبات ولایة الفقیه بالدلیل العقلی

قال المحقّق النائینی ما نصه بالفارسیة: «دویم: آن که از جمله قطعیات مذهب ما طائفه امامیه این است که در این عصر غیبت _ علی مغیبه السلام _ ، آن چه از ولایات نوعیه را که عدم رضاء شارع مقدس به اهمال آن حتّی _ در این زمینه _ معلوم باشد وظائف حسبیه نامیده و نیابت فقهاء عصر غیبت را در آن قدر متیقن و ثابت دانستیم حتّی با عدم ثبوت نیابت عامه در جمیع مناصب، و چون عدم رضاء شارع مقدس به اختلال نظام و ذهاب بیضه اسلام بلکه اهمیت وظائف راجعه به حفظ و نظم ممالک اسلامیه از تمام امور و حسبیه ازاوضح قطعیات است، لهذا ثبوت نیابت فقهاء و نواب عام عصر غیبت در اقامه وظائف مذکوره از قطعیات مذهب خواهد بود»(1).

وهذا تعریب مقالته: «من مسلّمات مذهبنا نحن الإمامیة أن الولایات النوعیة التی یُعْلَم عدم رضا الشارع المقدس بإهمالها حتّی فی هذا الصعید فی عصر الغیبة _ علی مغیّبه السلام _ تسمی: الحسبیة، ونیابة فقهاء عصر الغیبة فیها هو القدر المتیقن والثابت عندنا حتّی مع عدم ثبوت النیابة العامة فی جمیع المناصب، وحیث إنّ عدم رضاء الشارع المقدس باختلال النظام، وذهاب بیضة الإسلام بل أهمیة الوظائف الراجعة إلی حفظ نظام البلاد الإسلامیة من تمام الأُمور الحسبیة من أوضح القطعیات لذلک یکون ثبوت نیابة الفقهاء، والنواب العامّین فی عصر الغیبة فی إقامة الوظائف المذکورة من ضروریات

ص: 288


1- 1 . تنبیه الاُمّة وتنزیه الملّة /46.

المذهب، وقطعیاته»(1).

وقال المحقّق الاصفهانی: «ربّما یُستدلّ لعموم ولایة الفقیه بالمعنی الثانی بوجه عقلی، ومحصله: أنّ ما ثبت للإمام علیه السلام من حیث ریاسته الکبری _ وهی الامور التی یرجع

فیها المرئوسون من کلّ ملّة ونحلة إلی رئیسهم إتفاقا للنظام _ فهی ثابتة للفقیه، إذ فرض هذا الموضوع فرض نصب الرئیس؛ لئلا یلزم الخلف من إیکال أمره إلی آحاد النّاس، فیدور الأمر فی الرئیس المنصوب بین أنْ یکون هو الفقیه أو شخص خاص آخر، والأخیر باطل قطعا فتعیّن الأوّل.

وفیه: أنّ الامور التی یرجع فیها إلی الفقیه لیست دائما اُمورا سیاسیة یحتاج إلی الرئیس؛ کبیع مال الیتیم وحفظ مال الغائب ونحوه، لوضوح قیام العدل مقام الفقیه عند تعذّره مع عدم لزوم المحذور، بل ربّما یکون ولایة الفقیه فی بعض هذه الامور مترتبة علی ولایة غیره، کولایته علی الصغیر المرتبة علی ولایة الأب والجدّ ونحوها.

مضافا إلی أنّ بعض تلک الأُمور التی لابدّ فیها من الرئیس، فإیکال أمرها إلیه من حیث إنّ نظره مکمل لنقص غیره، ومثل هذا الأمر یتوقف علی نظر من کان له بصیرة تامة به فوق أنظار العامة، والفقیه بما هو فقیه أهل النظر فی مرحلة الاستنباط دون الامور المتعلقة بتنظیم البلاد وحفظ الثغور وتدبیر شؤون الدفاع والجهاد وأمثال ذلک، فلا معنی لإیکال هذه الاُمور إلی الفقیه بما هو فقیه، وإنّما فَوَّض أمرها إلی الإمام علیه السلام لأنّه عندنا أعلم النّاس بجمیع السیاسات والأحکام، فلا یقاس بغیره ممّن لیس کذلک، فالإنصاف أنّ هذا الوجه أیضا غیر تام فی إثبات هذا المرام»(2).

وقال المحقّق آیة اللّه البروجردی رحمه الله : «إنّ إثبات ولایة الفقیه وبیان الضابطة الکلیة لما یکون من شؤون الفقیه ومن حدود ولایته یتوقف علی تقدیم أُمور:

الأوّل: إنّ فی الاجتماع أمورا لا تکون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل

ص: 289


1- 2 . الحاکمیة فی الإسلام /549.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/390.

تکون من الأمور العامّة الاجتماعیة التی یتوقف علیها حفظ نظام الاجتماع، مثل القضاء وولایة الغُیَّب والقُصَّر وبیان مصرف اللقطة والمجهول المالک وحفظ الانتظامات الداخلیة وسدّ الثغور والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء ونحو ذلک ممّا یرتبط بسیاسة المدن. فلیست هذه الأمور ممّا یتصداها کلّ أحد، بل تکون من وظائف قیِّم الاجتماع ومَنْ بیده أزمة الأمور الاجتماعیة وعلیه أعباء الریاسة والخلافة.

الثانی: لا یبقی شک لمن تتبع قوانین الإسلام وضوابطه فی أنّه دین سیاسی اجتماعی، ولیست أحکامه مقصورة علی العبادیات المحضة المشروعة لتکمیل الأفراد

وتأمین سعادة الآخرة، بل یکون أکثر أحکامه مربوطة بسیاسة المدن وتنظیم الاجتماع وتأمین سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنیین ومرتبطة بالنشأتین، وذلک کأحکام المعاملات والسیاسات من الحدود والقصاص والدیات والأحکام القضائیة المشروعة لفصل الخصومات والأحکام الکثیرة الواردة لتأمین المالیات التی یتوقف علیها حفظ دولة الإسلام کالأخماس والزکوات ونحوهما. ولأجل ذلک اتفق الخاصة والعامّة علی أنّه یلزم فی محیط الإسلام وجود سائس وزعیم یدبّر أمور المسلمین، بل هو من ضروریات الإسلام وإن اختلفوا فی شرائطه وخصوصیاته وأن تعیینه من قبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله أو بالانتخاب العمومی.

الثالث: لا یخفی أنّ سیاسة المدن وتأمین الجهات الاجتماعیة فی دین الإسلام لم تکن منحازة عن الجهات الروحانیة والشؤون المربوطة بتبلیغ الأحکام وإرشاد المسلمین، بل کانت السیاسة فیه من الصدر الأوّل مختلطة بالدیانة ومن شؤونها، فکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنفسه یدبّر أمور المسلمین ویسوسهم ویرجع إلیه فصل الخصومات وینصب الحکّام للولایات ویطلب منهم الأخماس والزکوات ونحوهما من المالیات، وهکذا کان سیرة الخلفاء بعده من الراشدین وغیرهم، حتّی أمیرالمؤمنین علیه السلام ، فإنّه بعد ما تصدی للخلافة الظاهریة کان یقوم بأمور المسلمین وینصب الحکّام والقضاة للولایات. وکانوا فی بادئ الأمر یعملون بوظائف السیاسة فی مراکز الإرشاد والهدایة کالمساجد، فکان إمام المسجد بنفسه أمیرا لهم، وبعد ذلک أیضا کانوا یبنون المسجد الجامع قرب دار

ص: 290

الإمارة، وکان الخلفاء والأمراء بأنفسهم یقیمون الجمعات والأعیاد بل ویدبّرون أمر الحج أیضا، حیث إنّ العباداتِ الثلاثَ مع کونها عباداتٍ قد احتوت علی فوائد سیاسیة لا یوجد نظیرها فی غیرها، کما لا یخفی علی من تدبّر. وهذا النحو من الخلط بین الجهات الروحیة والفوائد السیاسیة من خصائص دین الإسلام وامتیازاته.

الرابع: قد تلخّص مما ذکرناه:

1_ أنّ لنا حوائج اجتماعیة تکون من وظائف سائس الاجتماع وقائده.

2_ وأنّ الدیانة المقدسة الإسلامیة أیضا لم یهمل هذه الأمور بل اهتم بها أشدّ الاهتمام وشرَّعت بلحاظها أحکاما کثیرة وفوَّضت إجراءها إلی سائس المسلمین.

3_ وأنّ سائس المسلمین فی الصدر الأوّل لم یکن إلاّ نفس النبی صلی الله علیه و آله ثمّ الخلفاء بعده.

وحینئذ فنقول: إنّه لمّا کان من معتقداتنا معاشر الشیعة الإمامیة أن خلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وزعامة المسلمین من حقوق الأئمة الاِثْنَی عشر _ علیهم صلوات اللّه _ وأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یهمل أمر الخلافة بل عیَّن لها من بعده علیّا علیه السلام ثمّ انتقلت منه إلی أولاده، عترة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وکان تقمّص الباقین وتصدیهم لها غصبا لحقوقهم، فلا محالة کان المرجع الحق لتلک الأمور الاجتماعیة التی یبتلی بها جمیع المسلمین هو الأئمة الاثناعشر علیهم السلام وکانت من وظائفهم الخاصّة مع القدرة علیها.

فهذا أمر یعتقده جمیع الشیعة الإمامیة، ولا محالة کان مرکوزا فی أذهان أصحاب الأئمة علیهم السلام أیضا. فکان أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازمیهم لا یرون المرجع لهذه الأمور والمتصدی لها عن حق إلاّ الأئمة أو من نصبوهم لها، ولذلک کانوا یراجعون إلیهم فیما یتفق لهم مهما أمکن کما یعلم ذلک بمراجعة أحوالهم.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: إنّه لمّا کانَتْ هذه الأمور والحوائج الاجتماعیة مما یبتلی بها الجمیع مدّة عمرهم غالبا ولم یکن الشیعة فی عصر الأئمة متمکنین من الرجوع إلیهم علیهم السلام فی جمیع الحالات _ کما یشهد بذلک مضافا إلی تفرقهم فی البلدان عدم کون الأئمة مبسوطی الید بحیث یُرْجَعُ إلیهم فی کلّ وقت لأیِّ حاجة اتفقت _ فلا محالة

ص: 291

یحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم وغیرهما من خواصّ الأئمة سألوهم عمّن یرجع إلیه فی مثل تلک الأمور إذا لم یتمکنوا منهم علیهم السلام ، ولا سیّما مع علمهم علیهم السلام بعدم تمکن أغلب الشیعة من الرجوع إلیهم بل عدم تمکّن الجمیع فی عصر غیبتهم التی کانوا یخبرون عنها غالبا ویهیئون شیعتهم لها. وهل لأحد أن یحتمل أنّهم علیهم السلام نهوا شیعتهم عن الرجوع إلی الطواغیت وقضاة الجور ومع ذلک أهملوا لهم هذه الأمور ولم یعینوا من یرجع إلیه الشیعة فی فصل الخصومات والتصرف فی أموال الغُیَّب والقُصَّر والدفاع عن حوزة الإسلام ونحو ذلک من الأمور المهمة التی لا یرضی الشارع بإهمالها؟

وکیف کان فنحن نقطع بأنّ أصحاب الأئمة علیهم السلام سألوهم عمّن یرجع إلیه الشیعة فی تلک الأمور مع عدم التمکّن منهم علیهم السلام وأنّ الأئمة علیهم السلام أیضا أجابوهم بذلک ونصبوا للشیعة مع عدم التمکن منهم علیهم السلام أشخاصا یتمکنون منهم إذا احتاجوا، غایة الأمر سقوط تلک الأسئلة والأجوبة من الجوامع التی بأیدینا ولم یصل إلینا إلاّ ما رواه عمر بن حنظلة وأبوخدیجة.

وإذا ثبت بهذا البیان النصب من قبلهم علیهم السلام وأنّهم لم یهملوا هذه الأُمور المهمة التی

لا یرضی الشارع بإهمالها _ ولا سیّما مع إحاطتهم بحوائج شیعتهم فی عصر الغیبة _ فلا محالة یتعیّن الفقیه لذلک، إذ لم یقل أحد بنصب غیره. فالأمر یدور بین عدم النصب وبین نصب الفقیه العادل، وإذا ثبت بطلان الأوّل بما ذکرناه صار نصب الفقیه مقطوعا به، ویصیر مقبولة ابن حنظلة أیضا من شواهد ذلک.

وإن شئت ترتیب ذلک علی النظم القیاسی فصورته هکذا: إمّا أنه لم ینصب الأئمّةُ علیهم السلام أحدا لهذه الأمور العامّة البلوی وإمّا أن نصبوا الفقیه لها، لکن الأوّل باطل فثبت الثانی. فهذا قیاس استثنائی مؤلّف من قضیة منفصلة حقیقیة وحملیة دلّت علی رفع المقدم، فینتج وضع التالی، وهو المطلوب.

وبما ذکرناه یظهر أن مراده علیه السلام بقوله فی المقبولة: «حاکما» هو الذی یرجع إلیه فی جمیع الأمور العامّة الاجتماعیة التی لا تکون من وظایف الأفراد ولا یرضی الشارع أیضا بإهمالها _ ولو فی عصر الغیبة وعدم التمکن من الأئمة علیهم السلام _ ومنها القضاء وفصل

ص: 292

الخصومات. ولم یرد به خصوص القاضی، ولو سلِّم فنقول: إن المُتَرائی من بعض الأخبار أنه کان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدی سائر الأُمور العامّة البلوی کما فی خبر إسماعیل ابن سعد عن الرضا علیه السلام : «وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ورثة صغار وکبار، أیحلّ شراء خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک؟»(1).

وبالجملة کون الفقیه العادل منصوبا من قبل الأئمة علیهم السلام لمثل تلک الأُمور العامّة المهمة التی یبتلی بها العامّة ممّا لا إشکال فیه إجمالاً بعد ما بیّناه، ولا نحتاج فی إثباته إلی مقبولة ابن حنظلة، غایة الأمر کونها أیضا من الشواهد، فتدبّر»(2).

وقال آیة اللّه السیّد محمود الطالقانی رحمه الله فی تعالیقه علی کتاب «تنبیه الاُمّة وتنزیه الملّة» للمحقّق النائینی: «2_ ما شیعه معتقدیم که مجتهد جامع الشرایط از امام علیه السلام نیابت دارد، قدر مسلم این نیابت در امور حسبیه است (مانند ولایت بر صغار و مجانین و تصرف در اموال بی صاحب و اوقاف مجهول التولیه و صرف آن در موارد خود و از این قبیل) و چون حفظ نظم و حقوق عمومی از اکمل و اوضح موارد امور حسبیه است پس نیابت علماء در این موارد مسلم و وجوب اقامه این وظائف حتمی است»(3).

وقال المحقّق الخمینی رحمه الله : «ثمّ إنّ الاُمور الحسبیّة _ وهی التی علم بعدم رضا الشارع الأقدس بإهمالها _ إن علم أنّ لها متصدّیا خاصّا أو عامّا فلا کلام.

وإن ثبت أنّها کانت منوطة بنظر الإمام علیه السلام ، فهی ثابتة للفقیه بأدلّة الولایة.

ومع الغضّ عنها، لو احتمل أنّ إجراءها لابدّ وأن یکون بنظر شخص کالفقیه العادل، أو الشخص العادل، أو الثقة، فاللازم الأخذ بالمتیقّن، وهو الفقیه العادل الثقة، وإن تردّد بین المتباینین لابدّ وأن تجری بنظرهما.

ولا یخفی: أنّ حفظ الاسلام، وسدّ ثغور المسلمین، وحفظ شبّانهم من الانحراف عن الإسلام، ومنع التبلیغ المضادّ للإسلام ونحوها، من أوضح الحسبیّات، ولا یمکن

ص: 293


1- 1 . راجع التهذیب 9/239، ح20، کتاب الوصایا، باب الزیادات.
2- 2 . البدر الزاهر /(79-73).
3- 3 . حکومت از نظر اسلام، ذیل صفحة 51.

الوصول إلیها إلاّ بتشکیل حکومة عادلة إسلامیّة.

فمع الغضّ عن أدلّة الولایة، لا شکّ فی أنّ الفقهاء العدول هم القدر المتیقّن، فلابدّ من دخالة نظرهم، ولزوم کون الحکومة بإذنهم، ومع فقدهم أو عجزهم عن القیام بها، یجب ذلک علی المسلمین العدول، ولابدّ من استئذانهم الفقیه لو کان.

ثمّ إنّ ما ذکرنا: من أنّ الحکومة للفقهاء العدول، قد ینقدح فی الأذهان الإشکال فیه: بأنّهم عاجزون عن تمشیة الأُمور السیاسیّة والعسکریّة وغیرها.

لکن لا وقع لذلک بعد ما نری أنّ التدبیر والإدارة فی کلّ دولة بتشریک مساعی عدد کبیر من المتخصّصین وأرباب البصیرة، والسلاطین ورؤساء الجُمهوریّات من العهود البعیدة إلی زماننا _ إلاّ ما شذّ منهم _ لم یکونوا عالمین بفنون السیاسة والقیادة للجیش، بل الاُمور جرت علی أیدی المتخصّصین فی کلّ فنّ.

لکن لو کان من یترأّس الحکومة شخصا عادلاً، فلا محالة ینتخب الوزراء والعمّال العدول، أو صحیحی العمل، فیقلّ الظلم والفساد والتعدّی فی بیت مال المسلمین، وفی أعراضهم ونفوسهم.

کما أنّه فی زمان ولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام لم یجرِ جمیع الاُمور بیده الشریفة، بل کان له ولاة وقضاة ورؤساء للجیش ونحوهم، والآن تری أنّ تمشیة الاُمور السیاسیّة أو العسکریّة وتنظیم البلاد وحفظ الثغور کلّ موکولة إلی شخص أو أشخاص ذوی الصلاحیة بنظرهم»(1).

وقال فی دروسه ما نصه بالفارسیة: «ولایت فقیه از موضوعاتی است که تصور آنها موجب تصدیق می شود و چندان به برهان احتیاج ندارد. به این معنی که هرکس عقاید واحکام اسلام را حتّی اجمالاً دریافته باشد چون به ولایت فقیه برسد و آن را به تصور آورد بی درنگ تصدیق خواهد کرد و آن را ضروری و بدیهی خواهد شناخت. این که امروز به ولایت فقیه چندان توجهی نمی شود و احتیاج به استدلال پیدا کرده، علتش

ص: 294


1- 1 . کتاب البیع 2/665 و 666.

اوضاع اجتماعی مسلمانان عموما و حوزه های علمیه خصوصا می باشد. اوضاع اجتماعی ما مسلمانان و وضع حوزه های علمیه ریشه تاریخی دارد که به آن اشاره می کنم...»(1).

وقال الفقیه الکلبایکانی رحمه الله : «وبالجملة لا یبعد استفادة الولایة للفقیه الجامع للشرائط فیما یرتبط بالأُمور العامّة، وحفظ المجتمع والأُمة، وسیاسة الرعیّة والملّة؛ لوضوح أنّ الاجتماع ونظمه لا ینتظم إلاّ بسلسلة من القوانین المجعولة لهم والجاریة فیهم والحاکمة علیهم، حتّی أُوقف کلّ من النّاس علی حدٍّ محدود وحقّ مربوط، ولا یتعدّی بعض علی بعضٍ، ولا یأکل القوی الضعیف، ویقام الاعوجاج، ویرتفع اللجاج، کما فی المروی عن العلل عن الرضا علیه السلام [ما مضمونه أنّه] قال: «کیف یمکن إحالة الجهّال والفسّاق وتخلیة سبیلهم إلی ما هو المقرّر لهم فی الشرع من حرمة ووجوب ولا یکون فیه أمر آخر مربوط بالرئاسة والسیاسة؟!»(2).

فعلی هذا، تارة یقال: یؤخذ بإطلاق الأدلّة العامّة _ مثل: العلماء ورثة الأنبیاء أو أمناء اللّه وخلفاء الرسول _ ویحکم بأنّ کلّ ما کان للنبی والأئمّة علیهم السلام من المناصب فهو ثابت للفقهاء إلاّ ما أخرجه الدلیل، کوجوب الإطاعة فی الأُمور المتعلّقة بشخصهم، والجهاد للدعوة إلی الإسلام، وصلاة الجمعة علی ما یظهر من روایات المسألة. فکلّ مورد قام الدلیل علی اعتبار الإذن الخاصّ من الإمام فیه، أو أنّه ممّا لا یجوز الإقدام علیه لغیر الإمام، نقتصر علیه ونأخذ به.

فعلیه خروج فردٍ من الولایة یحتاج إلی دلیل خاصّ، ولولاه یکفی الدلیل العامّ فی ثبوتها لهم.

وأُخری یقال: إنّ استفادة الولایة المطلقة للفقهاء، وأنّ لهم ما کانت للأئمّة إلاّ ما

أخرجه الدلیل، وإن کان لا یصحّ من الأدلّة العامّة، إلاّ أنّه یصحّ التمسّک بها والاستدلال

ص: 295


1- 1 . حکومت اسلامی /6.
2- 2 . راجع: علل الشرائع /253.

علیها لإثبات الولایة لهم فی الأُمور العامّة المتعلّقة لحفظ الرعیّة، ونظم أمرهم، وصونهم عن التجاوز، وإیقافهم علی حدّ محدود، ومنعهم عن طلب ما لا یستحقّون، وعونهم علی أخذ ما یستحقّون، کما نفینا البُعد عنه فیما تقدّم.

فعلیه یحکم بثبوت الولایة للفقیه، فیما یرتبط بسیاسة الاجتماع وإدارة المجتمع، إلاّ ما أخرجه الدلیل مثل الجهاد للدعوة إلی الإسلام؛ لاختصاصه بالنبی والإمام أو المأذون الخاصّ منه علیه السلام .

وأمّا الجهاد للدفاع عن الإسلام وحوزة المسلمین، إذا خیف علیه من تهاجم الکفّار وحملة الأشرار، فللفقیه أیضا أن یحکم بنفر عدّةٍ وتخلّف قومٍ، أو یحکم بکیفیّة مخصوصة وطرق خاصّة من الدفاع»(1).

وقال المحقّق الروحانی فی تقریب الاِسْتِدْلال ونقده: «وقد یستدل علی الفقیه بوجه عقلی: بیانه: أنه من المعلوم وجود أمور لابدّ من ان تناط بشخص معین واحد یکون هو المدیر لشؤنها والنافذ القول فیها، للزوم اختلال النظام بدون ذلک، کأمر الحدود والتعزیرات وحفظ أموال الیتامی والمجانین ونحو ذلک، فیتعین اناطتها بالفقیه وتوقفها علی إذنه، إذ المقام یکون من قبیل دوران الأمر بین التعیین والتخییر. فإنّه إمّا أن تکون واقعا منوطة بخصوص الفقیه أو بکل أحد، إمّا اناطتها بغیر الفقیه بخصوصه فهو معلوم العدم. وعلیه فبدون الرجوع إلی الفقیه یشک فی مشروعیتها وجوازها، فلابدّ من الرجوع إلیه.

وهذا الاستدلال ممنوع، أوّلاً: بانه أخص من المدعی، إذ هناک من الامور التی لا یعلم بلزوم اناطتها لشخص واحد لعدم اختلال النظام بدون الاناطة، کالصلاة علی المیت أو التصدق بمجهول المالک ونحوهما، فلوتم الدلیل المذکور فهو لا یشمل مثل هذه الصور لعدم تمامیة ملاکه فیها.

وثانیا: بانه لا یقتضی الرجوع إلی الفقیه ولا یعنیه، لان الملاک فی الرجوع إلی

ص: 296


1- 1 . الهدایة إلی من له الولایة/(813-811) المطبوعة فی ضمن رسائل فی ولایة الفقیه.

شخص معین هو لزوم اختلال النظام بدونه. فالرجوع إلی شخصٍ لحفظ النظام.

وذلک یقتضی لزوم الرجوع إلی شخص عارف فی المصالح العقلائیة ومطلع علی

جهات التصرفات وخصوصیاتها وعادل فی دینه لکی لا یخرج عن الحدود الشرعیة سواء کان هذا فقیها مجتهدا أو لیس بفقیه بل کان مقلدا.

ولا یلزم الرجوع إلی الفقیه، لحصول حفظ النظام بغیره بل لو سلم تعیین الفقیه فلابدّ من اشتماله علی جهة المعرفة وحسن التدبیر والتصرف، دون مطلق الفقیه. إذ من الفقهاء من لا یعرف ادارة شؤن نفسه فضلاً عن شؤن غیره، فإنّ العلم بالفقه أجنبی عن الإدراک العرفی والمعرفة الاجتماعیة.

وبالجملة، فمادام لزوم الرجوع إلی شخص بجهة حفظ النظام فالمدار علی العارف والعالم فی الامور العرفیة لا الفقیة، إذ لا ملازمة بین الفقه والمعرفة الاجتماعیة، فلا یحفظ النظام بولایة مطلق الفقیه»(1).

وقال شیخنا الاستاذ قدس سره : «إن قلت: کیف یصح القول بأن النّبی صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام لم یتعرضوا للزعامة فی زمان الغیبة وأن یترکوا المؤمنین حیاری، مع أنّ الدین الإسلامی متکفل لأحکام غیر العبادات والمعاملات من السیاسات التی یکون الغرض منها تنظیم الاُمور الاجتماعیة للمسلمین، وبسط العدالة الإسلامیة فی بقاع الأرض؟

فإنه یقال: عدم استفادة الولایة العامة للفقهاء من الروایات المتقدمة لا یوجب ذلک، حیث یمکن أن یکون عدم التعرض للوظیفة فی ذلک الزمان لعدم حاجة النّاس فی عصرهم علیهم السلام إلی بیانه، وأنه کان أنسب لرعایة التقیة التی کانوا یعیشون حالها وإیکال الأمر وتشخیص الوظیفة إلی فقهاء، زمان الغیبة، حیث یتمکنون ببرکة القواعد الشرعیة والخطابات العامة علی کیفیة تنظیم الاُمور الاجتماعیة وتعیین الوظیفة فیها.

وعلی ذلک فینبغی الکلام فی موضعین:

الأوّل: ما إذا تصدی أمر المسلمین من لیس أهلاً له، کما فی غالب بلاد المسلمین

ص: 297


1- 1 . المرتقی إلی الفِقه الأرقی، کتاب الخمس /307 و 308.

فی عصرنا الحاضر.

الثانی: ما إذا أراد التصدی لأُمور المسلمین من یکون صالحا للتصدی لتنظیم اُمورهم ورعایة مصالحهم.

وأما الموضع الأوّل، فما لا ینبغی الریب فیه أنّ الشارع لا یرضی بتصدی الظالم الفاسق لأُمور المسلمین، لا سیّما إذا کان ذلک الظالم آلة بید الکفار فی تضعیف الإسلام

وأهل الإیمان، وترویج الفسق والفجور لیلحق المسلمین ولو تدریجا برکب الکفار فی رسومهم وعاداتهم، وهدم ما أتعب النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام والصالحین والشهداء من المسلمین فی تشیید أرکان الدین وتطبیق أحکامه علی نظم بلادهم.

والحاصل: نهی الشارع عن الرکون إلی الظالم والأمر بالاعتصام بحبل اللّه والأمر بالکفر بالطّاغَوْتِ وأولیاء الشیطان والأخذ بولایة اللّه سبحانه ورسوله وتمکین النّاس من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وغیر ذلک، شاهد صدق بأنّ علی المسلمین قطع أیدی الظَّلَمَةِ عن المؤمنین وبلادهم مع التمکن مِنْهُ، حیث إنه لو أمکن ذلک بالمقدمات الغیر المحرمة فی نفسها فهو. وأما إذا توقف ذلک علی ارتکاب محرم فی نفسه فلابدّ من ملاحظة الأهمیة بین المتزاحمین، ولا ریب فی أنّ الظالم المزبور إذا کان بصدد هدم الحوزة الإسلامیة وإذلال المؤمنین وترویج الکفر وتسلیط الکفار علی المسلمین وبلادهم، یکون علی المسلمین أخذ القدرة من یده وإیکالها إلی الصالح، فإنّه أهم ولو مع توقفه علی بعض المحرمات بعنوانه الأولی، حتّی القتال مع العلم بالظفر والاطمینان بأخذ القدرة من یده، کلّ ذلک تحفظا علی الحوزة الإسلامیة ودفاعا عن المسلمین وأعراضهم وبلادهم من دنس الکفر والضلال والفساد. هذا کلّه بحسب الکبری.

وأما بحسب الصغری فإن أحرز فقیه حال الظالم وأنه بصدد إذلال المسلمین وتسلیط الکفار علیهم وعلی بلادهم والصدمة علی أعراضهم وأموالهم وحکم بحکم علی طبق إحرازه، فنفوذ حکمه وإن کان مبنیا علی نفوذ الحکم الابتدائی للفقیه العادل، إلاّ أنه إذا اعتقد النّاس به وحصل لهم الجزم بصحة إحرازه ولو مع القرائن یثبت الحکم المتقدم.

ولا یخفی أنّ ما ورد فی بعض الأخبار من الأمر بِلُزُوْمِ البیت والصبر إلی خروج

ص: 298

السفیانی وغیره من المعاملات لخروج القائم _ عجل اللّه تعالی فرجه الشریف _ لا ینافی ما ذکرنا، فإن المراد من تلک الروایات أمر النّاس بعدم الاستجابة لمن یدعو من أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله الخلافة لنفسه، وأن الائمة علیهم السلام لا یتصدون لأمر الخلافة والوصایة للنبی صلی الله علیه و آله إلی ذلک الزمان، ومن یدعو النّاس إلی الخروج إنّما یرید الخروج لنفسه لا للإمام علیه السلام ، وأن لخروجه وقتا محدودا لابد من انتظاره. وأما قضیة الدفاع عن الحوزة الإسلامیة فی زمان الغیبة والتصدی للأُمور العامة للمسلمین تحفظا علی أعراضهم وأموالهم، وتمکین النّاس من الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإسقاط الفسقة والفجرة عن القدرة وإیکالها علی من هو صالح للتصدی لها حسبة من غیر أن یدعی المتصدی الوصایة والخلافة لنفسه،

فلیس فیها نظر إلی ذلک، فلاحظها.

ویزید وضوحا کون تلک الروایات غیر ناظرة إلی صورة الهجوم علی الحوزة الإسلامیة معتبرة یونس عن أبیالحسن الرضا علیه السلام قال: «قلت له: جعلت فداک، إن رجلاً من موالیک بلغه أنّ رجلاً یعطی سیفا وقوسا فی سبیل اللّه فأتاه فأخذهما منه، ثمّ لقیه أصحابه فأخبروه أنّ السبیل مع هؤلاء لا یجوز وأمروه بردّهما؟ فقال: فلیفعل. قال: قد طلب الرجل فلم یجده وقیل له: قد قضی الرجل، قال فلیرابط ولا یقاتل، قلت: مثل قزوین والدیلم وعسقلان وما أشبه هذه الثغور، فقال: نعم. قال: فإن جاء العدو إلی الموضع الذی هو فیه مرابط کیف یصنع؟ قال: یقاتل عن بیضة الإسلام. قال له: یجاهد؟ قال: لا، إلاّ أن یخاف علی دار المسلمین. فقال: أرایتک لو أنّ الروم دخلوا علی المسلمین لم ینبغ لهم أن یمنعوهم، قال: یرابط ولا یقاتل، وإن خاف علی بیضة الإسلام والمسلمین قاتل فیکون قتاله لنفسه ولیس للسلطان. قال: قلت: فإن جاء العدو إلی الموضع الذی هو فیه مرابط کیف یصنع؟ قال: یقاتل عن بیضة الإسلام لا عن هؤلاء؛ لأن فی دروس الإسلام دروس دین محمّد صلی الله علیه و آله »(1) وظاهرها _ کما تری _ عدم البأس بالقتال مع من یکون

ص: 299


1- 1 . الکافی 9/393، ح2 (5/21)؛ وسائل الشیعة 15/30، ح2، الباب 6 من أبواب جهاد العدو وما یناسبه.

استیلاؤه علی المسلمین وبلاده موجبا لضعف الإسلام وانهدام معالمه، بلا فرق بین زمان الحضور والغیبة کما لا یخفی.

الموضع الثانی: فنقول: لا ینبغی الریب فی أَنَّ تهیئة الأمن من المؤمنین بحیث تکون بلادهم علی أمن من کید الأشرار والکفار من أهم مصالحهم، والمعلوم وجوب المحافظة علیها وإنّ ذلک مطلوب للشارع، فإن تصدی شخص صالح لذلک بحیث یعلم بِرِضا الشارع بتصدیه، کما إذا کان فقیها عادلاً بصیرا أو شخصا صالحا کذلک مأذونا من الفقیه العادل، فلا یجوز للغیر تضعیفه والتصدی لإسقاطه عن القدرة، حیث إنّ تضعیفه إضرارا للمؤمنین ونقض للغرض المطلوب للشارع، بل یجب علی الآخرین مساعدته وتمکینه فی تحصیل مهمته، ومن المساعدة علیه التبرع فی الجیش الذی یمهده لحفظ الثغور والدخول فی القوی التی اُوکل إلیهم حفظ الأمن الداخل المأخوذ علی عاتق النّاس حسبة. ویشبه المقام ما إذا وضع فقیه عادل یده علی مال الیتیم أو علی مال الوقف الذی لا متولّی له، فإنّه لا یجوز للغیر ممانعته وتهیئة المقدمة لوضع یده علیها، غایة الأمر أنّ

وجه عدم الجواز فی الثانی حرمة التصرف فی تلک الأموال وفی الأوّل؛ لکونه تضعیفا لحوزة المسلمین، وإخلالاً لأمر انتظام بلادهم وأمنهم کما لا یخفی.

ثمّ إنه إذا توقف تأمین نظام البلاد علی تحصیل المال کالزکاة، حیث یجوز صرفها علی تحصیل الأمن ونظام البلاد، وجب إیصالها إلیه مع احتیاجه ومطالبته بها، بل لو طالب المال تبرعا فی صورة احتیاجه وجب علی النّاس الاستجابة، کلّ ذلک تمکینا للمتصدی من المال اللازم لتهیئة أمن البلاد وتأمین الحوائج العامة التی تصدی لتأمینها، کما أنّ للمتصدی تحصیل المال بإخراج المعادن من الأراضی المباحة ووضع الید علی الغابات ونحوها. وتکون کلّ هذه الأموال ملکا للحکومة الاسلامیة، نظیر ملک المال للعناوین ولا تدخل فی ملک شخص المتصدی، غایة الأمر یکون للمتصدی الولایة فی التصرف فی تلک الأموال؛ لیصرفها فی الموارد التی یتوقف علیها نظام البلاد وتأمین حوائج أهلها.

ص: 300

ولا یبعد(1) أیضا أن یقال بوجوب إطاعة المتصدی المزبور فی الاُمور الراجعة إلی الجهات التی أشرنا إلیها، أخذا بقوله سبحانه: «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(2) وما ورد فی تفسیره من أنّ المراد باُولی الأمر الأئمة علیهم السلام لا ینافی ذلک، حیث إن ذلک لنفی ولایة ولاة الجور، وأنّهم علیهم السلام هم اُولو الأمر لا المشار إلیهم.

ولا یخفی أنّ کلّ تصرّف لا یخرج عن حدود التحفظ علی حوزة الإسلام والمسلمین نافذ للتصدی لاُمور المسلمین، فیما إذا کان مقتضی الأدلة الأولیة جوازه، کهیئة مراکز الثقافة لنشر العلوم وبسط الرفاه الاجتماعی، وأن کلّ تصرف یکون مقتضی

الأدلة عدم جوازه، کالتصرف فی بعض أموال آحاد النّاس وأخذه قهرا علیهم وأمثال ذلک، فلا یدخل فی ولایة المتصدی حتّی فیما إذا اعتقد المتصدی أو وکلاؤه جوازه لبعض الوجوه، إلاّ فیما أشرنا إلیه سابقا، کما یجوز لسائر الفقهاء التصدی لبعض الاُمور الحسبیة، فیما إذا لم یکن التصدی لها مزاحمةً وتضعیفا لمرکز المتصدی للزعامة، کنصب القیم للیتیم والتصدی لتجهیز میت لا ولیّ له ونحو ذلک، واللّه سبحانه هم العالم»(3).

وقال بعض الاساتیذ رحمه الله : «إنّ النظام والحکومة أمر ضروری للبشر، وأنّ حیاتهم فی

ص: 301


1- 1 . قد عدل عن هذا الرأی شیخنا الاستاذ قدس سره فی أجوبة استفتائاته وذهب إلی اختصاص الآیة بالأئمة المعصومین علیهم السلام وقال: «إنّ الأمر الوارد فی اتباع الفقهاء والعلماء والأخذ بحدیث الثقات من الرواة أمر إرشادی لحجّیة قولهم کما قرّر فی علم الأُصول، فلابدّ من تقییده عقلاً بصورة عدم العلم بمخالفته للواقع، فإنّ جعل شیء طریقا للواقع إنّما هو فی فرض احتمال مطابقته للواقع. وأمّا الأمر المذکور فی الآیة فهو أمر مولوی نفسی، وحیث إنّه لا یعقل إطلاق الأمر وشموله لصورة أمر النبی وأُولی الأمر علیهم السلام بما فیه مخالفة لأمر اللّه تعالی، فلا محالة یکون مقتضی الإطلاق فی الأمر بإطاعة النبی صلی الله علیه و آله وأُولی الأمر هو عصمة الشخص المطاع مطلقا، فیکون المراد بأُولی الأمر المعصومین علیهم السلام . ویؤکّده قرن الأمر بطاعتهم بالأمر بطاعة اللّه ورسوله، واللّه الهادی إلی سواء السبیل» [الأنوار الإلهیة فی المسائل العقائدیة /101].
2- 2 . سورة النساء /59.
3- 1 . إرشاد الطالب 4/(220-215).

جمیع مراحلها وأدوارها حتّی فی العصور الحجریة وفی الغابات لم تخل من قانون وحکومة ما، فإنّ الإنسان مدنی بالطبع ولا تتم حیاته ومعیشته إلاّ فی ظلّ الاجتماع والتعاون والمبادلات، وله شهوات وغرائز ومیول مختلفة من حبّ الذات والمال والجاه والحریة المطلقة فی جمیع ما یریده ویهواه، ولا محالة یقع التزاحم والصراع والتضارب بین الأفکار والأهواء فلابدَّ له من قوانین ومقررات، ومن قوة وقدرة نافذة محدّدة منفذة للمقررات حافظة للنظام ومانعة من التعدّی والتکالب وحافظة للثغور والأطراف. ولا نعنی بالحکومة والولایة إلاّ هذه. بل الحیوانات أیضا تحتاج إلی نحو من هذا النظم والقدرة، کمانشاهد ذلک فی أنواع النمل والنحل ونحوهما.

ولو فرض محالاً أو نادرا تحقّق الرشد الأخلاقی والثقافة الکاملة فی جمیع أفراد البشر والتناصف والإیثار بینهم، فالاحتیاج إلی نظام یدبر أمورهم الاجتماعیة یؤمّن حاجاتهم من جلب الأرزاق وتأمین الأمور الصحیّة والتعلیم والتربیة والمواصلات والمخابرات وإیجاد الطرق والشوارع وسائر المؤسّسات الرفاهیة وجبایة الضرائب لتأمینها ممّا لا یقبل الإنکار. ولا یختص هذا بمصر دون مصر أو عصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.

فما عن أبیبکر الأصم من عدم الاحتیاج إلی الحکومة إذا تناصفت الأمة ولم تتظالم، وما عن مارکس من عدم الاحتیاج إلیها بعد تحقّق الکمون المترقی للبشر وارتفاع الاختلاف الطبقی بینهم واضح الفساد... .

وکیف کان فالإمامة بالمعنی الأعم ضرورة للبشر فی جمیع الأعصار، وبقاء الأمة ببقاء الإمامة. فلا یجوز للشارع الحکیم اللطیف بالأمة الإسلامیة إهمال هذه المهمة وعدم

تعیین وظیفة المسلمین بالنسبة إلی أصلها وشرائطها وحدودها حتّی بالنسبة إلی عصر الغیبة، لعدم تفاوت الأزمنة فی ذلک... .

فإذا فرض أن الإسلام لم یهمل [حتّی] مثل أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة فکیف یهمل ما فیه نظام أمر الأمّة بعد النبی صلی الله علیه و آله أو فی عصر الغیبة؟

إنّ قیّم قریة صغیرة إذا أراد أن یسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه ووجدانه یعیّن مرجعا

ص: 302

للأمور یرجع إلیه فی غیابه، فهل کان النبی صلی الله علیه و آله وهو عقل الکل أقل التفاتا وحرصا علی حفظ الإسلام الذی صرف فیه طاقاته وطاقات المسلمین مدی عمره الشریف؟! ...

وبالجملة، الحکومة والإمامة وحفظ النظام ضرورة للبشر فی جمیع الأعصار. فلا یُظَنّ بالشارع الحکیم إهمالها وعدم التعرض لها ولحدودها وشروطها. وما ذکرناه إلی هنا یکفی لإثبات المطلوب، فلیجعل الأخبار والأدلة الآتیة مؤیدات أو موّکدات فلا یضرّنا ضعف بعضها من جهة السند، فتدبر»(1).

وقال آیة اللّه الحاج آقا علی الصافی الکلبایکانی قدس سره : «وأمّا حکم العقل، فهو أن یقال، بعد ما یکون کل من النّاس، بحسب غرائزهم الحیوانیة، مایلاً إلی الشّهوات، وانجاح آمالهم وإن کان هذا فی حقوق الغیر والتجاوز فی حدود الآخرین، مضافا إلی أنّ مدنیّتهم، تقتضی نظاما رابطا بین أفرادهم، حتّی یصیروا متحدّا فی هذا النّظام ولولا رادع فی ما بینهم، یردعهم عمّا لیس حقّهم وحفظهم فی حدودهم، وإلاّ انجرّ أمرهم إلی السفال والزّوال فلابدّ من سائس وقیّم بینهم، مع قانون، یعملون علی طبق هذا القانون، مع هذا القیّم لانّ صرف القانون، لا یکفی لحفظ نظامهم، مع ما هم علیه، من الأهواء والسلطة علی نوعهم:

فإذا کان هذا حکم العقل، نقول بانّ هذا السّائس لابدّ من أن یکون، مِنْ قبل اللّه تعالی، کما بیّن فی مقام لزوم بعث الرّسل والإمام أو مِنْ قبل النّبی أو مِنْ قبل الإمام وهو الفقیه؛

ویدل علیه ما تلونا علیک، من الأخبار الدّالة علی ولایة الفقیه، فما حکم به العقل حکم به الشرع أیضا؛

مضافا إلی أنّه لو لم یکن نص علی ولایة الفقیه، لابدّ بعد حکم العقل، بما قلنا من

لزوم وجود السائس والقیّم من أنّ المتیقن، هو الفقیه، لأنّه العارف بموازین الاسلامیة وسیر العباد، إلی سلوک مسلک الدّین، لا غیر الفقیه وهذا دلیل مستقل علی ولایة

ص: 303


1- 1 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(171-167).

الفقیه»(1).

وقال الفیلسوف الکبیر العلاّمة الشیخ محمّدتقی الجعفری رحمه الله فی شرحه علی نهج البلاغة ما نصه بالفارسیة: «حکومت و سیستم مدیریت جامعه در هر شکل عالی هم که باشد ناشی از مشاهدات و فعالیت ها و تجارب معمولی طبیعی است و هیچ گونه جنبه فوق طبیعی ندارد و حتّی نیازی به دریافت ها و تفکرات عقلانی والا ندارد، باید مورد تجدید نظر قرار بگیرد، زیرا موجودیت انسان یک حقیقت طبیعی محض نیست، بلکه دارای طبیعت ربانی نیز می باشد که بشر با قطع نظر از آن، محکوم به زیستن در تاریخ طبیعی حیوانی دارای ابعاد متنوع تر می باشد. از اینجا است که می توان گفت: آن گروه از زمامداران و حکّام جوامع که با امکان شکوفا ساختن هر دو بعد طبیعی و ربانی مردم، آنان را تنها با بعد طبیعی محض اداره کرده اند، قطعا مرتکب خطا شده اند. خلاصه اینکه ما حتما باید در ماهیت و طبیعت بشر، «آنچنان که هست» هر دو بعد موجودیت او را در نظر بگیریم و استعداد و طبیعت الهی را از قلمرو «آنچنان که هست» حذف نکنیم و این گناه نابخشودنی را که بشر را در همان طبیعت حیوانی او خلاصه می کند، مرتکب نشویم.

اینکه به افلاطون نسبت داده شده است: مُتْ بِالاْءِرادَةِ تَحیْی بِالْطَّبِیعَةِ (غرایز حیوانی خود را با اراده مهار کن تا با طبیعت حقیقی [ربانی] جان خود، جاودان بمانی.) اشاره به همین حقیقت است که طبعیت الهی و فوق طبیعی آدمی نیز، طبیعت یا ماهیت اصلی او محسوب می گردد.

از مجموع مطالب فوق به یک نتیجه بسیار بااهمیت می رسیم و این است که آن سخن جاودانی امیرالمؤمنین علیه السلام که می فرماید: لابُدَّ لِلنّاسِ مِنْ أَمیرٍ بَرٍّ أو فاجرٍ (برای مردم زمامداری لازم است خواه نیکوکار و خواه بدکار) [خطبه 40] نباید چنین تفسیر شود که حکومت صالح و ناصالح برای مدیریت حیات اجتماعی مردم به طور مطلق

ص: 304


1- 1 . الدلالة إلی من له الولایة /70.

مساوی است، بلکه عقلای جامعه همان گونه که دین الهی دستور می دهد باید نهایت

تلاش را برای به وجود آوردن حکومت صالحان انجام بدهند و این یک تکلیف قطعی و جهانی و عقل عملی و دینی است که گمان نمی رود حتّی یک فرد خردمند که از ماهیت و ارزش های حیات انسان ها، و هدف اصلی آن مطلع باشد، آن را انکار کند یا نادیده بگیرد.

البته در صورتی که دسترسی به حکومت صالحان امکان پذیر نباشد، و با هیچ سعی و تلاشی امکان چنان حکومتی وجود نداشته باشد، به مقتضای اصل اساسی ضرورت ادامه حیات فردی و اجتماعی حاکم غیرصالح نیز به جهت اضطرار، ضرورت پیدا می کند و اگر عدم صلاحیت حاکم در حدی باشد که زندگی انسان های جامعه به جهت احساس اهانت و ذلت شدید به پوچی برسد، در این صورت، قیام برای نصب حاکم صالح و براندازی ناصالح، تکلیف به تلاش و کوشش شدیدتر می گردد. این حکم بدیهی عقل نظری و عقل عملی است»(1).(2)

ص: 305


1- 1 . ترجمه و تفسیر نهج البلاغة 25/180 و 181.
2- 2 . قد تمّ تصحیح هذه الاوراق علی یدّ مؤلِّفها فی الحرم الرضوی _ سلام اللّه علی صاحبه _ فی اللیلة الجمعة السادس من شهر ذی القعدة الحرام سنة 1436 والحمد للّه علی کلّ النعمة.
3_ إثبات ولایة الفقیه بأنّ الحکومة جوهرة الإسلام

الحکومة والسلطة والقدرة وحفظ النظام الاِجْتماعی للبشر من ذاتیات الإسلام وأرکانه وأجزائه الرَّئیسة ونسیجه الثانی وجوهرته الواقعی. وقال الإمام الخمینی رحمه الله : «من نظر إجمالاً إلی أحکام الإسلام، وبسطها فی جمیع شؤون المجتمع؛ من العبادیّات التی هی وظائف بین العباد وخالقهم، کالصلاة والحجّ، وإن کانت فیهما أیضا جهات اجتماعیّة وسیاسیّة مربوطة بالحیاة والمعیشة الدنیویّة، وقد غفل عنها المسلمون، ولا سیّما مثل ما فی الاجتماع فی الحجّ فی مهبط الوحی ومرکز ظهور الإسلام.

ومع الأسف، قد أغفلوا برکات هذا الاجتماع الذی سهّل تحقّقه لهم الشارع الأقدس بوجه لا یتحقّق لسائر الدول والملل إلاّ مع جهاد عظیم، ومصارف خطیرة.

ولو کان لهم رشد سیاسیّ واجتماعیّ، أمکن لهم حلّ الکثیر من المسائل المبتلی بها؛ بتبادل الأفکار، والتفاهم والتفکیر فی حاجاتهم السیاسیّة والاجتماعیّة.

وَمَن [سَبَرَ] القوانینَ الاقتصادیّةَ والحقوقیّةَ والاجتماعیّة والسیاسیّة، لرأی أنّ الإسلام لیس عبارة عن الأحکام العبادیّة والأخلاقیّة فحسب، کما زعم کثیر من شبّان المسلمین بل وشیوخهم؛ وذلک للتبلیغات المشؤومة المسمومة المستمرّة من الأجانب وعمّالهم فی بلاد المسلمین طیلة التاریخ؛ لأجل إسقاط الإسلام والمنتسبین إلیه عن أعین الشبّان وطلاّب العلوم الحدیثة، وإیجاد الافتراق والتباغض بین المسلمین قدیمهم وحدیثهم.

وقد وقفوا فی ذلک إلی حدّ لا یتیسّر لنا رفع هذه المزعمة والتهمة بسهولة، وفی أوقات غیر طویلة.

فعلی المسلمین _ وفی طلیعتهم الروحانیّون وطلاّب العلوم الدینیّة _ القیام بوجه تبلیغات أعداء الإسلام بأیّة وسیلة ممکنة، حتّی یظهر أنّ الإسلام قام لتأسیس حکومة

ص: 306

عادلة، فیها قوانین مربوطة بالمالیّات وبیت المال، وأخذها من جمیع الطبقات علی نهج عادل.

وقوانین مربوطة بالجزائیّات قصاصا وحدّا ودیةً؛ بوجه لو عمل بها لقلّت

الجنایات لو لم تنقطع، وانقطعت بذلک المفاسد المترتّبة علیها، کالتی تترتّب علی استعمال المسکرات من الجنایات والفواحش إلی ما شاء اللّه تعالی(1)، وما تترتّب علی الفواحش «ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ».

وقوانین مربوطة بالقضاء والحقوق علی نهج عادل وسهل، من غیر إتلاف الوقت والمال، کما هو المشاهد فی المحاکم الفعلیّة.

وقوانین مربوطة بالجهاد والدفاع والمعاهدات بین دولة الإسلام وغیرها.

فالإسلام أسّس حکومة لا علی نهج الاستبداد المحکّم فیه رأی الفرد ومیوله النفسانیّة فی المجتمع، ولا علی نهج المشروطة أو الجمهوریّة المؤسّسة علی القوانین البشریّة، التی تفرض تحکیم آراء جماعة من البشر علی المجتمع.

بل حکومة تستوحی وتستمدّ فی جمیع مجالاتها من القانون الإلهیّ، ولیس لأحد من الولاة الاستبداد برأیه، بل جمیع ما یجری فی الحکومة وشؤونها ولوازمها لابدّ وأن یکون علی طبق القانون الإلهیّ، حتّی الإطاعة لولاة الأمر.

نعم، للوالی أن یعمل فی الموضوعات علی طبق الصلاح للمسلمین، أو لأهل حوزته، ولیس ذلک استبدادا بالرأی، بل هو علی طبق الصلاح، فرأیه تبع للصلاح کعمله.

وبعد ما عرفت ذلک نقول: إنّ الأحکام الإلهیّة _ سواء الأحکام المربوطة بالمالیّات، أو السیاسیّات، أو الحقوق _ لم تنسخ، بل تبقی إلی یوم القیامة، ونفس بقاء تلک الأحکام یقضی بضرورة حکومة وولایة، تضمن حفظ سیادة القانون الإلهیّ، وتتکفّل بإجرائه، ولا یمکن إجراء أحکام اللّه إلاّ بها؛ لئلاّ یلزم الهرج والمرج.

ص: 307


1- 1 . لیس هذا التعبیر مُناسبا هُنا فإنَّ اللّه تعالی لا یُشاءُ استعمال المسکّرات ونحوها من المحظورات فلابدّ من تبدیله ب_ «ما هُنالِکَ مِنَ الآفات المُبیرة أی المهلکة». [المؤلِّف]

مع أنّ حفظ النظام من الواجبات الأکیدة، واختلال أُمور المسلمین من الأُمور المبغوضة، ولا یقام بذا، ولا یسدّ هذا إلاّ بوال وحکومة.

مضافا إلی أنّ حفظ ثغور المسلمین من التهاجم، وبلادهم من غلبة المعتدین، واجب عقلاً وشرعا، ولا یمکن ذلک إلاّ بتشکیل الحکومة، وکلّ ذلک من أوضح ما یحتاج إلیه المسلمون، ولا یعقل ترک ذلک من الحکیم الصانع.

فما هو دلیل الإمامة، بعینه دلیل علی لزوم الحکومة بعد غیبة ولیّ الأمر _ عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف _ ، ولا سیّما مع هذه السنین المتمادیة، ولعلّها تطول _ والعیاذ بالله _

إلی آلاف من السنین، والعلم عنده تعالی.

فهل یعقل من حکمة الباری الحکیم إهمال الاُمّة الإسلامیّة، وعدم تعیین تکلیف لهم، أو یرضی الحکیم بالهرج والمرج واختلال النظام، ولا یأتی بشرع قاطع للعذر؛ لئلاّ تکون للنّاس علیه حجّة؟!

وما ذکرناه وإن کان من واضحات العقل؛ فإنّ لزوم الحکومة _ لبسط العدالة، والتعلیم والتربیة، وحفظ النظم، ورفع الظلم، وسدّ الثغور، والمنع عن تجاوز الأجانب _ من أوضح أحکام العقول، من غیر فرق بین عصر وعصر، أو مصر ومصر، ومع ذلک فقد دلّ علیه الدلیل الشرعیّ أیضا»(1).

وقال الفقیه الشریعتمداری رحمه الله : «توضیح ذلک یقتضی ذکر مقدّمة مفیدة لازمة، وهی أنّ موقف مسألة الحکومة من الإسلام ماذا؟ هل تکون جزء من جوهر الإسلام، ومن أرکانه وأجزائه، أو شیء خارج عنه؟

فتارةً یتوهّم أنّ الإسلام مجموع سلسلة من النّصائح الخلقیّة التی یکون العمل بها أمرا اختیاریّا، أو لازما علی حدّ لزوم التّخلّق بالآداب الحسنة فیکون الإسلام بمنزلة ما نقل من الحکماء وفلاسفة الهند من المطالب الحکمیّة، وبمنزلة الأمثال التی تذکر بلسان الحیوانات وغیرها للتّذکیر والتّنبیه.

ص: 308


1- 1 . کتاب البیع 2/(620-617).

ولازم هذا التّوهّم أنّه لیس فی جواهر الإسلام قوانین بها تقدر علی إرادة المجتمع الإسلامی، بل الإسلام کلّه نصائح فنحو هذه المسائل: المجتمع الإسلامیّة کیف ینبغی أن یدار؟ ووظیفة الدّولة والحکومة بالنّسبة إلی النّاس، وکذلک وظیفة الرّعایا فی مقابل الدّولة والحکومة ماذا؟... لم یکن فی قوانین الإسلام موردا للتوجّه فعلی هذا النّوع من التّفکیر مسألة الحکومة مثل الاُمور العادیّة کالاکل والشّرب، والصّنعة وغیرها من الأُمور العادیّة اللازمة للمجتمع غیر داخلة فی تعالیم الإسلام لم یتعرّض لها الإسلام.

وربّما یذکر تأییدا لما یتوهّم سیرة عیسی علیه السلام فی عصره، وعدم تدخّله فی الحکومة، بل وصیّته لاُمّته بترک التّدخّل، حیث کان نظره الأعلی ومقصوده الغائی النّصح، تحریض اُمّته وأتباعه نحو عالم المعنی والملکوت؛ ولذا نقل عنه علیه السلام من جملة نصائحه هذه العبارة: «أُعطوا ما لقیصر لقیصر وما للّه للّه».

وتارة أُخری قد یتوهّم أنّ الحکومة الإسلامیّة فی صدر الإسلام فی زمن رسول اللّه صلی الله علیه و آله حدثت مصادفة من دون أن تدخل فی جوهر الإسلام کما کتب أحد کُتّاب أهل السّنّة قبل أربعین سنة تحت عنوان: «هل النّبیّ کان ملکا؟» واختار فی مطاوی کلماته أنّ النّبی صلی الله علیه و آله لم یکن ملکا، وتشکیل حکومته کان أمرا اتّفاقیّا، ولم تکن الحکومة جزء من قوانین الإسلام.

ولا یخفی علیک أنّ هذا الکتاب _ وان کان مقصوده تنزیه الإسلام عمّا ارتکبه الأُمویّون والعباسیّون من أُمورٍ تنافی الإسلام مستدلاًّ علی ذلک بأنّ الإسلام دین منفصل عن الدّولة، ولیس من قواعده إنشاء حکومة إسلامیّة _ إلاّ أنّه قد جافی الحقیقة فی هذا القول وخالف آراء جمیع علماء المسلمین، ولذلک اعترضوا علیه وحاکموه، وطردوه، ونشروا کتبا فی الردّ علیه، ووهن نظره الضّعیف.

