البضاعةالمزجاة: شرح كتاب الروضه من الكافي المجلد 2

هویة الکتاب

سرشناسه : قارياغدي، محمدحسين، توشيحگر

عنوان قراردادي : الكافي. روضه. شرح

عنوان و نام پديدآور : البضاعةالمزجاة: شرح كتاب الروضه من الكافي/ محمدحسين قارياغدي ؛ تحقيق حميد الاحمدي الجلفائي.

مشخصات نشر : قم: موسسه دارالحديث العلميه والثقافيه، مركز للطباعه والنشر؛ تهران: كتابخانه٬ موزه و مركز اسناد مجلس شوراي اسلامي،1430ق.= 1388 -

مشخصات ظاهري : ج.

فروست : الشروح والحواشي علي الكافي؛ 14.

مركز بحوث دارالحديث؛ 156.

مجموعه آثارالموتمرالدولي الذكري ثقةالاسلام الكليني(ره)؛ 24 ، 25

شابك : دوره: 978-964-493-329-5 ؛ 70000 ريال: ج. 1 : 978-964-493-319-6

يادداشت : عربي.

يادداشت : كتاب حاضر شرحي بر كتاب "اصول الكافي" تاليف "محمدبن يعقوب كليني" است.

يادداشت : كتابنامه.

عنوان ديگر : شرح كتاب الروضه من الكافي.

موضوع : كليني، محمد بن يعقوب - 329ق. . الكافي. روضه -- نقد و تفسير

موضوع : احاديث شيعه -- قرن 4ق.

شناسه افزوده : احمدي جلفايي، حميد، 1357 -

شناسه افزوده : كليني، محمد بن يعقوب - 329ق. . الكافي. روضه. شرح

شناسه افزوده : ايران. مجلس شوراي اسلامي. كتابخانه، موزه و مركز اسناد

شناسه افزوده : دار الحديث. مركز چاپ و نشر

رده بندي كنگره : BP129/ك8ك240216 1388

رده بندي ديويي : 297/212

شماره كتابشناسي ملي : 1852989

ص: 1

اشاره

مرکز البحوث

موسسة دارالحديث العلمیة الثقافیة

ص: 2

البضاعَةُ الْمُزْجَاةُ

(شرح کتاب الروضة من الكافي)

مُحَمَّدْ حُسَيْنُ بْنُ قَارُ يَا غَدِي

(م 1089 ق.)

المجلد الثانی

تَحْقِيقُ

حَمِيدِ الْأَحْمَدِي الْجُلْفَائِيِّ

مجموعة آثار المؤتمر الدولي لذكرى الشيخ ثقة الإسلام الكليني - ٢٤

ص: 3

البضاعة المزجاة /

محمد حسين بن قارياغدي

تحقيق : حميد الأحمدي الجلفائي

الإخراج الفنى : محمد كريم صالحي ، مجيد بابكي

الناشر : دار الحديث للطباعة والنشر

الطبعة : الأولى ، ١٤٢٩ ق / ١٣٨٧ ش

المطبعة : دار الحديث

الكمية : ؟؟؟؟

الثمن : ؟؟؟؟

دار الحديث للطباعة والنشر

مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية

دارالحديث للطباعة والنشر : قم ، شارع معلّم ، قرب ساحة الشهداء ، الرقم ١٢٥

الهاتف : ٠٢١٧٧٤١٦٥٠ - ٠٢٥١٧٧٤٠٥٢٣ ص ب : ٤٤٦٨ / ٣٧١٨٥

hadith@hadith.net

http://www.hadith.net

ص: 4

ص: 1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

متن الحديث الثامن والعشرين

اشارة

[بسم اللّه الرحمن الرحيم]

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ مَوْلًى لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام سَأَلَهُ مَالاً، فَقَالَ: يَخْرُجُ عَطَائِي، فَأُقَاسِمُكَ هُوَ. فَقَالَ: لَا أَكْتَفِي، وَخَرَجَ إِلى مُعَاوِيَةَ، فَوَصَلَهُ، فَكَتَبَ إِلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يُخْبِرُهُ بِمَا أَصَابَ مِنَ الْمَالِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام :

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَا فِي يَدِكَ مِنَ الْمَالِ قَدْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ قَبْلَكَ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلى أَهْلِهِ (1) بَعْدَكَ، وَإِنَّمَا لَكَ مِنْهُ مَا مَهَّدْتَ لِنَفْسِكَ، فَآثِرْ نَفْسَكَ عَلى صَلَاحِ وُلْدِكَ، فَإِنَّمَا أَنْتَ جَامِعٌ لأحَدِ رَجُلَيْنِ: إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللّهِ، فَسَعِدَ (2) بِمَا شَقِيتَ بِهِ (3) ، وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللّهِ فَشَقِيَ (4) بِمَا جَمَعْتَ لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ هذَيْنِ أَحَدٌ بِأَهْلٍ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلى نَفْسِكَ، وَلَا تُبَرِّدَ لَهُ عَلى ظَهْرِكَ، فَارْجُ لِمَنْ مَضى رَحْمَةَ اللّهِ، وَثِقْ لِمَنْ بَقِيَ بِرِزْقِ اللّهِ».

شرح الحديث

السند مرسل، أو ضعيف .

قوله عليه السلام : (يخرج عطائي) ؛ لعلّ إضافة العطاء إلى نفسه بأدنى ملابسة . والمراد بالخروج الحصول والوصول .

ص: 5


1- .في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والبحار، ج 41 ، ص 117: «أهل» .
2- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فيسعد».
3- .في النسخة: «به» مرمّز ب «خ»، ولم يرد في الطبعتين.
4- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فيشقى».

(فاُقاسمك هو) .

يُقال : قاسمه الشيء، إذا أخذ كلّ قِسمةٍ . والضمير المرفوع نائب مناب المنصوب، ومرجعه العطاء ، وقيام بعض الضمائر مقام بعض شائع ذائع ، وصرّح بجوازه أهل العربيّة ، وبهذا ظهر فساد ما قيل من أنّ الظاهر : «فاُقاسمك»، ولعلّه تصحيف . (1) انتهى .

وقوله : (فوصله) أي أعطاه مالاً .

وقوله : (مهّدتَ) .

في الصحاح: «تمهيد الأمر: إصلاحهُ» . (2)

وقوله : (فآثر نفسك) بمدّ الألف، من الإيثار، وهو الاختيار ؛ أي اختر صلاح نفسك في كسب المال وجمعه وإنفاقه .

(على صلاح وُلدك) .

فلا تتجاوز في كسبه وجمعه حدّ الاقتصاد، وما تعيش به في حياتك؛ فإنّك إن جمعته لهم ، (فإنّما أنت جامع) ما جمعته من المال (لأحد رَجلين) أي لأحد صنفين من أصناف الوَرَثَة. وهذا كالتعليل للإيثار .

(إمّا رجل) بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف ؛ أي أحدهما رجل. وجرّه على أنّه بدل تفصيليّ من «رجلين» احتمال .

وعلى التقديرين كلمة «إمّا» هذه ليست بعاطفة، بل جيء بها للتنبيه على الشكّ في أوّل الكلام؛ إذ لو كانت عاطفة لما تقدّمت على المعطوف، وإنّما العاطفة «إمّا» الثانية .

وأنكر بعض النحاة كون الثانية أيضا للعطف؛ مستدلّاً بدخول الواو العاطفة عليها ، فلو كانت هي أيضا للعطف يلزم إيراد عاطفين معا، فيكون أحدهما لغوا .

واُجيب بأنّ الواو الداخلة على «إمّا» الثانية لعطفها على «إمّا» الاُولى، وإمّا الثانية لعطف ما بعدها على ما بعد الاُولى، ففيها فائدة اُخرى .

ص: 6


1- .الظاهر أنّ الشارح رحمه الله قد أشار بهذا إلى قول العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 169 ، لكن أخطأ في ذلك ؛ لأنّ ما أثبت العلّامة رحمه الله في المتن هو : «فاُقاسمك» ، ثمّ استظهره «فاُقاسمكه» واحتمل أنّه تصحيف . ويحتمل أنّ الشارح رحمه الله قد رأى في نسخة من المرآة _ التي كانت عنده _ كما نقله ، واللّه العالم .
2- .الصحاح ، ج 2 ، ص 541 (مهد) مع اختلاف في الألفاظ .

(عمل فيه) أي فيما جمعت له .

(بطاعة اللّه ) ؛ بإنفاقه فيها .

(فسعد بما شقيت به) . (1)

الباء في الموضعين للسببيّة . أمّا سعادة ذلك الرجل فلأنّه أصاب مالاً بلا كسب ومشقّة وكدٍّ، وهو سعادة الدنيا؛ وأنفقه في الطاعة، وهو سعادة العُقبى؛ فجمع به بين السعادتين . وأمّا شقاء مَن جَمَع له فظاهرٌ إن جَمَع من الحرام، أو من الحلال ولم يخرج حقوقه، بل وإن أخرجها أيضا؛ لأنّه ضيّع أوقاته في جمع ما لا حاجة له إليه، ويرى ثوابه في ميزان غيره مع ما له من العقاب على بعض الوجوه .

وقوله : (وليس من هذين) أي من ذينك الرجلين .

(أحدٌ بأهل أن تؤثره على نفسك) ؛ كأنّه ناظر إلى الأوّل من شقّي الترديد .

وقوله : (ولا تُبرّد له على ظَهرك) ناظر إلى الثاني منهما .

قال الجوهري : البرد: نقيض الحرّ. وقد برد الشيء _ بالضمّ _ وبردته أنا، فهو مبرود. وبرّدته تبريدا . ولا يُقال: أبردته إلّا في لغةٍ رديئة. وسقيته شربةً بردتُ فؤاده، تبرده بَرْدا . وقولهم : لا تبرد عن فلان ؛ أي إن ظلمك فلا تشتمه، فتنقص من إثمه . ويقال : ما برد لك على فلان ؛ أي ما ثبت ووجب. وبرد لي عليه كذا من المال، ولي عليه ألفٌ بارد، وسموم بارد؛ أي ثابت لا يزول . (2)

وفي القاموس: «عيشٌ باردٌ؛ أي هنيء» . (3)

وفي النهاية : «الصوم في الشتاء غنيمة باردة ؛ أي لا تعب فيه ولا مشقّة، وكلّ محبوب عندهم بارد» انتهى . (4)

والظاهر أنّ «لا تبرّد» عطف على «تؤثره». و«لا» مزيدة لتأكيد النفي .

قيل : والمعنى: ليس أحد هذين بأهل أن تثبت له مالاً أو ثِقلاً أو وزرا على ظهرك . (5) وكأنّ

ص: 7


1- .في كلتا الطبعتين ومعظم نسخ الكافي : _ «به».
2- .الصحاح ، ج 2 ، ص 445 و 446 (برد) مع تلخيص .
3- .القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 277 (برد) .
4- .النهاية ، ج 1 ، ص 115 (برد) .
5- .قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 404 .

مراد هذا القائل أنّ «لا تبرّد» من البرد بمعنى الثبوت والوجوب والغنيمة الثابتة المستقرّة .

وأنت خبير بعد ما تلونا عليك من كلام أهل اللغة أنّ البرد بهذا المعنى لازم، وتوجيه هذا القائل إنّما يصحّ على تقدير كونه متعدّيا، وليس، فليس. فالصواب أن يُراد بالبرد أو التبريد إيصال الخفض والدعة وإزالة المشقّة ؛ يعني لا تحمل له على ظهرك التعب والمشقّة ، وتوريثه ليستريح هو، ويحصل لك مع المشقّة في الدنيا العقوبة في العقبى.

وفي نهج البلاغة: «ولا [أن] تحمل له على ظهرك». وفي بعض نسخه: «وتحمل» بدون «لا». (1) قال بعض شارحيه: «لا تحمل، عطف على «تؤثره»؛ أي وأن لا تحمل ثقلاً لأجله على ظهرك». (2) (فارجُ لمن مضى) من أولادك، أو مطلق أقاربك. (رحمة) نصب على المفعول من «ارج». وقوله: (ثِق) أمر من الوثوق، وهو الإتيان والاعتماد.

متن الحديث التاسع والعشرين (كلام عليّ بن الحسين عليه السلام )

اشارة

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى؛ وَ (3) عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ غَالِبٍ الْأَسَدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ:

كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَعِظُ النَّاسَ، وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي أَعْمَالِ الْاخِرَةِ بِهذَا الْكَلَامِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَحُفِظَ عَنْهُ، وَكُتِبَ، كَانَ يَقُولُ:

«أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَتَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرا، «وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ» . (4)

وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ الْغَافِلَ، وَلَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ! يَا (5) ابْنَ آدَمَ إِنَّ أَجَلَكَ أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَيْكَ، قَدْ أَقْبَلَ

ص: 8


1- .اُنظر : نهج البلاغة ، ص 549 ، الكلام 416 .
2- .نقله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 404 و 405، ولم نعثر على قائله.
3- .في السند تحويل بعطف طبقتين على طبقتين .
4- .آل عمران (3) : 30 .
5- .في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها و شرح المازندراني والأمالي للصدوق ، ص 503 ، المجلس 76 ، ح 1 : _ «يا» .

نَحْوَكَ حَثِيثا يَطْلُبُكَ، وَيُوشِكُ أَنْ يُدْرِكَكَ، وَكَأَنْ قَدْ أَوْفَيْتَ أَجَلَكَ، وَقَبَضَ الْمَلَكُ رُوحَكَ، وَصِرْتَ إِلى قَبْرِكَ وَحِيدا، فَرَدَّ إِلَيْكَ فِيهِ رُوحَكَ، وَاقْتَحَمَ عَلَيْكَ (1) مَلَكَانِ: نَاكِرٌ وَنَكِيرٌ ؛ لِمُسَاءَلَتِكَ، وَشَدِيدِ امْتِحَانِكَ.

أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ مَا يَسْأَلَانِكَ عَنْ رَبِّكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْبُدُهُ، وَعَنْ نَبِيِّكَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكَ، وَعَنْ دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ تَدِينُ بِهِ، وَعَنْ كِتَابِكَ الَّذِي كُنْتَ تَتْلُوهُ، وَعَنْ إِمَامِكَ الَّذِي كُنْتَ تَتَوَلَاهُ، ثُمَّ عَنْ عُمُرِكَ فِيمَا كُنْتَ (2) أَفْنَيْتَهُ، وَمَالِكَ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبْتَهُ، وَفِيمَا (3) أَنْفَقْتَهُ، فَخُذْ حِذْرَكَ، وَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، وَأَعِدَّ الْجَوَابَ قَبْلَ الأْتِحَانِ وَالْمُسَاءَلَةِ وَالأْتِبَارِ؛ فَإِنْ تَكُ مُؤْمِنا عَارِفا بِدِينِكَ ، مُتَّبِعا لِلصَّادِقِينَ ، مُوَالِيا لِأَوْلِيَاءِ اللّهِ، لَقَّاكَ اللّهُ حُجَّتَكَ، وَأَنْطَقَ لِسَانَكَ بِالصَّوَابِ، وَأَحْسَنْتَ الْجَوَابَ، وَبُشِّرْتَ بِالرِّضْوَانِ وَالْجَنَّةِ مِنَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَقْبَلَتْكَ الْمَلَائِكَةُ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذلِكَ تَلَجْلَجَ لِسَانُكَ، وَدُحِضَتْ حُجَّتُكَ، وَعَيِيتَ عَنِ الْجَوَابِ، وَبُشِّرْتَ بِالنَّارِ، وَاسْتَقْبَلَتْكَ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ بِنُزُلٍ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةِ جَحِيمٍ.

وَاعْلَمْ يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَّ مِنْ وَرَاءِ هذَا أَعْظَمَ وَأَفْظَعَ وَأَوْجَعَ لِلْقُلُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (4) ، يَجْمَعُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْاخِرِينَ، ذلِكَ يَوْمٌ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَتُبَعْثَرُ فِيهِ الْقُبُورُ، وَذلِكَ يَوْمُ الْازِفَةِ؛ «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» (5) ، وَذلِكَ يَوْمٌ لَا تُقَالُ فِيهِ عَثْرَةٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدٍ فِدْيَةٌ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ مَعْذِرَةٌ، وَلَا لأحَدٍ فِيهِ مُسْتَقْبَلُ تَوْبَةٍ، لَيْسَ إِلَا الْجَزَاءُ بِالْحَسَنَاتِ، وَالْجَزَاءُ بِالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمِلَ فِي هذِهِ الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَجَدَهُ، وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَمِلَ فِي هذِهِ الدُّنْيَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ وَجَدَهُ.

فَاحْذَرُوا أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا قَدْ نَهَاكُمُ اللّهُ عَنْهَا، وَحَذَّرَكُمُوهَا فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ، وَالْبَيَانِ النَّاطِق.

فَلَا (6) تَأْمَنُوا مَكْرَ اللّهِ وَتَحْذِيرَهُ وَتَهْدِيدَهُ عِنْدَ مَا يَدْعُوكُمُ الشَّيْطَانُ اللَّعِينُ إِلَيْهِ مِنْ عَاجِلِ

ص: 9


1- .في كلتا الطبعتين للكافي : + «فيه» .
2- .في الطبعة الجديدة وأكثر النسخ التي قوبلت فيها والوافي: - «كنت» .
3- .في الطبعة القديمة : + «أنت» .
4- .هود (11) : 103 .
5- .غافر (40) : 18 .
6- .في حاشية النسخة عن بعض النسخ وفي كلتا الطبعتين للكافي: «و لا».

الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ فِي هذِهِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» . (1)

وَأَشْعِرُوا قُلُوبَكُمْ خَوْفَ اللّهِ، وَتَذَكَّرُوا مَا قَدْ وَعَدَكُمُ اللّهُ فِي مَرْجِعُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ، كَمَا قَدْ خَوَّفَكُمْ مِنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ خَافَ شَيْئا حَذِرَهُ، وَمَنْ حَذِرَ شَيْئا تَرَكَهُ.

وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْغَافِلِينَ الْمَائِلِينَ إِلى زَهْرَةِ الدُّنْيَا، الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ؛ فَإِنَّ اللّهَ يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: «أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» (2) ، أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.

فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللّهُ بِمَا فَعَلَ بِالظَّلَمَةِ فِي كِتَابِهِ، وَلَا تَأْمَنُوا أَنْ يُنْزِلَ بِكُمْ بَعْضَ مَا تَوَاعَدَ بِهِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فِي الْكِتَابِ.

وَاللّهِ (3) لَقَدْ وَعَظَكُمُ اللّهُ فِي كِتَابِهِ بِغَيْرِكُمْ؛ فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ أَسْمَعَكُمُ اللّهُ فِي كِتَابِهِ مَا قَدْ فَعَلَ بِالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرى قَبْلَكُمْ، حَيْثُ قَالَ: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، وَإِنَّمَا عَنى بِالْقَرْيَةِ أَهْلَهَا، حَيْثُ يَقُولُ: «وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْما آخَرِينَ» (4) ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» (5) ؛ يَعْنِي يَهْرُبُونَ.

قَالَ: «لاتَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» (6) فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ «قالُوا يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ * فَما زاَلَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيدا خامِدِينَ» (7) ، وَايْمُ اللّهِ إِنَّ هذِهِ عِظَةٌ لَكُمْ، وَتَخْوِيفٌ إِنِ اتَّعَظْتُمْ وَخِفْتُمْ.

ثُمَّ رَجَعَ الْقَوْلُ مِنَ اللّهِ فِي الْكِتَابِ عَلى أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ» (8) ، فَإِنْ قُلْتُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِنَّمَا عَنى بِهذَا أَهْلَ الشِّرْكِ، فَكَيْفَ ذلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» (9) .

ص: 10


1- .الأعراف (7) : 201 .
2- .النحل (16) : 45 .
3- .في حاشية النسخة عن بعض النسخ: «تاللّه ».
4- .الأنبياء (21) : 11 .
5- .الأنبياء (21) : 12 .
6- .الأنبياء (21) : 13 .
7- .الأنبياء (21) : 14 و 15 .
8- .الأنبياء (21) : 46 .
9- .الأنبياء (21) : 47 .

اعْلَمُوا عِبَادَ اللّهِ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لَا يُنْصَبُ لَهُمُ الْمَوَازِينُ، وَلَا يُنْشَرُ [لَهُمُ] الدَّوَاوِينُ، وَإِنَّمَا يُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ زُمَرا، وَإِنَّمَا نَصْبُ الْمَوَازِينِ وَنَشْرُ الدَّوَاوِينِ لأهْلِ الْاءِسْلَامِ.

فَاتَّقُوا اللّهَ عِبَادَ اللّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَمْ يُحِبَّ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَعَاجِلَهَا لأحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يُرَغِّبْهُمْ فِيهَا وَفِي عَاجِلِ زَهْرَتِهَا وَظَاهِرِ بَهْجَتِهَا، وَإِنَّمَا خَلَقَ الدُّنْيَا وَخَلَقَ أَهْلَهَا لِيَبْلُوَهُمْ فِيهَا أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً لِاِخِرَتِهِ، وَايْمُ اللّهِ لَقَدْ ضَرَبَ لَكُمْ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَصَرَّفَ الْايَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَا بِاللّهِ.

فَازْهَدُوا فِيمَا زَهَّدَكُمُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيهِ مِنْ عَاجِلِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهارا فَجَعَلْناها حَصِيدا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْاياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . (1)

فَكُونُوا عِبَادَ اللّهِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» . (2)

وَلَا تَرْكَنُوا إِلى زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا رُكُونَ مَنِ اتَّخَذَهَا دَارَ قَرَارٍ وَمَنْزِلَ اسْتِيطَانٍ؛ فَإِنَّهَا دَارُ بُلْغَةٍ، وَمَنْزِلُ قُلْعَةٍ، وَدَارُ عَمَلٍ.

فَتَزَوَّدُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِيهَا قَبْلَ تَفَرُّقِ أَيَّامِهَا، وَقَبْلَ الْاءِذْنِ مِنَ اللّهِ فِي خَرَابِهَا، فَكَانَ قَدْ أَخْرَبَهَا الَّذِي عَمَرَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَابْتَدَأَهَا، وَهُوَ وَلِيُّ مِيرَاثِهَا.

فَأَسْأَلُ اللّهَ الْعَوْنَ لَنَا وَلَكُمْ عَلى تَزَوُّدِ التَّقْوى وَالزُّهْدِ فِيهَا، جَعَلَنَا اللّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، الرَّاغِبِينَ لآِجِلِ ثَوَابِ الْاخِرَةِ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِهِ وَلَهُ، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ».

شرح الحديث

السند مجهول . قوله : (يعظ الناس) ؛ الوعظ والعِظة: النصح . والاسم: الموعظة. والفعل كوَعَدَ .

ص: 11


1- .يونس (10) : 24 .
2- .هود (11) : 113.

وقيل : الوعظ: الأمر بالطاعة والوصيّة بها . وقيل : هو تذكير مشتمل على زجر وتخويف، وحَمْل على طاعة اللّه بلفظ يرقّ له القلب (1).

وقوله : (فتجد كلّ نفس) إلى آخره ، إشارة إلى قوله تعالى : «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا وَيُحَذِّرُكُمْ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» (2).

قال البيضاوي : «يَوْمَ» منصوب ب «تَوَدُّ» ؛ أي يتمنّى كلّ نفس يومَ تجد صحائف أعمالها، أو جزاء أعمالها من الخير والشرّ حاضرة، لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم وهَوْله «أَمَدا بَعِيدا» . أو بمضمرٍ، نحو اُذكر . و «تَوَدُّ» حال من الضمير في «عملت»، أو خبر ل «مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» . و«تجد» مقصور على «مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ» . ولا تكون «ما» شرطيّة؛ لارتفاع «تودّ»، وقرئ: «ودّت» ، وعلى هذا تصحّ أن تكون شرطيّة، ولكنّ الحمل على الخبر أوقع معنى؛ لأنّه حكاية كائن، وأوفق للقراءة المشهورة . انتهى (3).

وقيل : التقدير في قوله : «وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» ؛ أي «محضرا» حذف للاختصار، ولدلالة العطف وما بعده عليه . و«من» مزيدة للمبالغة في عموم الخير والسوء لجميع الأفراد وإن صغر .

وقوله : «تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا» استئناف، أو حال عن فاعل «عملت» . و«لو» للتمنّي، وللمبالغة فيه. وضمير التأنيث للنفس، وضمير التذكير ل «يوم»، أول «سوء» على احتمال (4). إلى هاهنا كلام القائل .

وعلى ما ذكره البيضاوي فلا حذف في قوله : «وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» .

«وَيُحَذِّرُكُمْ اللّهُ نَفْسَهُ» ؛ فلا تتعرّضوا لسخطه بمخالفة أحكامه وأوليائه، وموالاة أعدائه .

وهو تهديد عظيم مُشعر بتناهي المنهيّ عنه في القبح، وذكر «النفس» ليعلم أنّ المحذّر منه عقاب يصدر منه، فلا يؤوبه دونه بما يحذّر من الكفرة .

ص: 12


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 405
2- آل عمران (3) : 30
3- تفسير البيضاوي، ج 2 ، ص 26 و 27
4- .قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 405

(ويحك (1) ابن آدم الغافل)؛ منصوب على أنّه صفة ابن آدم ؛ أي الغافل عمّا يُراد منه ويفعل به .

(وليس بمغفول عنه) ؛ لعلمه تعالى بما يصدر عنه ، بل بما يخطر بباله ، مع أنّ عليه من الحافظين كراما كاتبين، يعملون ما يفعل .

(إنّ أجلك أسرعُ شيء إليك) .

في القاموس: «الأجل، محرّكة: غاية الوقت في الموت، ومدّة الشيء» (2) والظاهر هنا المعنى الأوّل . وقيل : الثاني ، كالمسافة للأوّل، والإنسان يقطعها بأقدام الآنات والأنفاس، فبمرور كلّ آنٍ ونَفَسٍ يقرب منه، وليس شيء أسرع من مرورهما (3).

وقوله : (حثيثا) أي مُسرِعا حريصا .

(ويوشِك أن يدركك) أي الأجل؛ لأنّ الطالب السريع في الزمان اليسير والمسافة القليلة كان قريب الوصول وسريع الحصول .

وفيه تذكير للموت، وترغيب فيما ينفع من العمل لما بعده آنا فآنا، لئلّا تكون ميتة على غير عُدّة .

(وكأن قد أوفيتَ أجلك) .

الظاهر أنّ «كأن» مخفّف «كأنّ». واحتمال كونه من الأفعال الناقصة بعيد .

و«أوفيت» على بناء الفاعل، أو المفعول . قال الفيروزآبادي : «وفى الشيء: تمّ وكثر . وأوفى فلانا حقّه: أعطاه وافيا . وأوفيت القوم: أتيتهم . وأوفى عليه: أشرف» (4).

(وقبض المَلك روحَك) .

«ملك» بفتح اللّام؛ أي ملك الموت. أو بكسرها؛ أي ملك الملوك تعالى شأنه (5).

وقوله : (وحيدا) أي متفرّدا بلا رفيق ولا أنيس من معارفك وأقربائك . يُقال : رجلٌ وَحَدٌ

ص: 13


1- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه اللهسابقا : + «يا»
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 327 (أجل)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 406
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 401 (وفي)
5- قال المحقّق المازندراني رحمه الله : «إمّا بسهولة ، أو بصعوبة باعتبار التفاوت في الإيمان والأخلاق والأعمال ، ولا يبعد أن يجعل هذا وجه الجمع بين الروايات المختلفة في صعوبة قبض الروح وسهولته»

وأحَدٌ _ محرّكتين _ ووحيدٌ ومتوحّد؛ أي متفرّد .

(فردّ إليك فيه) أي في القبر (روحك).

(واقتحم) أي دخل فجأةً، أو عُنقا . يُقال : اقتحم النهر ؛ أي دخله . واقتحم المنزل، إذا هجمه .

(عليك (1) مَلكان: ناكرٌ ونكير) عطف بيان، أو بدل من ملكين .

والمشهور فيهما: مُنكرٌ ونكير . قال في القاموس: «مُنكر ونكير: فتّانا القبور»(2) وقال : «فَتَنه يَفْتِنُهُ: أوقعه في الفتنة . والفتّان: اللصّ ، ومنكر ونكير» (3).

وقوله : (امتحانك) أي اختبارك في العقائد والأعمال .

وقوله : (ثمّ عن عُمُرك فيما أفنيته) إلى آخره .

في بعض النسخ: «فيما كنت أفنيته» . وفيه دلالة على أنّه يسأل في القبر عن الأعمال أيضا .

(فخُذ حِذْرك) .

في القاموس: «الحِذر، بالكسر، ويُحرّك: الاحتراز» (4) وقال الزمخشري في قوله تعالى : «خُذُوا حِذْرَكُم» : (5).

الحِذر والحَذَر بمعنى، كالإثر والأثَر . يُقال : أخذ حذره، إذا تيقّظ واحترز من المخوف، كأنّه جعل الحذر آلتَهُ التي يقي بها نفسه، ويعصم بها رُوحَه . انتهى (6).

وظاهر أنّه لا يحصل ذلك إلّا بمحاسبة النفس قبل الموت، وحملها على فعل ما ينبغي، وترك ما لا ينبغي ، كما أشار إليه بقوله : (وانظر لنفسك) إلى آخره .

النظر، محرّكة: الفكر في الشيء يقدّره ويقيسه، والفعل منه كنصر.

وكان ذكر الاختبار بعد الامتحان للمبالغة والتأكيد .

وقيل : فيه إشعار بأنّ سؤالهما إنّما هو للاختبار والامتحان، والتنبيه على الخطأ والصواب؛

ص: 14


1- في الطبعتين للكافي : + «فيه»
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 148 (فتن)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 255 (فتن)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 6 (حذر)
5- .النساء (4) : 71 و102
6- تفسيرالبيضاوي ، ج 3 ، ص 302 (مع اختلاف يسير)

ليترتّب عليه الثواب أو العقاب ، وقد جرى قضاء اللّه تعالى وحكمته على اختبار الخلائق في بَدوِ التكليف إلى أن يستقرّوا في دار القرار أو البوار (1).

وقوله : (لقّاك اللّه حجّتك) أي استقبل بها إليك، ولقّنها، وأفاضها عليك، وألهمكَ إيّاها .

وفي القاموس : «لقّاه الشيء: ألقاه إليه. «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» (2). : يُلقى إليك وحيا من اللّه » (3).

والحجّة: البرهان . والمراد هنا العقائد الحقّة، والأعمال الصالحة .

وقوله : (وأحسنتَ الجواب) .

قال الجوهري : «هو يُحسِنُ الشيء؛ أي يَعْلَمُهُ» (4).

(وبُشّرت بالرضوان) .

البشارة والبُشرى: الخبر السارّ . والمراد بالرضوان رضاء اللّه وجنّته . قال الجوهري : «بشّرني بوجهٍ حَسَنٍ؛ أي لقيني. [هو] حَسَنُ البِشر : طَلِقُ الوجه» (5) . وقال : «الرِضوان: الرضا، وكذلك الرُّضْوان بالضمّ . ورضيت عنه رضى _ مقصورٌ _ مصدر محض . والاسم: الرضاء، ممدود» (6). انتهى .

وقيل : الرضا والرضوان _ بالكسر والضمّ _ ضدّ السخط ، إلّا أنّ الرضا لغة أهل الحجاز، والرضوان لغة قيس وتميم (7).

وقوله : (بالرَّوح والريحان) .

في القاموس: «الروح، بالضمّ: ما به حياة الأنفس، والوحي، وحكم اللّه وأمره . وبالفتح: الراحة، والرحمة، ونسيم الرِّيح . وبالتحريك: السعة . والريحان: نبت طيّب الرائحة والرزق» (8).

وقال الجوهري : «رَوحٌ وريحان؛ أي رحمةٌ ورزق» (9).

ص: 15


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 407
2- .النمل (27) : 6
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 386 (لقي)
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 2099 (حسن)
5- .الصحاح ، ج 2 ، ص 590 (بشر)
6- .الصحاح ، ج 6 ، ص 2357 (رضا) مع تلخيص
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 407 و 408
8- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 224 (روح) مع التلخيص
9- الصحاح ، ج 1 ، ص 368 (روح)

وأقول : إن قرئ هنا «الروح» بالضمّ، فالمراد الحياة الأبديّة، وحكمه تعالى بالبقاء والسعادة .

وقوله : (تلجلج لسانُك، ودُحضت حجّتُك) .

التلجلج: التردّد في الكلام . ودحضت الحجّة _ كمنع _ دحوضا؛ أي بطلت .

(وعَييتَ) بصيغة الخطاب؛ أي عجزت .

(عن الجواب) .

في القاموس: «عَييَ بالأمر _ كرضي _ : لم يهتدِ لوجه مراده، أو عجز عنه ، ولم يطق إحكامه . وعَيِيَ في المنطق _ كرضي _ عيّا: حَصَرَ» (1).

(وبُشّرتَ بالنّار) من باب التهكّم .

وقوله : (بنُزُلٍ من حميم، وتَصلية جحيم) .

النُّزُل، بالضمّ وبضمّتين: ما هُيّئ للضيف أن ينزل عليه، والطعام ذو البركة، والفضل، والعطاء . وإطلاقه هنا أيضا من باب التهكّم .

والمراد بالحميم: الشراب المغلّى في قدور جهنّم . قال الجوهري : «الحميم: الماء الحارّ، والمطر الذي يأتي في شدّة الحرّ . والحميم: العَرَق» (2).

وقال : «الجحيم: [اسم] من أسماء النار، وكلّ نار عظيمة في مَهواةٍ (3) فهي (4) جحيم» (5).

وفي القاموس : «الجحيم: النار الشديد التأجّج ، وكلّ نار بعضها فوق بعض ، والمكان الشديد الحرّ»(6).

وفيه: «صلّاه تصلية ؛ أي ألقاه في النار للإحراق» (7).

قال البيضاوي : «وذلك ما يجد في القبر من سموم النار ودخانها» (8).

وقوله : (من وراء هذا) إشارة إلى ما ذكر من قوله : «وقبض الملك» إلى قوله : «وتصلية جحيم» .

ص: 16


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 368 (عيي)
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1905 (حمم)
3- في الحاشية: «المَهواة : ما بين الجبلين ونحو ذلك»
4- في النسخة : «فهو»
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 1883 (جحم)
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 87 (جحم)
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 352 (صلي)
8- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 294

(أعظم وأفظع وأوجع للقلوب يوم القيامة) .

يحتمل نصب «أعظم» وما عطف عليه على أن يكون اسم «إنّ»، و«من وراء» متعلّقا بالثلاثة، و«يوم القيامة» بالرفع خبره، أو بالعكس ، ولعلّه أنسب .

ويحتمل كون الثلاثة اسم «إنّ»، و«من وراء» خبره، و«يوم القيامة» بالرفع، أو بالنصب ، على أن يكون فاعلاً ، أو عطف بيان لها .

قال الجوهري : «فَظُع الأمر _ بالضمّ _ فظاعة، فهو فظيع؛ أي شديد شنيع جاوز المقدار» (1).

وقال : «الوجع: المرض» (2).

«ذَ لِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ» (3).

قال البيضاوي : «ذَ لِكَ» إشارة إلى يوم القيامة، وعذاب الآخرة دلّ عليه . قوله : «مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ» ؛ أي يجمع له الناس، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنّه من شأنه لا محالة، وأنّ الناس لا ينفكّون عنه، فهو أبلغ من قوله : «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ» ، ومعنى الجمع له الجمع؛ لما فيه من المحاسبة والمجازاة . «وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» ؛ أي مشهود فيه أهل السماوات والأرضين ، فاتّسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول، ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه؛ فإنّ سائر الأيّام كذلك (4).

وأقول : كونه مشهودا فيه؛ إمّا لأنّه يُشهَدُ فيه على الخلائق بما عملوا ، وإمّا لأنّهم يحضرونه للحساب، والخروج عن عهدة ما كلّفوا به في دار الدنيا .