وأنت بأدنی نَظَرٍ فی هذه التّوضیحات تعرف أنّ هذه الاوهام مبنیّة علی جعل مسألة الحکومة من المسائل المتروکة المغفول عنها، والحال أنّ الإسلام حکومة حقّة، ودولة إلآهیّة، وأنّها کانت من شؤون النّبوّة والرّسالة، وأنّ إمامة أئمّتنا المعیّنة من عند اللّه والمغصوبة من طرف النّاس لَیْسَتْ إلاّ بمعنی حقّ الحکومة الحقّة الحقیقیّة، أو الحکومة

ص: 309

داخلة فیها قطعا، بل ذلک من اُصول مذهبنا. فکیف تجعل موردا للبحث الفقهیّ الفرعیّ، ویستدلّ علیها بما لا یدلّ علیها تمام الدّلالة؟

نشأة الحکومة الإسلامیة:

ونحن فی هذا الصدد یلزم علینا أن نحدّد نشأة الحکومة الإسلامیة وموقعها التاریخی.

إنّ سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تنقسم إلی مرحلتین:

الاُولی فی مکّة: ویمکن اعتبار هذه المرحلة بعیدة عن تکوین الدّولة الإسلامیة، إنّما هی بدایة عامّة. فالظّروف الّتی سایرت الرّسول صلی الله علیه و آله وهو فی مکّة لم تساعده علی وضع اللَّبِناتِ الأُولی لحیاة حکومة الإسلام، فقد کان مشغولاً فی التّخطیط لزرع الدّعوة فی النّفوس، وجمع المسلمین حوله، وکشف أهمیّة الإسلام، ولم یکن النّاس علی استعداد لتفهّم ما یدعو إلیه الرّسول، لهذا ولأوّل وهلة وقفت قریش وأتباعها معارضة ومحاربة له ولدعوته، حتّی اضطرّ أن یشیر علی عدد من أتباعه أن یهاجروا إلی الحبشة سَلامَةً لأنفسهم من غدر المعارضین، وإلی آخر ما یحدّثنا التّاریخ من المآسی والأحداث الدامیّة

الّتی توجّهت إلی المسلمین فی هذه المرحلة.

الثانیة فی المدینة: ویمکن اعتبار هذه المرحلة هی الانطلاقة الواضحة لتکوین الدّولة الإسلامیّة، فقد حصل تحوّل خطیر فی سیاسة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، وذلک بعد أن اطْمَأَنَّ فی المدینة إلی وجود المقوّمات الایجابیة للقیام بهذه المهمّة السماویّة، وأنّ أصحابه والصّفوة الطّاهرة من المهاجرین والأنصار بعیدة عن خطر قریش وظلمها، وسعة من العمل.

وبدأ الرّسول یشرّع القوانین الّتی تکفل سلامة الفرد علی ضوء الآیات النّازلة من اللّه سبحانه، ولو ألقینا نظرة علی الآیات الکریمة الّتی نزلت فی المرحلة الأُولی فی مکّة لرأیناها تتضمّن _ جمیعها _ النّصح والموعظة، والحثّ علی التّحلّی بِالأخلاقِ، وبعض الجوانب العقائدیّة، حتّی قیل إنّ الآیات الّتی نزلت فی مکّة وتخصّ الزکاة والصّلاة لم یقصد بها المعنی المصطلح. فی حین أنّ ما نزل من الآیات فی المدینة نری فیها التّشریع والتّقنین لتنظیم أُمور المسلمین، وسیاسة المجتمع، وعلاقاته بأفراده والآخرین، وکذلک

ص: 310

العلاقات الدّاخلیّة والخارجیّة، والنّظام المالیّ، وطبیعة الحکومة الّتی یجب أن تحکم وهکذا.

ولو حاولنا ضرب الامثلة القرآنیّة فی کثیر من الجوانب، والّتی عالجها الإسلام لضاق بنا المجال، ولم تکن مُعالَجَةُ الإسلام لجانب من الجوانب محدّدا لوقت من الاوقات، أو زمان من الازمنة إنّما هو فی واقعه قانون فیه قابِلِیَّةُ الاِستمرار والإدامة إلی أیّ عصرٍ وَآنٍ. وأستغرب جدّا مِنْ تَوَهُّم بعض الّذین لا یرون فی الإسلام قابلیّة استمراریّة الحکم فیه اعتقادا منهم أنّ قوانینه صالحة لظرف معیّن، وخاصّة فی صدر الإسلام، ویبنون رأیهم هذا علی أساس الجانب المالیّ فی الإسلام؛ فإنِّ الحکومةَ الإسلامیّةَ والّتی لابدّ أن تسایر التّطوّر العلمیّ لا یمکن أن تقیم قواعدها علی منبع مالیٍ کلّ إعتماده علی الزّکاة وأمثاله فی حین أنّ مستلزمات تأسیس الحکومة تقتضی منبعا مالیّا واسعا.

غیر أنّنا نؤکّد _ وَنَحْنُ فی صدد الردّ _ لأمثال هؤلاء الذّاهبین بعیدا عن تفهّم حقیقة الإسلام أنّ الإسلام فی حیاته المادیّة، وتسییر دفّة حکومته لم یعتمد علی هذا الْجانِبِ الضّئیل من الموارد المالیّة، فهناک جوانب اُخری تکفل للإسلام الإستمرار المالیّ عند تشکیل حکومته، ودیمومتها إذ للحاکم الشّرعی _ سواء کان النّبی صلی الله علیه و آله ، أو من بعده الأئمّة علیهم السلام أو من یتولّی السلطة الشرعیّة من بعدهم _ أن یلزموا الأُمّةَ بأداء الأموال الکافیة لسدّ حاجة ومتطلّبات الحکومة الإسلامیة.

إنَّ الحکومةَ الإسلامیّةَ الّتی نبحث عنها، وهی حکومة الرّسول الأعظم والأئمة [الطّاهِرِیْنَ] الکرام تختلف کلّ اختلاف عن الحکومات الّتی سبقت الإسلام، أو الّتی جاءت بعد ظهوره والّتی تعتمد التّشریعات الوضعیّة؛ ذلک لانّ الحکومة الإسلامیّة هی من تخطیط اللّه سبحانه، وهو خالق الکون والانسان، وهو أعرف من غیره بمصلحة البشر. فعند ما یضع القوانین للإنسانیّة _ الّتی یختار لهم حتما الصّالح لبقائها _ لابدّ أن تتوفّر فیها کلّ المقوّمات الکافیة لحفظ البشریّة.

أمّا القوانین الوضعیّة، فهی تعتمد الحسّ والتّجربة، وهذه القوانین المبنیّة علی هذین الأساسین تتعرّض دائما للتّغییر والتّحریر، ولم تتمکّن من إعطاء الصّورة الکاملة

ص: 311

للحکم کما یتجلّی ذلک فی الحکومات الرأسمالیّة، والشّیوعیّة، والدیمقراطیّة، والاستبدادیّة المطلقة وأمثال ذلک. فانّنا نری أنّ قوانینها دائما معرّضه للتّحویر والتّصحیح والتّبدیل، فی حین أنّ القرآن _ ذلک الدّستور الخالد _ لم یتغیّر، ولم یتبدّل رغم مرور هذه الحقبة الطویلة من الأعوام، وأنّه یملک القابلیّة الکافیة للحکم بموجبه.

ویؤسفنا أنّ الظّروف القاسیة الّتی صاحبت(1) مسیرة الإسلام قد أوقفت جری الحکومة الإسلامیّة من الاستمرار نتیجة الانحرافات، والإتّجاهات الّتی تعرّض لها فی طول هذه القرون.

وبالجملة: من الواضحات التّاریخیّة أنّ هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، ومن تبعه من المسلمین من مکّة إلی المدینة لیست أمرا عادیّا، بأن عاش صلی الله علیه و آله مدّة فی مکّة، ثمّ هاجر وسافر إلی المدینة وأقام فیها من دون هدف إسلامی خاصّ، بل هی مبدأ تحوّل خطیر فی الإسلام، ومشخّصة للدّورتین والمرحلتین الْمُمْتازَتَیْنِ: المرحلة الأولی فی مکّة، والمرحلة الثّانیة فی المدینة.

النّظر الدّقیق فی التّواریخ المعتبرة الإسلامیّة یعطینا أنّ کلّ واحدة منهما تمتاز عن الأُخری بممیّزات، ومشخّصات.

فمنها: أنّه فی الزّمن الّذی عاش فیه النّبیّ صلی الله علیه و آله فی مکّة لم تکن قد تکوّنت الحکومة الحقّة بالمعنی الصّحیح لها بعد، وکان المسلمون فیها متفرّقین ومتشتّتین ومستضعفین، بحیث کانوا تارةً محصورین فی شِعْبِ أبیطالب خوفا من الکفّار والمشرکین، وتارةً

مهاجرین إلی الحبشة خوفا، أو معذّبین بأنواع العذاب الّذی ذُکِرَتْ تَفاصِیْلُهُ فی التّواریخ المعتبرة الموجودة.

أمّا بعد هجرة النّبیّ صلی الله علیه و آله ، ومن تبعه من المسلمین إلی المدینة المنوّرة فقد حصل مبدأ تحوّل کبیرٍ فی العالم الإسلامیّ، وتکوّنت الحکومة الحقّة، وحدثت قدرة وتحوّل للإسلام من جهات مختلفة. وقد ترتّبت علیها آثارٌ إسْلامِیَّةٌ متعدّدة کما یظهر لمن تأمّل

ص: 312


1- 1 . الأَوْلی أنْ یُقالَ: زامَنَتْ. [المؤلّف]

فی الآیات القرآنیّة أدنی تأمّل، حیث أنّ الآیات النّازلة فی مکّة تفترق عن الآیات النّازلة فی المدینة المنوّرة من جهاتٍ شتّی، ونحن نتعرّض هنا لبعضها إجمالاً حذرا عن الإطالة.

منها: أنّ الآیاتِ النّازلةَ فی مکّة أکثرها تتضمّن ما یکون مناسبا لحال النّبیّ وأتباعه، فهی تتضمّن العقائد والخلقیّات، والمواعظ والنّصائح، وذمّ المنکرین والمخالفین، وقلّما تتضمّن شیئا من التّشریع، بل قیل انّ آیات الزّکاة والصّلاة الّتی نزلت فی مکّة لم یقصد منها الصّلاة والزّکاة _ بالمعنی التّشریعیّ المصطلح _ بخلاف الآیات الّتی نزلت فی المدینة المنوّرة فانّ أکثرها یتضمّن تشریعا وتقنینا.

والدّلیل علی ذلک سورتا البقرة والنّساء _ وهما مدنیّتان _ وأکثر آیات التّشریع موجودة فیهما؛ وما ذلک إلاّ لانّ الوضع کان قد تغیّر وتبدّل من الضّعف إلی القوّة، وأصبحوا مهیّئین لتأسیس حکومة لهم، واقتضت تشریع أحکام وتأسیس أساس بها تجری الحکومة الإسلامیّة والدّولة الحقّة.

والشّاهد علی أنّ الحکومة الإسلامیّة تکوّنت وحدثت بعد الهجرة إلی المدینة وجود کلّ خواصّ الحکومة ومقوّماتها فی المسلمین فی المدینة کتشریع القوانین لتنظیم أُمور المسلمین فیما بینهم، وتقنین قوانین للعلاقات الخارجیّة مع الدّول والملل وضرائب یقوم بها أساس الحکومة وقوامها.

أمّا من جملة القوانین الّتی وضعت لإیجاد النّظم والصّلاح فی البلاد الإسلامیّة فیما بینهم، فَهُوَ ما وُضِعَ لحفظ أموال المسلمین من السَّرِقَةِ والإتلاف وغیرهما من طرق التّطاول والتّعدّی إلی أموال المسلمین _ وهو قانون قطع أیدی السّارق والسّارقة _ کما یدلّ علیه قوله تعالی: «السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما»(1).

ومنها: ما وضع من القوانین لحفظ الأعراض والتّعفّف فی النّساء المسلمات ومنع

نفوذ الفساد فی المجتمع الإسلامی بشیوع الزّنا ونشره کما یدلّ علی قوله تعالی: «الزّانِیَةُ

ص: 313


1- 1 . سورة المائدة /38.

وَالزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ»(1) وکذلک شرّع الإسلام قوانین لأجل حفظ دماء النّاس مثل قانون القصاص مثل قوله تعالی: «وَلَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الاْءَلْبابِ»(2) وقانون الحدود والتّعزیرات لحفظ حرمة القانون الإسلامی وسدّ باب ارتکاب الذنب والفساد فی البلاد الإسلامیّة قهرا، وکذلک لأجل حفظ الامن والسّلم والثّبات فی البلاد المختلفة الإسلامیّة وضع هذا القانون: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاْءَرْضِ فَسادا أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الاْءَرْضِ...»(3). وبهذا الکلام الموجز أنت تعلم أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله کان له سلطة لتنفیذ العقوبات الشّرعیّة من نَفْیٍ، أو صَلْبٍ، أَوْ قَتْلٍ، أو قَطْعِ یَدٍ، أو جَلْدٍ فی صورة الإخلال بالقانون الإسلامیّ الرّاجع إلی صلاح الشّعب الإسلامی، وکلّ ذلک من مظاهر الحکومة الإسلامیّة.

وممّا ذکرنا ظهر لک أنّ القول بأنّ حکومة النبیّ صلی الله علیه و آله کانت مصادفة، وأمرا اتّفاقیّا ولم تکن الحکومة موجودة فی جوهر الإسلام، ولم تکن شواهد علی أنّ الإسلام حکومة، غیر تامّ؛ لانّ تلک الموارد الّتی نقلنا قلیلاً منها أوضح شاهد علی ما ادّعیناه، وردّ علی هذا القول.

وأمّا القوانین الإسلامیّة التی شرّعت لتنظیم العلاقات الخارجیّة مع الدّول، والملل الأجنبیّة فهی أیضا کثیرة؛ وکلّها حادثة بعد اجتماع المسلمین فی المدینة وتوفّر القدرة لهم علی انشاء الحکومة الإسلامیّة، والکتاب الکریم یشیر إلی ذلک، ومنها الإشارة إلی معاهدة کانت بین المسلمین والکفّار اقتضتها مصلحة المسلمین، ونزلت البراءة منها ومنهم لنقضهم العهد الّذی کان بینهم.

وذلک فی قوله تعالی فی سورة البراءة: «بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»، وکذلک المعاهدة مع أهل الکتاب، کما ورد فی التّاریخ المعتبر

ص: 314


1- 1 . سورة النّور /2.
2- 2 . سورة البقرة /176.
3- 3 . سورة المائدة /33.

أنّ النّبیّ صلی الله علیه و آله عاهد أهل الکتاب لأوّل عهده بالمدینة، وکانت تلک المعاهدة أوّل حجرٍ فی بناء الدّولة الإسلامیّة، وأوّل علاقة سیاسیّة تقرّر حرّیة التّدیّن فی العبادة والعقائد،

وتحافظ علی الأمن والسّلام.

ومنها: تشریع قانون الجهاد فی الإسلام مع الکفّار بشروطه المقرّرة فی مُحَلِّها.

والقول بأنّ غزوات الإسلام، وجهاد المسلمین کان کلّ ذلک دفاعیّا صحیح، إلاّ أنّه لا ینفی وجود قانون إسلامیّ خاصّ بالحرب. ومعلوم أنّ الجهاد وغیره یستلزم وجود القدرة فی المسلمین، ووجود مجتمع کامل لهم، وکلّ ذلک من مظاهر الحکومة الإسلامیّة»(1).

وقال بعض أَساتِذَتِنا رحمه الله : «قد عرفت ضرورة الحکومة وحفظ النظام الاجتماعی للبشر، وانَّ الهرج والمرج الاجتماعی مما یدرک ضرره وقبحه کل عاقل من أی أمّة أو ملّة کان.

والمُراجِعُ للکتابِ والسُّنَّةِ وَفِقْهِ مَذاهبِ الإسلام من الشیعة والسُّنَّةِ یظهر له بالبداهة أنّ دین الاسلام الذی جاء به النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لم تَنْحَصِرْ أحکامه فی أمور عبادیة ومراسیم وآداب فردیة فقط، بل هو جامع لجمیع ما یحتاج إلیه الانسان فی مراحل حیاته الفردیة والعائلیة والاجتماعیة من المعارف والأخلاق والعبادات والمعاملات والسیاسات والاقتصاد والعلاقات الداخلیة والخارجیة. فهو بنفسه نظام کامل یجمع الاقتصاد والسیاسة أیضا.

والتتبع فی أخبار الفریقین وفتاواهم فی الأبواب المختلفة لفقه الإسلام یرشدنا إلی کون الحکومة وتنفیذ المقررات أیضا داخلة فی نسج الاسلام ونظامه. فالاسلام بذاته دین ودولة، وعبادة واقتصاد وسیاسة.

فتری النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بعد هجرته إلی المدینة باشر بتأسیس أوّل دولة اسلامیة عادلة، وقد مهّد لها مقدماتها من أخذ البیعة من القبائل والوفود وعقد میثاق الأُخوة بین

ص: 315


1- 1 . تحقیقٌ وتقریراتٌ فی باب البیع والخیارات 4/(52-45).

المهاجرین والأنصار والمعاهدة بینهم وبین یهود المدینة. وأقام مسجدا جعله مرکزا لتجمّع المسلمین وموضعا لصلواتهم ولنشاطاتهم الاجتماعیة والسیاسیة.

وراسل الملوک والأُمراء فی البلاد وکتب إلیهم یدعوهم إلی الإسلام والدخول تحت ظلّ حکومته.

ولم یقنع ببیان الأحکام وإقامة الصلوات والتبلیغ والارشاد فقط. بل کان ینفّذ

حدود الإسلام وأحکامه ویبعث العمّال والولاة ویطالب بالضرائب والمالیات ویجهّز الجیوش ویقاتل المشرکین والمناوئین، إلی غیر ذلک من شؤون الحکومة، فهذه کانت سیرته فی حیاته. وقد کان الحکم الذی قام به صلی الله علیه و آله فی عصره مع قصر مدته حکما فریدا لم تعرف البشریة إلی الآن له شبیها فی سهولته وسذاجته وما وجد فیه الناس من عدل وحرّیة ومساواة وایثار، وقد أذْعَنَ بذلک المؤرخون من غیر المسلمین أیضا.

وبعد وفاته صلی الله علیه و آله لَمْ یشکّ أحد من المسلمین فی الاحتیاج إلی الحکومة، بل أجمعوا علی وجوبها وضرورتها. وإنّما وقع الخلاف بین الفریقین فی أنّه صلی الله علیه و آله هل نصب امیرالمؤمنین علیه السلام والیا أو إنّه أهمل أمر الخلافة وفوضّه إلی المسلمین. فالشیعة الامامیة تعتقد أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد عیّن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی غدیر خمّ وفی غیره من المواقف ونصبه لتصدّی الولایة بعد وفاته. والسنة یقولون بانعقاد الامامة بعده صلی الله علیه و آله بالشوری وانتخاب أهل الحلّ والعقد. وکیف کان فرسول اللّه صلی الله علیه و آله مضافا إلی نبوته ورسالته کان بنصّ القرآن الکریم اَوْلی بالمؤمنین من أنفسهم وکان له الولایة علیهم، وکذلک الأئمّة الاثناعشر عندنا کان لهم حق الولایة. والبحث بحث کلامی یطلب من محله.

وتمتاز الحکومة الاسلامیة عن الحکومة الدیموقراطیة الغربیة الدارجة بوجوه:

منها: ان الحاکم فی الحکومة الاسلامیة یجب أن یکون أَعْلَمَ النّاس وأعدلهم وأتقاهم وأقواهم بالأمر وأبصرهم بمواقع الأمور. ففی عصر النبی صلی الله علیه و آله کان هو بنفسه اَوْلی بالمؤمنین من أنفسهم وکانت له الولایة علیهم من قبل اللّه _ تعالی _ . وبعده کانت الولایة عندنا حقا للأئمة الأثنی عشر، وفی عصر الغیبة للفقیه العادل العالم بزمانه البصیر بالأمور والحوادث الرؤوف الحافظ لحقوق النّاس حتّی الأقلیات غیر المسلمة، فلا یجوز للأمة

ص: 316

انتخاب غیره.

ومنها: ان الحکومة الاسلامیة بشعبها الثَّلاثِ من التشریع والقضاء والتنفیذ تتقیّد بموازین الاسلام وقوانینه العادلة النازلة من قبل اللّه _ تعالی _ العالم بمصالح خلقه، فلا یجوز التخلف عنها. فالحاکم فی الحقیقة هو اللّه _ تعالی _ والوالی منفّذ لأَحکامه. وقد یعبّر عن هذه الحکومة بالحکومة التئوقراطیة بمعنی حکومة القانون الإلهی علی المجتمع.

وأما فی النظام الدیموقراطی الانتخابی الدارج فملاک الانتخاب فیه رضا الناخبین، والهدف منه تحقیق أهوائهم ومشتهیاتهم کیف ما کانت، فلا یتقید الناخب ولا المنتخب لا بمقررات شرعیة ولا بمصالح عقلیة وفضائل أخلاقیة»(1).

وقال آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض _ دام ظله _ : «الحکومة الإسلامیة الشرعیة هی الحکومة القائمة علی أساس مبدأ الحاکمیة للّه وحده لا شریک له، والسلطة الحاکمة فیها تتمثل فی ولی أمر المسلمین وهو منصوب من قبل اللّه تعالی فی زمن الحضور والغیبة معا.

أما فی زمن الحضور فأنّه منصوب بالتخصیص بالاسم والشخص والصفات.

وأما فی زمن الغیبة فإنّه منصوب بالتنصیص بالصفات فقط کصفة الفقاهة التی هی متمثلة بالفقه الجامع للشرائط منها الأعلمیة.

ثمّ أن ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام واضح ولا کلام ولا إشکال فیه لأنّ القدر المتیقن من قوله تعالی فی الآیة المبارکة: «وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ» هو الأئمة الأطهار علیهم السلام هذا مضافا إلی الروایات الدالة علی ذلک.

وإنّما الکلام والإشکال فی ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للفقیه الجامع للشرائط ولا یمکن إثبات هذه الولایة بالنص لأن الروایات التی استدل بها علی ثبوت الولایة للفقیه بأجمعها ضعیفة من ناحیة السند فلا یمکن الاعتماد علیها ومن هنا فالمشهور بین الفقهاء عدم ثبوت الولایة للفقیه هذا.

ص: 317


1- 1 . دراسات فی ولایة الفقیه 1/(10-8).

ولکن الصحیح ثبوت هذه الولایة له وهو لا یحتاج إلی دلیل خارجی لأن امتداد الشریعة المقدسه وخلودها یتطلب امتداد الولایة والزعامة الدینیة المتمثلة فی زمن الحضور برسالة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وبعده بإمامة الأئمة الأطهار علیهم السلام ، وفی زمن الغیبة بفقاهة الفقیه الجامع للشرائط منها الأعلمیة إذ لا یمکن افتراض امتداد الشریعة وخلودها بدون افتراض امتداد الولایة والزعامة الدینیة، ضرورة أن الشریعة فی کل عصر بحاجة إلی التطبیق والتنفیذ وإجراء الحدود والحفاظ علی الحقوق والاهتمام بمبدأ العدالة والتوازن بین طبقات الأمة، فإذن بطبیعة الحال ما هو ثابت للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام فی زمن الحضور فی الدین الإسلامی فهو ثابت للفقیه الجامع للشرائط فی عصر الغیبة فإذا فرضنا أنّ الفقیه کان مبسوط الید ولم تکن هناک عوائق وموانع عن تشکیل الدولة الإسلامیة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین فیجب علیه أن یقوم بتشکیل الدولة کذلک ومن الواضح أن تشکیل الدولة الإسلامیة بتمام أرکانها ومکوناتها لا یمکن

بدون ثبوت الولایة والصلاحیة الواسعة للفقیه فی سَنِّ القانون والتشریع حسب متطلبات الظروف وحاجة الوقت ومصالح النّاس العامة فی حدود منطقة الفراغ لأنّ ترک الإسلام هذه المنطقة بدون تشریع لزومی بعنوان أولی یدلّ علی أنّه تعالی جعل صلاحیة التشریع فی هذه المنطقة لولی الأمر بعنوان ثانوی حسب متطلبات الوقت وحاجة البلد فی کل عصر کما سوف نشیر إلیه.

الی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن ثبوت الولایة والزعامة الدینیة للفقیه الجامع للشرائط لا تحتاج إلی أی دلیل خاص خارجی لأنه مقتضی القاعدة حیث أن امتداد الشریعة وخلودها یقتضی امتداد الولایة والزعامة الدینیة علیها.

ومما ذکرناه فقد ظهر الفرق بین السلطة الحاکمة فی الحکومة الشرعیة حیث هی متعینة من قبل اللّه تعالی فی زمن الحضور والغیبة معا وبین السلطة الحاکمة فی الحکومات غیر الشرعیة حیث هی متعینة بالانتخابات الحرة أو بالقوة والانقلاب.

ثمّ إن للسلطة الحاکمة فی الحکومة الشرعیة صلاحیة واسعة فی تنفیذ الدستور الإلهی من جهة، والتشریع وسنّ القانون فی أجهزة الدولة کافة: الاقتصادیة والتعلیمیة

ص: 318

والاجتماعیة والحقوقیة والإداریة وجهاز الأمن والمخابرات والشرطة والجیش وغیرها حسب الظروف ومتطلبات حاجة الوقت ومصالح البلد العامة فی حدود منطقة الفراغ من جهة أخری، والهدف من وراء کل ذلک هو تحقیق مبدأ العدالة الاجتماعیة والتوازن بین طبقات الأمة والاستقرار والأمن هذا من جانب.

ومن جانب آخر إنّ الفرق بین الحکومة الشرعیة والحکومة غیر الشرعیة إنّما هو علی أساس مذهب الشیعة الإمامیة لأنّ الحکومة علی ضوء هذا المذهب إنّما تکون شرعیة إذا کانت قائمة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین بأن یکون تعیین السلطة الحاکمة من قبل اللّه عزّ وجلّ سواء أکان فی زمن الحضور أم فی زمن الغیبة، إذ کما أن ولایة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السلام تکون من قبل اللّه تعالی کذلک ولایة الفقیه الجامع للشرائط فی زمن الغیبة.

فالنتیجة إنّ الولایة والخلافة علی أساس مذهب الشیعة الإمامیة مجعولة من قبل اللّه عزّ وجلّ سواء أکانت فی زمن الحضور أم فی زمن الغیبة وأمّا علی أساس مذهب أهل السنة فالمجعول من قبل اللّه تعالی إنّما هو ولایة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فحسب وأما خلافة الخلفاء وولایتهم فإنّما هی ثابتة عندهم بالإجماع وآراء النّاس لا بنص من اللّه تعالی.

وعلی هذا فکل حاکم فی البلاد الإسلامیة إذا ثبتت حکومته علی النّاس بالانتخابات الحرة النزیهة یعنی بآراء النّاس فهو ولی أمر المسلمین وحکمه نافذ وحکومته حکومة إسلامیة شرعیة عند أهل السنة هذا هو الفرق بین مذهب الشیعة الإثنی عشریة ومذهب أهل السنة.

ثمّ إن الحکومة الإسلامیة القائمة علی أساس مبدأ الدین قد شکلت فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بیده المبارکة وبکافة أجهزتها وقد ظهرت فی الساحة ونجحت فی هذا التطبیق، أی تطبیق الحکومة الإسلامیة علی الساحة نجاحا باهرا رغم قصر عمرها»(1).

ص: 319


1- 1 . الأُنموذج فی منهج الحکومة الاسلامیة /(15-9)؛ المسائل المستحدثة، الحکومة الاسلامیة /(10-7).
تتمةٌ: حدود اختیارات ولیّ الفقیه

أحسن مقال فیها ما أبدعه الشهید آیة اللّه السیّد محمّدباقر الصدر رحمه الله (1353-1400ق) تحت عنوان «منطقة الفراغ» وطرحها أوّلاً فی التشریع الاقتصادی فی کتابه «إقتصادنا» ثمّ عمّمها للسلطة التشریعیة فی الحکومة الإسلامیة المؤسسة علی نظریة ولایة الفقیه.

قال قدس سره فی کتابه «اقتصادنا»: «وحیث جئنا علی ذکر منطقة الفراغ فی التشریع الإقتصادی، یجب أن نعطی هذا الفراغ أهمیة کبیرة خلال عملیة اکتشاف المذهب الاقتصادی، لأنه یمثل جانبا من المذهب الاقتصادی فی الإسلام. فإنّ المذهب الاقتصادی فی الإسلام یشتمل علی جانبین: أحدهما: قد ملیء من قبل الإسلام بصورة منجزة، لا تقبل التغییر والتبدیل. والآخر: یشکّل منطقة الفراغ فی المذهب قد ترک الإسلام مهمة ملئها إلی الدولة أو (ولی الأمر) یملؤها وفقا لمتطلبات الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامی، ومقتضیاتها فی کل زمان.

ونحن حین نقول: «منطقة فراغ»، فإنّما نعنی ذلک بالنسبة إلی الشریعة الإسلامیة ونصوصها التشریعیة، لا بالنسبة إلی الواقع التطبیقی للإسلام، الذی عاشته الأمة فی عهد النبوة. فإنّ النبی الأعظم صلی الله علیه و آله قد ملأ ذلک الفراغ بما کانت تتطلبه أهداف الشریعة فی المجال الإقتصادی، علی ضوء الظروف التی کان المجتمع الإسلامی یعیشها، غیر أنّه صلی الله علیه و آله حین قام بعملیة مل ء هذا الفراغ لم یملأه بوصفه نبیّا مبلغا للشریعة الإلهیة، الثابتة فی کل مکان وزمان، لیکون هذا المل ء الخاص من سیرة النبی لذلک الفراغ... معبرا عن صیغ

ص: 320

تشریعیة ثابتة، وإنّما ملأه بوصفه ولی الأمر، المکلف من قبل الشریعة بمل ء منطقة الفراغ وفقا للظرف.

ونرید أن نخلص من هذا إلی النتائج الآتیة:

أوّلاً: أن تقویم المذهب الاقتصادی فی الإسلام لا یمکن أن یتم بدون إدراج منطقة الفراغ ضمن البحث، وتقدیر إمکانات هذا الفراغ، ومدی ما یمکن أن نساهم عملیة ملئه مع المنطقة التی ملئت من قبل الشریعة ابتداءً... فی تحقیق أهداف الاقتصاد الإسلامی.

وأما إذا أهملنا منطقة الفراغ ودورها الخطیر، فإن معنی ذلک تجزئیة إمکانیات الاقتصاد الإسلامی، والنظر إلی العناصر الساکنة فیه دون العناصر الحرکیة.

وثانیا: أن نوعیة التشریعات التی ملأ النبی صلی الله علیه و آله بها منطقة الفراغ من المذهب، بوصفه ولی الأمر... لیست أحکاما دائمیة بطبیعتها، لأنها لم تصدر من النبی بوصفه مبلغا للأحکام العامة الثابتة، بل باعتباره حاکما وولیا للمسلمین. فهی إذن لا تعتبر جزءا ثابتا من المذهب الاقتصادی فی الإسلام، ولکنها تلقی ضوءا إلی حد کبیر علی عملیة مل ء الفراغ التی یجب أن تمارس فی کل حین وفقا للظروف، وتیسر فهم الأهداف الأساسیة التی توخاها النبی صلی الله علیه و آله فی سیاسته الاقتصادیة، الأمر الذی یساعد علی مل ء منطقة الفراغ دائما فی ضوء تلک الأهداف.

وثالثا: إنّ المذهب الاقتصادی فی الإسلام، یرتبط علی هذا الأساس ارتباطا کاملاً بنظام الحکم فی مجال التطبیق، فما لو یوجد حاکم أو جهاز حاکم یتمتع بنفس ما کان الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله یتمتع به من الصلاحیات، بوصفه حاکما لا بوصفه نبیّا لا یتاح مل ء منطقة الفراغ فی المذهب الإقتصادی بما تفرضه الأهداف الاقتصادی کاملاً، بنحو نقطف ثماره ونحقق أهدافه.

ومن الواضح أن هذا الکتاب ما دام یبحث فی المذهب الاقتصادی، فلیس من وظیفته أن یتکلم عن نظام الحکم فی الإسلام، ونوعیة الشخص أو الجهاز الذی یصح أن یخلف الرسول شرعا فی ولایته وصلاحیاته، بوصفه حاکما، ولا عن الشروط التی یجب أن تتوفر فی ذلک الفرد أو الجهاز... فإنّ ذلک کلّه خارج عن الصدد. ولهذا سوف نفترض

ص: 321

فی بحوث الکتاب حاکما شرعیا، یسمح له الإسلام بمباشرة صلاحیات النبی کحاکم، ونستخدم هذا الافتراض فی سبیل تسهیل الحدیث عن المذهب الاقتصادی ومنطقة الفراغ فیه، وتصویر ما یمکن أن یحققه من أهداف ویقدمه من ثمار.

وأما لماذا ترکت فی المذهب الاقتصادی الإسلامی منطقة فراغ، لم تملأ من قبل الشریعة ابتداءً بأحکام ثابتة؟، وما هی الفکرة التی تبرر وجود هذه المنطقة فی المذهب، وترک أمر ملئها إلی الحاکم؟، وبالتالی ما هی حدود منطقة الفراغ علی ضوء الأدلة فی الفقه

الإسلامی؟ کل ذلک سوف نجیب علیه فی البحوث المقبلة إن شاء اللّه تعالی»(1).

ثمّ قال فی أواخر کتابه: «والفکرة الأساسیة لمنطقة الفراغ هذه، تقوم علی أساس: أن الإسلام لا یقدم مبادئه التشریعیة للحیاة الاقتصادیة بوصفها علاجا موقوتا، أو تنظیما مرحلیا، یجتازه التاریخ بعد فترة من الزمن إلی شکل آخر من أشکال التنظیم. وإنّما یقدمها باعتبارها الصورة النظریة الصالحة لجمیع العصور. فکان لابدّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستیعاب، أن ینعکس تطور العصور فیها، ضمن عنصر متحرک، یمد الصورة بالقدرة علی التکلیف وفقا لظروف مختلفة.

ولکی نستوعب تفصیلات هذه الفکرة یجب أن نحدد الجانب المتطور من حیاة الانسان الاقتصادیة، ومدی تأثیره علی الصورة التشریعیة التی تنظم تلک الحیاة.

فهناک فی الحیاة الاقتصادیة علاقات الانسان بالطبیعة، أو الثروة التی تتمثل فی أسالیب انتاجه لها، وسیطرته علیها وعلاقات الانسان بأخیه الانسان، التی تنعکس فی الحقوق والامتیازات الّتی یحصل علیها هذا أو ذلک.

والفارق بین هذین النوعین من العلاقات: أنّ الإنسان یمارس النوع الأوّل من العلاقات، سواء کان یعیش ضمن جماعة أم کان منفصلاً عنها، فهو یشتبک علی أیِّ حال مع الطبیعة فی علاقات معینة، یحددها مستوی خبرته ومعرفته، فیصطاد الطیر، ویزرع الأرض، ویستخرج الفحم، ویغزل الصوف بالأسالیب التی یجیدها. فهذه العلاقات

ص: 322


1- 1 . اقتصادنا /(402-400).

بطبیعتها لا یتوقف قیامها بین الطبیعة والانسان علی وجوده ضمن جماعة. وإنما أثر الجماعة علی هذه العلاقات، أنها تؤدی إلی تجمیع خبرات وتجارب متعددة، وتنمیة الرصید البشری لمعرفة الطبیعة، وتوسعة حاجات الانسان ورغباته تبعا لذلک.

وأما علاقات الانسان بالانسان، التی تحددها الحقوق والامتیازات والواجبات، فهی بطبیعتها تتوقف علی وجود الانسان ضمن الجماعة. فما لم یکن الانسان کذلک، لا یقدم علی جعل حقوق له وواجبات علیه. فحق الانسان فی الأرض التی أحیاها، وحرمانه من الکسب بدون عمل عن طریق الربا، والزامه بإشباع حاجات الآخرین من ماء العین التی استنبطها، إذا کان زائدا علی حاجته... کل هذه العلاقات لا معنی لها إلاّ فی ظل جماعة.

والإسلام _ کما نتصوره _ یمیز بین هذین النوعین من العلاقات. فهو یری أن علاقات الانسان بالطبیعة أو الثروة، تتطور عبر الزمن، تبعا للمشاکل المتجددة التی یواجهها الانسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته للطبیعة، والحلول المتنوعة التی یتغلب بها علی تلک المشاکل. وکلما تطورت علاقاته بالطبیعة ازداد سیطرد علیها، وقوة فی وسائله وأسالیبه.

وأما علاقات الانسان بأخیه، فهی لیست متطورة بطبیعتها، لأنها تعالج مشاکل ثابتة جوهریا، مهما اختلف اطارها ومظهرها. فکل جماعة تسیطر خلال علاقاتها بالطبیعة علی ثروة، تواجه مشکلة توزیعها، وتحدید حقوق الأفراد والجماعة فیها، سواء کان الانتاج لدی الجماعة علی مستوی البخار والکهرباء، أم علی مستوی الطاحونة الیدویة.

ولأجل ذلک یری الإسلام: أن الصورة التشریعیة التی ینظم بها تلک العلاقات، وفقا لتصوراته للعدالة... قابلة للبقاء والثبات من الناحیة النظریة لأنها تعالج مشاکل ثابتة. فالمبدأ التشریعی القائل _ مثلاً _ : إن الحق الخاص فی المصادر الطبیعیة یقوم علی أساس العمل. یعالج مشکلة عامة یستوی فیها عصر المحراث البسیط وعصر الآلة المعقدة، لأن طریقة توزیع المصادر الطبیعیة علی الأفراد، مسألة قائمة فی کلا العصرین.

ص: 323

والإسلام فی هذا یخالف المارکسیة، التی تعتقد أن علاقات الانسان بأخیه، تتطور تبعا لتطور علاقاته بالطبیعة، وتربط شکل التوزیع بطریقة الانتاج، وترفض امکان بحث مشاکل الجماعة، إلاّ فی إطار علاقتها بالطبیعة، کما مرّ بنا عرضه ونقده فی بحوث الکتاب الأوّل من اقتصادنا.

ومن الطبیعی _ علی هذا الأساس _ أن یقدم الإسلام مبادئه النظریة والتشریعیة، بوصفها قادرة علی تنظیم علاقات الانسان بالانسان فی عصور مختلفة.

ولکن هذا لا یعنی جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الانسان بالطبیعة واخراج تأثیر هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة الانسان علی الطبیعة، ونمو سیطرته علی ثرواتها، یطور وینمی باستمرار خطر الانسان علی الجماعة، ویضع فی خدمته باستمرار امکانات جدیدة للتوسع، ولتهدید الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعیة.

فالمبدأ التشریعی القائل مثلاً: ان من عمل فی أرض، وأنفق علیها جهدا حتّی أحیاها، فهو أحق بها من غیره... یعتبر فی نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن یساوی

بین العامل الذی أنفق علی الأرض جهده، وغیره ممن لم یعمل فیها شیئا. ولکن هذا المبدأ بتطور قدرة الانسان علی الطبیعة ونموها، یصبح من الممکن استغلاله. ففی عصر کان یقوم احیاء الأرض فیه علی الأسالیب القدیمة، لم یکن یتاح للفرد أن یباشر عملیات الاحیاء إلاّ فی مساحات صغیرة. وأما بعد أن تنو قدرة الانسان، وتتوفر لدیه وسائل السیطرة علی الطبیعة، فیصبح بإمکان أفراد قلائل ممن تؤاتیهم الفرصة، أن یحیوا مساحة هائلة من الأرض، باستخدام الآلات الضخمة ویسیطروا علیها، الآمر الذی یزعزع العدالة الاجتماعیة ومصالح الجماعة. فکان لابدّ للصورة التشریعیة من منطقة فراغ، یمکن ملؤها حسب الظروف. فیسمح بالاحیاء سماحا عاما فی العصر الأوّل ویمنع الأفراد فی العصر الثانی _ منعا تکلیفیا _ عن ممارسة الاحیاء، إلاّ فی حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامی وتصوراته عن العدالة.

وعلی هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ فی الصورة التشریعیة التی نظم بها الحیاة الاقتصادیة، لتعکس العنصر المتحرک وتواکب تطور العلاقات بین الانسان

ص: 324

والطبیعة، وتدرأ الأخطار التی قد تنجم عن هذا التطور المتنامی علی مرّ الزمن.

منطقة الفراغ لیست نقصا: ولا تدل منطقة الفراغ علی نقص فی الصورة التشریعیة، أو إهمال من الشریعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استیعاب الصورة، وقدرة الشریعة علی مواکبة العصور المختلفة، لأن الشریعة لم تترک منطقة الفراغ بالشکل الذی یعنی نقصا أو اهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحکامها بمنح صفة تشریعیة ثانویة، حسب الظروف. فاحیاء الفرد للأرض مثلاً عملیة مباحة تشریعیا بطبیعتها، ولولی الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقا لمقتضیات الظروف.

الدلیل التشریعی: والدلیل علی إعطاء ولیالأمر صلاحیات کهذه، لمل ء منطقة الفراغ، هو النص القرآنی الکریم: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ».

وحدود منطقة الفراغ التی تتسع لها صلاحیات أولی الأمر، تضم فی ضوء هذا النص الکریم کل فعل مباح تشریعیا بطبیعته فأیّ نشاط وعمل لم یرد نص تشریعی یدل علی حرمته أو وجوبه... یسمح لولی الأمر باعطائه صفة ثانویة، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبیعته، أصبح حراما، وإذا أمر به، أصبح واجبا. وأما الأفعال التی ثبت تشریعیا تحریمها بشکل عام، کالربا مثلاً، فلیس من حق ولی الأمر، الأمر بها. کما أن

الفعل الذی حکمت الشریعة بوجوبه، کانفاق الزوج علی زوجته، لا یمکن لولی الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولی الأمر مفروضة فی الحدود التی لا تتعارض مع طاعة اللّه وأحکامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبیعتها فی الحیاة الاقتصادیة هی التی تشکّل منطقة الفراغ»(1).

وقال فی کتابه الآخر: «إنّ الشریعة الإسلامیة هی مصدر التشریع بمعنی أنها هی المصدر الذی یستمد منه الدستور وتشرع علی ضوئه القوانین فی الجمهوریة الإسلامیة وذلک علی النحو التالی:

ص: 325


1- 1 . اقتصادنا /(726-722).

أوّلاً: ان أحکام الشریعة الثابتة بوضوح فقهی مطلق تعتبر بقدر صلتها بالحیاة الاجتماعیة جزءا ثابتا فی الدستور سواء نص علیه صریحا فی وثیقة الدستور أو لا.

ثانیا: إن أی موقف للشریعة یحتوی علی أکثر من اجتهاد یعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستوریا ویظل اختیار البدیل المعین من هذه البدائل موکولاً إلی السلطة التشریعیة التی تمارسها الامة علی ضوء المصلحة العامة.

ثالثا: فی حالات عدم وجود موقف حاسم للشریعة من تحریم أو ایجاب یکون للسلطه التشریعیة التی تمثل الامة أن تسنّ من القوانین ما تراه صالحا علی أنْ لا یتعارض مع الدستور وتسمی مجالات هذه القوانین بمنطقة الفراغ وتشمل هذه المنطقة کل الحالات التی ترکت الشریعة فیها للمکلف اختیار اتخاذ الموقف فإنَّ مِنْ حقّ السلطة التشریعیة أنْ تفرض علیه موقفا معینا وفقا لما تقدره من المصالح العامة علی أنْ لا یتعارض مع الدستور»(1).

وتبعه آیة اللّه الشیخ محمّدإسحاق الفیاض _ مدظله _ وقال: «إنّ من ممیزات الدین الإسلامی کشریعة عامة للبشر ولجمیع الأزمنة والأمکنة، ومنهج خالد یواکب العلم والتطور نحو الأفضل، هو أن ترک فی هذه الشریعة منطقة فراغ، وهی الرقعة الخالیة من النصوص التشریعیة فی الکتاب والسنة، وهی منطقة المباحات الأصلیة وهی عنصر ثالث فی الإسلام وهو العنصر المتحرک غیر الثابت فی الشریعة المقدسة وذلک لعدة عوامل:

العامل الأوّل: إن الشریعة الإسلامیة شریعة خالدة أبدیة متکاملة تحل مشاکل الإنسان فی کل عصر وقرن طول التاریخ وإلی الأبد مهما تطور.

العامل الثانی: إن الحکومة الإسلامیة التی شکلت فی عصر النبی الأکرم وبیده المبارکة صلی الله علیه و آله حکومة بسیطة بکافة أجهزتها وأرکانها ومن الواضح أن تلک الحکومة لا تغنی فی الوقت الحاضر لأن الحکومة فی هذا الوقت قد تطورت وتوسعت بکل مکوناتها وأجهزتها وأنظمتها من النظام الاقتصادی والتعلیمی والاجتماعی والإداری والأمنی

ص: 326


1- 2 . الإسلام یقود الحیاة /19 (/10 من الطبعة الاُولی).

والمخابراتی والجیش والشرطة وهکذا.

العامل الثالث: أنه لا یمکن وضع نظام ثابت للحکومة کنظام العبادات طول التاریخ وفی کل عصر وإلی الأبد، ضرورة أنّ نظام الحکومة یتغیّر بتغیّر الزمان ویتطور بتطور الحیاة العامة بکافة جوانبها ولا یمکن تطبیق نظام الحکومة فی عصر النبی الأکرم صلی الله علیه و آله علی الحکومة فی العصر الحالی المتطورة بکافة کیاناتها وتشکیلاتها وأجهزتها.

العامل الرابع: إن اللّه تعالی جعل ولایة الأمر للأئمة الأطهار علیهم السلام بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وفی زمن الغیبة للفقیه الجامع للشرائط منها الأعلمیة ومن الطبیعی أن ولی الأمر مسؤول ومکلف من قبل اللّه تعالی بتشکیل الحکومة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین إذا کانت الظروف ملائمة والعوائق والموانع غیر موجودة.

العامل الخامس: أنه لا یسمع لولی الأمر أن یتصرف فی الأحکام الشرعیة الإلزامیة المجعولة فی الشریعة المقدسة کالمنع عن فعل الواجب والأمر بفعل الحرام مثلاً وهکذا.

وهذه العوامل جمیعا تتطلب من الشارع ترک منطقة فراغ فی الشریعة المقدسة وإعطاء صلاحیة واسعة لولی الأمر فیها للتشریع بعنوان ثانوی فی حدود هذه المنطقة ووضع دستور ونظام فیها للحکومة الإسلامیة بکافة مکوناتها وشرائحها وأرکانها حسب متطلبات الظروف وحاجة الوقت فی کل عصر لمل ءِ الفراغ.

ومن هنا یظهر أن منطقة الفراغ لیست نقصا فی التشریع الإسلامی ولا إهمال فیه بل هی تعبر عن ضرورة استیعاب الشریعة لکل العصور المختلفة فی طول التاریخ وقدرتها علی الاستیعاب.

والخلاصة أنه لا یمکن تشریع نظام ثابت للحکومة فی هذه المنطقة فلهذا أوکل الشارع أمر التشریع وجعل النظام والقانون فی حدود المنطقة إلی ولی الأمر بعنوان ثانوی حسب متطلبات الظروف والحاجة فی کل وقت لمل ءِ الفراغ فیه.

وأما نظام المحاسبة فی الإسلام فهو وظیفة السلطة الحاکمة فی الحکومة

ص: 327

الإسلامیة.

أما فی عصر الحضور فحیث أن السلطة الحاکمة المتمثلة فی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وبعده بالأئمة الأطهار علیهم السلام فلا یحتمل أن یقوم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله بوضع خطة اقتصادیة أو تعلیمیة أو إداریة أو أمنیة أو غیر ذلک عفویا بدون دراسة هذه الخطة بکافة جوانبها الایجابیة والسلبیة والظروف المحیطة بها ومفرداتها وجمع المعلومات حولها وإلاّ فقد خالف وظیفته الإلهیة وهذا غیر محتمل فی حقِّ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله هذا إضافة إلی أنه معصوم ولا یحتمل الخطأ فی حقه.

وأما فی زمن الغیبة فهی متمثلة فی الفقیه الجامع للشرائط: کالأعلمیة والعدالة والأمانة والإخلاص والصرامة فی تنفیذ الأحکام الإلهیة وتحقیق مبدأ العدالة والتوازن بین طبقات الأمة بدون مجاملة أیّ جهة مهما کانت واستعمال صلاحیته للتشریع بصفة ثانویة فی حدود منطقة الفراغ حسب حاجة الوقت وظروف البلد.

وعلی هذا فإذا فرضنا أنّ الفقیه المذکور قادر علی تشکیل الحکومة الإسلامیة کما إذا کانت الظروف مناسبة والعوائق غیر موجودة لا من الداخل ولا من الخارج وجب علیه شرعا القیام أوّلاً بإنشاء مجلس الشوری المؤلَّف من العلماء البارزین والمفکرین والخبراء والأمناء المخلصین من کافة أنحاء البلد ثمّ المشاورة معهم بموضوعیة حول تشکیل الحکومة من الأفراد ذوی الخبرة والکفاءة واللیاقة والإیمان والإخلاص، لأنها المیزان والمعیار فی الحکومة الإسلامیة الشرعیة.

وأما المعاییر الأخری فلا قیمة لها من منظور الإسلام کالطائفیة والحزبیة وغیرهما من الخصوصیات، بینما تؤخذ هذه المعاییر بعین الاعتبار فی الحکومات غیر الشرعیة، وبذلک تختلف الحکومة الشرعیة عن غیرها.

وعلیه فإذا قامت السلطة الحاکمة بوضع خطة اقتصادیة، وتعلیمیة، وإداریة، وأمنیة أو بإنشاء مشروع فلابدّ أوّلاً من دراسة هذه الخطة أو المشروع بواسطة المفکرین والعلماء والمثقفین وأهل الإیمان والإخلاص والخبرة بالموضوع دراسة مفصلة بکافة مفرداتها وجوانبها وظروفها ومستقبلها ومدی نجاحها وبعد تکمیل الدراسة والاطمئنان

ص: 328

بنجاحها تقوم بوضع الخطة أو إنشاء المشروع.

ولا یجوز لها وضع خطة أو مشروع عفویا لأنه قد یؤدی إلی إتلاف الأموال من

بیت مال المسلمین، وهذه جریمة لا تغتفر، ولا یمکن لولی الأمر أن یقدم علی مثل هذا العمل لأن عدالته وأمانته ووثاقته تمنع عن ذلک، فإذن فرض وضع الخطة أو المشروع عفویا خلف فرض أنه عادل وأمین وثقة من جهة ومأمور شرعا بالدراسة حولها من جهة أخری.

ومن هنا یظهر أن نظام المحاسبة یسری فی تمام مکونات الحکومة وشرائحها لأن وضع مکوناتها لابدّ أن یکون بعد دراسته بجمیع جهاته وجوانبه وظروفه هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أن نظام المحاسبة فی الإسلام لا یمکن أن یکون نظاما ثابتا بل هو متغیر بتغیر الحکومات ومتطور بتطورها سعة ودقة، وعصرا بعد عصر طول التاریخ، ولهذا یکون أمره بید السلطة الحاکمة فی کل عصر.

ثمّ أن وضع نظام أجهزة الحکومة ککل من النظام الإداری والتعلیمی والأمنی وغیرها یکون فی حدود منطقة الفراغ لأن صلاحیة السلطة الحاکمة للتشریع ووضع الدستور إنما هو فی حدود هذه المنطقة لا مطلقا، وهذا المنطقة منطقة واسعة تکفی للتشریع حسب ما تتطلب حاجة الوقت لمل ءِ الفراغ فیه.

وبکلمة أخری إنّ السلطة الحاکمة فی الحکومة الإسلامیة فی عصر الغیبة لابدّ أن تکون واجدة للصفات التالیة:

الأولی: أن تکون عالمة وفقیهة بالأحکام الفقهیة الإسلامیة بکافة مسائلها وأن تکون أعلم من غیرها فی هذه الأحکام.

الثانیة: أن تکون عادلة أمینة.

الثالثة: أن تکون صارمة وقویة فی تنفیذ الأحکام الإلهیة لتحقیق العدالة والتوازن بین طبقات المجتمع وحفظ الحقوق بدون ملاحظة أی جهة خارجیة مهما کانت.

فإذا کان الفقیه واحدا لهذه الصفات فالولایة ثابتة له من قبل اللّه تعالی وأنه مأمور بتشکیل الدولة الإسلامیة علی أساس مبدأ حاکمیة الدین إذا لم تکن هناک عوائق وموانع

ص: 329

من تشکیلها هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری إن للسلطة الحاکمة حق التدخل فی جمیع شؤون الدولة ومکوناتها وشرائحها بغرض الحفاظ علی التوازن ومبدأ العدالة بین جمیع طبقات الأمة التی أهتم الإسلام بها بل لها حق التدخل فی القطاعات الخاصة أیضا فیما إذا أرادت تلک القطاعات السیطرة علی ثروات البلد بحیث توجب تزعزع العدالة والتوازن بین طبقات

الأمة وحینئذ فعلی السلطة الحاکمة أن تمنعها إلاّ فی حدود لا تضر بمبدأ العدالة والتوازن.

مثلاً إذا فرضنا إنّ لدی شخص أمکانیة السیطرة علی مساحات کبیرة من الأرض باستخدام الآلات الحدیثة لأحیائها وحیث أن هذه العملیة قد تضر بالعدالة الاجتماعیة وتزعزعها فللسلطة الحاکمة أن تمنعه عن ممارستها بعنوان ثانوی إلاّ فی حدود تتناسب مع أهداف الإسلام النبیلة.

وقد تقدم إن تشکیل الدولة لابدّ أن یکون بواسطة مجلس الشوری المؤلَّف من العلماء والمفکرین والخبراء والأمناء والمخلصین فإنهم کانوا یقومون بانتخاب أعضاء الدولة من الأفراد الکفوئین والمفکرین من ذوی اللیاقة والخبرة والإیمان والإخلاص بعد دراسة سوابقهم بشکل موضوعی دقیق وجمع المعلومات حولهم ودراسة أوضاعهم واستقامتهم وقوة إرادتهم وعدم تأثیر الجهات الخارجیة فیهم کالطائفیة والحزبیة ونحوهما.

ومن هنا تکون مثل هذه الحکومة الإسلامیة بالشروط التی ذکرناها حکومة نزیهة بتمام شرائحها ومکوناتها وبعیدة عن الاختلاس والفساد والإداری والمالی والأخلاقی والتساهل والتسامح فی العمل وأداء الوظیفة.

ولهذا وذاک تدفع مثل هذه الحکومة الإسلامیة البلد إلی التطور والازدهار والتقدم والأمن والاستقرار بینما إذا لم تکن الحکومة نزیهة بکل مکوناتها وشرائحها تدفع البلد إلی التخلف وعدم الاستقرار.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی إن الحکومة الإسلامیة لو طبقت بجمیع شرائطها لکانت حکومة نزیهة بتمام مکوناتها وشرائحها وأعضائها وبعیدة عن تأثیر أی

ص: 330

جهة خارجیة فیها بینما الحکومات غیر الشرعیة لا یؤتمن معها علی عدم تدخل الجهات الخارجیة وتأثیرها علیها.

وهنا یتضح أن اتهام الحکومة الإسلامیة بأنها دکتاتوریة ناشئ من الجهل والتعصب والعناد وعدم المعرفة بالنظام الإسلامی وتخیل إن السلطة الحاکمة مطلق العنان تفعل ما تشاء وتترک ما تشاء، وقد مرّ إن السلطة الحاکمة مأمورة من قبل اللّه تعالی بالتحاور والتشاور مع أهل الحل والعقد من العلماء والمفکرین والخبراء والأمناء والصلحاء فی کل صغیرة وکبیرة.

وبعد دراسة موسعة وشاملة حول السیرة الذاتیة لکل عضو من أعضاء الحکومة

بشکل دقیق وموضوعی علی طبق معاییر خاصة کالنزاهة والکفاءة واللیاقة ینتخب إذا کانت المعاییر منطبقة علیه هذا إضافة إلی أن المعتبر فی السلطة الحاکمة العدالة والأمانة والوثاقة وهی تمنع عن إطلاق عنانها وأن تفعل ما تشاء»(1).

وقال آیة اللّه السیّد علی الأکبر الحائری _ مدظله _ _ وهو أحد تلامیذ الشهید الصدر رحمه الله _ فی توضیح کلام استاذه فی تحدید منطقة الفراغ: «وأمّا القسم الثانی: من الضوابط العامة لمل ء منطقة الفراغ، وهی الضوابط الراجعة إلی تحدید مساحة منطقة الفراغ التی فوض فیها حق التشریع والتقنین إلی ولی الأمر، فیمکن تحدید تلک المساحة بثلاثة مجالات:

المجال الأوّل: مجال تشخیص الموضوعات الدخیلة فی الأحکام الثابتة التی شرعها الإسلام بصورة مباشرة فإن کثیرا من الأحکام التی شرعها الإسلام بصورة مباشرة قد أناطها بموضوعات خارجیة قابلة للتشکیک والإبهام فی بعض الحالات فعلی ولیالأمر _ حینئذٍ _ أو السلطة التشریعیة التی أشرنا إلیها أن یعلن التشخیص المیدانی المناسب لتلک الموضوعات حتّی یتضح حال تلک الأحکام سلبا وإیجابا.

ص: 331


1- 1 . الأُنموذج فی منهج الحکومة الإسلامیة /(41-29)؛ المسائل المستحدثة الحکومة الإسلامیة /(30-23).

فمثلاً: من جملة الأحکام الثابتة فی الإسلام حرمة ممارسة الآلات المعدة للقمار فإنها تحرم ممارستها حتّی بغیر رهن مادامت معدة للقمار، کما هو المشهور، فلو أن آلة معینة کانت صالحة للقمار وغیر القمار فحینئذٍ تارة یتغلب علیها القمار بصورة واضحة معروفة فتشملها الحرمة المذکورة، لأنها من الآلات المعدة للقمار، وتارة أخری یتغلب غیر القمار بصورة واضحة معروفة أیضا فلا تشملها الحرمة المذکورة _ أی لا تحرم ممارستها بغیر رهن _ لأنها لیست معدة للقمار، وتارة ثالثة لا تکون القضیة واضحة معروفة، فیقع الشک فی أنها من الآلات المعدة للقمار أو لیست، کذلک، ففی هذه الحالة یکون من حق ولی الأمر أن یعلن تشخیصه لهذا الموضوع ویحکم بذلک.

کما أن من الأحکام الثابتة أن الأصوات والألحان المعدة لمجالس اللهو واللعب تکون محرمة، فإذا وقع الشک فی لحن من الألحان أنّه من الألحان المعدة لذلک أو لا کان من حق ولی الأمر أن یشخص هذا الموضوع ولو بالفحص عن طریق أهل الخبرة ویحکم علی طبق ما یتوصل إلیه من تشخیص.

ومن الأمثلة المعروفة لتشخیص الموضوع من قبل ولی الأمر مسألة الهلال فی الشهور القمریة؛ فإن هناک أحکاما ثابتةً منوطةً بالشهور القمریة وهی متوقفة علی ظهور الهلال فإذا ثبت ظهور الهلال لولی الأمر کان من حقه أن یحکم بذلک.

وبصورة عامة الأحکام الشرعیة الثابتة یجب استنباطها بصورة کلیة من خلال مصادر التشریع الإسلامی، وقد یتوصل الفقیه من خلال ذلک إلی حکم کلی منوط بموضوع معین بحیث یدور الحکم سلبا وإیجابا مدار ذلک الموضوع ویبقی الحکم حینئذٍ تحت رحمة تشخیص الموضوع ولا یمکن حل الموقف عند الشک فی الموضوع بالرجوع إلی مصادر التشریع، لأنها إنّما تعین الحکم الکلی علی فرض تحقق الموضوع، نعم قد یأتی الحکم الظاهری عند الشک فی الموضوع ولکن ولی الأمر إذا شخص الموضوع وارتفع عنه الشک کان من حقه الحکم علی طبق ذلک ووجب علی النّاس إطاعته فیه.

المجال الثانی: مجال تشخیص الأهم عند التزاحم بین الأحکام الإلیهة الثابتة، کما

ص: 332

إذا وقع التزاحم بین الجهاد الواجب أو دفع العدو الغاشم وبین الانتهاء عن بعض المحرمات کاجتیاز الأرض المغصوبة أو إتلاف مالاً یرضی به صاحبه، بل قد یتوقف دفع العدو علی قتل بعض الأبریاء فیقع التزاحم بین امتثال وجوب دفع العدو وامتثال حرمة قتل الأبریاء، بمعنی أن ضیق القدرة وقلة الإمکانات العملیة قد یؤدی إلی التنافی والتضاد بین امتثال حکمین من الأحکام الإلهیة الثابتة، ففی مثل ذلک یکون من حق ولی الأمر أن یحکم علی طبق ما یشخصه من أهمیة أحد الحکمین علی الآخر ویجب علی الأمة إطاعته فیه، ولیست هذه إطاعة للمخلوق فی معصیة الخالق لأن الأحکام الشرعیة إذا تزاحمت فی مقام الامتثال تقدم الأهم علی ما یقل عنه أهمیة، ولا یحق لولی الأمر أن یحکم إلاّ علی طبق ما یعتقد من الأهمیة.

المجال الثالث: مجال المصالِح الطارئة فی دائرة المباحات، فإن التصرفات التی لم یرد فیها تکلیف الزامی ثابت من قبل الشریعة الإسلامیة لا نفیا ولا إثباتا قد تحدث فیه مصالح وملاکات طارئة وفق الظروف والملابسات التی تمر بالأمة الإسلامیّة، بحیث تستدعی الالتزام بسلوک معین، ففی مثل ذلک یحق لولی الأمر أن یحکم بالالتزام بذلک السلوک حفظا لتلک المصالح والملاکات، والأمثلة علی ذلک کثیرة یمکن أن نذکر منها المصالح الاقتصادیة الطارئة التی تستدعی به فی بعض الظروف وضع الضرائب المالیة فی

دائرة أوسع مما أمر به الإسلام من الزکوات والأخماس الواجبة، وکذلک المصالح التی تستدعی فی بعض الظروف تحدید الأشعار، وکذلک المصالح التی تستدعی وضع الضوابط الخاصة للمرور إلی غیر ذلک من المصالح العامة التی تستدعی وضع جملة من القوانین والأحکام وفق الظروف والملابسات التی تمر بالأمة الإسلامیّة أو بالشعب الذی یحکمه الإسلام، فإن من شأن ولی الأمر أو السلطة التشریعیة المفوضة من قبله أن یشخص أمثال هذه المصالح ویصدر الأحکام اللازمة علی طبقها، ویجب علی الأمة أن تسمع له وتطیع. وهذا أیضا لا یستلزم إطاعة المخلوق فی معصیة الخالق، فإن إعطاءه کمیة من المال بعنوان الضریبة مثلاً، والالتزام بسعر معین أو بنسبة معینة من الربح فی المعاملات، والالتزام بضوابط معینة فی المرور... إلی غیر ذلک کلها من الأمور المباحة

ص: 333

بطبیعتها ولیست فیها معصیة للخالق تبارک وتعالی، فإذا أمر بها ولی الأمر أصبحت واجبة علی النّاس بسبب وجوب طاعة ولی الأمر فی غیر معصیة للخالق تبارک وتعالی.

هذه هی المجالات الثلاثة التی یمکن أن نحدد بها مساحة منطقة الفراغ التی فوض الحکم فیها إلی ولی الأمر، وقد یستدل من الناحیة الفقهیة علی شمول منطقة الفراغ لکل هذه المجالات الثلاثة بإطلاق أدلة وجوب طاعة ولی الأمر وإطلاق أدلة نیابة الفقیه العادل عن ولی الأمر فی عصر الغیبة، فإن إطلاق هذه الأدلة یدل علی وجوب طاعة ولی الأمر أو نائبه فی کل ما یحکم به فی جمیع الأمور وفی جمیع المجالات، وقد خرج عن ذلک ما یستلزم معصیة اللّه تبارک وتعالی وبقیت فی إطلاقها هذه المجالات الثلاثة التی ذکرناها لعدم استلزامها لمعصیة اللّه تبارک وتعالی.

ضوابط ما یملأ به الفراغ

وأما القسم الثالث: من الضوابط العامة لمل ء منطقة الفراغ، وهی الضوابط الراجعة إلی ما یملأ به الفراغ من القوانین والتشریعات من قبل ولی الأمر، فإن الشریعة الإسلامیّة بعد أن حددت مجالات الفراغ وفوضت أمر التشریع والتقنین فیها إلی ولی الأمر لم تدع أمر مل ء هذا الفراغ تحت رحمة الرغبات الشخصیة الخاصة لولی الأمر لکی یملأه کیفما یشاء وبأی نحو یرید بل لابدّ لولی الأمر أن یراعی أمرین أساسیین.

الأمر الأوّل: ملاحظة مصالح الأمة فی جمیع القوانین والتشریعیات التی یضعها لمل ء منطقة الفراغ حسب الظروف المرحلیة التی تمر بها الأمة فإذا کان أمامه عدة خیارات لحل مشکلة من المشاکل الاقتصادیة أو السیاسیة أو غیرها التی تمر بالأمة

الإسلامیّة، بمعنی أن هذه المشکلة یمکن حلها باختیار واحدة من صیغ قانونیة متعددة، فلابدّ لولی الأمر أن یختار جهد الإمکان أفضل تلک القضیة، ولا یحق له أن یختار الصیغة القانونیة الأنسب لمصالحه الخاصة ولا الصیغة القانونیة الأنسب لمصالح طبقة خاصة أو قطاع معین من قطاعات الأمة دون غیرها فإن مثل ذلک خیانة بالأمة ولا یجوز ارتکابها لولی الأمر بالضرورة.

والأمرا لثانی: ملاحظة تلک المصالح من وجهة نظرا لإسلام وبحسب الموازین الإسلامیّة

ص: 334

العامة لا من وجهة النظر المادی البحث مثلاً أو من وجهات النظر الأخری التی لا تنسجم فی روحها مع الإسلام ولأجل توضیح ذلک نکتفی بمثالین:

المثال الأوّل: إننا لا حظنا المصالح الاقتصادیة العامة من وجهة النظر المادی البحث فقد یؤدی ذلک إلی ضرورة منع العمال فی جمیع المعامل والمصانع من ممارسة الفرائض الدینیة من الصوم والصلاة وحفظ الحجاب للنساء العاملات إلی غیر ذلک، لأن الصوم یؤدی إلی ضعف العامل عن عمله، والمدة التی تستغرقه إقامة الصلاة فی المعامل والمصانع ستنقص من ساعات العمل الیومی للعمال، کما أن الحجاب الإسلامی للنساء العاملات قد یلکئ من مستوی السرعة للتقدم الکمی والکیفی فی نطاق أعمالهن، وهذه الأمور بمجموعها ستؤثر تأثیرا بالغا جدا علی مستوی الإنتاج فی المعامل والمصانع ومن ثمّ ستؤثر علی المصالح الاقتصادیة العامة فی الوطن الإسلامی، وهذا یعنی وقوع التزاحم بین امتثال تلک الفرائض الدینیة لهؤلاء العمال وبین المصالح الاقتصادیة الکبیرة التی ستضیع بسبب إقامة تلک الفرائض، وبحسب هذه النزعة الفکریة قد ینتهی الأمر إلی ترجیح تلک المصالح...»(1).

ولکن قال عمّی الأکبر آیة اللّه الشهید الحاج آقا نوراللّه النجفی الأصفهانی قدس سره (1278-1346ق) المستشهد قبل ولادة الشهید الصدر رحمه الله بِسَبْعِ سنین ما نصه بالفارسیة: «مطالب بر دو قسم است: یک امری که خداوند در آن امر فرموده؛ مثل حکم میراث و زنا و لواط و شراب و خمس و زکات و سایر واجبات و محرمات و احکام و در این قبیل احکام احدی را حق سؤال و جواب و نفی و اثبات و تغییر و تبدیل و چون و چرا نیست. و باید تمام مسلمانان اطاعت آن را بنمایند.

و یک امری است که حکم و قانون معینی در کتاب و سنت نوشته نشده، مثل حوادث اتفاقیه و امور عامه عادیه و خصوصیات نظم و انتظام بلاد و عباد و حفظ ثغور

ص: 335


1- 1 . مقالة «منطقة الفراغ فی التشریع الإسلامی»، المطبوعة فی مجلة «رسالة التقریب»، العدد 11/(125-120).

واستحکام وانتظام امر معیشت مسلمانان و امنیت طرق و شوارع و رواج کسب و تجارت و فلاحت و مصادیق احکام و امثال اینها که به مقتضای آیه شریفه «وَأَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ» خداوند عالم این امور را به مشورت ارجاع فرموده که مسلمانان مشورت و مصلحت بینی کنند؛ و هر قسم صلاح دانند رفتار نمایند»(1).

وفی الختام لابدّ لی أن أُنبّه علی أنّ حکم مزاحمة فقیه لفقیه آخر سوف یأتی(2) الکلامُ عَلَیْهِ فی فروع بحث ولایة عدول المؤمنین فانتظر.

ص: 336


1- 1 . مکالمات مقیم و مسافر /64 و 65.
2- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 373.

الثالث: ولایة عدول المؤمنین

اشارة

(1)

الأُمور المطلوبُ وجودها فی المجتمع بحیث لا یرضی الشارع بترکها وإهمالها وفوتها، وَعِنْدَ فقدان الفقیه _ لا سمح اللّه له _ أو تعذّر الوصول إلیه، فهل یجوز لعدول المؤمنین القیام بتحمّل أعباء هذه الأُمور بالتصدی لها أو الإشراف علیها أو التنظیم بها أو التطبیق فیها؟ أو لا یجوز.

ومن الواضح أنّ الجواز یأتی فی موارد عدم اشتراط العمل بإذن الإمام علیه السلام أو الفقیه وإلاّ عدم الجواز واضح لأنّ مقتضی الأصل عدم جواز التصرف فیه ونشک فی مشروعیة أصل العمل والأصل عدم مشروعیته.

قال الشهید: «یجوز للآحاد مع تعذّر الحکّام تولیة آحاد التصرّفات الحِکَمیّة علی الأصحّ، کدفع ضرورة الیتیم، لعموم: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی»(2)، وقوله علیه السلام : «واللّه تعالی فی عون العبد ما کان العبد فی عون أخیه»(3)، وقوله صلی الله علیه و آله : «کلّ معروف صدقة»(4).

ص: 337


1- 1 . جعلت عنوان البحث کما علیه المشهور ومتابعة لهم کما یظهر للقاریء الکریم من مطاوی الکلام.
2- 2 . سورة المائدة /2.
3- 3 . المستدرک 12/429، ح10، الباب 34 من أبواب فعل المعروف؛ وراجع: وسائل الشیعة 16/371، ح2، الباب 29 من أبواب فعل المعروف، صحیحة ذریح. وفیه: عون المؤمن ما کان المؤمن عون أخیه.
4- 4 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب الأوّل من أبواب فعل المعروف، حسنة عبداللّه بن میمون القداح.

وهل یجوز أخذ الزکوات والأخماس من الممتنع وتفریقها فی أربابها، وکذا بقیّة وظائف الحکّام غیر ما یتعلّق بالدعاوی؟ فیه وجهان: وجه الجواز ما ذکرنا، ولأنّه لو مُنع من ذلک لفاتت مصالح صرف تلک الأموال، وهی مطلوبة للّه تعالی.

وقال بعض مُتَأخِّرِی العامّة(1): لا شکّ أنّ القیام بهذه المصالح أهمّ من ترک تلک الأموال بأیدی الظلمة یأکلونها بغیر حقّها ویصرفونها إلی غیر مستحقّها.

فإن تُوقِّع إمامٌ یصرف ذلک فی وجهه، حفظ المتمکّن تلک الأموال إلی حین تمکّنه من صرفها إلیه، وإن یئس من ذلک _ کما فی هذا الزمان _ تعیّن صرفه علی الفور فی مصارفه؛ لما فی إبقائه من التغریر وحرمان مستحقّیه من تعجیل أخذه مع مسیس حاجتهم إلیه. ولو ظفر بأموال مغصوبة حفظها لأربابها حتّی یصل إلیهم، ومع الیأس یتصدّق بها عنهم، وعند العامّة تصرف فی المصالح العامّة»(2).

وَعَلَّق علیه الشیخ الأعظم بقوله: «والظاهر أنّ قوله: «فإن توقّع... إلی آخره» من کلام الشهید قدس سره ، ولقد أجاد فیما أفاد إلاّ أنّه قدس سره لم یبیّن وجه عدم الجواز، ولعلّ وجهه: أنّ مجرّد کون هذه الاُمور من المعروف لا ینافی اشتراطها بوجود الإمام أو نائبه کما فی قطع الدعاوی وإقامة الحدود، وکما فی التجارة بمال الصغیر الذی له أب وجدّ؛ فإنّ کونها من المعروف لا ینافی وکوله إلی شخص خاصّ.

نعم، لو فُرض المعروف علی وجه یستقلّ العقل بحسنه مطلقا _ کحفظ الیتیم من الهلاک الذی یعلم رجحانه علی مفسدة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه _ صحّ المباشرة بمقدار یندفع به الضرورة، أو فرض علی وجه یفهم من دلیله جواز تصدّیه لکلّ أحدٍ إلاّ أنّه خرج ما لو تُمُکِّن من الحاکم، حیث دلّت الأدلّة علی وجوب إرجاع الاُمور إلیه، وهذا کتجهیز المیّت، وإلاّ فمجرّد کون التصرّف معروفا لا ینهض فی تقیید ما دلّ علی عدم ولایة أحد علی مال أحد أو نفسه، ولهذا لا یلزم عقد الفضولی علی المعقود له بمجرّد کونه

ص: 338


1- 5 . وهو الشیخ عزالدین بن عبدالسلام.
2- 1 . القواعد والفوائد 1/406، القاعدة 148.

معروفا ومصلحة، ولا یفهم من أدلّة المعروف ولایة للفضولی علی المعقود علیه؛ لأنّ المعروف هو التصرّف فی المال أو النفس علی الوجه المأذون فیه من المالک أو العقل أو الشارع من غیر جهة نفس أدلّة المعروف.

وبالجملة، تصرّف غیر الحاکم یحتاج إلی نصٍّ عقلی، أو عموم شرعی، أو خصوصٍ فی مورد جزئی، فافهم»(1).

المسألة خلافیة

یظهر من صاحب المفتاح خلاف الأصحاب قدس سرهم فی المقام حیث یقول: «...

ویستفاد من بعض الأخبار(2) ثبوت الولایة للحاکم مع فقد الوصی وللمؤمنین مع فقده. وفی الحدائق(3) نسبته إلی الأصحاب. وفی مجمع البرهان(4): الظاهر ثبوت ذلک لمن یوثق بدینه وأمانته بعد تعذّر ذلک کلّه... _ إلی أن قال _ : ولم نجد خلافا إلاّ من ابن إدریس(5) فإنّه قال: لا یجوز لمن لیس بفقیه تولّی ذلک بحال، وقد یظهر ذلک من المفید(6) والتقی(7) حیث لم یذکرا إلاّ السلطان والفقیه»(8).

وکما صرّح بوجود القول بالخلاف الفاضل المراغی رحمه الله حیث یقول: «إذا تعذّر الاُولیاء أو فقدت حتّی الحاکم فهل الولایة للعدول مطلقا، أو لیس لهم مطلقا، أو فیما لا یمکن التأخیر فیه لهم ولایة دون غیره؟ ... وجوه بل أقوال...»(9).

ص: 339


1- 2 . المکاسب 3/563 و 564.
2- 1 . راجع: وسائل الشیعة 19/421، الباب 88 من أبواب الوصایا.
3- 2 . الحدائق 20/378.
4- 3 . مجمع الفائدة والبرهان 9/232 و 233.
5- 4 . السرائر 3/194.
6- 5 . المقنعة /675.
7- 6 . الکافی فی الفقه /366.
8- 7 . مفتاح الکرامة 16/82 و 83.
9- 8 . العناوین 2/580.

أقول: فالمسألة محلّ خلاف بین الأصحاب وإن کان المشهور تَلَقِّیْهِ بالقبول، ومحلّ انکار عند مشهور العامة لأنّهم لا یرون اختصاص الولایة بالعدول بل عندهم الفاسق الغالب المتغلب للأمر یکون ولیّا للأمر.

تأسیس الأصل فی المسألة

قبل إیرادِ الأَدِلَّةِ لابدّ من تأسیس الأصل الأوّلی فی المقام فأقول: الأصل الأوّلی _ کما مرّ فی أوّل بحث الولایات(1) _ عدم ثبوت ولایة انسانٍ علی إنسان آخر وأنّه لا ولایة لأحدٍ علی غیره إلاّ بقیام دلیل یثبت ذلک.

وبعده الأصل اللفظی: أیضا یدلّ علی نفی ولایة عدول المؤمنین وغیرها لأنّ قوله علیه السلام فی موثقة سماعة: ... فإنّه لا یحل دم امریء مسلم ولا ماله إلاّ بطیبة نفسه.(2)

یدلّ علی ممنوعیّة جمیع التصرفات الانتقالیة منها أو غیرها فی مال المسلم إلاّ من خلال الإذن ونفی التصرف بالولایة.

وقوله _ عجل اللّه تعالی فرجه الشریف _ فی التوقیع المروی بسند صحیح: ... فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه.(3)

یدلّ علی نفی ولایة التصرف فی الأموال مطلقا والدال عموم منطوقه.

وأمّا الأصل العملی: بالنسبة إلی الولایة: فلا شک فی الولایة أنّها مجعولة شرعا وتکون من الأحکام الوضعیة ولا یمکن ترتب الآثار علیها إلاّ بعد إحراز جعلها، فحینئذ بمجرد قیام الشک فی الجعل تجری أصالة عدم الجعل.

کما أنّه کذلک بالنسبة إلی المجعول، لأنّ الولایة تکون من الأُمور الحادثة وکانت مسبوقة بالعدم، وبعد ثبوت الشریعة وجعلها نشّک فی أنّها مجعولة علی النطاق الواسع بحیث تشمل ولایة عدول المؤمنین أم لا؟ والأصل عدم مجعولیتها علی النطاق الواسع فلا تشمل ولایة عدول المؤمنین.

ص: 340


1- 9 . راجع هذا المجلد صفحة 14.
2- 10 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی.
3- 1 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال.

کما أنّ هذین الأصلین _ عدم الجعل وعدم المجعول _ ینفیان نفوذ التصرفات المبنیّة علی هذه الولایة.

مضافا إلی أنّ استصحاب بقاء ملکیّة المالک السابق _ قبل التصرف الولائی _ یجعل التصرف الولائی لغیر المالک باطلاً وذلک عند الشک فی صحة تصرفاته ونفوذها.

هذا کلّه فی الأصل الأوّلی واللفظی والعملی فی المقام.

ویؤیدها السیرة العلقلائیة: القائمة علی نفی ولایة انسان علی آخر وعلی حریّة کلّ انسان واستقلاله عن غیره فی نفسه وماله وعمله ونشاطه.

الاُمور التی تعرض علیها الولایة علی أقسام:

الأوّل: ما یستقلّ العقل بحسنه مطلقا

_ کحفظ الیتیم من الهَلاک _ أو یفهم من دلیله جواز تصدّیه لکلِّ أحدٍ _ کتجهیز المیت _ وأنّه مطلوب وقوعه من کلِّ شخصٍ.

وهذا القسم الأوّل: هو الأُمور التی یجوز لعدول المؤمنین التَّصَدِّی لَها والقیام بها بما یتناسب من متطلّباتها فی الأعصار والأمصار من دون أیّ نقاشٍ.

الثانی: الأُمور التی تختص بأشخاص معیّنین مِمَّنْ لَهُمْ صفات خاصة

الثانی: الأُمور التی تختص بأشخاص معیّنین مِمَّنْ لَهُمْ صفات خاصة فیجوز لهم التصدی لها کالإفتاء والقضاء والولایة علی الأُمور العامة کما مرّ ذلک فی مناصب الفقیه(1)

بالتفصیل.

ولا شک بِاخْتِصاص هذه الأُمور بالفقیه الذی له صفات معیّنة ومؤهّلات خاصة ولا یجوز لغیره من عدول المؤمنین وغیرهم التَّصَدِّی لِهذِهِ الاْءُمُوْر ولذا أخرجه الشهید قدس سره من دائرة ولایتهم بقوله: «غیر ما یتعلّق بالدعاوی»(2) وألحقه الشیخ الأعظم رحمه الله بها: «وإقامة الحدود»(3).

ویلحق بهما منصب الإفتاء والولایة علی الأُمور العامة والأُمور التی تکون

ص: 341


1- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 178.
2- 1 . القواعد والفوائد 1/406.
3- 2 . المکاسب 3/563.

مشروطة بإذن الفقیه نحو مصرف سهم الإمام علیه السلام من الخمس.

الثالث: الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه

الثالث: الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه فهل یجوز لعدول المؤمنین التصدّی لها أم لا؟ وهی الأُمور التی نشکّ فی مدخلیة إذن الفقیه فیها تکلیفا أو فی صحتها ونفوذها وضعا. فلابدّ من البحث حول حکمها تکلیفا ووضعا.

أمّا الحکم الوضعی: فالأصل عند الشک فی نفوذ التصرف وصحته هو عدم نفوذ التصرف وعدم صحته وعدم تحقّق آثاره من الملکیّة أو الزوجیة ونحوهما.

بعبارة أُخری: الأصل یقتضی فساد التصرفات عند الشک فی نفوذها فی هذه الأُمور التی نشک فی مدخلیة إذن الفقیه فیها. فمثلاً لو جمع عدول المؤمنین الأخماس وَدَفَعُوْها إلی أصحابها نشک فی ملکیّة الهاشمی وغیره من الآخذین لها والأصل عدم تحقّق الملکیّة لهم مع عدم إذن الفقیه.

وأمّا الحکم التکلیفی: فهل یجوز لعدول المؤمنین الْتَصَدِّیْ للأُمور التی یحتمل مدخلیة إذن الفقیه فی مشروعیتها وصحتها أم لا؟

إذا وَصَلَتْ النوبة إلی الأصل العملی، فَالشُّبْهَةُ تکون حکمیّة نشک فی حرمة تصرفات عدول المؤمنین وعدمها؟ وأصل البراءة تقتضی جوازها وعدم توقفها علی إذن الفقیه، هذا کلّه بالنسبة إلی الشک فی الوجوب.

وأمّا بالنسبة إلی الشک فی الواجب: بمعنی اشتراط الواجب بإذن الفقیه وعدمه فالأصل العملی أیضا یقتضی البراءة عن الاشتراط.

هذا کلّه بالنسبة إلی جریان الأُصول العملیة فی حکمی الوضعی والتکلیفی.

وأمّا مقتضی الأدلة اللفظیة علی أیِّ شیءٍ یقرّر ویثبت أیُّ شیءٍ فلابدّ من ملاحظتها ومدی دلالتها فلذا ندخل فی بحث أدلة ولایة عدول المؤمنین بإذن اللّه تعالی فنقول:

أدلة ولایة عدول المؤمنین

اشارة

قد تمسکوا لإثباتها بالأدلة الأربعة:

ص: 342

1_ الکتاب
اشارة

فقد استدلوا بآیات منه:

منها: قوله تعالی: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی

منها: قوله تعالی: «وَتَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی وَلا تَعاوَنُوا عَلَی الاْءِثْمِ وَالْعُدْوانِ»(1).

بتقریب: أنّ حفظ الیتیم من الهلاک ودفع ضرورته ورفع احتیاجاته إعانة علی البرّ فهو مندوب شرعا وخطاب الآیة الشریفة لعامة المکلفین ولا یختص بالفقیه. فجواز تصدی المؤمنین لأنواع البرّ یستفاد من الآیة الشریفة.

وبعبارة أُخری: ثَبَتَتْ الآیةُ لزومَ التعاون بین النّاس وتکون فی بیان جهة هذا التعاون بحیث یکون فی البرّ والتقوی، لا الإثمّ والعدوان، ولزوم هذا التعاون فی الجهة الخاصة یتأکّد فی المجامع الدینیة وبالنسبة إلی المؤمنین لاسیّما العدول منهم، وهذا التعاون الخاص یکون مبدأً لولایتهم.

ویرد علیه: أوّلاً: قد مرّ أنّ «التعاون عبارة عن اجتماع أشخاص لإیجاد أمر من المعصیة أو الطاعة کَهَدْمِ مسجدٍ أو بنائه، ولذا ینسب الفعل إلی الجمیع لا إلی الشخص الواحد»(2) وإذا کان معنی التعاون هذا فأیّ ربط له بولایة عدول المؤمنین؟!

وثانیا: مجرد الاْءَمْرِ بالتعاون عَلی البرّ والتقوی لا یدلّ علی ثبوت الولایة للعاملین بها وإلاّ یلزم أن یکون کلّ مَنْ أحَسَنَ وبَرَّ إلی غیره ولیّا علیه والتالی باطل فالمقدم مثله.

وثالثا: البر الوارد فی الآیة الشریفة هو ما ثَبَتَتْ برّیتُهُ عُرْفا أو شرعا أو عقلاً، ثمّ إذا احتملنا فی تصرفٍ إذنَ الفقیهِ، فالتمسک بالآیة الشریفة لاِءثبات برّیته تَمَسُّکٌ بالعامِّ فی الشبهة المصداقیة له. لأنّ مع جریان هذا تَکُوْنُ برّیّة هذا التصرف مشکوکا فیها فلا یحکم العرف أو الشرع أو العقل ببرّیته، فالتمسک بالآیة الشریفة یکون تمسکا بالدلیل فی الشبهة

الموضوعیة لذاک الدلیل.

ص: 343


1- 1 . سورة المائدة /2.
2- 2 . الآراء الفقهیة 1/200.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ آیة التعاون أجنبیة عن ولایة عدول المؤمنین وإثباتها.

ومنها: قوله تعالی «وَالْمُوءْمِنُونَ وَالْمُوءْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ»

(1).

بتقریب: أنَّ الاْآیةَ أَثْبَتَتْ وجود الولایة للمؤمنین والمؤمنات علی بعض آخر من هاتین الطائفتین ومن جملتها ولایة عدول المؤمنین أو أنّها فیهم تتأکّد وتتقّوی. لأنّ الآیة تبیّنت وجود ولایة عامة بین المؤمنین ولم تعیّنهم فتشمل جمیعهم فتکون بالنسبة إلی عدولهم آکَدَ وأقوی.

ویرد علیه: أوّلاً: الولایة الثابتة فی الآیة الشریفة مذکورة فی ذیلها وهی ولایة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لأنّ اللّه تعالی یقول بعده: «یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ»(2).

وثانیا: یرد علیه ما اُوردته آنفا فی الاستدلال بالآیة السابقة (ثالثا) من التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له.

ومنها: قوله تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

ومنها: قوله تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3).

بتقریب: الأُمورَ التی لا یرضی الشارع بترکها وإهمالها وفوتها تدخل فی «الخیر» الوارد فی الآیة الشریفة بلا إشکال، ونص الآیة یدلّ علی وجود طائفة من المؤمنین «یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ» ویتصدون إلی هذه االأُمور، ولیس هذا إلاّ ثبوت الولایة لعدول المؤمنین.

ویرد علیه: أوّلاً: دخول الأُمور التی نشک فی تَوَقُّفِها وَاشْتِراطِها علی إذن الفقیه فی عنوان «الخیر» الوارد فی الآیة الشریفة محلّ نقاش واضح.

وثانیا: الولایة الثابتة فی الآیة مذکورة فی ذیلها وهی ولایة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر کما قال اللّه تعالی «وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ». کما مرّ

ص: 344


1- 1 . سورة التوبة /71.
2- 2 . سورة التوبة /71.
3- 3 . سورة آل عمران /104.

فی ذیل الآیة السابقة.

وثالثا: مجرد الدعوة إلی الخیر لا یوجب للداعی الولایة علی الْمَدْعُوِّیْنَ وإلاّ

تثبت الولایة لکلِّ واعظ علی متعظه ولکلِّ متکلِّم علی مخاطبه إذا دعاه إلی الخیر، والتالی باطل فالمقدم مثله، کما مرّ فی ذیل الآیة الاُولی.

ورابعا: من مُتَمِمات الإیرادات أنَّ جماعةً من المُخَیّرین حَمَلُوا قَوْلَهُ تعالی: «وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ» علی معنی التّجرید مع إرادة المجموع علی حَدِّ قول القائل: لِیَکُنْ لی مِنْکَ صدیقٌ مُخلصٌ. وَمَنْ له إشْمامٌ واستئناسٌ بمغزی بلاغة الذکر الحکیم وَمَلاحن کلام العرب لا یُنکر هذا الوجه الوجیه.

ومنها: قوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»

(1).

بتقریب: «إنّ ظاهر الاستثناء کون القرب إذا کان حسنا جائزا وهنا کذلک، ولیس الخطاب للحکّام خاصة بل ظاهره العموم، وإذا ثبت ذلک فی مال الیتیم ثبت فی غیره بالاُولویّة وبعدم القول بالفصل»(2).

وبتوضیح: الآیة الشریفة تخاطب الجمیع _ لا الفقهاء خاصة _ فی عدم التصرف وَالتَّداول فی أموال الیتامی إلاّ إذا کان ذلک التصرف والتدأوّل حسنا ومفیدا بالنسبة إلی الیتیم فإذا کان حسنا یکون جائزا، وإذا ثبت الجواز لکل أحدٍ أن یتصدی لأموال الیتامی إذا کان تصرفه وتصدیه نافعا للیتیم، ثبت الجواز فی بقیة التصرفات بالاُلویّة القطعیة وبعدم القول بالفصل.

وبتقریب آخر: التصدی لأُمور الیتامی وَإِدارة أموالهم واجب بحکم العقل والشرع، والآیة نهت أن یکون هذا التصدی بنحو غیر حسن و غیر نافع، فإذا کان حسنا ونافعا لکان جائزا، وهذا الجواز لا یختص بتصدی لاِءمْوالِ الیتامی بل یعمّ الاُمور الاجتماعیة الاُخَر لاتحاد المناط بل اولویة بعضها بالنسبة إلی أموال الیتامی کإجراء

ص: 345


1- 1 . سورتا الأنعام /152، والإسراء /34.
2- 2 . العناوین 2/580.

الحدود ودفع الظلم والظالم وتنظیم معاش النّاس ومعادهم وحفظ النظام و...(1).

ویرد علیه: أوّلاً: قد مرّ(2) فی ولایة الأب والجدّ بحوث مفصلة حول الآیة الشریفة والکلمات الواردة فیها فلا نعیدها وَقَدْ قلنا هناک إنّ الآیة «تدلّ علی اعتبار

مراعاة المصلحة فی تصرفات الاُولیاء بلا فرق بین التصرفات الاعتباریة والتصرفات الخارجیة وبلا فرق بین الأب والجدّ وغیرهما، نعم بضرورة الفقه لا تدلّ علی مراعاة الأصلح والأنفع کما مرّ، وأمّا دلالتها علی مراعاة الأصلح والأنفع النسبی والغالبی والممکن فلا ینکر، واللّه العالم»(3).

وثانیا: الآیة الشَّرِیْفَة لم تثبت الولایة لأحدٍ بل تقول التصرف الولائی لابدّ فی ذاته أن یُراعی فِیْهِ مصلحة المولی علیه وإلاّ کان باطلاً، وأمّا من هو الولی ومن یجوز له هذا التصرف فهو خارج عن مدلول الآیة الشَّرِیْفَة فلا تثبت بها الولایة لعدول المؤمنین ولا لغیرهم.

وثالثا: التعدی من أموال الیتامی إلی کلِّ صغیر وکبیر کإجراء الحدود وتنظیم معاش النّاس وحفظ النظام الذی نعلم أنّها کلّها مَوْکُوْلَةٌ إلی الفقیه ولابدّ من الاستیذان منه حتّی بالنسبة إلی أموال الیتامی، مشکل جدّا، فمن أین یدعی فیها «الاولویة القطعیة» أو «بعدم القول بالفصل» أو «اتحاد المناط»، ودون اثبات هذه الدعوی خرط للقتاد.

ومنها: قوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ

ومنها: قوله تعالی: «یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»(4).

بتقریب: أنّ السؤال فی الآیة الشریفة هو التصرفات بالنسبة إلی الیتیم وأمواله وأجاز اللّه تعالی التصرفات الاْءصْلاحِیَّة والمخالطة الحسنة ولم یقیّدهما بأحدٍ دون أحد،

ص: 346


1- 3 . راجع: تحقیقٌ فی القواعد الفقهیة /794، تألیف صدیقی المکرّم آیة اللّه السیّد علی الفرحی _ دامت برکاته _ ، سبط شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .
2- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 50.
3- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 69.
4- 2 . سورة البقرة /220.

فیجوّزهما لکلِّ أحدٍ، فإذا کان الأمر هکذا بالنسبة إلی الأیتام وأموالهم فیمکن القول بالجواز فی غیرها من التصرفات بالاُلویة القطعیة أو بعدم القول بالفصل أو اتحاد المناط.

ویرد علیه أوّلاً: الآیة الشریفة تثبت مراعاة المصلحة فی التصرفات الولائیة فی الیتامی وأمّا من یجوز له هذه التصرفات ومن یکون ولیّا فهو خارج عن مدلولها.

وثانیا: التعدی من الیتامی إلی غیرهم من مصالح العباد والبلاد، دون إثباته خَرْطُ الْقَتادِ کما مرّ.

والحاصل: استفادة ولایة عدول المؤمنین من الآیات الشریفة فی غایة الإشکال والاستدلال بها لم یتم، هذا کلّه فی استفادة الحکم من کتاب اللّه العزیز الغفار، واللّه العالم.

2_ السنة
أ: الروایات الخاصة
اشارة

استدلوا بعدّة من الروایات وهل یستفاد منها «اشتراط العدالة فی المؤمن الذی یتولّی المصلحة عند فقد الحاکم، کما هو ظاهر أکثر الفتاوی؛ حیث یعبّرون بعدول المؤمنین، وهو مقتضی الأصل، ویمکن أن یستدلّ علیه ببعض الأخبار أیضا»(1).

منها: صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع
اشارة

قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع أمره إلی قاضی الکوفة فصیّر عبدالحمید القیم بماله، وکان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواری، فباع عبدالحمید المتاع، فلما أراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهنَّ إذ لم یکن المیت صیّر إلیه وصیته، وکان قیامه فیها بأمر القاضی لأنهنَّ فروج.

قال: فذکرت ذلک لأبیجعفر علیه السلام وقلت له: یموت الرجل من أصحابنا، ولا یوصی إلی أحد، ویخلف جواری فیقیم القاضی رجلاً منّا فیبیعهنَّ، أو قال: یقوم بذلک رجل منّا فیضعف قلبه لأنهنَّ فروج، فما تری فی ذلک؟ قال: فقال: إذا کان القیم به مثلک، ومثل عبدالحمید فلا بأس.(2)

ص: 347


1- 1 . المکاسب 3/564.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.

قال الشیخ الأعظم رحمه الله فی ذیلها: «بناء علی أنّ المراد من المماثلة: إمّا المماثلة فی التشیّع، أو فی الوثاقة وملاحظة مصلحة الیتیم وإن لم یکن شیعیّا، أو فی الفقاهة _ بأن یکون من نوّاب الإمام علیه السلام عموما فی القضاء بین المسلمین _ أو فی العدالة.

والاحتمال الثالث منافٍ لإطلاق المفهوم الدالّ علی ثبوت البأس مع عدم الفقیه ولو مع تعذّره. وهذا بخلاف الاحتمالات الاُخر؛ فإنّ البأس ثابت للفاسق أو الخائن أو المخالف وإن تعذّر غیرهم، فتَعَیّن أحدها الدائر بینها، فیجب الأخذ فی مخالفة الأصل بالأخصّ منها، وهو العدل»(1).

اعتراضات علی مقالة الشیخ الأعظم
الأوّل: اعترض المحقّق النائینی علی الشیخ الأعظم

بقوله: «ویمکن أن یورد علیه:

أمّا أوّلاً: فبأنَّ ما أفاده فی وجه بُعد الاحتمال الرابع أعنی أرادة المماثلة فی الفقاهة

بأنّه یلزم ثبوت البأس فی عدم تصدی الفقیه مع أنّ المورد ممّا لابدّ أن یؤتی به ولو من غیر الفقیه، منقوض بالنسبة إلی ارادة الاحتمال الثالث أیضا بل وعلی الاحتمال الثانی، فإنَّ المفروض أنّه مع عدم العادل والموثَّق تکون الواقعة ممّا لابدّ من القیام به ولو من الفساق.

وأمّا الثانیا: فبأنّه یمکن أن یکون المفروض فی مورد الروایة صورة التمکن من الرجوع إلی الفقیه وأنّ البأس کان فی تصدی غیره لأجل التمکن من تصدیه، فالإنصاف أنّ الروایة مجملة لا تصلح لاستنباط اعتبار العدالة منها»(2).

وتبعه فی الاعتراض تلمیذه السیّد الخوئی وقال: «ویتوجه علیه أوّلاً: أنّ العلم الخارجی بعدم إرادة الإطلاق من الکلام لا یرخّص رفع الید عن ظهور اللفظ فی الاطلاق، بل لابدّ من التحفّظ علی الظهور وتقیید الإطلاق بالعلم الوجدانی بالتقیید، وأمّا رفع الید عن أصل الظهور وحمل اللفظ علی خلاف الظاهر فهو ممّا لا مجوّز له علی ما فصّلنا

ص: 348


1- 3 . المکاسب 3/565.
2- 1 . المکاسب والبیع 2/340.

الکلام فیه عند التکلّم فی مبحث العام والخاص وقلنا إنّ أصالة الظهور إنّما تجری فی تعیین المراد لا _ بعد العلم بالمراد _ فی أنّه کیف یراد.

وثانیا: أنّ هذه المناقشة تجری فی الاحتمال الرابع أیضا للعلم بأنّ القیمومة ثابتة للفاسق عند تعذّر الوصول إلی العادل مع أنّ مفهوم الصحیحة ثبوت البأس عند عدم العدالة علی نحو الإطلاق، فالعلم الوجدانی علی الخلاف موجود فی هذا الاحتمال أیضا، هذا.

والصحیح أن یقال: بأنّ الاحتمال الأوّل أیضا ساقط عن الاعتبار أعنی المماثلة فی التشیّع، لأنّ الظاهر من الروایة أنّ السؤال إنّما هو عن المیّت من الشیعة والعادة جاریة علی نصب واحد ممّن یوافق المیت فی المذهب من أقران المیّت وأصحابه قیّما علی أمواله وأطفاله، فإنّ من البعید غیر المتعارف أن ینصب سنّی قیّما علی أولاد الشیعی المتوفّی، إذن فالمماثلة فی الطریقة والتشیّع کانت مفروغا عنها فی الروایة، ومعه لابدّ فی الخروج عن أصالة عدم جواز التصرف فی أموال الغیر من أن نعتبر جمیع المحتملات الباقیة فی المماثلة کالوثاقة والعدالة والفقاهة وغیرها ممّا نحتمل فی معنی المماثلة اقتصارا علی القدر المتیقّن فی الخروج عن مقضی الأصل حتّی مثل المکان والبلد والعمر فیما إذا احتملنا دخل هذه الاُمور، والوجه فی ذلک أنّ الظاهر من الروایة هو التمکّن من استئذان الإمام علیه السلام فی التصرفات وکان العصر عصر الحضور، کما أنّ المبیع کان متاعا لا

یخشی علیه من الضیاع والتلف علی تقدیر تأخیر بیعه إلی زمان تحصیل الإذن من الإمام علیه السلام .

ومن الظاهر أنّه مع التمکّن من الإمام علیه السلام وحضوره لیس لغیره الولایة فی أمثال مورد السؤال، ومعه إذا جعل الولایة لواحد کما فی قوله علیه السلام «إذا کان مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس» فهو حکم علی خلاف القاعدة یقتصر فیه علی المقدار المتیقّن کما ذکرناه، فإنّه علیه السلام قد جعل بذلک الولایة لغیره مع التمکّن مع الوصول إلیه علی طبق القضیة الحقیقیة ولو لأجل التساهل والارفاق، فلا مناص من الاکتفاء فی الخروج عمّا تقتضیه

ص: 349

القاعدة علی القدر المتیقّن»(1).

أقول: یمکن أن ندافع عن الشیخ الأعظم بأنّ مبناه بناءً علی ما صرّح به من قوله: «هذا، والذی ینبغی أن یقال: إنّک قد عرفت أنّ ولایة غیر الحاکم لا تثبت إلاّ فی مقام یکون عموم عقلی أو نقلی یدلّ علی رجحان التصدّی لذلک المعروف، أو یکون هناک دلیل خاصّ یدلّ علیه، فما ورد فیه نصّ خاصّ علی الولایة اتّبع ذلک النصّ عموما أو خصوصا فقد یشمل الفاسق وقد لا یشمل»(2).

توضیح مبناه: أنّ الولایة لم تَثْبُتْ لأحدٍ من المؤمنین إلاّ بعد ورود عمومٍ عقلیٍّ أو نقلیٍّ أو یَکُوْنُ هُناکَ نَصٌّ خاصٌّ یَدُلُّ عَلَیْها، النصوص العامة تقتضی عدم اعتبار العدالة ولکن لنصوص الخاصة تقتضی اعتبارها، وما حکم الشیخ الأعظم ذیل هذه الصحیحة باشتراط العدالة هو ما یقتضیه هذا الدلیل الذی یدخل فی النصوص الخاصة فلا یتم الاعتراض علیه. واللّه العالم.

الثانی: ما ذکره المحقّق الاصفهانی

بقوله: «والتحقیق: أنّ اطلاق المفهوم تابع لإطلاق المنطوق، ومن الواضح أنّه لا معنی لإطلاق المنطوق هنا، بیانه: إنّ المراد إذا کانت المماثلة فی الفقاهة فمعناها إنْ کان القیم مثلک ومثل عبدالحمید فقیها فلا بأس، ومن البیّن أنّ نفوذ تصرّف کلّ فقیه غیر منوط بوجود فقیه آخر ولا بعدمه قطعا، لا أنّه أمر یحتمل دخله حتّی یقوم المتکلم بصدد نفی دخله وجودا وعدما لیتحقّق اطلاق کلامی منه، بحیث یکون حجة علی نفی دخله من قبله، وهکذا الأمر من سائر المحتملات فتدبر جیدا»(3).

مراده: «أنّ القواعد الاُصولیّة تقتضی تبعیّة المفهوم للمنطوق، لأنّ دلالة المفهوم دلالة التزامیّة ودلالة المنطوق مطابقیّة، والالتزامیّة تابعة للمطابقیّة فی العموم والخصوص، فإذا استحال فرض الإطلاق فی المنطوق استحال انعقاده فی المفهوم أیضا،

ص: 350


1- 1 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/178 و 179.
2- 2 . المکاسب 3/567.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/405 و 406.

وفیما نحن فیه بما أنّه لا إطلاق فی المنطوق کذلک لا إطلاق فی المفهوم بالضرورة، وذلک بحکم البرهان المذکور، ومع انتفاء الإطلاق فی المفهوم یسقط دعوی الشیخ، من أنّ: «الاحتمال الثالث مناف لإطلاق المفهوم الدال علی ثبوت البأس مع عدم الفقیه»(1)، لما ثبت من أنّ صحّة تصرّف کلّ فقیه غیر مقیّد بتصرّف غیره من الفقهاء وجودا، وأیضا من جهة العدم لم یکن تصرّف کلّ فقیه مشروطا بعدم تصرّف فقیه غیره، وبالتالی فمع عدم احتمال التقیید یبطل الإطلاق فی المنطوق، لتوقّف ثبوت الإطلاق علی احتمال المدخلیّة، حیث نردّه من خلال الإطلاق، ومع علمنا بأنّ تصرّف الفقیه فی الاُمور الحسبیّة جائز مطلقا غیر مقیّد بوجود فقیه آخر وعدمه، فإذا انتفی احتمال التقیید ینتفی بتبعه الإطلاق، ومع بطلان الإطلاق فی المنطوق یبطل دعوی الإطلاق فی المفهوم بتبعه أیضا»(2).

وفیه: «أنّ دعوی المحقّق الأصفهانی من أنّ: «نفوذ تصرّف کلّ فقیه غیر منوط بوجود فقیه آخر ولا بعدمه قطعا»(3) تامّة لا نقاش فیها، لکن القطع بذلک لا یحصل لنا إلاّ بعد ملاحظة الأدلّة الشرعیّة، والیقین الحاصل بعد ملاحظتها لا یعدّ مانعا عن انعقاد الاحتمال المذکور، لیمنع عن انعقاد اللاّحق، لأنّه قبل المراجعة إلیها نحتمل احتمالاً وجدانیّا بأنّ الولایة الثابتة للفقیه إنّما هی ولایة مجموعیّة لا استغراقیّة _ کما هو الحال فی الوصیّة إلی الأوصیاء المتعدّدین، مع اشتراط اشتراک مجموعهم فی الإشراف علی التنفیذ بمعنی أنّ الولایة الثابتة لهم تکون بنحو العام المجموعی، حیث یستلزم اجتماعهم واتّفاقهم علی التصرّف، فلا تکون تصرّفاتهم المنفردة نافذة، ومثل هذا الاحتمال الوجدانی لا دافع له إلاّ من خلال إطلاق الدلیل، ممّا یعنی لزوم انعقاد الإطلاق فی الدلالة المنطوقیّة أوّلاً، لکی یقتضی ثانیا علی رفع الاحتمال المذکور، فإذا ثبت الإطلاق فی المنطوق ثبت الإطلاق فی المفهوم بتبعه، ویثبت بتبعه صحّة ما التزم به الشیخ وبطلان

ص: 351


1- 1 . المکاسب 3/565.
2- 2 . العقد النضید 4/243 و 244.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/406.

دعوی المحقّق الأصفهانی»(1).

الثالث: ما ذکره المحقّق الإصفهانی أیضا

بقوله: «ثمّ إنّ احتمال المماثلة فی الفقاهة مدفوع بأنّ عبدالحمید الذی یحتمل إرادته من هذا الخبر؛ إمّا عبدالحمید بن سالم العَطّار الکوفی أو عبدالحمید بن سعد البجلی الکوفی.

والأوّل: وإنْ کان موثقا فی کلام جمع إلاّ أنّه لیس صاحب أصل أو کتاب لیستفاد فقاهته من کونه صاحب کتاب فی الروایات، نعم أسند ذلک(2) إلی محمّد ابنه.

والثانی: وإنْ کان صاحب کتاب ویروی عنه صفوان کما فی ترجمته(3)، إلاّ أنّه لم یوثّق صریحا فی کتب الرجال إلاّ من حیث روایة صفوان عنه، وهو ممن أجمعت الْعِصابَةُ علی تصحیح ما یَصِحُّ عنه، أو من حیث هذه الرِّوایَة حیث جعل قرینا لمثل محمّد بن إسماعیل بن بزیع الذی هو من الفقهاء من مشایخ الفضل بن شاذان.

وکلاهما محل تَأَمُّلٍ(4)، لِما فی الأوّل من المناقشة فی إثبات العدالة به فی فنه.

ولما فی الثانی من احتمال کونه مماثلاً له فی کونه إمامیا أو أمینا فقط، مع أنّه من المحتمل أنْ یکون هو ابن سالم الثقة فتأمل.

وعلی أیِّ حال فإمّا ثقة ولا فقاهة؛ وإمّا فقیه ولا توثیق، بل الظاهر کما فی غالب نسخ التهذیب أنّه ابن سالم لوجوده فیها وهو لیس بصاحب کتاب لیستظهر منه کونه فقیها واللّه العالم.

نعم بِناءً علی أنّهما واحد کما قیل، وأنّه نسب تارة إلی أبیه وأُخری إلی جده، لِوَصْفِ(5) کلیهما بأنّه مولی بَجِلیَّة کوفی وکلیهما بالعطار فهو فقیه موثق واللّه أعلم»(6).

ص: 352


1- 1 . العقد النضید 4/244.
2- 2 . رجال النجاشی /339، رقم 907. وفیها وثق والده، وکلامه محل کلام هل التوثیقق للولد أو الوالد؟ فراجع.
3- 3 . رجال النجاشی /246، رقم 646.
4- 4 . فی المصدر: التأمل.
5- 5 . فی المصدر: لتوصیف.
6- 6 . حاشیة المکاسب 2/406.

وفیه: أوّلاً: روایة عبدالحمید بن سالم العَطّار عن الإمام أبیالحسن موسی علیه السلام ووثاقته اسْتُفِیْدَتْ من النجاشی(1) وفقاهته اسْتُفِیْدَتْ من تمثیله بمحمّد بن إسماعیل بن

بزیع والتمثیل لا یکون إلاّ فی أظهر الأشیاء وأعرفها کما مرّ منّا فی بحث ولایة الفقیه(2). والرجل لا یکون عندنا إلاّ ابن سالم العطار واللّه العالم.

وثانیا: نعم، قول النجاشی: «له کتاب النوادر»(3) یرجع إلی ابنه محمّد بن عبدالحمید، کما إنّ قوله «وکان ثقةً من أصحابنا الکوفیین»(4) یرجع إلی والده عبدالحمید ابن سالم لاِءَنَّه لو کان الابن المراد من التوثیق لا یحتاج إلی ذکر «وکان ثقةً» بل یمکن أن یقول بدله «ثقةٌ» من دُوْنَ «کان» کما هو دأب النجاشی.

وثالثا: عبدالحمید بن سعد بَجَلِیٌّ کوفیٌّ له کتاب کما ذکره النجاشی(5)، ولکن إثبات أنَّ لَه کتاب لا یُثْبِتُ فَقاهَتَهُ خِلافا لِما ذکره المحقّقَ الأصفهانی رحمه الله لأنّ الکتاب لو کان فی التاریخ أو المواعظِ أو الفضائلِ أو الثواب والعقاب أو العقائد أو السِّیَر کیف یمکن إثبات فقاهة مؤلِّفه به؟! «له کتاب»(6) عنوان عام والفقاهة عنوان خاص وَلا یُثْبِتُ الأعَمُّ الأخَصَّ.

ورابعا: علی ما مرّ منّا فی بحوثنا فی علم الرجال(7): کلّ من ذکره النجاشی قدس سره فی فهرسته ولم یتعرض لمذهبه فهو شیعیٌّ إمامیٌّ اثناعشریٌّ وکلّ من ذکره ولم یقدح فیه فهو مستور وممدوح ومعتبر ومحلّ اعتماد لأنّ مبناه ذکر مصنفی الإمامیة، وهو حریص فی کل ما ورد فی قدحهم، فإذا لم یذکر أحدا بقدح فلم یصل قدحه إلیه فهو معتبر لعدم ورود

ص: 353


1- 7 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 215.
3- 2 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
4- 3 . رجال النجاشی /339، رقم 906.
5- 4 . رجال النجاشی /246، رقم 648.
6- 5 . رجال النجاشی /246، رقم 648.
7- 6 . راجع تقریرات هذه البحوث بقلم المحقّق الخبیر الشیخ جویا جهانبخش _ دامت برکاته _ .

القدح الثابت فی حقّه.

وعلی هذا المبنی _ الذی لستُ أنّا أوّل مَنْ قال به _ ، بل أنا تابع لجماعة من مشایخ هذا الفن فی ذلک، ثبوت اعتبار ومدح وحُسْن ووثاقة عبدالحمید بن سعد واضح.

وخامسا: لم تَتمّ هذه المقالة: «فإمّا ثقة ولا فقاهة وأمّا فقیه ولا توثیق»(1) لأنّه لو کان عبدالحمید بن سالم فهو فقیه ثقة وهو المختار، ولو کان عبدالحمید بن سعد فهو مؤلِّف

ممدوح معتبر فلم یثبت فقاهته ولکن یثبت توثیقه کما مرّ.

وسادسا: لم یثبت أنّهما واحد، بل ظاهر النجاشی أنّهما اثنان لأنّهما لو کانا واحدا لابدّ للنجاشی عند ذکر محمّد بن عبدالحمید أن یقول: وقد مرّ والده أو عند ذکر الوالد أن یقول: وقد یأتی ولده محمّد ولم یذکرهما، فظاهر عنوانهما متعددا، واحدا منهما _ وهو عبدالحمید بن سعد _ مستقلاً وثانیهما _ وهو عبدالحمید بن سالم _ تبعا لولده محمّد تعددهما، وَوَصْفُ الأخیر بالعطّار والأوّل بِالْبَجَلِیّ، من دون تکرار الْوَصْفِ فیهما أیضا شاهد علی تعددهما فلا یتم «أنّهما واحد کما قیل»(2) ولم یتصف «کلاهُما بأنّه مولی بجِلیَّةَ کوفی وکلاهما بالعطار»(3) والاشتراک بینهما یثبت أنّهما کوفیان فقط.

الرابع: ما ذکره المحقّق الخمینی رحمه الله

بقوله: «ولکن استفادة عموم الحکم موقوفة علی إحراز کونه بصدد الإجازة مطلقا، أو فی مقام بیان الحکم الکلّی الشرعیّ، وهما محلّ اشکال فی المورد لأنّ ظهور کلام الإمام علیه السلام فی بیان الحکم الشرعی أنّما یکون فی غیر ما کانت الإجازة فیه بیده، کما لا یخفی علی المتأمّل، وعموم الإجازة أیضا غیر محرز.

وعلی فرضه، فبقاؤها بعد رحلته علیه السلام محلّ کلام؛ لأنّ الإجازة غیر جعل المنصب، فلابدّ فی بقائها من دلیل»(4).

وببیان آخر: «أنّ الاستدلال بهذه الروایة یتمّ فیما لو کان الإمام علیه السلام فی مقام بیان

ص: 354


1- 7 . حاشیة المکاسب 2/406.
2- 1 . حاشیة المکاسب 2/406.
3- 2 . حاشیة المکاسب 2/406.
4- 3 . کتاب البیع 2/675.