وقوله : (يجمع اللّه فيه) أي في ذلك اليوم .

(الأوّلين والآخرين) بيان لسابقه .

ويحتمل أن يكون كلّ منهما إضافيّا بالنسبة إلى الآخر .

وقيل : لعلّ المراد بالأوّلين الاُمم السابقة، وبالآخرين هذه الاُمّة (5).

ص: 17


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1259 (فظع)
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1294 (وجع)
3- هود : 103
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 261 (مع تلخيص)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 408

(ذلك يوم) ؛ مبتدأ وخبر .

(ينفخ في الصور) أي ينفخ فيه في الصور، حذف الجارّ بقرينة ما بعده .

قال الجوهري : «الصور: هو القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتى إلى الحشر» (1).

وقيل : الصُّور جمع صُورَةٍ، يريد صُور الموتى ينفخ فيها الأرواح . والصحيح الأوّل؛ لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه تارةً بالصور، وتارةً بالقرن (2).

(وتُبَعثر فيه القبور) .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ» (3) : «أي بعث» (4)

وقال الجوهري : بعثر الرجل متاعَهُ: قلب بعضه على بعض . ويُقال : بعثرت الشيء، إذا استخرجته وكشفته . وقال أبو عبيدة في قوله تعالى : «بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ» : اُثير واُخرج . قال : وتقول : بعثرت حوضي؛ أي هدمته، وجعلت أسفله أعلاه ، انتهى (5).

والظاهر أنّ «تبعثر» على صيغة المضارع المجهول من الرباعيّ المجرّد . وقيل : يحتمل كونه على صيغة الماضي المعلوم من باب التفعلل على تشبيه القبر بإنسان أكل طعاما، فلم يستقرّ في معدته فردّه(6) . قال في النهاية : «تبعثرت النفس: جاشت، وانقلبت وغثت» (7).

(وذلك يوم الآزفة) إشارة إلى قوله تعالى : «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْازِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ» (8) الآية . يُقال: أزِفَ الترحّل أزفا واُزوفا، إذا دنا . والرجل: عجّل. والأزف، محرّكة: الضيق، وسوء العيش .

قال بعض المفسّرين : «الآزفة، صفة القيامة سُمّيت بها لقربها ودنوّها» (9) . وقيل: لضيق عيش أكثر الناس فيها. (10) وقيل : صفة المجازاة .

ص: 18


1- اُنظر : الصحاح ، ج 2 ، ص 716 (صور)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 408
3- العاديات (100) : 9
4- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 521
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 593 (بعثر)
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 408
7- . النهاية ، ج 1 ، ص 139 (بعثر)
8- غافر (40) : 18
9- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 88
10- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 408

وقيل : المراد اللحظة الآزفة، وهي مشارفتهم النار . وقيل : يوم الآزفة: يوم الموت، وقت خروج الروح (1).

«إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ» ؛ جمع حَنْجَرَة، وهي الحلقوم .

وقيل : المراد هنا التراقي؛ يعني فارقت قلوبهم أماكنها خوفا، فصارت في حلوقهم، فلا هي تعود إلى أماكنها، فيتروّحوا، ولا تخرج فيستريحوا (2).

«كَ_ظِمِينَ» .

في القاموس: «كَظَمَ غيظه يَكظُمُهُ: ردّه، وحبسه . والباب: أغلقه . والبعير كظوما : أمسك عن الجرّة . ورجلٌ كظيم، ومكظوم: مكروب . وكُظِم _ كعُنِي _ كظُوما: سكت» (3).

قال بعض المفسّرين : معنى كاظمين ساكنين، لا معذرة لهم . وقيل : حابسين الكلام .

وقيل : مُردّدين حزنهم في أجوافهم كجرّة البعير . وقيل : باكين . وقيل : مغمومين (4).

وعلى التقادير نصبه على الحال من مفعول «أنذِر» . وقيل : من «القلوب» بتقدير أصحابها، ولذلك جمعه جمع العقلاء، كقوله : «فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ» (5). (6).

(وذلك يوم لا تُقال فيه عَثرة) .

الإقالة: فسخ البيع، والعفو عن الزلّة . والعثرة: الزلّة . قيل : معنى «أقاله اللّه عثرته» أنّه وافقه في نقض العهد، وأجابه إليه؛ إذ وقع العهد بين العبد وبينه تعالى في أنّه إذا عصاه يُعاقَب، فإذا استقال العاصي في ذلك اليوم، وندم من ذلك العهد، وطلب منه تعالى أن ينقضه ليتخلّص من العقاب، لا يُقال ولا يجاب؛ لأنّ العهد مُبرَم لا ينقض (7).

(ولا تُقبل من أحدٍ معذرة) .

ص: 19


1- اُنظر : تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 88
2- اُنظر : تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 88 ؛ شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 408 و 409
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 172 (كظم)
4- اُنظر : تفسير مجمع البيان ، ج 8 ، ص 433 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 8 ، ص 271 ؛ زاد المسير ، ، ج 7 ، ص 37 ؛ فتح القدير للشوكاني ، ج 4 ، ص 486
5- .الشعراء (26) : 4
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 171 . وانظر أيضا : شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 409
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 409

قيل : أي عذر لا يكون صاحبه صادقا فيه، أو توبةٌ (1).

وقيل : أي معذرة غير المحقّ، وإلّا فاللّه سبحانه أعدل وأكرم من [أن] لا يقبل معذرة المحقّ . أو المراد: ليس له معذرة في المخالفة حتّى تقبل؛ لأنّه تعالى قطع الأعذار ببعث الرسل، وإنزال الكتب، ونصب الوصيّ ، والهداية إلى سبيله (2).

وقوله : (مُستقبَلُ توبة) بالباء الموحّدة فيما رأيناه من النسخ . وكأنّه مصدر، أو اسم مكان على صيغة اسم المفعول ؛ أي لا يكون لأحد في ذلك اليوم استئناف توبة وإحداثها، أو مكانها ومحلّها .

ويحتمل كونه على صيغة اسم الفاعل؛ أي من يستقبل إلى توبته، ويتوجّه إليها، ويقبلها . وعلى التقديرين يكون مرفوعا على الابتدائيّة ، أو على أنّه اسم «لا»، و«توبة» بالجرّ على الإضافة، واحتمال كون «مستقبل» بالجرّ على أنّه صفة ل «أحد» و«توبة» بالرفع على الابتدائيّة أو الاسميّة بعيد .

وضبطه بعض الشارحين بالياء المثنّاة التحتانيّة ، وقال : «أي ليس لأحدٍ مستقيل طالب الرجوع إلى الدنيا توبة ورجوع إليها؛ ليفعل فيها ما يكفّرها» . وقال : «أو المراد أنّه ليس لطالب غفران الذنب في ذلك اليوم توبة منه؛ لفوات محلّها، وهو الدنيا»(3) .

وقوله : (فمن كان من المؤمنين...) فذلكة، أو تفسير وبيان للفقرة السابقة .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَهُ» (4). الآية : ولعلّ حسنة الكافر وسيّئة المجتنب عن الكبائر تؤثّران في نقص الثواب والعقاب .

وقيل : الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة، أو من الاُولى مخصوصة بالسعداء، والثانية بالأشقياء . والذرّة: النملة الصغيرة، أو الهباء . انتهى . (5)

وقوله : (من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم) إلى آخره .

قيل : لعلّ قوله : «من الذنوب» بيان للموصول بعده، أو الموصول بدل من «الذنوب» (6).

ص: 20


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 171
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 409
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 409
4- الزلزلة (99) : 7
5- .تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 519 (مع تلخيص)
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 171

وأقول : الظاهر أنّ الموصول صفة للذنوب.

والعطف في قوله : (في كتابه الصادق والبيان الناطق) إمّا للبيان والتفسير، أو يُراد بالمعطوف بيان جبرئيل، أو الرسول، أو أوصيائه؛ فإنّ مناهي الكتاب ومحرّماته بعضها ظاهر لا يحتاج إلى البيان ، وبعضها باطن لا يعلم إلّا ببيانهم . ووصف البيان بالناطق مجاز باعتبار دلالته على المقصود، وإفصاحه عنه كالنطق .

وقوله : (فلا تأمنوا مكر اللّه ) إلى قوله : (في هذه الدنيا) ؛ إشارة إلى قوله _ عزّ وجلّ _ في سورة الأعراف : «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ (1) مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (2).

وقوله : (فإنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ يقول) تعليل لما سبق من الحثّ على ذكر اللّه عند دعوة الشيطان إلى شهوات الدنيا ولذّاتها .

«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ» .

هذه الآية أيضا في سورة الأعراف بعد الآية السابقة .

قال البيضاوي : «طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ» لَمّة منه، وهو اسم فاعل من طاف يطوف، كأنّها طافت بهم، ودارت حولهم، فلم تقدر أن تؤثّر فيهم . أو من طاف به الخيال يَطيف طَيْفا ، والمراد بالشيطان الجنس .

«تَذَكَّرُوا» ما أمر اللّه به، ونهى عنه «فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ» (3) ؛ بسبب تذكّر مواقع الخَطأ ومكائد الشيطان، فيحترزون عنها، ولا يتّبعونه فيها . والآية تأكيد وتقرير لما قبلها . انتهى (4).

وفي القاموس: «الطّيف: الخيال الطائف في المنام، أو مجيئهُ في النوم» (5).

(وأشعروا قلوبكم خوفَ اللّه ) أي ألبِسُوه إيّاها. أو الزِقوه بها، واجعلوه ملازما لها غير مفارق عنها . أو اجعلوه شعارا وعلامة لسلامتها وخلوصها .

ص: 21


1- في الحاشية: «نزغ الشيطان بينهم ينزغ نَزعا؛ أي أفسد، وأغوى»
2- الأعراف (7) : 200
3- الأعراف (7) : 201
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 85
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 170 (طيف) مع اختلاف يسير

وقيل : يحتمل أن يكون معناه : اجعلوا قلوبكم شاعرة غير غافلة من خوفه (1).

قال الفيروزآبادي : الشعار، ككتاب: جلّ الفرس، والعلامة في الحرب والسفر _ ويفتح _ وما تحت الدثار من اللباس، وهو ما يلي شعر الجسد، ويفتح. وأشعَرَهُ غيره: ألبسَهُ إيّاه . وأشعر الهمُّ قلبي: لزِق به .

وكلّ ما ألزقته بشيء، أشعرته به. والقوم : نادوا بشعارهم، أو جعلوا لأنفسهم شِعارا . والبدنة : أعلمها (2).

وقوله : (كما قد خوّفكم من شديد العقاب) أي كما لزمكم أن تذكروا ما قد خوّفكم .

وقوله : (فإنّه من خاف شيئا حذره) ؛ بكسر الذال من الحِذر _ بالكسر وبالتحريك _ وهو الاحتراز .

وقيل : الجملة تعليل للأمر بإشعار الخوف (3) .

ولا يخفى بُعده ، بل الظاهر أنّه بيان لكيفيّة تذكّر التخويف من شديد العقاب وعلامته، وإرشاد لسلوك طريقته .

(ولا تكونوا من الغافلين) عن عذاب اللّه وموجباته .

(المائلين إلى زهرة الدُّنيا) .

في القاموس : «الزهرة، ويحرّك: النبات ونَوره . ومن الدنيا: بهجتها ونضارتها وحسنها» (4).

وقوله : (الذين مكروا السيّئات) صفة اُخرى للغافلين .

ويحتمل أن يكون مبتدأ، وما بعده خبره .

وعلى التقديرين ، قوله : (فإنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ يقول) استشهاد لسوء خاتمة المكر السيّء .

«أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَات» .

الاستفهام للإنكار والتوبيخ .

قال بعض المفسّرين : أي المكرات السيّئات، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وراموا صدَّ أصحابه عن الإيمان .

ص: 22


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 171
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 410
3- .القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 59 (شعر)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 43 (زهر) مع التلخيص

«أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ» ؛ كما خسف بقارون .

«أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ» (1) بغتةً من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط .

«أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ» أي متقلّبين في مسائرهم ومتاجرهم .

«فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ» (2). عمّا أراد بهم .

«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ» (3). ؛ على مخافة بأن يُهلك قوما قبلهم، فيتخوّفوا، فيأتيهم العذاب وهم متخوّفون . أو على أن ينقص (4). شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتّى يهلكوا، من تخوّفته، إذا تنقّصته (5).

(واللّه لقد وعظكم اللّه في كتابه بغيركم) ممّن أهلكه من العُصاة والعُتاة بعصيانهم وعتوّهم .

قال الفيروزآبادي : «وعظه يعظه وَعْظا وعِظَةً ومَوعظةً : ذكره ما يُليّن قلبه من الثواب والعقاب» (6).

وقوله عليه السلام : (وُعِظ بغيره) على البناء للمفعول .

وقوله تعالى : «وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ» أي كسرناها وأهلكنا أهلها .

قال الجوهري : «قَصَمت الشيء قَصْما، إذا كسرته حتّى يبين» (7).

«كَانَتْ ظَالِمَةً» صفة لأهل القرية .

وإنّما وصفت القرية به ؛ لإقامتها مقامه ، كما قال عليه السلام : (وإنّما عنى بالقرية أهلها) .

وقوله : (حيث يقول) تعليل لسابقه .

«وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا» أي بعد هلاك أهلها .

«قَوْما آخَرِينَ» (8) مكانهم ؛ فإنّ لفظ القوم يدلّ على أنّ المراد بها أهلها، وإلّا فالمناسب أن يقول : وأنشأنا بعدها قُرىً اُخرى .

(فقال عزّ وجلّ) في سورة الأنبياء متّصلاً بالآية السابقة : «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا» أي فلمّا

ص: 23


1- النحل (16) : 45
2- النحل (16) : 46
3- النحل (16) : 47
4- .في المصدر : «أن ينقصهم»
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 400
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 400 (وعظ)
7- الصحاح ، ج 5 ، ص 2013 (قصم)
8- الأنبياء (21) : 11

أدركوا شدّة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس.

وقد تقدّم تفسير هذه الآية عن أبي جعفر عليه السلام ، وذكرنا هناك ما يتعلّق بها ، ونقول هاهنا : كان ضمير التأنيث في قوله : «إِذَا هُمْ مِنْهَا» راجع إلى شدّة العذاب المفهوم من البأس .

( «يَرْكُضُونَ» (1) ؛ يعني يهربون) مُسرعين راكضين دوابّهم، أو متشبّهين بهم من فرط إسراعهم .

وقوله عليه السلام : (قال: «لا تَرْكُضُوا» ) تنبيه على إرادة القول هنا .

قال بعض المفسّرين : «لا تركضوا على إرادة القول؛ أي قيل لهم استهزاءً: لا تركضوا ؛ إمّا بلسان الحال، أو المقال . والقائل ملك، أو مَن ثَمَّ من المؤمنين» (2).

«وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» من التنعّم والتلذّذ .

والإتراف: إبطار النعمة .

«وَمَسَاكِنِكُمْ» التي كانت لكم .

«لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» (3) غدا عن أعمالكم، أو تعذّبون؛ فإنّ السؤال من مقدّمات العذاب . أو تُقصَدون للسؤال والتشاور في المهامّ والنوازل . هذا قول المفسّرين ، ويرد عليه أنّه لا مدخل للرجوع عن هذا السؤال (4) ، وقد فسّره أبو جعفر عليه السلام بالسؤال عن الكنوز والذخائر، كما مرّ .

«قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ» (5).

قالوا ذلك لمّا رأوا العذاب ، أو لم يروا وجه النجاة، فلذلك لم ينفعهم .

«فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ» .

قال البيضاوي : أي فما زالوا (6). يردّدون ذلك، وإنّما سمّاه دعوى؛ لأنّ المُوَلوِل كأنّه يدعو الويل، ويقول: يا ويل، تَعالَ، فهذا أوانك، وكلّ من «تلك» و«دعواهم» يحتمل الاسميّة والخبريّة .

ص: 24


1- الأنبياء (21) : 12
2- تفسيرالبيضاوي ، ج 4 ، ص 85
3- الأنبياء (21) : 13
4- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 411 و 412
5- الأنبياء (21) : 14
6- .هكذا في المصدر. وفي النسخة : - «زالوا»

«حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيدا» مثل الحصيد، وهو النبت المحصود، ولذلك لم يجمع . «خَامِدِينَ» (1) : ميّتين، من خمدت النار، وهو مع «حصيدا» بمنزلة المفعول الثاني، كقولك : جعلته حلوا حامضا ؛ إذ المعنى : وجعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود . أو صفة له، أو حال من ضميره . انتهى (2).

واعلم أنّ هذه قصّة بني اُميّة بعد ظهور الصاحب عليه السلام ، كما مرّ . وقال جمع من العامّة : إنّ أهل «حضور» من قرى اليمن بعث إليهم نبيّ، فقتلوه، فسلّط اللّه عليهم بخت نصر، فوضع السيف فيهم، فنادى مناد من السماء: يا لثارات الأنبياء! فندموا، وقالوا : يا ويلنا، إلى آخره (3).

(ثمّ رجع القولُ من اللّه في الكتاب) في تلك السورة بعينها.

وذكر «ثمّ» للإشعار بتخلّل الآيات بينها وبين السابقة .

وقوله : «وَلَ_ئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ» .

قال البيضاوي : أدنى شيء من العذاب، وفيه مبالغات ذكر المسّ ، وما فيه النفحة من معنى القلّة؛ فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء، والبناء الدالّ على المرّة .

«مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ» من الذي ينذرون به .

«لَيَقُولُنَّ يَ_وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَ__لِمِينَ» ؛ (4). لدعوا على أنفسهم بالويل، واعترفوا عليها بالظلم (5).

(فإن قلتم: أيّها الناس) ؛ خطاب لمن أنكر صدق مضامين الآيات السابقة على أهل التوحيد .

(إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ إنّما عنى بهذا) الذي ذكر وأمثاله ممّا دلّ على عقوبة أهل الظلم .

(أهلَ الشرك) مفعول «عنى»؛ يعني: لا يعني به أهل الإسلام؛ لأنّهم غير معاقبين بزعمكم الباطل .

فقال عليه السلام في جوابهم : (فكيف ذلك)؛ يعني اختصاص العقوبة بأهل الشرك .

ص: 25


1- الأنبياء (21) : 15
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 86
3- اُنظر : تفسير السمرقندي ، ج 2 ، ص 421 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 85
4- .الأنبياء (21): 46
5- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 96

(وهو) سبحانه (يقول) بعد الآية السابقة متّصلاً بها : «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ» .

قال البيضاوي : أي العدل توزن بها صحائف الأعمال . وقيل : وضع الميزان تمثيل لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال [بالعدل]، وإفراد «القسط» لأنّه مصدر وصف به للمبالغة .

«لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ» ؛ لجزاء يوم القيامة ، أو لأهله ، أو فيه كقولك : جئتُ لخمسٍ خلون من الشهر .

«فَلَا تُظْلَمُ» : فلا تنقص «نَفْسٌ شَيْئا» من حقّها، أو [لا]تظلم شيئا من الظلم .

«وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبّة . ورفع نافع «مِثْقالَ» على «كان» التامّة .

«أَتَيْنَا بِهَا» : أحضرناها . والضمير للمثقال، وتأنيثه لإضافته إلى الحبّة .

«وَكَفى بِنَا حَاسِبِينَ» (1) ؛ إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا (2).

إلى هاهنا كلامه . ويمكن أن يكون المراد عدم وقوع الغلط في حسابه .

وقوله عليه السلام : (أهلَ الشرك لا يُنصب لهم الموازين) .

قيل : لا ينافي ذلك معاقبتهم على سيّئات أعمالهم، وكونهم مكلّفين بالفروع؛ إذ يعاملهم اللّه بعلمه ، وإنّما يوضع الموازين للمسلمين تشريفا لهم . أو لأنّهم لما كانوا مطيعين في اُصول الدِّين أو بعضها، يوضع لهم الميزان لئلّا يزعم زاعم أنّهم ظُلموا في عقوبتهم (3).

والمراد بالدواوين دفاتر أعمالهم وصحائف أفعالهم .

والزمر _ كزفر _ جمع الزمرة ، بالضمّ ، وهي الفوج والجماعة من الناس في تفرّقهم .

وقوله : (وإنّما خلق الدنيا وخلق أهلها ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً لآخرته) إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكُمْ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» (4). و «كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (5).

ص: 26


1- الأنبياء (21) : 47
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 96 (مع اختلاف يسير)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 173 و 174
4- .الأعراف (7) : 54 ؛ يونس (10) : 3
5- هود : 7

قال البيضاوي : «لِيَبْلُوَكُمْ» متعلّق ب «خَلَقَ» ؛ أي خلق ذلك ليعاملهم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون ؛ فإنّ جملة ذلك أسباب وموادّ لوجودكم ومعاشكم، وما تحتاج إليه أعمالكم ، ودلائل وأمارات تستدلّون بها، وتستنبطون منها . وإنّما جاز تعليق فعل البلوى لما فيه من معنى العلم من حيث إنّه طريق إليه كالنظر والاستماع . وإنّما ذكر صيغة التفضيل والاختبار الشامل لفرق المكلّفين باعتبار الحسن والقبح؛ للتحريض على إحصاء المحاسن ، والتحضيض على الترقّي دائما في مراتب العلم والعمل؛ فإنّ المراد بالعمل ما يعمّ عمل القلب والجوارح ، ولذلك قال النبيّ عليه السلام : «أيّكم أحسنُ عقلاً، وأورع من محارم اللّه ، وأسرع في طاعة اللّه » (1). ، والمعنى: أيّكم أكمل علما وعملاً (2).

(لقد ضرب لكم فيه) أي في الدنيا .

(الأمثال) ؛ لإيضاح المشتبهات . يُقال : ضربَ مثلاً ؛ أي وصف وبيّن . والمَثَل، محرّكة: الحجّة، والحديث .

(وصرّف الآيات) .

في القاموس: «تصريف الآيات: تبيينها» (3) . والمراد بالآيات آيات الوعد والوعيد .

(لقوم يعقلون) أي يدركون ويفهمون الغرض الأصلي من تلك الأمثال والآيات .

(فإنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ يقول) في التزهيد عن الدنيا، والتنفير عنها .

(وقوله الحقّ) ؛ الذي لا يعتريه ريب وشبهة . أو الثابت الذي لا يزول ولا يبدّل .

«إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» .

قال البيضاوي : يعني حالها العجيبة في سرعة تقضّيها ، وذهاب نعيمها بعد إقبالها ، واغترار الناس بها .

ص: 27


1- .اُنظر : تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ، ج 7 ، ص 71 ؛ الكشّاف للزمخشري ، ج 2 ، ص 260 ؛ الدرّ المنثور للسيوطي ، ج 4 ، ص 211
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 221 و 222 (مع اختلاف يسير)
3- .القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 162 (صرف)

«كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ» ؛ فاشتبك بسببه حتّى خالط بعضه بعضا .

«مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ» من الزرع والبقول والحشيش .

«حَتّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا» (1).

قال الجوهري : «الزُّخرُف : الذهب، ثمّ يشبّه به كلّ مموّهٍ مُزوّر . والمزخرف: المزيّن» (2).

«وَازَّيَّنَتْ» بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس اُخذت من ألوان الثياب والزين ، فتزيّنت بها .

و«ازّيّنت» أصله: تزيّنت، فاُدغم .

«وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا» ؛ متمكِّنون من حَصْدِها، ورفع غلّتها .

«أَتَاهَا أَمْرُنَا» ضَرب زرعها ما يجتاحه .

«لَيْلاً أَوْ نَهَارا فَجَعَلْنَاهَا» أي فجعلنا زَرْعها .

«حَصِيدا» شبيها بما حُصِد من أصله .

«كَأَنْ لَمْ تَغْنَ» ؛ كأن لم يغن زرعها؛ أي لم يلبث .

والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة ، وقرئ بالياء على الأصل .

«بِالْأَمْسِ» فيما قُبيله ، وهو مَثَلٌ في الوقت القريب، والممثّل به مضمون الحكاية، وهو زوال خضرة النبات فجأةً، وذهابه حُطاما بعد ما كان غَضّا، والتفّ وزيّن الأرض حتّى طمع فيه أهله، وظنّوا أنّه قد سلم من الجوائح لا الماء، وإن وليه حرف التشبيه؛ لأنّه من التشبيه المركّب .

«كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْايَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (3). ؛ فإنّهم المفتنون به.

(فكونوا عباد اللّه ) أي يا عباد اللّه .

(من القوم الذين يتفكّرون) في الآيات الدالّة على فناء الدنيا، وسرعة زوالها، ويجدون ما هو الغرض الأصلي منها .

(ولا تركنوا إلى الدنيا) وأهلها الذين يميلون إليها، ويتّخذونها دار استيطان .

قال الفيروزآبادي : «ركن إليه _ كنصر وعلم ومنع _ ركونا: مالَ، وسكن» (4).

ص: 28


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 193
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1369 (زخرف)
3- .يونس (10) : 24
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 229 (ركن)

وقوله : (فإنّ اللّه عزّ وجلّ ...) إشارة إلى أنّ النهي عن الركون إليها شامل للنهي عن الركون إلى أهلها، كما أشرنا إليه . أو إلى أنّ المراد بالركون إليها الركون إلى أهلها .

(قال لمحمّد صلى الله عليه و آله ) ليبلّغ إلى الاُمّة. وخاطبه على سبيل التعظيم وأراد غيره .

«وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» .

قال بعض المفسّرين : «أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإنّ الركون هو الميل اليسير» (1).

«فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ» (2). بركونكم إليهم .

وإذا كان الركونُ إلى مَن وُجد منه ما يسمّى ظلما كذلك ، فما ظنّك بالركون إلى الظالمين ؛ أي الموسومين بالظلم، ثمّ بالميل إليهم كلّ الميل، ثمّ بالظلم نفسه والانهماك فيه ؟!

ولعلّ الآية أبلغ ما يتصوّر في النهي عن الظلم والتهديد عليه .

وخطاب للرسول ومَن معه من المؤمنين؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل؛ فإنّ الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه .

وقوله : (ركونَ مَن اتّخذها دارَ قرار) أي كركونه .

وفيه إيماء إلى أنّ الركون إليها لا بهذا الاعتبار، بل باعتبار تحصيل ما يتوقّف عليه بقاء الحياة وإعمال الطاعات. وجعلها محلّ العبرة ممدوح، كما أشار إليه أيضا بقوله : (فإنّها دارُ بُلغة) بالضمّ .

قال في المصباح : «البُلغة: ما يتبلّغ به من العيش ولا يفضل . يُقال : تبلّغ به، إذا اكتفى به . وفي هذا بلاغ وبُلغة وتبلّغ؛ أي كفاية» (3).

(ومنزل قُلعةٍ) أي ارتحال وتقلّع . قال الفيروزآبادي :

القُلعة، بالضمّ: العَزل، والمال العارية ، أو ما لا يدوم ، والضعيف الذي إذا بُطِش به لم يثبت . ومنزلُنا منزل قُلعةٍ أيضا ، وبضمّتين ، وكَهُمَزَة؛ أي ليس بمستوطنٍ كأنّه يقطع ساكنه . أو معناه: لا نملكه، أو لا ندري متى نتحوّل عنه . ومجلسٌ قُلعَةٌ: يحتاج صاحبه إلى أن يقوم مرّة بعد مرّة . والدنيا دار قُلعة؛ أي انقلاع. وهو على قُلعَةٍ؛ أي رحلة (4).

ص: 29


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 266
2- .هود : 113
3- المصباح المنير ، ص 131 (بلغ)
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 74 (قلع) . وقال المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 415 : «وفيه تنبيه على أنّ الدنيا ليست بدار لهم، ليلتفتوا عن الركون إليها ، ويتوقّعوا الارتحال والخروج منها»

وقوله : (قبل تفرّق أيّامها) ؛ كأنّ المراد بها أيّام بقاء الدنيا ، أو أيّام عمر أحد، وبخرابها انقضاء تلك الأيّام .

وقوله : (عَمَرها) بتخفيف الميم وتشديدها .

في القاموس: «عمره اللّه وعمّره: أبقاه. وعمّر نفسه: قدّر لها قدرا محدودا. وعمر اللّه منزلك عمارة : جعله آهلاً» (1).

وقوله : (وهو وليّ ميراثها) أي مالكها الحقيقي، والأولى بالتصرّف فيها؛ لأنّها تفنى، وهو يبقى كالوارث . ووارث الشيء : الباقي بعد فنائه .

(فإنّما نحن به وله) .

قيل: الظاهر من الضمير راجع إلى ثواب الآخرة ؛ أي نحن متلبّسون به ، كناية عن قربه.

و«له» أي خُلِقنا وكلّفنا لأجله (2).

هذا كلامه . والأظهر إرجاع الضمير في الموضعين إلى اللّه تعالى ؛ أي نحن موجودون به، متقوّمون باستعانته، وكلّفنا لإخلاص العمل له .

وقال بعض الشارحين : أي إنّما نحن موجودون باللّه تعالى وله ؛ ففي الاُولى إشارة إلى تفويض الاُمور كلّها إليه ، وفي الثانية إشارة إلى طلب التقرّب منه بالإتيان بالمأمورات والاجتناب عن المنهيّات ، وبها يتمّ نظام الدِّين (3).

متن الحديث الثلاثين (حديث الشيخ مع الباقر عليه السلام )

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، قَالَ:بَيْنَا أَنَا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، وَالْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ يَتَوَكَّأُ عَلى عَنَزَةٍ لَهُ، حَتّى وَقَفَ (4). عَلى

ص: 30


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 95 (عمر)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 175
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 415
4- .في الحاشية عن بعض النسخ: «قام»

بَابِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ سَكَتَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ».

ثُمَّ أَقْبَلَ الشَّيْخُ بِوَجْهِهِ عَلى أَهْلِ الْبَيْتِ، وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ سَكَتَ، حَتّى أَجَابَهُ الْقَوْمُ جَمِيعا، وَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ.

ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلئ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، أَدْنِنِي مِنْكَ، جَعَلَنِيَ اللّهُ فِدَاكَ، فَوَ اللّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكُمْ، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّكُمْ، وَوَاللّهِ مَا أُحِبُّكُمْ وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّكُمْ لِطَمَعٍ فِي دُنْيَا، وَ (1). إِنِّي لَأُبْغِضُ عَدُوَّكُمْ، وَأَبْرَأُ مِنْهُ، وَوَاللّهِ مَا أُبْغِضُهُ وَأَبْرَأُ مِنْهُ لِوَتْرٍ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَاللّهِ إِنِّي لَأُحِلُّ حَلَالَكُمْ، وَأُحَرِّمُ حَرَامَكُمْ، وَأَنْتَظِرُ أَمْرَكُمْ، فَهَلْ تَرْجُو لِي جَعَلَنِيَ اللّهُ فِدَاكَ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «إِلَيَّ، إِلَيَّ» حَتّى أَقْعَدَهُ إِلى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّ أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام أَتَاهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي عليه السلام : إِنْ تَمُتْ تَرِدُ عَلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَعَلى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَيَثْلَجُ قَلْبُكَ، وَيَبْرُدُ فُؤَادُكَ، وَتَقَرُّ عَيْنُكَ، وَتُسْتَقْبَلُ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ مَعَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، لَوْ قَدْ بَلَغَتْ نَفْسُكَ هَاهُنَا _ وَأَهْوى بِيَدِهِ إِلى حَلْقِهِ _ وَإِنْ تَعِشْ تَرى مَا يُقِرُّ اللّهُ بِهِ عَيْنَكَ، وَتَكُونُ مَعَنَا فِي السَّنَامِ الْأَعْلى».

قَالَ (2) الشَّيْخُ: كَيْفَ قُلْتَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ؟

فَأَعَادَ عليه السلام عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: اللّهُ أَكْبَرُ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِنْ أَنَا مِتُّ أَرِدُ عَلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَعَلى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهم السلام ، وَتَقَرُّ عَيْنِي، وَيَثْلَجُ قَلْبِي، وَيَبْرُدُ فُؤَادِي، وَأُسْتَقْبَلُ بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ مَعَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، لَوْ قَدْ بَلَغَتْ نَفْسِي [إِلى] هَاهُنَا، وَإِنْ أَعِشْ أَرى مَا يُقِرُّ اللّهُ بِهِ عَيْنِي، فَأَكُونُ مَعَكُمْ فِي السَّنَامِ الْأَعْلى؟!

ثُمَّ أَقْبَلَ الشَّيْخُ يَنْتَحِبُ، يَنْشِجُ هَا هَا هَا، حَتّى لَصِقَ بِالْأَرْضِ، وَأَقْبَلَ أَهْلُ الْبَيْتِ يَنْتَحِبُونَ، [وَ]يَنْشِجُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ حَالِ الشَّيْخِ.

وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام يَمْسَحُ بِإِصْبَعِهِ الدُّمُوعَ مِنْ حَمَالِيقِ عَيْنَيْهِ وَيَنْفُضُهَا، ثُمَّ رَفَعَ الشَّيْخُ رَأْسَهُ، فَقَالَ لأبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، نَاوِلْنِي يَدَكَ جَعَلَنِيَ اللّهُ فِدَاكَ. فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَقَبَّلَهَا، وَوَضَعَهَا

ص: 31


1- . في الطبعة القديمة: + «[اللّه ]»
2- .في الطبعة القديمة وبعض نسخ الكافي : «فقال»

عَلى عَيْنَيْهِ وَخَدِّهِ، ثُمَّ حَسَرَ عَنْ بَطْنِهِ وَصَدْرِهِ، [فَوَضَعَ يَدَهُ عَلى بَطْنِهِ وَصَدْرِهِ] (1) ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.

وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام يَنْظُرُ فِي قَفَاهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلى هذَا».

فَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: لَمْ أَرَ مَأْتَما قَطُّ يُشْبِهُ ذلِكَ الْمَجْلِسَ.

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (والبيت غاصّ بأهله) ؛ في القاموس: «منزل غاصّ بالقوم: ممتلئ» (2).

وقوله : (يتوكّأ) أي يتّكئ .

(على عَنَزَة له)؛ هي بالتحريك: رُمَيح بين العصا، والرمح فيه زُجّ، وهو الحديدة التي في أسفل الرمح .

وقوله : (السلام عليك يابن رسول اللّه ) إلى قوله : (ورَدّوا عليه السلام) .

قيل : فيه شيء من الآداب؛ إذ دلّ على أنّه ينبغي أن يسلّم الداخل على جماعة أوّلاً على أفضلهم ، ويخاطبه بخطاب شريف، وأن يضمّ مع السلام الرحمة والبركة، ويصبر حتّى يسمع الجواب، ويسلّم على الحاضرين بإسقاط الضميمة (3).

وقوله : (أدنني منك) ؛ في القاموس: «أدناه: قرّبه» (4).

وقوله : (لوتَر) .

قال الفيروزآبادي : «الوِتر، بالكسر ويُفتح: الذَّحل، أو الظُّلم فيه» (5).

وقال : «الذَّحْل: الثأر، أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة اُتيت إليك، أو هو العداوة والحِقد» (6).

ص: 32


1- .في الطبعة القديمة : - «فوضع يده على بطنه وصدره»
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 310 (غصص)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 415
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دنو)
5- .القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 152 (وتر)
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 379 (ذحل)

وقوله : (وأنتظر أمركم) ؛ يعني ظهور دولة الحقّ .

(فهل تَرجو لي) المغفرة والرحمة ونجاة الآخرة وأمثالها ممّا يصلح أن يكون متعلّق الرجاء هنا ومفعوله.

ويفهم منه أنّه مع ما ذكر خائف من التقصير فيه، وذلك من كمال الإيمان .

وقوله : (إليّ، إليّ) متعلّق بمحذوف من نحو: «اُدنُ»، أو «أَقبِل»، أو «تحوّل» . والتكرير للمبالغة، وتنشيط المخاطب .

وقوله : (ويثلَج قلبُك، ويبرد فؤادك) .