الحکم الواقعی، دون الإذن والتوکیل الْمَعْدُوْدَیْنِ من شؤون الإمام علیه السلام ، بمعنی أنّ الإمام إذا کان یقصد بیان الحکم الواقعی، وأنّه عند فقد الفقیه فإنّ لعدول المؤمنین ولایة التصرّف فی المصالح العامّة، صحّ الاستدلال بالروایه علی اشتراط العدالة. وأمّا لو کان یقصد أن یأذن لمثل عبدالحمید وابن بزیع بالتصرّف فی أموال الیتامی والقاصرین، کما هو شأن الإمام، فلا مجال للاستدلال بها لخروجها عن دائرة البحث، والروایه من صنف الأخیر، فلا مجال للاستدلال بها فی المقام، واستنتاج اعتبار العدالة فی المتصرّف منها»(1).

ویرد علیه: أوّلاً: الأصل فی ما یصدر من الأئمة علیهم السلام هو بیان الحکم الشرعی الواقعی لأنّهم علیهم السلام مبیّنون للأحکام الشرعیة ولهم الولایة التشریعیة کما مرّت فی أوّل

بحث ولایة الفقیه(2)، لا إعمال ولایتهم العامة، والحمل علی الأخیر یحتاج إلی قرینة وبیان.

وثانیا: عَلی فَرْض قبول هذه المقالة: «ظهور کلام الإمام علیه السلام فی بیان الحکم الشرعی إنّما یکون فی غیر ما کانت الإجازة بیده»(3) وغیر موارد إعمال ولایته العامة، لیست المورد من موارد الإجازة بل یکون من موارد النصب وإعطاء المقام وجعل الولایة لأحد بل نصب الفقیه منصب القیمومیة علی الأیتام، ونعلم أن إعطاء المنصب توسط الإمام علیه السلام ونصب المقام وجعل الولایة لأحد باق بعد وفاة الأمام علیه السلام ولذا یظهر عدم تمامیة هذه المقالة: «وعلی فرضه [أی فرض عموم الإجازة [فبقاؤها بعد رحلته علیه السلام محلّ کلام لأنّ الإجازة غیر جعل المنصب فلابدّ فی بقائها من دلیل»(4).

لأنّ المورد جعل المنصب لا الإجازة.

وثالثا: قوله علیه السلام : «إذا کان القیم به مثلک ومثل عبدالحمید فلا بأس»(5). قرینة

ص: 355


1- 4 . العقد النضید 4/240.
2- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 149.
3- 2 . کتاب البیع 2/675.
4- 3 . کتاب البیع 2/675.
5- 4 . وسائل الشیعة 17/363، ح2.

قطعیة علی أنّ الإمام علیه السلام یقصد به بیان الحکم الشرعی الواقعی لا إعمال ولایته علیه السلام ، ولا أقل تکون مقالته علیه السلام قرینة قطعیة علی أنّه فی مقام إعمال الولایة جعل منصب القیومیة للأیتام للفقهاء العظام حیث نفی البأس عن أمثالهما لا أشخاصهما.

وهذه المقالة أیضا قرینة قطعیة علی أنّها لیست علی نحو الإجازة حتّی نبحث فی عمومیتها.

ورابعا: لو تنزّلنا أوّلاً وقبلنا عدم دلالة الصحیحة علی الحکم الشرعی الواقعی وتنزّلنا ثانیا وقبلنا أنّها لم تدل علی جعل المنصب فی إعمال ولایة العامة للإمام، وقلنا بأنّها إجازة صدرت من الإمام علیه السلام فلا یمکن نفی عمومیتها لأنّها صدرت علی محور المثلیّة وفلا یمکن اختصاصها بأشخاص معیّنین من ابنی بزیع وسالم، بل یفید عموم الإجازة لأمثالهما من الفقهاء العظام فلا یتم «وعموم الإجازة غیر محرز»(1).

وخامسا: لو فُرِضَ صُدُوْرُ هذه الإجازة الخاصة _ علی ما قاله المُعْتَرِض _ فی غرة

شهر ذیالقعدة الحرام سنة 220ه الذی استشهد الإمام أَبُوْجعفر الثانی جواد الأئمة علیه السلام فی آخر یوم منه، هل یحتمل المعترض المحقّق إعادتها بعد شهر فی بدایة إمامة أبیالحسن الهادی علیه السلام ؟!، وهل فهم ابنا بزیع وسالم من کلام الإمام الجواد علیه السلام لزوم تجدیدها فی زمن الإمام الآتی؟!

وهذه القرائن کلّها تنفی تَطَرُّق هذا الاحتمال _ أی صدورها علی نحو الإجازة الخاصة _ واللّه سبحانه هو العالم.

والحاصل: صحیحة ابن بزیع تدلّ علی ولایة الفقیه بالنسبة إلی أموال الایتام وقیمومیتهم، لأنّ المماثلة المذکورة فیها هی الفقاهة کما مرّ بَیانُ ذلِکَ.

نعم، الفقیه لابدّ أن یکون عادلاً حتّی ثبتت الولایة فی حقه، وإذا کان عادلاً لابدّ أن یکون مُوَثَّقا کما لابدّ أنْ یکون شیعیا.

ص: 356


1- 5 . کتاب البیع 2/675.

وأمّا تَطَرُّقُ احتمال المماثلة فی التشیع فَهُوَ مُنْتَفٍ بما مرّ(1) من السیّد الخوئی(2) فی الاعتراض الأوّل فراجعه، هذا تمام الکلام حول صحیحة ابن بزیع وقد عرفت عدم دلالتها علی ولایة عدول المؤمنین والحمد للّه ربّ العالمین.

ومنها: صحیحة علی بن رئاب قال: سألت أباالحسن موسی علیه السلام عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولادا صغارا، وترک ممالیک غلمانا وجواری ولم یوص، فما تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ وما تری فی بیعهم؟ قال: فقال: إن کان لهم ولیّ یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم وکان مأجورا فیهم، قلت: فما تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتّخذها أُم ولد؟ فقال: لا بأس بذلک إذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم، فلیس لهم أن یرجعوا فیما صنع القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم.(3)

فی سند الکلینی سهل بن زیاد ولکن سندی الصدوق والشیخ بالروایة صحیحان.

حملها الشیخ الأعظم علی «کفایة الأمانة وملاحظة مصلحة الیتیم فیکون مفسّرا للاحتمال الثانی فی وجه المماثلة»(4) فی الصحیحة الماضیة أی المماثلة فی الوثاقة.

ویرد علیه: إنّ الصحیحة «بعد اعتبار القیّم والفراغ عن قیمومیته تتحدّث عن لزوم

مراعاته المصلحة»(5) وکلامنا فی ولایة عدول المؤمنین وجواز تصدیهم للقیمومیة وبینهما بَوْنٌ بعید.

ولذا قال المحقّق النائینی بعد نقل هذه الصحیحة: «والانصاف عدم امکان استفادة شیء منها أیضا، وذلک لأنّها مسوقة لبیان تصحیح فعل القیم لا فی مقام بیان من یصلح للقیام بأمرهم وما یعتبر فیه، فلعل القیم المذکور فی مورد الروایة کان فقیها أو نائبا أو مأذونا مع اجتماع ما یعتبر فیه من الشرائط فلا یستفاد منها اعتبار عدالة المتصدی أو

ص: 357


1- 1 . راجع هذا المجلد صفحة 349.
2- 2 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/179.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، ح17 الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . المکاسب 3/656.
5- 1 . العقد النضید 4/250.

وثاقته»(1).

وتبعه المحقّق السیّد الخوئی رحمه الله وقال: «ولا یخفی أنّ الروایة لیست بصدد بیان الأوصاف المعتبرة فی القیّم وغیر ناظرة إلیها، وإنّما هی فی مقام بیان جواز الشراء فیما إذا باع علیهم القیّم الناظر إلی أفعالهم، أمّا أنّ أیّ وصف یعتبر فی القیّم فهی غیر ناظرة إلیه فلا یمکن الأخذ بإطلاقها. علی أنّ هذه الروایة مطلقة من حیث عدم اعتبار تعذّر الوصول إلی الإمام فضلاً عن الفقیه، بل حکم بجواز تولیة آحاد المسلمین علی نحو الإطلاق سواء کان ذلک فی زمان الإمام وأمکن الوصول إلی محضره أم کان فی زمان آخر تمکّن من الوصول إلی الفقیه أو لم یتمکّن، وعلیه فتکون هذه الروایة أجنبیة عمّا نحن بصدده، إذ الکلام فی ولایة المؤمنین أو غیرهم فی غیر زمان التمکّن من الإمام أو الفقیه، وأمّا جعل الولایة علی نحو الإطلاق فیمکن أن یشترط فیها شیء آخر أو یحذف عنها بعض الشروط، وکیف کان فالمقام غیر ما دلّت علیه الروایة کما هو ظاهر»(2).

ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وکبار من غیر وصیة، وله خدم وممالیک وعُقَدٌ(3)، کیف یصنع الورثة بقسمة ذلک المیراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلک کلّه فلا بأس.(4)

قد یقال: «تقریب الاستدلال بمثل هذه الروایة واضح، وهو أنّه حتّی مع عدم الإذن السابق من الحاکم أو المجتهد لخصوص هذا الرجل الثقة مثلاً لا بأس بقیامه باُمور المیّت

وورثته، بل یمکن أن یستفاد منها لزوم قیامه لا مجرّد جوازه، وذلک لأنّ الإمام لم یُعیِّن فی جواب المسألة طریقا آخر، وحیث إنّه لا یصحّ الإهمال فلذا یترجّح بل یتعیّن أن یتصدّی له الثقه، وهذا یکون بمعنی ولایة العدل أو ما یقربه.

ولا یخفی أنّ الروایة لم تقیّد الرجل المتصدی له بالعدالة، بل قیّدته بالوثاقة التی

ص: 358


1- 2 . المکاسب والبیع 2/340.
2- 3 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/180.
3- 4 . العُقَد: جمع عُقْدِة وهی الضَیْعَة والمکان الکثیر الشجر [الصحاح 2/510].
4- 5 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.

هی أدون منها اصطلاحا. نعم، لا یبعد أن یقال: إنّها فی لسان الروایات متحدة معها ظاهرا»(1).

حملها الشیخ الأعظم «علی أنّ المراد من یوثق به ویطمئنّ بفعله عرفا وإن لم یکن فیه ملکة العدالة»(2).

وتبعه المحقّق الاصفهانی وقال: «وإن کانت العدالة فی نفسها أخص من الوثاقة»(3).

ولکن المحقّق النائینی شکّک فی المراد من الوثاقة وقال: «ولا ینبغی الارتیاب فی دلالتها علی کفایة الوثاقة فی القیم بأمور الصغیر، لکن الشأن فی المراد من الوثاقة، إذ لم یعلم أنّ المراد منها هل هو العدالة، فإنّها قد تطلق ویراد بها العدالة، أو أنّ المراد بها هو المعنی الأعم من العدالة وکیف کان فلو أُرید منها الاعم لوجب تقییدها بصحیحة إسماعیل بن سعد المرویة عن الرضا علیه السلام »(4).

والمحقّق السیّد الخوئی حمل الوثاقة فی الموثقة علی مرتبة فوق العدالة لا دونها وقال: «... لأنّ الثقة أخص من العدالة ومعناها من یؤمن به فی جمیع أفعاله وأخلاقه ودینه، ومنه ثقة الإسلام لقب الکلینی قدس سره وأمّا إطلاق الثقة فی اصطلاح الرجالیین علی من لا یکذب فی الحدیث فقط وإن کان فاسقا فی حدّ نفسه أو کان کافرا مثلاً فهو اصطلاح خاص للرجالیین وإنّما اصطلحوا بذلک لأنّه مشغلتهم حیث إنّ شغلهم التفتیش عن صدق الرواة وکذبهم فی الخبر، وأمّا الثقة علی نحو الإطلاق کما وقع فی الحدیث فهی عبارة عمّن یؤمن به فی جمیع الاُمور علی نحو الإطلاق وهو أرقی من العدالة وأخصّ منها کما لا یخفی»(5).

ص: 359


1- 1 . تحقیق فی القواعد الفقهیة /795 للعلاّمة الحجة الآیة السیّد علی الفرحی _ دام ظله _ .
2- 2 . المکاسب 3/567.
3- 3 . حاشیة المکاسب 2/408.
4- 4 . المکاسب والبیع 2/340 و 341.
5- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/180 و 181.

والفرق بین المحقّقین النائینی والخوئی: النائینی یری الوثاقة أعمّا من العدالة والخوئی أخصا منها.

وتابع شیخُنا الاستاذ استاذَه السیّد الخوئی فی معنی الوثاقة ولم یرض بما دون العدالة وقال: «فلا ظهور للثقة فیها فیمن یطمئن بفعله عرفا ولو کان فاسقا، بل لا یبعد ظهورها فی العدل ولا أقل من الحمل علیه جمعا بینها [أی بین موثقة سماعة] وبین صحیحة إسماعیل بن سعد»(1).

وخالفهم الاستاذ المحقّق _ مدظله _ وقال: «ومن المعلوم أنّ المراد هی الأمانة المانعة والرادعة عن الخیانة [فی الأموال] لا الوثاقة المعتبرة فی القول والأخبار وبمدلول هذه الروایة نرفع الاجمال عن مدلول صحیحة ابن بزیع...»(2).

أقول: القاعدة تقتضی حمل الثِّقَة علی معناه اللغوی إلاّ إذا قامت قرینة علی خلافه، ومعنی الثقة هو الذی یُعتمدُ علیه وَیُطْمَأَنُّ إلیه فی القول أو العمل، سواءً کان عادلاً أم فاسقا فعلیه یکون معنی الوثاقة أَعَمَّ من العدالة، والوثاقة فی الأمور المالیة هی الأمانة وقدرة إدارة الأموال، فحینئذ بهذه الموثقة یمکن تقیید المطلقات من الروایات أو المجملات.

مضافا إلی أنّ ما ذکره الأعلام الثلاثة یوجب إجمال الروایات الواردة فی حجیة أخبار الثِّقاتِ وترددها بین العدالة والوثاقة، هذا أوّلاً.

وثانیا: أنّهم ذهبوا فی علم الأُصول إلی أنّ النسبة بین العدالة والوثاقة هی العموم والخصوص من وجه، لأنّ الرجل قد یکون عادلاً غیر ثقة فی إخباره لکثرة سهوه وَخَطَئِهِ وقد یکون موثقا لأنّه لم یکذب ولکنّه فاسق فی أفعاله. وإذا وصلوا إلی الفقه ذهبوا إلی أنّ النسبة بینهما هی العموم والخصوص المطلقان وأنّ الوثاقة أخص من العدالة أو أَعَمِّ منها.

وأمّا الإشکال الأصلی: فی هذه الموثقة فَهُوَ ورودها فی قسمة المیراث، ونحن

ص: 360


1- 1 . ارشاد الطالب 4/240.
2- 2 . العقد النضید 4/251.

نرید أن نثبت ولایة عدول المؤمنین بها فی مطلق التصرفات فی الأُمور الحسبیة مع فقدان الفقیه، والقاعدة تقتضی لزوم الاقتصار علی مورد النص وعدم تعمیمها إلی غیرها، فلا یثبت بها المدعی.(1)

ویمکن أن یجاب عنه: رجل ثقة إذا قام بقسمة أموال المیت بین اُولاده الصغار والکبار، یأخذ الکبار سِهامَهُمْ وَیَنْصَرِفُوْنَ إلی أعمالهم ومعیشتهم ویبقی الصغار وَسِهامُهُمْ وحفظهم وإدارة أموالهم فلابدّ للرجل الثقة القاسم أن یحفظ الصغار وأموالهم حتّی یکبروا، وهذا هو معنی ولایة عدول المؤمنین أو ثقاتِهم.

والأصحاب _ قدس اللّه أسرارهم _ استفادوا من الموثقة ما اسْتَفَدْناهُ ولذا جاءوا بها فی ضمن أدلة ولایة عدول المؤمنین، واللّه العالم.

ومنها: صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری قال: سألت الرضا علیه السلام عن رجل مات بغیر وصیة وترک أولادا ذکرانا وغلمانا صغارا، وترک جواری وممالیک هل یستقیم أن تباع الجواری؟ قال: نعم.

وعن الرجل یموت بغیر وصیة وله ولد صغار وکبار أیحلّ شراء شیء من خدمه ومتاعه من غیر أن یتولّی القاضی بیع ذلک، فإن تولاّه قاض قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا کان الأکابر من ولده معه فی البیع فلا بأس إذا رضی الورثة بالبیع، وقام عدل فی ذلک.(2)

حملها الشیخ الأعظم «علی اشتراط تحقّق عنوان العدالة»(3). کما هو الظاهر منها.

وتبعه المحقّق النائینی وقال: «المستفاد منها اعتبار العدالة فی المتصدی ویکون شارحا لما أجمل فی الأخبار السابقة ویصیر المتحصل من المجموع اعتبار العدالة وأنّه مع وجود العدل لا یجوز التصدی مِنْ غیره ولا یصح منه التصدی»(4).

ص: 361


1- 3 . کما فی العقد النضید 4/253.
2- 1 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 2 . المکاسب 3/567.
4- 3 . المکاسب والبیع 2/341.

وقبل المحقّق الاصفهانی دلالتها علی «عدالة المتولی لأمر الیتیم»(1).

وتبعهم المحقّق السیّد الخوئی وقال: «وهذه الروایة أیضا تدلّ علی اشتراط العدالة فی القیم»(2).

وقال المحقّق الخمینی قال: «ثمّ إنّ فی قوله علیه السلام : «إذا کان الأکابر من ولده معه» إلی آخره، احتمالین:

أحدهما: رجوع ضمیر (معه) إلی القاضی الذی تراضوا به، ویکون المراد أنّ القاضی المذکور إذا باع بمحضر عدل لا بأس به، فتدلّ علی لزوم نظارة العدل فی البیع، وأمّا جواز استقلاله بذلک فلا.

إلاّ أن یقال: إنّ القاضی الجائر لا دخالة لفعله فی الصحّة، فهی ناشئة من نظر العدل محضا، فتدلّ الروایة التزاما علی الصحّة لو أوقعه بنفسه، وله وجه لو دلّت علی أنّ العدل رضی بذلک، وهو محلّ تأمّل.

وثانیهما: رجوع الضمیر إلی المشتری، ویکون المراد إلغاء عمل القاضی، توقّف الصحّة فی قسمة الأکابر علی رضاهم، وفی قسمة الصغیر علی قیام العدل فی البیع؛ أی یکون البیع برضا الکبیر والعدل، فتدلّ علی أنّ فعل العدل نافذ فی حصّة الصغیر، فتتمّ الدلالة، وهذا أوفق بمناسبة الحکم والموضوع»(3).

وقال الاستاذ المحقّق _ مدظله _ : «وهذه الروایة تامة الدلالة والإسناد وصریحة علی اعتبار العدالة فی الولی المتصرِّف وهی بعیدة عن المناقشة»(4).

أقول: المناقشة فی دلالة هذه الصحیحة علی اعتبار العدالة مکابرة واضحة. والظاهر رجوع الضمیر «معه» إلی القاضی الذی تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة وهو لایخلو إمّا أن یکون عادلاً أو فاسقا، فإذا کان القاضی عادلاً یصدق علیه «وقام عدل فی

ص: 362


1- 4 . حاشیة المکاسب 2/405.
2- 5 . التنقیح فی شرح المکاسب 2/181.
3- 1 . کتاب البیع 2/678.
4- 2 . العقد النضید 4/253.

ذلک» ولا یحتاج إلی حضور عدلٍ أو لزوم نظارته فی البیع.

وإذا کان القاضی فاسقا ینفذ حکمه فی حقّ الکبار لأنّهم قد تراضوا به وأمّا بالنسبة إلی الصغار ف«قام عدل فی ذلک» حتّی یتم البیع بالنسبة إلی حصّتهم. فتدلّ الصحیحة علی ولایة عدول المؤمنین.

وأمّا رجوع الضمیر إلی القاضی الجائر أو المشتری فبعید جدّا لعدم سؤالٍ عن الأوّل وعدم ذکره صریحا عن الثانی فتأمل.

الجمع بین الروایات الأَرْبَعِ وحصیلة الکلام فیها:

قد عرفت إجمال صحیحة ابن بزیع عند الشیخ الأعظم ومَنْ تبعه بین أربع احتمالات أو أقل، ولکنّه یرفع الید عن إجمالها بصحیحة ابن رئاب من اعتبار الوثاقة وکفایة الأمانة وملاحظة مصلحة الیتیم ولکن القوم لا یرضون برفع إجمالها بها.

فیبقی فی البین موثقة سماعة الدالة علی اعتبار الوثاقة وصحیحة ابن سعد الدالة علی اعتبار العدالة، فذهب إلی اعتبار کلّ منهما فریق، کما ذهب ثالث إلی اعتبار «کل واحد منهما أی کفایة العدالة أو الوثاقة فی جواز التصدی للاُمور الحسبیّة»(1).

وأقول: صحیحة ابن بزیع تختص بولایة الفقیه؛ لأنّ المماثلة الموجودة بین ابنی بزیع وسالم هی الفقاهة، فلم تکن مجملة عندی.

وأمّا صحیحة ابن رئاب فلا تدلّ إلاّ علی لزوم مراعاة المصلحة فی أموال المولّی علیه بعد اعتبار القیم والفراغ عن قیومیته، فلم تدلّ علی ما نحن بصدده کما مرّ.

فتبقی فی المقام موثقةُ سماعة وصحیحةُ ابن سعد الدّالَّتانِ علی اعتبار الوثاقة والعدالة، وبناءً علی أنّ الوثاقة تکون أَعَمَّ من العدالة، والعدالة أَخَصَّ منها _ کما علیه الشیخ الأعظم والمحقّق الاصفهانی _ ، وفی الموثقة اکتفی بذکر الوثاقة فهی کافیة فی المقام واضافة العدالة إلی جنبها تکون علی نحو الاستحباب والاولویة، وقد مرّ أنّ المراد بالوثاقة هنا الانضباط المالی والأمانة المالیة وقدرة ادارة الأموال لا سیّما إذا کانت کثیرة

ص: 363


1- 1 . کما ذهب إلی الأخیر الاستاذ المحقّق _ مدظله _ فی العقد النضید 4/255.

وتؤیدها قرینة الحکم والموضوع وعدم وجود العلل الخفیّة فی المعاملات.

فبما ذکرنا من الروایات تَثْبتُ ولایة ثِقات المؤمنین فضلاً عن عدولهم. هذا علی القول بأنّ الوثاقة أعمّ من العدالة.

وأمّا علی القول بأنّ الوثاقة أخص من العدالة _ کما علیه المحقّق السیّد الخوئی _ فلا یجوز التصدی للأُمور الحسبیة إلاّ لِمَنْ یکون تالیا للمعصوم علیه السلام فی عصمته، وهذا یعنی تعطیل هذه الأُمور وحیث نعلم بعدم رِضا الشارعِ بتعطیلها فلابدّ من حمل الوثاقة فی الموثقة علی العدالة الواردة فی الصحیحة حتّی یجوز تصدی عدول المؤمنین لئلا تَتَعَطَّلُ هذه الاُمور التی لا یرضی الشارع بترکها.

وأمّا علی القول بأنّ النسبة بین الْعَدالَةِ والوثاقة هی العموم والخصوص من وجه کما هو الصحیح _ وعلیه الاستاذ المحقّق(1) مدظله _ فلابدّ من حمل کلمة العدالة فی الصحیحة علی الوثاقة فی المعتبرة بِالْقَرِیْنَتَیْنِ الماضیتین _ وهما الحکم والموضوع، وعدم وجود العلل والمصالح الخفیة فی المعاملات _ ونتیجتها ثبوت ولایة ثِقاتِ المؤمنین _ لا عدولهم _ فی المقام. واللّه العالم.

وبما ذکرنا من الجمع لا نحتاج إلی التفاصیل الواردة فی وجوه الجمع بین الموثقة والصحیحة فی کلام المحقّق الخمینی(2) رحمه الله .

هذا کلّه فی الروایات الخاصة الواردة فی المقام:

ب: الروایات العامة
اشارة

قد استدلوا بعدة من الروایات التی بعمومها تَشْملُ ولایة ثِقاتِ المؤمنین أو عدولهم:

منها: صحیحة ذریح

قال: سمعت أباعبداللّه علیه السلام یقول: أیّما مؤمن نفّس عن مؤمن کربة، وهو معسر، یسرّ اللّه له حوائجه فی الدنیا والآخرة، ومن ستر علی مؤمن عورة

ص: 364


1- 2 . راجع العقد النضید 4/252.
2- 1 . راجع کتاب البیع 2/682 وما بعدها.

یخافها ستر اللّه علیه سبعین عورة من عورات الدنیا والآخرة، قال: واللّه فی عون المؤمن ما کان المؤمن فی عون أخیه، فانتفعوا بالعظة، وارغبوا فی الخیر.(1)

ومنها: حسنة ابن القداح

عن أبیعبداللّه علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة، والدال علی الخیر کفاعله، واللّه یحبّ إغاثة اللهفان.(2)

ومنها: معتبرة السکونی

عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : عونک الضعیف من أفضل الصدقة.(3)

ومنها: مرسلة القطب الراوندی

عن النبی صلی الله علیه و آله قال: إنّ اللّه فی عون العبد، مادام العبد فی عون أخیه.(4)

بتقریبین: 1_ قبول حفظ الیتیم وقیمومیته والتحفظ علی أمواله من أفضل أفعال المعروفة وأهمّها، فیکون مشروعا ومطلوبا شرعا ویدخل فی عموم الصدقة واستحبابها فی قوله صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة.(5)

أقول: فی مدلول قوله صلی الله علیه و آله : کل معروف صدقة قولان: الأوّل: المعروف فی کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنوان مشیر إلی الأُمور التی تکون مشروعیتها ومعروفیتها واردة وثابتة فی الشریعة المقدسة.

وفیه: لایمکن القول بأنّ المعروف عنوان مشیر إلی ما ثَبَتَتْ شَرْعِیَّتُهُ من قبل، لأنّ ما یفید فی التقریب استفادة مشروعیة المعروف بحمل الصدقة علیه، ولو کانت مشروعیة المعروف ثابتة ومعلومة من قبل ثمّ یحمل علیه عنوان الصدقة والمشروعیة فهذا دور واضح أو فقل: فما فائدة حمل الصدقة علی المعروف الذی نعلم مشروعیته؟!

الثانی: المراد بالمعروف فی الروایة ما هو معروف عُرْفا وعند العقلاء ومجتمعهم.

ص: 365


1- 2 . وسائل الشیعة 16/371، ح2، الباب 29 من أبواب فعل المعروف.
2- 3 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب 1 من أبواب فعل المعروف.
3- 4 . وسائل الشیعة 15/141، ح2، الباب 59 من أبواب جهاد العدو.
4- 5 . مستدرک الوسائل 12/429، ح10، الباب 34 من أبواب فعل المعروف.
5- 6 . وسائل الشیعة 16/286، ح5، الباب 1 من أبواب فعل المعروف.

وفیه: لم تَتمّ عُرْفِیَّةُ المعروف إلاّ فی مورد نعلم بعدم اشتراط فعل المعروف بإذن أحد.

وأمّا إذا کان مشروطا بإذن أحد أو تحتمل مشروطیته فلا یراه العرف والعقلاء معروفا. أو لاأقل من أن نشک فی معروفیته وبعد الشک فیها، التمسک بقوله صلی الله علیه و آله : کلّ معروف صدقة، فی هذه الموارد تمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة له أو تمسک بالدلیل لإثبات موضوعه وهو باطل.

وبالجملة: لا یمکن إثبات ولایة ثقات المؤمنین بقوله صلی الله علیه و آله : کل معروف صدقة.

2_ الاستدلال بقوله صلی الله علیه و آله : «عونک الضعیف من أفضل الصدقة(1) وما ورد فیه کلمة «العون»: أمر العون یدور بین الوجود والعدم، وحیث یصدق عنوان العون عرفا علی مَنْ قام بقیمومة الأیتام وحفظ أموالهم فیثبت به ولایة ثقات المؤمنین.

لایقال: لسان هذه الروایات یَکُوْنُ لسان الترغیب والتشویق علی القیام بالعمل لکسب الثواب والتقرّب إلی اللّه تعالی، ولیس لسانه جواز صدور فعل العون من کلِّ فاعل یقوم به، وفی کل أمرٍ لو احتملنا صدوره من فرد معین أو أفراد معینین.

بعبارة أُخری: الروایات تدلّ علی استحباب عون المؤمن أو الضعیف من دون أن یستفاد من إطلاقها توسعة عنوان العون، لیمکن التمسک بإطلاقها وإثبات جواز مطلق التصرفات وإن احتملنا اشتراطها علی إذن أحدٍ أو توقّف صحتها کذلک.

لأنّا نقول: ونجاب بالحَلِّ: مفاد هذه الروایات مشروعیة واستحباب کلّ عون، لأنّ الشارع قد وصف کلَّ فعلٍ یعدّعونا للضعیف أو للمؤمنین بالصدقة وبالملازمة تکشف مشروعیة کلّ ما یعدّ من مصادیق العون، ومنها: حفظ أموال الأیتام وقیمومیتهم.

وبالنقض: لو کان الأمر کما قال فلا یمکن التمسک بإطلاق قوله تعالی: «أَوْفُوا

بِالْعُقُودِ»(2) أو «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(3) أو «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(4) علی لزوم الوفاء بمطلق

ص: 366


1- 1 . وسائل الشیعة 15/141، ح2.
2- 1 . سورة المائدة /1.
3- 2 . سورة البقرة /275.
4- 3 . سورة النساء /29.

العقود أو نفوذ جمیع البیوع أو صحة جمیع التجارات التی وقعت عن تراض، بل تجری الآیات الثَّلاثُ بالنسبة إلی العقد الصحیح بحسب القواعد الشرعیة أو البیع کذلک أو «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» هکذا. فحینئذ لا یمکن التمسک بإطلاقها عند الشک فی صحة العقود أو البیوع أو التجارات، ولکنّهم تَمَسَّکُوْا بهذه الاطلاقات من دون نکیر وَاسْتَنْتَجُوا صحة هذه الأُمور.

ولکن مع ذلک کلّه یمکن أن یقال: «بالرغم من تمامیّة الطریقة التی أثبتنا من خلالها الإطلاق، لکنّها غیر جاریة فی المقام لسبب معیّن یختصّ بها روایة العون، وهو أنّ المحمول فی هذه القضیّة عنوان الصدقة الذی یحمل فی طیّاته غایة القُرب إلیه سبحانه، ولولاها لعدّ الفعل الصادر فی سبیل إعانة الضعیف هبةً لا صدقة، ولهذه العلّة فإنّه إذا لاحظنا مقتضیات الحکم والموضوع، نجد أنّ موضوع هذه الروایة لیس مطلق عون الضعیف، بل العون القابل لأن یوصف بالصدقة المقرّبة، فإنّ مثلها تکون مشروعة من خلال حثّ الشارع علیها، وبالتالی فإنّ ظهور هذه الروایة مقیّدة منذ البدایة وفاقدة للإطلاق، ولا یصحّ التمسّک بها لإثبات مشروعیّة مطلق ما یقوم به العدل، وإن احتمل مدخلیّة الإذن فی صحّته ومشروعیّته.

ولو سلّمنا إطلاقها البَدْوِیّ من خلال الدلالة الالتزامیّة الکاشفة عن مشروعیّة کلّ ما یعدّ عونا، إلاّ أنّه فاقد الاعتبار لاحتفاف الموضوع بما یحتمل الصارفیّة»(1).

3_ الإجماع

الإجماع الذی یظهر من کلمات الأصحاب واستدل به الفاضل المراغی رحمه الله وقال فی ذکر عداد أدلة ولایة عدول المؤمنین ما نصه: «الخامس: ظهور إجماع الأصحاب علی الجواز من دون نکیر کما یظهر بالتتبّع»(2).

ص: 367


1- 4 . العقد النضید 4/234.
2- 5 . العناوین 2/581.

أقول: قد عرفت سابقا فی عنوان «المسألة خلافیة»(1) خلاف ابن إدریس صریحا

فی المقام وإمکان استفادة الخلاف من إطلاق کلمات المفید والتقی، فالإجماع لم یتحقّق، نعم الشهرة الفتوائیة والعملیة موجودتان بین الأصحاب ولکنهما غیر الإجماع، هذا أوّلاً.

وثانیا: الإجماع علی فرض تحققه یکون مدرکیا أو لاأقل من احتمال مدرکیته فلا یفید فی المقام شیئا.

4_ العقل

بتقریب: أنّ العقل حاکم بعدم رِضا الشارع الأقدس بِتَعْطِیْلِ بعض الأُمور الذی یسمّونها بالاُمور الحسبیة، وإذا لم یکن فی البین الإمام أو الفقیه فتصل النوبة إلی ثقات المؤمنین وعدولهم بل تصل النوبة من باب الضرورة إلی فسّاقهم _ إن یقدرون علی إقامتها _ ولا تصل النوبة إلی الکفار فی فرض فقد الجمیع ولو فی غیر الاُمور الولائیة فی الأخیر، لانّ اللّه تعالی یقول: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(2).

هذا التقریب مرضیٌّ عندی وأمّا ما ذهب إلیه بعض ممّن عاصرناه فی تقریب دلیل العقل بقوله: «أنّه لا ریب فی أنّه یلزم لکلّ جماعة أن یکون لهم ولیّ یُعبَّر عنه بعناوین مختلفة، کالحاکم أو المدبّر أو الرئیس أو المرجع أو... فإن کان فیها رجل ذولیاقة ممتازة، وهو الواجد لجمیع الشروط اللازمة للولایة إلی درجة عالیة، ومنها العدالة والعلم والتدبیر وحسن العمل والکفایة و... فلا کلام فی أحقّیته ولزوم اتّباعه، وأمّا مع فقده کما هو مورد البحث هنا فتصل النوبة طبعا إلی الّذین لا یکون فیهم من هو بدرجة تلک اللیاقة الممتازة، ففی هذه الصورة یُحکم طبعا بولایة الأصلحین فالأصلحین منهم، وهم الواجدون للسیاسة والعدالة مثلاً بالنسبة إلی الفاقدین لهما، أی یُحکم بحقّ ولایة عدول المؤمنین ومع فقدهم یحکم من باب الضرورة بولایة فسّاقهم، وذاک الأمر الواضح عقلاً لا یختص بالمجامع الایمانیة، بل یعم المجامع غیر الایمانیة أیضا، غایة الأمر أنّه لا یصطلح فیهم

ص: 368


1- 6 . راجع هذا المجلد صفحة 339.
2- 1 . سورة النساء /141.

عنوان العدالة والعادل، بل یصطلح فیهم نظیره کالأمین أو الصالح أو... ولکنّک خبیر بأنّه لا یتفاوت أصل المسألة عقلاً بالنظر إلی هذه الاصطلاحات، فإنّ أصل المسألة _ الّذی یعتمد علیه جمیع العقلاء والملل باقتضاء فطرتهم ووجدانهم _ هو أنّهم یلاحظون ویقدّمون الأصلح فالأصلح أو الألیق فالألیق أو الأنسب فالأنسب أو... ولا ریب فی أنّ جمیعهم یقولون بأنّ الأصلح أو الألیق أو الأنسب عبارة عن أهل الصدق والوفاء والأمانة وما

بمعنی هذه وإن لم تُسمَّ عندهم بالعدالة.

هذا کلّه إن لم یُنتخب واحد من الأفضلین أو الأصلحین وإلاّ فمن الواضح أنّه یصیر بالانتخاب أولی من غیره عملاً، فمسألة عدول المؤمنین بالصورة الشورائیة مثلاً تختصّ بموارد عدم انحصار الأمر فی واحد منهم أو عدم انتخابه لجهة من الجهات وإلاّ فهو المرجع فی ما انحصر فیه أو انتخب له، وإن شئت قلت: فهو نائب عن الحاکم الأصلی عملاً وإن لم یکن نائبا عنه رسمیّا. هذا کلّه مقتضی دلیل العقل»(1).

فغیر تام عندی بوجوه لا أُطیل الکلام بذکرها لوضوح بعضها.

ثمّ هاهنا فروع:
الفرع الأوّل: مباشرة الفاسق وتکلیفه بالنسبة إلی نفسه

لو شک فی الفاسق أنّه هل یکون مأذونا شرعا فی تولی الأُمور الحسبیة أم لا؟ فهل یجوز له التصدی والمباشرة لهذه الأُمور أم لا؟ فهذه صورة المسألة عند القوم، وعندنا لابدّ من تبدیل الفاسق بغیر الثقة.

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «فالظاهر جوازه _ ثمّ ذکر أدلة الجواز وقال _ : ولو ترتّب حکم الغیر علی الفعل الصحیح منه، کما إذا صلّی فاسق علی میّت لا ولیّ له، فالظاهر سقوطها عن غیره إذا علم صدور الفعل منه وشکّ فی صحته، ولو شکّ فی حدوث الفعل منه وأخبر به ففی قبوله إشکال»(2).

ص: 369


1- 1 . تحقیق فی القواعد الفقهیة /790 و 791.
2- 2 . المکاسب 3/568.

أقول: الظاهر عدم جوازه خلافا للشیخ الأعظم لعدم تمامیة الأدلة التی تمسّک بها _ وقد عرفت عدم تمامیتها فی ماقبل(1) حول مفاد معتبرة عبداللّه بن یحیی الکاهلی(2) وعدم دلالتها علی مقالة الشیخ الأعظم فلا نعید _ .

وأمّا تمثیل تصرفات الفاسق أو غیر الثقة بالصلاة علی میّتٍ لا ولیّ له یکون مع الفارق، لأنّ الصلاة علی المیت واجب کفائی علی جمیع المکلفین _ لا عدولهم أو ثقاتهم _ والفاسق منهم فیجوز له الصلاة علی المیت، وتسقط بفعل بعضهم _ والفاسق منهم _ لو صدرت منه صحیحة فإن اُحرزت صحة فعل الفاسق بالعلم أو الاطمئنان أو

بأمارة شرعیة نحو: أصالة الصحة فی فعل المسلم تسقط عن الآخرین. نعم، لو شکّ فی أصل إقامة الصلاة بتوسط الفاسق وهو أخبر بإقامتها ففی قبول قوله إشکال نشأ من جریان آیة النباء(3) بالنسبة إلی إخباره ولزوم التبیّن فیه.

وأمّا الأُمور الحسبیة أوّلاً وبالذات بعد الإمام علیه السلام فهی واجِبَةُ علی الفقیه ثمّ فی فرض عدمه _ لا سمح اللّه _ أو عدم تصدیه أو عدم إمکان الاستیذان منه هِیَ وَاجِبَةٌ علی عدول المؤمنین أو ثِقاتِهم _ علی خلاف مرّ _ والفاسق أو غیر الثقة لیس من الطائفتین فلا یجب علیه التصدی بل لا یجوز له بل یحرم علیه هذه التصرفات لا سیّما إذا کانت فی النفوس أو الأعراض أو الأموال العامة أو الخاصة، واللّه العالم.

الفرع الثانی: حکم فعل الفاسق إن کان متعلّقا بفعل غیره

لو تصدّی الفاسق أو غیر الثقة فی أُمور الأیتام وغیرها، فهل یحکم فی تصرفاته بالصحة ویجوز الشراء منه أو عقد النکاح علی الیتیمة بإذنه أو غیرهما من آثار نفوذ تصرفاته؟

قال الشیخ الأعظم: «... فلا یجوز الشراء منه وإن ادّعی کون البیع مصلحة بل یجب

ص: 370


1- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 69.
2- 4 . وسائل الشیعة 17/248، ح1، الباب 71 من أبواب ما یکتسب به.
3- 1 . سورة الحجرات /6.

أخذ المال من یده(1)... ولا یجدی هنا حمل فعل المسلم علی الصحیح کما فی مثال الصلاة المتقدّم... وأمّا الحکم فیما نحن فیه، فلم یحمل علی التصرّف الصحیح، وإنّما حُمل علی موضوع هو «إصلاح المال ومراعاة الحال» والشکّ فی أصل تحقّق ذلک، فهو کما لو أخبر فاسق بأصل الصلاة مع الشکّ فیها»(2).

بعبارة أُخری: تصرفات الفاسق لم تُحمل علی التصرف الصحیح حتّی تجری أصالة الصحة فیها، لأنّ التصرف الصحیح هو «اصلاح المال ومراعاة الحال ومصالح الأیتام»، والشک یکون فی أصل تحقّق ووجود هذا التصرف الصحیح فلا یقبل قول الفاسق فیه لما مرّ من عدم اعتبار إخباره.

ثمّ قال: «وإن شئت قلت: إنّ شراء مال الیتیم لابدّ أن یکون مصلحة له، ولا یحرز ذلک بأصالة صحّة البیع من البائع، کما لو شکّ المشتری فی بلوغ البائع، فتأمّل»(3).

وقال المحقّق الإیروانی فی شرح مقال الشیخ الأعظم: «هذا وجه آخر لعدم جریان أصالة الصحّة غیر الوجه الأوّل وإن کان ظاهر العبارة أنّه عینه، وحاصل هذا الوجه هو أنّ أصالة الصحّة فی الإیجاب لا تثبت إلاّ صحّة الإیجاب صحّة تأهلیّة، ولا یحرز بها تحقّق المصلحة، والفرض أنّ القابل أیضا متصرّف فی مال الغیر بقبوله، فلابدّ له من إحراز أنّ تصرّفه واقع علی وجه أحسن، وما لم یحرز لا أثر لقبوله فی الحکم بحصول النقل، وصحّة الإیجاب إنّما تفید ترتیب الأثر علیه عند تعقّبه بالقبول الصادر علی وجه أحسن والفرض فی المقام الشکّ فیه، وهذا کذلک فی کلّ مقام اشترک الشرط»(4).

وقال الإیْرَوانیُّ فی وجه تأمل الشیخ الأعظم فی آخر کلامه: «لعلّه یشیر إلی فساد ما أفاده أوّلاً وجها لعدم جریان أصالة الصحّة، وإلاّ فما أفاده أخیرا بعد قوله: «وإن شئت قلت الّذی» قد عرفت أنّه وجه مستقلّ بما لا تأمّل فیه، إلاّ أن یکون جواز القبول من

ص: 371


1- 2 . المکاسب 3/568.
2- 3 . المکاسب 3/569.
3- 4 . المکاسب 3/569.
4- 1 . حاشیة المکاسب 2/387.

المشتری موضوعه صحّة الإیجاب من البائع، فإذا صحّ الإیجاب بحکم أصاله الصحّة جاز تعقیبه بالقبول نظیر الصلاة علی المیّت، لکنّ ذلک مجرّد فرض لا واقع له»(1).

وقال المحقّقُ المُرَوِّجُ فی وجه تأمله: «لعلّه إشارة إلی الفرق بین ما نحن فیه _ وهو الشراء من الفاسق _ وبین الشک فی بلوغ البائع. ومحصل الفرق بینهما: أنّ مجری أصالة الصحة هو العمل الذی یشکّ فی أنّ عامله هل أتی به ناقصا بمعنی أنّه ترک شیئا نسیانا من أجزائه وشرائطه أم أتی به تامّا؟ فالشک یکون فی أمر إختیاری له من الفعل والترک.

وأمّا إذا کان المشکوک فیه أمرا غیر إختیاری کالبلوغ، فلا تجری فیه أصالة الصحة.

وعلیه فلا یجری أصل الصحة فی الشک فی البلوغ، بل یجری فیه إستصحاب عدم البلوغ. ویجری فیما نحن فیه، وهو البیع مع مراعاة إصلاح مال الیتیم، فإنّه أمر إختیاری للبائع، فتجری فیه أصالة الصحة.

ویحتمل أن یکون الأمر بالتأمل إشارة إلی ما قیل: من جریان أصل الصحة فی البلوغ وغیره، کما إختاره المصنف قدس سره فی الاصول(2)»(3).

ثمّ قال الشیخ الأعظم: «نعم، لو وجد فی ید الفاسق ثمن من مال الصغیر لم یلزم الفسخ مع المشتری وأخذ الثمن من الفاسق؛ لأنّ مال الیتیم الذی یجب إصلاحه وحفظه من التلف لا یعلم أنّه الثمن أو المثمن، وأصالة صحّة المعاملة من الطرفین یحکم بالأوّل، فتدبّر»(4).

یعنی: لا یجوز لشخصٍ ثالثٍ _ أی غیر المتبایعین _ الزام البائع الفاسق علی فسخ المعاملة مع المشتری وأخذ الثمن من الفاسق واسترداد المبیع من المشتری، لأنّه لا یعلم مال الیتیم الذی یلزم علی الکلِّ حفظه هل الثمن أو المثمن وأصالة الصحة من الطرفین

ص: 372


1- 2 . حاشیة المکاسب 2/388.
2- 3 . راجع فرائد الاصول 3/360.
3- 4 . هدی الطالب 6/229.
4- 1 . المکاسب 3/569.

_ البائع الفاسق والمشتری _ یحکم بأنّه الثمن.

ثمّ أمر بالتدبر حتّی یحصل الفرق بین هذه الصورة الأخیرة والصورة السابقة حیث تجری أصالة الصحة فیها ولا تجری فی السابقة، «وحاصل الفرق بینهما هو: أنّ إصلاح مال الیتیم شرط فی صحة کلٍّ من الإیجاب والقبول إبتداءً، إذ کل منهما یتصرف فی مال الیتیم بإعطاء البائع وأخذ المشتری، ولذا لو وقعت المبایعة بین شخصین، وشکّ شخصٌ ثالث فی صحتها فله إجراءُ أصالة الصحة فی فعلهما، بخلاف ما نحن فیه، لعدم وقوع قبولٍ بعد حتّی یجری فیه أصل الصحة. وجریانه فی الإیجاب لا یجدی، لأنّ أثره الصحة التأهلیة أی الصالحة لإنضمام القبول الصحیح إلیه، لا الصحة الفعلیة»(1).

قال المحقّق الإیروانی: «إجراء أصالة الصحّة هنا دونه فی المسألة السابقة کاشف عن أنّ عمدة الوجه فی عدم الجریان هناک هو الوجه الّذی ذکره أخیرا دون ما ذکره أوّلاً، وإلاّ لاشترک هذا معه فی عدم الجریان لاشتراک الوجه الأوّل»(2).

ثمّ اعترض علی مقالة الشیخ الأعظم: «لا یعلم أنّه الثمن أو المثمن»(3) بقوله: «بل یعلم أنّه المثمن علی تقدیر عدم جریان أصالة الصحّة لاستصحاب عدم انتقال المثمن من ملکه وعدم انتقال الثمن إلی ملکه، ویعلم أنّه الثمن علی تقدیر جریان أصالة الصحة»(4).

الفرع الثالث: هل یجوز مزاحمة فقیه لفقیه آخر فی الأُمور الحسبیة؟
اشارة
تقدیم امور:
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تقدیم أُمور:

الأوّل: عنوان البحث: «مزاحمة فقیه لفقیه آخر»

یتم فی قیام فقیه فی مزاحمة فقیه آخر بحیث ثبتت فقاهتهما وإلاّ مع عدم ثبوت فقاهة أحدهما أو الشک فی مقامه الفقهی فلا نزاع فی بطلان مزاحمة الذی لم یثبت فقاهته أو المشکوک فقاهته.

الثانی: البحث هنا حول تزاحم فقیهین ثَبَتَتْ فقاهتهما

الثانی: البحث هنا حول تزاحم فقیهین ثَبَتَتْ فقاهتهما وَتَصَرَّفا بحسب الموازین

ص:373


1- 2 . هدی الطالب 6/230 و 231.
2- 3 . حاشیة المکاسب 2/388.
3- 4 . المکاسب 3/569.
4- 5 . حاشیة المکاسب 2/388.

الشرعیة وإلاّ فإن کان قد تصرّف أحدهما بما یخالف الموازین الشرعیة فیجوز مزاحمته بل معارضته لأنّه خالف الموازین الشرعیة. لکن هذه المزاحمة بل المعارضة تتم فی ما خالف الموازین الشرعیة وأمّا النزاعات التی تعود إلی المباحث الأُصولیة والآراء الرجالیة والاستنباطات الفقهیة فلا یجوز مزاحمة فقیه یری المسألة من هذه الأنظار والخلافات، لأنّها ترجع إلی الاستنباط والاجتهاد والآراء فیه مختلفة والأنظار فیه متفاوتة، فلابدّ من لحاظ هذه النکتة المهمة.

الثالث: المزاحمة عرفیة ویتوقف صدقها علی الصدق العرفی

الثالث: المزاحمة عرفیة ویتوقف صدقها علی الصدق العرفی، لأنّها من العناوین التی یُدْرِکُها العرف والعقل وَالْعُقَلاءُ، وهی أی المزاحمة: عبارة عن دخول الثانی فی ما دخل فیه الأوّل مع وحدة المورد، فإذا قام فقیه بقیمومة أیتام وأموالهم فدخل الآخر فی بعض الأموال بعد قیام الأوّل، یعدّد دخوله مزاحمة للأوّل فلا یجوز.

الرابع: لابدّ فی هذا البحث من عدم التخلیط بین مفاد أدلة مزاحمة الفقیهین

الرابع: لابدّ فی هذا البحث من عدم التخلیط بین مفاد أدلة مزاحمة الفقیهین بالعنوان الأوّلی أی حکم تزاحم بذاته ومدی دلالة أدلته.

وبین حکم التزاحم بالعنوان الثانوی من ترتب نقض الغرض أو اختلال النظام أو ایجاد شبهة تکالب الفقهاء علی جیفة الدنیا وحطامها ممّا قد یؤدی إلی تضعیف إیمان عامّة النّاس ونحوها.

فلابدّ من عدم تخلیط البحثین فی المقام کما ربّما یظهر من الشیخ الأعظم(1) حیث أضاف إلی أدلة عدم جواز المزاحمة لزوم اختلال النظام.

الخامس: هل الفقیهان کالوکیلین المستقلین فی أمرٍ

الخامس: هل الفقیهان کالوکیلین المستقلین فی أمرٍ نحو بیع الدار فقط دون مقدماته من المقاولة وغیرها، بحیث ما لم یتحقّق البیع لا مانع من إقدام الآخر، أو أنّهما کالوکیلین عن شخص واحد بحیث یکون إلزامهما کإلزامه ودخولهما فی الأمر کدخوله

فکما لا یجوز مخالفة الموکِّل، لا یجوز تزاحمهما حتّی بالنسبة إلی المقدمات؟!

ولذا قال الشیخ الأعظم: «وربما یتوهّم: کونهم حینئذٍ کالوکلاء المتعدّدین، فی أنّ

ص:374


1- 1 . المکاسب 3/572، قوله قدس سره : «هذا کلّه مضافا إلی لزوم اختلال نظام المصالح...».

بناء واحد منهم علی أمر مأذون فیه لا یمنع الآخر عن تصرّفٍ مغایرٍ لما بنی علیه الأوّل.

ویندفع بأنّ الوکلاء إذا فرضوا وکلاء فی نفس التصرّف لا فی مقدّماته، فما لم یتحقّق التصرّف من أحدهم کان الآخر مأذونا فی تصرّفٍ مغایرٍ وإن بنی علیه الأوّل ودخل فیه، أمّا إذا فرضوا وکلاء عن الشخص الواحد بحیث یکون إلزامهم کإلزامه ودخولهم فی الأمر کدخوله، وفرضنا أیضا عدم دلالة دلیل وکالتهم علی الإذن فی مخالفة نفس الموکّل، والتعدّی عمّا بنی هو علیه مباشرةً أو استنابةً، کان حکمه حکم ما نحن فیه من غیر زیادة ولا نقیصة.

والوهم إنّما نشأ من ملاحظة التوکیلات المتعارفة للوکلاء المتعدّدین المتعلّقة بنفس ذی المقدّمة، فتأمّل»(1).

لابدّ من ملاحظة الأدلة، ومدی دلالتها حتّی یظهر الحال.

وحینئذ نبدأ بالبحث عنها بما یقتضی العنوان الأوّلی ویقع الکلام فی المقامین:

المقام الأوّل: ما یقتضیه الأدلة العنوان الأوّلی فی مقام الثبوت
اشارة

قد یقال: بعدم جواز المزاحمة فی مقام الثبوت بمایلی من الأدلة:

أ: ما ذکره الشیخ الأعظم

من أنّ دخول الفقیه فی أمرٍ یکون کدخول الإمام علیه السلام «فدخول الثانی فیه وبناؤه علی تصرّف آخر مزاحمة له فهو کمزاحمة الإمام علیه السلام ، فأدلة النیابة عن الإمام علیه السلام لا تشمل ما کان فیه مزاحمة الإمام علیه السلام »(2).

ویمکن أن یناقش فیه: لیست مزاحتهما کمزاحمة الإمام علیه السلام إلاّ إنّه من الإمام لا مع الإمام وعلیه، «وعموم أدلة النیابة یقتضی کون کلِّ منهما نائبا عنه علیه السلام »(3).

بِعِبارةٍ أُخری: المزاحمة بین الفقیهین النائبین، لم تصل إلی مزاحمة الإمام علیه السلام بل تکون فی مرتبة ما دون الإمام علیه السلام وهی النیابة، لا فی مرتبة الإمام علیه السلام وهی الإمامة

ص:375


1- 1 . المکاسب 3/572.
2- 2 . المکاسب 3/571.
3- 3 . حاشیة المکاسب /98 للمحقّق الخراسانی قدس سره .

والولایة العظمی، فلا تعد مزاحتهما مزاحمة الإمام علیه السلام علی ما فرضها الشیخ الأعظم رحمه الله .

ولذا قال المحقّق الاصفهانی رحمه الله : «بأنّ مزاحمة الإمام علیه السلام غیر جائزة لغیر الإمام بداهة، وأمّا إذا کانت مزاحمة الفقیه مزاحمة الإمام علیه السلام لفرض النیابة، فمزاحمة الفقیه لفقیه مثله کمزاحمة الإمام للإمام، وعدم جوازها أوّل الکلام، فالمانع ثبوتا غیر معلوم فتدبر»(1).

مراده: «لم یثبت عدم جواز مزاحمة الإمام للإمام علی فرض تحققه أنّه بعد تحقّق المزاحمة بینهما لا دلیل علی لزوم رفع الید بالنسبة إلی الثانی وصرف الارادة عن التصرف علی الثانی لرفع التضادّ الواقع بینهما من اجتماع الارادتین فی مرتبة واحدة وزمان واحد، فکذلک بالنسبة إلی الأولی. ولم یؤخذ فی معنی المواخذة ورود التصرف والارادة علی تصرف وإرادة سابقتین، حتّی یقال: بأنّ عنوان المزاحمة لم یتحقّق من الأوّل حتّی یحرم علیه فیجب رفعه، بل لابدّ أن یکون طرفاه فی رتبة واحدة»(2).

أقول: لابدّ من ملاحظة الأدلة وما یُجعل بواسطتها من الأحکام الوضعیة المجعولة حتّی نعلم أنّ مزاحمة فقیه للفقیه آخر هل هی مزاحمة الإمام علیه السلام أم لا؟

والمجعول بالأدلة ما هی؟

1_ الولایة: ومن المعلوم أن جَعْلَ الولایةِ لأحدٍ وَإعْطاءَهُ منصب الولایة لا یجعله کالإمام علیه السلام بحیث المزاحمة معه تکون مزاحمة الإمام علیه السلام ، للفرق الواضح بین صاحب الولایة ونائبه فحینئذ تتم مقالة المحقّقَیْن.

2_ الحکومة: بأنْ یجعله الإمام علیه السلام حاکما، فحینئذ مزاحمته تَکُوْنُ مزاحمة الحاکم لا الإمام علیه السلام ، فتمت مقالتهما.

3_ الحجیة: بأنْ یجعله الإمام علیه السلام حجّة علی النّاس، فکذلک مزاحمة ومعارضة الحجتین لا یمسّ الإمام علیه السلام وصحت مقالتهما.

ص:376


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/417.
2- 2 . کتاب القضاء /62 لآیة اللّه السیّد عبداللّه الشیرازی رحمه الله .

4_ الهوهویة: بأن یجعله الإمام علیه السلام وجوده التنزیلی، ففی هذه الصورة مزاحمة الفقیه تکون مزاحمة الإمام علیه السلام لأنّه وجوده التنزیلی فلا تتم مقالتهما. والذی یسهل الخطب إنّا نفقد دلیلاً یدلّ علی الهوهویة وأنّ الفقیه یکون وجودا تنزیلیّا للإمام علیه السلام .

ولو سلّمنا أنّ الفقیه یعدّ وجودا تنزیلیّا للإمام علیه السلام ، فإنّه لا دلیل علی عدم جواز مزاحمة مثل هذا الوجود المنزَّل، بل إنّما الثابت بالأدلة عدم جواز مزاحمة ما سوی

الإمام علیه السلام مع الإمام علیه السلام .(1)

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة مقالة الشیخ الأعظم فی المقام وأنّ مزاحمة الفقیه لَیْسَتْ کمزاحمة الإمام علیه السلام .

ب: المزاحمة غیر معقولة ثبوتا

بتقریب: أَنَّ المزاحمة تعدّ من خصوصیات الوجود وأمّا متعلّقات الأوامر والأحکام فَلَیْسَتْ إلاّ الطبائع التی لا تزاحم بینها، ومن المعلوم أنّ الطبیعة لا تزاحم الفرد، والوجود الخارجی مسقط للأمر فقط، لا أنّه متعلّق له بل یستحیل أن یکون ما هو مسقط للأمر متعلّقا له.

وبالجملة: ما هو متعلّق للأمر _ وهو الطبیعة _ یستحیل فیه التزاحم وما فیه التزاحم _ وهو الوجود الخارجی _ لم یکن متعلّقا للأمر، وبالتالی المزاحمة غیر معقولة ثبوتا لأنّ متعلّق الولایة هی الطبیعة _ طبیعة الفقیه _ ولا تزاحم بین الطبائع، وما تقع فیه المزاحمة هو الوجود _ الفقیه خارجا _ الذی لا یتعلّق به الولایة، فالمزاحمة لا تتصور ثبوتا وبتبعه یسقط ما قیل عن مزاحمة فقیه لفقیه آخر رأسا.

ویرد علیه: أوّلاً: الأوامر والطلبات توابع لأغراض المولی والأغراض المترتبة علی الطبائع والماهیات لا تخلو من قسمین:

الأوّل: الأغراض إمّا مترتبة علی الطبائع والماهیات من حیث هی هی ومن حیث أنّها الماهیة _ من دون أیّ شیءٍ آخر _ فلا یمکن الالتزام به علی کلا القولین وهما أَصالَتا

ص:377


1- 1 . راجع العقد النضید 4/274.

الماهیة والوجود، وأمّا علی الأوّل _ أصالة الماهیة _ فَلاِءنَّ الغرض یترتب علی الماهیة المجعولة، لا غیرها والماهیة المجعولة أی الماهیة بعد تعلّق الجعل بها فتصیر موجودة. وأمّا بناءً علی الثانی _ أصالة الوجود _ والأمر اُوضح لاستحالة ترتب الأثر والغرض علی الماهیة لأنّها من حیث هی لیست إلاّ هی وإنّما یترتب الغرض علی وجودها فقد ثبت أنّ الغرض تابع للوجود.

فحینئذ الالتزام بتعلّق الأغراض بالماهیات المحضة والطبائع الخالصة دون الوجودات الخارجیة یستلزم لازما باطلاً وهو تخلّف الطلب عن الغرض.

وثانیا: بعد وقوع المزاحمة بین الأفراد والوجودات الخارجیة، وبعد ثبوتها بین

الوجودین الْخارِجِیَّیْنِ تسری منهما إلی الحکم الثابت علیهما، والمزاحمة بین الفردین تصیر منشأ التنافی فی مقام الامتثال بین الحکمین وبالتالی التزاحم تسری إلی الأحکام والطبائع فی مقام الامتثال بتبع تزاحم الأفراد، فالمزاحمة تصیر موجودة.

وثالثا: الأوامر تتعلق بالطبائع لا الأفراد ولکن مع ذلک یمکن فرض المزاحمة لأنّ «الأمرین المتعلّقین بالصلاة والإزالة مثلاً، فانّه لا یخلو حالهما:

أمّا أنّ الإزالة قابلة للقسمة إلی الإزالة المقارنة مع آخر وقت الصلاة، والإزالة التی لم تکن متقارنة معه، وأمّا أنّها غیر قابلة للقسمة.

والأخیر باطل بالضرورة، وبالتالی یثبت الأوّل... فبحکم البرهان الصلاة المقارنة للإزالة وغیرها ونفس الإزالة قابلتان للتقارن مع آخر الوقت وعدمه، وبناءً علیه فإنّ الغرض الذی کان موجبا لصدور الأمر لا یخلو حاله: إمّا أن تکون موسّعة أو مضیّقة ولا ثالث، وبتبعهما یتوسّع الطلب ویتضیّق، حیث أنّ الآمر الذی یأمر بإزالة النجاسة من المسجد، لا شکّ أنّه یلاحظ مضایقة بعض أفراد الإزالة مع الصلاة وعدمها، فیطلبها تارةً مضیّقة واُخری موسّعة، فإذا اعتبر الصلاة أهمّ منها أمر بها مضیّقة، وإلاّ کان طلبه موسَّعا، وطلب الطبیعة... یعنی تزاحم الطلبین فی مقام الامتثال»(1).

ص:378


1- 1 . العقد النضید 4/277.

«ورابعا: یبدو... خلط بین باب تعلّق الأوامر والأحکام التکلیفیّة، وبین باب الحکومة والولایة والقیمومة والقضاء، إذ أنّ المتعلّق فی الباب الأوّل هی الطبائع مطلقا، سواءً اعتبرنا المتعلّق الطبیعة بذاتها أم الطبیعة المنسوبة إلی الخارج، وأمّا المتعلّق فی باب الحکومة والولایة، فهی الوجودات بذاتها دون الطبائع والماهیّات»(1).

ج: لا یعقل تصور مزاحمة الفقهاء ثبوتا

بتقریب: التزاحم لا یخلو عن اثنین لا ثالث لهما:

الأوّل: التزاحم فی الوجود: کتزاحم اجتماع الصلاة مع إزالة النجاسة، ومن المعلوم دخول الفقیه اللاحق فی ما قام به الفقیه السابق لا یعدّ مزاحمة له فی الوجود لأنّهما لا یتمانعان فی الوجود.

الثانی: التزاحم فی التأثیر: کتزاحم العلّتین علی معلول واحد.

وهذا القسم من المزاحمة یُتَصَوَّرُ فی المقدمات المعدّة والسببیّة وکلتاهما

مفقودتان فی المقام، وأمّا الأوّل فقیام الفقیه اللاحق بإیجاد المقدمات المعدّة لا یزاحم قیام السابق بها، لإمکان ایجادهما المقدمات المعدّة.

وأمّا الثانی فکذلک لوقاما بإیجاد المقدمات السببیّة کما لو أنشا البیع فلا تزاحم بینهما لتقدیم تأثیر انشاء السابق وبطلان اللاحق بانتفاء موضوعه، ومع تقارن صدورهما یتساقطان.

وبالجملة: لا یعقل تصور مزاحمة الفقهاء لا فی المبدأ ولا فی المنتهی فی مقام الثبوت.

ویرد علیه: المراد من المزاحمة هنا لیست العقلیة منها لِیَصِحَّ ما یُقَرَّرُ، بل المراد منها المزاحمة العرفیة وهی متحقّقة فی جمیع ما یقوم به الفقیه اللاحق من المقدمات ما عدا الأخیرة منها، «فدخول الفقیه اللاّحق فی سؤم الفقیه السابق وما قام به من مقدّمات

ص:379


1- 2 . العقد النضید 4/277.

البیع أو الإجارة وغیرهما، یعدّ مزاحمة له فی بیعه وسؤمه»(1).

د: لا یمکن شمولیة أدلة ولایة الفقیه فرض التزاحم

هذا الدلیل یقرّر بوجهین:

«التقریب الأوّل: أنّ مزاحمتهما تتحقّق بعد مرحلة جعل الولایة لهما، فإطلاق دلیل الجعل لا یشمل الانقسامات المتأخرّة عن جعل الولایة، فکما التزمنا فی باب التعبّدی والتوصّلی بأنّ إقامة الصلاة بقصد الأمر یکون فی الرتبة المتأخّرة عن تعلّق الأمر، ولذلک لا مجال لإطلاق الأمر بالصلاة لکی تشمل الصلاة بقصد الأمر، کذلک الحال فی المقام، فإنّ المزاحمة من الفقیه تتحقّق بعد جعل الولایة له، وإطلاق الأدلّة المثبتة لولایة الفقیه قاصرة عن شمول مثل هذه الخصوصیّة التی نشأت متأخّرة عنها.

ویُجاب عنه أوّلاً: بأنّ دعوی إطلاق دلیل الجعل لا یشمل الانقسامات المتأخّرة عن الحکم، لیست قاعدة ثابتة ومتّفقة علیها، بل هی مبنائیّة، حیث نخالفه فیها، ونعتقد بإمکان شمول إطلاق الأدلّة للانقسامات المتأخرّة عن الحکم، إمّا بدلالتها الذاتیّة أو من خلال متمّم الجعل، وقد بحثنا عن ذلک فی مباحث الاُصول بالتفصیل.

وثانیا: وهو ما سیأتی لاحقا من خلال الإجابة عن التقریب الثانی»(2).

التقریب الثانی: استحالة ما یلزم من وجوده عدمه تعدّ من الواضحات وهی

تجری فی المقام لأنّ مزاحمة الفقیه الثانی ناشئة من حق الولایة المجعولة له، وهذا الحق المجعول له یوجب انعدام حق الولایة المجعولة للفقیه الأوّل وما یلزم وجوده عدمه مستحیل.

ویرد علیه: الاستحالة تامة إذا کانت التصرفات المؤدّیة إلی المزاحمة تکون من الانقسامات الثانویة للحکم والخصوصیات المترتبة علیه نحو اتیان المأمور به بقصد الأمر أو انقسام المکلَّف إلی العالِم بالحکم والجاهل به.

ص:380


1- 1 . العقد النضید 4/279.
2- 2 . العقد النضید 4/280 مع تغییر مختصر.

وأمّا إذا کانت من الانقسامات الأوّلیة والخصوصیات المتقدمة للحکم فلا تتم الاستحالة، لأنّ البحث یجری فی أنّ أدلة ولایة الفقیه هل تُجعل وسیعا بحیث تشمل صور التزاحم أو تجعل ضیّقا بحیث لا تشمل صوره من الابتداء، وهذا یعدّ من الانقسامات الأوّلیة والخصوصیات المتقدمة علی الحکم.

وبالجملة: فظهر ممّا ذکرنا فی نقد الأدلة الأربعة بالنسبة إلی استحالة المزاحمة فی مقام الثبوت، عدم مانع ثبوتی فی مزاحمة فقیه لفقیه آخر، فحینئذ تصل النوبة إلی مقام الإثبات فنقول.

المقام الثانی: ما تَقْتَضِیْهِ الأدلة العنوان الأوّلی فی مقام الاثبات
أ: الأدلة الأوّلیّة غیر مطلقة؟

قد یناقش فی دلالة الأدلة الأوّلیة علی جواز المزاحمة لعدم وجود الإطلاق فیها، لأنّ مع وجود الاطلاق فیها وثبوته یستلزم ولایة الفقیه علی نفسه وعلی غیره من الفقهاء وهی ممنوعة إذ الشارع جَعَلَ الولایة للفقیه علی غیر الفقیه لا للفقیه علی نفسه وعلی غیره من الفقهاء.

بتقریب: إثبات الأدلة الشرعیة للحکم حیثیٌّ ولیس بمطلق، مثلاً أنّ قوله تعالی «أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِیمَةُ الاْءَنْعامِ»(1) یثبت حلیّة البهمیة من حیث أنّها بهمیة فهی مطلقة من هذه الحیثیة فقط، ولا اطلاق فیها من جمیع الجهات والحیثیّات لتشمل حلیة البهمیة حتّی المغصوبة منها.

ومثلها أدلة ولایة الفقیه تنحصر دلالتها علی حیثیتها وحدودها ولا اطلاق فیها حتّی تشمل الحیثیات الاُخَر نحو: إثبات ولایة فقیه علی فقیه آخر مثله، فحینئذ إذا

تصرف فقیه فی ما هو شأنه وله الولایة علیه، لا یحقّ للفقیه الآخر مزاحمة الفقیه السابق فی تصرفاته لعدم إثبات الولایة اللاحق علی السابق.

ویرد علیه: بالنقض والحَلّ:

ص:381


1- 1 . سورة المائدة /1.

وأمّا النقض: فبما ورد فی أبواب الوقف والوکالة والوصایة والقیمومیة أن ینصب الواقف أو الموکلِّ أو الموصی أو الذی یجعل القیم علی أطفاله شخصا خاصا أو أشخاصا علی نحو الاستقلال أو أشخاصا علی نحو الإنضمام، وقد اتفق الفقهاء قدیما وحدیثا علی صحة هذا النصب فی هذه الأبواب، فإذا صح هذا النصب فی هذه الأبواب، فیمکن أن یکون نصب الفقیه علی الولایة مثل النصب فی هذه الأبواب علی نحو الاستقلال، فمادام الموضوع موجود یجوز لکلِّ فقیه علی نحو الاستقلال إعمال ولایته علیه.

وأمّا الحلّ: فَبِکَوْنِ الولایةِ المجعولة للفقیه تارة محدودة ومضیقة بعدم تصرّف فقیه آخر، واُخری مطلقة وموسّعة بحیث تشمل موارد التزاحم بین الفقیهین، وعلی أیّ حالٍ: الولایةُ المجعولةُ له ولایةٌ وسلطنة علی الأموال والاُمور إمّا بالتضییق أو بالتوسیع، لا الولایة والسلطنة علی نفس الفقیه أو غیره من الفقهاء.

وقد خلط فی الاستدلال بین اطلاق عنوان الولایة وتخصیصه للمُوْرد _ أی المال أو الأمر _ مع إطلاقها وتخصیصه للوارد _ أی الفقیه نفسه أو الفقیه الآخر، وبین الوارد _ وهو الذی یتصدی للأمر فی إعمال ولایته _ والمورد _ وهو المال أو الأمر الذی یُعْمِلُ الفقیه ولایته فیه _ بونٌ بعیدٌ.

ب: لم تثبت الأدلة الأوّلیة جواز المزاحمة

بتقریب: الأدلة الواردة فی نیابة الفقیه عن النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام تقتضی انتقال الصلاحیات الممنوحة لهم علیهم السلام بلا فرق بین أن یکون المزاحم فقیها أو غیره، وبمقتضی إطلاق أدلة النیابة ینتقل هذا الحکم _ أی عدم جواز المزاحمة _ إلی نائبهم وهو الفقیه، فلا یجوز لأحد _ سواء کان فقیها أو غیره _ مزاحمة الفقیه المتولّی والمتصدی للأمر.

ویرد علیه: أوّلاً: قد عرفت المناقشات حول أدلة النیابة فی بحث ولایة الْفَقِیْهِ فلا نعیدها.

وثانیا: علی فرض ثبوت النیابة، لم یدلّ دلیل علی أنّ النائب کالمنوب عنه نفسه، وأنّ کل ماللمنوب عنه ینتقل إلی نائبه، مع إنّا نعلم بخروج کثیر من مقامات المنوب عنه

ص:382

وولایاتهم عن هذه النیابة، ولا یشارکهم الفقیه إلاّ فی موارد معدودة، فلا إطلاق فی أدلة النیابة.

وثالثا: علی فرض ثبوت إطلاق أدلة النیابة، خروج کثیر من الولایات والمقامات یوجب تخصیص الأکثر المستهجن، ولو لم یصل إلی حدّ الاستهجان یصل إلی حدّ یوجب الاجمال فی القانون العام، لأنّ بلوغ التخصیص إلی حدّ النصف أو الأکثر تنافی مع قانونیة القانون وعمومه وشموله ویؤدی إلی إجماله.

ج: مسلک الشارع فی جعل الولایات

مسلک الشارع وطریقته فی جعل الأحکام الشرعیة مبنیّة ملاحظة الفوائد اللازمة والضرورات الحیویّة ولا یرید العسر بالنّاس وأن یجعل علیهم تکالیفا شاقّة، وأن یضع عنهم الأغلال بل قال اللّه تعالی: «یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ»(1) وقال تعالی: «الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الاْءُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوبا عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَالاْءِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَیَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْءَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(2) وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث: لم یُرْسِلْنی اللّه ُ تعالی بالرَّهْبَانِیَّةِ ولکن بعثنی بالحنیفیّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أصُومُ واُصَلِّی وألْمِسُ أهلی، الحدیث.(3)

ومن جملة الأحکام الشرعیة «الولایات الشرعیّة الممنوحة للأفراد، فإنّها بمقتضی قوله تعالی: «تِلْکَ الدّارُ الاْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّا فِی الاْءَرْضِ وَلا فَسادا»(4) محدودة بمقدار الضرورة الرافعة لمشاکل عامّة النّاس، فإذا لا حظنا الأخبار التی تنهی

ص:383


1- 1 . سورة البقرة /185.
2- 2 . سورة الأعراف /157.
3- 3 . الکافی 11/130، ح1 (5/494) خبر ابن القداح.
4- 4 . سورة القصص /83.

النّاس عن السعی لحصول الرئاسات العامّة کقوله علیه السلام : «ملعون من ترأس»(1) وأضرابه، نستکشف منها أنّ مقاصد الشریعة بعیدة کلّ البُعد عن جعل مثل هذه المناصب، وبالتالی فإذا نصب الشارع ولیّا وحاکما، فإنّ ذلک لیس إلاّ لأجل الضرورة التی ینبغی أن تتقدّر

بقدرها، والضرورة الحاصلة فی المقام هی مراعاة أمر المولّی علیه، وتمشیة اُموره والحفاظ علی أمواله من الضیاع، ومثل هذه المقاصد الهامّة لا تجتمع من إطلاق الولایة لیشمل غیره لینتهی الأمر إلی التزاحم والتنازع، وعلیه فإنّ أدلّة الولایة _ مع ملاحظة القرائن المستنبطة من روح الشریعة وأحکامها ومقاصدها _ المثبتة لولایة الاُمور الحسبیّة، غیر وافیة بجواز المزاحمة، ولذلک فإنّ الحکم بجواز المزاحمة متوقّف علی قیام دلیل آخر، إذْ إنّ أدلّة الولایة بنفسها غیر متکفّلة وغیر مقتضیة له»(2).

د: الأُمور الحسبیة

قد مرّ(3) إثبات ولایة الفقیه بالأُمور الحسبیة والمراد بها «الأُمور الضروریّة التی لا نشکّ أنّ الشارع لا یرضی بترکها وإهمالها، حیث نعلم علم الیقین بأنّ الشارع کما أنّه یهتمّ اهتماما خاصّا بالمصالح العامّة ولا یرضی بفوتها، ممّا یؤدّی عادةً إلی حدوث الهرج والتعدّی علی الأبریاء والضعفاء وإراقة الدِّماء وما إلی ذلک، کذلک یهتمّ بنفس الدرجة بالمصالح الخاصّة، ولزوم مراعاتها وحفظها عن الضیاع والتعدّی، ومن المعلوم أنّ ذلک لا یتمّ إلاّ من خلال ولیّ منصوب یتکفّل رعایة الاُمور المذکورة، ولیس هذا الولیّ سوی الفقیه الجامع للشروط المعروفة، وقد ذکرنا فی مبحث ولایة الفقیه أنّ هذه الولایة تکون للفقیه المطلق _ أی القادر علی استنباط الأحکام الشرعیّة فی مطلق الأبواب الفقهیّة عِلْما والمستنبط لأکثرها عملاً، وإن لم یکن قد استنبط جمیعها بالفعل _ والناظر فی الأخبار، والعارف بالحلال والحرام علی نحو الجمع المضاف. ولا یخفی أنّ دلیل الضرورة یعدّ من أهمّ الأدلّة علی إثبات کبری موضوع الولایة، ولکنّها دلیل لبّی ولیس بلفظی، بالتالی لا

ص:384


1- 5 . الکافی 3/728، ح4 (2/298).
2- 1 . العقد النضید 4/287 و 288.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 288.

مجال للتمسّک بإطلاقها، بل ینبغی الاقتصار فیها علی المتیقّن، وهو کون الولایة مجعولة لکلِّ فقیهٍ تصدّی وحصل به الاستغناء، وأمّا جواز مزاحمته فلیس الدلیل وافیا بذلک، وبالتالی فالأصل عدم جوازها»(1).

ه : الإجماع

قد مرّ(2) بَیانُ مراتب ولایة الفقیه وأنّ الاُولی مِنْها إجماعیة ولم یناقش فیها أحد،

والثانیة محل نقاش وایراد، والثالثة غیر ثابتة لم یقل بها إلاّ الشاذ، والمرتبة الاُولی هی ما یحرز من الدلیل الشرعی لابدیة وجوده فی الخارج أو مطلق محبوبیته ومطلوبیته.

ومن الواضح أنَّ صور التزاحم خارجة عن هذه المرتبة مضافا إلی أنّ الإجماع هنا محتمل المدرکیّة وأنّه دلیل لبّیّ یجب الاقتصار علی القدر المتیقن منه، فلا یشمل موارد المزاحمة أبدا.

والحاصل إلی هنا: عدم وجود الدلیل فی مقام الاثبات علی جواز مزاحمة فقیه لفقیه آخر قد تصدّی المسؤولیة وقام بها بحسب ما تقتضیه مصلحة المولّی علیه.

فذلکة القول فی المقام:

«لاشک أنّ الالتزام بإطلاق دلیل جعل الولایة _ کما التزم به المحقّق الإیروانی(3) _ یقتضی الحکم بجواز المزاحمة، کما أنّه لا شکّ أنّ الالتزام بعدم إطلاق أدلّة الجعل یقتضی الحکم بعدم جواز المزاحمة والتصرفات علی أقسام:

تارةً: یتّحد الفقیهان فی تصرّفهما زمانا، کما لو باعا أموال الصغیر أو أنْشَئآ نکاحها فی زمان واحد.

واُخری: لم یتّحدا زمانا فی التصرّف، بل یکون أحدهما سابقا والآخر لا حقا.

وتنقسم الصورة الاُولی إلی:

تارةً: یتّحدان فی طرف المعاملة، بأن باع الأوّل لزید وکذلک فعل الثانی.

ص:385


1- 3 . العقد النضید 4/288 و 289.
2- 4 . راجع هذا المجلد صفحة 185.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/389.

واُخری: یختلفان بأن باع الأوّل لزید وباع الثانی لعمرو.

ومن المعلوم، القاعدة العامّة فی العقود الصادرة منهما دفعة واحدة هی البطلان، حیث لا مجال للحکم بصحّتهما لوضوح بطلانه، کما لا مجال للحکم بصحّة أحدهما معیّنا لأنّه ترجیح بلا مرجّح، کما لا مجال للحکم بصحّة أحدهما مردّدا لأنّ المردّد لا یکون موردا للأثر، وبالتالی یکون شمول أدلّة الولایة لهذه الصورة قطعیّ العدم.

إلاّ أن یقال: إنّ المورد یعدّ من موارد شمول أدلّة القرعة، لأنّ المفروض ثبوت الولایة لهما، وصحّة تصرّف کلّ واحدٍ منهما بمقتضی ولایته، والقرعة فی هذه الحالة تحلّ المشکلة وتعیّن التصرّف الصحیح، وهذا هو المستفاد من کلام الشهید رحمه الله فی «القواعد والفوائد»(1).

ویرد علیه: الحکم المذکور مبنی علی الالتزام بشمول أدلّة القرعة للذی لیس له واقع معیّن، وأمّا مع الالتزام باختصاص أدلّة القرعة بالموارد التی لها واقع معیّن غیر مردّد، فلا مجال لجریان القرعة فی المقام.

وممّا ذکرنا ثبت أنّه إذا اتّخذ مورد التصرّف والمعاملة من حیث الجهة [أی المشتری] والثمن والمثمن، کما لو باع الفقیه الأوّل لزید وباع الثانی أیضا له أو لوکیله دون اختلاف فی الثمن والمثمن، فإنّ القاعدة تقتضی البطلان، لأنّه برغم وحدة الثمن إلاّ أنّ المعاملة متعدّدة ومختلفة لتعدّد الموجب والقابل واختلافهما، ومقتضی الأصل عند الشکّ فی شمول الدلیل وعدمه هو عدم الشمول.

نعم، یمکن تصحیح هذه المعاملة فیما لو اعتبرنا المجعول بأدلّة الولایة هو عنوان الفقیه لا شخصه، وبالتالی تکون المعاملة صادرة ممّن له عنوان الفقیه _ سواءً المتصرّف الأوّل أو الثانی _ مع اتّحاد الثمن والمثمن والمشتری، فتشملها أدلّة الصحّة برغم تفاوت الفقیهین فی الخصوصیّات الفردیّة.

وهذا بخلاف ما لو اعتبرنا المجعول بأدلّة الولایة لیس عنوان الفقیه بل وجوداتها

ص:386


1- 2 . القواعد والفوائد 1/409، القاعدة 148.

الخارجیّة من زید وعمرو وبکر الموصوفین بالفقاهة _ کما هو الحقّ _ فحینئذٍ یعدّ الموضوع هو المصداق الخارجی، وبالتالی لا یمکن تصحیح المعاملة الصادرة منهما.

لا یقال: إنّ الملاک فی جعل الولایة هو صدور العمل عن فقیه نصبه الشارع ولیّا علی الصغیر رعایةً له ولأمواله، وبالتالی لا خصوصیّة لشخص الفقیه، فلا اعتبار لکون الفقیه المتصرّف زید أو عمرو إنّما المهمّ صدوره من فقیه له الولایة المذکورة، وهکذا یمکن تصحیح المعاملة الحاصلة.

لأنّا نقول: بعض الأحکام لا یمکن تعلّقها بعناوینها کالمرجعیّة والولایة والحکومة والقضاء، لأنّ موضوعها هی الوجودات الخارجیّة، حیث یعدّ الفقیه والحاکم هو المرجع فی الحوادث الواقعة خارجا.

وبالتالی فبحسب الأدلّة الأوّلیّة نذهب إلی بطلان المزاحمة، وعدم إمکان تصحیح عملهما وتوجیههما إلاّ أن یثبت عموم دلیل القرعة»(1).

ما یقتضیه الأصل الْعَمَلِیّ فی مسألة تزاحم الفقیهین
اشارة

لو فُرض أنَّ النَّوْبَةَ وَصَلَتْ إلی الاْءصْلِ العملی فی المقام فما هو الأصل؟

بلا فرق بین التصرف فی الأموال المتعلّقة بالإمام علیه السلام المعروفة الیوم بسهم الإمام علیه السلام أو غیرها، لأنّ الکلَّ یرجع الیوم إلی الفقیه الجامع لشرائط الإفتاء. یمکن تصویر الأصل فی الصورتین:

الصورة الاُولی: إذا قام فقیهٌ بإعمال ولایته فی خلال مقدمات عمله من

الصورة الاُولی: إذا قام فقیهٌ بإعمال ولایته فی خلال مقدمات عمله من تصرفاته عارضه فی العمل غیره الذی کان حین بدایة إعمال ولایته فی مقدمات العمل غیر معدود من الفقهاء ثمّ بعد ما کان الفقیه الأوّل مشتغل بالمقدمات صار فقهیا ویبنی علی مزاحمة الأوّل، فما هو الأصل العملی فی هذه الصورة؟

قد یقال: الولایة ثابتة للفقیه الأوّل، والثانی لیس له الولایة حین لم یکن فقیها، والان صار فقیها فنشک فی ثبوت الولایة له والأصل بقاء عدم ولایته أی استصحاب عدم

ص:387


1- 1 . العقد النضید 4/(291-289) مع اصلاحات.

الولایة له.

ویرد علیه: استصحاب عدم الولایة للفقیه الثانی غیر جارٍ فی المقام والوجه فی ذلک أنَّ الولایة من الأحکام الشرعیة المجعولة وموضوعها وجودا وعدما یدور مدار الفقاهة، فالفقاهة بالنسبة إلی الولایة لیست من حالات الموضوع بل هی من مقوماته، فحینئذ إذا لم یکن فقیها لم یکن ولیّا قطعا ولکن بعد بلوغه مرتبة الفقاهة یحصل له الولایة، ولا یمکن استصحاب عدم ثبوت ولایته حین لم یکن فقیها لأنّ الفقاهة من مقومات الولایة لا من حالاتها فلا یجری استصحاب عدم ولایة الثانی.

الصورة الثانیة: إذا تصرف الفقیه الأوّل فی ما یجوز له إعمال الولایة فیه

الصورة الثانیة: إذا تصرف الفقیه الأوّل فی ما یجوز له إعمال الولایة فیه ثمّ أراد الفقیه الثانی الثابت فقاهته من بدایة إعمال ولایة الأوّل أن یزاحمه فی تصرفاته فما هو مقتضی الأصل العملی؟

إذا لم تَکُن الأدلة اللفظیة فی المقام یکون الشک فی أن الولایة المجعولة للفقیه تکون مجعولة علی نحو التوسعة والإطلاق بحیث تشمل صور التزاحم أو مجعولة علی نحو التضیّق والمحدویة والتقیید فحینئذ لا تشمل صور التزاحم فترجع أدلة الولایة إلی إثبات الفرد الطویل أو الفرد القصیر، وعلی هذا أرکان الاستصحاب بالنسبة إلی الأفراد غیر جاریة لأنّ الفرد القصیر لا یشمل صور التزاحم والفرد الطویل یشملها، وأمّا کلّی الولایة وطبیعتها فهی مُتُیَقِّنَةُ الوجود إمّا فی ضمن الفرد الطویل أو القصیر، وبعد الشک فی بقائها عند التزاحم نستصحب کلّی الولایة، وبها ثبتت الولایة فی صور التزاحم وهذا هو

القسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی الذی یذهب إلی جریانه الشیخ الأعظم(1) والمحقّقون: الخراسانی(2) والنائینی(3) والعراقی(4) والخوئی(5) والأستاذ المحقّق(6) _

ص:388


1- 1 . فرائد الاصول 3/191.
2- 2 . کفایة الاصول /406، طبعة مؤسسة آل البیت علیهم السلام .
3- 3 . فوائد الاصول 4/413.
4- 4 . نهایة الأفکار، القسم الأوّل 4/122.
5- 5 . مصباح الاصول 3/105.
6- 6 . العقد النضید 4/294.

مدظله _ وإلی عدمه السیّد الروحانی(1) قدس سره تبعا للقمی(2). والجریان هو مختارنا فی أبحاثنا الاُصولیة فراجعها إن شئت.

لا یقال: لا مجال لجریان الاستصحاب الکلی، لأنّ الأثر لیس لکلّی عنوان الولایة، بل الولایة هی حکم شرعی جُعلت لِلْمَصادِیْقِ الخارجیة من الموصوفین بالفقاهة وهی دائرة بین مقطوع الزوال _ إذا جُعلت مضیقة ومقیّدة لخروج صور التزاحم _ ومشکوک الحدوث _ إذا جُعلت موسَّعة ومطلقة لِدُخول صور التزاحم حینئذ _ فلا مجال لجریان الاستصحاب؛ لأنّ الولایة الحکمیّة المجعولة التی لها الأثر لا تتم فیها أرکان الاستصحاب وما تتم فیه أرکان الاستصحاب وهی کلّی عنوان الولایة لیس له أثر مجعول.

لأنّا نقول: الولایة لها الأثر فی جواز التصرف فی الأموال وغیرها، وأمّا سعة دلیلها أو ضیقه لا تأثیر لهما فی جواز التصرف وإن کان لهما الأثر فی جهات أُخَر نحو جواز المزاحمة وعدمها.

فحینئذ یمکن استصحاب کلّی الولایة ویتبعه ثبوتها فی صور المزاحمة بمثل جریان استصحاب کلّی الحدث بالرغم التردید فی خصوصیاته من الصغر والکبر، فتکون النتیجة عدم جواز الدخول فی الصلاة ومسّ الکتاب لأنّهما من آثار کلّی الحدث وإن کان لکلِّ واحد منهما آثار یختص به.

وبالجملة: یمکن أن یقال: فی تحقیق حکم الأصل فی مسألة الولایة فی صور المزاحمة، أنّ الاحتمالات أربعة:

الأوّل: المزاحمة بالنسبة إلی الولایة کالحدث بالنسبة إلی الطهارة، فتکون المزاحمة رافعة أو مسقطة للولایة بمعنی أنّ المزاحمة ترفع الولایة الثابتة، فحینئذ أرکان الاستصحاب تامة لرجوع الشک إلی ثبوت الرافع أو المسقط والأصل عدمه، فنستصحب

ص:389


1- 7 . منتقی الاصول 6/172.
2- 8 . القوانین 2/69.

ثبوت الولایة عند الشک فی وجود المزاحمة وجوازها.

الثانی: الولایة مجعولة شرعا وعدم المزاحمة تکون قیدا لهذا المجعول الشرعی، ففی هذا الاحتمال مقتضی الأصل عدم ثبوت الولایة، للشک فی ثبوت ولایة اللاحق بعد تصدی السابق والأصل عدمها.

الثالث: الولایة ثابتة وغیر مقیّدة وإنّما القید یعود إلی التصرف الذی یکون موردا للولایة فیکون عدم المزاحمة قیدا لمورد الولایة لا لنفسها، فیجوز التصرف ولایةً بشرط أن لا یکون قد سبقه فقیه آخر بالتصرف فی موردها.

فیعود الشک فی هذه الحالة إلی المحدود دون الحدّ حیث نشکّ فی أنّ المولّی علیه محدود بعدم تصرّف فقیه آخر أو عدمه.

ففی هذا الاحتمال مقتضی الأصل عدم الولایة، لعود الشک إلی جعل الولایة وعدمه والأصل عدمه.

الرابع: إذا کان الفقیه متردّدا بین أحد الاحتمالات الثلاثة السابقة، فحینئذ یتردّد الشاک فی الحکم من جهة جریان الأصل تارةً وعدم جریانها اُخری، وبالتالی لا مجال لإحراز ثبوت الولایة للفقیه اللاحق حینئذ.

وهذا تمام الکلام فی بحث مزاحمة فقیه لفقیه آخر واللّه العالم.

الفرع الرابع: هل یجوز مزاحمة ثقة أو عدل لثقة أو عدل آخر فی الاُمور الحسبیة؟
اشارة

إذا قام عدلٌ أو ثقة من المؤمنین بالتصرف مثلاً فی أموال الأیتام، فهل یجوز لعدل أو ثقة آخر مزاحمته فی هذا التصرف مادام الموضوع کان باقیا؟

وأمّا بعد تحقّق التصرف من الأوّل من وقوع بیع أو إجارة أو نحوهما، فلا شک من أنّ موضوع المزاحمة یکون منتفیّا فلا یتحقّق المزاحمة فی الخارج.

وقبل الشروع فی البحث لابدّ من ملاحظة مقالة الشیخ الأعظم فی المقام:

مقالة الشیخ الأعظم قدس سره

قال: «ثمّ إنّه حیث ثبت جواز تصرّف المؤمنین، فالظاهر أنّه علی وجه التکلیف

ص:390

الوجوبی أو الندبی، لا علی وجه النیابة من حاکم الشرع، فضلاً عن کونه علی وجه النصب من الإمام علیه السلام ، فمجرّد وضع العدل یده علی مال یتیم لا یوجب منعَ الآخر ومزاحمته بالبیع ونحوه.

ولو نقله بعقد جائز، فوجد الآخر المصلحة فی استرداده، جاز الفسخ إذا کان الخیار ثابتا بأصل الشرع أو بجعلهما مع جعله للصغیر أو مطلق ولیّه من غیر تخصیص بالعاقد. وأمّا لو أراد بیعه من شخص وعرّضه لذلک جاز لغیره بیعه من آخر مع المصلحة وإن کان فی ید الأوّل.

وبالجملة، فالظاهر أنّ حکم عدول المؤمنین لا یزید عن حکم الأب والجدّ من حیث جواز التصرّف لکلٍّ منهما ما لم یتصرّف الآخر»(1).

«وحاصل کلامه: أنّ حکم ولایة العدول وجواز تصرّفهم تکلیفی علی وجه الوجوب أو الاستحباب، دون أن تکون لهم نیابة أو وکالة عن الإمام أو نائبه، ولذلک فما دام یعدّ موضوع التصرّف باقیا، جاز لغیره من العدول أن یتدخّل ویتصرّف بما یراه مصلحة للصغیر، فللثانی فسخ المعاملة الخیاریّة _ سواءً کان الخیار ثابتا بأصل الشرع کخیار الحیوان وخیار المجلس، أو مجعولاً کخیار الشرط _ والقیام بإنشاء عقد آخر أصلح وأنفع للصغیر من المعاملة الاُولی.

ویقول أخیرا: إنّ الولایة الثابتة لعدول المؤمنین إنّما تکون فی حدّ الولایة الثابتة للأب والجدّ، فکما أنّ للجدّ أن یتصرّف فی أموال حفیده بعد تصرّف الأب وقبل زوال الموضوع، کذلک الحال فی عدول المؤمنین.

... [و] لیس هناک تهافت بین ما قاله فی صدر کلامه ومختاره فی الذیل، فقوله أوّلاً إنّه لا ولایة لعدول المؤمنین، بل الثابت لهم مجرّد التکلیف، لا یناقض قوله أخیرا عندما یقول بأنّ ولایتهم بمنزلة ولایة الأب والجدّ، لأنّه لا یقصد بذلک إثبات الولایة لهم،

ص:391


1- 1 . المکاسب 3/569 و 570.

بل مجرّد تحدید صلاحیّاتهم وتقلیصها فی حدود صلاحیّات الأب والجدّ»(1).

المناقشة فی مقالة الشیخ الأعظم

ویرد علیه: «أوّلاً: لا شکّ فی صحّة دعواه من أنّ تصرّفات عدول المؤمنین لا تستمدّ شرعیّتها من نیابته عن الإمام علیه السلام ، إذ لا یعدّ العدل نائبا عنه علیه السلام ، وهذا ممّا لا نقاش

فیه، أمّا بالنسبة إلی الفقیه فإنّ للنقاش فی أنّ تصرّفاته مبنیّة علی النیابة عنهم علیهم السلام أو الولایة مجال واسع، أمّا فی عدول المؤمنین، حیث أنّ أمر العدل مردّدٌ بین الولایة والتکلیف، وقد مرَّ کلام الشیخ الدال علی التزامه بالثانی دون الأوّل، وهو ممنوعٌ، لأنّ موارد التصرّف علی ثلاثة أقسام:

تارةً: یکون مورد التصرّف لا قابلیّة فیه لجعل الولایة له، کجواز الأکل والشرب، فبرغم جواز التصرّف له فیهما، لکن لا مجال لجعل الولایة له بالنسبة إلیهما.

واُخری: یکون مورد التصرّف فیه القابلیّة لأنّ یجعل له الولایة فیه کتجهیز المیّت، فإنّه برغم ثبوت هذا التکلیف یمکن جعل الولایة فیه، کما جاء فی قوله علیه السلام : [«یصلّی علی الجنازة اُولی النّاس بها أو یأمر من یحبّ»(2) أو قوله علیه السلام بالنسبة إلی قضاء الصلاة والصیام: «یقضی عنه أُولی النّاس بمیراثه»(3)]، حیث أثبت الولایة للورثة بحسب طبقاتهم.

وثالثة: مورد التصرّف لا یمکن أن یکون التکلیف فیه مجرّدا عن الولایة، کما فی التصرّفات الوضعیّة التی هی موضوع الصحّة والفساد، حیث لا یعقل فیها ثبوت جواز التصرّف دون الولایة، لأنّه «لا بیع إلاّ فی مایملک»(4)، فلابدّ أن یکون للبائع الولایة علی

ص:392


1- 2 . العقد النضید 4/256.
2- 1 . وسائل الشیعة 3/114، ح1، الباب 23 من أبواب صلاة الجنازة، صحیحة ابن أبیعمیر عن بعض أصحابه.
3- 2 . وسائل الشیعة 10/330، ح5، الباب 23 من أبواب أحکام شهر رمضان، صحیحة حفص ابن البختری.
4- 3 . قد مرّ مصادره فی الآراء الفقهیّة 5/268 و 269 فراجعه.

البیع حتّی یتحقّق الصحّة والنفوذ.

وتصرّفات عدول المؤمنین مندرجة فی القسم الأخیر، حیث لا یعقل ثبوت التکلیف دون ثبوت الولایة، وبالتالی فما التزم به الشیخ من ثبوت التکلیف مجرّدا عن الولایة ممنوعٌ.

وثانیا: أنّ مقتضی صدور البیع ممّن لیس بمالک، هو صیرورة العقد فضولیّا، ولا سبیل للخروج عنه إلاّ بانتساب البیع إلی البائع بلام النسبة، ومثل هذه اللاّم تفید الولایة أیضا.

وثالثا: فضلاً عمّا ذکرنا، فإنّ النصوص الخاصّة أیضا دالّة علی اندفاع دعوی الشیخ

من عدم ثبوت الولایة، ومنها: [موثقة سماعة(1) وصحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری(2) الماضیتان وتدّلان علی ثبوت الولایة للثقة أو العدل کما مرّ(3)].

بالجملة: علّق الشیخ جواز المزاحمة مع الولی وعدمه علی العنوان الثابت فی حقّ الولی من التکلیف والولایة، فقال بجواز المزاحمة لو کان الثابت مجرّد التکلیف، وعدم جوازها إذا کان المجعول النیابة والولایة، وقد ثبت ممّا ذکرناه اندفاع مبنی الشیخ، وأنّ الثابت لیس إلاّ الولایة، لأنّ تصرّف الولی معدود فی التصرّفات الوضعیّة المستلزمة لثبوت الولایة»(4). واندفاع ما بنی علیه کما یظهر لک ممّا سیأتی فانتظر.

نبحث عن هذا الفرع فی المقامین:

المقام الأوّل: ما تَقْتَضِیْهِ الأَدِلّةُ العامَّةُ

ومنها: الروایات الدالة علی حرمة التصرف فی مال الغیر بدون إذنه نحو:

موثقة سماعة عن أبیعبداللّه علیه السلام فی حدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: من کانت عنده

ص:393


1- 1 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 3 . راجع هذا المجلد صفحة 358.
4- 4 . العقد النضید 4/(259-257) مع تصرفات واصلاحات منّا.

أمانة فلیؤدها إلی من ائتمنه علیها، فإنّه لا یحلّ دم امرئ مسلم و لا ماله إلاّ بطیبة نفسه.(1)

ومثلها صحیحة أبیأُسامة زید الشحام(2)

والتوقیع الشریف المروی بسند صحیح عن الناحیة المقدسة وفیه: وأمّا ما سألت عنه من أمر الضیاع التی لناحیتنا هل یجوز القیام بعمارتها، و أداء الخراج منها و صرف ما یفضل من دخلها إلی الناحیة احتسابا للأجر و تقرّبا إلیکم؟ فلا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه، فکیف یحلّ ذلک فی مالنا؟! من فعل شیئا من ذلک لغیر أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرم علیه و من أکل من مالنا شیئا فإنّما یأکل فی بطنه نارا و سیصلی سعیرا.(3)

هذه الروایات «تمنع النّاس منعا باتا عن مطلق التصرّفات فی أموال الآخرین،

حتّی أموال الصغار الذین قد یستلزم عدم تصرّفهم فیها فقدانها وتلفها، نعم دلّت النصوص الخاصة والضرورة الشرعیة بعدم رضا الشارع بتلف هذه الأموال، وأنّه ینبغی لهم التصرف فیها، تلافیا لفقدها وتلفها، ومع الغضّ عن هذه الضرورة، فإنّ عموم الدلیل وعدم وجود مخصّص لفظی مشتمل علی الإطلاق، یقتضی تعمیم حکم القاعدة المذکورة، وعدم جواز رفع الید عن حکمها إلاّ بقدر الضرورة، والمتیقّن منه جواز تصرّف العدل فیما إذا لم تکن ید العادل الآخر مسبوقة إلی المال والتصرّف فیه، ومع سبق ید غیره إلیه یشکّ فی جوازه، ومجرّد الشکّ فیه یقتضی بطلانه، لاندارج المشکوک فی عمومات المنع، حیث إنّ دلیل المخصّص لبّیٌّ مردّد بین الأقلّ والأکثر، ویجب الاقتصار فی مخالفته علی المتیقّن، وهو جواز التصرّف فیما لم تسبق إلیه ید عادل آخر.

وبالنتیجة: تعدّ مزاحمة العادل الثانی للأوّل بعد تصرّفه ممنوعة وباطلة بمقتضی

ص:394


1- 5 . وسائل الشیعة 5/120، ح1، الباب 3 من أبواب مکان المصلی؛ ونقلت عنه فی الآراء الفقهیة 4/116.
2- 6 . وسائل الشیعة 29/10، ح3، الباب 1 من أبواب القصاص فی النفس.
3- 7 . وسائل الشیعة 9/540، ح7، الباب 3 من أبواب الأنفال؛ ونقلتها فی الآراء الفقهیة 4/117 مع ذکر مصادرها فراجع.

القواعد العامّة»(1).

هذا کلّه بحسب القواعد العامة، ولکن یظهر من المحقّق المؤسس الحائری قدس سره عدم جواز التمسک بالقواعد العامة هنا بل لابدّ من جریان استصحاب حکم الخاص یعنی جواز تصرفات العدل الثانی بعد تصرف العدل الأوّل.

مقالة المؤسس الحائری قدس سره ونقده

قال ردّا علی الشیخ الأعظم: «بأنّه لا فرق بین الوجوه الثلاثة [من أنّ المجعول مجرد الحکم التکلیفی أو الولایة أو النیابة] من جهة هذه الثمرة سواء کان المدرک للولایة هو القدر المتیقّن أم الأدلّة اللفظیة، أمّا علی الأوّل فلأنّ القدر المتیقّن من الخروج عن خلاف الأصل الأوّلی من عدم جواز التصرّف فی أنفس الغیر وأمواله وأعراضه صورة عدم تصدّی فرد آخر من العنوان، فیخرج الباقی عن القدر المتیقّن، ولا فرق بین الحکم والولایة والنیابة وهذا واضح.

وأمّا علی الثانی، فیدور الأمر مدار استفادة العموم الأزمانی من الدلیل، فإنّ الدلیل الآمر برجوع العوام مثلاً فی الوقائع الحادثة إلی الحکّام إن کان ناظرا إلی زمان دخول فقیه آخر أیضا نظیر ما یقال فی التخییر الاستمراری فی دلیل التخییر بین الخبرین کان للفقیه الآخر مزاحمة الأوّل، وللعوام المراجعین أن یرفعوا الید عن الأوّل ومراجعة الثانی کما فی

الخبرین، وکذلک الدلیل الدال علی ولایة هذا الجنس أو نیابته إن استفید منه العموم الأزمانی وأنّ الولایة أو النیابة محفوظة حتّی بعد تصدّی فرد آخر مثله جاز المزاحمة، ولیس مزاحمة نائب الإمام علیه السلام حینئذ إلاّ من نائبه وبإذنه علیه السلام .

هذا علی تقدیر الاستفادة، ولو لم یکن للدلیل عموم أزمانی علی جمیع الوجوه الثلاثة فیکون الحال کما لو کان المدرک هو القدر المتیقّن فهل یصحّ إثبات جواز تصرّف الثانی بالاستصحاب أو لا؟ الحق الجواز، فیقال: إنّه کان قبل تصدّی الأوّل جائز التصرّف أو ولیّا والآن نشکّ فی بقاء ذلک، فالأصل بقاؤه.

ص:395


1- 1 . العقد النضید 4/259.

لا یقال: هذا مبنیّ علی القول بانصراف قوله: «لا یحلّ مال امرئ إلاّ بطیب نفسه» إلی المالک الذی من شأنه الإذن وطیب النفس، فلا یشمل الصغیر، وأمّا لو قلنا بعمومه للصغیر أیضا فلابدّ حینئذ من التفصیل بین ما لو استفید الحکم فالمرجع عند الشکّ عموم هذا الخبر أو الولایة فالمرجع الاستصحاب، والفرق أنّ استصحاب حکم الخاص مع وجود العموم الأزمانی کما هو الحال فی الخبر المذکور غیر جائز، لأنّه تمسّک بالأصل فی قبال الدلیل، والاستصحاب المنقّح لموضوع العام مقدّم علی العام، فلو استفید الحکم کان تصرّفا فی حکم قضیّة لایحلّ، ولو استفید الولایة أو النیابة کان تصرّفا فی موضوعها وتعمیما لطیب نفسه إلی طیب نفس من یقوم مقامه بلسان التنزیل، والأوّل تخصیص والثانی تخصیص بلسان الحکومة، فلا جرم یختل حال الاستصحاب علیهما.

لأنّا نقول: هذا العموم بالنسبة إلی الصغیر غیر ممکن العمل مطلقا؛ لأنّ العمل به إنّما یحصل بإناطة جواز التصرّف بطیب نفس الصغیر وهذا المعنی غیر متحقّق فی حال الصغارة أبدا، وبعد ذلک لا یفرق الحال بین أن یکون جواز التصرّف ثابتا لواحد أو اثنین، فلا یکون الثانی زیادة تخصیص ولا الأوّل حفظ عموم»(1).

توضیح کلامه: «إنّ العدل الثانی کان له جواز التصرّف تکلیفا _ علی مبنی الشیخ _ أو ولایةً بالأصالة، وقبل أن یضع العدل السابق یده علی مال الصغیر وینوی التصرّف فیه، وعند قیام السابق بالتصرّف نشکّ فی بقاء جواز التصرّف لللاّحق وعدمه، فإنّ الاستصحاب یثبت بقاء الجواز السابق للعدل اللاّحق، هذا ومن جهة اُخری نشکّ أیضا أنّ الثانی هل زالت ولایته بوضع الأوّل یده علی المال وعدمه، فإنّ الاستصحاب أیضا یثبت

بقاء ولایته وضعا.

فإن قیل: بأنّه لا مجال لجریان استصحاب حکم الخاصّ مطلقا، بل ینبغی التفصیل بین مذهب الشیخ القائل بالتلکیف، وغیره القائل بثبوت الولایة أو النیابة، وأنّه یجب علی الأوّل التمسّک بعموم قوله: «لا یَحِلّ لأحد أن یتصرّف...» أمّا فی الثانی فیجری فیه

ص:396


1- 1 . کتاب البیع 2/(37-35)، بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمّدعلی الأراکی قدس سره .

الاستصحاب.

بیان ذلک: علی مبنی الشیخ یکون التخصیص واردا علی قوله: «لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف...» حیث تخصیص ممنوعیّة التصرّف مطلقا بخصوص العدل المؤمن، فیشکّ فی سعة دائرة المخصّص وضیقه بین الأقلّ والأکثر، ویکون المرجع حینئذٍ عموم «لا یحلّ...» الذی یبطل أثر الاستصحاب لأنّه أصل والعموم دلیل والقاعدة تقتضی تقدّم الدلیل علی الأصل. وهذا بخلاف ما إذا التزمنا بثبوت الولایة فإنّ استصحاب بقاء الولایة یزیل عموم قوله: «لا یحلّ...» وبذلک یتقدّم الاستصحاب علی الدلیل، والسبب فی قدرة الاستصحاب علی إزالة موضوع الدلیل، أنّه من خلال الاستصحاب یثبت أنّ تصرّف العدل اللاّحق لم یعد تصرّف الأجنبی لیشمله حکم المنع والحرمة، بل هو تصرّف مَنْ له حقّ التصرّف من المالک أو الوکیل أو الولی.

قلنا: برغم تمامیّة الکبری المذکورة فی المقام، وأنّه ینبغی علی المسلک الأوّل التمسّک بعموم المنع عند الشکّ فی جواز تصرّف الثانی وعدمه، وعلی المسلک الثانی بالاستصحاب، لکن الصغری غیر تامّة، لأنّ موضوع دلیل «لا یحلّ» المالک المتصرّف الذی من شأنه أن یأذن لغیره فی التصرّف، فإذا کان قادرا علی التصرّف بنفسه، أو من خلال الإذن لغیره، ففی هذه الصورة لو قام غیره بالتصرّف شمله عموم الدلیل وعدّ تصرّفه عدوانیّا، وهذا بخلاف ما إذا کان المالک فاقدا لمثل هذه الشأنیة، وعاجزا عن الإذن لغیره کما فیما نحن فیه، فإنّ الصغیر عاجزٌ عن ذلک، فحینئذٍ لا مجال لجریان عموم الدلیل، بل یکون اقتضاء جریان الاستصحاب تامّا ومانعه مفقودا، سواءً التزمنا بمبنی الشیخ أو بمبنی غیره»(1).

نقد کلامه: ولکن یرد علیه: «أوّلاً: إنّ الطفل برغم عجزه عن الإذن بالتصرّف فعلاً لصغره، إلاّ أنّه قابل له مآلاً وحینما یکبر ویبلغ، وبالتالی فدعوی اختصاص عموم المنع

بمن هو قادرٌ علی الإذن وعدمه، فلا یشمل الصغیر وأضرابه ممنوعٌ، لما ثبت من إمکانه

ص:397


1- 1 . العقد النضید 4/260 و 261.

الاستقبالی فی الصغیر، وکذلک فی المجنون الأدواری حیث أنّ له ذلک بعد الإفاقة.

وثانیا: لو سلّمنا عدم شمول قوله: «لا یحلّ» للصغیر، ولکنّه بعمومه یعمّ الصغار وأولیائهم، فإذا کان الصغیر فاقدا لشأنیّة الإذن، ینبغی علی المتصرّف تحصیل الإذن من ولیّه، وعلیه فإنّ إطلاق اشتراط جواز التصرّف بالإذن، یقتضی ممنوعیّة التصرّف إلاّ بعد إذن الولی، ومع فقد الولی فإنّ المرجع هو أصالة جواز تصرّف العدل من المؤمنین فیه، بشرط أن لا تکون ید عادل آخر مسبوقة علیه.

وثالثا: اختصاص مدلول قوله: «لا یحلّ» بخصوص العاقل البالغ دون غیره لفقده الشأنیة، یستلزم ما لا یمکن حتّی للقائل الالتزام به، وزوال أصالة حرمة التصرّف فی أموال الصغار، وانقلابه إلی أصالة حلّیة التصرّف فیها، وهو باطلٌ قطعا، وعلیه فبالأولویّة القطعیّة یثبت أنّ الأصل فی التصرّف فی أموال الصغار هی الحرمة.

ورابعا: ولو سلّمنا جمیع ذلک واعتبرنا الدلیل خاصّا بمن له شأنیة الإذن فعلاً، فإنّ قوله تعالی: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»(1) والأخبار المفسّرة لها والواردة فی ذیلها، جمیعها تفید أنّ الأصل حرمة الاتّجار والتصرّف فی أموال الیتامی والصغار، والمتیقّن الخارج منه هو قیام العدل من المؤمنین بالتصرّف فیها، لصیانتها عن الضیاع، بشرط أن لا یکون تصرّفه مسبوقا بتصرّف عدل آخر غیره»(2).

المقام الثانی: ما تَقْتَضِیْهِ النُّصُوْصُ الْخاصَّةُ
اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من ذکر نکتة وهی:

تنبیهٌ: فی جواز التمسک بالإطلاق علی فرض وجوده

«هل حیثیّة المسبوقیّة والسابقیّة تعدّان من الخصوصیّات الذاتیّة المتعلّقة بشخص العادل المؤمن، بحیث یمکن تقسیم المؤمن إلی المسبوق والسابق _ کما نقسّم المؤمن إلی العالم وغیر العالم _ أم أنّهما حیثیّتان راجعتان إلی الأفعال الصادرة من المؤمن، فإنّ ثبت

ص:398


1- 1 . سورة الأنعام /152.
2- 2 . العقد النضید 4/(263-261).

الأوّل فإنّ للتمسّک بالإطلاق مجالٌ وإلاّ فلا.

والمستفاد من کلمات جماعة من الفقهاء أنّها لا تعدّ من الحیثیّات الذاتیّة، وبالتالی

لا مجال للتمسّک بالإطلاق، ولکن هناک مجال لدفعه لإمکان تقسیمها کما هو الحال فی الأب والجدّ، فهما ولیّان وتعدّ الصفة من حیثیّاتهما الذاتیّة سواءً زاحم أحدهما الآخر أو لم یزاحم، وبالتالی فإنّ للتمسّک بالإطلاق فیهما مجال واسع، وکذلک الأمر فی المقام فإنّ کلّ مؤمن عدل ولی سواءً زاحمه ولیٌ آخر أم لم یزاحمه.

وبالجملة: فإنّ خصوصیّة المزاحمة لها القابلیّة لصیرورتها من الحیثیّات الذاتیّة للعدل القابلة للقسمة»(1).

وأمّا النصوص الخاصة فهی الروایات الاْءَرْبَعُ الماضیة:

1_ صحیحة محمّد بن إسماعیل بن بزیع.(2)

وقد عرفت أنّها تدل علی ولایه الفقیه عندنا، لا ولایة عدول المؤمنین وثِقاتِهم، فهی خارجة عن المقام.

2_ صحیحة علی بن رئاب.(3)

وقد عرفت أنّها لا تدلّ إلاّ علی لزوم مراعاة المصلحة فی أموال المولّی علیه، بعد اعتبار القیمومیة والفراغ عنها، فلا تدلّ علی ولایة عدول المؤمنین وثقاتهم، فهی أیضا خارجة عن المقام.

3_ موثقة سماعة.(4)

قد عرفت دلالتها علی ولایة ثِقات المؤمنین فضلاً عن عدولهم، ولکن لیس لها إطلاق حتّی تشمل صورة المزاحمة، مضافا إلی أنّ قوله علیه السلام : «إن قام رجلٌ ثقةٌ قاسمهم

ص:399


1- 1 . العقد النضید 4/263.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/363، ح2، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 3 . وسائل الشیعة 17/361، ح1، الباب 15 من أبواب عقد البیع وشروطه.
4- 4 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.

ذلک کلّه فلا بأس»(1)، یدلّ علی قیام رجل واحد فقط هو المتصرِّف الأوّل فلا یدلّ علی ولایة الثانی.

4_ صحیحة إسماعیل بن سعد الأشعری.(2)

قد عرفت دلالتها علی ولایة عدول المؤمنین من دون مناقشة ولکن لیس لها إطلاق أیضا حتّی تشمل صورة المزاحمة، مضافا إلی أنّ قوله علیه السلام : «وقام عدلٌ فی ذلک»،

یدلّ علی قیام عدل واحد فقط کما مرّ فی ذیل الموثقة.

فظهر ممّا ذکرنا لک عدم وجود الإطلاق فی النصوص الخاصة حتّی تشمل صورة المزاحمة.