قال الفيروزآبادي : «ثَلَجَتْ نفسي _ كنصر وفرح _ ثلوجا وثَلجا: اطمأنّت» (1).

وقال : «عيش بارد ؛ أي هَنيء» (2).

وقال الجوهري : «البرد: نقيض الحرّ، والبرودة: نقيض الحرارة. وقد بَرُد الشيء _ بالضمّ _ وبَرَدْتُهُ أنا، وبرّدته تبريدا . ولا يقال: أبردته إلّا في لغةٍ رديّة» انتهى (3).

وبرودة القلب هنا كناية عن سكون حرقته، وزوال حزنه وغيظه .

(وتقرّ عينُك) .

قال الجوهري : «قرّت عينه تَقِرّ، وهو نقيض سَخُنَتْ عينه . وأقرّ اللّه عينه: أعطاه حتّى تقرّ، فلا تطمح إلى مَن هو فوقه» (4). انتهى .

وقرّه كناية عن السرور ، والأصل فيها أنّ دمعة الحزن حارّة، ودمعة السرور باردة .

وقوله : (وتُستقبل) عملاً لبناء للمفعول .

وقوله : (نفسُك) بسكون الفاء، أو فتحها. والأوّل في أمثال هذا المقام أشهر وأنسب .

وقوله : (ترى ما يُقرّ اللّه به عينك) ؛ يعني فخر في زمن ظهور دولتهم عليهم السلام .

وقوله عليه السلام : (في السنام الأعلى) .

قال في النهاية: «سنام كلّ شيء: أعلاه» (5).

ص: 33


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 181 (ثلج)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 277 (برد)
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 445 (برد)
4- .الصحاح ، ج 2 ، ص 790 (قرر)
5- النهاية ، ج 2 ، ص 409 (سنم)

ولعلّ المراد هاهنا أعلى درجات الجنان (1).

وقيل : استعار لفظ «السنام» لأشرف مرتبة من مراتب الإنسانيّة، وأرفع درجة من درجات الكرامة الربّانيّة، ثمّ وصفها بالأعلى ترشيحا لها وتصريحا بعلوّها (2).

وقوله : (كيف قلتَ) .

ليس السؤال محمولاً على ظاهره، وهو الاستفهام، بل للتشوّق بسماعه ثانيا .

وقوله : (اُسْتَقْبَلُ) على صيغة المتكلّم المجهول .

وقوله : (ينتحب ، ينشِج) .

في بعض النسخ: «وينشج» بالواو. وفي بعضها: «ينتحب ينشج» .

وعلى نسخة الأصل «ينشج» حال من فاعل «ينتحب» . قال الجزري : «النحيب والنحب والانتحاب: البُكاء بصوت طويل» (3).

وقال : «النشيج: صوت معه توجّع وبكاء، كما يردّد الصبيّ بكاءه في صدره . وقد نشج يَنشج نشيجا» (4).

وقوله : (ها ها ها) حكاية عن صوت البكاء .

وقوله : (حَماليق عينيه) .

الظاهر أنّ الضمير راجع إلى الشيخ .

في القاموس: حملاق العين، بالكسر والضمّ، وكعصفور: باطن أجفانها الذي يسوّد بالكحلة، أو ما غطّته الأجفان من بياض المقلة، أو باطن الجفن الأحمر الذي إذا قلب للكحل بدت حمرته ، أو ما لزق بالعين من موضع الكحل من باطن . والجمع: الحماليق (5).

(ويَنفُضُها) .

الضمير للدموع . يُقال : نفض الثوب وغيره: حرّكه، لينتفض ، ويذهب ما فيه من الغبار ونحوه .

ص: 34


1- كما قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 177
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 417
3- النهاية ، ج 5 ، ص 27 (نحب)
4- النهاية ، ج 5 ، ص 53 (نشج)
5- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 224 (حملق)

والظاهر أنّ الضمائر في قوله : (ثمّ حسر) إلى قوله : (وصدره) للشيخ، إلّا البارز في «يده»؛ فإنّه راجع إلى أبي جعفر عليه السلام .

وفيه احتمالان آخران ؛ يُقال : حسر كمّه عن ذراعيه، كنصر وضرب ؛ أي كشفه، يعني كشف الشيخ الثوب عن بطنه وصدره، ووضع يد أبي جعفر عليه السلام عليهما للتيمّن والتبرّك والتشرّف والتخلّص من وسوسة الشيطان وعقوبة النيران (1).

وقوله : (ثمّ قام، فقال : السلام عليكم) .

قيل : دلَّ على أنّه ينبغي للخارج من المجلس أن يسلّم على أهله جميعا (2) . وفيه تأمّل .

وقوله : (لم أرَ مَأتما) إلى آخره ؛ يعني من أجل كثرة البكاء .

في القاموس: «المأتَم، كمقعد: كلّ مجتمع في حزن أو فرح، أو خاصّ بالنساء، أو بالشوابّ» (3).

وقال الجوهري : «المأتم عند العرب: النساء يجتمعن في الخير والشرّ . والجمع: المآتم .

وعند العامّة: المصيبة. تقول : كنّا في مأتم فلان» (4).

متن الحديث الواحد والثلاثين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى (5). ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«كَانَ رَجُلٌ يَبِيعُ الزَّيْتَ، وَكَانَ يُحِبُّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله حُبّا شَدِيدا، كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فِي حَاجَتِهِ لَمْ يَمْضِ حَتّى يَنْظُرَ إِلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، قَدْ (6). عُرِفَ ذلِكَ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَ تَطَاوَلَ لَهُ حَتّى يَنْظُرَ إِلَيْهِ حَتّى إِذَا كَانَ ذَاتُ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ، فَتَطَاوَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَتّى نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَضى فِي حَاجَتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ رَجَعَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَدْ فَعَلَ ذلِكَ، أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ،

ص: 35


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 417
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 178
3- القاموس المحيط ، ، ج 4 ، ص 72 (أتم)
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1857 (أتم)
5- .في الوافي : «أحمد بن محمّد ، عن ابن عيسي» بدل «أحمد بن محمّد بن عيسى»
6- .هكذا في النسخة وبعض نسخ الكافي والوافي . وفي الطبعتين وأكثر نسخ الكافي : «وقد»

فَقَالَ: مَا لَكَ فَعَلْتَ الْيَوْمَ شَيْئا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ قَبْلَ ذلِكَ؟

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيّا، لَغَشِيَ قَلْبِي شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِكَ حَتّى مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْضِيَ فِي حَاجَتِي، حَتّى رَجَعْتُ إِلَيْكَ، فَدَعَا لَهُ، وَقَالَ لَهُ خَيْرا، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَيَّاما لَا يَرَاهُ، فَلَمَّا فَقَدَهُ سَأَلَ عَنْهُ.

فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَا رَأَيْنَاهُ مُنْذُ أَيَّامٍ، فَانْتَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَانْتَعَلَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَانْطَلَقَ حَتّى أَتى (1) سُوقَ الزَّيْتِ، فَإِذَا دُكَّانُ الرَّجُلِ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَسَأَلَ عَنْهُ جِيرَتَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَاتَ، وَلَقَدْ كَانَ عِنْدَنَا أَمِينا صَدُوقا إِلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ.

قَالَ: وَمَا هِيَ؟

قَالُوا: كَانَ يَرْهَقُ يَعْنُونَ يَتْبَعُ النِّسَاءَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : رَحِمَهُ اللّهُ، وَاللّهِ لَقَدْ كَانَ يُحِبُّنِي حُبّا لَوْ كَانَ نَخَّاسا لَغَفَرَ اللّهُ لَهُ».

شرح الحديث

السند مرسل .

قوله : (قد عُرف ذلك منه) أي صار ذلك منه معروفا بين الناس .

هذا إن قرئ «عرف» على بناء المفعول .

وإن قرئ على بناء الفاعل، فمعناه: عرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذلك منه في ذهابه ومجيئه .

(فإذا جاء تطاول له لينظر (2) إليه) .

يُقال : تطاول واستطال، إذا ارتفع ومدَّ عنقه لينظر إلى شيء بعيد، وبينه وبينه حائل .

والظاهر أنّ المستتر في «جاء» و«تطاول» راجع إلى الرجل، والبارز في «له» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

ويحتمل العكس ؛ أي كان إذا جاء هذا الرجل تطاول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ومدَّ عنقه من بين الناس ليراه الرجل .

والثاني أنسب بقوله : (حتّى إذا كان ذات يوم) إلى آخره .

وقوله : (لغشي قلبي شيءٌ من ذكرك) أي من تذكّر لك وغلبة محبّتك .

قال الجوهري : «غشيه غشيانا، أي جاءه» (3).

ص: 36


1- في الطبعة القديمة : «أتوا» . وفي حاشية النسخة عن بعض نسخ الكافي : «انتهى»
2- .في المتن الذي نقله الشارح رحمه اللهسابقا : «حتّى ينظر»
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2447 (غشا)

والانتعال : لبس النعال .

والدُكّان، كرمّان: بناء يسطّح أعلاه للمقعد .

والجيرة، بالكسر: جمع الجار، وهو المجاور والشريك في التجارة .

وفي القاموس:

رهقه، كفرح: غشيه، ولحقه، أو دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه . والرهق، محرّكة: السفه ، والنوك، (1). والخفّة، وركوب الشرّ، والظلم، وغشيان المحارم، واسم من الإرهاق _ وهو أن يحمل الإنسان ما لا يطيقه _ والكذب، والعجلة. رهق، كفرح في الكلّ، وكمعظّم: الموصوف بالرهق، ومَنْ يظنّ به السوء . انتهى (2).

ولمجيء الرهق بهذه المعاني بيّن عليه السلام ما هو المقصود منه هنا بقوله : (يعنون) أي يقصدون بقولهم: يرهق .

(يتبع النساء) .

في القاموس: «تبعه _ كفرح _ تبعا وتباعة: مشى خلفه، ومرَّ به فمضى معه. وتِبْعُ المرأة، بالكسر: عاشقها، وتابِعُها، وأتبعتهم : تبعتهم، وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم » (3). انتهى .

قيل : المراد هنا أنّه كان مائلاً إلى ملامستهنّ، ولا يلزم أن يكون ذلك على وجه الحرام مع احتماله (4).

ويفهم من قوله صلى الله عليه و آله : (لو كان نخّاسا لغفر اللّه له) ذمّ عظيم للنخّاس، وهو بيّاع الدوابّ والرقيق.

وقد وردت في ذمّه روايات اُخر ، ويفهم من بعضها تخصيص الذمّ ببيّاع الرقيق فقط، وأنّه قاسي القلب لا يبالي بالتدليس وبيع الأحرار .

وقد روي عن الباقر عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّ شرّ الناس مَن باع الناس» (5).

ص: 37


1- في الحاشية: «النوك، بالضمّ والفتح: الحمق . القاموس». القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 322 (نوك)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 239 (رهق) مع تلخيص
3- .القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 9 (تبع) مع التلخيص
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 418
5- الكافي ، ج 5 ، ص 114 ، ح 4 ؛ التهذيب ، ج 6 ، ص 362 ، ح 1037 ؛ الاستبصار ، ج 3 ، ص 63 ، ح 208 ؛ علل الشرائع ، ج 2 ، ص 530 ، ح 1

متن الحديث الثاني والثلاثين

اشارة

متن الحديث الثاني والثلاثينعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى، عَنْ مُيَسِّرٍ، قَالَ:

دَخَلْتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقَالَ: «كَيْفَ أَصْحَابُكَ؟».

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لَنَحْنُ عِنْدَهُمْ أَشَرُّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارى وَالْمَجُوسِ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.

قَالَ: وَكَانَ مُتَّكِئا، فَاسْتَوَى جَالِسا، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ قُلْتَ؟».

قَالَ: (1). قُلْتُ: وَاللّهِ لَنَحْنُ عِنْدَهُمْ أَشَرُّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارى وَالْمَجُوسِ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.

فَقَالَ: «أَمَا وَاللّهِ، لَا يَدْخُلُ (2) النَّارَ مِنْكُمُ اثْنَانِ، لَا وَاللّهِ وَلَا وَاحِدٌ، وَاللّهِ إِنَّكُمُ الَّذِينَ قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ * إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ» »(3).

ثُمَّ قَالَ: «طَلَبُوكُمْ وَاللّهِ فِي النَّارِ، (4) فَمَا وَجَدُوا مِنْكُمْ أَحَدا».

شرح الحديث

السند موثّق على المشهور، إن كان ميسّر ابنَ عبد العزيز الثقة (5) ، كما هو الظاهر، وإلّا فمجهول .

قوله عليه السلام : (كيف قلتَ) ؛ سؤال على سبيل التعجّب والاستبعاد .

وقوله تعالى : «وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنْ الْأَشْرَارِ» الآية . مرّ تفسيره في خبر أبي بصير في الحديث السادس .

وقوله تعالى : «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ» .

قال البيضاوي : «أي الذي حكيناه عنهم «لَحَقٌّ» لابدّ أن يتكلّموا به، ثمّ بيّن ما هو، فقال : «تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ» وهو بدلٌ من «لَحَقٌّ» ، أو خبر محذوف ، وقرئ «تخاصم» بالنصب

ص: 38


1- .في الطبعتين للكافي وجميع النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة: - «قال»
2- في الطبعة القديمة: «لا تدخل»
3- ص : 62 - 64
4- .في النسخة: + «واللّه » مرمّز ب «خ»
5- .اُنظر : رجال الطوسي ، ص 309 ، الرقم 4572 ؛ رجال الكشّي ، ص 244 ، ح 446 ؛ رجال العلّامة ، ص 171 ، الرقم 11

على البدل من ذلك» (1).

متن الحديث الثالث والثلاثين (وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام )

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «كَانَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله لِعَلِيٍّ عليه السلام أَنْ قَالَ: يَا عَلِيُّ، أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ، احْفَظْهَا (2). عَنِّي _ ثُمَّ قَالَ: اللّهُمَّ أَعِنْهُ _ أَمَّا الْأُولى فَالصِّدْقُ، وَلَا تَخْرُجَنَّ مِنْ فِيكَ كَذِبَةٌ أَبَدا. وَالثَّانِيَةُ الْوَرَعُ، وَلَا تَجْتَرِئْ عَلى خِيَانَةٍ (3). أَبَدا.

وَالثَّالِثَةُ الْخَوْفُ مِنَ اللّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، كَأَنَّكَ تَرَاهُ.

وَالرَّابِعَةُ كَثْرَةُ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ، يُبْنى لَكَ بِكُلِّ دَمْعَةٍ أَلْفُ بَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ.

وَالْخَامِسَةُ بَذْلُكَ مَالَكَ وَدَمَكَ دُونَ دِينِكَ.

وَالسَّادِسَةُ الْأَخْذُ بِسُنَّتِي فِي صَلَاتِي وَصَوْمِي وَصَدَقَتِي. أَمَّا الصَّلَاةُ فَالْخَمْسُونَ رَكْعَةً، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ : الْخَمِيسُ فِي أَوَّلِهِ ، وَالْأَرْبِعَاءُ فِي وَسَطِهِ ، وَالْخَمِيسُ فِي آخِرِهِ. وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَجُهْدَكَ حَتّى تَقُولَ: قَدْ أَسْرَفْتُ وَلَمْ تُسْرِفْ.

وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، (4). وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِصَلَاةِ الزَّوَالِ، وَعَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَيْكَ بِرَفْعِ يَدَيْكَ فِي صَلَاتِكَ وَتَقْلِيبِهِمَا، وَعَلَيْكَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ، وَعَلَيْكَ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ فَارْكَبْهَا، وَمَسَاوِي الْأَخْلَاقِ فَاجْتَنِبْهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَلَا تَلُومَنَّ إِلَا نَفْسَكَ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (في نفسك) ؛ يعني أنّ الخصال الآتية متعلّقة باُمور تختصّ بنفسك، لا بمعاشرة

ص: 39


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 53
2- .في الطبعة القديمة وحاشية النسخة : «فاحفظها»
3- .في الحاشية عن بعض النسخ: «جناية»
4- .في الحاشية عن بعض النسخ والتهذيب: «وعليك بصلاة الليل» ثلاث مرّات

الناس .

وقوله : (دونَ دينك) أي عند حفظ دينك وصيانته من التضييع، أو عند تحصيله. ويحتمل كون «دون» بمعنى سوى.

وقوله : (فجُهدك) أي فاجهد جهدك، وأبلغ غايتك، أو بقدر جهدك وطاقتك .

والجهد على الأوّل بالفتح والنصب ، وعلى الثاني بالضمّ والرفع بحذف المبتدأ أو الخبر .

وقوله : (ثلاثة أيّام في الشهر) ؛ قال الشهيد رحمه الله في الدروس : يتأكّد أوّل خميس في العشر الأوّل، وأوّل أربعاء في العشر الثاني، وآخر خميس في العشر الأخير .

وروي: «خميس بين أربعاءين، ثمّ أربعاء بين خميسين» (1). ، كقول ابن الجنيد (2) .

وروي: «مطلق الخميس والأربعاء في الأعشار الثلاثة»، كقول أبي الصلاح (3). (4).

وقال ابن الطاووس رحمه الله في الدروع الواقية : اعلم أنّ الظاهر من عمل أصحابنا أنّه أربعاء بين خميسين، غير أنّ الشيخ الطوسي رحمه اللهروى في تهذيبه عن أبي بصير، قال : سألت الصادق عليه السلام عن صوم ثلاثة أيّام في الشهر، فقال : «في كلّ عشرة أيّام يوما: خميس وأربعاء وخميس، والشهر الذي يأتي أربعاء وخميس وأربعاء» (5). فعلم من ذلك أنّ الإنسان مخيّر بين أن يصوم أربعاء بين خميسين، أو خميسا بين أربعاءين ، فعلى أيّهما عمل فليس عليه شيء ، والذي يدلّ على ذلك ما ذكره إسماعيل بن داود، قال : سألت الرضا عليه السلام عن الصيام ، فقال : «ثلاثة أيّام في الشهر: الأربعاء، والخميس، والجمعة» . فقلت : إنّ أصحابنا يصومون الأربعاء بين خميسين؟ فقال : «لا بأس بذلك، ولا بأس بخميس بين أربعاءين» (6). (7).

ثمّ قال : الفصل الحادي عشر فيما نذكره من الرواية بأنّه إذا اتّفق خميسان في أوّله ،

ص: 40


1- .اُنظر : وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 313
2- .اُنظر : مختلف الشيعة ، ج 1 ، ص 238
3- .اُنظر : الكافي في الفقه ، ص 180
4- الدروس الشرعيّة ، ج 1 ، ص 280 و 281
5- التهذيب ، ج 4 ، ص 303 ، ح 917
6- .التهذيب ، ج 4 ، ص 304 ، ح 918
7- الدروع الواقية ، ص 59 و 60 (مع تلخيص واختلاف يسير)

وأربعاءان في وسطه ، وخميسان في آخره، أنّ صوم الأوّل منهما أفضل.

فعن الصادق عليه السلام : «إذا كان أوّل الشهر خميسين، فصوم آخرهما أفضل ؛ وإذا كان وسط الشهر أربعاءين ، فصوم آخرهما أفضل» (1).

ثمّ قال :

ولعلّ المراد بذلك أنّ من فاته [صوم] الخميس الأوّل أو الأربعاء الأوّل، فإنّ الآخر منهما أفضل من تركهما؛ لأنّه لو لا هذا الحديث لربّما اعتقد الإنسان أنّه إذا فاته الأوّل منهما ترك صوم الآخر ، وأمّا اتّفاق خميسين في آخره، فقد روى ابن بابويه في كتاب من لايحضره الفقيه أنّ العالم عليه السلام سُئِلَ عن خميسين يتّفقان في آخر العشر ، فقال عليه السلام : «[صم] الأوّل منهما ، فلعلّك لا تلحق الثاني»(2).

ثمّ قال : أقول : هذان الحديثان يحتمل أنّهما لا يتنافيان، وذلك أنّه إذا كان يوم الثلاثين من الشهر يوم الخميس، وفيه خميس آخر في العشر، فينبغي أن يصوم الخميس الأوّل منهما؛ لجواز أن يهلّ الشهر ناقصا، فيذهب منه صوم يوم الخميس الثلاثين، بخلاف ما إذا كان يوم الخميس الآخر يوم التاسع والعشرين من الشهر، وقبله خميس آخر في العشر؛ فإنّ الأفضل هاهنا صوم الخميس الذي هو التاسع والعشرين؛ لأنّه لا يخاف فواته على اليقين (3) (وعليك بصلاة الزوال) أي نافلته على الظاهر (4). ، مع احتمال الفريضة حينئذٍ نظير قوله تعالى : «وَالصَّلَاةِ الْوُسْطى» (5). على قول .

وقوله : (برفع يديك) أي في التكبيرات .

وقوله : (وتقليبهما) .

لعلّ المراد ردّهما بعد الرفع، أو تقليبهما في أحوال الصلاة بأن يضعهما في كلّ حال على ما

ص: 41


1- نقله العلّامة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار ، ج 97 ، ص 105 ، ح 41 عن كتاب النوادر لجعفر بن مالك الفزاري ، عن أحمد بن ميثم ، عن زياد القندي ، عن عبداللّه بن سنان ، عن الإمام الصادق عليه السلام
2- الفقيه ، ج 2 ، ص 51 ، ح 223 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 97 ، ص 105 ، ذيل ح 41
3- الدروع الواقية ، ص 61 - 63 (مع التلخيص واختلاف يسير)
4- .واستظهره أيضا العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 180
5- .البقرة (2) : 283

ينبغي أن تكونا عليه، أو رفعهما في القنوت، وجعل بطونهما إلى السماء بالتضرّع والابتهال .

وقوله صلى الله عليه و آله : (عند كلّ وضوء) .

لعلّ التخصيص للإشعار بتأكّده في الوضوء، أو بكونه من مستحبّاته .

متن الحديث الرابع والثلاثين

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (1) ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ عليهماالسلام، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : حَسَبُ الْمَرْءِ دِينُهُ وَعَقْلُهُ وَمُرُوءَتُهُ (2). وَشَرَفُهُ وَجَمَالُهُ وَكَرَمُهُ تَقْوَاهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (حسبُ المرء دينُه) .

قال الجوهري : «الحَسَب: ما يعدّه الإنسان من مفاخر آبائه ، ويقال : حسبه دينه . ويُقال : ماله » (3).

(وعقله ومُروءته) .

في بعض النسخ: «ومروءته وعقله» . والمُروءة _ مهموز بعد الميم والراء _ : الإنسانيّة. واشتقاقه من المرء، وقد يخفّف بالقلب والإدغام؛ أي شرف المرء إنّما هو بالدِّين وكماله، لا بمفاخر آبائه وشرف أجداده.

(وجماله) أي حسنه وبهجته بالعقل والإنسانيّة والشرافة ؛ أي العلوّ والمجد في الدِّين (4).

(وكرمُهُ) أي كونه كريما شريفا مكرّما عند اللّه وعند الناس (تقواه) وورعه عن محارم اللّه عزّ وجلّ .

ص: 42


1- في الطبعة القديمة وبعض نسخ الكافي : + «بن محمّد بن عليّ بن عبداللّه بن جعفر الطيّار»
2- .في الطبعتين للكافي: «ومروءته وعقله». وفي بعض نسخ الكافي: + «ومروءته عقله»
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 110 (حسب)
4- قال المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي ، ج 4 ، ص 305 ، ح 1984 : «اُريد بالجمال الزينة الظاهرة من الأخلاق الحسنة والأطوار المستحسنة»

وقال بعض الشارحين في شرح هذا الكلام :

أي من له اعتقاد بالدِّين، ومروّة داعية لرعاية حقوق المؤمنين، وعقل مُدرك لما ثبت في الشرع من القوانين، وجمال ؛ أي حسن ظاهر بالأعمال الصالحة، وحسن باطن بالأخلاق الفاضلة، وتقوى من اللّه داعية إلى اجتناب المنهيّات، والسبق إلى الخيرات، فهو حسيب نجيب شريف كريم ، ومن لم يكن له هذه الخصال وإن كان ذا حسب بالآباء والجاه والمال فهو خسيس دنيء لئيم ؛ فربّ عبدٍ حبشيٍّ خيرٌ من حُرٍّ هاشميّ قرشيّ (1).

هذا كلامه، فتأمّل .

متن الحديث الخامس والثلاثين

اشاره

عَنْهُمْ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ وَثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ وَغَالِبِ بْنِ عُثْمَانَ وَهَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ (2) ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي فُسْطَاطٍ لَهُ بِمِنًى، فَنَظَرَ إِلى زِيَادٍ الْأَسْوَدِ مُنْقَطِعَ الرِّجْلَيْنِ (3) ، فَرَثى لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «مَا لِرِجْلَيْكَ هكَذَا؟».

قَالَ: جِئْتُ عَلى بَكْرٍ لِي نِضْوٍ، فَكُنْتُ أَمْشِي عَنْهُ عَامَّةَ الطَّرِيقِ، فَرَثى لَهُ، وَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذلِكَ زِيَادٌ: إِنِّي أُلِمُّ بِالذُّنُوبِ حَتّى إِذَا ظَنَنْتُ أَنِّي قَدْ هَلَكْتُ، ذَكَرْتُ حُبَّكُمْ، فَرَجَوْتُ النَّجَاةَ، وَتَجَلّى عَنِّي.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «وَهَلِ الدِّينُ إِلَا الْحُبُّ؟ قَالَ اللّهُ تَعَالى: «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْاءِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» (4) ، وَقَالَ: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ» (5). ، وَقَالَ: «يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ» (6) ، إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، أُحِبُّ الْمُصَلِّينَ وَلَا أُصَلِّي، وَأُحِبُّ الصَّوَّامِينَ

ص: 43


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 420
2- لم نجد مع الفحص الأكيد غير هنا رواية الحسن بن عليّ بن فضّال عن هارون بن مسلم ، ولا رواية هارون عن بريد بن معاوية ، واحتملنا التحريف في اسم هذا الرجل من ناحية النسّاخ ، والمظنون أنّ الصحيح هو : «مروان بن مسلم» ، وهو يروي عن بريد ، ويروي عنه الحسن ، كما تشاهد روايته عن بريد في الكافي ، ج 1 ، ص 177 ، ح 4 ؛ ورواية الحسن عنه في : ج 2 ، ص 224 ، ح 9 ؛ وج 3 ، ص 557 ، ح 3 ؛ وج 3 ، ص 563 ، ح 1 ؛ وغيرها
3- في الطبعة القديمة وحاشية النسخة : «منقلع الرجل»
4- الحجرات (49) : 7
5- آل عمران (3) : 31
6- الحشر (59) : 9

وَلَا أَصُومُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكَ مَا اكْتَسَبْتَ.

وَقَالَ: مَا تَبْغُونَ وَمَا تُرِيدُونَ، أَمَا إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ (1).

فَزْعَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَزِعَ كُلُّ قَوْمٍ إِلى مَأْمَنِهِمْ، وَفَزِعْنَا إِلى نَبِيِّنَا، وَفَزِعْتُمْ إِلَيْنَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (في فُسطاط) ؛ هو بالضمّ: السرادق من الأبنية .

وقوله : (منقطع الرجلين) بالنصب على الحاليّة من زياد .

وفي بعض النسخ: «منقلع الرجلين» (2) ، والمآل واحد .

والمقصود أنّهما انقطعا عن العمل من كثرة المشي .

(فرثى له) .

في النهاية: «رثى له، إذا رقَّ وتوجّع» (3).

وقوله : (على بَكر لي نِضو) بالجرّ صفة «بكر» .

قال الجزري : «البكر، بالفتح: الفتى من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس ، والاُنثى: بكرة» (4).

وقال : «النضو، بالكسر: الدابّة التي أهزلتها الأسفار، وأذهبت لحمها» (5).

(فكنت أمشي عنه) أي معرضا عن ركوبه .

(عامّةَ الطريق) بتشديد الميم؛ أي تمامه، أو أكثره .

وقوله : (إنّي اُلمّ بالذنوب) إلى قوله : (وتجلّى عنّي) .

قال الجوهري : «الإلمام: النزول.

وقد أَلمَّ به ؛ أي نزل به. وألمَّ الرجل من اللمم، وهو صغار الذنوب» (6).

ص: 44


1- .في الطبعة القديمة : «كان»
2- كما ضبطه المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي ، ج 5 ، ص 826 ، ح 3096 ، ثمّ قال في شرحه : «أي لم تثبت قدماه على الأرض»
3- النهاية ، ج 2 ، ص 196 (رثى)
4- النهاية ، ج 1 ، ص 149 (بكر)
5- النهاية ، ج 5 ، ص 72 (نضو)
6- الصحاح ، ج 5 ، ص 2032 (لمم) مع تلخيص

وفي القاموس: «جَلا الهمَّ عنه: أذهبه.

وقد انجلى، وتجلّى» (1).

وقيل : معنى «ألمَّ بالذنوب» أنزل بها، واقترفها، أو أقرب منها، وأكاد أقترفها، فذكر المحبّة على الأوّل بسبب رجاء النجاة من العقوبة، وتجلّى ظنّ الهلاك بها .

وعلى الثاني سبب لرجاء النجاة من الذنوب وتجلّيها عنه (2).

وأنت خبير بما في التوجيه الثاني من البُعد ، والظاهر الأوّل مع تخصيص الذنوب بالصغائر .

وقوله : (وهل الدِّين إلّا الحبّ) . اللّام فيه للعهد ؛ يعني ليس حقيقة الدِّين إلّا الحبّ المعهود، وهو حبّنا أهل البيت، فهو أصل لثبوت الدين ، فكأنّه نفسه وحقيقته .

وقوله تعالى : «حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْاءِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» (3). ؛ إمّا بنصب الأدلّة، أو بالتوفيق له، أو بما وعد عليه من النصر والفتح في الدنيا ، والجنّة والنعيم في الاُخرى .

ووجه تطبيق الآية على المدّعى ما أفاده بعض الأفاضل من أنّ الدين هو الإيمان ؛ أعني الإقرار باللّه وبالرسول والأوصياء، والإيمان لا يتحقّق إلّا بحبّهم بحكم الآية ، فالدين لا يتحقّق إلّا بحبّهم .

وبعبارة اُخرى : الإيمان هو الإقرار بعليّ أمير المؤمنين وأوصيائه عليهم السلام ؛ لأنّ الإقرار بهم يستلزم الإقرار باللّه وبرسوله، دون العكس، وهو لا يتحقّق إلّا بحبّهم، والتقريب على التقديرين واضح

وقال : «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ»(4). الآية .

قال الفاضل المذكور : الدِّين _ وهو متابعة النبيّ صلى الله عليه و آله فيما جاء به، الذي أعظمه الولاية _ يتوقّف على المحبّة، وثمرته المحبّة، بدليل الشرط المذكور والمقدّر، فهو محفوف بالمحبّتين : محبّة العبد له تعالى، ومحبّته تعالى له، فلا يتحقّق إلّا بها، وهو المطلوب (5).

ص: 45


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 313 (جلو)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 421
3- الحجرات (49) : 7
4- آل عمران (3) : 31
5- .شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 421

وقال : «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ» (1).

؛ مدحهم بحبّ المهاجرين، وليس إلّا بحبّهم للدين، وهو المطلوب .

وقوله : (اُحبّ المصلّين ولا اُصلّي) إلى آخره .

كأنّ المراد بالصلاة والصوم النافلة ، وفي إرادة العموم على ما هو الظاهر إشكال ، ويفهم من السياق أنّ الرجل كان مؤمنا مع احتمال عدمه، وأنّ المحبّة سبب للنجاة .

وقيل : قوله : (ولك ما اكتسبتَ) إشارة إلى أنّ أعمال الخير سبب لرفع الدرجات (2).

وقال أبو جعفر عليه السلام : (ما تَبغون) أي أيّ شيءٍ تطلبون أيّها الشيعة .

(وما تُريدون) بعد حصول ما هو أصل السعادة الأبديّة، والنجاة الاُخرويّة لكم .

وقوله : (فَزْعَة) بالضمّ، أو بالفتح .

قال الفيروزآبادي : «الفزعة: الذُّعر، والفَرَق .

وفزع إليه، كفرَح: لجأ .

وفُزَعة، كهُمزَة: من يفزع منهم .

وبالضمّ: من يفزع منه» (3).

وأقول : لعلّ المراد هنا ما يكون منشأ للفزع والخوف مطلقا، كالصور وأمثاله .

متن الحديث السادس والثلاثين

اشارة

سَهْلٌ (4) ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلّهِ صَارَتْ فِرْقَةٌ مُرْجِئَةً، وَصَارَتْ فِرْقَةٌ حَرُورِيَّةً، وَصَارَتْ فِرْقَةٌ قَدَرِيَّةً، وَسُمِّيتُمُ التُّرَابِيَّةَ وَشِيعَةَ عَلِيٍّ، أَمَا وَاللّهِ، مَا هُوَ إِلَا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَرَسُولُهُ صلى الله عليه و آله وَآلُ رَسُولِ اللّهِ عليهم السلام وَشِيعَةُ آلِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَمَا النَّاسُ إِلَا هُمْ، كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام أَفْضَلَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ».

حَتّى قَالَهَا ثَلَاثا.

شرح الحديث

السند ضعيف .

ص: 46


1- . قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 421
2- الحشر (59) : 9
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 63 (فزع) مع التلخيص
4- السند معلّق على سابقه

قوله عليه السلام : (الحمد للّه ) إلى آخره ؛ حمد اللّه لوجود الفرقة الناجية الآتية، لا بوجود الفرق الهالكة .

قال الجزري : المرجئة: فرقة من فِرَق الإسلام يعتقدون أنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما [أنّه] لا ينفع مع الكفر طاعة . سُمّوا مرجئة ؛ لاعتقادهم أنّ اللّه تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي ؛ أي أخّره عنهم . والمرجئة تهمز ولا تهمز، وكلاهما بمعنى واحد (1). (2).

وقال صاحب الملل والنحل : المرجئة كما يطلق على طائفة يؤخّرون العمل عن النيّة والعقد ، وعلى طائفة يؤخّرون حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، ولا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا، وهم والوعيديّة فرقتان متقابلتان، كذلك تطلق على من أخّر عليّا عليه السلام من الدرجة الاُولى إلى الرابعة ، وهم والشيعة فرقتان متقابلتان . انتهى (3).

والحروريّة: الخوارج ؛ سمّوا بها لأنّ مبدأ اجتماعهم كان في قرية تسمّى «حروراء» بالفتح والمدّ، وقد يقصّر، وهي قرية بالكوفة .

والقدريّة: قد تطلق على المعتزلة القائلين باستقلال العباد في أفعالهم الاختياريّة ، وعدم مدخليّة مشيئة اللّه سبحانه وإرادته فيها .

وقد تُطلق على الأشاعرة، وهم الجبريّة القائلين بأنّ أفعال العباد خيرها وشرّها صادرة عنه تعالى، ولا مدخليّة للعبد فيها إلّا باعتبار المحلّيّة فقط، أو الكسب ؛ يعني صدور الفعل مقارنا لإرادته التي لا مدخل لها فيه ، بل إذا تعلّقت قدرته بفعل بادرت القدرة الإلهيّة، فتوجده .

(وسمّيتم التُّرابيّة) ؛ باعتبار انتسابكم إلى أبي تراب، وهو كنية عليّ عليه السلام .

وقوله : (ما هو إلّا اللّه ...) ؛ لعلّ الضمير راجع إلى الحقّ، أو إلى المحقّ، والعارف بالحقّ المعلوم بقرينة المقام، أو إلى من وجبت طاعته، كما قيل؛ (4) وفيه بُعْد .

وقوله : (وما الناس إلّا هُم) أي الرسول والأئمّة وشيعتهم .