نقل مقال المحقّق الإیروانی ونقده

یری المحقّق الإیروانی جواز المزاحمة متفرّعا علی ثبوت الولایة للعنوان العام یعنی: «عنوان المؤمن المنطبق علی کلّ فرد فرد ابتداء والمنطبق علی کلّ فرد فرد بعد تصدّی بعضهم فبالملاک الّذی ینفذ تصرّفات کلّ فرد ابتداءً ینفذ تصرّفات کلّ فرد بعد تصّدی بعض وإثبات یده علی المال ما لم یتحقّق التصرّف المؤثّر فی حصول النقل المفوّت لموضوع مال الیتیم الثابت علیه ولایة المؤمن»(3).

ولکن یرد علیه: ما مرّ منّا(4) من أنّ متعلَّق الحکومة والولایة هی الوجودات بِذَواتِها دون الطبائع والماهیات والعناوین، فالولایة مجعولة لِمَنْ یَصْدُقُ علیه الفقیه أو الثقة أو العدل فی الخارج بالحمل الشائع الصناعی، لا عناوین الفقیه أو الثقة أو العدل وماهیاتهم وطبائعهم فلا تتم مقالة الإیروانی قدس سره .

تذکرة:

«جواز مزاحمة ولیّ آخر للولی الأوّل المتصرّف والجامع لشروط الولایة، منافٍ

ص:400


1- 5 . وسائل الشیعة 19/422، ح2، الباب 88 من أبواب کتاب الوصایا.
2- 6 . وسائل الشیعة 17/362، ح1، الباب 16 من أبواب عقد البیع وشروطه.
3- 1 . حاشیة المکاسب 2/388.
4- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 378.

مع حکمته تعالی فی تمشیة اُمور الصغیر، التی هی السبب فی جعل الولایة، ومراعاةً لذلک نجد أنّ الشیخ الأعظم بعد استعراضه لأدلّة الولایة التی استنتج منها عدم جواز المزاحمة، یقول أخیرا: «هذا کلّه مضافا إلی لزوم اختلال نظام المصالح المنوطة إلی الحکّام سیّما فی مثل هذا الزمان الذی شاع فیه القیام بوظائف الحکام ممّن یدعی الحکومة»(1)»(2).

ص:401


1- 3 . المکاسب 3/572.
2- 4 . العقد النضید 4/266.

مسألة: نقلُ العبد المسلم إلی الکافر

اشارة

من شروط المتعاقدین إسلام من ینتقل إلیه العبد المسلم من المتعاقدین، نبحث عنه بالإجمال لا بالتفصیل لعدم وجود الموضوع لهذا الفرع فی هذه الأزمنة ولعدم إندارس أحکام اللّه تعالی وعدم نسیانه ونَبْتَدِئُ بنقل أقوال الفقهاء العظام کما هِیَ سِیْرَتُنا فی بدایة الأبحاث:

نقل الأقوال

قال الشیخ فی المبسوط: «ولا یجوز لکافر أن یشتری عبدا مسلما ولا یثبت ملکه علیه وفیه خلاف لقوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(1)... وإذا وکلّ مسلمُ کافرا فی شراء عبد مسلم لا یصحّ شراؤه، ولا یجوز أن یکون وکیلاً للآیة الّتی قدّمناها، وإذا قال کافرُ لمسلم: أعتق عبدک عن کفّارتی فأعتقه صحّ ویدخل فی ملکه ویخرج منه بالعتق. إذا کان العبد کافرا وإن کان مسلما لم یصحّ لأنّا بیّنا أنّ الکافر لا یملک مسلما.

إذا اشتری الکافرُ أباه المسلم لا ینعتق علیه لأنّا قد بیّنا أنّه لا یملک، وإذا لم یملک لا ینعتق علیه، وفی النّاس من قال: ینعتق علیه وإن لم یصحّ ملک الأب لأنّه لا یلحقه صغار لانعتاقه عقیب الملک.

وإذا استأجر کافر مسلما صحّت إجارته سواء استأجره فی عمل موصوف فی ذمّته أو استأجره یوما من حین العقد أو شهرا أو سنة للبناء أو للبیع أو [ل]غیر ذلک لأنّه لا مانع منه»(2).

ص:402


1- 1 . سورة النساء /141.
2- 2 . المبسوط 2/167 و 168.

وقال فی الخلاف: «مسألة: إذا وکلّ مسلم کافرا فی شراء عبدٍ مسلمٍ، لم یصح ذلک.

وللشافعی فیه قولان(1).

دلیلنا: قوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(2).

وهذا عام فی جمیع الأحکام.

مسألة: إذا قال کافر لمسلم: اعتق عبدک عن کفّارتی، فأعتقه، لم یصحّ إذا کان مسلما، وإن کان کافرا یصحّ.

وقال الشافعی: یَصِحَّ علی کل حال، ویدخل فی ملکه، ویخرج منه بالعتق(3)، ولم یفصّل.

دلیلنا: أنّا قد بیّنا أن الکافر لا یصحّ أن یملک المسلم، والعتق فرع علی الملک، فإذا لم یصحّ ملکه لم یصحّ عتقه.

وإذا کان کافرا جاز أن یملکه، فیصح عتقه، فینتقل إلیه بالملک ثمّ ینعتق.

مسألة: إذا استأجر کافر مسلما العمل فی الذمة، صحّ بلا خلاف.

وإذا استأجره مدة من الزمان شهرا أو سنة لیعمل له عملاً، صحّ أیضا عندنا.

واختلف أصحاب الشافعی، ففیهم من قال: فیه قولان کالشراء.(4)

ومنهم من قال: لا یَصِحُّ قولاً واحدا.(5)

دلیلنا: انّ الأصل جواز ذلک، والمنع یحتاج إلی دلیل»(6).

وقال المحقّق فی شرائط المتعاقدین: «وأن یکون المشتری مسلما، إذا ابتاع [عبدا] مسلما، وقیل: یجوز ولو کان کافرا ویُجْبَرُ علی بیعه من مسلم والأوّل أشبه. ولو

ص:403


1- 3 . المجموع 9/356؛ وفتح العزیز 8/110.
2- 4 . سورة النساء /141.
3- 1 . المجموع 9/358؛ وفتح العزیز 8/108.
4- 2 . المجموع 9/359؛ وفتح العزیز 8/108.
5- 3 . المجموع 9/359.
6- 4 . الخلاف 3/190.

ابتاع [الکافر] أباه المسلم هل یَصِحُّ؟ فیه تردُّدٌ، والأشبهُ الجواز لانتفاء السبیل بالعتق»(1).

قال العلاّمة فی التذکرة: «لا یشترط إسلام العاقد إلاّ إسلام المشتری فی شراء العبد المسلم، فلا ینعقد شراء الکافر للمسلم، عند أکثر علمائنا(2) _ وبه قال أحمد ومالک فی إحدی الروایتین وأصحّ قولی الشافعی(3) _ لأنّ الاسترقاق سبیل فینتفی؛ لقوله تعالی:

«وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(4).

ولأنّه ذلّ، فلا یثبت للکافر علی المسلم، کالنکاح. ولأنّه یُمنع من استدامة ملکه فیُمنع من ابتدائه، کالنکاح.

وقال أبوحنیفة والشافعی فی أضعف القولین، ومالک فی الروایة الاُخری، وبعضُ(5) علمائنا:یصحّ ویُجبر علی بیعه؛ لأنّه یملکه بالإرث، ویبقی علیه _ لو أسلم _ فی یدیه، فصحّ شراؤه.(6)

والفرق: أنّ الإرث والاستدامة أقوی من الابتداء؛ لثبوته بهما للمُحْرم فی الصید مع منعه من ابتدائه، ولا یلزم من ثبوت الأقوی ثبوت الأدون مع أنّنا نقطع الاستدامة علیه

ص:404


1- 5 . الشرائع 2/10.
2- 6 . منهم الشیخ الطوسی فی المبسوط 2/167؛ وابن زهرة فی الغنیة /210؛ والمحقّق فی شرائع الإسلام 2/16.
3- 7 . المغنی 4/332؛ الشرح الکبیر 4/47؛ الکافی فی فقه الإمام أحمد 2/13؛ أحکام القرآن لابن العربی 1/510؛ الجامع لأحکام القرآن 5/421؛ الوجیز 1/133؛ العزیز شرح الوجیز 4/17؛ الوسیط 3/13؛ حلیة العلماء 4/118؛ المهذّب للشیرازی 1/274؛ المجموع 9/355 و 359-360؛ روضة الطالبین 3/11؛ الحاوی الکبیر 5/381؛ التفسیر الکبیر 11/83.
4- 1 . سورة النساء /141.
5- 2 . انظر: شرائع الإسلام 2/16.
6- 3 . المغنی 4/332؛ الشرح الکبیر 4/47؛ الوجیز 1/133؛ العزیز شرح الوجیز 4/17؛ الوسیط 3/13؛ حلیة العلماء 4/118؛ الحاوی الکبیر 5/(381-382)؛ المهذّب للشیرازی 1/274؛ المجموع 9/355 و 359-360؛ روضة الطالبین 3/11؛ الجامع لأحکام القرآن 5/421.

بمنعه منها وإجباره علی ازالتها»(1).

وقال فی المختلف: «مسألة: لا یجوز أن یشتری الکافر عبدا مسلما، فإن اشتراه کان باطلاً، وقیل: یجوز ویجبر علی بیعه من مسلم(2)، واختار الشیخ الأوّل(3)، وهو الحق.

لنا: قوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(4) ودخوله فی ملکه أعظم السبیل.

احتج الآخرون بأنّ للکافر أهلیة التملّک، والعبد المسلم یصح تملّکه وقد وجد العقد فتثبت صحة البیع. والسبیل ینتفی بإجباره علی بیعه، کما لو أسلم الکافر تحت ید الکافر.

والجواب: لا یکفی المقتضی مع وجود المانع فی ثوبت الحکم، والمانع هنا موجود

وهو اثبات السبیل للکافر علی المسلم.

مسألة: لو اشتری الکافر أباه المسلم قال الشیخ فی المبسوط: لا یَصِحُّ البیع ولا ینعتق علیه؛ لما تقدّم من أنّ فیه اثبات السبیل علی المسلم(5)، وتبعه ابن البرّاج(6).

والأقرب عندی الجواز، وهو اختیار والدی رحمه الله والسبیل منتف بالعتق؛ لأنّه فی العقد لا سبیل له علیه، وفی الآن الثانی ینعتق علیه فینتفی السبیل»(7).

أقول: اختار العلاّمةُ الجواز فی مسألة شراء الکافر أباه المسلم، واحتمل الصحة فی¨ مسألة شراء الکافر المسلم فی نهایته حیث یقول: «لا یشترط إسلام العاقد، فیصح بیع الکافر وشراؤه، لأنّه عقد صادف ملکا فاقتضی أثره، إلاّ أن یشتری مسلما أو مصحفا،

ص:405


1- 4 . تذکرة الفقهاء 10/19.
2- 5 . شرائع الإسلام، 2/10.
3- 6 . المبسوط 2/167.
4- 7 . سورة النساء /141.
5- 1 . المبسوط 2/168.
6- 2 . جواهر الفقه /60، مسألة 222.
7- 3 . مختلف الشیعة 5/58 و 59.

فیشترط اسلام المشتری، لأنّ الرقّ ذلّ فلا یجوز اثباته للکافر علی المسلم، کما لا ینکح الکافر المسملة، ولقوله تعالی: «وَلَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(1) والتملک أعظم السبیل.

فعلی هذا لو عقد کان باطلاً ولم یثمر الملک. ویحتمل الصحة، لأنّه طریق من طرق التملک، فیملک به الکافر رقبة المسلم کالإرث. وکذا البحث فیما لو وهب منه عبد مسلم فقبل، أو أوصی له به»(2).

أقول: فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة اعتبار الإجماع علی البطلان الوارد فی الغنیة(3)، نعم، البطلان هو المشهور بین أصحابنا _ قدس اللّه أسرارهم _ کما أسنده الفاضل المقداد فی کنز العرفان(4) إلی الفقهاء، والأردبیلی فی زبدة البیان(5) إلی أصحابنا، وصاحب الجواهر إلی «المشهور بین الأصحاب نقلاً وتحصیلاً»(6).

وممّا ذکرنا یَظْهَرُ وجه التأمل فی کلام الجدّ الفقیه الشیخ جعفر حیث یقول: «والحجة فی أصل الحکم الإجماع المحصّل من تتبّع الأقوال _ ولا یُخلّ به نسبة الخلاف

إلی مَن لا یُعرف(7)، ولا ذکر الاحتمال من بعضهم(8) _ ثمّ الإجماع المنقول(9) المؤیّد

ص:406


1- 4 . سورة النساء /141.
2- 5 . نهایة الإحکام 2/456.
3- 6 . غنیة النزوع /210.
4- 7 . کنز العرفان 2/44.
5- 8 . زبدة البیان /439.
6- 9 . الجواهر 23/536 (22/334).
7- 1 . فقد قال الشیخ الطوسی فی المبسوط 2/167: «وفیه خلاف». وقال المحقّق الحلّی فی شرائع الإسلام 2/16: «وقیل: یجوز ولو کان کافرا ویُجبر علی بیعه من مسلم». ومثله ذکر العلاّمة فی مختلف الشیعة 5/59.
8- 2 . وهو العلاّمة فی نهایة الإحکام 2/456
9- 3 . فی المبسوط 2/27؛ غنیة النزوع، قسم الفروع /210.

بالشهرة المستفیضة محصّلة ومنقولة(1)»(2).

وأختتم بحث نقل الأقوال بمقالة الفقیه المتتبع السیّد العاملی حیث یقول: «اشتراط إسلام المشتری إذا اشتری مسلما وبطلان شراء الکافر له خیرة «الخلاف(3) والمبسوط(4) والغنیة(5) والشرائع(6) والتذکرة(7) ونهایة الإحکام(8) والمختلف(9) والتحریر(10) والإرشاد(11) وشرحه» لولده(12) و «الدروس(13) والمیسیة والروضة(14) والمسالک(15) والکفایة(16) والمفاتیح(17)» وهو ظاهر «مجمع البرهان(18)» أو صریحه وظاهر

ص:407


1- 4 . فی مجمع الفائدة والبرهان 8/161.
2- 5 . شرح القواعد 2/46.
3- 6 . الخلاف: فی البیع 3/188، مسألة 315.
4- 7 . المبسوط: فی البیوع 2/167.
5- 8 . غنیة النزوع: فی البیع /210.
6- 9 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/10.
7- 10 . تذکرة الفقهاء: فی المتعاقدین 10/19.
8- 11 . نهایة الإحکمام، فی العاقد 2/456.
9- 12 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/58.
10- 13 . تحریر الأحکام: فی المتعاقدین 2/278.
11- 14 . إرشاد الأذهان: فی أرکان التجارة 1/360.
12- 15 . شرح الإرشاد للنیلی: فی البیع /45، س18 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
13- 16 . الدروس الشرعیة: فی البیع 3/199.
14- 17 . الروضة البهیة: فی المتعاقدین 3/243.
15- 18 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/166.
16- 19 . کفایة الأحکام: فی عقد البیع وشروطه /89، س37.
17- 20 . مفاتیح الشرائع: فی البیع 3/49.
18- 21 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/161.

«الإیضاح(1) وجامع المقاصد(2) وحواشی الشهید(3)» وغیرها(4). وفی «الغنیة» الإجماع

علیه(5). وفی «التذکرة» أنّه مذهب الأکثر(6). وفی «مجمع البرهان» أنّه المشهور(7). وفی «المبسوط» أنّ فیه خلافا(8). وفی «المختلف» قیل: إنّه یجوز ویجبر علی بیعه من مسلم(9). ونحوه ما فی «الشرائع(10) والتذکرة». وفی الأخیر نسبته إلی أبیحنیفة(11). واحتمله فی «نهایة الإحکام» قال: کما لو ورثه. ومثله لو وهب له فقبل أو أوصی له به(12)»(13).

أدلة المشهور علی البطلان

أ: آیة نفی السبیل

وهی قوله تعالی: «لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُوءْمِنِینَ سَبِیلاً»(14).

وفی الجواهر: «الذی هو معظم عمدة دلیل الأصحاب علی ذلک (أی البطلان)»(15).

ص:408


1- 22 . إیضاح الفوائد: فی المتعاقدین 1/413.
2- 23 . جامع المقاصد: فی المتعاقدین 4/62.
3- 24 . الحاشیة النجّاریة /220.
4- 25 . کالحدائق الناضرة: فی المتعاقدین 18/422 و 426.
5- 1 . غنیة النزوع، فی البیع /210.
6- 2 . تذکرة الفقهاء: فی المتعاقدین 10/19.
7- 3 . مجمع الفائدة والبرهان: فی المتعاقدین 8/161.
8- 4 . المبسوط: فی البیوع 2/167.
9- 5 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
10- 6 . شرائع الإسلام: فی عقد البیع وشروطه 2/16.
11- 7 . تذکرة الفقهاء: فی شرائط المتعاقدین 10/19.
12- 8 . نهایة الإحکام: فی شرائط العاقد 2/456.
13- 9 . مفتاح الکرامة 12/(562-560).
14- 10 . سورة النساء /141.
15- 11 . الجواهر 23/537 (22/335).

بتقریب: تملّک الکافر للمسلم استرقاق له والاسترقاق سبیل للکافر علی المؤمن وهو منفیٌّ بالآیة الشریفة.

واعترض علیه الشیخ الأعظم قدس سره بما نصه: «وأمّا الآیة: فباب الخدشة فیها واسع:

تارةً: من جهة دلالتها فی نفسها ولو بقرینة سیاقها الآبی عن التخصیص، فلابدّ من حملها علی معنی لا یتحقّق فیه تخصیص، أو بقرینة ما قبلها(1) الدالّة علی إرادة أنّ نفی

الجعل فی الآخرة.

واُخری(2): من حیث تفسیرها فی بعض الأخبار بنفی الحجّة للکفّار علی المومنین، وهو ما روی فی العیون، عن أبیالحسن علیه السلام ، ردّا علی من زعم أنّ المراد بها نفی تقدیر اللّه سبحانه بمقتضی الأسباب العادیّة(3) تسلّط الکفّار علی المؤمنین، حتّی أنکروا _ لهذا المعنی الفاسد الذی لا یتوهّمه ذو مسکة _ أنّ الحسین بن علی علیه السلام لم یقتل، بل شبّه لهم ورُفع کعیسی _ علی نبیّنا وآله وعلیه السلام _ .

وتعمیم الحجّة(4) علی معنی یشمل الملکیة، وتعمیم السبیل علی وجه یشمل الاحتجاج والاستیلاء(5)، لا یخلو عن تکلّف.

وثالثةً: من حیث تعارض عموم الآیة مع عموم ما دلّ علی صحّة البیع(6)، ووجوب الوفاء بالعقود(7)، وحِلّ أکل المال بالتجارة(8)، وتسلّط النّاس علی أموالهم(9)، وحکومة

ص:409


1- 12 . وهو قوله تعالی: «یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ»، سورة النساء /141.
2- 1 . کما فی الحدائق 18/424 و 425.
3- 2 . عیون أخبار الرضا علیه السلام 2/203، الباب 46، ح5، خبر أبیالصلت الهروی؛ ونقل عنه فی بحارالأنوار 44/271، ح4.
4- 3 . کما فی العناوین 2/358 للفاضل المراغی، وذکر التعمیمین.
5- 4 . کما فی الجواهر 13/539 (22/336).
6- 5 . مثل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»، سورة البقرة /275.
7- 6 . سورة المائدة /1.
8- 7 . سورة النساء /29.
9- 8 . راجع عوالی اللآلی 1/222، ح99.

الآیة علیها غیر معلومة.

وإیاءُ سیاق الآیة عن التخصیص مع وجوب الالتزام به فی طرف الاستدامة، وفی کثیر من الفروع فی الابتداء(1)، یقرّب تفسیر السبیل بما لا یشمل الملکیة، بأن یراد من السبیل السلطنة، فیحکم بتحقّق الملک وعدم تحقّق السلطنة، بل یکون محجورا علیه مجبورا علی بیعه.

وهذا وإن اقتضی التقیید فی إطلاق ما دلّ علی استقلال النّاس فی أموالهم وعدم حجرهم بها، لکنّه مع ملاحظة وقوع مثله کثیرا فی موارد الحجر علی المالک أهون من

ارتکاب التخصیص فی الآیة المسوقة لبیان أنّ الجعل شیءٌ لم یکن ولن یکون، وأنّ نفی الجعل ناشٍ عن احترام المؤمن الذی لا یقیّد بحال دون حال»(2).

تنبیه: قاعدة نفی السبیل

من الأُمور التی تُسْتَفادُ من الآیة الشریفة قاعدة تُسَمّی عند الفقهاء بقاعدة نفی السبیل والمراد بها نفی السبیل للکافر علی المسلم ولها فروع کثیرة وتعدّ من مبطلات العقود وإن لم تنحصر فیها _ أی فی المبطلات _ ومن جملة فروعها: «عدم ثبوت الولایة للکافر، حیث ترجع الولایة علی مسلم والتحکّم علیه، فلا عبرة بإذنه فی أحکام الأموات، لأنّه لا ولایة له، ولا أولویّة له فی المیراث.

وعدم ثبوت حقّ له فی ذمّه المسلم من جانب اللّه تعالی _ من زکاة أو خمس أو کفارة أو نحو ذلک من الحقوق _ ما لم یصدر سبب الضمان من نفس المکلّف من استدانة أو وصیّة أو وقف أو نحو ذلک؛ وهذا سرّ اشتراط الإسلام فی المستحقین.

وعدم اشتراط صحّة نذر الولد ونحوه من العهد والیمین علی إذن الوالد الکافر فی وجه؛ وکذا کلّ من یشترط إذنه فی عبادةٍ _ کالزوج ونحوه _ وفی المالیّات مسألة اُخری.

ص:410


1- 9 . قال المامقانی قدس سره : «الظاهر أنّه أشار بذلک إلی الملک القهری کالإرث، ومن غیر القهری مثل بیعه علی من ینعتق علیه، ومثل ما لو قال الکافر للمسلم: اعتق عبدک عنّی، ومثل ما لو اشترط عند بیعه علی الکافر عتقه». غایة الآمال /423 (6/355).
2- 1 . المکاسب 3/(586-584).

وعدم لزوم إطاعة الکافر فی مقامات لو کان مسلما لوجب.

وعدم نفوذ قضاء الکافر وإن جمع سائر الشرائط.

وعدم جواز تولّیه للوقف الْمُتُعَلِّق بالمسلمین.

وعدم جواز تملّکه للمسلم بشراءٍ أو صلح وهبة وإصداق، أو نحو ذلک من دفع عوض دین أو ضمان. وبعبارة اُخری: کلّ سبب اختیاریّ ناقل للملک إلی الکافر، فإنّه غیر صحیح. کما أنّه لو ملک بسببٍ قهری _ کالإرث لو قلنا به _ أو کان المملوک کافرا عند کافر فأسلم المملوک یُباع علی مالکه قهرا ولا یقرّ یده علیه.

وعدم جواز إعارة المسلمِ للکافر ورهنه عنده ولا إیداعه له فی وجهٍ مبنیّ علی أنّ الاستنابة فی الحفظ سبیل.

وعدم جواز حوالة الکافر علی المسلم فی وجه وإن ضعف.

وعدم ولایته علی صغیر أو مجنون أو سفیه فی نکاح أو مال.

وعدم جواز استئجاره للمسلم فی عینه وإن جاز فی ذمّته.

وعدم جواز إجارة العبد المسلم له.

وعدم جواز وکالته علی مسلم لکافر أو مسلم.

وعدم جواز وکالته فی بیع عبد مسلم مرهون أو غیره.

وعدم ثبوت شفعة له إذا کان المشتری مسلما وإن کان البائع کافرا.

وعدم جواز وصایته علی مال مسلم أو مولّی علیه محکوم بإسلامه ولو بالاشتراک.

وعدم جواز نکاحه للمسلمة ابتداءا وکذا استدامةً، فإنّ بإسلامها یبطل النکاح لو لم یسلم الزوج فی العدّه.

وعدم العبرة بالتقاطه إذا کان اللقیط محکوما بإسلامه بأحد الطرق المذکورة فی محلّها.

وفی عدّ عدم استحقاقه الإرث مع الوارث المسلم وعدم جواز القصاص من المسلم بالکافر من هذا الباب إشکال.

ص:411

وغیر ذلک من المواضع الّتی لم نذکرها یتنبّه علیها المتدرّب فی الفنّ بمعونة ما ذکرناه»(1).

أدلة قاعدة نفی السبیل

یمکن استفادة حکم هذه القاعدة من الأُمور التالیة:

«أحدها: الإجماع المحصّل القطعی الحاصل من تتبّع کلمة الأصحاب فی المقامات الّتی ذکرناها فی الباب، فانّهم متسالمون علی عدم وجود السبیل للکافر علی المسلم ویرسلونه إرسال المسلّمات من دون نکیر، وهذا کاشف عن رضا الشرع بذلک وحکمه به.

وثانیها: الإجماعات المنقولة حدّ الاستفاضة، بل التواتر من الأصحاب _ کما لا یخفی علی المتتبّع _ المؤیّدة بالشهرة العظیمة البالغة حدّ الضرورة.

وثالثها: الاعتبار العقلی، فإنّ شرف الإسلام قاضٍ بأن لا یکون صاحبه مقهورا تحت ید الکافر ما لم ینشأ السبب من نفسه، فإنّه حینئذٍ أسقط احترام نفسه. وهذا وإن لم یکن فی حدّ ذاته دلیلاً، لکنّه مؤیّد قویّ مستند إلی فحوی ما ورد فی الشرع.

ورابعها: ما دلّ من الأدلّة الخاصّة فی بعض الموارد، کباب النکاح، فإنّ النصوص قضت بعدم جواز تزویج المؤمنة للکافر.

وغیر ذلک ممّا دلّ علی اشتراط الإسلام فی الولیّ علی المسلم، فإنّ المستفاد منها: أنّ العلّة فی ذلک کلّه عدم رضا الشارع بتسلّط الکافر علی المسلم فیتسرّی إلی سائر المقامات بتنقیح المناط، أو بالعلّة المنصوصة المستفادة من کلام الشرع وإن کان من حیثیّة تعلیق الحکم علی الوصف. وأظنّ ورود التعلیل صریحا فی روایات النکاح، فینبغی الرجوع إلیها.

وخامسها: الخبر المشهور فی ألسنة الفقهاء المتلقّی بالقبول بحیث یغنی عن ملاحظة سنده، وهو قوله صلی الله علیه و آله : «الإسلام یعلو ولا یُعْلی علیه» فإنّه من الکلمات الجاریة

ص:412


1- 1 . العناوین 2/350 و 351.

مجری القاعدة، ک_ «لا ضرر ولا ضرار» ونحوه، فلا وجه للبحث فی سنده، وإنّما الکلام فی الدلالة.

فإن قلنا: إنّ دلالته علی نفی السبیل ممّا یکشف عنها فهم الفقهاء _ لأنّهم یستدلّون به فی هذه المقامات من دون نکیر، وهو من أعظم القرائن علی معرفة المراد _ فلا بحث، إذ مقتضاه کون المراد من الخبر: عدم تسلّط الکافر علی المسلم»(1).

ب: قیاس الابتداء علی الاستدامة

بتقریب: انّ الکافر یُمنع من استدامة ملکه علی العبد المسلم، لأنّه لو ملکه قهرا بإرث أو أسلم فی ملکه بِیْعَ علیه، فیُمنع من ابتدائه کالنکاح.

بعبارة أُخری: المستفاد من منع الشارع عن استدامة ملکیة الکافر علی العبد المسلم، «عدم رضاه بأصل وجوده حدوثا وبقاءً، من غیر مدخلیّة لخصوص البقاء، کما لو أمر المولی بإخراج أحد من الدار أو بإزالة النجاسة عن المسجد؛ فإنّه یفهم من ذلک عدم جواز الإدخال»(2).

واعترض علیه الشیخ الأعظم بما نصه: «إنّ هذا إنّما یقتضی کون عدم الرضا بالحدوث علی نهج عدم الرضا بالبقاء، ومن المعلوم: أنّ عدم رضاه بالبقاء مجرّد تکلیفٍ بعدم إبقائه وبإخراجه عن ملکه، ولیس معناه: عدم إمضاء الشارع بقاءه، حتّی یکون العبد المسلم خارجا بنفسه شرعا عن ملک الکافر، فیکون عدم رضاه بالإدخال علی هذا

الوجه، فلا یدلّ علی عدم إمضائه لدخوله فی ملکه لیثبت بذلک الفساد.

والحاصل: إنَّ دلالة النهی عن الإدخال فی الملک، تابعة لدلالة النهی عن الإبقاء، فی الدلالة علی إمضاء الشارع لآثار المنهیّ عنه وعدمه، والمفروض انتفاء الدلالة فی المتبوع»(3)، وهو الإبقاء.

فحینئذ: یحرم بیع العبد المسلم من الکافر ولکن لا یبطل کحرمة المتبوع وهو

ص:413


1- 1 . العناوین 2/352.
2- 2 . المکاسب 3/583.
3- 1 . المکاسب 3/583.

الإبقاء وعدم زوال ملکه بمجرد إسلام العبد.

وإن کانَ للمناقشة فی الحرمة التکلیفی أیضا مَجالٌ واسعٌ کما لا یخفی علی أهله.

ج: التمسک بالنص

مرسلة حماد بن عیسی عن أبیعبداللّه علیه السلام أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام أُتی بعبد ذمّیّ قد أسلم، فقال: اذهبوا فبیعوه من المسلمین، وادفعوا ثمنه إلی صاحبه ولا تقروه عنده.(1)

بتقریب: فتوی المشهور علی طبقها یجبر ضعف سندها فی الإرسال وأمّا دلالتها تخصیص البیع بالمسلمین فی مقام البیان یدلّ علی فساد البیع من المشتری الکافر وإلاّ لم یکن وجه للتقیید بالمسلمین، وهذا التقیید یدلّ علی المنع من بیعه من الکافر لفساده وعدم ترتب الملکیة علیه.(2)

واعترض علیه الشیخ الأعظم بما نصه: «إنّ التخصیص بالمسلمین إنّما هو من جهة أنّ الداعی علی الأمر بالبیع هی إزالة ملک الکافر والنهی عن إبقائه عنده، وهی لا تحصل بنقله إلی کافر آخر، فلیس تخصیص المأمور به لاختصاص مورد الصحّة به، بل لأنّ الغرض من الأمر لا یحصل إلاّ به، فافهم»(3).

وأمره بالتفهم إشارة إلی: «أنّه لا وجه لإستفادة الإختصاص بالمسلمین إلاّ التشبث بمفهوم الوصف حتّی یدلّ علی عدم صحة بیعه بغیر المسلمین، وَیَصِّحُ الاِسْتِدْلالُ به علی اعتبار الإسلام فی مَن ینتقل إلیه العبدُ المسلم.

أو إشارة إلی: أنّ الأمر بإزالة الملک مستلزم لبطلان البیع، بصیرورته سفهیّا. فالنهی وإن کان تکلیفیا، لکنّه یوجب الفساد.

إلاّ أن یقال: إنّ المراد بالسفاهة ما یکون سفاهةً عرفا مع الغض عن حکم الشارع، لأنّ السفاهة من الألفاظ التی یرجع فیها إلی العرف، فلابدّ أن تکون المعاملة سفهیةً مع

ص:414


1- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، الباب 28 من أبواب عقد البیع وشروطه.
2- 3 . کما فی هدی الطالب 6/296.
3- 4 . المکاسب 3/583 و 584.

الغض عن حکم الشارع بوجوب الإزالة»(1).

د: النبویٌّ المُرْسَلُ

عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: الإسلام یَعْلُو ولا یُعلی علیه.(2)

بتقریب: ینجبر إرساله بعمل المشهور علی طبقه واستدلال الفقهاء فی موارد متعددة به:

منها: لو دبّر الکافر عبده فأسلم العبد فإنّه یباع علیه العبد سواء رجع السیّد عن تدبیره أم لا.

واستدلّ الشیخ علیه بعد الإجماع والأخبار وقال: «وأیضا قوله علیه السلام : الإسلام یعلو ولا یعلی علیه. ولو لم یبع علیه وکان لمولاه علیه طاعة، لکان قد علاه وهو کافر، وذلک ینافی الخبر»(3).

ووافقه العلاّمة(4) والشهیدان(5).

ومنها: عدم إرث الکافر من المسلم.

واستدلّ الشیخ(6) فی هذا الفرع بالنبوی وتبعه الشهید الثانی(7).

ومنها: عدم ولایة الکافر علی المسلمة فی النکاح سواءً کان أبا أو جدّا.(8)

ومنها: عدم جواز علوّ بناء الکافر علی بناء المسلم، بل عدم جواز مساواته.(9)

ص:415


1- 1 . هدی الطالب 6/297.
2- 2 . وسائل الشیعة 26/14، ح11، الباب 11 من أبواب موانع الإرث، و 26/125، ح2، الباب 15 من أبواب میراث الأبوین والاُولاد.
3- 3 . الخلاف 6/418.
4- 4 . مختلف الشیعة 8/91.
5- 5 . الدروس 2/230؛ المسالک 10/386.
6- 6 . الخلاف 6/418.
7- 7 . المسالک 13/20.
8- 8 . راجع: جامع المقاصد 12/107؛ والمسالک 7/167؛ والجواهر 30/371 (29/206).
9- 9 . راجع: المبسوط 2/46؛ وتذکرة الفقهاء 9/344؛ ومختلف الشیعة 4/444؛ وجامع المقاصد 3/463؛ والجواهر 22/492 (21/284).

«ومن المعلوم أنّ ما نحن فیه اُولی بالاستدلال علیه به»(1) من هذه الفروع التی

مرّت.

وقد بسط الکلام الفاضل المراغی حول النبوی ووجوه الاستدلال به فی عناوینه(2) فراجعها إن شئت.

ولکن یرد علیه: صدق العلو علی الملکیّة الوحیدة، والمحجورة عَن التصرف والخالیة عن السلطنة والسلطة، والفاقدة للولایة والأمر والنهی محلُّ تأمّلٍ ومناقشةٍ ومنعٍ واضحٍ.

وقال المحقّق الإصفهانی رحمه الله فی توضیح الاستدلال بالنبوی ونقده ما نصه: «إنّ نفس المالکیة مولویة وسیادة، وهو علو حقیقة، ولیس العلو کالسبیل فإنّه بنفسه یتعدی ب_ «علی»، وحینئذٍ إنْ کانت القضیة مسوقة لنفی کل ما کان مصداقا للعلو من المجعولات الشرعیة _ کالملکیة والزوجیة والسلطنة _ فالخبر متکفّل لعدم حصول الملک بالبیع من الکافر، لکنه یجب تخصیصه بموارد ثبوت الملکیة بالارث وبعدم الزوال بعد اسلام المملوک ونحوهما، ولا یعم ما نقل فی المتن من عدم جواز اعلاء الکافر بنائه علی دار المسلم، لأنّ الاعلاء الخارجی لیس من مصادیق العلو القابل للنفی شرعا، وجوازه وإنْ کان قابلاً للنفی إلاّ أنّه لیس مصداقا للعلو، والسلطنة علی اعلاء بنائه سلطنة علی فعله لا سلطنة علی المسلم لیکون مصداقا للعلو، علی المسلم.

وإنْ کانت القضیة مسوقة للحکم بعدم العلو علی المسلم فیساوق الحکم بعدم التملک شرعا، وبازالته مع ثبوته؛ وبعدم جواز التصرف المساوق لنفی السلطنة علیه، وإذا عممناه لکل علو تکوینی أو تشریعی فیعم عدم جواز اعلاء بنائه، فلا یرد علیه ما کان یرد علی الأوّل من الشقین، وعلیه فلا یکون دلیلاً علی عدم نفوذ البیع، لا من حیث تعلق النهی بعنوان الاعلاء لا بعنوان المعاملة، بل من حیث إنّ الحرمة المولایة لا تقتضی فساد

ص:416


1- 10 . المکاسب 3/582.
2- 1 . العناوین 2/(356-353).

المعاملة، وإنْ تعلّق النهی بعنوانها، ولا یخفی أنّ الفقرة الاولی وهو قوله علیه السلام (الإسلام یعلو) قابلة للمعنیین، فعلی الأوّل یراد منها ثبوت ما هو مصداق للعلو من المجعولات الشرعیة للمسلم بأسبابه ولیس للکافر ذلک، وعلی الثانی یراد منها جواز علو المسلم علی الکافر، سواء کان بتملکه أو ببناء داره أعلی من داره»(1).

وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ل: الإجماع

المُدَّعی فی غنیة النزوع(2) لابن زهرة.

وقد عرفت الخلاف فی المسألة فی أوّل البحث: «نقل الأقوال»(3) فلا نعیده.

ولذا قال الشیخ الأعظم: «لکن الإنصاف: أنّه لو اغمض النظر عن دعوی الإجماع... لم یکن ما ذکروه من الأدلّة خالیا عن الإشکال فی الدلالة»(4).

ه : هذه المعاملة سفهیة

لا شبهة فی لزوم ازالة ملک الکافر، والإقدام علی التمّلک الذی یجب إزالته وعدم السلطنة بوجه علی التصرف، تعدّ معاملة سفهیة، فتفسد المعاملة بجهة سفهیتها.

ویرد علیه: أنَّ الدواعی العقلائیة غیر منحصرة فی بقاء العین علی ملکه أو فی التصرف فیه، بل یمکن فرض الاشتراء بأقل من ثمن المثل ویُباع علیه بثمن المثل ونحو ذلک من الدواعی العقلائیة فتخرج المعاملة السفهیة.

و: الشراء هنا غرریة

الشراء وإن کان نافذا من حیث نفسه إلاّ أنّه بملاحظة عدم تمکینه من تسلّم المال وأخذه یُفسد، لأنّه غیر مقدور التسلیم إلی الکافر.

ویرد علیه: نعم، عدم القدرة علی أخذ المال یوجب غرریة الشراء، ولکن الغرر

ص:417


1- 2 . حاشیة المکاسب 2/445 و 446.
2- 1 . الغنیة /210.
3- 2 . راجع هذا المجلد صفحة 402.
4- 3 . المکاسب 3/582.

هنا منتف للعلم بأنّ العبد المسلم یُباع علی الکافر ویدفع إلیه ثمنه، وحیث أنّ الثمن یدفع إلی الکافر، فبهذا المقدار من القدرة علی أخذ المال وتسلّمه تُدفع الغرریة، مضافا إلی إمکان تسلیمه لوکیله المسلم حتّی باع علیه ویدفع إلیه ثمنه.

ی: لزوم إعزاز المسلم وتعظیمه

استدلّ فی العناوین(1) والجواهر(2) بلزوم إعزاز المسلم ووجوب تعظیمه وحرمة اهانته علی بطلان البیع.

ویرد علیه: أنّها لا تقتضی إلاّ حرمة البیع، ومن المعلوم أنَّ حرمته لا تلازم فساده وبطلانه.(3)

أدلة الصحة

اشارة

تدلّ علی الصحة العمومات والإطلاقات الواردة فی صحة البیوع والتجارات والعقود نحو قوله تعالی: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ»(4) قوله تعالی: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(5) وقوله تعالی: «إلاَّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»(6) وقوله صلی الله علیه و آله : النّاس مسلطون علی أموالهم(7).

شراءُ الکافرِ العبدَ المسلمَ بیعٌ وعقدٌ وتجارةٌ، والکافرُ مسلّطٌ علی ماله فی شرائه فیحکم بصحة الشراء.

وذکر الشیخ الأعظم فی أدلة الصِّحَّةِ استصحابها فقال: «مضافا إلی استصحاب الصحّة فی بعض المقامات یقتضی الصحّة، کما إذا کان الکافر مسبوقا بالإسلام _ بناءً علی

ص:418


1- 4 . العناوین 2/356.
2- 5 . الجواهر 23/537 (22/334).
3- 1 . الأدلة الثلاثة الأخیرة ونقودها مذکورة فی حاشیة المکاسب 2/446 و 447 للمحقّق الاصفهانی قدس سره .
4- 2 . سورة البقرة /275.
5- 3 . سورة المائدة /1.
6- 4 . سورة النساء /29.
7- 5 . عوالی اللآلی 1/457، ح198، ونقل عنه فی بحارالأنوار 2/272، ح7 (1/358).

شمول الحکم لمن کفر عن الإسلام _ أو کان العبد مسبوقا بالکفر، فیثبت فی غیره بعدم الفصل، ولا یعارضه أصالة الفساد فی غیر هذه الموارد؛ لأنّ استصحاب الصحّة مقدّم علیها، فتأمّل»(1).

وأمره بالتأمل لعلّه إشارة إلی منع حکومة استصحاب أصالة الصحة علی أصالة الفساد _ لئلا تلزم لغویة جعل أصالة الصحة أو لأنّ أصالة الصحة أصل موضوعیُّ وأصالة الفساد أصل حکمی، والأصل الموضوعی مقدّم علی الأصل الحکمی _ .

وجه منع الحکومة: عدم تسبُّب أحد الشکین عن الآخر.

أو لعلّه اشارة إلی عدم جریان استصحاب الصحة ووجهه تبدلّ الموضوع بین الکفر والإسلام. فإذا زال الإسلام فلا وجه لاستصحاب الصحة لتبدّل الموضوع من المسلم إلی الکافر.

ولکن الظاهر تمامیة حکومة اصالة الصحة علی أصالة الفساد بما مرّ.

والحاصل: یمکن القول بصحة شراء الکافر العبد المسلم لعدم تمامیة أدلة البطلان وجریان أدلة الصحة فی حقّه واللّه سبحانه هو العالم.

وقال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق بین البیع وأنواع التملیکات کالهبة والوصیّة»(2). والصلح والهدیة والإصداق والإقرار ونحوها. فإذا جاز الشراء فقد جاز جمیعها واللّه العالم.

ثمّ هاهنا فروع لابدّ من البحث حولها

اشارة

ثمّ بعد بناء المشهور علی حُرْمَةِ انتقال العبد الْمُسْلِمِ إلی الکافر، هاهنا فروع لابدّ من البحث حولها:

1_ تملیک منافع المسلم لِلْکافِر

هل یجوز تملیک منافع المسلم حرّا کان أم عبدا إلی الکافر بأنْ یؤجر الحرّ المسلم نفسَه من الکافر أو یؤجِّر المولی عبدَه المسلم من الکافر أم لا؟

ص:419


1- 6 . المکاسب 3/586.
2- 1 . المکاسب 3/586.

قال السیّد العاملی قدس سره : «مقتضی العبارة [فی متاجر القواعد(1)] فی الاستئجار المنع مطلقا سواء کانت فی الذمّة أو علی عین کما هو خیرة «الإیضاح(2) والدروس(3)» وهو قضیة إطلاق عبارة إجارة الکتاب(4) و «جامع المقاصد(5)». وفی «حواشی الکتاب» للشهید(6) و «جامع المقاصد(7) والمسالک(8) والروضة(9)» أنّها إن کانت علی عمل فی الذمّة یجوز لانتفاء السبیل، وإن کانت علی العین لم یجز، وقد اتفق کلامه فی «التذکرة(10) والتحریر(11) ونهایة الإحکام(12)» فیما إذا کانت علی عمل فی الذمّة فجوّزه فیها، واستشکل فی «التحریر» فیما إذا کانت علی عین، وظاهره فی «التذکرة» الجواز فی ذلک،

وقرّبه فی «نهایة الإحکام» ثمّ احتمل البطلان، وقال فیها(13) وفی «التذکرة(14)»: وعلی

ص:420


1- 2 . قواعد الأحکام: فی المتاجر 2/17.
2- 3 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/413.
3- 4 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
4- 5 . قواعد الأحکام: فی الإجارة 2/286.
5- 6 . جامع المقاصد: فی الإجارة 7/122.
6- 7 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
7- 8 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
8- 9 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
9- 10 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/245.
10- 11 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
11- 12 . تحریر الأحکام، فی عقد البیع 2/279.
12- 13 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
13- 1 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/458.
14- 2 . ظاهر العبارة أنّ الوجهین ممّا احتملهما العلاّمة نفسه فی التذکرة، ولکنّ الّذی فیها هو نسبتهما إلی الشافعی، قال رحمه الله : فإن قلنا بالصحّة فهل یؤمر بأن یؤجر من مسلم؟ للشافعی وجهان، انتهی. راجع التذکرة: 10/21.

احتمال الصحّة فهل یؤمر بإجارته من مسلم؟ قال فی «التذکرة» فیه(1) وجهان، وقرّب العدم فی «نهایة الإحکام».

وفی «الخلاف(2)» نفی الخلاف _ وظاهره بین المسلمین _ عن صحّة استئجار الکافر للمسلم علی عملٍ موصوف فی الذمّة، وظاهره الإجماع منّا علی ما إذا کان علی عین، قال: إذا استأجر کافر مسلما لعمل فی الذمّة صحّ بلا خلاف، وإذا استأجره مدّة من الزمان شهرا أو سنةً لیعمل عملاً صحّ أیضا عندنا.

ویؤیّده ما ورد فی الأخبار(3) من أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام کان یؤجر نفسه الشریفة من الیهود لیسقی لهم النخل کلّ دلو بتمرة، وکفاک ما ورد من الأخبار(4) فی قصّة نزول سورة هل أتی الدالّة علی غزل فاطمة علیهاالسلام الصوف للیهود بأصواع من الشعیر، وحمله ذلک علی ما إذا کانت فی الذمّة کما فی «جامع المقاصد(5)» فی الخبر الأوّل بعید جدّا إلاّ أن یحمل ذلک علی المعاطاة، لأنّه لا لزوم.

وظاهر العبارات أنّه لا فرق فی المسلم بین الحرّ والعبد لمکان الإطلاق کما هو صریح «التذکرة(6) ونهایة الإحکام(7)» فیما إذا کانت علی عین. وفی «الدروس(8)» بعد أن منع إجارة العبد المسلم للکافر مطلقا قال: وجوّزها الفاضل، والظاهر أنّه أراد إجارة الحرّ المسلم، ویلوح منه الفرق بین إجارة الحرّ والعبد، فلیتأمّل»(9).

ص:421


1- 3 . کذا فی المطبوعة من المفتاح ولکن فی تذکرة الفقهاء 10/21: «للشافعی وجهان».
2- 4 . الخلاف: فی البیع 3/190، مسألة 319.
3- 5 . بحارالأنوار: 38/306، ح6، و 41/39، ح17.
4- 6 . أمالی الصدوق: المجلس الرابع والأربعون، ح13، /329، رقم 390.
5- 7 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
6- 8 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
7- 9 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
8- 10 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
9- 11 . مفتاح الکرامة 12/572 و 573.

أقول: یظهر من المتتبع الفقیه العاملی أنّ الأقوال فی المسألة أربعة:

أ: الجواز مطلقا کما مرّ من الخلاف والتذکرة، وهو مقرّب نهایة الإحکام.

ب: الجواز مع وقوع الإجارة علی الذّمة دون العین کما مرّ من الشهیدین والمحقّق الثانی فی متاجر جامع المقاصد.

ج: الجواز إذا کان الأجیر حرّا دون العبد کما یلوح من الشهید فی الدروس.

د: المنع مطلقا کما مرّ من القواعد والإیضاح والدروس وإجارة جامع المقاصد.

أظهرها عند الشیخ الأعظم الثانی (ب) وقال ما نصه: «أظهرها الثانی، فإنّه کالدین لیس ذلک سبیلاً، فیجوز.

ولا فرق بین الحرّ والعبد، کما هو ظاهر إطلاق کثیر: کالتذکرة وحواشی الشهید وجامع المقاصد، بل ظاهر المحکیّ عن الخلاف: نفی الخلاف فیه، حیثث قال فیه: إذا استأجر کافر مسلما لعمل فی الذمّة صحّ بلا خلاف، وإذا استأجره مدّة من الزمان شهرا أو سنة لیعمل عملاً صحّ أیضا عندنا، انتهی.

وادّعی فی الإیضاح: أنّه لم ینقل من الأُمّة فرق بین الدین وبین الثابت فی الذمّة بالاستئجار.

خلافا للقواعد وظاهر الایضاح، فالمنع مطلقا؛ لکونه سبیلاً.

وظاهر الدروس: التفصیل بین العبد والحرّ، فیجوز فی الثانی دون الأوّل، حیث ذکر بعد أن منع إجارة العبد المسلم الکافر مطلقا، قال: «وجوّزها الفاضل، والظاهر أنّه أراد إجارة الحرّ المسلم»(1)، انتهی.

وفیه نظر؛ لأنّ ظاهر الفاضل فی التذکرة: جواز إجارة العبد المسلم مطلقا ولو کانت علی العین.

نعم، یمکن توجیه الفرق بأنّ ید المستأجر علی الملک الذی مَلَکَ منفعته، بخلاف الحرّ؛ فإنّه لا یثبت للمستأجر ید علیه ولا علی منفعته، خصوصا لو قلنا بأنّ إِجارة الحرّ

ص:422


1- 1 . الدروس 3/199.

تملیک الانتفاع لا المنفعة، فتأمّل»(1).

أقول: ولکن أظهرها عندی الأوّل (أ) وهو الجواز مطلقا لعدم تمامیة التفصیل بین العبد والحرّ، والعین والذمّة، وقد مرّت صحة بیع العبد المسلم من الکافر فلا بأس بإجارته وإجارة الحرّ له لعدم صدق السبیل واللّه العالم.

2_ رهن العبد المسلم عند الکافر

هل یجوز جعل العبد المسلم عند الکافر وثیقة للدین أم لا؟

قال الفقیه المتتبع السیّد العاملی: «وأمّا الارتهان فظاهر العبارة [فی متاجر القواعد] أیضا المنع مطلقا کما هو خیرة «الإیضاح(2) والتذکرة(3)» فی کتاب الرهن و «المختلف(4)» فیه، وظاهر «نهایة الإحکام(5)» الجواز مطلقا. وفی «التذکرة(6)» فیه وجهان للشافعی. وفی «الکتاب(7)» فی کتاب الرهن و «الدروس(8) والإیضاح(9)» فیه و «جامع المقاصد(10) والمسالک(11)» أنّه یجوز إذا لم یکن تحت ید الکافر کما إذا وضعاه عند مسلم، لأنّ استحقاق أخذ العین لا یعدّ سبیلاً. وهو خیرة «المبسوط(12)». وقال الشهید فی

ص:423


1- 2) المکاسب 3/587 و 588.
2- 1 . إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/413.
3- 2 . تذکرة الفقهاء: فی الرهن 13/146.
4- 3 . مختلف الشیعة: فی الرهن 5/422.
5- 4 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/458.
6- 5 . تذکرة الفقهاء: فی الرهن 13/146.
7- 6 . قواعد الأحکام: فی الرهن 2/110.
8- 7 . الدروس الشرعیة: فی الرهن 3/390.
9- 8 . إیضاح الفوائد: فی الرهن 2/11.
10- 9 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
11- 10 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
12- 11 . المبسوط: فی الرهن 2/232.

«حواشیه(1)»: المراد بالارتهان المصاحب للدوام والقبض، قلت: هو أحد وجهی الشافعی(2)، ولم یرجّح شیئا فی «التحریر(3)»»(4).

أقول: یظهر من کلامه قدس سره أنّ الأقوال فی الإرتهان أربعة:

أ: الجواز مطلقا وهو ظاهر العلاّمة فی نهایة الإحکام.

ب: التردد وهو ظاهر العلاّمة فی متاجر التذکرة ورهن التحریر.

ج: التفصیل بین صورة عدم وضع العبد تحت ید الکافر فیجوز _ کما إذا وضعاه عند مسلم _ ، وصورة وضعه تحت ید الکافر فلا یجوز. وهو مختار کتاب الرهن فی کتب:

المبسوط والقواعد والإیضاح والدروس ومتاجر جامع المقاصد والمسالک.

د: المنع مطلقا وهو مختار العلاّمة فی متاجر القواعد ورهن التذکرة وولده فی متاجر الإیضاح.

قال الشیخ الأعظم: «أقواها الثالث [ج، التفصیل] لأنّ استحقاق الکافر لکون المسلم فی یده سبیل، بخلاف استحقاقه لأخذ حقّه من ثمنه»(5).

أقول: المختار هو القول الأوّل أی الجواز مطلقا، لأنّ جعل العبد المسلم عند الکافر وهو ممنوع من التصرف فیه _ لأنّ المرتهن ممنوع من التصرف _ لا یُعدّ سبیلاً لعدم وجود سلطنته علی العبد المسلم حینئذ وصرف القبض ومصاحبته دائما لا یُعد سبیلاً.

فیظهر ممّا ذکرنا أنَّهُ لیس للراهن أن یصدر إجازة تصرف الکافر المرتهن فیه، لأنّها تعدّی إلی سلطنة الکافر علیه المنفیة بقاعدة نفی السبیل واللّه العالم.

3_ إعارة العبد المسلم إلی الکافر والإیداع عنده

هل یجوز أن یعیر المسلم عبده المسلم إلی الکافر بحیث یستفید الکافر فی معاشه

ص:424


1- 12 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
2- 13 . المجموع 9/359.
3- 14 . تحریر الأحکام، فی الرهن 2/473.
4- 15 . مفتاح الکرامة 12/574.
5- 1 . المکاسب 3/589.

وحیاته من العبد المسلم؟ وهل یجوز ایداع العبد المسلم عند الکافر أم لا؟

قال السیّد العاملی فی ذیل قول العلاّمة فی متاجر القواعد: «الأقرب جواز الإیداع له والإعارة عنده»(1): «وفی نهایة الإحکام(2) والتذکرة(3)» تجوز إعارته وإبداعه، إذ لیس ملک رقبة ولا منفعة ولا حقّ لازم، ونحو ذلک ما فی «الإیضاح(4)». وفی «حواشی الشهید(5)» الإعارة والإیداع أقوی منعا یعنی من الارتهان، فلیتأمّل. وفی عاریة «الکتاب [القواعد(6)]» تحرم إعارة العبد المسلم من الکافر. وفی «المسالک(7)» فی إیداعه له وجهان أجودهما الصحّة، وفی إعارته له قولان أجودهما المنع. وفی «جامع المقاصد» لو ان المسلم جاریةً أو صبیّا فالّذی ینبغی عدم جواز إیداعه إیّاه بالاستقلال إذ لا یؤمن

علیه»(8).

أقول: یظهر من کلامه قدس سره الأقوال فی المسألتین:

أ: الجواز فیهما وهو مختار العلاّمة فی متاجر القواعد والتذکرة ونهایة الإحکام.

ب: حرمة الإعارة، وهو اختیار العلاّمة فی عاریة القواعد.

ج: جواز الإیداع وحرمة الإعارة وهو الظاهر من ثانی المحقّقین والشهیدین فی جامع المقاصد والمسالک. وفی الأوّل ذهب إلی عدم جواز إیداع الجاریة والصبی إلی الکافر.

ص:425


1- 2 . القواعد 2/17.
2- 3 . نهایة الإحکام: فی شروط المتعاقدین 2/458.
3- 4 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/22.
4- 5 . صریح عبارة الإیضاح الحکم بعدم الجواز مطلقا قال فیه: والأقوی عندی عدم الجواز فی المسألتین، راجع إیضاح الفوائد: فی شروط المتعاقدین 1/414.
5- 6 . لم نعثر علیه فی حواشی الشهید الموجودة لدینا.
6- 7 . قواعد الأحکام: فی العاریة 2/193.
7- 8 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 1 . مفتاح الکرامة 12/577.

د: المنع فیهما وهو مختار الفخر فی الإیضاح والشهید فی حواشیه.

والشیخ الأعظم(1) استحسن الحرمة فی العاریة وتنظّر فیها فی الودیعة، لوجود السبیل والعلو فی الاعارة وعدمهما فی الودیعة. فهو مع القول الثالث [ج] ونحن مع القول الأوّل [أ] وهو الجواز فیهما لعدم صدق السبیل والعلو فیهما کما مرّ فی بحث تملیک منافع المسلم للکافر. واللّه العالم.

4_ وقف الکافر عبدَه المسلم علی أهل الکفر
اشارة

هل یجوز هذا الوقف أم لا؟

قال الشیخ الأعظم: «وممّا ذکرنا یظهر عدم صحة وقف الکافر عبده المسلم علی أهل ملّته»(2).

أقول: لأنّ هذا الوقف سبیل وعلو تنفیهما الشریعة المقدسة، وکذلک تظهر صحة وقفه علی أهل ملّة الإسلام. واللّه العالم.

المراد مِنْ الکافر

مَنْ هو المراد مِنَ الکافر فی ألسنتهم هنا؟

الکافر هنا یقابل المسلم فلابدّ من التعریف بالإسلام والمسلم حتّی یظهر مقابلهما الکفر والکافر.

ما هو الإسلام؟

الإسلام هو الإقرار بالشهادتین، الشهادة علی التوحید والشهادة علی الرسالة،

یدخل فیه جمیعُ الفِرَقِ مِنْ العامة والخاصة بطوائفهما ومختلف مذاهبهما.

فمن أقرّ بهما فهو مسلم یحقن به الدم والمال وتجری علیه المناکح والمواریث والطهارة وحلیة ذبیحته.

وممّا ذکرنا یَظْهَرُ دخول جمیع طوائف أهل الخلاف من العامة العمیاء وغیرهم من

ص:426


1- 2 . المکاسب 3/589.
2- 3 . المکاسب 3/590.

الْمُعْتَقِدِیْنَ بالمذاهب الفاسدة فیه ما دام لم ینکروا ضروریا من ضروریات الإسلام أو مع عدم الالتزام بلوازم الإنکار.

وفی مقابله الکفر وهو إنکار إحدی الشهادتین من التوحید والرسالة، علی سبیل منع الخلو، فمن أنکر وحدة اللّه تعالی أو أنکر نبوة خاتم الأنبیاء والمرسلین نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله فهو کافر، ولو کان کتابیّا من الیهود والنصاری والمجوس، وإن کان للکتابیین أحکام یختصون بها من سائر الکفار نحو، الجزیة وجواز نکاح نسائهم موقتا، ودائما _ علی قولٍ _ وطهارتهم _ علی قول _ .

یلحق بالکفار، الخوارج _ القدیم، والحدیث وهم التکفیریون والانتحاریون والإرهابیون والدواعش _ والنواصب والغلاة من المنتحلین لِلشَّرِیْعَةِ الإسلامیة، وکذا المرتدون عنها.

ویلحق بهم الصوفیة(1) بشرطین: 1_ انکار ضروری من ضروریات الدیانة الإسلامیة بشروطها. 2_ وتحلیل المحرّمات الضروریة من الشریعة المقدسة وهذان الشرطان لا یختصان بالصوفیة وکل من یفعلهما خرج من رقبة الإسلام.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ تمامیة مقالة الشیخ الأعظم مِنْ أنّ المراد بالکافر «کلّ مَنْ حکم بنجاسته...»(2). مبنیةٍ علی القول المشهور من نجاسة أهل الکتاب.

الفرق بین الإسلام والإیمان

الإیمان یطلق علی مَعْنَیَیْنِ:

1_ العقد القلبی علی الشهادتین اللتین یقرّ بهما علی لسانه والاعتقاد بهما والعمل علی طبقهما والالتزام العملی بلوازمهما ویدلّ علیه قوله تعالی: «قالَتِ الاْءَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوءْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الاْءِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَإِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ لا

یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئا إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ * إِنَّمَا الْمُوءْمِنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ

ص:427


1- 1 . کما یظهر من جدی العلاّمة التقی صاحب هدایة المسترشدین فی کتاب فتواه المطبوع المسمی ب_ «رساله صلاتیه» /150.
2- 2 . المکاسب 3/590.

ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُونَ»(1).

فالإیمان بعد الإسلام وفضل الإیمان علی الإسلام ظاهر ویلزم السبق إلی الإیمان وأنّه مبثوث علی الجوارح والأعضاء من البدن وله درجات ودعائم وأقسام وحقیقة والثواب علیه وتنقضه أُمور وتثبته أُمور أُخر، یدلّ علی کلُّها الروایات الواردة(2) حول الإیمان أذکر لک بعض من صحاحها:

منها: موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَخْبِرْنِی عَنِ الاْءِسْلاَمِ وَالاْءِیمَانِ أَهُمَا مُخْتَلِفَانِ؟

فَقَالَ: إنَّ الاْءِیْمَانَ یُشَارِکُ الاْءِسْلاَمَ، وَالاْءِسْلاَمَ لاَ یُشَارِکُ الاْءِیْمَانَ.

فَقُلْتُ: فَصِفْصُمَا لِی.

فَقَالَ: الاْءِسْلاَمُ شَهَادَةٌ أَنْ لاَ إِلهَ إَلاَّ اللّه ُ، وَالتَّصْدِیقُ بِرَسُولِ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، بِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَیْهِ جَرَتِ الْمَنَاکِحُ وَالْمَوَارِیثُ، وَعَلی ظَاهِرِهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَالاْءِیمَانُ الْهُدی وَمَا یَثْبُتُ فِی الْقُلُوبِ مِنْ صِفَةِ الاْسْلاَمِ وَمَا ظَهَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَالاْءِیمَانُ أَرْفَعُ مِنَ الاْءِسْلاَمِ بِدَرَجَةٍ؛ إِنَّ الاْءِیمَانَ یُشَارِکُ الاْءِسْلاَمَ فِی الظَّاهِرِ، وَالاْءِسْلاَمَ لاَ یُشَارِکُ الاْءِیمَانَ فِی الْبَاطِنِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِی الْقَوْلِ وَالصِّفَةِ.(3)

ومنها: معتبرة حمران بن أعْیَنَ عن أبیجعفر علیه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ یَقُولُ: الاْءِیمَانُ مَا اسْتَقَرَّ فِی الْقَلْبِ، وَأَفْضی بِهِ إِلَی اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ لِلّهِ وَالتَّسْلِیمِ لاِءَمْرِهِ؛ وَالاْءِسْلاَمُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَهُوَ الَّذی عَلَیْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنَ الْفِرَقِ کُلِّهَا، وَبِهِ حُقِنَتِ الدِّمَاءُ، وَعَلَیْهِ جَرَتِ الْمَوَارِیثُ، وَجَازَ النِّکَاحُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَی الصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَخَرَجُوا بِذلِکَ مِنَ الْکُفْرِ، وَأُضِیفُوا إِلَی الاْءِیمَانِ، وَالاْءِسْلاَمُ لاَ یَشْرَکُ الاْءِیمَانَ، وَالاْءِیمَانُ یَشْرَکُ الاْءِسْلاَمَ، وَهُمَا فِی الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ یَجْتَمِعَانِ، کَمَا صَارَتِ الْکَعْبَةُ فِی الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ لَیْسَ فِی الْکَعْبَةِ، وَکَذلِکَ الاْءِیمَانُ یَشْرَکُ الاْءِسْلاَمُ، والإسلام لاَ یَشْرَکُ

ص:428


1- 1 . سورة الحجرات /14 و 15.
2- 2 . لأجل العثور علیها راجع کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 1/(509/492).
3- 3 . الکافی 3/72، ح1 (2/25).

الاْءِیمَانَ؛ وَقَدْ قال اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ : «قالَتِ الاْءَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوءْمِنُوا وَلکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الاْءِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ»(1) فَقَوْلُ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَصْدَقُ الْقَوْلِ.

قُلْتُ: فَهَلْ لِلْمُؤْمِنِ فَضْلٌ عَلَی الْمُسْلِمِ فِی شَیْءٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالاْءَحْکَامِ وَالْحُدُودِ وَغَیْرِ ذلِکَ؟

فَقَالَ: لاَ، هُمَا یَجْرِیَانِ فِی ذلِکَ مَجْری وَاحِدٍ، وَلکِنْ لِلْمُؤْمِنِ فَضْلٌ عَلَی الْمُسْلِمِ فِی أعمالها وما یَتَقَرَّبانِ بِهِ إلی اللّه _ عزّ وجلّ _ .

قلت: أَ لَیْسَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ یَقُولُ «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها»(2) وَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَی الصَّلاَةِ وَالزَّکَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَعَ الْمُؤْمِنِ؟

قَالَ: أَ لَیْسَ قَدْ قَالَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ : «فَیُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافا کَثِیرَةً»(3)؟ فَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الَّذِینَ یُضَاعِفُ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ: لِکُلِّ حَسَنَةٍ سبعین ضِعْفا، فَهذَا فَضْلُ الْمُؤْمِنِ، وَیَزِیدُهُ اللّه ُ فِی حَسَنَاتِهِ عَلی قَدْرِ صِحَّةِ إِیمَانِهِ أَضْعَافا کَثِیرَةً، وَیَفْعَلُ اللّه ُ بِالْمُؤْمِنِینَ مَا یَشَاءُ مِنَ الْخَیْرِ.

قُلْتُ: أَ رَأَیْتَ مَنْ دَخَلَ فِی الاْءِسْلاَمِ أَ لَیْسَ هُوَ دَاخِلاً فِی الاْءِیمَانِ؟

فَقَالَ: لاَ، وَلکِنَّهُ قَدْ أُضِیفَ إِلَی الاْءِیمَانِ، وَخَرَجَ مِنَ الْکُفْرِ وَسَأَضْرِبُ لَکَ مَثَلاً تَعْقَلُ بِهِ فَضْلَ الاْءِیمَانِ عَلَی الاْءِسْلاَمِ: أَ رَأَیْتَ لَوْ أَبْصَرْتَ رَجُلاً فِی الْمَسْجِدِ، أَ کُنْتَ تَشْهَدُ أَنَّکَ رَأَیْتَهُ فِی الْکَعْبَةِ؟ قُلْتُ: لاَ یَجُوزُ لِی ذلِکَ.

قَالَ: فَلَوْ أَبْصَرْتَ رَجُلاً فِی الْکَعْبَةِ، أَکُنْتَ شَاهِدا أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَکَیْفَ ذلِکَ؟! قُلْتُ: إِنَّهُ لاَ یَصِلُ إِلی دُخُولِ الْکَعْبَةِ حَتّی یَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ثُمَّ قَالَ: کَذلِکَ الاْءِیمَانُ وَالاْءِسْلاَمُ.(4)

ومنها: صحیحة أَبِیالصَّبَّاحِ الْکِنَانِیِّ عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: قِیلَ

ص:429


1- 4 . سورة الحجرات /14.
2- 1 . سورة الأنعام /160.
3- 2 . سورة البقرة /245.
4- 3 . الکافی 3/74، ح5 (2/26).

لاِءَمِیرِالْمُؤْمِنِینَ علیه السلام : مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، کَانَ مُؤْمِنا؟ قَالَ: فَأَیْنَ فَرَئِضُ اللّه ِ؟

قَالَ: وَسَمِعْتُهُ یَقُولُ: کَانَ عَلِیٌّ علیه السلام یَقُولُ: لَوْ کَانَ الاْءِیمَانُ کَلاَما، لَمْ یَنْزِلُ فِیهِ صَوْمٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ حَلاَلٌ وَلاَ حَرَامٌ.

قَالَ: وَقُلْتُ لاِءَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام : إِنَّ عِنْدَنَا قَوْما یَقُولُونَ: إِذَا شَهِدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ

مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ.

قَالَ: فَلِمَ یُضْرَبُونَ الْحُدُودَ؟ وَلِمَ تُقْطَعُ أَیْدِیهِمْ؟ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ خَلْقا أَکْرَمَ عَلَی اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مِنَ الْمُؤْمِنِ؛ لاِءَنَّ الْمَلاَئِکَةَ خُدَّامُ الْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ جِوَارَ اللّه ِ لِلْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِینَ، وَأَنَّ الْحُورَ الْعِینَ لِلْمُؤْمِنِینَ. ثُمَّ قَالَ: فَمَا بَالُ مَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ کَانَ کَافِرا؟.(1)

ومنها: صحیحة جَمِیلِ بْنِ دَرِّاجٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَاعَبْدِاللّه ِ علیه السلام عَنِ الاْءِیمَانِ، فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ.

قَالَ: قُلْتُ: أَ لَیْسَ هذَا عَمَلٌ؟ قَالَ: بَلی. قُلْتُ: فَالْعَمَلُ مِنَ الاْءِیمَانِ؟ قَالَ: لاَ یَثْبُتُ لَهُ الاْءِیمَانُ إِلاَّ بِالْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مِنْهُ.(2)

ومنها: معتبرة السکونی عَنْ أَبِی عَبْدِاللّه ِ، عَنْ أَبِیهِ علیهماالسلام ، قَالَ: «قَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ _ صَلَوَاتُ اللّه ِ عَلَیْهِ _: الاْءِیمَانُ لَهُ أَرْکَانٌ أَرْبَعَةٌ: التَّوَکُّلُ عَلَی اللّه ِ، وَتَفْوِیضُ الاْءَمْرِ إلی اللّه ِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللّه ِ، وَالتَّسْلِیمُ لاِءَمْرِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _»(3).

2_ وقد یطلق علی الإقرار بولایة وصی رسول اللّه وخلیفته، مولای ومولی الکونین أبیالحسنین أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب علیه السلام واُولاده الاْءحَدَ عَشَرَ المعصومین علیهم السلام وتدلّ علیه عدّة من الروایات(4) أذکر لک بَعْضا من صحاحها:

ص:430


1- 1 . الکافی 3/89، ح2 (2/33).
2- 2 . الکافی 3/102، ح6 (2/38).
3- 3 . الکافی 3/121، ح2 (2/47).
4- 4 . لأجل العثور علی بعض منها راجع کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 12/(237-226).

منها: صحیحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: بُنِیَ الاْءِسْلاَمُ عَلی خَمْسَةِ أَشْیَاءَ: عَلَی الصَّلاَةِ، وَالزَّکَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوَِلاَیَةِ.

قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وَأَیُّ شَیْءٍ مِنْ ذلِکَ أَفْضَلُ؟

فَقَالَ: الْوَِلاَیَةُ أَفْضَلُ؛ لاِءَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَالْوَالِی هُوَ الدَّلِیلُ عَلَیْهِنَّ.

قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِی یَلِی ذلِکَ فِی الْفَضْلِ؟

فَقَالَ: الصَّلاَةُ؛ إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله قَالَ: الصَّلاَةُ عَمُودُ دِینِکُمْ.

قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِی یَلِیهَا فِی الْفَضْلِ؟

قَالَ: الزَّکَاةُ؛ لاِءَنَّهُ قَرَنَها بِهَا، وَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ قَبْلَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الزَّکَاةُ تُذْهِبُ الذُّنُوبَ.

قُلْتُ: وَالَّذِی یَلِیهَا فِی الْفَضْلِ؟

قَالَ: الْحَجُّ؛ قَالَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ : «وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ»(1)؛ وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : لَحَجَّةٌ مَقْبُولَةٌ خَیْرٌ مِنْ عِشْرِینَ صَلاَةً نَافِلَةً، وَمَنْ طَافَ بِهذَا الْبَیْتِ طَوَافا أَحْصی فِیهِ أُسْبُوعَهُ وَأَحْسَنَ رَکْعَتَیْهِ، غَفَرَ اللّه ُ لَهُ؛ وَقَالَ فِی عَرَفَةَ وَیَوْمِ الْمُزْدَلِفَةِ مَا قَالَ.

قُلْتُ: فَمَاذَا یَتْبَعُهُ؟ قَالَ: الصَّوْمُ.

قُلْتُ: وَمَا بَالُ الصَّوْمِ صَارَ آخِرَ ذلِکَ أَجْمَعَ؟

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ الاْءَشْیَاءِ مَا إِذَا فَاتَکَ لَمْ تَکُنْ مِنْهُ تَوْبَةٌ دُونَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَیْهِ فَتُؤَدِّیَهُ بِعَیْنِهِ، إِنَّ الصَّلاَةَ وَالزَّکَاةَ وَالْحَجَّ وَالْوَِلاَیَةَ لَیْسَ یَنْفَعُ شَیْءٌ مَکَانَهَا دُونَ أَدَائِهَا، وَإِنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَکَ أَوْ قَصَّرْتَ أَوْ سَافَرْتَ فِیهِ، أَدَّیْتَ مَکَانَهُ أَیَّاما غَیْرَهَا، وَجَزَیْتَ ذلِکَ الذَّنْبَ بِصَدَقَةٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَیْکَ، وَلَیْسَ مِنْ تِلْکَ الاْءَرْبَعَةِ شَیْءٌ یُجْزِیکَ مَکَانَهُ غَیْرُهُ.

ص:431


1- 1 . سورة آل عمران /97.

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ذِرْوَةُ الاْءَمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ الاْءَشْیَاءِ وَرِضَا الرَّحْمنِ الطَّاعَةُ لِلاْءِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ یَقُولُ: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَمَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظا»(1) أَمَا لَوْ أَنَّ رَجَلاً قَامَ لَیْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَتَصَدَّقَ بِجَمِیعِ مَالِهِ وَحَجَّ جَمِیعَ دَهْرِهِ وَلَمْ یَعْرَفْ وَلاَیَةَ وَلِیِّ اللّه ِ فَیُوَالِیَهُ وَیَکُونَ جَمِیعُ أَعْمَالِهِ بِدَلاَلَتِهِ إِلَیْهِ، مَا کَانَ لَهُ عَلَی اللّه ِ حَقٌّ فِی ثَوَابِهِ، وَلاَ کَانَ مِنْ أَهْلِ الاْءِیمَانِ. ثُمَّ قَالَ: أُولئِکَ الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ یُدْخِلُهُ اللّه ُ الْجَنَّةَ بَفَضْلِ رَحْمَتِهِ.(2)

ومنها: صحیحة عَجْلاَنَ أَبِیصَالِحٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَوْقِفْنِی عَلی حُدُودِ الاْءِیمَانِ.

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَصَلاَةُ الْخَمْسِ، وَأَدَاءُ الزَّکَاءِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَیْتِ، وَوَلاَیَةُ وَلِیِّنَا،

وَعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا، وَالدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِینَ.(3)

ومنها: صحیحة الْفُضَیْلِ بْنِ یَسَارٍ: عَنْ أَبِیجَعْفَرٍ علیه السلام ، قَالَ: بُنِیَ الاْءِسْلاَمُ عَلی خَمْسٍ: عَلَی الصَّلاَةِ، وَالزَّکَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوَِلاَیَةِ؛ وَلَمْ یُنَادَ بِشَیْءٍ کَمَا نُودِیَ بِالْوَِلاَیَةِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِأَرْبَعٍ وَتَرَکُوا هذِهِ یَعْنِی الْوِلاَیَةَ.(4)

ومنها: صحیحة عِیسَی بْنِ السَّرِیِّ أَبِیالْیَسَعِ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِی عَبْدِاللّه ِ علیه السلام : أَخْبِرْنِی بِدَعَائِمِ الاْءِسْلاَمِ، الَّتِی لاَ یَسَعُ أَحَدا التَّقْصِیرُ عَنْ مَعْرَفَةِ شَیْءٍ مِنْهَا، الَّتِی مَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرَفَةِ شَیْءٍ مِنْهَا فَسَدَ دِینُهُ وَلَمْ یُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَمَنْ عَرَفَهَا وَعَمِلَ بِهَا صَلَحَ لَهُ دِینُهُ وَقُبِلَ مِنْهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ یَضِقْ بِهِ مِمَّا هُوَ فِیهِ لِجَهْلِ شَیْءٍ مِنَ الاْءُمُورِ جَهِلَهُ؟

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَالاْءِیمَانُ بِأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَحَقٌّ فِی الاْءَمْوَالِ الزَّکَاةُ، وَالْوَِلاَیَةُ الَّتِی أَمَرَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِهَا وَِلاَیَةُ آلِ

ص:432


1- 2 . سورة النساء /80.
2- 3 . الکافی 3/54، ح5 (2/18).
3- 1 . الکافی 3/52، ح2 (2/18).
4- 2 . الکافی 3/53، ح3 (2/18).

مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله .

قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ فِی الْوَِلاَیَةِ شَیْءٌ فَضْلٌ یُعْرَفُ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ؟

قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ : «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(1) وَقَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله : مَنْ مَاتَ وَلاَ یَعْرَفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً، وَکَانَ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله وَکَانَ عَلِیّا علیه السلام ، وَقَالَ الاْآخَرُونَ: کَانَ مُعَاوِیَةَ؛ ثُمَّ کَانَ الْحَسَنَ، ثُمَّ کَانَ الْحُسَیْنَ، وَقَالَ الاْآخَرُونَ: یَزِیدَ بْنَ مُعَاوِیَةَ وَحُسَیْنَ بْنَ عَلِیٍّ؛ وَلاَ سَوَاءَ وَلاَ سَوَاءَ.

قَالَ: ثُمَّ سَکَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَزِیدُکَ؟ فَقَالَ لَهُ حَکَمٌ الاْءَعْوَرُ: نَعَمْ، جُعِلْتُ فِدَاکَ، قَالَ: ثُمَّ کَانَ عَلِیَّ بْنَ الْحُسَیْنِ، ثُمَّ کَانَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِیٍّ أَبَا جَعْفَرٍ، وَکَانَتِ الشِّیعَةُ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ أَبُوجَعْفَرٍ وَهُمْ لاَ یَعْرِفُونَ مَنَاسِکَ حَجِّهِمْ وَحَلاَلَهُمْ وَحَرَامَهُمْ، حَتّی کَانَ أَبُوجَعْفَرٍ، فَفَتَحَ لَهُمْ، وَبَیَّنَ لَهُمْ مَنَاسِکَ حَجِّهِمْ وَحَلالَهُمْ وَحَرَامَهُمْ، حَتّی صَارَ النَّاسُ یَحْتَاجُونَ إِلَیْهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا کَانُوا یَحْتَاجُونَ إِلَی النَّاسِ، وَهکَذَا یَکُونُ الاْءمْرُ، وَالاْءَرْضُ لاَ تَکُونُ إِلاَّ بِإِمَامٍ، وَمَنْ مَاتَ لاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً، وَأَحْوَجُ مَا تَکُونُ إِلی مَا أَنْتَ عَلَیْهِ إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُکَ هذِهِ _ وَأَهْوی بِیَدِهِ إِلی حَلْقِهِ _ وَانْقَطَعَتْ عَنْکَ الدُّنْیَا تَقُولُ: لَقَدْ کُنْتُ عَلی أَمْرٍ حَسَنٍ.(2)

ومنها: صحیحة اُخری له قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِیعَبْدِاللّه ِ علیه السلام : حَدِّثْنِی عَمَّا بُنِیَتْ عَلَیْهِ دَعَائِمُ الاْءِسْلاَمِ إِذَا أَنَا أَخَذْتُ بِهَا زَکا عَمَلِی، وَلَمْ یَضُرِّنِی جَهْلُ مَا جَهِلْتُ بَعْدَهُ.

فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاّ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ صلی الله علیه و آله ، وَالاْءِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَحَقٌّ فِی الاْءَمْوَالِ مِنَ الزَّکَاةِ، وَالْوَِلاَیَةُ الَّتِی أَمَرَ اللّه ُ بِهَا وَِلاَیَةُ آلِ مُحَمَّدٍ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلی الله علیه و آله قَالَ: مَنْ مَاتَ وَلاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً جَاهِلِیَّةً؛ قَالَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ : «أَطِیعُوا اللّهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الاْءَمْرِ مِنْکُمْ»(3) فَکَانَ عَلِیٌّ، ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ الْحَسَنُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ الْحُسَیْنُ، ثُمَّ مَنْ بَعْدِهِ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِیٍّ، ثُمَّ هکَذَا یَکُونُ الاْءَمْرُ؛ إنَّ الاْءَرْضَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ بِإِمَامٍ، وَمَنْ مَاتَ لاَ یَعْرِفُ إِمَامَهُ، مَاتَ مِیتَةً

ص:433


1- 3 . سورة النساء /59.
2- 4 . الکافی 3/57، ح6 (2/19).
3- 1 . سورة النساء /59.

جَاهِلِیَّةً، وَأَحْوَجُ مَا یَکُونُ أَحَدُکُمْ إِلی مَعْرِفَتِهِ إِذَا بَلَغَتْ نَفْسُهُ هَاهُنَا _ قَالَ: وَأَهْوی بِیَدِهِ إِلی صَدْرِهِ _ یَقُولُ حِینَئِذٍ: لَقَدْ کُنْتُ عَلی أَمْرٍ حَسَنٍ.(1)

أقول: فظهر ممّا ذکرنا أنّ النسبة بین الإسلام والإیمان بِکِلَیْ معنیین عموم وخصوص مطلق، فالإسلام عام والإیمان خاص وداخل فی الإسلام، وکلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، ولکن لیس کلُّ مسلمٍ بمؤمن، بل بعض المسلمین یکونون مؤمنین وبعضهم غیر مؤمنین علی المعنیین من الإیمان.

ویمکن إرجاع الإیمان بالمعنی الثانی إلی الإیمان بالمعنی الأوّل لأنّ الاعتقاد بالولایة یکون من لوازم الاعتقاد بالنبوة، لأنّهما ممّا جاء به النبی صلی الله علیه و آله فلابدّ من المؤمن بالنبی الاعتقاد بالولایة والعقد القلبی علیها والالتزام العملی بها فیدخل الإیمان بالمعنی الثانی إلی الإیمان بالمعنی الأوّل وهذا هو المختار والحمد للّه الغفار.

قال فی الجواهر: «... ضرورة کون الإیمان فی السابق مرادفا للإسلام، فإنّه بالمعنی الأخصّ اصطلاح جدید، نعم ربّما اُطلق الإیمان فیها مقابل الإسلام باعتبار إرادة التصدیق القلبی والتسالم الظاهری مع النفاق باطنا ولکنّ المعروف مرادفته، وکذا لفظ الدین الذی هو عند اللّه الإسلام»(2).

أقول: مراده قدس سره من السابق عند فقهائنا الأقدمین ومراده من المعنی الأخص هو الإیمان بالمعنی الثانی _ أی بالولایة _ ثمّ اعترف بالفارق بین الإیمان بالمعنی الأوّل

والإسلام، ثمّ ذهب إلی أنّ المعروف ترادفهما _ أی الإیمان بالمعنی الأوّل والإسلام _ بل ترادفهما مع لفظ الدین.

«ثمّ إعلم أن المتکلمین قد اختلفوا فی حقیقة الایمان فقال بعضهم: أنّه مرکب من التصدیق باللسان والعقد بالقلب. والعمل بالجوارح.

وقال بعض آخر منهم: أنّه مرکب من العقد القلبی والتصدیق اللسانی.

ص:434


1- 2 . الکافی 3/61، ح9 (2/21).
2- 3 . الجواهر 31/167 و 168 (30/96).

وقال آخرون: أنّه أمر قلبی فقط. وشرط قبوله وترتب الآثار علیه الإقرار باللسان.

وقال بعضهم: أنّه أمر بسیط ذو مراتب فی الشدة والضعف وهو التصدیق بالجنان فقط، والإقرار باللسان والعمل بالأرکان کاشفان عنه وموجبان لترتب الآثار علیه. وهذا هو الذی رجّحناه... إلی غیر ذلک من الأقوال... .

والغرض من ذکرها هنا إجمالاً أنّ الایمان بأیّ معنی أُخذ فللعمل مدخلیة فیه. کما لا یخفی. ومدخلیته فیه إمّا فی ماهیته وحقیقته. کما هو مقتضی القول الأوّل أو فی کماله أو فی ترتب الآثار علیه أو فی کاشفیته عنه أو فی غیره کما هو مقتضی الأقوال الأخری فمن ترک جمیع ما أمر اللّه تعالی بإتیانه وأتی بجمیع ما نهی اللّه عن إتیانه ففعله ذلک کاشف عن أنّه لا إیمان له. ومن امتثل بعضا وترک بعضا آخر. وخلط عملاً صالحا وآخر سیئا ففعله ذلک کاشف عن ضعف إیمانه»(1).

هل یلحق بالکفار أطفالهم؟

قال فی الجواهر: «والظاهر أنّ بحکم المسلم ولده وإن بلغ مجنونا، کما أنّ بحکم الکافر ولده کذلک؛ للتبعیّة، فلا یباع حینئذٍ ولد العبد المسلم للکافر ولا لولده، ویجبر علی بیعه منهما بإسلام أبیه أو جدّه أو غیرهما ممّن یتبعه فی الإسلام کالاُمّ، من غیر فرق بین کونهما حرّین أو عبدین للمالک أو غیره.

لکن فی القواعد: «وهل یباع الطفل بإسلام أبیه الحرّ أو العبد لغیر مالکه؟ إشکال، وإسلام الجدّ أقوی إشکالاً»(2).

وکأنّه للإشکال فی التبعیّة، خصوصا فی الجدّ، وخصوصا مع بقاء الأب علی الکفر، فیبقی حینئذٍ ما دلّ علی بقاء الملک بحاله.

ویضعّف: بأنّ دلیلها شامل لذلک، بل لعلّه من أظهر أفرادها.

بل لعلّ قوله: «کلّ مولود یولد علی الفطرة، وإنّما أبواه یهوّدانه وینصّرانه

ص:435


1- 1 . الأربعین الهاشمیة /120 و 121، للسیّدة نصرت بیگم الأمین الأصفهانیة _ رحمة اللّه علیها _ .
2- 2 . قواعد الأحکام: المتاجر، فی المتعاقدین 2/18.

ویمجّسانه»(1) کافٍ فی ذلک، بناءً علی إرادة التبعیّة فی الیهودیّة من قوله: «یهوّدانه»؛ ضرورة ظهوره حینئذٍ فی أنّ الولد علی الإسلام لو لا التبعیّة المقتضیة للکفر، فمع انتفائها _ بإسلام الأب مثلاً _ یبقی علیه حینئذٍ.

فضلاً عمّا دلّ علی التبعیّة یه أیضا من قوله تعالی: «وَ... أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ»(2) وغیره کمرسل الصدوق: «قال علیّ علیه السلام : إذا أسلم الأب جرّ الولد إلی الإسلام، فمن أدرک من ولده دعی إلی الإسلام، فإن أبی قتل...»(3) الحدیث.

وقوّة الإشکال فی الجدّ یدفعها: معلومیّة التبعیّة للأشرف المتحقّق فیه فی الفرض، وإن کان هو أبعد من الأب رتبةً، کما هو واضح.

بل قد یقال: بإلحاق إسلام السابی بإسلام أحدهما، فیقهر علی بیعه حینئذٍ لو ارتدّ؛ لما دلّ علی التبعیّة فی الإسلام به.

فظهر حینئذٍ من ذلک: التبعیّة فی الإسلام والکفر فیمن عرفت، فیجری علیه حکمهما.

نعم، لا یجری حکم الإسلام فی المعذور لفسحة النظر أو لبعده عن محلّ المعرفة، واللّه أعلم»(4).

أجاب الشیخ الأعظم عن الإلحاق بقوله: «فیه إشکال»(5).

مراده من الإشکال: «عدم صدق «الکافر» حقیقةً علی أطفالهم، سواء أکان الکفر

ص:436


1- 1 . من لا یحضره الفقیه: الفرائض، باب میراث أهل الملل 4/334، ح5719؛ وسائل الشیعة 26/14، ح11، باب 1 من أبواب موانع الإرث؛ الجامع الصغیر (للسیوطی) 1/474، ح3063؛ کنز العمّال 1/66، ح246؛ شرح صحیح مسلم 11/52؛ سنن البیهقی 6/205.
2- 2 . سورة الطور /21.
3- 3 . من لا یحضره الفقیه، 3/152، ح3556، القضایا والأحکام، باب الارتداد؛ وسائل الشیعة 28/329، ح7، باب 3 من کتاب الحدود والتعزیرات.
4- 4 . الجواهر 23/(549-547) [22/341 و 342].
5- 5 . المکاسب 3/590.

وصفا وجودیّا مضادّا للإیمان، أم عدمیّا.

أمّا علی الأوّل فواضح. وأمّا علی الثانی فلأنّ الکفر بمعنی عدم الإسلام، ومن المعلوم أنّ التقابل بین الإسلام والکفر تقابل العدم والملکة، لا تقابل السلب والإیجاب.

وعدمُ الملکة منتفٍ فی أطفال الکفار، فلا یلحق الأطفال بالبالغین»(1).

لا یقال: إنّ المراد من الکافر أعمّ من الحقیقی والحکمی فیلحق الأطفال بآبائهم، لأنّ هذه الأعمیة مقتضی حکومة مادلّ علی أنّ أطفالهم بمنزلة آبائهم فی الأحکام والآثار.

لأنّا نقول: «هذه الحکومة غیر ظاهرة، لتوقفها علی عموم دلیل تنزیل الأطفال منزلة البالغین. ولم نعثر _ الی الآن _ علی هذا الدلیل. والمتیقن هو ثبوت بعض الأحکام للأطفال کالنجاسة، والتبعیة فی السّبی»(2).

فحینئذ لو شک فی شمول أدلة منع شراء الکافر العبد المسلم فمقتضی عمومات صحة البیع وتجارة عن تراض واطلاق الوفاء بالعقد، صحة انتقال العبد المسلم إلی طفل الکافر «لمرجعیة العام فی المخصص المجمل المفهومی الدائر بین الأقل والأکثر وللاقتصار فی التخصیص علی القدر المتیقن وهو الکافر البالغ»(3). کما علیه المحقّق المروج قدس سره .

ولکن یرد علیه: الأطفال یلحقون بالآباء عند کلِّ قوم فیحکم بکفر أطفال الکفار، فیجری فی حقِّ الأطفال آیة نفی السبیل ونبوی علو الإسلام بالاُولویة القطعیة علی فرض جریانهما فی فرعنا کما علیه المشهور. فلا یجوز شراء العبد المسلم لطفل الکافر علی مبنی المشهور واللّه العالم.

حکم شراء العبد المسلم للمخالف

اشارة

قال الشیخ الأعظم رحمه الله : «لا بأس ببیع المسلم من المخالف ولو کان جاریة، إلاّ إذا

ص:437


1- 1 . هدی الطالب 6/327.
2- 2 . هدی الطالب 6/327.
3- 3 . هدی الطالب 6/327.

قلنا بحرمة تزویج المؤمنة من المخالف؛ لأخبار دلّت علی ذلک، فإنّ فحواها یدلّ علی المنع من بیع الجاریة المؤمنة، لکن الأقوی عدم التحریم»(1).

حکم بعدم البأس لأنّ المخالف محکوم بالإسلام لا الکفر، فیجوز له شراء العبد المسلم ولو کان المبیع جاریة مؤمنة شیعیة.

ثمّ استثناها علی القول بحرمة تزویج المؤمنة من المخالف کما حُکی غیر واحد(2)

الشهرة علی الحرمة، ولکنّها(3) لم تثبت، کما تنظّر(4) فیها صاحب الجواهر وقال: «... ومنه یعلم: عدم قائل صریح معتدّ بِهِ من القدماء بعدم جواز نکاح المؤمنة غیر المؤمن ولو من الفرق الإمامیة کالواقفی ونحوه ممّا جری علیه حکم الإسلام فی هذا الحال»(5).

وتابع الشیخُ الأعظمُ فی استثنائهِ جَدِّیَ الشیخ جَعْفَرا حیث یقول: «لا یبعد اشتراط الإیمان فی حقّ الإماء لظاهر بعض الأخبار»(6).

وقال صاحب الجواهر فی شرح کلام استاذه: «ولعلّه أشار بذلک ما فی النکاح من عدم تزویج المخالف المؤمنة مخافة علی دینها فلا یکون کفوا لها، ولکنّة _ کما تری _ لا یصلح بمجرد ذلک للخروج عن مقتضی العمومات جنسا ونوعا، وإن کان الاحتیاط مع إمکانه لا ینبغی ترکه، هذا»(7).

ولکن تبع صاحب المفتاح استاذه الشیخَ جَعْفَرا وقال: «یبقی الکلام فی المخالف إذا اشتری جاریة مؤمنة أو عبدا صغیرا محکوما بإیمانه ونحو ذلک ممّن یمکن حمله له

ص:438


1- 4 . المکاسب 3/592.
2- 5 . کالفیض الکاشانی فی مفاتیح الشرائع 2/253، مفتاح 711، وسیّد الریاض فی کتابه 11/283.
3- 1 . أی الشهرة.
4- 2 . الجواهر 31/165 (30/95).
5- 3 . الجواهر 31/167 (30/96).
6- 4 . شرح القواعد 2/48.
7- 5 . الجواهر 23/542 (22/338).

علی مذهبه فهل یصحّ هذا البیع؟ احتمالان، والأصحّ عدم الصحّة کما صرّح به الشهید علی ما هو فی بالی، والعلّة(1) المنصوصة فی عدم تزویج المؤمنة من المخالف تدلّ علی ذلک، إلی غیر ذلک ممّا یمکن أن یستدلّ به علی ذلک»(2).

مستند حُرْمَةِ تزویج المُؤْمنة من المخالف

عدّة من الروایات:

منها: صحیحة الفضیل بن یسار قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن نکاح الناصب؟ فقال: لا، واللّه ما یحلّ، قال فضیل: ثمّ سألته مرّة أُخری فقلت: جعلت فداک، ما تقول فی نکاحهم؟ قال: والمرأة عارفة؟ قلت: عارفة، قال: إنّ العارفة لا توضع إلاّ عند عارف.(3)

النفی یدلّ علی الحرمة الوضعیة أعنی الفساد.

ومنها: معتبرة بل صحیحة(4) زرارة بن أَعْیَنَ عن أبیعبداللّه علیه السلام قال: تزوّجوا فی الشکاک ولا تزوّجوهم، فإنّ المرأة تأخذ من أدب زوجها ویقهرها علی دینه.(5)

أخذا بتعلیل الوارد فی ذیلها.

ومنها: صحیحة علی بن مهریار قال: کتب علیّ بن أسباط إلی أبیجعفر علیه السلام فی أمر بناته وأنّه لا یجد أحدا مثله، فکتب إلیه أبوجعفر علیه السلام : فهمت ما ذکرت من أمر بناتک وأنّک لا تجد أحدا مثلک، فلا تنظر فی ذلک رحمک اللّه، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: إذا جاءکم من ترضون خلقه ودینه فزوّجوه، إلاّ تفعلوه تکن فتنة فی الأرض وفساد کبیر.(6)

یحمل الدین علی الاْءِیْمانِ بالولایة.

ص:439


1- 6 . وسائل الشیعة 20/555، ح2، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر، و 20/76، الباب 28 من أبواب مقدّمات النکاح.
2- 7 . مفتاح الکرامة 12/571.
3- 8 . وسائل الشیعة 20/550، ح5، الباب 10 من أبواب ما یحرم بالکفر.
4- 1 . لأنّ سند الصدوق إلی الروایة صحیح.
5- 2 . وسائل الشیعة 20/555، ح2، الباب 10 من أبواب ما یحرم بالکفر.
6- 3 . وسائل الشیعة 20/76، ح1، الباب 28 من أبواب مقدمات النکاح.

أقول: وأنت تری بأنّ النفی یُحمل علی الاستحباب أو الأفضلیة والتعلیل لیس إلاّ الحکمة وهی لا تعمّم ولا تخصّص والدین یحمل علی الإسلام لا الإیمان بالمعنی الثانی فلا تتم الأدلة الحرمة.

بل عموماتُ باب النکاح وإطلاقاتُه تُدلّ علی تزویج المؤمنة بالمسلم نحو صحیحة محمّد بن مسلم عن أبیجعفر علیه السلام قال: سألته عن الإیمان؟ فقال: الإیمان ما کان فی القلب، والإسلام ما کان علیه التناکح والمواریث وتحقن به الدماء، الحدیث(1).

وصحیحة العلاء بن رزین أنّه سأل أباجعفر علیه السلام عن جمهور النّاس؟ فقال: هم الیوم أهل هدنة، تردّ ضالتهم، تؤدّی أمانتهم، وتحقن دماؤهم، وتجوز مناکحتهم وموارثتهم فی هذه الحال(2).

وصحیحة عمر بن أبان قال: سألت أباعبداللّه علیه السلام عن المستضعفین؟ فقال: هم أهل الولایة، فقلت: أیّ ولایة؟ فقال: أما أنّها لیست بالولایة فی الدین، ولکنّها الولایة فی المناکحة والموارثة والمخالطة، وهم لیسوا بالمؤمنین ولا الکفّار، منهم المرجون لأمر اللّه _ عزّ وجلّ _ .(3)

فالمختار جواز إنکاحها من المسلم کما علیه صاحب الجواهر وقال: «... کون المدار علی الإسلام فی النکاح وأنّ جمیع فرقه التی لم یثبت لها الکفر _ بنصب أو غلوٍّ أو نحو ذلک _ ملّة واحدة یشترکون فی التناکح بینهم والتوارث وغیرهما من الأحکام والحدود واللّه العالم»(4).

مستثنیات جواز تملک الکافر للعبد المسلم

اشارة

بناءً علی عدم الجواز حکموا بإخراج صورتین منه:

ص:440


1- 4 . وسائل الشیعة 20/559، ح13، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر.
2- 5 . وسائل الشیعة 20/561، ح1، الباب 12 من أبواب ما یحرم بالکفر.
3- 6 . وسائل الشیعة 20/577، ح5، الباب 11 من أبواب ما یحرم بالکفر.
4- 1 . الجواهر 31/177 (30/102).
1_ إذا کان الشراء مستعقبا لِلاِنْعِتاقِ
اشارة

ویظهر هذا الشراء فی ثلاث فروع:

أ: شراء الکافر مَنْ ینعتق علیه قهرا واقعا

قال السیّد العاملی رحمه الله : «وأمّا لو اشتری الکافر أباه المسلم أو مَن ینعتق علیه ففی المسبوط(1) أنّه لا یصحّ البیع ولا ینعتق، لأنّه لا یملکه. وهو قضیة کلامه فی الخلاف فی مسألة(2) ما إذا قال له: أعتق عبدک عن کفّارتی، وفی بعض نسخ المختلف(3) نسبة ذلک إلی ابن حمزة، وفی بعضها إلی ابن البرّاج، ولعلّ هذه هی الصحیحة فقد نقله غیره(4) عن ابن البرّاج، ولم ینقل ذلک عن ابن حمزة ولا وجدته فی الوسیلة. وبه قال بعض العامّة مستندا إلی أنّ ما منع من شرائه لم یبح له شراؤه وإن زال ملکه کالصید للمحرم(5). والفرق أنّ المحرم لو ملکه لثبت علیه بخلاف المتنازع فیه.

وفی المقنعة(6) والنهایة(7) والسرائر(8) والشرائع(9) والتذکرة(10) والإرشاد(11)

ص:441


1- 2 . المبسوط: فیما یصحّ بیعه وما لا یصحّ 2/168.
2- 3 . الخلاف: فی البیع 3/190، مسألة 318.
3- 4 . لم نجد هذه النسخة من المختلف الّتی أشار إلیها الشارح، والنسخ الّتی عندنا تصرّح بالنسبة المذکورة إلی ابن البرّاج کما نقلها عنه فی غایة المرام، والحدائق عن المختلف، راجع المختلف: 5/59، والطبعة القدیمة /349؛ وغایة المرام 2/19؛ والحدائق 18/426.
4- 5 . نقله الصیمری فی غایة المرام: فی عقد البیع 2/19.
5- 6 . المغنی لابن قدامة 4/306.
6- 7 . المقنعة: فی ابتیاع الحیوان /599.
7- 8 . النهایة: فی باب ابتیاع الحیوان وأحکامه /408.
8- 9 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/(342-343).
9- 10 . شرائع الإسلام: فی شروط المتعاقدین 2/16.
10- 11 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/20.
11- 12 . إرشاد الأذهان: فی بیع الحیوان 1/365.

وشرحه لفخرالإسلام(1) والمختلف(2) ونهایة الإحکام(3) واللمعة(4) والدروس(5) وجامع المقاصد(6) والمسالک(7) والروضة(8) والمیسیة والمفاتیح(9) وغیرها(10) أنّه یملک مَن ینعتق علیه، فإذا اشتراه انعتق علیه فی الحال، وقد نقله فی المختلف(11) عن والده. وفی السرائر(12) أنّه مجمع علیه. وفی الحدائق(13) أنّه مشهور. وفی التحریر(14) أنّ فی البطلان إشکالاً. وفی النهایة(15) أنّه لا فرق فی ذلک بین کونهنّ أو کونهم من رضاع أو نسب، وفی المقنعة(16) والسرائر(17) إنّما هو إذا کنّ أو کانوا من النسب دون الرضاع»(18).

وقال الجواهر: «ف_ (لو ابتاع الکافر أباه المسلم، هل یصحّ؟ فیه تردّد) بل وخلاف:

ص:442


1- 1 . شرح الإرشاد للنیلی: فی شروط المتعاقدین /45، س20 (من کتب مکتبة المرعشی برقم 2474).
2- 2 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
3- 3 . نهایة الإحکام: فی شرائط العاقد 2/457.
4- 4 . اللمعة الدمشقیة: فی عقد البیع /111 وفی بیع الیحوان /117.
5- 5 . الدروس الشرعیة: فی شرائط المتعاقدین 3/199.
6- 6 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/62.
7- 7 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 8 . الروضة البهیة: فی عقد البیع 3/244.
9- 9 . مفاتیح الشرائع: فی اشتراط الإسلام فی المشتری 3/50.
10- 10 . کالحدائق الناضرة: فی شرائط المتعاقدین 18/426.
11- 11 . مختلف الشیعة: فی عقد البیع وشرائطه 5/59.
12- 12 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/343.
13- 13 . الحدائق الناظرة: فی شرائط المتعاقدین 18/426.
14- 14 . تحریر الأحکام: فی عقد البیع 2/279.
15- 15 . النهایة: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه /409.
16- 16 . المقنعة: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه /599.
17- 17 . السرائر: فی ابتیاع الحیوان وأحکامه 2/(342-343).
18- 18 . مفتاح الکرامة 12/567 و 568.

فعن المبسوط(1) وابن البرّاج(2): لا یصحّ، بل هو مقتضی المحکی عن الخلاف فیما

لو قال الکافر للمسلم: «أعتق عبدک المسلم عن کفّارتی»(3)، کما أنّه أحد وجهی الشافعیّة(4).

(والأشبه) عند المصنّف ومحکیّ المقنعة(5) والنهایة(6) والسرائر(7) وکافّة المتأخّرین(8): (الجواز؛ لانتفاء السبیل بالعتق) بل عن السرائر: أنّه مجمع علیه.

وهو الحجّة بعد العموم جنسا ونوعا، السالم عن معارضة الآیة(9) بعد أن کان الحکم الانعتاق قهرا، وإن قلنا باستلزامه الملک الضمنی الذی هو مقارن للعتق زمانا متقدّم علیه ذاتا کتقدّم العلّة علی المعلول؛ لعدم اندراجه فی السبیل المنفیّ(10).

ومن ذلک یعرف حینئذٍ: عموم الحکم لکلّ من ینعتق علیه قهرا، من غیر فرق بین الأب وغیره ولو کانوا من رضاع، بناءً علی کونهم کالنسب فی ذلک»(11).

وقال الشیخ الأعظم: «والوجه فی الأوّل [هذا الفرع] واضح، وفاقا للمحکیّ عن

ص:443


1- 19 . المبسوط: البیوع، ما یصحّ بیعه وما لا یصحّ 2/112.
2- 20 . جواهر الفقه: /60، مسألة 222.
3- 1 . الخلاف: البیوع 3/190، مسألة 318.
4- 2 . الشرح الکبیر 4/41؛ العزیز (شرح الوجیز): 4/17؛ الوجیز 1/133؛ الوسیط 3/14.
5- 3 . المقنعة: التجارة، ابتیاع الحیوان /599.
6- 4 . النهایة: العتق، من یصحّ ملکه 3/5.
7- 5 . السرائر: المتاجر، ابتیاع الحیوان 2/343.
8- 6 . کالعلاّمة فی المختلف: المتاجر، عقد البیع وشرائطه 5/59؛ والشهید الأوّل فی المتعاقدین 4/62؛ والشهید الثانی فی المسالک: التجارة، شروط المتعاقدین 3/167.
9- 7 . سورة النساء /141.
10- 8 . سورة النساء /141.
11- 9 . جواهر الکلام 23/545 و 546 (22/340).

المقنعة(1) والنهایة(2) والسرائر _ مدّعیا علیه الإجماع(3) _ والمتأخّرین کافّة(4)؛ فإنّ مجرّد الملکیّة الغیر المستقرّة لا یعدّ سبیلاً، بل لم یعتبر الملکیّة إلاّ مقدّمة للانعتاق.

خلافا للمحکی عن المبسوط(5) والقاضی(6)، فمنعاه؛ لأنّ الکافر لا یملک حتّی ینعتق؛ لأنّ التملّک بمجرّده سبیل، والسیادة علوّ.

إلاّ أنّ الإنصاف: أنّ السلطنة غیر متحقّقة فی الخارج، ومجرّد الإقدام علی شرائه لینعتق، منّةٌ من الکافر علی المسلم، لکنّها غیر منفیّة»(7).

أقول: لم تتحقّق السلطنة للکافر علی المسلم فی شرائه من ینعتق علیه کالآباءِ والأُولاد؛ لأنّ انعتاقهم علیه قهریٌّ واقعیٌّ لیس باختیار الذی اشتراهم فلا یصدق العلو أیضا لأنّ «المراد بالسبیل المنفی ما یترتّب علی الملک المستقرّ للسلطنة إمّا للرقّیة أو المنفعة واستحقاق الانتفاع ونحو ذلک، لا مطلق ما یترتّب علی الملک فی الجملة، وإلاّ لامتنع إرث الکافر للعبد المسلم من کافرٍ آخر، والثانی باطل اتفاقا، فیتعیّن المعنی الأوّل»(8).

وأمّا المنّة فَهِیَ أیضا غیر متحقّقة، لأنّ انعتاقهم حکمٌ شرعیٌّ ولیس باختیار المشتری لهم مضافا إلی أنّها غیر منفیّة فی الأدلة الشرعیة کما اعترف بالأخیر الشیخ الأعظم فی آخر کلامه المنقول.

ص:444


1- 10 . فی المصدر: الفقیه ولکن الصحیح ما ضبطناه. وانظر: المقنعة /599.
2- 11 . النهایة /408 و 540.
3- 12 . السرائر 2/343 و 3/7.
4- 13 . کما مرّ.
5- 14 . المبسوط 2/168، وحکاه عنه وعن القاضی، العلاّمة فی المختلف 5/59.
6- 15 . جواهر الفقه /60، مسألة 222.
7- 1 . المکاسب 3/593.
8- 2 . مفتاح الکرامة 12/570.
ب: شراء الکافر من ینعتق علیه ظاهرا

کما إذا أقرّ الکافر بحریّةِ عبدٍ مسلمٍ ثمّ اشتراه یملکه وینعتق علیه ظاهرا أخذا بإقراره حریته.

قال السیّد العاملی: «وقال جماعة منهم المصنّف(1) [العلاّمة] فی جملة من کتبه: إنّ فی حکمه کلّ شراء یستعقب العتق، ومثّله فی التذکرة(2) بما إذا اعترف الکافر بحرّیة عبدٍ مسلم ثمّ اشتراه، وفی جامع المقاصد(3) بما إذا اعترف الکافر بأنّ عبد زید حرّ ثمّ اشتراه. وأطلق فی المسالک(4) فمثّله بما إذا أقرّ بحرّیة عبد غیره ثمّ اشتراه فإنّه یعتق علیه بمجرّد الشراء، ومثّله فی نهایة الإحکام(5) بما لو قال الکافر لمسلم: أعتق عبدک المسلم عنّی بعوض أو بغیر عوض فأجابه إلیه، وبما لو أقرّ بحرّیة عبد مسلم ثمّ اشتراه، قال:

فالاُولی من هاتین أولی بالصحّة من الاُخری، لأنّ الملک فیها ضمنی والعتق فی الثانیة وإن حکم به فهو ظاهر غیر محقّق. ولم یفرّق فی التذکرة(6) والمسالک(7) بین الصورتین علی تقدیر جواز الضمنی»(8).

وقال فی الجواهر: «بل فی التذکرة(9) وغیرها(10): تسریة الحکم إلی کلّ شراء

ص:445


1- 3 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21؛ نهایة الإحکام: فی البیع فی شروط العاقد 2/457.
2- 4 . تذکرة الفقهاء: فی شروط المتعاقدین 10/21.
3- 5 . جامع المقاصد: فی شروط المتعاقدین 4/63.
4- 6 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
5- 7 . نهایة الإحکام: فی شروط العاقد 2/457.
6- 1 . تذکرة الفقهاء فی البیع 10/21.
7- 2 . مسالک الأفهام: فی شروط المتعاقدین 3/167.
8- 3 . مفتاح الکرامة 12/568 و 569.
9- 4 . تذکرة الفقهاء: البیع فی المتعاقدین 10/21.
10- 5 . کنهایة الإحکام: البیع فی العاقد 2/457؛ ومعالم الدین (لابن القطّان): البیع فی العاقد 1/341؛ والشهید الثانی فی المسالک: التجارة، شروط المتعاقدین 3/167.

یستعقب العتق، کما لو قال لمسلم: «أعتق عبدک المسلم عنّی» أو «اشتر من أقرّ بحرّیّته».

وهو کذلک بناءً علی أنّ المدرک للحکم المزبور ما عرفت»(1).

لکن خالفهم الشیخ الأعظم واستشکل فی صحة هذا الشراء وقال: «وأمّا الثانی [هذا الفرع] فیشکل بالعلم بفساد البیع علی تقدیری الصدق والکذب؛ لثبوت الخلل: إمّا فی المبیع لکونه حرّا، أو فی المشتری لکونه کافرا، فلا یُتصوّر صورة صحیحة لشراء من أقرّ بانعتاقه»(2).

أقول: مراده قدس سره : العلم الإجمالی بفساد هذا الشراء موجود، لاِءنَّهُ علی تقدیر صدق المشتری یکونُ الخلل موجودا فی المبیع لکونه حرّا وبیع الحرّ فاسد، وعلی تقدیر کذب المشتری الخلل موجود فی المشتری لکونه کافرا والکافر لا یشتری العبد المسلم، فلا یمکن الحکم بصحة هذا الشراء بعد وجود هذا العلم الإجمالی.

ثمّ قال: «إلاّ أن نمنع اعتبار مثل هذا العلم الإجمالی فتأمل»(3).

أقول: یمکن المنع عن اعتبار هذا العلم الإجمالی بوجهین:

الأوّل: ما ذهب إلیه صاحب الحدائق(4) من عدم التنجیز فی العلم الإجمالی إذا کان الخطاب الوارد فیه مرددا «بین خطابین، کما إذا علم أنَّ هذا المائع إمّا خمر وإمّا خَلٌّ مملوک للغیر، فیعلم حینئذٍ بخطابٍ مردّدٍ بین «إجتنب عن الخمر، ولا تغصب» فهذا العلم

الإجمالی غیر منجِّز علی مذهبه، وإنّما المنجّز عنده هو العلم التفصیلی بخطاب ومتعلقه، وتردُّد مورده بین شیئین. کما إذا علم بنجاسة أحد الإنائین، فإنّ العلم بخطاب «وجوب الاجتناب عن النجس» تفصیلی، وموضوعه مردّد بین إنائین. فالإجمال یکون فی مورد الخطاب لا فی نفسه ولا فی متعلقه.

والمقام نظیر القسم الأوّل: إذ الخطاب فیه مردّد بین خطابین، وهما: «لایجوز شراءُ

ص:446


1- 6 . الجواهر 23/547 (22/341).
2- 7 . المکاسب 3/593.
3- 8 . المکاسب 3/594.
4- 9 . الحدائق 1/517.

الحُرّ، ولا یجوز تملک الکافر العبد المسلم» ومثل هذا العلم الإجمالی لا أثر له»(1).

الثانی: ما ذهب إلیه المحقّق الاصفهانی(2) بتوضیح: «لا علم بفساد البیع علی کل تقدیر، بل علی تقدیر خاصٍّ، وهو تقدیر الحریة واقعا، لأنّه علی هذا الفرض لا یصلح للملکیة.

وأمّا علی تقدیر کذب الإقرار ورقیّة المبیع، فهو صالح للملکیة بدون مانع، إذ المانع _ وهو السبیل _ مفقود، حیث إنّ الملکیة الواقعیة المحکومة ظاهرا بعدمها للمقرِّ لیست سبیلاً له علی المسلم، فلا مانع من بیعه، فیصحّ بیعُه من البائع، لحجیة یده علی الملکیة ظاهرا، وعدم قدح إقرار المقرِّ بالحرِّیة فی ذلک، لکونه إقرارا فی مال الغیر ظاهرا علی ما تقتضیه الید، ویصحّ الشراء أیضا من المشتری، لعدم مانع وهو السبیل، فیخرج الثمن من کیسه واقعا وظاهرا، ویدخل فی ملکه المبیع واقعا لا ظاهرا، لأنّه مقتضی إقراره الذی أثره عدم صیرورته مالکا للمقرِّ به ظاهرا»(3).

وأمر الشیخ الأعظم بالتأمل لعلّه ردّ علی الوجه الأوّل من عدم الفرق فی تنجیز العلم الاجمالی بین العلم التفصیلی بالخطاب وتردد موضوعه بین شیئین، وبین تردد الخطاب بین خطابین، کما تعرض له الشیخ الأعظم قدس سره فی الشبهة المحصورة فی فرائده(4).

أقول: إشکال الشیخ الأعظم غَیْرُ تامٍّ نأخذ بظاهر إقرار الکافر ونحکم بصحة بیعه وانعتاقه علیه، کما اعترف به جمع من الأصحاب نحو: العلاّمة والکرکی والشهید الثانی وصاحب الجواهر والمحقّقَیْن النائینی(5) والإصفهانی _ قدس اللّه أسرارهم _ .

بل قال النائینی رحمه الله : «بل ولو أقرّ العبد فی المقام بالعبودیة، فإنّ اقرار العبد لا یترتب علیه أثر بالنسبة إلی الکافر المقرّ له بالحریة، فالکافر المقرّ مأخوذ بإقراره سواء أقرّ العبد

ص:447


1- 1 . هدی الطالب 6/339.
2- 2 . حاشیة المکاسب 2/466.
3- 3 . هدی الطالب 6/339 و 340.
4- 4 . فرائد الاصول 2/209.
5- 5 . المکاسب والبیع 2/353، وقد مرّت المصادر فلا نعیدها.

بخلافه أم لا، فلا یترتب علی بیعه إلاّ استنقاذه»(1).