ص: 47


1- .في المصدر : «التأخير» بدل «واحد»
2- النهاية، ج 2 ، ص 206 (رجا)
3- الملل النحل ، ج 1 ، ص 139 (مع تلخيص واختلاف يسير)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 422

وقيل : المراد بالناس هذا الهيكل مع كمال صورته الظاهرة بالأعمال الصالحة وصورته الباطنة بالعلم والإيمان والأخلاق الفاضلة، دون الهيكل فقط ؛ لأنّه بدون الصورة المذكورة عند أهل الحقّ في الظاهر، كالناس المصنوع من الخشب، كما قال تعالى : «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ» (1) ، وفي الباطن كالكلب أو الحمار، كما قال : «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ» (2) ، وقال : مثلهم «كَمَثَلِ الْحِمَارِ» (3) (4).

وقوله : (وأولى الناس بالناس) أي بأمرهم وإمارتهم .

(حتّى قالها) أي هذه الكلمات، وهي قوله : (كان عليّ أفضل الناس) إلى آخره .

متن الحديث السابع والثلاثين

اشاره

عَنْهُ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

قُلْتُ لَهُ: أَصْلَحَكَ اللّهُ، لَقَدْ تَرَكْنَا أَسْوَاقَنَا انْتِظَارا لِهذَا الْأَمْرِ، حَتّى لَيُوشِكُ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَسْأَلَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: «يَا [أَبَا] عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَ تَرى مَنْ حَبَسَ نَفْسَهُ عَلَى اللّهِ أَنْ (5) لَا يَجْعَلَ اللّهُ لَهُ مَخْرَجا؟! بَلى، وَاللّهِ لَيَجْعَلَنَّ اللّهُ لَهُ مَخْرَجا، رَحِمَ اللّهُ عَبْدا أَحْيَا أَمْرَنَا».

قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللّهُ، إِنَّ هؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةَ يَقُولُونَ: مَا عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ عَلَى الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ حَتّى إِذَا جَاءَ مَا تَقُولُونَ: كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءً؟

فَقَالَ: «يَا عَبْدَ الْحَمِيدِ، صَدَقُوا، مَنْ تَابَ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَسَرَّ نِفَاقا فَلَا يُرْغِمُ اللّهُ إِلَا بِأَنْفِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ أَمْرَنَا أَهْرَقَ اللّهُ دَمَهُ، يَذْبَحُهُمُ اللّهُ عَلَى الْاءِسْلَامِ، كَمَا يَذْبَحُ الْقَصَّابُ شَاتَهُ».

قَالَ: قُلْتُ: فَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ؟

قَالَ: «لَا، أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ سَنَامُ الْأَرْضِ وَحُكَّامُهَا، لَا يَسَعُنَا فِي دِينِنَا إِلَا ذلِكَ».

قُلْتُ: فَإِنْ مِتُّ قَبْلَ أَنْ أُدْرِكَ الْقَائِمَ عليه السلام ؟

ص: 48


1- المنافقون (63) : 4
2- الأعراف (7) : 176
3- الجمعة (62) : 5
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 422 و 423
5- في الطبعتين للكافي وجميع النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : - «أن»

قَالَ: «إِنَّ الْقَائِمَ (1) مِنْكُمْ إِذَا قَالَ: إِنْ أَدْرَكْتُ قَائِمَ آلِ مُحَمَّدٍ نَصَرْتُهُ، كَالْمُقَارِعِ مَعَهُ بِسَيْفِهِ، وَالشَّهَادَةُ مَعَهُ شَهَادَتَانِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لقد تركنا أسواقنا) إلى آخره .

لمّا كان الأئمّة عليهم السلام أبهموا الأمر على شيعتهم لمصلحة، كانوا يرجون أن يكون ظهور دولة الحقّ والخروج بالسيف على يد غير الإمام الثاني عشر، ولا يزالون منتظرين لذلك .

وقيل : لعلّ ترك الأسواق لتهيئتهم للحرب، واشتغالهم بما يوجب ممارستهم فيها. أو لقوّة رجائهم وتقريبهم هذا الأمر، فتركوا المكاسب؛ لغفلتهم بعدم احتياجهم إليها بعد ظهور هذا الأمر ، أو لاهتمامهم بطلب العلم وهداية الحقّ ، وعدم اعتنائهم بالتجارة رجاءً لما ذكر (2).

وقال الفاضل الأمين : كأنّه ناظر إلى ما نطقت به الأحاديث من أنّ اللّه تعالى قدّر أوّلاً أن يكون ظهور الأمر على يد الصادق عليه السلام ، ثمّ قدّر تقديرا آخر أن يكون على يد المهدي ، فهذه الجماعة كانوا غافلين عن التقدير الآخر، فاشتغلوا بأخذ السلاح وتعلّم آداب الحرب وما أشبه ذلك (3).

وقوله : (حَبَس نفسَه على اللّه ) أي على طاعته ، أو حبس نفسه في الطاعة متوكّلاً على اللّه .

ويحتمل كون «على» بمعنى اللّام؛ أي حبس للّه طاعته .

ولعلّ المراد ب «هؤلاء المرجئة» مطلق من أخّر عليّا عليه السلام عن غيره .

وقوله : (يقولون ما علينا) إلى قوله : (صدقوا) .

قيل : كأنّهم قالوا : ما نحن عليه من الاعتقاد بخلافة الثلاثة على تقدير بطلانه، كما زعمتم لا يضرّنا (إذا جاء ما تقولون) من ظهور المهديّ المنكر لخلافتهم، فإنّا إذا علمنا أنّه أيضا ينكرها كما تنكرونها نؤمن به، ونتوب عمّا كنّا فيه، والتوبة تمحق تلك الخطيئة عنّا ، وحينئذٍ

ص: 49


1- في كلتا الطبعتين وأكثر النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «القائل» بدل «القائم»
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 183 - 184
3- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 423

نحن وأنتم سواء في الدين وأمر الخلافة .

فأجاب عليه السلام بأنّهم في هذا القول صادقون؛ فإنّ (من تاب) توبةً خالصة (تاب اللّه عليه) وقبل توبته (1).

(ومَنْ أسرَّ نفاقا) وأبطنه وأظهر الإيمان بلسانه وجوارحه .

(فلا يُرغم اللّه إلّا بأنفه) .

في القاموس: «الرغم: الكُره _ ويثلّث _ والتراب، كالرغام، والذلّ. ورغم أنفي للّه ، مثلّثة: ذلّ عن كره. وأرغمه الذلّ، وأرغمه اللّه : أسخطه» (2). ؛ يعني من أسرّ نفاقا أذلّه اللّه وأسخطه في الدنيا والآخرة .

وقيل : إنّ الرغم مأخوذ من المراغمة، وهي الاضطراب والتحيّر ؛ يعني جعله اللّه مضطربا متحيّرا أبدا (3).

(ومن أظهر أمرنا أهرق اللّه دمه) أي من أفشى سرّنا بترك التقيّة، وأظهر التشيّع عند المخالفين ، يمكّنهم اللّه من إهراق دمه .

وهذا إمّا خبر، أو دعاء . وقيل : دعاء على مَن أظهر أسرارهم من أهل النفاق عند أعدائهم للإضرار بهم وبشيعتهم (4).

وقيل : يحتمل أن يكون المراد: من ادّعى الإمامة بغير حقّ، وخرج بغير إذن الإمام(5).

وأصل أهراق: أراق. يُقال : أراق الماء، إذا صبّه ، ثمّ اُبدلت الهمزة هاء، فقيل : «هراقه» بفتح الهاء، ثمّ جمع بين البدل والمبدل منه، فقيل : «أهراق».

وضمير «دمه» راجع إلى لفظ الموصول ، وفي قوله : (يَذبحهم اللّه على الإسلام) راجع إليه باعتبار المعنى .

والذبح: الشقّ، والفتق، والنحر، والخنق. وفعله كمنع .

ص: 50


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 423
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 121 (رغم)
3- راجع : شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 424
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 424
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 184

ويحتمل أن يكون «على» للتعليل؛ أي لأجل تضييعهم حدود الإسلام، وعدم عملهم بقوانينه .

وقيل : الظاهر أنّ الظرف حال عن المفعول، وأنّ «على» للاستعلاء والاستيلاء (1) ؛ أي مع كونهم داخلين على الإسلام غير خارجين منه .

وفي القاموس: «قَصَبه يقصبه : قطعه . والقصّاب: الزمّار» (2).

وقوله : (فنحن يومئذٍ والناس فيه سواء) متفرّع على قوله عليه السلام : «صدقوا» ، والضمير لليوم، والناس المخالفون الذين تابوا عند ظهور دولة الحقّ .

والمراد بالمساواة المشاركة في الدرجة والمنزلة الرفيعة عند الصاحب عليه السلام .

وقوله : (سنام الأرض وحكّامها) كناية عن دولة الشيعة يومئذٍ، ورفعة قدرهم، ونفاذ أمرهم .

وأصل السنام _ بالفتح _ ما هو للإبل، ومن الأرض: وسطها، ثمّ استعمل في أعالي الشيء كائنا ما كان .

(لا يسعنا في ديننا إلّا ذلك) أي لا يجوز لنا في قوانين ديننا إلّا أن نفضّلكم بسبق إيمانكم على غيركم .

وقوله : (إنّ القائم منكم) أي الذي يقوم لنصرته عليه السلام ، ويستعدّ له .

وفي بعض النسخ: «القائل منكم»، وهو الظاهر .

وقوله : (كالمُقارع) خبر «إنّ» .

في القاموس: «قَرَع رأسه بالعصا: ضربه . والمقارعة: أن تقرع الأبطال بعضهم بعضا» (3). وقوله : (والشهادة معه شهادتان) ؛ لعلّ المراد أنّ للمتمنّي ثواب شهادة واحدة ، ولمن أدركها معه ثواب شهادتين؛ لشهادته معه، ولكونه مؤمنا منتظرا لظهور دولته عليه السلام .

وقد روي : «أنّ المؤمن شهيد، وإن مات على فراشه» (4).

ص: 51


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 424
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 117 (قصب) مع التلخيص
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 68 (قرع)
4- اُنظر : الأمالي للطوسي ، ص 676 ، ح 1426 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 52 ، ص 144، ح 64

أو المراد أنّ للمتمنّي ثواب الشهادة معه ، وللشهادة معه ثواب شهادتين مع غيره ، فللمتمنّي ثواب شهادتين .

وقيل : المراد أنّ الحضور معه حضوران: بالقَصد، والفِعل (1).

متن الحديث الثامن والثلاثين

اشارة

عَنْهُ (2) ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ، قَالَ:دَخَلْنَا عَلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي زَمَنِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: «مَنْ أَنْتُمْ؟». فَقُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: «مَا مِنْ بَلْدَةٍ مِنَ الْبُلْدَانِ أَكْثَرَ مُحِبّا لَنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَا سِيَّمَا هذِهِ الْعِصَابَةِ، إِنَّ اللّهَ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ هَدَاكُمْ لأمْرٍ جَهِلَهُ النَّاسُ، وَأَحْبَبْتُمُونَا وَأَبْغَضَنَا النَّاسُ، وَاتَّبَعْتُمُونَا وَخَالَفَنَا النَّاسُ، وَصَدَّقْتُمُونَا وَكَذَّبَنَا النَّاسُ، فَأَحْيَاكُمُ اللّهُ مَحْيَانَا، وَأَمَاتَكُمُ [اللّهُ ] مَمَاتَنَا، فَأَشْهَدُ عَلى أَبِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَرى مَا يُقِرُّ اللّهُ بِهِ (3). عَيْنَهُ، وَأَنْ يَغْتَبِطَ إِلَا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُهُ هذِهِ _ وَأَهْوى بِيَدِهِ إِلى حَلْقِهِ _ وَقَدْ قَالَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِي كِتَابِهِ: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجا وَذُرِّيَّةً» (4) ، فَنَحْنُ ذُرِّيَّةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (أكثر محبّا لنا من أهل الكوفة، ولا سيّما هذه العصابة) .

«العصابة» بالكسر: الجماعة.

ولعلّها إشارة إلى جماعة مخصوصين من أهل الكوفة، ويكون المراد بالمحبّ الشيعة مطلقا .

وقيل : لعلّ المراد بالمحبّ أعمّ من الشيعة؛ أي محبّنا في الكوفة أكثر من غيرها، وفضل عدد الشيعة فيها على غيرها أكثر من فضل عدد المحبّ (5).

ص: 52


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 424
2- الظاهر أنّ الضمير راجع إلى سهل المذكور في سند الحديث (36)
3- .في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : - «به»
4- .الرعد (13) : 38
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 185

(فأحياكم اللّه مَحيانا) إلى آخره .

في النهاية: «المحيا: مَفعل من الحياة، ويقع على المصدر والزمان والمكان» (1) ؛ أي جعل حياتكم وموتكم كحياتنا وموتنا في المسابقة إلى الخيرات والفوز بالسعادات .

وقوله : (فأشهد) على صيغة المتكلّم .

وقوله : (يغتبط) على بناء الفاعل ، أو المفعول .

قال الفيروزآبادي : «الغبطة، بالكسر: حسن الحال، والمسرّة. وقد اغتبط، والحسدُ» (2).

والحاصل أنّ الشيعة إذا مات لم يتخلّل بينه وبين ثوابه عقاب أصلاً .

متن الحديث التاسع والثلاثين

اشاره

حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُدَيْسٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ، قَالَ:

سَمِعْتُ كَلَاما يُرْوى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وَعَنْ عَلِيٍّ عليه السلام وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَعَرَضْتُهُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقَالَ:

«هذَا قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَعْرِفُهُ». قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَأَكْيَسُ الْكِيسِ التَّقِيُّ، وَأَحْمَقُ الْحُمْقِ الْفَجُورُ، وَشَرُّ الرَّوِيِّ رَوِيُّ الْكَذِبِ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَعْمَى الْعَمى عَمَى الْقَلْبِ، وَشَرُّ النَّدَامَةِ نَدَامَةُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَعْظَمُ الْخَطَايَا عِنْدَ اللّهِ لِسَانُ الْكَذَّابِ، وَشَرُّ الْكَسْبِ كَسْبُ الزِّنى، (3) وَشَرُّ الْمَآكِلِ أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَحْسَنُ الزِّينَةِ زِينَةِ الرَّجُلِ هَدْيٌ حَسَنٌ مَعَ إِيمَانٍ، وَأَمْلَكُ أَمْرِهِ بِهِ وَقِوَامُ خَوَاتِيمِهِ.

وَمَنْ يَتَّبِعِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ اللّهُ بِهِ الْكَذِبَةَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ الدُّنْيَا يَعْجِزْ عَنْهَا، وَمَنْ يَعْرِفِ الْبَلَاءَ يَصْبِرْ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا يَعْرِفْهُ يَنْكُلْ.

وَالرَّيْبُ كُفْرٌ، وَمَنْ يَسْتَكْبِرْ يَضَعْهُ اللّهُ، وَمَنْ يُطِعِ الشَّيْطَانَ يَعْصِ اللّهَ، وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ يُعَذِّبْهُ اللّهُ، وَمَنْ يَشْكُرْ يَزِيدُهُ اللّهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعِينُهُ اللّهُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَحَسْبُهُ اللّهُ.

ص: 53


1- النهاية ، ج 1 ، ص 471 (حيا)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 375 (غبط)
3- في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «الربا»

لَا تُسْخِطُوا اللّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا تَقَرَّبُوا إِلى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ تَتَبَاعَدُوا (1) مِنَ اللّهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ شَيْءٌ يُعْطِيهِ بِهِ خَيْرا، وَلَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْهُ شَرّا إِلَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، وَإِنَّ طَاعَةَ اللّهِ نَجَاحٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ يُبْتَغى، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُتَّقى، وَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ يَعْصِمُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَلَا يَعْتَصِمُ بِهِ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا يَجِدُ الْهَارِبُ مِنَ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مَهْرَبا، وَإِنَّ أَمْرَ اللّهِ نَازِلٌ وَلَوْ كَرِهَ الْخَلَائِقُ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، مَا شَاءَ اللّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَتَعَاوَنُوا (2) عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْاءِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» »(3).

شرح الحديث

السند مجهول .

ورواه الصدوق رحمه الله في الفقيه (4) وفي أماليه (5). بسند حسن، مع زيادات .

قوله : (الشقيّ من شقي) .

وفي بعض الروايات: «السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(6).

والمشهور في تفسيره أنّ اللّه تعالى لمّا علم سعادة كلّ شخص، وهي ثباته في سبيل اللّه وسلوكه فيه، وعلم شقاوة كلّ أحد ، وهي سلوكه في سبيل الطاغوت وثباته فيه ، فالسعيد من هو في علم اللّه أن يكون في عاقبة أمره سعيدا، وإن كان بالنظر إلى ظاهر أحواله في أكثر عمره عند الناس شقيّا ، وكذا الشقيّ . ولمّا كان وجوده العيني وانطباق العلم بالمعلوم في بدو وجوده في بطن اُمّه ، نسب السعادة والشقاوة إليه في هذا الوقت .

أو المراد من بطن الاُمّ ما قبل الولادة مطلقا .

هذا ولا يبعد أن يكون الحديث إشارة إلى كسب ما انجرّ إلى السعادة والشقاوة، أعني

ص: 54


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «بتباعد». وفي بعض النسخ الكافي والوافي : «يتباعد» . وفي بعض النسخ : «يتباعدوا»
2- .في الحاشية عن بعض النسخ: «و تعاونوا»
3- المائدة (5) : 2
4- الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868
5- الأمالي للصدوق ، ص 487 ، ح 1 . والسند فيه هكذا : «حدّثنا الشيخ الفقيه أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رحمه الله ، قال : حدّثنا أبي، قال : حدّثنا عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم ، عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الصبّاح الكناني»
6- اُنظر : تفسير روح البيان ، ج 1 ، ص 104

أسبابهما ومباديهما في التكليف الأوّل بقدرته واختياره، كما نطقت به صريح كثير من الأخبار .

(وأكيس الكيس التقيّ) .

يمكن كون «الكيس» و«التقي» مصدرين، وإسنادهما إلى «أكيس» إسنادا مجازيّا.

ويحتمل كونهما على صيغة صفة المشبّهة. والأوّل أقرب وأنسب بالفقرات الآتية .

وأصل الفجور : الميل . والفاجر : المائل . ثمّ استعمل في الفسق والكذب .

(وشرّ الرويّ رويّ الكذب) .

«الروِيّ»: فعيل بمعنى الفاعل؛ إمّا من الرؤية، وهي التفكّر في الأمر، أو من الرويّ بمعنى الشرب التامّ، كما ذكره في القاموس (1) ؛ أي شرّ الارتواء الارتواء من قول الكذب والتملّي منه، أو من كثرة سماعه، أو هما معا .

و يحتمل أن يكون من الرواية ، ويؤيّده ما في نسخ الفقيه والأمالي : «وشرّ الرواية رواية الكذب» (2).

وفي بعض نسخ الكتاب : «وشرّ الرداء رداء الكذب» ؛ أي الارتداء به، وجعله شعارا لنفسه .

وفي روايات العامّة : «شرّ الروايا روايا الكذب» (3).

قال صاحب النهاية: في حديث عبداللّه : شرّ الروايا روايا الكذب . هي جمع «رويّة»، وهي ما يُروِّي الإنسان في نفسه من القول والفعل ؛ أي يزوّر، ويفكّر، وأصلها الهمزة . يُقال : روّأت في الأمر . وقيل : هي جمع «راوية» للرجل الكثير الرواية ، والهاء للمبالغة . وقيل : هي جمع «راوية» ؛ أي الذين يروون الكذب؛ أي تكثر رواياتهم فيه (4).

ص: 55


1- اُنظر : القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 337 (روي)
2- الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 487 ، ح 1
3- سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 299 ؛ شرح مسلم للنووي ، ج 16 ، ص 161 ؛ المعجم الأوسط ، ج 8 ، ص 32 ؛ مسند الشهاب ، ج 2 ، ص 264 ؛ الجامع الصغير، ج 1 ، ص 245
4- النهاية ، ج 2 ، ص 279 (روي)

وقوله : (مُحدَثاتها) بفتح الدال، جمع محدَثة، وهي ما لم يُعرف في الدِّين من الاُمور المبتدعة المخترعة، ومقابلها الاُمور القديمة المعروفة في الكتاب والسنّة .

(وأعمى العمى عمى القلب) .

لعلّ «أعمى» أفعل صفة، لا «أفعل» تفضيل؛ لأنّ اشتقاقه من العيوب الظاهرة ليس بقياس، بخلاف الأحمق؛ فإنّه يصحّ كونه للتفضيل لكونه من العيوب الباطنة ، إلّا أن يقال: لمّا نسب العمى إلى القلب صارت من الباطنة، أو حكم بشذوذه . أو نقول : المراد بالعمى أثره ومقتضاه. وكأنّ هذا الأخير أحسن الوجوه .

(وأعظم الخطايا عند اللّه لسان الكذّاب) أي خطيئة لسانه . أو المراد باللسان الكلام ، وقد شاع استعماله فيه، كما يقال : فلان يتكلّم بلسان العرب. أو نقول: حُمِل اللسان على الخطايا مبالغة ومجازا من قبيل تسمية المحلّ باسم الحالّ . وفي الفقيه: «شرّ المخطئين» بدل «أعظم الخطايا» (1).

وقوله : (كسب الزنا) (2).

في بعض النسخ: «الربا» بالراء المهملة والباء الموحّدة، وكذا في نسخ الفقيه .

(وشرّ المآكل أكل مال اليتيم) ؛ كأنّ «المآكل» مصدر ميميّ؛ لحمل المصدر عليه .

وقوله : (زينة الرجل) بالجرّ بدل من «الزينة»، أو عطف بيان له .

ولعلّ تخصيصها بالذكر للاهتمام، وكونها للتمثيل بعيد .

وقوله : (هَدْيٌ) بالفتح والسكون: السيرة، والطريقة.

ورفعه على الخبريّة من «أحسن». ووصفه بالحَسن؛ للاحتراز عمّا يقابله. وتقييده بالإيمان؛ لترتّب الانتفاع الاُخروي عليه .

وقوله : (وأملكُ أمره به) عطف على «أحسن الزينة» .

والضمير الأوّل للرجل، والثاني للهَدي . وفي القاموس: «ليس له ملاك _ كسحاب _ لا يتمالك، ومَلاك الأمر، ويكسر: قوامه الذي يملِك به» (3).

ص: 56


1- الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868
2- في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «كسب الربا»
3- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 320 (ملك)

(وقِوام خواتيمه) عطف أيضا على «أحسن»، وضميره للرجل . قال الفيروزآبادي :

«القَوام، كسَحاب: العدل، وما يعاش به. وبالكسر: نظام الأمر، وعماده، وملاكه» (1)

وقال :

الخِتام، ككتاب: الطين، يختم فيه على الشيء. والخاتم: ما يوضع على الطبيعة، وحَلْيٌ للإصبع كالخاتِم. الجمع: خواتِم، وخواتيم. ومن كلّ شيء: عاقبته ، وآخرته _ كخاتمته _ وآخر القوم . انتهى (2).

ولعلّ ملاك أمره بالهدي الحسن في حال الحياة، وقوام خواتيمه به بعد الممات .

وقال بعض الأفاضل في شرح هذا الكلام : «أي الهدي الحَسَن أملك الاُمور له، فيفكّه، ويخلّصه عن الشهوات والشرور، وهو سبب لقوامه وخواتيم اُموره وصلاحها» .

قال : «ويحتمل أن يكون الواو في قوله : «وقوام» زيدت من النسّاخ . وفي الفقيه والأمالي : أحسن زينة الرجل السكينة مع إيمان» (3) . هذا كلامه، فتأمّل .

(ومن يتّبع (4). السمعة يسمّع اللّه به الكذبة) .

«يتّبع» بتخفيف التاء وتشديدها . يُقال : تبعتُ القوم تبعا وتباعا وتباعةً، إذا مشيت خلفهم، أو مرّوا بك فمضيت معهم ، وكذلك اتّبعتهم على افتعلت .

والضمير المجرور راجع إلى الموصول . و«الكِذْبَةُ» بالكسر: مصدر، وكذلك كَذِبة، بفتح الكاف وكسر الذال . وقيل : لعلّ المراد بها كذبة نفسه. يقال: كَذَبَتْهُ نفسُه، إذا منّته الأمانيّ، وخيّلت إليه الآمال، فتُنشِّطهُ، وتبعثه على فعل ما يفضى إليها من الأعمال (5). انتهى .

وقوله : «يسمّع» من السميع . قال الفيروزآبادي : «ما فعله رياءً ولا سمعة، وتضمّ وتحرّك، وهي ما نوّه بذكره ليرى ويُسمع. والتسميع: التشييع، والتشهير» (6).

ص: 57


1- القاموس المحيط ، ، ج 4 ، ص 168 (قوم)
2- القاموس المحيط ، ، ج 4 ، ص 102 (ختم)
3- .مرآة العقول ، ج 25 ، ص 187
4- .في الوافي : «يبتغ» من الابتغاء ، بمعنى الطلب
5- . قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 427
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 40 (سمع)

وقال الجزري: فيه: «من سمّع الناسَ بعلمه، سمّع اللّه به سامِعَ خَلقِهِ» . وفي رواية: «أسامع خَلْقهِ» . يُقال : سمّعت بالرجل تسميعا وتَسمِعَةً، إذا شهّرته، وندّدت به . وسامع: اسم فاعل من سَمِعَ. وأسامع: جمع أسمُع. وأسمُع : جمع قلّة سَمْع. وسَمّع فلان بعلمه، إذا أظهره ليسمع. فمن رواه: سامعُ خلقه _ بالرفع _ جعله من صفة اللّه تعالى؛ أي سمع اللّه الذي هو سامع خلقه به الناس. ومن رواه: أسامِع، أراد أنّ اللّه تعالى يسمّع به أسامع خَلقهِ يوم القيامة .

وقيل : أراد من سمّع الناس بعلمه ، سمّعه اللّه ، وأراه ثوابه من غير أن يعطيه .

وقيل : من أراد بعلمه الناس أسمعه اللّه تعالى الناس، وكان ذلك ثوابه .

وقيل : المراد أنّ من يفعل فعلاً صالحا في السرّ، ثمّ يُظهره ليسمعه الناس ، ويُحمَد عليه؛ فإنّ اللّه تعالى يسمّع به، ويُظهر إلى الناس غرضه، وأنّ عمله لم يكن خالصا .

وقيل : يريد من نسب إلى نفسه عملاً صالحا لم يفعله، وادّعى خيرا لم يصنعه؛ فإنّ اللّه تعالى يفضحه، ويظهر كذبه (1).

وقال الطيبي : ومن نصب سامع يريد سمّع اللّه به من كان له سمع مِنْ خَلْقه (2).

(ومن يتولّ الدُّنيا يعجز عنها) .

يُقال : تولّى العمل ؛ أي تقلّد ؛ أي لا يمكن لأحد تحصيل جميع ما هو مطلوبه منها؛ فإنّ اُمورها صعب إمّا بالذات، أو لكثرة الموانع .

(ومن يعرف البلاء) أي منافعه ومثوباته . (يصبر عليه)؛ لما يتصوّر من ثمراته .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنّ من يعرف البلاء قبل نزوله، وهيّأ نفسه لقبوله، يصبر بعد وصوله، كما يرشد إليه بعض الروايات (3).

(ومن لا يعرفه ينكُل) .

ص: 58


1- النهاية ، ج 2 ، ص 402 (سمع)
2- اُنظر : الفائق في غريب الحديث للزمخشري ، ج 2 ، ص 157
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 428

في القاموس : «نكل عنه _ كضرب ونصر وعلم _ نكُولاً : نكص، وجبن» (1).

(والريب) أي الشكّ والارتياب في اُصول الدِّين وفروعه، وترك طلب اليقين فيهما، أو القلق والاضطراب بعد الوصول إلى ما هو الحقّ والصواب .

(كفر) ؛ بمنزلة الجحود والإنكار .

(ومن يشكر يزيده (2) اللّه ) .

في بعض النسخ: «يزده اللّه » . ولفظة «مَن» على الأوّل موصولة ، وعلى الثاني شرطيّة . وبهذا يظهر فساد ما قيل: إنّ «يزيده اللّه » على ما في كثير من النسخ ضعيف؛ لأنّ الشرط والجزاء إذا كانا مستقبلين كان الأحسن جزم الجزاء، ورفعه ضعيف (3).

(ومن يصبر على الرزيّة) أي المصيبة .

(يُعينه اللّه ) .

في بعض النسخ: «يعنه اللّه » بالجزم (4).

(ولا تقربوا إلى أحدٍ من الخلق تتباعدوا من اللّه ) أي من رحمته .

ولعلّ المراد التقرّب إليهم بمعصية اللّه . وقيل : لابدّ من حملهم على من ليس من أهل التقرّب بهم؛ فإنّ التقرّب بالعلماء والصلحاء تقرّب إلى اللّه (5).

ويؤيّد الاُولى ما وقع في بعض نسخ الكتاب وفي الفقيه: «بتباعد من اللّه » (6).

وقوله : (فإنّ اللّه عزّ وجلّ) إلى قوله : (واتّباع مَرضاته) تعليل للسابق .

والمراد بالشيء الوسيلة والسبب والعهد ؛ يعني ليس بين اللّه وبين الخلق وسيلة يوجب الوصول إلى الخير مطلقا، ودفع الشرّ مطلقا، إلّا طاعته واتّباع مرضاته، وهما لا يتحقّقان في ضمن التقرّب بشرار الخلق، وطلب رضاهم بما فيه سخط الخالق ، ومنهم من خصّص الخير بالجنّة والشرّ بالنار .

ص: 59


1- الفقيه ، ج 4 ، ص 402 ، ح 5868
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 428
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 60 (لكل)
4- في مرآة العقول : «يزيد» من دون الضمير
5- كما ضبطه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 187
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 429

(وإنّ طاعة اللّه نَجاح) بالفتح؛ أي ظفر بالحوائج .

(من كلّ خير يُبتغى) أي يطلب .

ولعلّ كلمة «من» للتعليل . وفي الفقيه والأمالي: «نجاح كلّ خير» بدون «من»، وهو أظهر . وقوله : (يعصم مَن أطاعه) أي يمنعه من الشرور والآفات، أو من إغواء الشيطان .

(ولا يعتصم به من عصاه) .

يُقال : اعتصمت باللّه ، إذا امتنعت بلطفه من المعصية . وفي الكتابين: «ولا يعتصم منه» (1). قيل : لعلّ المراد أنّ العاصي قطع سبب العصمة بينه وبين اللّه ، فلا يعصمه اللّه من الشرور في الدُّنيا والآخرة (2).

(ولا يجد الهارب من اللّه مَهربا) أي موضعا حصينا يهرب إليه، ويحتفظ به؛ إذ كلّ مهرب يفرض فهو في ملكه وسلطانه .

(وإنّ أمر اللّه نازل) ؛ ظاهره مطلق الأمر، وإرادة خصوص من الموت احتمال.

وكذا قوله : (كلّ ما هو آت قريب) ؛ يحتمل الأمرين .

وقيل : الغرض من هذا الكلام الترغيب في الطاعة، والزجر عن المعصية بانقطاع زمانهما سريعا، وترتّب ما لكلّ منهما عليه من قريب (3).

(ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن) .

مرَّ تحقيق هذا الكلام في كتاب التوحيد من الاُصول ، وجملة القول فيه ما أفاده بعض الأفاضل أنّ : هذا في فعله تعالى ظاهر ، وأمّا في فعل العباد فباعتبار أنّه تعالى لمّا أعطاهم القوّة على الطاعة والمعصية، ولم يجبرهم على شيء منهما تحقيقا لمعنى الاختيار والتكليف، فقد شاء صدورهما منهم؛ إذ لو لم يشأ لما أعطاهم تلك القوّة، ولجبرهم على الطاعة ، أو باعتبار أنّه لمّا شاء مشيّتهم فقد شاء أفعالهم ، وبهذا فسّر بعض

ص: 60


1- واستصوبه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 188
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 188
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 430

المفسّرين قوله تعالى : «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ» (1).

وهذا التوجيه قريب من الأوّل .

وقيل : المراد بالمشيّة هنا العلم . وهذا التوجيه وإن كان مستبعدا بحسب اللغة والعرف، إلّا أنّه لا يحتاج إلى ارتكاب بعض التكلّفات .

ويظهر ممّا ذكر سرّ ما روي : أنّه تعالى شاء ولم يرض، واللّه تعالى يعلم، ونحن في ذلك من المسلّمين (2).

والظاهر أنّ الفاء في قوله : (فتعاونوا) فصيحة؛ أي إذا عرفتم المواعظ السابقة أصلاً وفرعا، فتعاونوا .

«عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» .

قال بعض المفسّرين : «أي على العفو والإغضاء ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى» (3).

«وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْاءِثْمِ» ؛ بترك الأوامر وفعل المناهي .

«وَالْعُدْوَ نِ» (4) أي الظلم على الغير للتشفّي والانتقام .

متن الحديث الأربعين

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ عَنْ أَبَانٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ:

أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» (5) ، فَقَالَ: «كَانَ [النَّاسُ ]قَبْلَ نُوحٍ أُمَّةَ ضَلَالٍ، فَبَدَا لِلّهِ، فَبَعَثَ الْمُرْسَلِينَ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: لَمْ يَزَلْ، وَكَذَبُوا، يَفْرُقُ (6). فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مَا كَانَ مِنْ شِدَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ مَطَرٍ بِقَدْرِ مَا يَشَاءُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقَدِّرَ إِلى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ».

ص: 61


1- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 430
3- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 292
4- المائدة (5) : 2
5- .البقرة (2) : 213
6- .في الطبعة القديمة : + «اللّه » . وفي حاشية النسخة : «بالتخفيف والتشديد، وبهما قرئ قوله تعالى: «فِيهَا يَفْرُقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» [الدخان (44) : 4]»

شرح الحديث

شرح (1)

قوله تعالى في سورة البقرة : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً» .

قال البيضاوي : أي متّفقين على الحقّ فيما بين آدم وإدريس، أو نوح، أو بعد الطوفان. أو متّفقين على الجهالة والكفر في فترة إدريس، أو نوح، «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ» ؛ أي اختلفوا، فبعث اللّه . وإنّما حذف لدلالة قوله: «فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» ، وقوله : «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» (2).

أقول : قوله عليه السلام : (كان قبل نوح اُمّة ضلال) يدلّ على أنّ المراد بالوحدة الاتّفاق على الكفر والضلالة، لا على الحقّ، كما زعمه البيضاوي أوّلاً، بل هو لم يتحقّق بعد ظهور نسل آدم عليه السلام إلى زمن نوح أصلاً .

وقوله : (فبدا للّه ) . قال الجوهري : «بدا له في هذا الأمر بداء _ ممدود _ أي نشأ له فيه رأي» (3). انتهى .

وهذا بحسب اللغة ، وأمّا البداء بالنسبة إليه تعالى، فحدوث الإرادة مجازا، كما في سائر صفاته. وتحقيقه أنّ إطلاق الصفات وإجراؤها على اللّه سبحانه باعتبار الغايات، لا المبادئ .

وقوله : (لم يزل) مقول القول ؛ يعني ليس الأمر كما يقولون: إنّ اللّه تعالى قدّر الاُمور في الأزل، وقد فرغ منها، فلا يتغيّر تقديراته تعالى ، بل للّه البداء فيها بالمعنى الذي ذكرناه ، «يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (4).

وقال الفاضل الإسترآبادي : قوله «فبدا للّه » إلى آخره ؛ أي فحدثَتْ للّه إرادة متعلّقة ببعث نوح عليه السلام ومن بعده من الأنبياء لهداية الناس ، فإرادة اللّه تعالى حادثة، وليست قديمة كما زعمت الفلاسفة، ومُولِعوا فنّ الكلام من علماء الإسلام ، وكيف تكون قديمة، وفي ليلة القدر من كلّ سنة يقدّر اللّه ما يقع في تلك السنة ، والبداء في حقّه تعالى حدوث إرادته، وفي حقّ

ص: 62


1- في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 189 : «[السند] مجهول»
2- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 496
3- .الصحاح ، ج 6 ، ص 2278 (بدا)
4- الرعد (13) : 39

غيره حدوث علمه (1).

متن الحديث الواحد والأربعين (حديث البحر مع الشمس)

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ، (2) عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ مِنَ الْأَقْوَاتِ _ الَّتِي قَدَّرَهَا اللّهُ لِلنَّاسِ مِمَّا (3) يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ _ الْبَحْرَ الَّذِي خَلَقَهُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

قَالَ: «وَإِنَّ اللّهَ قَدْ قَدَّرَ فِيهَا مَجَارِيَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْكَوَاكِبِ، وَقَدَّرَ ذلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْفَلَكِ، ثُمَّ وَكَّلَ بِالْفَلَكِ مَلَكا وَمَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَهُمْ يُدِيرُونَ الْفَلَكَ، فَإِذَا أَدَارُوهُ دَارَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْكَوَاكِبُ مَعَهُ، فَنَزَلَتْ فِي مَنَازِلِهَا الَّتِي قَدَّرَهَا اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيهَا لِيَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا، فَإِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَنْ يَسْتَعْتِبَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ، أَمَرَ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْفَلَكِ أَنْ يُزِيلَ الْفَلَكَ الَّذِي عَلَيْهِ مَجَارِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْكَوَاكِبِ، فَيَأْمُرُ الْمَلَكُ أُولئِكَ السَّبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ أَنْ يُزِيلُوهُ عَنْ مَجَارِيهِ».

قَالَ: «فَيُزِيلُونَهُ، فَتَصِيرُ الشَّمْسُ فِي ذلِكَ الْبَحْرِ الَّذِي يَجْرِي فِي الْفَلَكِ».

قَالَ: «فَيَطْمِسُ ضَوْؤُهَا، وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهَا، فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُعَظِّمَ الْايَةَ طَمَسَتِ الشَّمْسُ فِي الْبَحْرِ عَلى مَا يُحِبُّ اللّهُ أَنْ يُخَوِّفَ خَلْقَهُ بِالْايَةِ».

قَالَ: «وَذلِكَ عِنْدَ انْكِسَافِ الشَّمْسِ». قَالَ: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُ بِالْقَمَرِ».

قَالَ: «فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يُجَلِّيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا إِلى مَجْرَاهَا، أَمَرَ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْفَلَكِ أَنْ يَرُدَّ الْفَلَكَ إِلى مَجْرَاهُ، فَيَرُدُّ الْفَلَكَ، فَتَرْجِعُ الشَّمْسُ إِلى مَجْرَاهَا».

قَالَ: «فَتَخْرُجُ مِنَ الْمَاءِ، وَهِيَ كَدِرَةٌ». قَالَ: «وَالْقَمَرُ مِثْلُ ذلِكَ».

قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : «أَمَا إِنَّهُ لَا يَفْزَعُ لَهُمَا، وَلَا يَرْهَبُ بِهَاتَيْنِ الْايَتَيْنِ إِلَا مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا، فَإِذَا كَانَ كَذلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ».

ص: 63


1- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 431
2- في الحاشية: «مجهول»
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «ما»

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (حديث البحر مع الشمس) أي الحالة التي تعرض للشمس مع البحر الذي بين السماء والأرض .

وهذا الحديث من الأحاديث المتشابهة الغريبة التي علمها عند أهل العصمة .

وقوله : (إنّ من الأقوات) ؛ لعلّ المراد أسبابها .

وفي الفقيه (1) : «إنّ من الآيات» (2).

قال الفيروزآبادي : «القُوت: المُسكة من الرزق. ومن العيش: الكفاية» (3) انتهى .

وقيل : الأقوات: جمع قوت، وهو ما يؤكل ليمسك الرمق ، والبحر قوت مجازا؛ لأنّه سبب له، أو حقيقةً إن اُريد بالقوت ما يشرب أيضا؛ لأنّ مياه الأرض من ذلك البحر؛ لدلالة بعض الأخبار على أنّه ينزل منه ماء المطر والسحاب بمنزلة غربال له (4).

وقوله : (البحر الذي خلقه اللّه ) .

لعلّ المراد بهذا البحر الفضاء والمسافة التي تتحرّك فيها الكواكب، وتتبدّل أوضاعها، أو ما تكون الكواكب مركوزة فيها، ومتحرّكة بحركتها، كخارج المركز للشمس والتداوير والحوامل لغيرها من السيّارات ، أو الممثّلات وأمثالها للجميع، وكفلك البروج للثوابت .

ويرشد إليه قوله عليه السلام فيما بعد الفلك، الذي عليه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب .

قال صاحب النهاية : «سمّي البحر بحرا لسعته .

والعرب تسمّي المُدن والقرى البحر.

ومنه الحديث: «وكتب لهم ببحرهم» أي ببلدهم وأرضهم» (5).

وقال الفيروزآبادي : «البحر: الماء الكثير ، والشقّ، وشقّ الاُذن. ومنه البحيرة . والبَحَرةُ: البلدة، والمنخفض من الأرض» (6).

وقوله : (قدّر فيها) أي في السماء، أو في البحر بالنظر إلى كونه آية .

ص: 64


1- الفقيه ، ج 1 ، ص 539 ، ح 1506
2- واستظهره العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 185
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 155 (قوت)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 432
5- النهاية ، ج 1 ، ص 99 و 100 (بحر) مع التخيص
6- القاموس المحيط ، ، ج 1 ، ص 367 (بحر) مع التلخيص

وقيل : كلمة «في» بمعنى «على» ؛ أي قدّر عليها، ومحاذيا لها، أو جعلها بحيث يمكن أن تجري الكواكب فيها عند الحاجة (1)..

وقوله : (النجوم والكواكب) .

العطف للتفسير، أو للتعميم، أو يُراد بالنجوم السيّارات وبالكواكب الثوابت .

(وقدّر ذلك كلّه على الفلك) .

الظاهر أنّ «ذلك» إشارة إلى المجاري، أو إلى الجَرْي والحركات المفهومة منها .

وقيل : الظاهر أنّ المراد بالفلك الفلك الأعظم الذي به قوام الحركة اليوميّة، والجنس محتمل، فيشمل الخوارج المراكز، بل التداوير أيضا .

ولا يبعد أن يكون الشمس أيضا تدويرا ، كما هو مذهب البعض، وإن لم يثبتوه في المشهور(2)

(ثمّ وكلّ بالفلك ملكا) .

الظاهر أنّ المراد به الفلك المعروف في عرف الشرع، ولا داعي لتأويله وصرفه عن الظاهر كما ارتكبه البعض، وحمله على نفس فلكيّة مستتبعة لنفوس كثيرة معيّنة لها في تحصيل ما هو المطلوب منها، وتلك النفوس الجزئيّة بالنسبة إليها كالقوى بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة (3) ، وعلى هذا حركة الأفلاك مادّيّة ، وعلى ما قلناه قسريّة.

وقوله : (يستعتبهم) ؛ أي يسترجعهم عمّا هم فيه من الذنوب والإساءة. وقيل: يخوّفهم بآية من آياته الدالّة على آثار غضبه(4) .

قال الجزري : عتبه يَعتِبهُ عتبا، وعَتَب عليه، والاسم: المعتبة _ بالفتح والكسر _ ومن الموجدة، والغضب. والعتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة. واستعتب: طلب أن يُرضى عنه . ومنه الحديث: «فلعلّه يستعتب»؛ أي يرجع عن الإساءة، ويطلب

ص: 65


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 185
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 432
3- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 432
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 432

الرِّضا . انتهى (1).

ومثله في الصحاح (2) . فلعلّ قوله عليه السلام : «يستعتبهم» من باب الحذف والإيصال؛ أي يستعتب بهم .

وقوله : (فتصير الشمس) أي بعضها .

(في ذلك البحر) .

قيل : الظرفيّة مجازيّة باعتبار أنّها بحذائه(3). وأنت بعد خبرتك بما حقّقناه في معنى البحر ظهر لك أنّه لا حاجة إلى هذا التوجيه البعيد، وأنّ الظرفيّة باقية على حقيقتها .

وقوله : (في ذلك البحر الذي يجري في الفلك) أي يثبت ما فيه .

وفي الفقيه: «الذي كان فيه الفلك» (4) وهو الأظهر .

(قال : فيُطمس ضَوؤها) على بناء المجهول ؛ أي يُمْحى بعض ضوئها .

والطمس: الدروس، والإمحاء ، وفعله كنصر وضرب .

وفي الفقيه: «فينطمس» ، وهو أظهر .

(ويتغيّر لونها) بانطماس ضوئها .

وقوله : (أن يعظّم الآية) ؛ لعظم ذنوب العباد، أو لإصرارهم فيها .

(طَمست الشمس) أي كلّها (في البحر) .

وفي الفقيه: «غُمِست في البحر» .

(على ما) أي على القدر الذي (يحبّ اللّه أن يخوّف خلقه بالآية) من كثرة المدّة ، أو قلّتها، أو انطماس بعضها ، أو كلّها .

(قال : فتخرج من الماء وهي كدرة) .

قيل : أي بعدما كانت كدرة، أو تبقى فيها كدورة قليلة بعد الخروج أيضا في زمان قليل (5).

وقوله : (لا يفزع لهما) أي لأجل حصول تينك الآيتين .

ص: 66


1- الفقيه ، ج 1 ، ص 539 ، ح 1506
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 432
3- النهاية ، ج 3 ، ص 175 (عتب)
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 176 (عتب)
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 186

(ولايرهب) عطف على «يفزع» .

(بهاتين الآيتين) متعلّق بالفزع والرهبة .

(إلّا من كان من شيعتنا) ؛ لأنّهم هم الذين يسندونهما إلى اللّه ، ويصدِّقون قول أئمّتهم في ذلك . وأمّا غيرهم ممّن يسندهما إلى الحركات والأوضاع الفلكيّة، فلا يفزعون بهما فزعا يوجب صلاة الخوف والرجوع والإنابة عن الذنوب .

وقال بعض الأفاضل :

هذا من إخباره عليه السلام بالغيب ؛ لأنّه لم يقل بوجوب هذه الصلاة من العصر الأوّل إلى هذا الزمان أحدٌ من المخالفين، مع تواتر أخبارهم بأنّه صلى الله عليه و آله صلّاها وأمر بها ، يظهر ذلك لمن تتبّع اُصولهم وفروعهم (1).

وقال الصدوق رحمه الله : «إنّ الذي يخبر به المنجّمون من الكسوف، فيتّفق على ما يذكرونه ليس من هذا الكسوف في شيء، وإنّما يجب الفزع إلى المساجد والصلاة؛ لأنّه آية تشبه آيات الساعة» انتهى (2).

ويؤيّده ما روي من الكسوف والخسوف في يوم عاشوراء وليلتها (3) وروي أيضا في الأخبار: «إنّ من علامات قيام القائم عليه السلام الكسوف والخسوف في غير الوقت المعهود، وعند ذلك يختلّ وينقطع حساب المنجّمين» (4).

وقوله : (فافزعوا) أي الجأوا .

(إلى اللّه عزّ وجلّ) بالصلاة والاستغاثة .

(ثمّ ارجعوا إليه) بالتوبة والاستغفار .

متن الحديث الثاني والأربعين

اشاره

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:شَكَوْتُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام مَا أَلْقى مِنْ أَهْلِ بَيْتِي مِنِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِالدِّينِ، فَقَالَ: «يَا إِسْمَاعِيلُ،

ص: 67


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 433
2- الفقيه ، ج 1 ، ص 540 (مع تلخيص)
3- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 45 ، ص 205 ، ح 6
4- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 187 ؛ شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 433 و 434

لَا تُنْكِرْ ذلِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ جَعَلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ حُجَّةً يَحْتَجُّ بِهَا عَلى أَهْلِ بَيْتِهِ فِي الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَ لَمْ تَرَوْا فُلَانا فِيكُمْ؟ أَ لَمْ تَرَوْا هَدْيَهُ فِيكُمْ؟ أَ لَمْ تَرَوْا صَلَاتَهُ فِيكُمْ؟ أَ لَمْ تَرَوْا دِينَهُ؟ فَهَلَا اقْتَدَيْتُمْ بِهِ؟ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْقِيَامَةِ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله عليه السلام : (لا تُنكر ذلك) .

في القاموس: «النكر، بالضمّ وبضمّتين: الأمر الشديد . ونكر الأمر _ كفرح _ وأنكره: جهله» (1).

قيل : معنى قوله : «لا تنكر ذلك»: لا تتعرّض لهم بما يوجب استخفافهم بك وإهانتهم إيّاك؛ فإنّ كونك فيهم ومشاهدتهم أطوارك حجّة عليهم. أو المراد: لا تسأم ، ولا تضجر من دعوتهم؛ فإنّك في القيامة حجّة عليهم، فيكون ذلك تسلية له، وتحريصا على هدايته لهم . أو المراد محض التسلية ، ورفع الاستبعاد من وقوعه بينهم ، وابتلائه بهم، وبيان أنّ الحكمة في ذلك كونه حجّة عليهم (2).

وأقول : الأظهر أن يُقال: إنّ هذا الكلام نظير قوله تعالى : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» (3) ؛ يعني أنّ ما شاهدت منهم من استخفافهم بقولك وباُمور الدِّين، فلا تستغرب ذلك منهم؛ فإنّه شنشنة أهل الزمان في وقت وأوان، ولا يضرّك ذلك ، بل يضرّهم؛ فإنّك حجّة عليهم يوم القيامة ، كما أنّ كلّ من كان مثلك فإنّه حجّة على أهل بيته .

متن الحديث الثالث والأربعين

اشاره

عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثَيْمٍ النَّخَّاسِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ يَكُونُ (4). فِي الْمَحَلَّةِ، فَيَحْتَجُّ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَوْمَ

ص: 68


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 148 (نكر) مع التلخيص
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 192
3- فاطر (35) : 4
4- في الطبعتين وأكثر نسخ الكافي : «ليكون»

الْقِيَامَةِ عَلى جِيرَانِهِ [بِهِ]، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَ لَمْ يَكُنْ فُلَانٌ بَيْنَكُمْ؟ أَ لَمْ تَسْمَعُوا كَلَامَهُ؟ أَ لَمْ تَسْمَعُوا بُكَاءَهُ فِي اللَّيْلِ، فَيَكُونُ حُجَّةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ؟ (1) ».

شرح الحديث

السند مجهول.

وفي القاموس: «المحلّة: المنزل»(2).

متن الحديث الرابع والأربعين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ» (3). ، قَالَ: «كَانَ طَيْرٌ سَافٌّ جَاءَهُمْ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ رُؤُوسُهَا كَأَمْثَالِ رُؤُوسِ السِّبَاعِ، وَأَظْفَارُهَا كَأَظْفَارِ السِّبَاعِ مِنَ الطَّيْرِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ: فِي رِجْلَيْهِ حَجَرَانِ، وَفِي مِنْقَارِهِ حَجَرٌ، فَجَعَلَتْ تَرْمِيهِمْ بِهَا حَتّى جُدِّرَتْ أَجْسَادُهُمْ، فَقَتَلَهُمْ بِهَا، وَمَا كَانَ قَبْلَ ذلِكَ رُئِيَ شَيْءٌ مِنَ الْجُدَرِيِّ، وَلَا رَأَوْا ذلِكَ مِنَ الطَّيْرِ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَا بَعْدَهُ».

قَالَ: «وَمَنْ أَفْلَتَ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ انْطَلَقَ حَتّى إِذَا بَلَغُوا حَضْرَمَوْتَ، وَهُوَ وَادٍ دُونَ الْيَمَنِ، أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلاً، فَغَرَّقَهُمْ أَجْمَعِينَ».

قَالَ: «وَمَا رُئِيَ فِي ذلِكَ الْوَادِي مَاءٌ قَطُّ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً».

قَالَ: «فَلِذلِكَ سُمِّيَ حَضْرَمَوْتَ حِينَ مَاتُوا فِيهِ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله تعالى : «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ» .

ص: 69


1- . في الطبعة القديمة : «عليهم»
2- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 359 (حلل)
3- الفيل (105) : 3 و 4

قال الجوهري : «الطير، جمع طائر» (1).

وقال : «قال الأخفش: يقال : جاءت إبلك أبابيل؛ أي فِرَقا. وطير أبابيل» . قال : «وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له . وقد قال بعضهم : واحده: إبَّوْل، مثل عِجَّوْل . وقال بعضهم : إبّيل، ولم أجد العرب تعرف له واحدا» (2).

وقال البيضاوي : طير أبابيل: جماعات، جمع إبّالة ، وهي الحزمة الكبيرة، شُبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها . وقيل : لا واحد لها، كعباديد وشماطيط .

«تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ» . وقرئ بالياء على تذكير الطير؛ لأنّه اسم جمع، أو إسناده إلى ضمير «ربّك» (3).

«مِنْ سِجِّيلٍ» . في القاموس: «سجّيل، كسكّيت: حجارة كالمدر، معرّب «سَنگ» و«گِل»، أو كانت طبخت بنار جهنّم، وكتب فيها أسماء القوم ، أو قوله تعالى : «مِنْ سِجِّيلٍ» أي من سِجلّ؛ أي ممّا كتب لهم أنّهم يعذّبون بها» (4).

وقال البيضاوي : « «مِنْ سِجِّيلٍ» أي من طين متحجّر، معرّب سَنگ گِل» (5) .

وقيل : من السجلّ، وهو الدلو الكبير. أو الإسجال وهو الإرسال. أو من السِجِّل ، ومعناه المكتوب المُدوّن (6) .

قال عليه السلام : (كان طير سافّ) . «كان» تامّة، و«سافّ» بتشديد الفاء، أو تخفيفها . قال الجزري : «أسفّ الطائر، إذا دنا من الأرض في طيرانه» (7).

وقال الجوهري : «سفا يسفو سُفُوا، إذا أسرع في المشي والطيران» (8).

(جاهم من قِبَل البحر) ؛ يقال: جهمه، كمنعه، إذا استقبله بوجهٍ كريهٍ .

وفي بعض النسخ: «جاءهم»، وهو الأظهر .

ص: 70


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 727 (طير)
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1618 (أبل)
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 531
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 394 (سجل)
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 251
6- اُنظر: مرآة العقول ، ج 25 ، ص 192 و 193
7- النهاية ، ج 2 ، ص 375 (سفف)
8- الصحاح ، ج 6 ، ص 2378 (سفى)

(رؤوسها كأمثال رؤوس السباع) ؛ يعني من الطير بقرينة قوله : (وأظفارها كأظفار السباع من الطير) ؛ إذ الظاهر أنّ «من» بيان للسباع في الموضعين .

وقوله : (جدّرت) .

في القاموس:

الجَدْر: [الحائط] . وخروج الجُدَري _ بضمّ الجيم وفتحها _ لقُروح في البدن، تنفط وتقيّح. وقد جَدَر وجُدِرَ _ كعني، ويشدّد _ فهو مجدور ومجدَّر. وبالتحريك: سلع تكون في البدن خلقة، أو من ضَرْبٍ، أو من جراحةٍ، كالجُدَر، كصُرد، واحدتها بهاء . انتهى (1).

قيل : ظاهر الخبر أنّها ضَرَبَتْ على كلّ رجل أحجارا كثيرة، حتّى جدّرت أجسادهم .

وظاهر غيره من الأخبار والتواريخ أنّها ضربت على كلّ رجل حصاة واحدة مات بها .

ويمكن أن يكون تجدّر أجسادهم من حصاةٍ واحدة، تصيبهم من حرٍّ تحدثه في أجسادهم (2).

وقوله : (فلذلك سمّي حضرموت حين ماتوا فيه) أي سمّي به لأجل أنّ موتهم حضر فيه .

قال الفيروزآبادي : «حضرمَوْت، وتضمّ الميم: بلد وقبيلة . ويقال : هذا حضرموتُ، ويضاف ، فيقال : حَضرُموتٍ، بضمّ الرّاء . وإن شئت لا تُنوّن الثاني» (3).

متن الحديث الخامس والأربعين

اشاره

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُكَيْرٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ وَعَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ:وَقَعَ بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَبَيْنَ وَلَدِ الْحَسَنِ عليه السلام كَلَامٌ، فَبَلَغَنِي ذلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَذَهَبْتُ أَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لِي: «مَهْ، لَا تَدْخُلْ فِيمَا بَيْنَنَا، فَإِنَّمَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ بَنِي عَمِّنَا كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ، فَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مِنْ رَجُلٍ زَرَّاعٍ، وَزَوَّجَ الْأُخْرى مِنْ رَجُلٍ فَخَّارٍ، ثُمَّ زَارَهُمَا، فَبَدَأَ

ص: 71


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 387 (جدر)
2- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 193
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 10 (حضر)

بِامْرَأَةِ الزَّرَّاعِ، فَقَالَ لَهَا: كَيْفَ حَالُكُمْ، فَقَالَتْ: قَدْ زَرَعَ زَوْجِي زَرْعا كَثِيرا، فَإِنْ أَرْسَلَ اللّهُ السَّمَاءَ، فَنَحْنُ أَحْسَنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَالاً، ثُمَّ مَضى إِلىَ امْرَأَةِ الْفَخَّارِ، فَقَالَ [لَهَا] : كَيْفَ حَالُكُمْ؟ فَقَالَتْ: قَدْ عَمِلَ زَوْجِي فَخَّارا كَثِيرا، فَإِنْ أَمْسَكَ اللّهُ السَّمَاءَ، فَنَحْنُ أَحْسَنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَالاً، فَانْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: اللّهُمَّ أَنْتَ لَهُمَا، وَكَذلِكَ نَحْنُ».

شرح الحديث

السند موثّق .

وقوله : (أرسل اللّه السماء) .

قال الجوهري : «السماء: المطر» (1). والفخّار _ بالتشديد _ في الأوّلين بمعنى عامل الخزف ، وفي الثالث بمعنى الخزف .

قال الفيروزآبادي : «الفَخّارة، كجبّانة: الجرّة، والجمع: الفخّار، أو هو الخزف» (2).

وقوله : (اللّهمَّ أنت لهما) .

قيل : أي كما أنّ مقصدهما أنت ، [فكن أنت] لهما، وحصّل مقصدهما وإن كانت الوسيلة متضادّة ، كنزول المطر وعدم نزوله؛ فإنّك قادرٌ على ذلك (3).

وقيل : أي أنت المقدّر لهما، تختار لكلّ منهما ما يصلحهما، أو لا أشفع لأحدهما؛ لأنّك أعلم بصلاحهما (4).

(وكذلك نحن) .

قال الفاضل الإسترآبادي :

أي نريد الخير لبني عمّنا ، كما نريد لأنفسها، ولا نرضى بالشرّ في حقّهم، فلا نكلّم عليهم، وإنّما جهالتهم بحقّنا تسبّب لما جرى بيني وبينهم ، كما أنّ الرجل يريد خير ابنتيه (5).

ص: 72


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2381 (سما)
2- القاموس المحيط ، ، ج 2 ، ص 108 (فخر)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 436
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 194
5- حكاه عنه المحققّ المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 436

وقيل: الأولى أنّه أراد لا تدخل بيني وبين بني عمّي؛ فإنّي لا اُريد أن يدخل بيننا ثالث غير اللّه تعالى (1).

وقال بعض الفضلاء : أي ليس لكم أن تحاكموا بيننا؛ لأنّ الخصمين كليهما من أولاد الرسول، ويلزمكما احترامهما لذلك، فليس لكم [أن تدخلوا] بينهما فيما فيه يختصمان ، كما أنّ ذلك الرجل لم يرجّح جانب أحد صِهريه، ووكّل أمرهما إلى اللّه (2).

متن الحديث السادس والأربعين

اشارة

مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ، (3) عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ ذَرِيحٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يُعَوِّذُ بَعْضَ وُلْدِهِ وَيَقُولُ: «عَزَمْتُ عَلَيْكِ يَا رِيحُ، وَيَا وَجَعُ، كَائِنٌ (4) مَا كُنْتِ بِالْعَزِيمَةِ الَّتِي عَزَمَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلى جِنِّ وَادِي الصَّبْرَةِ، فَأَجَابُوا، وَأَطَاعُوا، لَمَّا أَجَبْتِ، وَأَطَعْتِ، وَخَرَجْتِ عَنِ ابْنِي فُلَانٍ ابْنِ ابْنَتِي فُلَانَةَ السَّاعَةَ السَّاعَةَ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (يعوّذ بعض ولده) .

قيل : دلّ على أنّ العوذة والرقية على الجنّ جائزة إذا كان بكتاب اللّه وأسمائه ، وسيجيء تعويذ جبرئيل عليه السلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأسمائه تعالى . وصرّح بعض العامّة بأنّه كره العوذة والرقية بغيرهما من الأسماء العجميّة؛ لأنّها كانت العرب تفعل في الجاهليّة، وكانوا يعتقدون أنّها تدفع عنهم الجنّ (5).

ص: 73


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 194
2- شرح المازندراني، ج 11 ، ص 436
3- في الحاشية عن بعض النسخ: + «بن محمّد»
4- في كلتا الطبعتين وبعض نسخ الكافي: «كائنا»
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 436

وقوله : (عَزَمْتُ عليك) .

قال الجوهري : «ويُقال أيضا : عَزَمت عليك ؛ بمعنى أقسمتُ عليك» (1).

وقوله : (كائن ما كنت) ؛ لأنّه خبر مبتدأ محذوف . والجملة في محلّ النصب على الحاليّة . وفي بعض النسخ: «كائنا» (2).

وقوله : (بالعزيمة) ؛ هي آية من القرآن، أو دعاء تقرأ على ذوي الآفات لدفعها .

وقوله : (عليّ بن أبي طالب) مفعول «عزم»، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله فاعله .

وقوله : (وادي الصبرة) .

في القاموس: «الصبرة، بالضمّ: الحجارة الغليظة المجتمعة» (3).

وقوله : (فأجابوا وأطاعوا) .

روى المفيد رحمه الله في إرشاده بإسناده عن ابن عبّاس، قال : لمّا خرج النبيّ صلى الله عليه و آله إلى بني المصطلق، جنب عن الطريق، فأدركه الليل، ونزل بقرب وادٍ وعرٍ، فلمّا كان في آخر الليل هبط [عليه] جبرئيل عليه السلام يخبره أنّ طائفة من كفّار الجنّ قد استبطنوا الوادي ، يريدون كيده وإيقاع الشرّ بأصحابه عند سلوكهم إيّاه، فدعا أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال له : «اذهب إلى هذا الوادي، فسيعرض لك من أعداء اللّه الجنّ من يريدك، فادفعهم بالقوّة التي أعطاك اللّه عزّ وجلّ، وتحصّن منهم بأسماء اللّه _ عزّ وجلّ _ التي خصّك بعلمها» .

وأنفذ معه مائة رجل من أخلاط الناس، وقال لهم : «كونوا معه، وامتثلوا أمره» ، فتوجّه أمير المؤمنين عليه السلام إلى الوادي، فلمّا قرُب من شفيره أمر المائة الذين صحبوه أن يقفوا بقرب الشفير، ولا يُحدثوا شيئا حتّى يؤذن لهم ، ثمّ تقدّم، فوقف على شفير الوادي، وتعوّذ باللّه من أعدائه، وسمّى اللّه عزّ اسمه، وأومأ إلى القوم الذين تبعوه أن يتقرّبوا منه، فقربوا وكان بينه وبينهم فرجة مسافتها غلوة، ثمّ رام الهبوط إلى الوادي، فاعترضت ريح عاصف كاد أن تقع القوم على وجوههم؛ لشدّتها، ولم تثبت أقدامهم على الأرض من هول الخصم ومن هول ما

ص: 74


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1985 (عزم)
2- واستظهره العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 195
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 67 (صبر) مع تلخيص

لحقهم، فصاح أمير المؤمنين عليه السلام : «أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب، وصيّ رسول اللّه وابن عمّه، اثبتوا إن شئتم»، فظهر للقوم أشخاص على صور الزطّ، تخيّل في أيديهم شُعَلُ النيران، قد اطمأنّوا وأطافوا (1) بجنبات الوادي، فتوغّل أمير المؤمنين بطن الوادي ، وهو يتلو القرآن ، ويؤمئ بسيفه يمينا وشمالاً، فما لبثت الأشخاص حتّى صارت كالدخان الأسود، وكبّر أمير المؤمنين عليه السلام ، ثمّ صعد من حيث هبط، فقام مع القوم الذين اتّبعوه حتّى أسفر الموضع عمّا اعتراه ، فقال له أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما لقيت يا أبا الحسن، فلقد كدنا أن نهلك خوفا، وأشفقنا عليك أكثر ممّا لحقنا ؟!

فقال عليه السلام لهم : «إنّه لمّا تراءى لي العدوّ، جهرتُ فيهم بأسماء اللّه تعالى، فتضاءلوا، وعلمت ما حلّ بهم من الجزع، فتوغّلت الوادي غير خائف منهم، ولو بقوا على هيأتهم لأتيتُ على آخرهم، وقد كفى اللّه كيدهم، وكفى المؤمنين (2). شرّهم، وستسبقني بقيّتهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله يؤمنون به» .

وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام بمن معه إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأخبره الخبر ، فسرّي عنه، ودعا له بخير ، وقال له : «قد سبقك يا عليّ إلى من أخافه اللّه بك ، وأسلم، وقبلتُ إسلامه ، ثمّ ارتحل بجماعة المسلمين حتّى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين» (3).

وهذا الحديث قد روته العامّة كما روته الخاصّة ، ولم يتناكروا شيئا .

وقوله : (لمّا أجبت) بصيغة الخطاب.

و«لمّا» بالتشديد بمعنى «إلّا» ؛ أي ما فعلت شيئا إلّا أحببت .

قال الفيروزآبادي : «لمّا»، تكون بمعنى «حين» و«لم» الجازمة و«إلّا» ، وإنكار الجوهري كونه بمعنى «إلّا» غير جيّد. يقال: سألتك لمّا فعلت، ومنه: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ» (4). ، «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ» (5) وقرأ عبداللّه : إن كلّ لمّا كذّب الرسل (6).

ص: 75


1- في المصدر : - «وأطافوا»
2- في المصدر : «المسلمين»
3- الإرشاد ، ج 1 ، ص 339 - 341 (مع اختلاف يسير)
4- .الطارق (86) : 4
5- .يس (36) : 32
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 177 (لم)

متن الحديث السابع والأربعين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ يَتَفَقَّدْ يَفْقِدْ، وَمَنْ لَا يُعِدَّ (1) الصَّبْرَ لِنَوَائِبِ الدَّهْرِ يَعْجِزْ، وَمَنْ قَرَضَ النَّاسَ قَرَضُوهُ، وَمَنْ تَرَكَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوهُ.

قِيلَ: فَأَصْنَعُ مَا ذَا يَا رَسُولَ اللّهِ؟

قَالَ: أَقْرِضْهُمْ مِنْ عِرْضِكَ لِيَوْمِ فَقْرِكَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (مَن يتفقّد يفقد).

فقده، كضربه: عَدِمَهُ. وافتقده وتفقّده: طلبه عند الغيبة .

قال الجزري: «في حديث أبي الدرداء : من يتفقّد يفقد . أي من يتفقّد أحوال الناس ويتعرّفها، فإنّه لا يجد ما يرضيه؛ لأنّ الخير في الناس قليل» (2).

(ومن لا يُعدّ الصبر) أي لا يهيّأ، ولم يجعله ملكة.

في القاموس: «أعدّه: هيّأه»(3).

(لنوائب الدهر) أي مصائبها (يَعجز) بكسر الجيم؛ أي لم يقدر على غمّها(4).

(ومَنْ قرض الناس قرضوه) بتشديد الراء في الموضعين، أو تخفيفهما .

قال الفيروزآبادي : «قَرَضه يَقرِضه: قطعه، وجازاه، كقارضه . والتقريض: المدح

ص: 76


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «لم يعدّ»
2- النهاية ، ج 3 ، ص 462 (فقد)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 313 (عدد)
4- قال المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 436 : «وفيه ترغيب للمؤمن على أن يجعل الصبر ملكة حصينة وكيفيّة متينة ليحصل له الثبات والتمكّن والرزانة عند المكاره والحدثان ، ولايعجز عن تحمّلها ، ولايجزع جزع المجانين والصبيان»

والذمّ ضدٌّ» (1).

وفي النهاية: «ومنه حديث أبي الدرداء: إن قارضتَ الناس قارضوك ؛ أي إن ساببتهم ونِلتَ منهم سبّوك، ونالوا منك» (2).

وقوله : (أقرِضهم من عِرضك) من الإقراض .

في القاموس:

العِرض، بالكسر: النفس، وجانب الرجل الذي يصونه من نفسه وحسبه أن ينتقص ويثلب، أو سواء كان في نفسه ، أو سلفه ، أو من يلزمه أمره، أو موضع المدح والذمّ منه، أو ما يفتخر به من حسب وشرف ، وقد يُراد به الخليقة المحمودة (3).

وقال الجزري : ومنه حديث الآخر : «أقرِض من عرضك ليوم فقرك» ؛ أي إذا نال أحدٌ من عِرضك، فلا تجازه، ولكن اجعله قَرضا في ذمّته لتأخذه منه يوم حاجتك إليه ؛ أي يوم القيامة (4).

متن الحديث الثامن والأربعين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ:

بَيْنَا مُوسَى بْنُ عِيسى فِي دَارِهِ الَّتِي فِي الْمَسْعى يُشْرِفُ عَلَى الْمَسْعى، إِذْ رَأى أَبَا الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام مُقْبِلاً مِنَ الْمَرْوَةِ عَلى بَغْلَةٍ، فَأَمَرَ ابْنُ هَيَّاجٍ رَجُلاً مِنْ هَمْدَانَ مُنْقَطِعا إِلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِلِجَامِهِ ، وَيَدَّعِيَ الْبَغْلَةَ.

فَأَتَاهُ، فَتَعَلَّقَ بِاللِّجَامِ، وَادَّعَى الْبَغْلَةَ، فَثَنى أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام رِجْلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا، وَقَالَ لِغِلْمَانِهِ: «خُذُوا سَرْجَهَا، وَادْفَعُوهَا إِلَيْهِ».

فَقَالَ: وَالسَّرْجُ أَيْضا لِي.

فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : «كَذَبْتَ، عِنْدَنَا الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ سَرْجُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَمَّا الْبَغْلَةُ فَإِنَّا اشْتَرَيْنَاهَا مُنْذُ قَرِيبٍ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ وَمَا قُلْتَ».

ص: 77


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 341 (قرض)
2- النهاية ، ج 4 ، ص 41 (قرض)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 334 (عرض)
4- النهاية ، ج 4 ، ص 41 (قرض)

شرح الحديث

كأنّ ضمير «عنه» راجع إلى عليّ بن إبراهيم . ومثله في هذا الكتاب كثير .

والسند صحيح .

قوله : (موسى بن عيسى) ؛ هو من بني العبّاس، وكان يومئذٍ واليا بمكّة .

وقوله : (منقطعا إليه) .

الضمير لموسى بن عيسى ؛ أي كان من خواصّه .

وقوله : (فثنى أبو الحسن عليه السلام رجلَه) إلى آخره .

قال الجوهري : «ثنيت الشيء ثنيا: عطفته. وثنيته أيضا: صرفته عن حاجته» (1).

وقيل : لعلّه عليه السلام سلّم البغلة مع علمه بكذب المدّعي؛ صونا لعرضه عن الترافع إلى الوالي، أو رفعا لليمين، أو تعليما للناس ليتأسّوا به فيما لم يعلموا كذب المدّعي احتياطا واستحبابا (2).

وأقول : يرد على هذه الوجوه أنّه ينبغي حينئذٍ أن يدفع السرج أيضا . فالصواب أن يُقال: إنّه عليه السلام مكلّف بالظاهر، لا بالعلم بالواقع ، فلمّا كان أمر البغلة مشتبها ظاهرا دفعه احتياطا . أو لترك المناقشة بخلاف السرج، مع علمه بأنّ الامتناع من دفعه لا ينجرّ إلى المناقشة .

والواو في قوله : (وما قلت) بمعنى الباء .