ج: إذا قال کافر لمسلم: اعتق عبدک عنی بکذا فاعتقه

ذهب الشیخ فی المبسوط(2) والخلاف(3) أنَّهُ: إذا قال کافرٌ لِمُسْلِمٍ: اعتق عبدک عن کفارتی فاعتقه صحّ إن کان العبد کافرا، وإن کان مسلما لم یصحّ لأنّه لا یملک مسلما.

ولکن العلاّمة ذهب إلی الصحة فی ما إذا کان العبد مسلما فی نهایته(4) واستوجه عدمها فی التحریر(5) وتعرّض لوجود الخلاف فی المسألة فی التذکرة(6).

والشهید الثانی ألحقها بالأقوی وعلّله بأنّه «شراءٌ ضمنیٌّ»(7).

واختار صاحب الجواهر(8) الصحة کما مرّ(9) وتبعه الشیخ الأعظم لأنّه استشکل فی قول الشیخ فی المبسوط فی الفرع الأوّل [ أ] ویراها الإنصاف(10).

وتبعهما المحقّق النائینی(11).

أقول: وأنا تابع لهم من الحکم بالصحة لما مرّ من أنّ دخول العبد المسلم آنا ما فی ملک الکافر وعتقه علیه لا یُعدّ سبیلاً ولا علوّا المنفیین فیحکم بصحته.

تنبیهٌ:

إذا عرفتَ ما تلوتُ علیک فی الفروع الثَّلاثَةِ ظهر لک أنّ الملکیة فی الفرع الأوّل

ص:448


1- 1 . المکاسب والبیع 2/353.
2- 2 . المبسوط 2/168.
3- 3 . الخلاف 3/190، مسألة 318.
4- 4 . نهایة الإحکام 2/457.
5- 5 . تحریر الأحکام الشرعیة 2/279.
6- 6 . تذکرة الفقهاء 10/21.
7- 7 . المسالک 3/167.
8- 8 . الجواهر 23/547 (22/341).
9- 9 . فی الفرع السابق «ب».
10- 10 . راجع المکاسب 3/593.
11- 11 . المکاسب والبیع 2/353.

والثالث استطراقیة _ أی طریق إلی الحریة _ وفی الفرع الثانی استنقاذیة _ أی استنقاذ من العبودیة _ ولا دلیل علی حرمتهما، والدلیل علی الحرمة _ لو تمّ ولم یتم _ إنّما علی 9

الملکیة الاستقراریة _ أی استقرار ملک الکافر علی العبد المسلم _ . کما علیه المحقّق النائینی(1) قدس سره .

ونُقل عن الحاشیة النجاریة للشهید «أنّ السبیل المنفی بالآیة الشریفة قد فسّر بثلاثة تفاسیر بمجرّد الملک وبالملک القارّ(2) وبقابلیّته، فعلی الأوّل یمتنع شراء مَن ینعتق علیه، وعلی الثانی والثالث یصحّ، ومشروط العتق یبطل علی الأوّل والثانی، ویصحّ علی الثالث، انتهی»(3).

وقال الشیخ الأعظم: «والحاصل: أنّ «السبیل» فیه ثلاثة احتمالات _ کما عن حواشی الشهید _ :

مجرّد الملک، ویترتّب علیه عدم استثناء ما عدا صورة الإقرار بالحریّة.

والملک المستقرّ ولو بالقابلیّة، کمشروط العتق، ویترتّب علیه استثناء ما عدا صورة اشتراط العتق.

والمستقرّ فعلاً، ویترتّب علیه استثناء الجمیع.

وخیر الاُمور أوسطها»(4).

أقول: قد ظهر ممّا ذکرنا لک أنّ المنفی بالسبیل والسلطنة والعلو هو الملکیة القارّة التی عبّر عنها الشیخ الأعظم بالمستقرّ فعلاً والنائینی بالملکیة الاستقراریة وعندی بالملکیة الاستقراریة التامة بحیث لیس لمالکها إجبار بالبیع ونحوه. فما ذکره الشیخ الأعظم فی المقام من حمله علی الملکیة القارة المستقرة ولو بقابلیتها لم یتم عندی.

ص:449


1- 1 . راجع المکاسب والبیع 2/352 وما بعده.
2- 2 . القار یعنی مجمع الأجزاء فی الوجود، والموجود القار غیر سیال نحو: المکان، فی مقابل الموجود غیر قار الوجود نحو الحرکة والزمان. [المؤلِّف]
3- 3 . الحاشیة النجاریة /220 ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 12/570.
4- 4 . المکاسب 3/594.

فحینئذ لا یتم استثناء الصورة الاُولی فی فروعه الثلاثة، نعم یصح استثناء الصورة الثانیة الآتیة آنفا.

2_ لو اشترط البائع عتقه علی الکافر

لو اشترط البائع عتق العبد المسلم علی الکافر المشتری فهل یحکم بصحة هذا البیع المشروط أم لا؟

قال السیّد العاملی فی مفتاح الکرامة: «وفی نهایة الإحکام(1) أنّه لو اشتری عبدا مسلما بشرط العتق فهو کما لو اشتراه مطلقا، لأنّ العتق لا یحصل عقیب الشراء، ثمّ احتمل مساواته لشراء القریب. وقد ألحق فی الدروس(2) والروضة(3) بالقریب ما إذا شرط علیه _ یعنی علی الکافر _ عتقه، فما فی المبسوط(4) _ من أنّه إذا شرط علیه عتقه فإن أعتقه فقد وفی بالشرط، وإن لم یعتقه قیل فیه شیئان: أحدهما یجبر علیه لأنّ عتقه استحقّ بالشرط، والثانی أنّه لا یجبر علیه لکن یجعل البائع بالخیار _ فلیس ممّا نحن فیه، إذ کلام الشیخ فیما إذا کان المشروط علیه مسلما، والکلام یأتی فیه فی محلّه بعون اللّه سبحانه ولطفه»(5).

وقال فی الجواهر بعد ما نقلت عنه فی الفرع [ب] ما نصه: «بل الظاهر کون الحکم کذلک فی مشروط العتق علی وجهٍ یحصل بمجرّد القبول، بناءً علی صحّة اشتراط نحو ذلک.

بل ربّما ظهر من الشهیدین: إلحاق مشروطه(6)؛ علی معنی: أن یعتقه بعد العقد، فإن

ص:450


1- 1 . نهایة الإحکام 2/457.
2- 2 . الدروس الشرعیة 3/199.
3- 3 . الروضة البهیة 3/244.
4- 4 . المبسوط 2/151.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/569 و 570.
6- 6 . الدروس الشرعیّة: البیع/ درس 239، 3/199؛ الروضة البهیّة: المتاجر / الفصل الثانی 3/244.

وفی وإلاّ اُجبر علی قول، أو فسخ البائع العقد علی القول الآخر.

لکن فی محکیّ نهایة الإحکام أنّه «کما اشتراه مطلقا؛ لأنّ العتق لم یحصل عقیب الشراء»(1).

وفیه: أنّ ذلک لا ینافی نفی السبیل الظاهر فی السلطنة علیه کغیره من الأملاک، کما لا ینافی استدامة الملک بل والملک بالإرث، بعد أن کان الحکم فیه الجبر علی بیعه أو عتقه والتفریق بینه وبینه»(2).

وقال الشیخ الأعظم: «ومنها [أی من موارد استثناء عدم جواز تملک الکافر للعبد المسلم]: ما لو اشترط البائع عتقه، فإنّ الجواز هنا محکیّ عن الدروس والروضة، وفیه

نظر؛ فإنّ ملکیّته قبل الإعتاق سبیل وعلوّ، بل التحقیق: أنّه لا فرق بین هذا، وبین إجباره علی بیعه، فی عدم انتفاء السبیل بمجرّد ذلک»(3).

وتابع المحقّق النائینی الشیخ الأعظم وقال: «ما لو اشترط البائع علی المشتری عتقه، والحکم فیه هو المنع، وذلک لان الاشتراط علیه لا یفید أمرا أزید من إجباره علی البیع، والمفروض هو تحقق هذا الإجبار علیه من طرف الشارع، کما یستفاد من قوله علیه السلام : «لا تقروه عنده وبیعوه من المسلمین»(4).

وإذا لم یکن الإجبار الشرعی کافیا فی صحة تملکه فالإجبار الجائی من قبل الشرط أیضا کذلک مع أنّه ربّما لا یجبر باجبار فیلزم بقائه تحت سلطنته والحاصل أنّ المانع عن بیعه من الکافر فی هذه الصورة وهو سلطنته علیه موجود، بخلاف الصور المتقدمة فإنّه لا سلطنة من الکافر علیه فی شیء من تلک الصور الثلاث کما اوضحناه»(5).

وقال المحقّق الاصفهانی: «بیانه: أنّ المشروط تارة هو الانعتاق بنحو شرط

ص:451


1- 7 . نهایة الإحکام: البیع / فی العاقد 2/457.
2- 8 . الجواهر 23/547 (22/341).
3- 1 . المکاسب 3/594.
4- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، مرسلة حماد بن عیسی.
5- 3 . المکاسب والبیع 2/353 و 354.

النتیجة، واُخری هو الاعتاق بنحو شرط الفعل، فإنْ کان بنحو شرط النتیجة فحاله حال ما تقدم من تعقب الملکیة بالانعتاق قهرا؛ فلیست الملکیة سبیلاً ولو اقتضاءً، ولا مانع من مثل هذا الشرط بعد کون المشروط أمرا سائغا مشروعا، غایة الأمر أنّه یحصل بنفس الشرط؛ وهو سبب له شرعا، والمراد حصول الانعتاق بعد حصول الملکیة.

وهل یمکن الانعتاق بلا حصول الملک نظیر ما قدمناه فی شراء من ینعتق علی المشتری شرعا؟ لا یبعد ذلک، غایة الأمر أنّه فی ما تقدم بحکم الشارع؛ وهنا بتسبیب من الشارط، فإذا باع بشرط الانعتاق فقد قطع إضافة العبد عن نفسه بازاء الثمن وشرط عدم تعلق المبیع بالمشتری، فأوجد المقتضی للملکیة مع المانع عنها، نظیر البیع المقتضی لحق الخیار مقرونا بشرط عدمه، لا بشرط سقوطه فی ظرف ثبوته، ولیس ذلک شرطا منافیا لحقیقة العقد، إذ علی هذا المبنی لا یتقوم البیع بحصول الملک کی یکون شرط عدمه منافیا لحقیقته، بل مقتضٍ له فلا یکون مقتضاه فعلیّا إلاّ مع قبول المحل وعدم المانع شرعا أو تسبیبا، وحیث إنّ الملکیة إعتبار وضعی فهو قابل للتسبب إلیه نفیا وإثباتا کما فی سائرالموارد فتدبر جیدا.

وإنْ کان بنحو شرط الفعل فهو مشکل، إذ لا یقتضی الشرط إلاّ إلزام الکافر الشارط بالعتق، فلو کفی مجرد الإلزام بفک الملک فی صحة التملیک والتملک لکفی الاجبار علی البیع من المسلم فی صحة البیع من الکافر، غایة الأمر أنّه إلزام بإزالة ملک الکافر إبتداءً فی الثانی، وإمضاءً فی الأوّل، وعلی أیّ حال هو إزالة ملک مستقر لا أنّ أمد الملک آنی.

نعم بینهما فرق؛ وهو أنّ الملک _ فی البیع المحکوم علیه شرعا بالازالة _ ملک مقتضٍ للسلطنة علی التصرفات عرفا؛ فهو سبیل بالاقتضاء، ولا یجدی الالزام بإزالته فی عدم کونه سبیلاً، بخلاف البیع المشروط فیه بالعتق فإنّ الملک فیه عرفا غیر مقتضٍ للسلطنة علی التصرفات، بل مع قطع النظر عن الشرع أیضا لیس له السلطنة علی التصرفات، فمثله لیس سبیلاً عرفا دون الأوّل.

لکنه غیر فارق؛ لأنّ الشرط یوجب عدم فعلیة السلطنة التی هی من مقتضیات الملک، لا أنّه یوجب عدم اقتضائه مع بقائه إلی أنْ یتحقّق الوفاء بالشرط، فهو سبیل

ص:452

بالاقتضاء مقرون بالمانع عن فعلیة مقتضاه، لا عن أصل اقتضائه فتدبر»(1).

أقول: الحقّ مع الشهیدین وصاحب الجواهر رحمه الله فی صحه هذا البیع لأنّ المشروط إذا کان علی نحو شرط النتیجة فلا إشکال فی صحته وإذا کان علی نحو شرط الفعل أیضا یصح هذا البیع، لأنّ الوفاء بالشرط لازم علی الکافر فإن وفی واعتق العبد فقد وقع التفریق بینهما ولا سبیل، وإن لم یف فللبائع خیار الفسخ إن شاء فسخ البیع ووقع التفریق ولا سبیل، وإن شاء لم یفسح البیع والکافر اُجبر علی بیع العبد المسلم ووقع التفریق ولا سبیل حینئذ.

وعلی أیِّ حالٍ لم یستقر ملک الکافر علی العبد المسلم والدلیل علی الحرمة _ لو تمَّ ولم یتم _ إنّما یدلّ علی الملکیة الاستقراریة التامة.

فظهر ممّا ذکرنا صرف الوفاء بالشرط وهو العتق أو ردّ المبیع فی فرض الفسخ أو الإجبار علی البیع لم یصدق علیه السلطنة أو السبیل أو العلو خلافا للشیخ الأعظم والنائینی.

نعم، عدم تفریق الشیخ الأعظم(2) بین هذا الفرع وبین إجباره علی بیعه تام ولکن حکمه «فی عدم انتفاء السبیل بمجرد ذلک»(3) غیر تام، بل یحکم بانتفاء السبیل فیهما کما

مرّ واللّه الْعالِم.

حکم التملک القهری

اشارة

قبل الورود فی البحث لابدّ من تعریف الملکیة القهریة وهی التی لا یتعلّق سببها بالاختیار کالإرث وفی مقابلها الملکیة الاختیاریة وهی التی یتعلّق سببها بالاختیار کالبیع. وأمّا حصول الملک فی الثانیة بعد تمامیة السبب فهو قهریٌّ دائما.

ولکن قال الشیخ الأعظم: «ثمّ إنّ ما ذکرنا کلّه حکم ابتداء تملّک الکافر للمسلم اختیارا، أمّا التملّک القهری فیجوز ابتداءً، کما لو ورثه الکافر من کافر اُجبر علی البیع،

ص:453


1- 1 . حاشیة المکاسب 2/467 و 468.
2- 2 . المکاسب 3/594.
3- 3 . .المکاسب 3/594.

فمات قبله، فإنّه لا ینعتق علیه ولا علی الکافر المیّت؛ لأصالة بقاء رقّیته، بعد تعارض دلیل نفی السبیل وعموم أدلّة الإرث.

لکن لا یثبت بهذا الأصل تملّک الکافر، فیحتمل أن ینتقل إلی الإمام علیه السلام ، بل هو مقتضی الجمع بین الأدلّة؛ ضرورة أنّه إذا نُفی إرث الکافر بآیة نفی السبیل، کان المیّت بالنسبة إلی هذا المال ممّن لا وارث له فیرثه الإمام علیه السلام .

وبهذا التقریر یندفع ما یقال: إنّ إرث الإمام علیه السلام منافٍ لعموم أدلّة ترتیب طبقات الإرث.

توضیح الاندفاع: أنّه إذا کان مقتضی نفی السبیل عدمَ إرث الکافر، یتحقّق نفی الوارث الذی هو مورد إرث الإمام علیه السلام ، فإنّ الممنوع من الإرث کغیر الوارث.

فالعمدة فی المسألة: ظهور الاتّفاق المدّعی صریحا فی جامع المقاصد(1)»(2).

واعترض علیه المحقّق النائینی وقال: «إنّ الإرث عبارة عن انتقال مال المُوَرِّث إلی وارثه بتبدل المالک بقیام الوارث مقام مورثه فی کونه طرفا للإضافة إلی المال بلا تبدیل فی المال ولا فی الإضافة التی بینه وبین المالک، کما أنّ البیع عبارة عن تبدیل المال بمال آخر بلا تبدیل فی طرف المالک ولا فی إضافته إلی المال، بل الاضافة والمالک باقیان علی حالهما، وإنّما التبدیل فی المال، فالإرث والبیع متعاکسان من هذه الجهة لکون المتبدل فی البیع هو المال، وفی الإرث هو المالک، وعلی هذا إذا کان الکافر مالکا لعبد کافر فأسلم العبد ثمّ مات مولاه یقوم وارثه مقامه فی کونه طرفا لإضافته إلی العبد بعد

إسلامه، فکما أنّ المُوَرِّثَ بعد إسلام العبد مالک له لکنّه یجبر علی بیعه فکذا وارثه یصیر قائما مقامه فی کونه مالکا له مجبورا علی بیعه ولیس حاله إلاّ کحال المورث، وهذا خارج عن مورد الخبر(3) إذ هو یدلّ علی المنع عن انتقال المال إلی الکافر، وفی الإرث لیس الانتقال فی المال وإنّما وقع التبدیل فی المالک فلا یمکن أنْ یتمسک فی المنع عنه

ص:454


1- 1 . جامع المقاصد 4/63.
2- 2 . المکاسب 3/595.
3- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، مرسلة حماد بن عیسی.

بالخبر المذکور، وعلی هذا فلا یبقی مجال للحکم بانعتاق العبد ولا بانتقاله إلی الإمام أصلاً، وما ذکرناه شیء موافق مع الاعتبار، ویمکن تطبیق الحکم علیه بعد أنْ لم یکن فی المسئلة دلیل بالخصوص کما هو الشأن فی أکثر أبواب المعاملات، هذا.

ولکن [الشیخ الأعظم] قدس سره لم یسلک هذا المسلک، بل سلک مسلکا آخر، حیث أنّه جعل الدلیل علی المنع عن البیع عبارة عن نفی السبیل ثمّ عارضه بعموم أدلة الإرث ثمّ رجع إلی الاستصحاب بعد تعارض الدلیلین، وحیث أنّ القدر المتیقن السابق هو رقیة العبد لا ملک الوارث فإنّه لا حالة سابقة له، أجری الأصل فی بقاء رقیة العبد، ولما کان الثابت به بقائه علی رقه وأنّه لا ینعتق بموت المُوَرِّثِ لا انتقاله إلی الوارث، قال بانتقاله إلی الإمام لکونه مقتضی الجمع بین الأدلة أعنی أدلة الإرث وأدلة منع تملک الکافر للمسلم، هذا محصل ما سلکه.

وفیه: ما لا یخفی أمّا أوّلاً: فلما فی جعله الدلیل علی المنع من البیع عبارة عن الآیة المبارکة مع أنّه لا دلالة فیها علی المنع، وهو قدس سره أیضا اعترف بعدم دلالتها کما تقدم.

وأمّا ثانیا: فلما فی جعله المعارضة بین دلیل المنع وبین أدلة الإرث فإنّه لو سلم دلالة أدلة المنع علی المنع من التوارث أیضا لکانت أدلة المنع حاکمة علی عمومات أدلة الإرث، وقد تقدم أنّ المناقشة والتشکیک فی حکومة الآیة الشریفة علی العمومات فی غیر محلِّه، وأنّ ضابط الحکومة منطبق علی المقام.

وأمّا ثالثا: فلما فی حکمه بالانتقال إلی الإمام نظرا إلی جریان أصالة بقاء رقیة العبد، وذلک لأنَّ بقاء رقیته الثابت بالأصل لا یثبت انتقاله إلی الإمام إلاّ بعد اثبات مقدمة، وهی أنّه یکفی فی الحکم بالانتقال إلی الطبقة اللاحقة مجرد عدم احراز وجود الطبقة السابقة ولا یحتاج إلی احراز عدمها أو ما بحکم عدمها من الممنوعیة عن الإرث، وإلاّ فمع الحاجة إلی احراز عدم الطبقة المتقدمة لا یمکن الحکم بالانتقال إلی الإمام بعد

تعارض الدلیلین فإنّه لم یحرز بعد تعارضهما ممنوعیة الکافر من الإرث، غایة الأمر یکون عدم إرثه من باب عدم احراز وارثیته لا من باب احراز العدم، فالمهم حینئذ تنقیح تلک المقدمة ولتنقیحها مقام آخر، وان کان الحق فیها هو الاکتفاء بعدم احراز الطبقة

ص:455

السابقة ولا یحتاج فیه إلی احراز عدمها»(1).

قال السیّد العاملی: «قد صرّح الشهیدان(2) بأنّه إنّما یمنع من دخول العبد المسلم فی ملک الکافر اختیارا أمّا غیره کالإرث وإسلام عبد الکافر فإنّه یجبر علی بیعه بثمن المثل علی الفور إن وجد راغب، وإلاّ حیل بینه وبینه إلی أن یوجد الراغب، ونفقته علیه وکسبه له، وهو قضیّة کلام جماعة(3) فی الأوّل بل فی جامع المقاصد(4) الإجماع علیه، وصریح کثیرین فی الثانی _ أعنی إسلام عبد الکافر _ »(5).

وقال فی الجواهر: «نعم، قد صرّح الشهیدان(6) وغیرهما(7): باختصاص ذلک فیه، أمّا دخوله بالإرث من کافر، أو بقاؤه علی الملک _ کما لو أسلم وهو فی یده _ فلا:

للأصل فی الثانی، وقوّة دلیل الإرث فی الأوّل، مضافا إلی ما عن جامع المقاصد: من الإجماع علیه فی الأوّل(8)، وظاهر نفی الخلاف فیه فی الثانی عن التذکرة(9).

ولکن یجبر علی بیعه من الراغب، ومع عدمه یحال بینه وبینه إلی أن یوجد؛ لعموم نفی السبیل _ الذی لا منافاة بین تخصیصه بالابتداء، ووجوب إزالته عنه لعدم التملیک بسبب من الأسباب الاختیاریّة _ ولفحوی خبر حمّاد المزبور... ولغیر ذلک ممّا یقتضی الحکم المذکور.

ص:456


1- 1 . المکاسب والبیع 2/(356-354).
2- 2 . الدروس 3/199؛ ومسالک الأفهام 3/167.
3- 3 . منهم المحقّق الکرکی فی جامع المقاصد 4/(62-63)؛ والبحرانی فی الحدائق الناضرة 18/426؛ والعلاّمة فی تذکرة الفقهاء 10/22.
4- 4 . جامع المقاصد 4/63.
5- 5 . مفتاح الکرامة 12/566.
6- 6 . الدروس 3/119، درس 239؛ الروضة البهیّة 3/245؛ مسالک الأفهام 3/167.
7- 7 . کابن القطّان فی معالم الدین 1/341.
8- 8 . جامع المقاصد 4/63.
9- 9 . عبارة التذکرة: «ولأنّه یمنع من استدامة ملکه فیمنع من ابتدائه» قال العاملی: «فکأنّه لا خلاف فی الاستدامة». انظر تذکرة الفقهاء 10/19؛ ومفتاح الکرامة 12/562.

وإن کان کسبه له فی هذه المدّة _ أی إلی أن یباع _ لکونه مملوکا له فیها ونفقته

علیه.

وربّما احتمل: عدم الملک له أیضا فیها، وإنّما له تعلّق بأخذ ثمنه خاصّة. لکنّه کما تری، هذا»(1).

فرع: هل یلحق بالإرث کلّ ملک قهریٍّ؟

أو لا یلحق أو یفرِّق بین ما کان سببه اختیاریا وغیره؟

قال الشیخ الأعظم: «وجوه خیرها: أوسطها ثمّ أخیرها»(2).

وجه الخیریة ومثال السببین والمختار فی عدم الإلحاق یظهر من کلام المحقّق النائینی حیث یقول: «مثال ما کان الملک القهری بسبب غیر اختیاری هو الوقف بناءً علی أن یکون الوقف الخاص کالملک، فإنّه ینتقل إلی الطبقة المتأخرة بلا اختیار منهم ومثال ما کان بسبب اختیاری کالخیار، والحکم فیهما هو عدم الالحاق بالإرث مطلقا سواء کان بالسبب الاختیاری أو بالسبب الغیر الاختیاری.

أمّا الأوّل فلما سیأتی عند عنوان المصنف [الشیخ الأعظم] قدس سره لحکم الخیار.

وأما الثانی فلعدم مجیئ ما قلنا فی الإرث فی الوقف وتوضیح ذلک: أنّ الوجه فی الحکم بالتوارث علی ما عرفت هو عدم التفاوت بین ملک الوارث وملک مورثه، بل ملکه هو بعینه ملک مورثه، وإنّما یقوم الوارث مقام مورثه فی کونه طرفا لتلک الملکیة، فالوارث یصیر طرفا لتلک الملکیة علی ما هی علیه من الوصف أعنی لزوم الجبر علی المالک بالبیع واخراج الملک عن تحت سلطنته، وهذا الملاک یجری فی الوقف، فإنّه إذا وقف العبد الکافر علی طبقات الکفار بطنا بعد بطن فأسلم العبد الموقوف فلا یخلو إمّا أن یسلم عند وجود الطبقة التی کانت موقوفا علیها فی حال کفر العبد وإمّا أن یسلم مقارنا مع زوال تلک الطبقة وانتقال العبد إلی الطبقة اللاحقة بحیث یقع اسلام العبد وانتقاله إلی الطبقة اللاحقة

ص:457


1- 1 . الجواهر 23/540 و 541 (22/337).
2- 2 . المکاسب 3/596.

فی ظرف واحد وعلی کلا التقدیرین فلا ینتقل إلی الطبقة اللاحقة أمّا علی الأوّل فلأنّ إسلامه یوجب فساد وقفه لأنّ بقاء وقفه موجب لسلطنة الکافر الموقوف علیه، وإذا بطل وقفه یباع بثمن یصح تسلط الکافر علیه فیجعل وقفا علی هذه الطبقة وعلی من بعدها من الطبقات فلا یبقی العبد بعد اسلامه وقفا علی الطبقة الموجودة حال اسلامه حتّی ینتقل عند زوالهم إلی الطبقة اللاحقة، واما علی الثانی فالأمر أُوضح، لأنّه إذا حکم ببطلان الوقف

علی الأوّل وإخراج عین العبد عن ملک الطبقة الموجودة مع أنّه کان علی ملکهم قبل إسلامه فعدم دخوله إلی ملک الطبقة اللاحقة إذا کان إسلامه مقارنا لاضمحلال الطبقة السابقة یکون بطریق أُولی»(1).

لا یقرّ العبد المسلم علی ملک الکافر

قال الشیخ الأعظم: «لا إشکال ولا خلاف فی أنّه لا یقرّ المسلم علی ملک الکافر، بل یجب بیعه علیه؛ لقوله علیه السلام فی عبدٍ کافرٍ أسلم: «اذهبوا فبیعوه من المسلمین وادفعوا إلیه ثمنه ولا تقرّوه عنده»(2).

ومنه یعلم: أنّه لو لم یبعه باعه الحاکم، ویحتمل أن یکون ولایة البیع للحاکم مطلقا؛ لکون المالک غیر قابل للسلطنة علی هذا المال _ غایة الأمر أنّه دلّ النصّ والفتوی علی تملّکه له _ ولذا ذکر فیهما: أنّه یباع علیه(3)، بل صرّح فخرالدین قدس سره فی الإیضاح بزوال ملک السیّد عنه، ویبقی له حقّ استیفاء الثمن منه(4). وهو مخالف لظاهر النصّ والفتوی، کما عرفت»(5).

أقول: وأمّا الاحتمال المذکور فی کلامه قدس سره بالنسبة إلی و لایة الحاکم للبیع مطلقا

ص:458


1- 1 . المکاسب والبیع 2/356 و 357.
2- 2 . وسائل الشیعة 17/380، ح1، الباب 28 من أبواب عقد البیع.
3- 3 . اُنظر: الشرائع 2/10؛ والقواعد 2/17؛ والمختلف 5/59؛ والدروس 3/199؛ والروضة البهیّة 3/245 وغیرها.
4- 4 . إیضاح الفوائد 1/414.
5- 5 . المکاسب 3/596.

فمراده فی مقابل عدم امتناع الکافر من بیع العبد المسلم، حیث ذهب العلاّمة إلی تصدی الحاکم للبیع فی فرض الامتناع وقال: «ولو امتنع الکافر من البیع حیث یُؤمر باع الحاکم بثمن المثل...»(1).

ویقول فی التذکرة: «لو امتنع الکافر من إزالة الملک حیث یُؤمر، باعَهُ الحاکم بثمن المثل، ویکون الثمن للکافر، فإن لم یجد راغبا، صبر مع الحیلولة. ولو مات الکافر، أمر وارثه بما یؤمر مُورّثة»(2).

ولذا قال السیّد العاملی: «إذا عرف هذا فلو امتنع من بیعه باعه علیه الحاکم قهرا،

فلو لم یوجد راغب حیل بینهما بمسلم حتّی یوجد الراغب ونفقته علیه وکسبه له إلی حین خروجه عن ملکه کما فی نهایة الإحکام(3) والدروس(4) ونحوه ما فی التذکرة(5) وجامع المقاصد(6)»(7).

ولکن المحقّق النائینی قوّی هذا الاحتمال وقال ما نصه: «وهذا الاحتمال قَوِیٌّ جدا وذلک لأن بیعه نحو استیلاء علیه وهو منفی بعموم الآیة المبارکة، ومع الغض عنه یکون مقتضی الخبر المتقدم عدم ولایة الکافر علی بیعه، حیث قال علیه السلام : اذهبوا فبیعوه من المسلمین، ولم یقل الزموه بالبیع»(8).

وقد ناقشه المحقّق الاصفهانی رحمه الله بقوله: «ینبغی التکلم فی أنّه للمالک أنْ یباشر بیع عبده من المسلم أو لا؟ ولا مانع منه إلاّ کون سلطنته علی بیعه من مسلم سبیلاً علی

ص:459


1- 6 . القواعد 2/18.
2- 7 . التذکرة الفقهاء 10/23.
3- 1 . نهایة الإحکام 2/459.
4- 2 . الدروس 3/199.
5- 3 . تذکرة الفقهاء 10/23.
6- 4 . جامع المقاصد 4/66.
7- 5 . مفتاح الکرامة 12/579.
8- 6 . المکاسب والبیع 2/357.

المسلم فیکون منفیا، وأنّ الروایة تکفّلت لأمر المسلمین بالبیع علیه، فیعلم منها أنّه لا سلطنة له علی البیع.

ویندفع الأوّل: بأنّ السلطنة علی بیعه من مسلم سلطنة علی إزالة سبیل الکافر علی المسلم، فکیف یکون هو بنفسه سبیلاً؟! مع أنّ السبیل المنفی هو ما یکون علی المسلم ویدخل به الضرر علیه ویکون به الظفر للکافر علی المسلم، وهذا کله منتفٍ فی السلطنة علی بیعه من مسلم، فلا معارض لدلیل السلطنة فی هذا المقدار من السلطنة الثابتة للمالک بالدلیل، مع أنّ السلطنة المنفیة هو کون أمر التصرف فی العبد بیده؛ بحیث له أنْ یفعل وله أنْ لا یفعل، وهنا لیس کذلک؛ بل هو کسائر المکلفین مأمور بازالة ملکه عنه، فهو مقهور فی هذا التصرف لا مختار فتدبر.

ویندفع الثانی: بأنّ أمر المسلمین بالبیع علی الکافر محمول علی العادة؛ من عدم اقدامه علی بیع عبده وعدم اعتنائه من حیث إنّه کافر بهذا الحکم الثابت فی شریعة الإسلام، وحیث یصح منه البیع فإذا لم یقدم علی أداء هذا الواجب یجبره الحاکم من باب الأمر بالمعروف، فإذا لم یبع أو لم یمکن اجباره فهل یتعین للحاکم ثمّ لعدول المؤمنین أو

محض تکلیف لا یُشْتَرَطُ بشیء؟

ظاهر النص حیث إنّه علیه السلام أمر المسلمین بقوله علیه السلام : إذهبوا فبیعوه من المسلمین؛ وادفعوا ثمنه إلی صاحبه؛ ولا تقروه عنده، أنّه مجرد تکلیف بالبیع کالتکلیف بأداء ثمنه وکالتکلیف بعدم اقراره عنده، لا أنّه إذن منه علیه السلام بما هو ولی الأمر، وأنّه تصرف من باب الولایة لا أنّه بیان للحکم [الولائی(1)]، فإنّه خلاف الظاهر، نعم مقتضی الأصل تعین الحاکم ثمّ العدول»(2).

ثبوت الخیار للمالک الکافر وعدمه

قال العلاّمة فی القواعد: «ولو أسلم عبد الذمِّیّ طولب ببیعه أو عتقه، ویملک الثمن

ص:460


1- 1 . الزیادة منّا.
2- 2 . الحاشیة المکاسب 2/471 و 472.

والکسب المتجدّد قبل بیعه أو عتقه، فلو باعه من مسلمٍ بثوبٍ ووجد فی الثمن عیبا جاز له ردّ الثمن. وهل یستردّ العبد أو القیمة؟ فیه نظر؛ ینشأ من کون الاسترداد تملّکا للمسلم اختیارا، ومن کون الردّ بالعیب موضوعا علی القهر کالإرث، فعلی الأوّل یستردّ القیمة کالهالک، وعلی الثانی یجبره الحاکم علی بیعه ثانیا. وکذا البحث لو وجد المشتری به عیبا، وبأیّ وجهٍ أزال الملک: من البیع والعتق والهبة حصل الغرض»(1).

ولکن ذهب الشهید إلی عدم ثبوت الخیار للمالک الکافر ولا المشتری إذا یوجب رجوع العبد المسلم إلی الکافر وقال فی الحاشیة النجاریة: «ولا یثبت له خیار المجلس ولا الشرط، بل للمشتری»(2).

ولکن خالف نفسه فی الدروس وقال: «ویجری فیه أحکام العقد من الخیار والردّ بالعیب فیه أو فی ثمنه المعیّن فیُقْهر علی بیعه ثانیا»(3).

واختار المحقّق الثانی ثبوت الخیار للمالک الکافر وقال فی شرح قول العلاّمة فی القواعد: «فلو باعه من مسلم بثوب ووجد فی الثوب عیبا، جاز له رد الثمن»، «أی: للکافر، لأن إلزامه بِالرِّضا بالعیب تخسیر، وقد یعلم من هذا ثبوت أحکام الخیار اللاحق للعقد بأنواعه، کما نبّه علیه فی الدروس(4)، وهو الوجه، لأن العقد لا یخرج عن مقتضاه بکون

المبیع عبدا مسلما لکافر، لانتفاء المتقضی، لأن نفی السبیل لو اقتضی ذلک بمجرده لاقتضی خروجه عن الملک بالإسلام.

فعلی هذا لو کان البیع معاطاة فهی علی حکمها، ولو أخرجه عن ملکه بالهبة جرت فیه أحکامها، نعم لا یبعد أن یقال: للحاکم إلزامه باسقاط نحو خیار المجلس، أو مطالبته بسبب ناقل یمنع الرجوع، إذا لم یلزم منه تخسیر المال.

قوله: «وهل یسترد العبد أو القیمة؟ فیه نظر، ینشأ من کون الاسترداد تملکا

ص:461


1- 3 . القواعد 2/17 و 18.
2- 4 . الحاشیة النجاریة /220.
3- 5 . الدروس 3/199.
4- 6 . الدروس 3/199.

للمسلم اختیارا».

لیس هذا الوجه بشیء، لأن الثمن المعین إذا ردّه انفسخ العقد، فیعود العبد إلی الکافر، لامتناع بقاأ ملک بغیر مالک، وامتناع کون الثمن والمبیع معا ملکا للمشتری، وهذا قهری، فأین التملک الاختیاری الذی ادّعی؟ والثانی أصح، فیجبره الحاکم علی بیعه ثانیا.

قوله: «وبأیّ وجه أزال الملک، من البیع والعتق والهبة حصل الغرض».

ومثله الصلح، لکن ینبغی تقیید الهبة باللازمة»(1).

ویظهر من الشیخ الأعظم عدم ثبوت الخیار للکافر ولا علیه قال: «وکیف کان، فإذا تولاّه المالک بنفسه، فالظاهر أنّه لا خیار له ولا علیه، وفاقا للمحکیّ عن الحواشی فی خیار المجلس والشرط؛ لأنّه إحداث ملک فینتفی؛ لعموم نفی السبیل؛ لتقدیمه علی أدلّة الخیار کما یقدّم علی أدلّة البیع.

ویمکن أن یبتنی علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل، أو کالذی لم یعد(2)؟ فإن قلنا بالأوّل، ثبت الخیار؛ لأنّ فسخ العقد یجعل الملکیّة السابقة کأن لم تزل، وقد أمضاها الشارع وأمر بإزالتها، بخلاف ما لو کان الملکیّة الحاصلة غیر السابقة، فإنّ الشارع لم یمضها. لکن هذا المبنی لیس بشیء؛ لوجوب الاقتصار فی تخصیص نفی السبیل علی

المتیقّن.

نعم، یحکم بالأرش لو کان العبد أو ثمنه معیبا.

ویشکل فی الخیارات الناشئة عن الضرر؛ من جهة قوّة أدلّة نفی الضرر، فلا یبعد

ص:462


1- 1 . جامع المقاصد 4/65 و 66.
2- 2 . ثمّ إنّ هذه القاعدة وما یتفرع علیها من فروع _ کالفسخ بالخیار _ نقلها الشهید قدس سره فی القواعد، ولم یظهر منه ترجیح أحد الاحتمالین، فقال: «طریان الرافع للشیء هل هو مبطل له، أو بیان لنهایته؟ ... وقد یعبّرُ عنها بأنّ الزائل العائد هل هو کالذی لم یزل؟ أو کالّذی لم یعد، فإنّ القائل بأنها کالذی لم یزل یجعل العود بیانا لاستمرار الحکم الأوّل، والقائل بأنّها کالذی لم یعد یقول برفع الحکم الأوّل بالزوال، فلا یرجع حکمه بالعود». [القواعد والفوائد 1/268، القاعدة 85].

الحکم بثبوت الخیار للمسلم المتضرّر من لزوم البیع، بخلاف ما لو تضرّر الکافر، فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من کفره الموجب لعدم قابلیّته تملّک المسلم إلاّ فیما خرج بالنصّ.

ویظهر ممّا ذکرنا، حکم الرجوع فی العقد الجائز، کالهبة»(1).

ثمّ تنظّر فی ما ذکره المحقّق الثانی بقوله: «لأنّ نفی السبیل لا یخرج منه إلاّ الملک الابتدائی [القهری کالإرث] وخروجه لا یستلزم خروج عود الملک إلیه بالفسخ، واستلزام البیع للخیارات لیس عقلیا، بل تابع لدلیله الذی هو أضعف من دلیل صحّة العقد الذی خصّ بنفی السبیل، فهذا أولی بالتخصیص به، مع أنّه علی تقدیر المقاومة یرجع إلی أصالة الملک وعدم زواله بالفسخ والرجوع، فتأمّل.

وأمّا ما ذکره أخیرا بقوله: «لا یبعد» ففیه: أنّ إلزامه بما ذکر لیس بأولی من الحکم بعدم جواز الرجوع، فیکون خروج المسلم من ملک الکافر إلی ملک المسلم بمنزلة التصرّف المانع من الفسخ والرجوع»(2).

ثمّ تأمّل فی ما ذکره العلاّمة فی القواعد وأحال وجه تأمله بما ذکره فی نقد المحقّق الثانی واستثنی: «إلاّ أن یقال: إنّ مقتضی الجمع بین أدلّة الخیار، ونفی السبیل: ثبوت الخیار والحکم بالقیمة، فیکون نفی السبیل مانعا شرعیّا من استرداد المثمن [وهو العبد المسلم هنا]، کنقل المبیع فی زمن الخیار، وکالتلف الذی هو مانع عقلیّ.

وهو [أی الجمع بین أدلة الخیار ونفی السبیل] حسنٌ إن لم یحصل السبیل بمجرّد استحقاق الکافر للمسلم المنکشف باستحقاق بدله؛ ولذا حکموا بسقوط الخیار [أی خیار المجلس مطلقا] فی من ینعتق علی المشتری(3)، فتأمّل(4)»(5).

ص:463


1- 1 . المکاسب 3/597.
2- 2 . المکاسب 3/598.
3- 3 . راجع: تذکرة الفقهاء 11/10؛ جامع المقاصد 4/287؛ حاشیة الارشاد /388، المطبوعة فی ضمن المجلد التاسع من حیاة المحقّق الکرکی وآثاره؛ غایة المرام 2/43؛ المسالک 3/212؛ مجمع الفائدة والبرهان 8/389 و 390؛ مفتاح الکرامة 14/157؛ والجواهر 24/31 (23/18)؛ ونسب فی الحدائق 19/16 سقوط خیار المشتری إلی المشهور.
4- 4 . لعلّه إشارة إلی أنّ دلیل خیار المجلس قاصر عن شموله لهذا المورد لأنّ بمجرد حصول الملکیة بالبیع ینعتق العبد علی المشتری فلا تبقی الملکیة إلی زمن الافتراق حتّی یجری الخیار. [المؤلِّف].
5- 5 . المکاسب 3/599.

وقال المحقّق النائینی: «وکیف کان فالکلام یقع تارة فیما إذا تولاه المالک بنفسه، وأُخری فیما یتولاه الحاکم.

أمّا الأوّل: فقد اختلف فی ثبوت الخیار مطلقا فی بیع المالک إیّاه أو عدم ثبوته مطلقا، أو التفصیل بین الخیارات الثابتة بجعل الشارع کخیار المجلس أو بجعل المتعاملین کخیار الشرط وبین الخیارات الثابتة بدلیل نفی الضرر کخیار الغبن، بالقول بانتفاء الأوّل وثبوت الثانی لو کان الضرر علی المسلم دون الکافر، والقول بالتفصیل بین البناء علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد، فیقال بثبوت الخیار علی الأوّل وعدم ثبوته علی الثانی، علی أقوال واحتمالات اردئها الأخیر، وذلک لأنّ مسئلة أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد مع أنّها لا أساس لها فی موردها غیر منطبقة علی المقام.

وتوضیح ذلک أنّ مورد هذا الکلام إنّما هو فیما إذا باع البائع مثلاً شیئا ببیع خیاری ثمّ قبل أنْ یقع منه الفسخ باع المشتری الذی اشتراه منه بالبیع الخیاری من ثالث فزال عن ملک المشتری فما دام أنّها لم یعد إلی ملک المشتری لیس للبائع الرجوع إلی العین، بل لو اختار الفسخ فلابدّ أن یرجع إلی المشتری ببدله من المثل أو القیمة، وإذا عاد عن ملک الثالث إلی ملک المشتری فیقال بابتناء رجوع البائع إلی العین بعد العود إلی المشتری علی أنّ الزائل العائد کأنّه لم یزل فیصح رجوعه إلیه، أو کأنّه لم یعد فلا یصح، فقیل بالأوّل وقیل بالثانی وفصل ثالث بین ما إذا کان عوده بفسخ العقد الواقع بینهما فیکون کأنّه یزل فإنّ المشتری حینئذٍ یتملکه بالملک السابق وبین ما إذا کان بعقد جدید فیکون کأنّه لم یعد لأنّ تلک الملکیة جدیدة حدثت بالعقد الجدید وکیف کان فمورد هذا الکلام لابدّ أن یکون نظیر هذا المثال وما نحن فیه أجنبی عنه، إذ لیس فی المقام عود حتّی نقول أنّه کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد، بل الکلام فی أصل صحة العود وأنَّ الزائل عن ملک الکافر بالبیع هل یصح أن یعود إلیه أو لا، ولیس عود حتّی نقول أنّه

ص:464

کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد.

وأمّا الخیارات الناشئة عن الضرر فاعلم أنّ فیها مسلکین:

أحدهما: أنّ دلیل نفی الضرر بنفسه موجب لثبوت الخیار.

وثانیهما: أنّ المنشأ للخیار هو تخلف الشرط الضمنی وأنّ دلیل نفی الضرر یقتضی ثبوت الخیار بواسطة تخلفه.

وحیث أنّ المسلکین متفاوتان فی الحکم فینبغی أنْ نتکلم علی کلِّ مسلکٍ علی حدة فنقول:

أمّا علی المسلک الأوّل: فإمّا أن یکون الضرر علی الکافر البائع أو علی المشتری المسلم، فقد یقال بالتفصیل بینهما بالخیار للثانی دون الأوّل، أمّا عدم الخیار للأوّل فلأنَّ الضرر ینشأ من سوء اختیار الکافر للکفر، ودلیل نفی الضرر لا ینفی ما کان من الضرر بالاختیار، وأمّا ثبوت الخیار إذا کان الضرر علی المشتری المسلم فلأن دلیل نفی السبیل وإن کان حاکما علی أدلة الأحکام، لکن لا حکومة له علی دلیل نفی الضرر لکونه أیضا مثل دلیل نفی السبیل فی حکومته علی أدلة الأحکام، فیکونان فی درجة واحدة، نظیر أدلة نفی الحرج مع دلیل نفی الضرر حیث لا حکومة لأحدهما علی الآخر فلا یقدم دلیل نفی السبیل علی دلیل نفی الضرر وإن کان یقدم علی الدلیل المثبت لخیار المجلس ونحوه ممّا کان ثابتا بأصل الشرع أو بجعل المتعاملین بل یقدم دلیل نفی الضرر علیه لقوته، هذا محصل هذا التفصیل.

ولا یخفی ما فیه أیضا: لأنّ قوة دلیل نفی الضرر توجب تقدیمه علی دلیل نفی السبیل لو کان دلیل نفیه قابلاً للتخصیص، وأمّا مع عدم قبوله له کما تقدم فیجب تخصیص دلیل نفی الضرر به لقابلیته للتخصیص، بل وقوع التخصیص علیه بدرجة قیل باحتیاجه إلی الجابر لو اُرید العمل به، وهذا القول وإن کان فاسدا لما حققناه فی محلِّه مِنْ أنَّ ما توهم خروجه عن عمومه لیس بالتخصیص بل إنّما هو بالتخصص، لکن أصل إمکان إیراد

ص:465

التخصیص علیه ووروده فی الجملة ممّا لا یقبل المنع، وعلیه فیجب تخصیص دلیل نفی الضرر بدلیل نفی السبیل فتحصّل ممّا ذکرناه سقوط التفصیل بین الخیارات الأصلیة وبین الخیارات الناشئة عن عموم نفی الضرر بتوهم سقوط الأوّل لأجل حکومة دلیل نفی السبیل علی الأدلة المثبتة للخیارات الأصلیة وثبوت الثانی لعدم حکومة دلیل نفی السبیل علی عموم دلیل نفی الضرر وتقدم دلیل نفی الضرر علی دلیل نفی السبیل لقوة دلیله.

ومنه یظهر سقوط التفصیل بین الخیار الناشی من ضرر المشتری المسلم وبین

الخیار الناشیء من ضرر البائع الکافر بثبوت الخیار فی الأوّل لأجل قاعدة نفی الضرر وعدم ثبوته فی الثانی بالمنع عن شمول القاعدة له لکون الکافر باختیاره الکفر مقدما علی الضرر.

ووجه سقوطه: هو عدم عموم القاعدة للضرر المترتب علی المشتری المسلم بعد تخصیصها بدلیل نفی السبیل فیکون الضرران أعنی ما یترتب علی المشتری وما یترتب علی البائع سواء فی خروجهما عن عموم قاعدة الضرر، ومع الغض عن ذلک فلا وجه لهذا التفصیل إذ الخارج عن القاعدة هو ما کان الإقدام علی نفس الضرر کالإقدام علی المعاملة الغبنیة مع العلم بالغبن لا الاقدام علی شیء آخر یترتب علیه الضرر کالاقدام علی الکفر فی المقام، فالاقدام علی الکفر لیس اقداما علی الضرر مثل الاقدام علی المعاملة الغبنیة مع العلم بالغبن کما لا یخفی.

فهذه التفاصیل الثلاثة أعنی التفاصیل بین الخیار الأصلی والخیار الضرری، والتفصیل فی الخیار الضرری بین ضرر المسلم وضرر الکافر، وابتناء المسئلة علی أنّ الزائل العائد کالذی لم یزل أو کالذی لم یعد کلّها ساقطة.

بقی من الوجوه المحتملة ثلاثة وجوه:

الأوّل: احتمال سقوط جمیع الخیارات مطلقا سواء کان الخیار أصلیا أم جعلیا أم ناشئا من دلیل نفی الضرر.

الثانی: احتمال ثبوت الجمیع مطلقا فیکون بیع الکافر کبیع المسلم فیما له من

ص:466

الأحکام، وهذا هو المنقول عن جامع المقاصد.

الثالث: سقوط الخیارات بالنسبة إلی العین فلا یجوز للکافر استرداد العین بالفسخ مطلقا سواء کان العقد لازما أو کان جائزا، کان الخیار فی العقد اللازم أصلیا أو جعلیا أو ناشئا من دلیل نفی الضرر، ویجوز له الرجوع إلیه بالقیمة هذا.

وأقوی الاحتمالات هو الأوّل وذلک لأنّه قد تبیّن فیما تقدَّم أنّ الدلیل علی فساد بیع المسلم من الکافر حسبما حررناه کان هو الخبر المتقدم(1) بالتقریب الذی عرفت من کون النهی فی قوله علیه السلام : لا تقرّوه، راجعا إلی مرحلة المسبب(2)، وبعد الغاء خصوصیة حالة

البقاء التی هی مورد الخبر یستفاد مبغوضیة المعنی المسببی بقاءً وحدوثا، والنهی الراجع إلی مرحلة المسبب حدوثا یدل علی الفساد فیدل علی فساد البیع من الکافر، ولا فرق فی مغبوضیة المسبَّب بین أسبابه، فلا فرق حینئذٍ بین البیع والصلح وغیرهما فکلّما کان سببا لذلک المسبب المنهی عنه یکون النهی عنه کاشفا عن عدم تأثیر السبب ولو کان إیقاعا لا عقدا، فالفسخ فاسد لکونه إنشاء حلّ العقد ومن الإیقاعات ویکون سببا للملکیة، وإذا کانت الملکیة المسببة عنه منهیا عنها کان النهی عنها کاشفا عن فساد سببها فالفسخ فاسد غیر مؤثر فی ارتجاع الملکیة ومع عدم تأثیره لا یکون الخیار ثابتا إذ معنی الخیار هو ملک الفسخ ومع عدم تأثیر الفسخ فلا ملک علیه، فجمیع الخیارات ساقطة بدلیل واحد وهو الدلیل الدال علی مبغوضیة ملکیة الکافر للعبد المسلم.

وبهذا الدلیل تسقط التفاصیل المتقدمة أیضا حتّی التفصیل بین العین والبدل، وتوضیحه: إنّ مورد الرجوع إلی المثل أو القیمة بعد تعذّر ردّ العین إنّما هو فیما إذا کان الرجوع إلی العین جائزا بسبب الفسخ وکان تسلیم العین متعذرا بواسطة التلف أو ما بحکمه فإنّه حینئذ ینتقل إلی البدل من القیمة أو المثل سواءً قلنا بأنّ الفسخ عبارة عن حلِّ العقد الموجب لرجوع العین إلی ما انتقل عنه أو قلنا أنّه ارتجاع للعین المستلزم لحلِّ

ص:467


1- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1.
2- 2 . وهی تبادل الاضافتین المتحقّق باعتبار الطرفین وانشائهما ویکون أمرا باقیا فی عالم الاعتبار ما لم یتعقبه الفسخ من ذی الخیار أو الإقالة کما مرّت فی الآراء الفقهیة 1/11.

العقد، غایة الأمر أنّه بناءً علی الأوّل یکون انتهاء الأمر إلی البدل فی رتبة ثالثة حیث لابدّ أوّلاً من حل العقد لکی یترتب علیه رجوع العین إلی ما انتقل عنه وبعد الارتجاع إلیه وکونها متعذّرة ینتقل إلی البدل، وعلی الثانی فی رتبة ثانیة حیث أنّه بعد ارتجاع العین بالفسخ ینتقل إلی البدل، وعلی کلِّ تقدیرٍ لابدَّ من الرجوع إلی العین أوّلاً حتّی ینتهی بعد تعذّر تسلیمه إلی البدل والمفروض فی المقام امتناع الرجوع إلی العین لما استفید من الدلیل بالتقریب المتقدم، فلا موقع للرجوع إلی البدل.

وبعبارة أُوضح: الرجوع إلی البدل إنّما یکون عند امتناع تسلیم العین بعد الفراغ عن الرجوع إلیه الذی هو فی ظرف إمکان الرجوع إلیه، والممتنع فی المقام هو الرجوع إلی العین ومع امتناع الرجوع إلیه فلا تنتهی النوبة إلی بدلها الذی کان بعد الفراغ عن الرجوع إلیها، وهذا ظاهرٌ جدا، فالتحقیق هو سقوط جمیع الخیارات مطلقا، ولو کانت من الخیارات الضرریة وأنّ التفاصیل المتقدمة کلَّها ممنوعةٌ.

هذا علی ما سلکه المُصَنِّفُ [الشیخ الأعظم] قدس سره من جعل الخیار فی بعض

المقامات مثل خیار الغبن ناشئا من نفی الضرر، وأمّا علی ما هو المختار عندنا من کون المنشأ فی أمثال هذه المقامات هو تخلّف الشرط الضمنی وأنّ دلیل نفی للضرر بنفسه لا یکون متکفلاً لإثبات الخیار فی الغبن وإنْ کان یصح الاستدلال به بعد جعل الملاک هو تخلف الشرط، فالأمر فی بطلان التفصیل أوضح ضرورة أنّه لا یبقی حینئذٍ خیار ناشٍ عن دلیل نفی الضرر فیصیر من الخیارات الأصلیة التی لا اشکال فی حکومة دلیل نفی السبیل علی أدلتها کسائر الأدلة التی هی محکومة بدلیل نفیه من غیر إشکال کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی الفسخ، ومنه یظهر عدم جواز الردّ بسبب العیب أیضا، نعم لا بأس بالأرش حیث أنّه لا مانع منه بعد سقوط الردّ.

هذا کلُّه فیما إذا کان الکافر هو بنفسه متولِّیّا للبیع، وأمّا إذا کان المتولی هو الحاکم کما قلنا أنّه وظیفة له علی ما یستفاد من قوله علیه السلام : فبیعوه(1)، فلا خیار أیضا فإنَّ مقتضی

ص:468


1- 1 . وسائل الشیعة 17/380، ح1.

الخیار هو ارتجاع العین إلی من انتقل إلیه بعد الأخذ بالخیار، والمفروض عدم إمکان رجوع العین إلی الکافر، ولا یعقل القول بصحة الفسخ والالتزام بعدم رجوع العوضین إلی من انتقلا عنه بل برجوعهما إلی ثالث أجنبی لکونه خارجا عن حقیقة الفسخ الذی هو حلُّ العقد، فکما أنّ مقتضی العقد هو خروج المال عمّن انتقال عنه کذلک یکون مقتضی الفسخ دخوله فی ملکه وعوده إلیه بالملکیّة السابقة بعد جعل العقد کأنْ لم یکن بسبب الفسخ»(1).

أقول: لو تمت أدلة حُرْمَةِ بیع العبد المسلم للکافر وفسادها، وتمّ احتمال تولّی الحاکم لبیع العبد المسلم، تمت مقالة المحقّق النائینی قدس سره ومع المناقشة فیهما کما عرفت وأنّهما لم یتما، فیکون المختار جریان الخیارات فی البیع المذکور بأقسامها کما علیه العلاّمة والشهید فی الدروس والمحقّق الثانی واللّه العالم.

ص: 469


1- 2 . المکاسب والبیع 2/(363-358).

مسألة: حکم نقل المصحف إلی الکافر

قد بحثنا عن هذه المسألة فی المسألة الأُولی: بیع المصحف من خاتمة المکاسب المحرّمة(1)، فی الفرع الرابع من الفروع التی الحقتُها بالبحث وقد ناقشنا أدلة حرمة هذا البیع وفسادها والفروع الملحقة بها فلا نعیدها فإن شئت فَراجِعْ «هذا کِتابُنا یَنْطِقُ عَلَیْکُمْ بِالْحَقِّ»(2) واللّه العالم.

إلی هنا تم الکلام فی شرائط المتعاقدین وبه تمّ الجزء الرابع من قسم البیع من کتابنا الآراء الفقهیة فی یوم الخمیس غرّة شَهْرِ ربیعٍ الآخر 1436 علی ید مؤلِّفه العبد هادی النجفی ببلدة إصفهان صانها اللّه تعالی عن طوارق الحدثان وسائر بلاد المسلمین.

والحمدللّه أوّلاً وآخرا وظاهرا وباطنا وصلّی اللّه علی سیّدنا محمّد وآله الأئمة الهداة الطیّبین الطاهرین المعصومین لا سیّما خاتمهم الإمام المنتظر الحجة الثانیعشر المهدی الموعود _ عجل اللّه تعالی فرجه الشریف _ وجعلنا من خدّامه والمستشهدین بین یدیه. وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمین.(3)

ص: 470


1- 1 . راجع: الآراء الفقهیة قسم المکاسب المحرمة 3/(292-283).
2- 2 . سورة الجاثیة /29.
3- 3 . وقد تم تصحیح هذه الاوراق علی یدّ مؤلِّفها فی صبیحة یوم الخمیس عید الأضحی 1436 ببلدة اصفهان والحمد للّه أوّلاً وآخرا.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.