قال الفيروزآبادي : «وقد تخرج الواو عن إفادة مطلق الجمع، وذلك على أوجه» ثمّ ذكر من تلك الأوجه كونها بمعنى باء الجرّ، نحو : أنت أعلم ومالك، وبعت الشاة ودرهما (3).

ومثله قال الجوهري (4).

متن الحديث التاسع والأربعين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُرَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:

خَرَجْنَا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام حَيْثُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مِنَ الْحِيرَةِ، فَخَرَجَ سَاعَةَ أُذِنَ

ص: 78


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2294 و 2295 (ثني)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 198
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 413 (واو)
4- اُنظر : الصحاح ، ج 6 ، ص 2259 (واو)

لَهُ، وَانْتَهى إِلَى السَّالِحِينَ (1) فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَعَرَضَ لَهُ عَاشِرٌ كَانَ يَكُونُ فِي السَّالِحِينَ (2) فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ: لَا أَدَعُكَ أَنْ تَجُوزَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ، فَأَبى إِبَاءً، وَأَنَا وَمُصَادِفٌ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُصَادِفٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّمَا هذَا كَلْبٌ قَدْ آذَاكَ، وَأَخَافُ أَنْ يَرُدَّكَ، وَمَا أَدْرِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَنَا وَمُرَازِمٌ؛ أَ تَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَضْرِبَ عُنُقَهُ، ثُمَّ نَطْرَحَهُ فِي النَّهَرِ؟

فَقَالَ: «كُفَّ يَا مُصَادِفُ»، فَلَمْ يَزَلْ يَطْلُبُ إِلَيْهِ حَتّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ أَكْثَرُهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَمَضى، فَقَالَ: «يَا مُرَازِمُ، هذَا خَيْرٌ أَمِ الَّذِي قُلْتُمَاهُ؟».

قُلْتُ: هذَا جُعِلْتُ فِدَاكَ.

فَقَالَ(3). : «إِنَّ الرَّجُلَ يَخْرُجُ مِنَ الذُّلِّ الصَّغِيرِ، فَيُدْخِلُهُ ذلِكَ فِي الذُّلِّ الْكَبِيرِ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (من عند أبي جعفر) أي الدوانيقي .

(من الحيرة) .

في القاموس: «الحيرة، بالكسر: بلد قرب الكوفة»(4)

وقوله : (إلى السالحين) ؛ كأنّ المراد بهم الذين يدورون في الليل مع السلاح . في القاموس: «رجلٌ سالح: ذو سلاح»(5).

ويحتمل أن يكون اسم موضع . قال في المغرب : «السالحون: موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى المغرب . وأمّا السَّيْلَحون فهو مدينة باليمن» (6). وقول الجوهري : «سيلحون: قرية.

والعامّة تقول: سالحون» (7) فيه نظر .

ص: 79


1- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي: «الساحلين»
2- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي: «الساحلين»
3- .في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي والبحار : + «يا مرازم»
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 16 (حير)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 229 (سلح)
6- المغرب ، ص 231 (سلح)
7- .الصحاح ، ج 1 ، ص 376 (سلح)

وقوله : (عاشر) أي الذي يأخذ عشر المال، ويُقال له: العَشّار أيضا .

وقوله : (فألحَّ عليه) أي بالغ أبو عبد اللّه عليه السلام في السؤال على ذلك العاشر .

(وطلب إليه) أي رُغب إليه ، والتمس منه أن يَدَعه، فأبى ذلك العاشر من إجابته .

(إباءً) .

قال الجوهري : «الإباء، بالكسر: مصدر قولك : أبى فلان يأبى ، بالفتح فيهما؛ أي امتنع» (1).

وقوله عليه السلام : (إنّ الرجل يخرج من الذُلّ الصغير) إلى آخره .

الذُلّ، بالضمّ: الهوان .

والغرض من هذا الكلام أنّ العاقل لا ينبغي له أن يدفع الفاسد بالأفسد؛ فإنّ سوء أدب العاشر بالنسبة إليه عليه السلام ، وإن كان فاسدا ، إلّا أنّ قتله لدفع الذلّ أفسد؛ إذ المفاسد المترتّبة عليه أكثر وأشدّ ، وذلك إشارة إلى الخروج .

متن الحديث الخمسين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، (2).

قَالَ:بَعَثَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام غُلَاما لَهُ فِي حَاجَةٍ، فَأَبْطَأَ، فَخَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَلى أَثَرِهِ لَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ نَائِما، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ يُرَوِّحُهُ حَتَّى انْتَبَهَ، فَلَمَّا انْتَبَهَ، قَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «يَا فُلَانُ، وَاللّهِ مَا ذَاكَ لَكَ تَنَامُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَكَ اللَّيْلُ وَلَنَا مِنْكَ النَّهَارُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (على إثره) بالكسر وبالتحريك ؛ أي بعده .

وقوله : (تنام الليل والنهار) بدل من قوله : «ذاك» .

وفي قوله : (لك الليل ولنا منك النهار) ؛ دلالة على أنّ الليل حقّ للمماليك، لا ينبغي [أن ]يتعرّض الموالي لهم فيه؛ والنهار حقّ للموالي من المماليك ، لا يجوز ترك خدمتهم فيه .

ص: 80


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2259 (أبا)
2- هذا في حاشية النسخة. وفي المتن: «عن جعفر بن أبي حفص ، عن حفص بن أبي عائشة». وفي حاشية اُخرى: «عن حفص بن أبي حفص، عن أبي عائشة»

متن الحديث الواحد والخمسين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ (1). ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «لَا تَذْكُرُوا سِرَّنَا بِخِلَافِ عَلَانِيَتِنَا، وَلَا عَلَانِيَتَنَا بِخِلَافِ سِرِّنَا، حَسْبُكُمْ أَنْ تَقُولُوا مَا نَقُولُ، وَتَصْمُتُوا عَمَّا نَصْمُتُ، إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَمْ يَجْعَلْ لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ فِي خِلَافِنَا خَيْرا، إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (2) ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله عليه السلام : (بخلاف علانيتنا) حال عن السرّ، أو متعلّق ب «لا تذكروا» .

وقيل : السرّ عبارة عن العقائد الحقّة، والأحكام الإلهيّة الواقعة في نفس الأمر، وهم عليهم السلام قد يتكلّمون بخلافها عند التقيّة، أو ضعف عقول المخاطَبين عن تحمّلها، إلى غير ذلك من المصالح ، وقد يتكلّمون بها عند عدم التقيّة وما يجري مجراها ، فنهى عليه السلام أوّلاً أن يذكروا سرّهم بخلاف علانيتهم في صورة الخوف ، ونهى ثانيا أن يذكروا علانيتهم بخلاف سرّهم؛ لعدم الخوف اللازم من ذلك التكلّم بما تكلّموا به، والسكوت عمّا سكتوا عنه ، فلذلك قال : (حسبكم أن تقولوا) إلى آخره ؛ لأنّهم عليهم السلام أعرف بمواضع القول والسكوت (3).

وقيل : معنى قوله : «لا تذكروا سرّنا...» : لا تغلوا فينا، ولا تثبتوا لنا ما يأبى عنه ظواهر أحوالنا كالربوبيّة (4). والصَّمت: السكوت، وفعله كنصر .

ص: 81


1- في الطبعة الجديدة وبعض نسخ الكافي والوسائل : «عن حسّان أبي عليّ» بدل «عن حسّان ، عن أبي عليّ» . وفي حاشية النسخة عن بعض النسخ : «عن حسّان بن أبي عليّ» . وفي بعض نسخ الكافي : «عن حسّان بن عليّ» . وعلى أيّ حالٍ الرجل مجهول لم يعرف
2- النور (24) : 63
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 438
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 199

وقوله : (إنّكم قد رأيتم) تعليل للسابق .

وقوله : (إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ يقول) دليل لهذا التعليل ؛ لأنّ الآية متضمّنة لما ذكر .

«فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» .

قال البيضاوي : أي يخالفون أمره بترك مقتضاه، ويذهبون سَمتا خلاف سمته ، و«عن» لتضمّنه معنى الإعراض، أو يصدّون عن أمره دون المؤمنين، مِن «خالفه عن الأمر» إذا صدّ عنه دونه .

وحذف المفعول؛ لأنّ المقصود بيان المخالِف والمخالَف عنه . والضمير للّه ؛ فإنّ الأمر له في الحقيقة، أو للرسول؛ فإنّه المقصود بالذِّكر .

«أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ» : محنة في الدنيا .

«أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» في الآخرة (1).

متن الحديث الثاني والخمسين

اشارة

مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْحَلَالِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«قَالَ مُوسى (2) عليه السلام : يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ الدَّاءُ؟ قَالَ: مِنِّي. قَالَ: فَالشِّفَاءُ؟ قَالَ: مِنِّي. قَالَ: فَمَا يَصْنَعُ عِبَادُكَ بِالْمُعَالِجِ؟ قَالَ: يُطَبِّبُ (3) بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الْمُعَالِجُ الطَّبِيبَ (4) ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (من أين الداء) أي حصول المرض وحدوثه .

وقوله : (يطبّب) .

ص: 82


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 204
2- .في الحاشية عن بعض النسخ: + «بن عمران»
3- .في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «يطيّب» بالياء المثّناة . وفي حاشية النسخة : «يطيّب _ يطبّبون»
4- هذا في الحاشية. وفي المتن: «بالطبيب»

في بعض النسخ بالياء المثنّاة. وفي بعضها بالباء الموحّدة .

قال الفيروزآبادي :

الطبّ، مثلثّة الطاء: علاج الجسم والنفس ، يَطُبُّ ويَطِب ، والرفق، والسحر.

وبالكسر: الشهوة، والإرادة، والشأن، والعادة. وبالفتح: الماهر الحاذق بعلمه كالطبيب . والمتطبّب : المتعاطي في علم الطبّ، تأنّى للاُمور وتلطّف (1).

(فيومئذٍ سُمّي المُعالج بالطبيب) ؛ كأنّ وجه التسمية على نسخة «يطبّب» بالباء الموحّدة أنّهم إنّما سمّوا بالطبيب؛ لرفع الهمّ والحزن عن نفوس المرضى، والتلطّف بهم .

وعلى نسخة «يطيّب» بالياء المثنّاة، قيل : ليس المراد أنّ مبدأ اشتقاق الطبيب الطيّب أو التطبيب؛ فإنّ أحدهما من المضاعف، والآخر من الأجوف ، بل المراد أنّ تسميتهم بالطبيب ليست بسبب تداوي الأبدان عن الأمراض، بل لتداوي النفوس عن الهموم والأحزان، فتطيّب بذلك (2) ؛ يعني أنّ المراد بالطبّ هنا علاج النفس لا البدن ، على أنّه يمكن أن يكون هذا مبنيّا على الاشتقاق الكبير .

وقيل: الفصحاء قد ينقلون لفظا إلى معنى لفظ آخر باعتبار أدنى ملابسة بينهما ، وهاهنا كذلك ؛ لأنّ الطبيب يدلّ على الطيّب باعتبار اشتماله على حروفه مع زيادة ، وهي الباء الاُولى، وهذا القدر كافٍ في وجه التسمية، ونظيره ما رواه المصنّف عن أبي الحسن عليه السلام قال : «سمّي عليّ عليه السلام أمير المؤمنين؛ لأنّه يميرهم العلم (3) » (4).

متن الحديث الثالث والخمسين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَا مِنْ دَاءٍ إِلَا وَهُوَ شَارِعٌ إِلَى الْجَسَدِ، يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ بِهِ فَيَأْخُذَهُ».

* وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: «إِلَا الْحُمّى؛ فَإِنَّهَا تَرِدُ وُرُودا».

ص: 83


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 96 (طبب)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 199
3- الكافي ، ج 1 ، ص 412 ، ح 3 . وانظر أيضا : تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 184 ، ح 46 ؛ معاني الأخبار ، ص 63
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 439

شرح الحديث

السند موثّق .

قوله : (شارع إلى الجسد ...) بالشين المعجمة.

وكأنّ المراد أنّه داخل فيه، أو منفتح إليه، وله طريق فيه . قال الجوهري : «الشارع: الطريق الأعظم. وشَرَع المنزل، إذا كان إلى الطريق ؛ أي فتحت» (1).

والحاصل : أنّ الأدواء لها مادّة في الجسد مكمونة، فإذا أذِنَ اللّه تعالى إيّاها في البروز برزت إلّا الحمّى؛ فإنّها قد ترد بغير مادّة ، بل بالأسباب الخارجة، كتصرّف هواء بارد، أو حرارة الشمس مثلاً .

وقيل : الشارع: المتّصل(2) وفي المصباح : «شرع الباب إلى الطريق: اتّصل به» (3).

وفي بعض النسخ: «سارع» بالسين المهملة . وفي بعضها: «يسارع» . ولعلّ الغرض من هذا الحديث الترغيب في الدُّعاء والصدقة .

متن الحديث الرابع والخمسين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ زُرْبِيٍّ (4) ، قَالَ:

مَرِضْتُ بِالْمَدِينَةِ مَرَضا شَدِيدا، فَبَلَغَ ذلِكَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: «قَدْ بَلَغَنِي عِلَّتُكَ، فَاشْتَرِ صَاعا مِنْ بُرٍّ، ثُمَّ اسْتَلْقِ عَلى قَفَاكَ، وَانْثُرْهُ عَلى صَدْرِكَ كَيْفَمَا انْتَثَرَ، وَقُلِ: اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي إِذَا سَأَلَكَ بِهِ الْمُضْطَرُّ كَشَفْتَ مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَمَكَّنْتَ لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلْتَهُ خَلِيفَتَكَ عَلى خَلْقِكَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَنْ تُعَافِيَنِي مِنْ عِلَّتِي. ثُمَّ اسْتَوِ جَالِسا، وَاجْمَعِ الْبُرَّ مِنْ حَوْلِكَ، وَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ، وَاقْسِمْهُ مُدّا مُدّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ».

قَالَ دَاوُدُ: فَفَعَلْتُ مِثْلَ ذلِكَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطْتُ مِنْ عِقَالٍ، وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، فَانْتَفَعَ بِهِ.

ص: 84


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1236 (شرع)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 439
3- المصباح المنير، ص327 (شرع)
4- في الوافي : «داود بن رزين»

شرح الحديث

السند صحيح .

قال في الإيضاح : «داود بن زربيّ، بالزاي المكسورة أوّلاً، ثمّ الراء الساكنة، ثمّ الباء المنقّطة تحتها نقطة» .

وفي القاموس: «الزرابيّ: النمارق. الواحد: زربي، بالكسر، ويضمّ» (1).

قوله عليه السلام : (فاشتر صاعا من بُرّ) بالضمّ: الحنطة .

ويفهم من ظاهر الأمر أنّه ينبغي أن يشتري وإن كان مالكا لمثله، وحاضرا عنده ، ويحتمل أن يكون الأمر به؛ لعلمه عليه السلام بأنّه ليس مالكا له .

وقوله : (انثُره على صدرك) .

يُقال : نَثَرَ الشيء ينثُرُ _ بالضمّ _ نَثْرا، وينثِره _ بالكسر _ نَثْرا ونِثارا: رماه متفرّقا كثيرة.

وفيه دلالة على أنّه ينبغي للمريض أن يتولّى ذلك بنفسه ، ولعلّه في صورة الإمكان .

وقيل : ينبغي أن يقرأ المريض هذا الدُّعاء، ولو بالتلقين، ولو لم يقدر فليقرأ غيره (2).

وقوله : (إذا سألك به المُضطرّ) إلى آخره ، إشارة إلى قوله تعالى : «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ» (3).

والخليفة: من يخلف غيره، وينوب منابه ، وأصله: خليف، والهاء للمبالغة، أو للنقل .

قيل : الخليفة كما يطلق على الأنبياء والأوصياء؛ لأنّهم خلفاء اللّه في أرضه، كذلك يُطلق على هذا النوع كلّهم؛ لأنّهم خلفاء من سكن الأرض قبلهم ، أو لأنّه يخلف بعضهم بعضا ، والمراد هنا المعنى الثاني (4).

وأقول : روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن [عليّ بن] بن فضّال، عن صالح بن عقبة، عن أبي عبداللّه عليه السلام في قوله تعالى : «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ» الآية ، قال : «نزلت في القائم عليه السلام ، هو واللّه المضطرّ، إذا صلّى في المقام ركعتين ، [و] دعا اللّه ، فأجابه ، ويكشف السوء، ويجعله خليفة في الأرض » (5). انتهى .

ص: 85


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 78 (زرب)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 439
3- النمل (27) : 62
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 440
5- .تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 129 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 51 ، ص 48 ، ح 11

ولا يخفى أنّ حمل الدعاء على هذا التفسير أنسب وأولى .

وقوله : (فكأنّما نُشطت من عِقال) أي خرجت منه ، أو حُللتُ، فعلى الأوّل «نشطت» على بناء الفاعل، وعلى الثاني على بناء المفعول.

قال الفيروزآبادي: «نشط من المكان _ كفرح _ إذا خرج منه.

ونشط الحَبْل، كنصر: عقده، كنشّطه.

وأنْشطه: حلّه .

والملائكة تَنْشُط نفس المؤمن بقبضها؛ أي تحلّها حَلّاً رفيقا» (1).

وقال الجزري: في حديث السِّحر : «فكأنّما اُنشِط من عقالٍ» .

أي حُلَّ.

وقد تكرّر في الحديث، وكثيرا ما يجيء في الرواية: «فكأنّما نشط من عقال»، وليس بصحيح .

يُقال : نَشَطْتُ العُقدة، إذا عقدتها.

وأنشطتها، إذا حلَلْتها (2).

وأقول : كلام الفيروزآبادي _ كما عرفت _ ردّ عليه، ولا يحتاج إلى ما ارتكبه بعضٌ مِن أنّه لمّا كان هذا في كلام الراوي لا نحتاج إلى تصحيحه وتوجيهه (3).

، فتأمّل .

قال الجوهري : «عَقَلت البعير أعقِله عقلاً، وهو أن تثني وظيفَهُ مع ذراعه، فتشدّهما جميعا في وسط الذِّراع.

وذلك الحبل هو العِقال، والجمع: عُقْلٌ» (4).

متن الحديث الخامس والخمسين (حديث الحوت على أيّ شيء هو)

اشارة

متن الحديث الخامس والخمسين (حديث الحوت على أيّ شيء هو (5) )

مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:سَأَلْتُهُ عَنِ الْأَرْضِ عَلى أَيِّ شَيْءٍ هِيَ؟ قَالَ: «هِيَ عَلى حُوتٍ». قُلْتُ: فَالْحُوتُ عَلى أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ (6) قَالَ: «عَلَى الْمَاءِ». قُلْتُ: فَالْمَاءُ عَلى أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ قَالَ: «عَلى صَخْرَةٍ». قُلْتُ: فَعَلى أَيِّ شَيْءٍ الصَّخْرَةُ؟ قَالَ: «عَلى قَرْنِ ثَوْرٍ أَمْلَسَ». قُلْتُ: فَعَلى أَيِّ شَيْءٍ الثَّوْرُ؟ قَالَ: «عَلَى الثَّرى». قُلْتُ: فَعَلى أَيِّ شَيْءٍ الثَّرى؟ فَقَالَ:

ص: 86


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 388 (نشط)
2- النهاية ، ج 5 ، ص 57 (نشط)
3- . كما صنعه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 201
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1771 (عقل)
5- .في الحاشية عن بعض النسخ: «هي»
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «هي»

«هَيْهَاتَ، عِنْدَ ذلِكَ ضَلَّ عِلْمُ الْعُلَمَاءِ»(1).

شرح الحديث

في بعض النسخ: حديث الحوت وحديث الأحلام متأخّران عن حديث الرياح وحديث أهل الشام .

والسند صحيح .

قوله : (على حوت) .

في المصباح : «الحوت: العظيم من السمك، وهو مذكّر» (2).

وقوله : (أمْلَس) صفة القرن، أو صفة الثور .

وفي القاموس: «الملاسة والمُلُوسة: ضدّ الخشونة . والأمْلَس: الصحيح الظهر» (3) .

والثرى : التراب النديّ .

وقوله عليه السلام : (عند ذلك ضلّ علم العلماء) .

قيل : لعلّ المراد: إنّا لم نُؤمر ببيانه للخلق. ولا يخفى بُعده ، بل الظاهر أنّه لم يحط به علم عالمٍ قطّ الأنبياء ومن دونهم (4).

وقال بعض الشارحين : بين هذا الحديث وبين ما سيجيء من حديث زينب العطّارة : «أنّ الأرض على الديك، والديك على الصخرة، والصخرة على الحوت، والحوت على البحر، والبحر على الهواء، والهواء على الثرى ، والثرى عند السماء الاُولى» منافاةٌ بحذف الوسائط بين الأرض والحوت في هذا الحديث ، بكون الصخرة على قرن ثور فيه، وعلى الحوت في حديث زينب، وبكون الثور على الثرى فيه، وكون الهواء على الثرى في حديثها .

ثمّ قال : ويمكن أن يكون بين البحر والهواء واسطتان محذوفتان؛ أي البحر على الصخرة،

ص: 87


1- قال المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي ، ج 14 ، ص 472 : «في هذا الحديث رموز ، وإنّما يحلّها من كان من أهلها»
2- المصباح المنير، ص158 (حوت)
3- .القاموس المحيط ، ، ج 2 ، ص 252 (ملس)
4- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 201

ويُراد بها غير المذكورة أوّلاً ، والصخرة على الثور ، وأن يكون بين الثور والثرى في الأوّل واسطة محذوفة، وهي الهواء (1).

متن الحديث السادس والخمسين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَحَدِهِمَا عليهماالسلام، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ خَلَقَ الْأَرْضَ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْمَاءَ الْمَالِحَ أَرْبَعِينَ صَبَاحا، وَالْمَاءَ الْعَذْبَ أَرْبَعِينَ صَبَاحا، حَتّى إِذَا الْتَقَتْ وَاخْتَلَطَتْ أَخَذَ بِيَدِهِ قَبْضَةً، فَعَرَكَهَا عَرْكا شَدِيدا جَمِيعا، ثُمَّ فَرَّقَهَا فِرْقَتَيْنِ، فَخَرَجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُنُقٌ مِثْلُ عُنُقِ الذَّرِّ، فَأَخَذَ عُنُقٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَعُنُقٌ إِلَى النَّارِ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (إنّ اللّه خلق الأرض).

قيل : لمّا دلّت الروايات المذكورة في كتاب الإيمان والكفر على أنّه تعالى خلق الإنسان من طينتين: طينة جنّة، وطينة سجّين، لم يبعد أن يُراد بالأرض هنا قطعة مختلطة من هاتين الطينتين(2). وأنت خبير بعدم الداعي إلى هذا التوجيه هنا .

(ثمّ أرسل) إلى آخره .

قيل : إرسال الماء عليها على هذا النهج للخلط بين الطينتين، وتخميرها بالماءين، وفيه فوائد كثيرة : منها حصول القدرة على الضدّين ، ومنها حصول الارتباط بين المؤمن والكافر، والصالح والفاجر ، ولولا ذلك لما أمكن تعيّش المؤمنين والصالحين بين الكافرين والفاجرين .

ومنها كون المؤمن دائما بين الخوف والرجاء، حيث لا يعلم أنّ الغالب فيه الخير

ص: 88


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 440 و 441
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 441

أو الشرّ .

ومنها رفع العجب عنه بفعل المعصية، ولو لا ذلك لما صدر عنه ، فربّما يدخله العجب .

ومنها الرجوع إليه تعالى وطلب حفظه عنها . ومنها تولّد المؤمن من الكافر وبالعكس (1).

وقوله : (أخذ بيده) أي بقدرته، أو بيد من أمره من الملائكة ، أو هو استعارة تمثيليّة .

(فعركها عَرْكا شديدا) .

الضمير للطينة المفهومة من الأرض والماء . والعَرْك: الدلك .

وقوله : (جميعا) أي الطينتين معا من غير أن يفرّقهما قبل الدلك؛ ليكمل بذلك التيامهما، ويشتدّ ارتباطهما .

(ثمّ فرّقها فرقتين) .

في القاموس: فرق بينهما فَرْقا وفُرقانا، بالضمّ: فصل. و «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» (2) أي يُقضى .

«وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ» (3) : فلقناه . «وَقُرْآنا فَرَقْنَاهُ» (4) : فصّلناه وأحكمناه . وفرّقه تفريقا وتفرِقةً: بدّده، وأخذ حقّه بالتفاريق (5).

وقوله : (مثلُ عُنُق الذرّ) ؛ يعني في الصِّغر، والحركة، أو في الهيئة أيضا . والعُنق، بالضمّ وبضمّتين: الطائفة، والجماعة من الناس .

(فأخذ عنق إلى الجنّة، وعنق إلى النار) .

لعلّ المراد أخذ أسباب الوصول إليها .

وقال الفاضل الإسترآبادي : يعني أمر اللّه تعالى الحِصّة التي كانت مبلولة بالماء العذب أن تفارق الحصّة التي كانت مبلولة بالماء المالح، وأن يصير كلّ واحدةٍ منهما قِطَعا صِغارا في هيئة الذرّ ، ليكون كلّ قطعة بدنا لروح مخصوصة من الأرواح التي قالوا يوم الميثاق : «بَلى»

ص: 89


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 441
2- الدخان (44) : 4
3- البقرة (2) : 50
4- الإسراء (17) : 106
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 274 - 276 (فرق) مع التلخيص

في جواب قوله تعالى : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» (1). ، ويكون القطع الحاصلة من الحصّة المبلولة بالماء العذب أبدانا لأرواح تثبت طاعتهم في ذلك اليوم ، والقطع الحاصلة من الحصّة المبلولة بالماء المالح أبدانا لأرواح تثبت معصيتهم في ذلك اليوم، ويفهم من أحاديثهم عليهم السلام أنّ جَعْلهُ تعالى الأبدان في هيئة الذرّ وقع مرّتين : مرّة قبل خلق آدم عليه السلام ، ومرّة بعد خلقه (2).

متن الحديث السابع والخمسين (حديث الأحلام والحجّة على أهل ذلك الزمان)

اشارة

بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ الْأَحْلَامَ لَمْ تَكُنْ فِيمَا مَضى فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ».

فَقُلْتُ: وَمَا الْعِلَّةُ فِي ذلِكَ؟

فَقَالَ: «إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ بَعَثَ رَسُولاً إِلى أَهْلِ زَمَانِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلى عِبَادَةِ اللّهِ وَطَاعَتِهِ، فَقَالُوا: إِنْ (3). فَعَلْنَا ذلِكَ، فَمَا لَنَا فَوَ اللّهِ مَا أَنْتَ بِأَكْثَرِنَا مَالاً، وَلَا بِأَعَزِّنَا عَشِيرَةً . فَقَالَ: إِنْ أَطَعْتُمُونِي أَدْخَلَكُمُ اللّهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ عَصَيْتُمْ (4) أَدْخَلَكُمُ اللّهُ النَّارَ.

فَقَالُوا: وَمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ؟ فَوَصَفَ لَهُمْ ذلِكَ، فَقَالُوا: مَتى نَصِيرُ إِلى ذلِكَ؟ فَقَالَ: إِذَا مِتُّمْ. فَقَالُوا: لَقَدْ رَأَيْنَا أَمْوَاتَنَا صَارُوا عِظَاما وَرُفَاتا، فَازْدَادُوا لَهُ تَكْذِيبا وَبِهِ اسْتِخْفَافا، فَأَحْدَثَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيهِمُ الْأَحْلَامَ، فَأَتَوْهُ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَرَادَ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِهذَا، هكَذَا تَكُونُ أَرْوَاحُكُمْ إِذَا مِتُّمْ، وَإِنْ بُلِيَتْ أَبْدَانُكُمْ تَصِيرُ الْأَرْوَاحُ إِلى عِقَابٍ حَتّى تُبْعَثَ الْأَبْدَانُ».

شرح الحديث

السند ضعيف على الظاهر .

قوله : (الأحلام) .

ص: 90


1- .الأعراف (7) : 172
2- نقل عنه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 202
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «إنّا»
4- في حاشية النسخة والطبعة القديمة : «عصيتموني»

في القاموس : «الحُلم، بالضمّ وبضمّتين: الرؤيا. الجمع: أحلام» (1).

وقوله : (الحجّة على أهل ذلك الزمان) أي وكون الأحلام حجّة على أهل الزمان الذي حدثت فيهم .

قوله : (إن فعلنا ذلك فما لنا) إلى قوله : (عشيرة) أي فما لنا من الأجر، وليس لك مال تعطينا، ولا عشيرة عزيزة تعيننا، فأيّ ثمرة لتصديقك والعبادة التي تدعونا إليها .

وقوله : (ورُفاتا) بالضمّ.

قال الجزري : «الرفات: كلّ ما دقّ وكسر» (2).

وقوله : (فأحدث اللّه فيهم الأحلام) أي رأوا في المنام أنّ اللّه يعذّبهم، كما أخبرهم نبيّهم ، وإنّما خصّصنا الأحلام بذلك بقرينة آخر الحديث .

وقيل : الحُلُم _ بضمّتين _ اسم لما يراه النائم كالرؤيا، لكن غلب اسم الرؤيا لما يراه من الخير والشيء الحسن ، واسم الحلم لما يراه من الشرّ والقبيح، وقد يستعمل كلّ منهما في موضع الآخر، وإنّما جمع هاهنا _ وهو مصدر _ لاختلاف أنواعه (3).

وقوله : (فأخبروه بما رأوا ، وما أنكروا من ذلك) .

كلمة «ما» في الموضعين موصولة، والثانية عطف على الاُولى . و«ذلك» إشارة إلى الموصول الأوّل، وهو عبارة عمّا أنكروه من عذاب البرزخ .

ويحتمل كون الثانية نافية ؛ أي اعترفوا بما رأوا ولم ينكروا منه شيئا .

متن الحديث الثامن والخمسين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَأْيُ الْمُؤْمِنِ وَرُؤْيَاهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عَلى سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ».

شرح الحديث

السند حسن .

ص: 91


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 99 (حلم)
2- النهاية ، ج 2 ، ص 241 (رفت)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 442

قوله : (رأيُ المؤمن ورؤياه في آخر الزمان) .

قيل: لمّا غيّب اللّه في آخر الزمان عن الناس حجّتهم، تفضّل عليهم ، وأعطاهم رأيا قويّا في استنباط الأحكام الشرعيّة ممّا وصل إليهم من الآثار النبويّة ، ولمّا حجب عنهم الوحي وخزّانه ، أعطاهم الرؤيا الصادقة أزيد ممّا كان لغيرهم؛ ليظهر عليهم بعض الحوادث قبل وقوعها وحدوثها (1).

أقول : لا وجه لتخصيص الرأي بما ذكر ، بل الظاهر تعميمه في مطلق فراسة المؤمن وإدراكاته الحقّة . وكذا لا وجه لتخصيص آخر الزمان بزمان الغيبة .

قال الفاضل الإسترآبادي : المراد بالأوّل ما يخلق اللّه في قلبه من الصور العلميّة في حال اليقظة ، وبالثاني ما يخلق اللّه في قلبه في حال النوم ، وكأنّ المراد بآخر الزمان زمان ظهور الصاحب عليه السلام ؛ فإنّ في بعض الأحاديث وقع التصريح بأنّ في زمن ظهوره عليه السلام يجمع اللّه قلوب المؤمنين على الصواب في كلّ باب .

ولفظة «على» هاهنا نهجيّة؛ أي على نهج سبعين جزءا؛ يعني يكونان مثل الوحي موافقا للواقع دائما، وهما نوع من الوحي يتفضّل اللّه به زمن ظهور المهديّ عليه السلام . انتهى (2).

وقيل : لعلّ المراد بقوله : (على سبعين جزءا من أجزاء النبوّة) أنّ للنبوّة أجزاء كثيرة سبعون منها من قبل الرأي؛ أي الاستنباط اليقيني، لا الاجتهاد والتظنّي والرؤيا الصادقة ، فهذا المعنى الحاصل لأهل آخر الزمان على نحو تلك السبعين ومشابه لها، وإن كان في النبيّ أقوى .

قال : ويحتمل أن يكون المراد على نحو بعض أجزاء السبعين، كما ورد أنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوّة(3).

وقال بعض الشارحين : ومن طريق العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «إذا اقترب الزمان، لم تكن رؤيا المسلم

ص: 92


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 203
2- نقل عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 444
3- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 203 و 204

تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوّة» (1).

ومن طريق آخر لهم : «أنّها جزء من سبعين جزءا من النبوّة» (2).

قال محيي الدِّين البغوي : فسّر أبو داود تقارب الزمان باعتدال الليل والنهار، ووجّه ذلك باعتدال الأمزجة حينئذٍ، فلا يكون في المنام أضغاث أحلام؛ فإنّ موجبها إنّما هو غلبة خلط على المزاج .

وفسّره غيره بقرب القيامة . ويشهد الثاني أنّ هذا الخبر جاء من طريق أبي هريرة أنّه قال : «في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن» (3).

وقال القرطبي : «المراد بآخر الزمان الزمان الذي فيه الطائفة التي تبقى مع عيسى عليه السلام بعد قتل دجّال، تبقى سبع سنين ليس بين اثنين منهم عداوة، فهم أحسن الاُمّة حالاً، وأصدقهم قولاً، وكانت رؤياهم لا تكذب» .

وقد قال صلى الله عليه و آله : «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» .

وردَّ ابن العربي التفسير الأوّل بأنّه لا أثر لاعتدال الزمان في صدق الرؤيا إلّا على ما يقوله الفلاسفة من اعتدال الأمزجة حينئذٍ ، ثمّ إنّه وإن كان هذا في الاعتدال الأوّل، لكن في الاعتدال الثاني حين تحلّ الشمس برأس الميزان الأمر بالعكس ؛ لأنّه تسقط حينئذٍ الأوراق، ويتغلّس الماء من الثمار .

ثمّ قال : والصحيح التفسير الثاني؛ لأنّ القيامة هي الحاقّة التي تحقّ فيها الحقائق، وكلّ ما قرب منها فهو أخصّ بها .

وقال الآبيّ : فسّره بعض الشافعيّة بثالث، هو من قوله عليه السلام : «يتقارب الزمان حتّى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة» ، قالوا : وذلك عند خروج المهديّ عليه السلام ، وهو زمان يقصر ويتقارب أجزاؤه للاستلذاذ به .

هذا كلامهم . ثمّ قال الشارح :

ص: 93


1- مسند أحمد ، ج 2 ، ص 507 ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 52 ؛ الجامع الصغير، ج 2 ، ص 74 ، ح 466 ؛ كنزالعمّال ، ج 15 ، ص 371 ، ح 41427
2- مسند أحمد ، ج 1 ، ص 315 ؛ و ج 2 ، ص 119 ؛ صحيح مسلم ، ح 7 ، ص 54 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1282 ، ح 3895 ؛ مجمع الزوائد ، ح 7 ، ص 172
3- اُنظر : فتح الباري لابن حجر ، ج 12 ، ص 356

ثمّ إنّه لابدّ هنا من شيئين :

أحدهما : بيان السبب؛ لكون رؤيا المؤمن جزءا من أجزاء النبوّة .

وثانيهما : بيان السبب لهذه النسبة المخصوصة ؛ أعني كونها جزءا من سبعين جزءا .

أمّا الأوّل، فنقول: الرؤيا الصادقة من المؤمن الصالح جزءٌ من أجزاء النبوّة؛ لما فيها من الإعلام الذي هو على معنى النبوّة على أحد الوجهين .

وقد قال كثير من الأفاضل : إنّ للرؤيا الصادقة مَلكا وكّل بها يرى الرائي من ذلك ما فيه تنبيه على ما يكون له، أو يقدر عليه من خير أو شرّ، وهذا معنى النبوّة ؛ لأنّ لفظ «النبيّ» قد يكون فعيلاً بمعنى مفعول ؛ أي يُعلمه اللّه ، ويُطلِعه في منامه من غيبه ما لا يُظهِر عليه أحد إلّا من ارتضى من رسول . وقد يكون بمعنى فاعل؛ أي يُعلِم غيرَه بما اُلقي إليه ، وهذا أيضا صورة صاحب الرؤيا .

وقال القرطبي : «الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوّة إلّا إذا وقعت من مسلم صالح صادق؛ لأنّه الذي يناسب حاله حال النبيّ، وكفى بالرؤيا شوقا أنّها نوع ممّا أكرمت به الأنبياء، وهو الاطّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال صلى الله عليه و آله : «لم يبق من مبشّرات النبوّة إلّا الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم» (1). ، وأمّا الكافر والكاذب والمخلّط، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان؛ فإنّها لا تكون من الوحي، ولا من النبوّة؛ إذ ليس كلّ من صدق في حديث عن غيب يكون خبره نبوّة بدليل الكاهن والمنجّم؛ فإنّ أحدهم قد يحدّث ويصدق، لكن على الندرة ، وكذلك الكافر قد تصدق رؤياه كرؤيا العزيز سبع بقرات، ورؤيا الفتيان في السجن، ورؤيا العاتكة عمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهي كافرة ، ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلّطة الفاسدة .

وأمّا الثاني، فقيل : يحتمل أن تكون هذه التجزئة من طرق الوحي، منه ما سمع بواسطة الملك، ومنه ما يلقى في القلب، كما قال اللّه تعالى : «إِنْ هُوَ إِلَا وَحْىٌ يُوحَى» (2). ؛ أي إلهام ، ومنه ما يأتي به الملك وهو على صورته ، ومنه ما يأتيه [به ]وهو على صورة آدميّ ، ومنه ما يأتيه في منامه بحقيقته ، ومنه ما يأتيه بمثال أحيانا

ص: 94


1- .مسند أحمد ، ج 1 ، ص 219 ؛ سنن الدارمي ، ج 1 ، ص 304 ؛ صحيح مسلم ، ج 2 ، ص 48 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1283 ، ح 3899 ؛ سنن أبي داود ، ج 1 ، ص 201 ، ح 876
2- النجم (53) : 4

يسمع الصوت ويرى الضوء ، ومنه ما يأتي به كصَلصَلَة (1). الجرس ، ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه ، إلى غير ذلك ممّا لم نقف .

ويكون مجموع الطرق سبعين، فتكون الرؤيا التي هي ضربُ مثالٍ جزءا من ذلك العدد من أجزاء الوحي.

والحاصل أنّ للنبيّ طرقا إلى العلم ، وإحدى تلك الطرق الرؤيا، ونسبتها إلى تلك الطرق أنّها جزء من سبعين جزءا، ولا يلزم أن يبيّن تلك الأجزاء؛ لأنّه لا يلزم العلماء أن يعلموا كلّ شيء جملةً وتفصيلاً ، وقد جعل اللّه سبحانه لهم في ذلك حدّا يوقف عنده ؛ فمنها ما لا يعلم أصلاً ، ومنها ما يعلم جملةً ولا يعلم تفصيلاً _ وهذا منه _ ومنها ما يعلم جملةً وتفصيلاً لا سيّما فيما طريقه السمع وبيّنه الشارع .

وقيل : مجموع خصال النبوّة سبعون، وإن لم نعلمها تفصيلاً ، ومنها الرؤيا ، والمنام الصادق من المؤمن خصلة واحدة لها هذه النسبة مع تلك الخصال .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ ثمرة رؤيا المؤمن _ أعني الإخبار بالغيب _ في جنب فوائدها المقصودة يسيرة نسبتها إلى ما أطلعه اللّه تعالى على نبيّه من فوائدها بذلك القدر؛ لأنّه يعلم من فوائد مناماتِهِ بنور نبوّته ما لا نعلمه من حقائق مناماتنا، وأن يكون المراد أنّ دلالة رؤيا المؤمن على الإخبار بالغيب جزء من دلالة رؤيا النبيّ ، والنسبة بذلك القدر ؛ لأنّ المنامات إنّما هي دلالات، والدلالات منها خفيّ ومنها جليّ، والخفيّ له نسبة مخصوصة مع الجليّ في نفس الأمر، فبيّنها عليه السلام بأنّها بذلك القدر .

والفرق بين هذين التوجيهين: أنّ الأوّل منهما باعتبار التفاوت في الثمرات، والثاني باعتبار التفاوت في الدلالات . والمراد بأجزاء النبوّة فيهما أجزاء رؤيا النبيّ، وليس المراد بها جميع أجزاء النبوّة . وهذا وإن كان بعيدا بحسب اللفظ، لكنّه غير مستبعد بحسب الواقع ؛ إذ الظاهر أنّ خصال النبوّة غير منحصرة في السبعين .

ومن طريق العامّة أيضا: «أنّ رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءا من أجزاء النبوّة» (2).

ص: 95


1- في الحاشية: «قال الجوهري: صلصلة اللجام: صوته. وقال: الجرس: ما يعلّق [في عنق] البعير، والذي يضرب به أيضا. منه». اُنظر : الصحاح ، ج 5 ، ص 1745 (صلصل) ؛ و ج 3 ، ص 912 (جرس)
2- كتاب الموطّأ لمالك ، ج 2 ، ص 956 ؛ مسند أحمد ، ج 2 ، ص 233 و 269 و 438 و 507 و ... ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 123 ؛ صحيح البخاري ، ج 8 ، ص 68 ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 52 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1282 ، ح 3893 و 3894

وقيل في توجيهه : إنّ ذلك باعتبار مدّة النبوّة؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أقام يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة: ثلاثة عشر بمكّة، وعشرة بالمدينة، وكان قبل ذلك بستّة أشهر يرى في المنام ما يلقي إليه الملك ، ونسبة نصف سنة من ثلاثة وعشرين سنة جزء من ستّة وأربعين (1).

متن الحديث التاسع والخمسين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَادٍ، عَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ لأصْحَابِهِ: هَلْ مِنْ مُبَشِّرَاتٍ؟ يَعْنِي بِهِ الرُّؤْيَا».

شرح الحديث

السند صحيح.

نقل من طريق العامّة بإسنادهم عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: «لم يبق من النبوّة إلّا المبشّرات». قالوا: وما المبشّرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»(2).

وبإسنادهم عن سمرة بن جندب، قال: كان النبى¨ّ صلى الله عليه و آله إذا صلّى الصبح، أقبل عليهم بوجهه، فقال: «هل رأى أحد [منكم ]البارحة الرؤيا؟» (3). قال بعضهم: «التعبير بعد الصبح والنهار أولى اقتفاء بفعله عليه السلام ، ولما جاء أنّ في البكرة بركات، ولأنّ الذهن حينئذٍ أجمع؛ لخلوّه عن الشغل بأعمال النهار ، ولقرب عهد الرائي لما رآه، ولعدم طُروء ما يخلط عليه رؤياه»(4).

متن الحديث الستّين

اشارة

عَنْهُمْ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

ص: 96


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 444 - 446 (مع اختلاف يسير)
2- صحيح البخاري ، ج 8 ، ص 69 ؛ مجمع الزوائد ، ج 7 ، ص 172 ؛ الاستذكار ، ج 8 ، ص 457 ، ح 1784 ؛ التمهيد ، ج 5 ، ص 55 ؛ الجامع الصغير ، ج 2 ، ص 419 ، ح 7328
3- صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 58 ؛ شرح مسلم ، ج 3 ، ص 93 ؛ مقدّمة فتح الباري ، ص 85 ؛ إمتاع الأسماع للمقريزي ، ج 8 ، ص 103
4- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 446

«قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» (1) ؟ قَالَ: هِيَ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ يَرَى الْمُؤْمِنُ فَيُبَشَّرُ بِهَا فِي دُنْيَاهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله تعالى في سورة يونس : «الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْاخِرَةِ» .

البُشرى والبشارة: اسم من الاستبشار، وهو الفَرَح بالأمر السارّ . وقال البيضاوي : بشرى الدُّنيا ما بشّر اللّه به المتّقين في كتابه، وعلى لسان نبيّه ، وما يُريهم من الرؤيا الصالحة ، وما يسنح لهم من المكاشفات، وبشرى الملائكة عند النزع، وبشرى الآخرة تلقّي الملائكة إيّاهم مسلِّمين مبشِّرين بالفوز والكرامة (2).

وروى محيي السنّة بإسناده عن عبادة بن صامت، قال : سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن قوله تعالى : «لَهُمْ الْبُشْرى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» ، قال : «هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له»(3).

ويمكن حمل قوله عليه السلام : (هي الرؤيا الحسنة ...) على هذه الرواية .

وروى عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام : «أنّها هي البشارة عند الموت» (4).

ولا منافاة بينها وبين هذا الحديث؛ لأنّه يصدق على كلّ منهما أنّه بشارة في الحياة الدنيا .

متن الحديث الواحد والستّين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«الرُّؤْيَا عَلى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: بِشَارَةٍ مِنَ اللّهِ لِلْمُؤْمِنِ، وَتَحْذِيرٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَضْغَاثِ أَحْلَامٍ».

ص: 97


1- يونس (10) : 64
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 206
3- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 315 و 321 ؛ سنن الترمذي ، ج 3 ، ص 364 ، ح 2375 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 4 ، ص 391 ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ج 26 ، ص 113
4- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 180

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (تَحذير من الشيطان) .

لعلّ المراد التخويف الناشئ منه ؛ يعني الرؤيا الهائلة .

وقيل : أي يحذّر ويخوّف من الأعمال الصالحة، أو يكون في الأصل تحزين من الشيطان، فصحّف لقوله تعالى : «إِنَّمَا النَّجْوى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ» (1).

وروي عن محيي السنّة أنّه روى بإسناده عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «الرؤيا ثلاثة : رؤيا بشرى من اللّه ، ورؤيا ممّا يحدّث به الرجل نفسَه ، ورؤيا من تحزين الشيطان» (2). (3).

(وأضغاث أحلام) .

قال الجوهري : «الضغث، بالكسر: قبضة حشيش مختلطة الرطب اليابس . وأضغاث أحلام: الرؤيا التي لا يصحّ تأويلها لاختلاطها » (4). انتهى .

وقيل : هي الرؤيا المختلفة التي تركّبها المتخيّلة، ولا أصل لها، وليس من اللّه ولا من الشيطان .

وروت العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «إنّ الرؤيا ثلاث : فرؤيا صالحة بشرى من اللّه ، ورؤيا تُحزن من الشيطان ، ورؤيا فيما يحدِّث المرء نفسه» (5).

وقال بعض الأفاضل : إنّما نسب الاُولى إلى اللّه تعالى؛ لطهارتها من حضور الشيطان، وإفساده لها، وسلامتها من الغلط والخلط والتخليط من الأشياء المتضادّة ، والرؤيا التي منه

ص: 98


1- المجادلة (58) : 10
2- . اُنظر : السنن الكبرى ، ج 4 ، ص 390 ، ح 7654 ؛ المعجم الأوسط ، ج 1 ، ص 123 ؛ مسند الشاميّين ، ج 4 ، ص 41 ، ح 2678
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 205
4- .الصحاح ، ج 1 ، ص 285 (ضغث)
5- لم نعثر على الرواية في المصادر المعتبرة . وانظر : شرح المازندراني ، ج 11 ، ص 447

تعالى [غير ]منحصرة في البشارة؛ إذ يكون إنذارا منه اعتناءً بعبدِه، لئلّا يأتي ما قدر عليه، أو يرجع ويتوب عمّا فعله من المعاصي، ويكون منه على حذر .

ونسب الثانية إلى الشيطان؛ لأنّها نشأت من تخييلاته وتدليساته تحذيرا من شيء أو ترغيبا فيه؛ ليُشغِل بال الرائي، ويُدخل الضرر والهمّ فيه .

والثالثة أضغاث أحلام، وهي الرؤيا التي لا يمكن تأويلها؛ لجمعها للأشياء المتضادّة والمختلفة .

ثمّ قال :

قال بعض المعبّرين : الرؤيا ثمانية أقسام ؛ سبعة لا تعبّر، ومن السبعة أربعة نشأت من الخلط الغالب على مزاج الرائي، فمن غلب على مزاجه الصفراء رأى الألوان الصُّفر والطعوم المرّة والسّموم والصواعق ؛ لأنّ الصفراء مِسخنة مُرّة ، ومن غلب عليه الدم رأى الألوان الحُمر والطعوم الحُلوة وأنواع الطرب ؛ لأنّ الدم مفرح حُلو ، ومن غلب عليه البلغم رأى الألوان البيض والمياه والأمطار والثلج ، ومن غلب عليه السوداء رأى الألوان السود والأشياء المُحرقة والطعوم الحامضة؛ لأنّه طعام السوداء ، ويُعرف ذلك كلّه بالأدلّة الطبّيّة الدالّة على غَلَبة ذلك الخلط على الرائي .

والخامس ما كان عن حديث النفس، ويُعرف ذلك بجولانه في اليقظة، فيستولي على النفس فيراه في النوم .

والسادس ما هو من الشيطان، ويُعرف ذلك بكونه أمرا فيه ترغيب على أمرٍ تنكره الشريعة، أو أمرا بجائز يؤول إلى منكر، كأمره بالحجّ مثلاً، ويؤدّي إلى تضييع ماله أو عياله أو نفسه .

والسابع ما كان فيه احتلام .

والثامن هو الذي يجوز تعبيره، وهو ما خرج عن هذه السبعة، وهو ما ينقله مَلَك الرؤيا من اللوح المحفوظ من أمر الدنيا والآخرة من كلّ خيرٍ أو شرّ .

ثمّ قال : إذا تأمّلت في الحديث، وجدته شاملاً لجميع هذه الأقسام الثمانية؛ لأنّ الخمسة الاُولى داخلة في أضغاث أحلام، والاثنين بعدها داخلان في القسم الثاني ، وهو ما كان من الشيطان ، والثامن عين الأوّل ، وهو ما كان من اللّه تعالى (1).

ص: 99


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 11 ، ص 447 و 448

متن الحديث الثاني والستّين

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، (1). عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:

قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ وَالْكَاذِبَةُ مَخْرَجُهُمَا مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ: «صَدَقْتَ؛ أَمَّا الْكَاذِبَةُ الْمُخْتَلِفَةُ (2). فَإِنَّ الرَّجُلَ يَرَاهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي سُلْطَانِ الْمَرَدَةِ الْفَسَقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَيْءٌ يُخَيَّلُ إِلَى الرَّجُلِ، وَهِيَ كَاذِبَةٌ مُخَالِفَةٌ لَا خَيْرَ فِيهَا.

وَأَمَّا الصَّادِقَةُ إِذَا رَآهَا بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ حُلُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَذلِكَ قَبْلَ السَّحَرِ، فَهِيَ صَادِقَةٌ لَا تَخْتَلِفُ إِنْ شَاءَ اللّهُ إِلَا أَنْ يَكُونَ جُنُبا، أَوْ يَنَامَ عَلى غَيْرِ طَهُورٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ حَقِيقَةَ ذِكْرِهِ؛ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ وَتُبْطِئُ عَلى صَاحِبِهَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (مخرجُهما من مَوضع واحد) . الظاهر أنّ المخرج هنا مصدر ميميّ .

وقيل : لعلّ المراد أنّ ارتسامهما في محلّ واحد ، أو أنّ علّتهما من الارتسام ، لكن علّة الارتسام فيهما مختلفة .

وقيل : يعني أنّ كليهما صور علميّة يخلقهما اللّه تعالى في قلب عباده بأسباب روحانيّة، أو شيطانيّة، أو طبيعيّة (3).

وقوله : (المختلفة) .

في بعض النسخ: «المُخلفة» . قال الجوهري : «المُخلفة من النُوق: هي الراجع التي ظهر لهم أنّها لقحت، ثمّ لم تكن ذلك . ويقال : أخلفه ما وعده، وهو أن يقول شيئا ولا يفعله على الاستقبال» (4).

ص: 100


1- في الحاشية: «واقفي ، توثيق له»
2- .في الحاشية عن بعض النسخ: «المخلفة»
3- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 206
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1355 (خلف)

وقوله : (في أوّل ليلة) .

في بعض النسخ بالهاء. وفي بعضها بالتاء .

وقوله : (لا تختلف) .

في بعض النسخ: «لا تُخلِف» من الإخلاف .

وقوله : (قبل السحر) .

قال في المغرب : «السَّحَر : آخر الليل . عن الليث: قالوا : هو السدس الآخر، وهما سحران، والسحر الأوّل قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه» (1).

وقال في المصباح : «السَّحَر، بفتحتين: قُبَيل الصبح. وبضمّتين لغة» (2).

وقوله : (إلّا أن يكون جُنبا ...) إشارة إلى علّة تخلف بعض الرؤيا مع كونها في السحر؛ إذ الجنابة والحدث والغفلة عن ذكره تعالى يوجب البُعد عن جناب قدسه تعالى، والقُرب من وساوس الشيطان واستيلائه على الإنسان .

ولعلّ المراد بحقيقة الذِّكر ما يليق بجناب قدسه تعالى، أو الأذكار المأثورة عند النوم .

وقال بعض الأفاضل : قوله عليه السلام : «في سلطان المردَة الفسَقة» أي في أوّل الليل يستولي على الإنسان شهوات ما رآه في النهار، وكثرت في ذهنه الصور الخياليّة، واختلطت بعضها ببعض، وبسبب كثرة مزاولة الاُمور الدنيويّة بَعُدَ من ربّه، وغلبت عليه القوى النفسانيّة والطبيعيّة، فبسبب هذه الاُمور تبعد عنه ملائكة الرحمان، وتستولي عليه جنود الشيطان ، فإذا كان وقت السحر سكنت قواه، وزالت عنه ما اعتراه من الخيالات الشهوانيّة، فأقبل عليه مولاه بالفضل والإحسان، وأرسل عليه ملائكته ليدفعوا عنه أحزاب الشيطان ، فلذا أمر اللّه تعالى في ذلك الوقت بعبادته ومناجاته، وقال : «إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئا وَأَقْوَمُ قِيلاً» (3). ، فما يراه في الحالة الاُولى فهو من التسويلات والتخييلات الشيطانيّة ومن الوساوس النفسانيّة ، وما يراه في الحالة الثانية فهو من الإفاضات الرحمانيّة بتوسّط الملائكة الروحانيّة .

ص: 101


1- المغرب، ص121 (سحر)
2- المصباح المنير، ص134 (سحر)
3- المزّمّل (73) : 6

ثمّ قال : ولمّا كان أمر الرؤيا وصدقها وكذبها ممّا اختلفت فيه أقاويل الناس، فلا بأس أن نذكر هاهنا بعض أقوال المتكلِّمين والحكماء، ثمّ نبيّن ما ظهر لنا فيه من أخبار أئمّة الأنام عليهم السلام .

فأمّا الحكماء فقد بنوا ذلك على ما أسّسوه من انطباع صور الجزئيّات في النفوس المنطبعة الفلكيّة، وصور الكلّيّات في العقول المجرّدة، وقالوا : إنّ النفس في حالة النوم قد تتّصل بتلك المبادئ العالية، فتحصل لها بعض العلوم الحقّة الواقعيّة، فهذه هي الرؤيا الصادقة .

وقال بعضهم : إنّ للنفوس الإنسانيّة اطّلاعا على الغيب في حال المنام، وليس لأحد من الناس إلّا وقد جرّب ذلك من نفسه تجاربا أوجبته التصديق، وليس ذلك بسبب الفكر؛ فإنّ الفكر [في] حال اليقظة التي هو فيها أمكنُ يَقْصُر عن تحصيل مثل ذلك، فكيف في حال النوم؟! بل بسبب أنّ النفوس الإنسانيّة لها مناسبة الجنسيّة إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال، ولها أن تتّصل بها اتّصالاً روحانيّا، وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها ؛ لأنّ اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعُها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل، وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلّيّة عن الانتقاش بما في المبادئ العالية ؛ لأنّ أحد العائقَين هو اشتغال النفس بالبدن، ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلّيّة ما دام البدن صالحا لتدبيرها ، إلّا أنّه قد يسكن أحد الشاغلين في حالة النوم؛ فإنّ الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرائين، وينصبّ إلى الحواسّ الظاهرة حالة الانتشار، ويحصل الإدراك بها ، وهذه الحالة هي اليقظة، فتشتغل النفس بتلك الإدراكات .

فإذا انحبس الروح إلى الباطن، تعطّلت هذه الحواسّ، وهذه الحالة هي النوم، وبتعطّلها يخفّ أحد شواغل النفس عن الاتّصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتّصل حينئذٍ بتلك المبادئ اتّصالاً روحانيّا، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ ممّا استعدّت هي لأن تكون منتقشة به، كالمرايا إذا حُوذي بعضها ببعض ما يتّسع له ممّا انتقش في البعض الآخر، والقوّة المتخيّلة جُبّلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكى تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئيّة مناسبة لها، ثمّ ترتسم الصور الجزئيّة في الحسّ المشترك ، فتصير مشاهدة ، وهذه هي الرؤيا الصادقة .

ص: 102

ثمّ إنّ الصور التي تركّبها القوّة المتخيّلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس، حتّى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركّبتها القوّة المتخيّلة تفاوت إلّا في الكلّيّة والجزئيّة، كانت الرؤيا غنيّة عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة، إلّا أنّه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه مّا، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصور التي في الخيال إلى المعنى الذي صوّرته المتخيّلة بتلك الصور .

وأمّا إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين تلك الصور مناسبة أصلاً، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام . ولهذا قالوا : لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب؛ لأنّ قوّتهما المتخيّلة قد تعوّدت الانتقالات الكاذبة الباطلة .

ولا يخفى أنّ هذا رجمٌ بالغيب، وتقوّل بالظنّ والريب ، ولم يستند إلى دليل وبرهان، ولا إلى مشاهدة ولا عيان، ولا إلى وحي إلهي، مع ابتنائه على العقول والنفوس الفلكيّة اللتين نفتهما الشريعة المقدّسة .

وقال المازري في شرح قول النبيّ صلى الله عليه و آله : «الرؤيا من اللّه ، والحُلُم من الشيطان» (1). : مذهب أهل السنّة في حقيقة الرؤيا أنّ اللّه تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات لا يخلقها في قلب اليقظان، وهو _ سبحانه وتعالى _ يفعل ما يشاء، لا يمنعه النوم واليقظة ؛ فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنّه جعلها عَلَما على أمرٍ آخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها، فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر ، فأكثر ما فيه أنّه اعتقد أمرا على خلاف ما هو به، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَما على غيره، كما يكون خلق اللّه تعالى الغيم عَلَما للطير ، والجميع خلق اللّه تعالى، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها عَلَما على ما يسرّ بغير حضرة الشيطان، وخلق ما هو عَلَمٌ على ما يضرّ بحضرة الشيطان، فنسب إلى الشيطان مجازا؛ لحضوره عندها، وإن كان لا فعل له حقيقةً (2).

ص: 103


1- .عدّة الداعي ، ص 262 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 193 ، ح 72 (فيه عن أبي قتادة) ؛ و ص 191 (عن كتاب التبصرة لعليّ بن بابويه) ؛ مسند أحمد ، ج 5 ، ص 296 و 305 ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 124 ؛ صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 95 ؛ و ج 7 ، ص 25 ؛ و ج 8 ، ص 72 ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 50 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1286 ، ح 3909
2- اُنظر : فتح الباري ، ج 12 ، ص 309 ؛ عمدة القاري ، ج 1 ، ص 60 ؛ و ج 21، ص 270 ؛ فيض القدير ، ج 4 ، ص 59 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 12 ، ص 181

وقال محيي السنّة : «ليس كلّ ما يراه الإنسان صحيحا ويجوز تعبيره ، بل الصحيح ما كان من اللّه يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة اُمّ الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع : قد تكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان، أويُريه ما يحزنه، وله مكائد يحزن بها بني آدم، كما قال تعالى : «إِنَّمَا النَّجْوى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» (1). ، ومن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل فلا يكون له تأويل . وقد يكون من حديث النفس كما يكون في أمرٍ أو حرفةٍ يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه ونحوه . وقد يكون من مزاج الطبيعة ، كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والحجامة والحمرة والرعاف والرياحين والمزامير والنشاط ونحوه ، ومَن غلب عليه الصفراء يرى النار والشمع والسراج والأشياء الصُّفر والطيران في الهواء ونحوه ، ومَن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والسواد والأشياء السود وصيد الوحش والأهوال والأموات والقبور والمواضع الخربة وكونه في مضيق لا منفذ له أو تحت ثقل ونحوه ، ومَن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والأنداء والثلج والوحل، فلا تأويل لشيء منها .

وقال السيّد المرتضى رحمه الله في كتاب الغرر والدرر في جواب سائل سأله : ما القول في المنامات؛ أ صحيحة هي أم باطلة ؟ ومِن فِعل مَن هي ؟ وما وجه صحّتها في الأكثر ؟ وما وجه الإنزال عند المباشرة في المنام ؟ وإن كان فيها صحيح وباطل، فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟ الجواب : اعلم أنّ النائم غير كامل العقل ؛ لأنّ النوم ضربٌ من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة؛ لنقصان عقله وفقد علومه .

وجميع المنامات إنّما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه، ولا يجوز أن يكون من فعل غيره فيه؛ لأنّ من عداه من المحدّثين _ سواء كانوا بَشَرا، أو ملائكة، أو جنّا _ أجسام، والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا بل ابتداءً ، ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه ، وإنّما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء .

وإنّما قلنا: إنّه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولّدا ؛ لأنّ الذي يُعدِّي الفعل من محلّ القدرة إلى غيرها من الأسباب إنّما هو الاعتمادات، وليس في جنس

ص: 104


1- .المجادلة (58) : 10

الاعتمادات ما يولد في الاعتقادات ، ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل، ما تولّد فيه شيء من الاعتقادات .

وقد بيّن ذلك، وشرح في مواضع كثيرة ، والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداءً من غير سبب أجناس الاعتقادات، ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقادا؛ لأنّ أكثر اعتقاد النائم جهل، وتناول الشيء على خلاف ما هو به؛ لأنّه يعتقد أنّه يرى ويمشي وأنّه راكب وعلى صفات كثيرة ، وكلّ ذلك على خلاف ما هو به، وهو تعالى لا يفعل الجهل، فلم يبق إلّا أنّ الاعتقادات كلّها من جهة النائم .

وقد ذكر في المقالات : أنّ المعروف بصالح قُبّة كان يذهب إلى أنّ ما يراه النائم في منامه على الحقيقة، وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائيّة ؛ لأنّ النائم يرى أنّ رأسه مقطوع، وأنّه قد مات، وأنّه قد صعد إلى السماء ، ونحن نعلم ضرورةً خلاف ذلك كلّه ، وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنّه ماء، وفي المُردي (1) إذا كان في الماء أنّه مكسور، وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس، وإلاّ جاز ذلك في النائم، وهو من الكمال أبعد ، وإلى النقص أقرب .

وينبغي أن يقسم ما يتخيّل النائم أنّه يراه إلى أقسام ثلاثة : منها ما يكون من غير سبب يقتضيه، ولا داعٍ يدعو إليه اعتقادا مبتدءا .

ومنها ما يكون من وسواس الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيّا يتضمّن أشياء مخصوصة، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنّه يراه، فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدّث بالقرب منهم، فيعتقدون أنّهم يرون ذلك الحديث في منامهم .

ومنها ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله اللّه تعالى، أو يأمر بعض الملائكة بفعله ، ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع، فيعتقد النائم أيضا ما يتضمّن ذلك الكلام، والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدِّين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة ، كما أنّ ما يقتضي الشرّ منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة .

ص: 105


1- في الحاشية: «رَدَى بحجر: رماه به. وهو المردي . والمُردي، بالضمّ و الشدّ: خشبة تدفع بها السفينة» . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 333 و 334 (ردي)

وقد يجوز على هذا فيما يراه النائم في منامه، ثمّ يصحّ ذلك حتّى يراه في يقظته على حدّ ما يراه في منامه ، وفي كلّ منام يصحّ تأويله أن يكون سبب صحّته أنّ اللّه تعالى يفعل كلاما في سمعه لضرب من المصلحة، بأنّ شيئا يكون أو قد كان على بعض الصِّفات، فيعتقد النائم أنّ الذي يسمعه هو ما يراه .

فإذا صحّ تأويله على ما يراه، فما ذكرناه أن لم يكن ممّا يجوز أن تتّفق فيه الصحّة اتّفاقا؛ فإنّ في المنامات ما يجوز أن يصحّ بالاتّفاق، وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتّفاق، فهذا الذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه» .

ثمّ إنّ السيّد رحمه الله أورد على نفسه اعتراضا، وأجاب عنه ، ثمّ قال : «فإن قيل : فما قولكم في منامات الأنبياء عليهم السلام ؟ وما السبب في صحّتها حتّى عُدَّ ما يرونه في المنام مضاهيا لما يسمعونه من الوحي؟

قلنا : الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحّتها، ولا هي ممّا توجب العلم، وقد يمكن أن يكون اللّه تعالى أعلَمَ النبيّ بوحي يسمعه من المَلَك على الوجه الموجب للعلم: أنّي سأُريك في منامك في وقت كذا ما يجب أن تعمل عليه، فيقطع على صحّته من هذا الوجه، لا بمجرّد رؤيته له في المنام .

وعلى هذا الوجه يحمل منام إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه ، ولو لا ما أشرنا إليه، كيف كان يقطع إبراهيم عليه السلام بأنّه متعبّد بذبح ولده !؟ فإن قيل : فما تأويل ما يروى عنه عليه السلام من قوله : «مَن رآني فقد رآني؛ فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي» (1) ، وقد علمنا أنّ المحقّ والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبيّ صلى الله عليه و آله في النوم، ويخبر كلّ واحدٍ منهم بضدّ ما يخبر به الآخر ، فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟

قلنا : هذا خبرٌ واحد ضعيف من أضعف أخبارنا الآحاد، ولا معوّل على مثل ذلك ، على أنّه يمكن مع تسليم صحّته أن يكون المراد به: من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل بي لليقظان.

فقد قيل : إنّ الشيطان ربّما تمثّلت بصورة البشر، وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ

ص: 106


1- راجع : روضة الواعظين ، ص 244 ؛ كتاب سليم بن قيس ، ص 350 ؛ الفرج بعد الشدّة ، ج 1 ، ص 179 ؛ الصراط المستقيم ، ص 155

الخبر؛ لأنّه قال : «من رآني فقد رآني» ، فأثبت غيره رائيا له ونفسه مرئيّة، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئيّ ، وإنّما ذلك في اليقظة، ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنّه يراني في منامه، وإن كان غير راءٍ على الحقيقة، فهو في الحكم كأنّه قد رآني.

وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر، وتبديل لصيغته ، وهذا الذي رتّبناه في المنامات، وقسّمناه أسَدُّ تحقيقا من كلّ شيء قيل في أسباب المنامات، وما سطر في ذلك معروف غير محصَّل ولا محقّق.

فأمّا ما يهذي إليه الفلاسفة في هذا الباب، فهو ما يُضحِك الثكلى؛ لأنّهم ينسبون ما صحّ في المنامات لما أعْيَتهم الحِيَل في ذكر سببه، إلى أنّ النفس اطّلعت إلى عالمها، فأشرفت على ما يكون.

وهذا الذي يذهبون إليه في حقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط ، فكيف إذا اُضيف إليه الاطّلاع على عالمها، وما هذا الاطّلاع ؟ وإلى أيّ يشيرون بعالم النفس؟ ولمَ يجب أن تعرف الكائنات عند هذا الاطّلاع ؟ فكلّ هذا زخرفة ومخرقة وتهاويل لا يتحصّل منها شيء .

وقول صالح فيه، مع أنّه تجاهل محض أقرب إلى أن يكون مفهوما من قول الفلاسفة .

انتهى كلامه قدّس اللّه روحه (1).

ولنكتف بذكر هذه الأقوال، ولا نشتغل بنقدها وتفصيلها، ولا بردّها وتحصيلها ؛ لأنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى التطويل الخارج عن المقصود في الكتاب ، ولنذكر ما ظهر لنا في هذا الباب من الأخبار المنتمية إلى الأئمّة الأخيار عليهم السلام ، فهو أنّ الرؤيا تستند إلى اُمور شتّى: فمنها أنّ للروح في حالة النوم حركة إلى السماء؛ إمّا بنفسها بناءً على تجسّمها، كما هو الظاهر من الأخبار ، أو بتعلّقها بجسدٍ مثاليّ .

إن قلنا به في حال الحياة أيضا، بأن يكون للروح جسدان: أصلي، ومثالي ، يشتدّ تعلّقها في حال اليقظة بهذا الجسد الأصلي، ويضعف تعلّقها بالآخر، وينعكس الأمر في حال النوم، أو بتوجّهها وإقبالها إلى عالم الأرواح بعد ضعف تعلّقها

ص: 107


1- رسائل المرتضى ، ج 2 ، ص 11 - 13 (مع اختلاف يسير)

بالجسد بنفسها من غير جسد مثالي .

وعلى تقدير التجسّم أيضا يحتمل ذلك، كما يؤمي إليه بعض الأخبار بأن يكون حركتها كناية عن إعراضها عن هذا الجسد ، وإقبالها إلى عالم آخر، وتوجّهها إلى نشأة اُخرى ، وبعد حركتها _ بأيّ معنى كانت _ ترى أشياء في الملكوت الأعلى، وتطالع بعض الألواح التي أثبتت فيها التقديرات، فإن كان لها صفاء، ولعينها ضياء، ترى الأشياء كما أُثبت، فلا يحتاج رؤياه إلى تعبير .

وإن استدلّت على عين قلبه أغطية من التعلّقات الجسمانيّة والشهوات النفسانيّة، فيرى الأشياء بصورة شبيهة لها ، كما أنّ ضعيف البصر ومؤوف العين يرى الأشياء على غير ما هي، والعارف بعلّته يعرف أنّ هذه الصور المشبهة التي اشتبهت عليه صورة لأيّ شيء ، فهذا شأن المعبّر العارف بدأ كلّ شيء وعلّته ، ويمكن أن يُظهر اللّه عليه الأشياء في تلك الحالة بصور يناسبها لمصالح كثيرة ، كما أنّ الإنسان قد يرى المال في نومه بصورة حيّة ، وقد يرى الدراهم بصورة عذرة؛ ليعرف أنّهما يضرّان، وهما مستقذران واقعا، فينبغي أن يتحرّز عنهما ويتجنّبهما ، وقد يرى في الهواء أشياء، فهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها .

ويحتمل أن يكون المراد بما يراه في الهواء ما أنس به من الاُمور المألوفة والشهوات والخيالات الباطلة .

ويدلّ على هذين النوعين ما رواه الصدوق في أماليه ، عن أبيه، عن سعد، عن أحمد وعبداللّه ابني محمّد بن عيسى ومحمّد بن الحسين ، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن القاسم النوفلي ، قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : المؤمن قد يرى الرؤيا، فتكون كما رآها ، وربّما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا؟

فقال : «إنّ المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء، فكلّ ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحقّ ، وكلّ ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام» .

فقلت له : أوَ تصعد روح المؤمن إلى السماء؟!

قال : «نعم» .

قلت : حتّى لا يبقى منها شيء في بدنه؟

فقال : «لا ، لو خرجت كلّها حتّى لا يبقى منها شيء، إذا لمات» .

ص: 108

فقلت : فكيف تخرج؟ فقال : «أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض ، فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة» (1).

وروى أيضا عن أبيه، عن سعد بن عبداللّه ، عن يعقوب بن زيد، عن بعض أصحابه، عن زكريّا بن يحيى، عن معاوية بن عمّار، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «إنّ العباد إذا ناموا، خرجت أرواحهم إلى السماء، فما رأت الروح في السماء فهو الحقّ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث الأحلام؛ [ألا] وإنّ الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف .

فإذا كانت الروح في السماء تعارفت وتباغضت ، فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض ، وإذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض» (2).

وروى أيضا عن أبيه ، عن سعد ، عن محمّد بن الحسين، عن عيسى بن عبداللّه ، عن أبيه عبداللّه بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ عليه السلام ، قال : «سألت رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا، فربّما كانت حقّا، وربّما كانت باطلاً؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : يا عليّ، ما من عبدٍ ينام إلّا عُرج بروحه إلى ربّ العالمين، فما رأى عند ربّ العالمين فهو حقّ ، ثمّ إذا أمر اللّه العزيز الجبّار بردّ روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام» (3).

ومنها ما هو بسبب إفاضة اللّه تعالى عليه في منامه؛ إمّا بتوسّط الملائكة، أو بدونه، كما يؤمي إليه خبر أبي بصير، وخبر سعد بن أبي خلف .

ومنها ما هو بسبب وساوس الشياطين واستيلائهم عليه بسبب المعاصي التي عملها في اليقظة، أو الطاعات التي تركها، أو الكثافات والنجاسات الظاهريّة والباطنيّة التي لوّث نفسه بها، كما رواه الصدوق في أماليه عن أبيه، بإسناده عن عليّ بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن الحسن بن

ص: 109


1- الأمالي للصدوق ، ص 209 ، ح 231. وعنه في بحار الأنوار، ج 58 ، ص 32، ح 6
2- الأمالي للصدوق ، ص 209 ، ح 232 ؛ روضة الواعظين ، ص 492 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 31 ، ح 4 (وفيه عن الأمالي)
3- الأمالي للصدوق ، ص 209 ، ح 233

أحمد ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : سمعته يقول : «إنّ لإبليس شيطانا يُقال له: هُزَع، يملأ المشرق والمغرب، في كلّ ليلة يأتي الناس في المنام» (1).

وروى البرقي في كتاب المحاسن عن أبيه ، عن صفوان ، عن داود ، عن أخيه عبداللّه ، قال : بعثني إنسان إلى أبي عبداللّه عليه السلام زعم أنّه يفزع في منامه من امرأة تأتيه ، قال : فصِحتُ حتّى سمع الجيران .

فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «اذهب، فقل : إنّك لا تؤدّي الزكاة» ، وقال : بلى، واللّه إنّي لاُؤدّيها ! فقال : «قُل له : إن كنت تؤدّيها، لا تؤدّيها إلى أهلها» (2).

ويدلّ عليه أيضا خبر أبي بصير، وخبر سعد بن أبي خلف .

ومنها ما هو سبب ما بقي في ذهنه من الخيالات الواهية والاُمور الباطلة ، ويؤمي إليه خبر سعد وغيره (3).

متن الحديث الثالث والستّين (حديث الرياح)

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ وَهِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ: الشَّمَالِ، وَالْجَنُوبِ، وَالصَّبَا، وَالدَّبُورِ، وَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ أَنَّ الشَّمَالَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَالْجَنُوبَ مِنَ النَّارِ؟

فَقَالَ: «إِنَّ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ جُنُودا مِنْ رِيَاحٍ يُعَذِّبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ عَصَاهُ، وَلِكُلِّ رِيحٍ مِنْهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُعَذِّبَ قَوْما بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ أَوْحى إِلَى الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِذلِكَ النَّوْعِ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا» قَالَ: «فَيَأْمُرُهَا الْمَلَكُ، فَتَهِيجُ كَمَا يَهِيجُ الْأَسَدُ الْمُغْضَبُ» قَالَ: «وَلِكُلِّ رِيحٍ مِنْهُنَّ اسْمٌ؛ أَ مَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ تَعَالى: «كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ * إِنّا

ص: 110


1- الأمالي للصدوق ، ص 210 ، ح 234 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 159 ، ح 2
2- المحاسن ، ج 1 ، ص 87 ، ح 27 ؛ ثواب الأعمال ، ص 235 ؛ روضة الواعظين ، ص 356 ؛ بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 159 ، ح 5 (وفيه عن المحاسن)
3- مرآة العقول ، ج 25 ، ص 206 - 216 (مع اختلاف يسير)

أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» (1) ، وَقَالَ: «الرِّيحَ الْعَقِيمَ» (2) ، وَقَالَ: «رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (3) ، وَقَالَ: «فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (4) ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ الرِّيَاحِ الَّتِي يُعَذِّبُ اللّهُ بِهَا مَنْ عَصَاهُ».

قَالَ: «وَلِلّهِ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ رِيَاحُ رَحْمَةٍ لَوَاقِحُ وَغَيْرُ ذلِكَ يَنْشُرُهَا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، مِنْهَا مَا يُهَيِّجُ السَّحَابَ لِلْمَطَرِ، وَمِنْهَا رِيَاحٌ تَحْبِسُ السَّحَابَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرِيَاحٌ تَعْصِرُ السَّحَابَ، فَتَمْطُرُهُ بِإِذْنِ اللّهِ، وَمِنْهَا رِيَاحٌ مِمَّا عَدَّدَ اللّهُ فِي الْكِتَابِ.

فَأَمَّا الرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ: الشَّمَالُ، وَالْجَنُوبُ، وَالصَّبَا، وَالدَّبُورُ، فَإِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يُهِبَّ شَمَالاً أَمَرَ الْمَلَكَ الَّذِي اسْمُهُ الشَّمَالُ، فَيَهْبِطُ (5). عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَامَ عَلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، (6). فَتَفَرَّقَتْ (7). رِيحُ الشَّمَالِ حَيْثُ يُرِيدُ اللّهُ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَبْعَثَ جَنُوبا أَمَرَ الْمَلَكَ (8) الَّذِي اسْمُهُ الْجَنُوبُ، فَهَبَطَ (9) عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَامَ عَلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، (10) فَتَفَرَّقَتْ (11) رِيحُ الْجَنُوبِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَيْثُ يُرِيدُ اللّهُ.

وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَبْعَثَ رِيحَ الصَّبَا، أَمَرَ الْمَلَكَ الَّذِي اسْمُهُ الصَّبَا، فَهَبَطَ (12) عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَامَ عَلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، فَتَفَرَّقَتْ (13) رِيحُ الصَّبَا حَيْثُ يُرِيدُ اللّهُ _ جَلَّ وَعَزَّ _ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَبْعَثَ دَبُورا، أَمَرَ الْمَلَكَ الَّذِي اسْمُهُ الدَّبُورُ، فَهَبَطَ (14) عَلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَامَ عَلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ، فَتَفَرَّقَتْ (15) رِيحُ الدَّبُورِ حَيْثُ يُرِيدُ اللّهُ مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ».

ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «أَ مَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ: رِيحُ الشَّمَالِ، وَرِيحُ الْجَنُوبِ، وَرِيحُ الدَّبُورِ، وَرِيحُ الصَّبَا، إِنَّمَا تُضَافُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهَا».

ص: 111


1- القمر (54) : 18 و 19
2- الذاريات (51) : 41
3- الأحقاف (46) : 24
4- البقرة (2) : 266
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «فهبط»
6- .في الحاشية عن بعض النسخ: «بجناحيه»
7- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فتفرّق»
8- في الحاشية عن بعض النسخ: + «الموكّل»
9- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيهبط»
10- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيهبط»
11- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فتفرّق»
12- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيهبط»
13- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فتفرّق»
14- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيهبط»
15- .في الحاشية عن بعض النسخ: «فتفرّق»

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (الشمال) .

قيل : مهبّها من الجدي إلى مغرب الاعتدال (1).

وفي القاموس: «الشمال، بالفتح ، ويكسر: الريح التي تهبّ من قِبَل الحجر، أو ما استقبلك عن يمينك وأنت مستقبل» (2).

والصحيح أنّه ما مهبّه بين مطلع الشمس وبنات نَعش ، أو من مطلع النعش إلى مَسقط النَّسر الطائر ، وتكون اسما وصفة ، ولا يكاد تهبّ ليلاً ونهارا. والشَّأمَل بالهمز، والشَّمَل محرّكة _ ويسكن ميمه _ والشَّمألّ بالهمز، وقد لا يشدّ لامه، والشَّمْوَل _ كجوهر وصَبْوَر وأيسر _ الجمع: شَمالات .

وقوله : (والجَنُوب) كصَبُور .

قيل : مهبّها من القطب الجنوبي إلى مشرق الاعتدال مقابل الشمال (3) وقال في القاموس: «الجنوب: ريح تخالف الشمال، مهبّها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريّا» (4).

وقال : (الصبا) ؛ ريح مهبّها من مطلع الثريّا إلى بنات نعش .

وقال : (الدَّبور) ؛ ريح مقابل الصبا .

وقال الشهيد رحمه الله في الذكرى :

الجَنوب، محلّها ما بين مطلع سهيل إلى مطلع الشمس الاعتدال . والصبا، محلّها ما بين مطلع الشمس إلى الجدي . والشمال، محلّها من الجدي إلى مغرب الشمس في الاعتدال . والدَّبور، محلّها من مغرب الشمس إلى سهيل (5).

وقوله عليه السلام : (فتهيج) أي تثور .

(كما يهيج الأسد المُغضب) على صيغة اسم المفعول من أغضَبَهُ .

(أما تسمع قوله عزّ جلّ) في سورة القمر : «كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ» (6).

ص: 112


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 2
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 402 (شمل)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 3
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 49 (جنب)
5- ذكرى الشيعة ، ص 162 و 163 (مع التلخيص واختلاف يسير)
6- القمر (54) : 18

قال الجوهري : «الإنذار : الإبلاغ، ولا يكون إلّا في التخويف ، والاسم: النُّذُر» (1).

وقال البيضاوي : أي إنذاري [أتى] لهم بالعقاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبهم .

«إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا صَرْصَرا» : باردا، أو شديد الصوت «فِي يَوْمِ نَحْسٍ» : شؤم «مُسْتَمِرٍّ» ؛ [أي] استمرّ شؤمه، أو استمرّ عليهم حتّى أهلكهم ، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم ، فلم يُبق منهم أحدا ، أو اشتدّ مرارته، وكان يوم الأربعاء آخر الشهر . انتهى (2).

وقيل : يعني استمرّت نحو سنة بعدهم (3).

وقال اللّه _ عزّ وجلّ _ في سورة الذاريات : «وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» (4).

قال البيضاوي : «سمّاها عقيما؛ لأنّها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، أو لأنّها لم تتضمّن منفعة، وهي الدبور، أو الجنوب، أو النكباء» (5).

وقال الفيروزآبادي : «النكباء: ريح انحرفت ووقعت بين ريحين، أو بين الصبا والشمال» (6) وقال: «ريح عقيم: غير لاقح» (7).

وقال في سورة الأحقاف : «رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ» (8) وقال في سورة البقرة : «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ» إلى قوله : «فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (9) ؛ ضمير التأنيث في الموضعين راجع إلى «الجنّة» .

قال في القاموس : «الإعصار: الريح تثير السحاب، أو التي فيها نار، أو التي تهبّ من الأرض كالعمود نحو السماء ، أو التي فيها العُصار، وهو الغبار الشديد» (10).

وقوله : (رياح رحمة) ؛ الإضافة لاميّة، كما يدلّ عليه قوله : (يَنشرها بين يدي رحمته) .

ص: 113


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 825 (نذر)
2- تفسيرالبيضاوي ، ج 5 ، ص 266 و 267
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 218
4- الذاريات (51) : 41
5- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 240
6- القاموس المحيط ، ، ج 1 ، ص 134 (نكب)
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 152 (عقم)
8- الأحقاف (46) : 24
9- . البقرة (2) : 266
10- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 90 (عصر)

قيل : المراد بالرحمة هنا المطر(1) وقوله : «لواقح» إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحجر : «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ» (2).

قال البيضاوي : أي حوامل ؛ شبّه الريح التي جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل ، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم ، أو مُلقِحاتٍ للشجر والسحاب (3) ، ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله : «ومختبط ممّا تطيح الطوائح» (4) (5).

وقوله : (يهيّج السحاب) .

قال الجوهري : «هاج الشيء يهيج هَيْجا وهِياجا وهَيَجانا ؛ أي ثار . وهاجه غيره _ يتعدّى ولا يتعدّى _ وهيّجه» (6).

وقوله : (فإنّما هي أسماء الملائكة الموكّلين بها) أي بتلك الرياح ، فتَسميتها بهذه الأسماء تجوّز واتّساع .

وقوله : (فتفرّقت ريح الشمال) ؛ كأنّ تحريك جناحه هنا يقتضي بالخاصّة ذلك التفرّق .

وقيل : لا يتوهّم أنّه يلزم من ذلك أن يكون مهبّ جميع الرياح جهة القبلة؛ لأنّه لعظمة الملك .

و«جناحه» يمكن أن يحرّك رأس جناحه بأيّ موضع أراد، ويرسلها بأيّ جهة اُمِر بالإرسال إليها، وإنّما اُمر بالقيام على الكعبة لشرافتها وكونها محلّاً لرحماته تعالى ومصدرها (7).

وقوله : (أما تسمع لقوله) إلى آخره .

قيل : أي لقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ أي لقول القائل . وكأنّه عليه السلام استدلّ بهذه العبارة الشائعة على

ص: 114


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 218
2- الحجر (15) : 22
3- في المصدر : - «والسحاب»
4- البيت هكذا : «ليبك يزيد ضارع لخصومةومختبط ممّا تطيح الطوائح». اُنظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 11 ، ص 178 ؛ خزانة الأدب للبغدادي ، ج 1 ، ص 297 .
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 366
6- الصحاح ، ج 1 ، ص 352 (هيج)
7- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 218

ما ذكره من أنّها أسماء الملائكة؛ إذ الظاهر من الإضافة كونها لاميّة، والبيانيّة نادرة، وإن كان القائلون لا يعرفون هذا المعنى، لكنّهم سمعوا ممّن تقدّمهم .

وهكذا إلى أن ينتهي إلى من أطلق ذلك على وجه المعرفة (1).

متن الحديث الرابع والستّين

اشاره

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: (2)

«إِنَّ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ رِيَاحَ رَحْمَةٍ، وَرِيَاحَ عَذَابٍ؛ فَإِنْ شَاءَ اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَذَابَ مِنَ الرِّيَاحِ (3) رَحْمَةً فَعَلَ».

قَالَ: «وَلَنْ (4) يَجْعَلَ (5) الرَّحْمَةَ مِنَ الرِّيحِ عَذَابا». [قَالَ]: «وَذلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرْحَمْ قَوْما قَطُّ أَطَاعُوهُ، وَكَانَتْ طَاعَتُهُمْ إِيَّاهُ وَبَالاً عَلَيْهِمْ إِلَا مِنْ بَعْدِ تَحَوُّلِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِ».

قَالَ: «وَكَذلِكَ (6) فَعَلَ بِقَوْمِ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا رَحِمَهُمُ اللّهُ بَعْدَ مَا (7)

كَانَ قَدَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَقَضَاهُ، ثُمَّ تَدَارَكَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، فَجَعَلَ الْعَذَابَ الْمُقَدَّرَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً، فَصَرَفَهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَغَشِيَهُمْ، وَذلِكَ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ».

قَالَ: «وَأَمَّا الرِّيحُ الْعَقِيمُ، فَإِنَّهَا رِيحُ عَذَابٍ لَا تُلْقِحُ شَيْئا مِنَ الْأَرْحَامِ، وَلَا شَيْئا مِنَ النَّبَاتِ، وَهِيَ رِيحٌ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ، وَمَا خَرَجَتْ مِنْهَا رِيحٌ قَطُّ إِلَا عَلى قَوْمِ عَادٍ حِينَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ الْخُزَّانَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْهَا عَلى مِقْدَارِ سَعَةِ الْخَاتَمِ».

قَالَ: «فَعَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ، فَخَرَجَ مِنْهَا عَلى مِقْدَارِ مَنْخِرِ الثَّوْرِ تَغَيُّظا مِنْهَا عَلى قَوْمِ عَادٍ».

قَالَ: «فَضَجَّ الْخُزَّانُ إِلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مِنْ ذلِكَ، فَقَالُوا: رَبَّنَا إِنَّهَا قَدْ عَتَتْ عَنْ أَمْرِنَا، إِنَّا نَخَافُ

ص: 115


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 218
2- في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «قال»
3- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «الرياح من العذاب» بدل «العذاب من الرياح»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «ولم»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: + «اللّه »
6- في الطبعة القديمة : «كذلك» بدون الواو
7- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي وشرح المازندراني : + «قد»

أَنْ تُهْلِكَ مَنْ لَمْ يَعْصِكَ مِنْ خَلْقِكَ وَعُمَّارِ بِلَادِكَ».

قَالَ: «فَبَعَثَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَيْهَا جَبْرَئِيلَ عليه السلام ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَنَاحَيْهِ (1) ، فَرَدَّهَا إِلى مَوْضِعِهَا، وَقَالَ لَهَا: اخْرُجِي عَلى مَا أُمِرْتِ بِهِ».

قَالَ: «فَخَرَجَتْ عَلى مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَأَهْلَكَتْ (2) قَوْمَ عَادٍ وَمَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (فقال: إنّ للّه ...) ؛ كأنّه متفرّع على الحديث السابق، فتدبّر .

وفي بعض النسخ: «قال»، وهو أظهر .

وقال بعض الشارحين : دلّ قوله عليه السلام : «رياح رحمة ورياح عذاب» على بطلان ما قيل من أنّ العرب يستعمل الرياح [في الرحمة ، والريح] في العذاب ، وأيّده بقوله تعالى : «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» (3) ، وقوله تعالى : «يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ» (4) .

قال : وفي معارج النبوّة: إنّ كلّ واحدة من رياح الرحمة ورياح العذاب أربعة ؛ أمّا رياح الرحمة، فأوّلها: باشرات ، قال [اللّه ]تعالى : «هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» (5) .

وثانيها : مبشّرات ؛ «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ» .

وثالثها : ناشرات ؛ «وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرا» (6).

ورابعها : ذاريات ؛ «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوا» (7) .

وأمّا رياح العذاب ؛ فأوّلها : صرصر؛ «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» .

وثانيها : عقيم ؛ «وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» (8) .

ص: 116


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي وشرح المازندراني : «بجناحه»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «فأهلكت»
3- .الحاقّة (69) : 6
4- الروم (30) : 46
5- الأعراف (7) : 57
6- المرسلات (77) : 3
7- الذاريات (51) : 1
8- الذاريات (51) : 41

وثالثها : قاصف؛ «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِنْ الرِّيحِ» (1) .

ورابعها : عاصف؛ «جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ» (2) .

وقوله : (أن يجعل العذاب من الرياح رحمة فعل).

في بعض النسخ : «أن يجعل الرياح من العذاب رحمة» ، والمآل واحد .

قال : (ولن يجعل الرحمة من الرِّيح عذابا) .

قيل : لعلّ المراد أنّ من استحقّ العذاب بسبب خصلة قبيحة، ربّما يستحقّ الرحمة بإزالة تلك الخصلة، وكسب خصلة حسنة، فلا يصل إليه العذاب، بخلاف من استحقّ الرحمة والإحسان بسبب خصلة حسنة؛ فإنّه تصل إليه الرحمة، وإن زالت عنه تلك الخصلة؛ لأنّ اللّه تعالى لا يضيع عمل عامل .

أو المراد: إذا أرسل ريح العذاب يجعله رحمة بزوال سبب العقاب ، وأمّا إذا أرسل ريح الرحمة ، فلا يجعلها عذابا بزوال سبب الرحمة وحدوث سبب العذاب .

ومنه يظهر سرّ «سبقت رحمته غضبه» (3). (4).

أقول : لا يخفى عليك أنّ مآل التوجيهين واحد ؛ فإنّه مبنيّ على بطلان مذهب الإحباط، ولم يثبت دليل على بطلانه، وأنّ الاستدلال بقوله : «لأنّ اللّه لا يضيع عمل عامل» ساقط؛ إذ على مذهب الإحباط «العامل» هو الذي يضيّع عمله بنفسه لا غير ، فالأولى أن يحمل هذا الحديث على الإخبار عن الواقع، وإن لم يظهر لنا وجهه .

وقوله : (وذلك) إشارة إلى عدم جعل الرحمة عذابا، وبيان له .

(أنّه لم يرحم قوما قطّ) في زمان من الأزمنة .

قال الفيروزآبادي : «ما رأيته قطّ _ ويضمّ ويخفّفان _ وقطّ، مشدّدة مجرورة ، بمعنى الدهر ، مخصوص بالماضي، [أي ]فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عُمري» (5).

وقوله : (أطاعوه) صفة «قوما» .

ص: 117


1- الإسراء (17) : 69
2- يونس (10) : 22
3- مصباح المتهجّد ، ص 442 و 696 ؛ مصباح الكفعمي ، ص 105 و 249 و 667 ؛ مهجّ الدعوات ، ص 99 ؛ الإقبال ، ص 362
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 5
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 380 (قطط)

والواو في قوله : (وكانت طاعتهم إيّاه وبالاً عليهم) للحال بتقدير «قد» .

وفي القاموس : «الوَبيل _ كأمير _ هي الشديد، والمَرْعى الوخيم . وَبُل _ ككَرُم _ وبالاً ووَبالاً ووبُولاً . وأرضٌ وبيلة: وخيمة المَرتع .والوبال: الشدّة، والثقل» (1).

(إلّا من بعد تحوّلهم عن طاعته) .

لا يذهب عليك أنّ الاستثناء يُوهِم خلاف المقصود . وقد يوجّه بأنّ المراد أنّه تعالى إذا قدّر وقضى وأمر بهبوب رياح رحمة، ثمّ تحوّلوا عن طاعته إلى معصيته؛ فإنّه لا يرجع عن هبته، ولا يقلب تلك الرِّياح عليهم عذابا إلّا أن يأمر بإنشاء أمرٍ آخر بعد تحوّلهم وإرسال ريح اُخرى بعد طغيانهم (2).

وقيل : فيه دلالة على أنّ هذه الطاعة وإن كانت معصيةً استحقّوا به العذاب ، إلّا أنّهم لو تحوّلوا عنها أدركتهم الرحمة، ولم يعذّبهم بها، وإنّما ذكر هذه المعصية ليُقاس عليها غيرها . انتهى (3).

وهو كما ترى .

وقوله : (وكذلك فعل بقوم يونس) إشارة إلى جعل العذاب رحمة .

(لمّا آمنوا) .

«لمّا» هنا بمعنى «حين» .

وقوله : (وقضاه) .

قيل : أي قضاه قضاءً غير محتوم، ولم يبلغ حدّ الإمضاء؛ إذ لا دافع بعده (4).

أقول : في تقييد القضاء بغير المحتوم نظر ؛ روى المصنّف في الحسن، عن حمّاد بن عثمان، قال : سمعته يقول : «إنّ الدُّعاء يردّ القضاء، يَنقضه كما يُنقض السِّلك، وقد اُبرِمَ إبراما» (5).

وفي الصحيح عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «إنّ الدُّعاء يردّ القضاء ، وقد نزل من السماء ،

ص: 118


1- القاموس المحيط ، ، ج 4 ، ص 63 (وبل) مع التلخيص
2- التوجيه من العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 219
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12، ص 6
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 6
5- الكافي ، ج 2 ، ص 469 ، ح 1. وعنه في : وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 36 ، ح 8646 ؛ بحار الأنوار ، ج 90 ، ص 295

وقد اُبرِمَ إبراما» (1).

وفي الصحيح عن أبي الحسن موسى عليه السلام ، قال : «عليكم بالدُّعاء؛ فإنّ الدُّعاء للّه ، والطلب إلى اللّه يَرُدُّ البلاء، و[قد] قُدّر، وقُضي، ولم يَبق إلّا إمضاؤه» الحديث (2).

وقوله : (وغَشيهم) أي أتاهم العذاب، أو أحاط بهم .

(وذلك) التدارك (لمّا آمنوا به، وتضرّعوا إليه) .

روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل، قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : «ما ردّ اللّه العذاب إلّا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام، فأبوا ذلك، فهمَّ أن يدعو عليهم، وكان فيهم رجلان: عابِدٌ، وعالِمٌ.

وكان اسم أحدهما «مليخا»، والآخر اسمه «روبيل» ، فكان العابد يشير على يونس بالدّعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول : لا تَدْعُ عليهم؛ فإنّ اللّه يستجيب لك، ولا يجب هلاك عباده، فقبل قول العابد، ولم يقبل من العالم، فدعا عليهم، فأوحى اللّه إليه يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا في شهر كذا وكذا في يوم كذا وكذا ، فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها ، فلمّا كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم : يا قوم، افزعوا إلى اللّه ، فلعلّه يرحمكم، فيردّ العذاب عنكم ، فقالوا : كيف نصنع؟

قال : اُخرجوا إلى المفازة، وفرّقوا بين النساء والأولاد، وبين الإبل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثمّ ابكوا ، وادعوا ، فذهبوا ، وفعلوا ذلك، وضجّوا ، وبكوا، فرحمهم اللّه ، وصرف عنهم العذاب، وفرّق العذاب على الجبال ، وقد كان نزل وقرب منهم، فأقبل يونس لينظر كيف أهلكهم اللّه ، فرأى الزارعين يزرعون في أرضهم ، قال لهم : ما فعل قوم يونس؟

فقالوا له ولم يعرفوه : إنّ يونس دعا عليهم، فاستجاب اللّه له، ونزل العذاب عليهم، فاجتمعوا ، وبكوا، ودعوا ، فرحمهم اللّه ، وصرف ذلك عنهم، وفرّق العذاب على الجبال، فهم إذا يطلبون يونس ليؤمنوا به ، فغضب يونس، ومرّ على وجهه مغاضبا للّه _ كما حكى اللّه

ص: 119


1- الكافي ، ج 2 ، ص 469 ، ح 3 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 36 ، ح 8645
2- الكافي ، ج 2 ، ص 470 ، ح 8 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 36 ، ح 8643

_ حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت، وأرادوا أن يدفعوها، فسألهم يونس أن يحملوه، فحملوه، فلمّا توسّطوا البحر بعث اللّه حوتا عظيما، فحبس عليهم السفينة [من قدّامها]، فنظر إليه يونس، ففزع، فصار إلى مؤخّر السفينة، فدار إليه الحوت، وفتح فاه، فخرج أهل السفينة، فقالوا: فينا عاصٍ، فتساهموا، فخرج سهم يونس، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ»(1) ، فأخرجوه، فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت، ومرَّ به في الماء» .(2). انتهى .

وقال البيضاوي : روي أنّ يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى _ وهي بكسر الأوّل: قرية بالموصل _ فكذّبوه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث.

[وقيل : إلى ثلاثين] .

وقيل: إلى أربعين.

فذهب عنهم مغاضبا ، فلمّا دنا الموت أغامت السماء غيما أسود ذا دخان شديد، فهبط حتّى غشي مدينتهم، وتسوّد سطوحهم، فهابوا، فطلبوا يونس، فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدوابّ وأولادها، فحنَّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتهم وعجيجهم، وأظهروا الإيمان، وأخلصوا التوبة، وتضرّعوا إلى اللّه ، فرحمهم، وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة (3).

وقوله : (لا تُلقح شيئا ...) من قولهم: ألْقَح الفحلُ الناقةَ ، والريحُ السحابَ والشجر .

وقيل: ذلك لشدّة حرّها من فيح جهنّم ، واشتمالها على النار المهلكة لهما (4).

وقوله : (مقدار سَعَة الخاتَم) .

قيل : لعلّ هذا المقدار أعلى المقادير المقدّرة لخروج الريح المهلكة لعاد، وأدناها مثل خرق الإبرة _ كما ورد في بعض الأخبار _ ثمّ خرجت بعد العتوّ على المقادير الأدنى، فلا منافاة (5).

ص: 120


1- .الصافّات (37) : 141
2- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 317 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 380 ، ح 2
3- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 215 (مع اختلاف وزيادة)
4- .قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 6
5- .قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 6

أقول : لعلّ سعة الخاتم وخرق الإبرة كناية عن القلّة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى التوجيه المذكور، مع كونه بعيدا .

وقوله : (فعتت على الخُزّان) .

في القاموس: «عَتا عُتُوّا وعُتيّا وعِتيّا: استكبر، وجاوز الحدّ، فهو عاتٍ» (1). وفيه: «خَزن المال: أحرزه» (2).

وقوله : (مَنخر الثَّور) .

في القاموس : «المنخر _ بفتح الميم والخاء، وبكسرهما وضمّهما، وكمجلس _ : الأنف.

[ونُخرة الأنف:] مقدّمته، أو خرقه، أو ما بين المنخرين، أو أرنَبَتُهُ» (3).

وقوله : (تَغَيّظا منها) .

التغيّظ: الغضب .

قيل : دلّ هذا على أنّ لها شُعورا وإدراكا، فلا حاجة إلى التأويل في نسبة التغيّظ والعتوّ إليها، ولا في نسبة الخطاب والأمر (4).

وقوله : (فضجّ الخُزّان) .

قال الجوهري : «أضجَّ القومُ إضْجاجا، إذا جلبوا وصاحوا، فإذا جزعوا من شيء وغُلِبوا، قيل: ضجّوا يضجُّون ضجيجا» (5).

وقوله : (تُهلك) على صيغة المؤنّث الغائبة من الإهلاك، وفاعله: الريح .

وقوله : (وعُمّار بلادك) عطف على الموصول؛ أي الذين يعمرون بلادك ، من قولهم: عمر اللّه منزلك، كنصر؛ أي جعله أهلاً معمورا . أو الذين يلزمون بلادك ويسكنونها . يُقال : عمر بيته عمارة وعُمورا؛ أي لزمه. أو الذين يعيشون فيها، من قولهم : عَمِر _ كفرح _ عُمرا وعُمُرا؛ أي عاش طويلاً .

وقوله : (بحضرتهم) أي في فنائهم وقربهم ممّن كان يشركهم في معصيتهم من غير قبيلتهم .

ص: 121


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 359 (عتو) مع اختلاف يسير
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 219 (خزن)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 139 (نخر)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 6 و 7
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 326 (ضجج)

متن الحديث الخامس والستّين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ «الْحَمْدُ لِلّهِ»، وَمَنْ كَثُرَتْ هُمُومُهُ، فَعَلَيْهِ بِالأْتِغْفَارِ، وَمَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ الْفَقْرُ، فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» يَنْفِي عَنْهُ الْفَقْرَ».

وَقَالَ: «فَقَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله رَجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا غَيَّبَكَ عَنَّا؟ فَقَالَ: الْفَقْرُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَطُولُ السُّقْمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أَ لَا أُعَلِّمُكَ كَلَاما إِذَا قُلْتَهُ ، ذَهَبَ عَنْكَ الْفَقْرُ وَالسُّقْمُ؟ فَقَالَ: بَلى يَا رَسُولَ اللّهِ، فَقَالَ: إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ فَقُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَا بِاللّهِ [الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ]، تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَ «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرا» (1).

فَقَالَ الرَّجُلُ: فَوَ اللّهِ، مَا قُلْتُهُ إِلَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتّى ذَهَبَ عَنِّي الْفَقْرُ وَالسُّقْمُ».

شرح الحديث

السند ضعيف على المشهور .

قوله : (ظَهَرت عليه) . قال الجوهري : «ظهر: تبيّن. وظهر عليه: غلب» .

وقوله : (يَنفي) على بناء المفعول، أو الفاعل، وفاعله القول .

وقوله : «الْحَمْدُ للّهِ» إلى قوله : «وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ» .

قال البيضاوي : أي وليّ يواليه من أجل مذلّة به؛ ليدفعها بموالاته نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه اختيارا واضطرارا ، ويعاونه ويقوّيه ، ورتّب الحمد عليه؛ للدلالة على أنّه الذي يستحقّ جنس الحمد؛ لأنّه كامل الذات المنفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق، وما عداه ناقص مملوك نعمة، أومنعم عليه، ولذلك عطف عليه.

قوله: «وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيرَا» وفيه تنبيه على أنّ العبد، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد،

ص: 122


1- الإسراء (17) : 111

واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقّه في ذلك . انتهى (1).

وقال بعض الأفاضل : «قوله : «وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيرَا» في الآية معطوف على القول، والمخاطب به النبيّ صلى الله عليه و آله »، قال : ويشكل نظمه هنا مع الجمل السابقة، فيحتمل أن يكون معطوفا على الجمل السابقة، بأن يكون خبر مبتدأ محذوف بتأويل مقول في حقّه ذلك، أو يكون خطابا عامّا لكلّ من يستحقّ الخطاب؛ لبيان أنّه يستحقّ من كلّ أحد أن يصِفه بالكبرياء .

وقال : ويمكن أن يقرأ على صيغة الماضي؛ أي كبّره كلّ شيء تكبيرا ، ولا يبعد أن يكون في الأصل: «واُكبِّرهُ تكبيرا» على صيغة المتكلّم، فصحّفه النسّاخ ؛ ليكون موافقا للقرآن . انتهى (2).

ومنهم من قال : قل: اللّه أكبر، اللّه أكبر .

وأقول : قد تكرّر في ألفاظ الأدعية ذكر آيات القرآن بعينها، وإن لم تكن مناسبا لاُسلوب الدعاء . والمقصود قراءة الآية بعينها، كما ورد في بعض الأدعية : «لَا إلهَ إِلَا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤمِنِين» (3) .

فقوله : «فاستجبنا» إلى آخره، لا يناسب نظم الدعاء ، بل المراد قول هذا اللفظ بعينه، فلا يحتاج حينئذٍ إلى مثل تلك التوجيهات الركيكة الواهية .

متن الحديث السادس والستّين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ لأبِي جَعْفَرٍ الْأَحْوَلِ، وَأَنَا أَسْمَعُ: «أَتَيْتَ الْبَصْرَةَ؟» فَقَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: «كَيْفَ رَأَيْتَ مُسَارَعَةَ النَّاسِ إِلى هذَا الْأَمْرِ، وَدُخُولَهُمْ فِيهِ؟» قَالَ: وَاللّهِ، إِنَّهُمْ لَقَلِيلٌ، وَلَقَدْ فَعَلُوا،

ص: 123


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 473
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 221
3- .الأنبياء (21) : 87 و 88

وَإِنَّ ذلِكَ لَقَلِيلٌ.

فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِالْأَحْدَاثِ؛ فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ إِلى كُلِّ خَيْرٍ» ثُمَّ قَالَ: «مَا يَقُولُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فِي هذِهِ الْايَةِ: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» ؟ (1). » قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا لأقَارِبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ (2). : «كَذَبُوا، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا خَاصَّةً فِي أَهْلِ الْبَيْتِ: فِي عَلِيٍّ، وَفَاطِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ ؛ أَصْحَابِ الْكِسَاءِ عليهم السلام ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (عليك بالأحداث) جمع الحدث _ بالتحريك _ وهو الشابّ الذي لم يطعن في السنّ؛ أي ألزمهم في الدعاء على هذا الأمر .

(فإنّهم أسرعُ إلى كلّ خير) .

قيل : لرقّة قلوبهم، وصفاء أذهانهم في الجملة، وعدم تمكّن الجهل المركّب في نفوسهم، كما تمكّن في نفوس الشيوخ (3).

وقوله : (إنّها لأقارب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ) .

قد مرَّ أنّ جماعة منهم يقولون: المراد بهم بنو هاشم وبنو عبد المطّلب كلّهم . ومنهم من قال: بنو هاشم وحدهم . ومنهم من قال: لقريش كلّهم .

وقوله عليه السلام : (إنّما نزلت فينا خاصّة) ؛ قد وردت الأخبار المستفيضة في نزول هذه الآية فيهم عليهم السلام من طرق الخاصّة، وقد روتها العامّة أيضا في كتبهم بأسانيد متكثّرة .

قال البيضاوي : «روي أنّها لمّا نزلت، قيل : يارسول اللّه ، مَن قرابتك؟ قال : عليٌّ، وفاطمة، وابناهما» (4).

والخاصّة خلاف العامّة . ونصبه على الحال .

وقوله: «في أهل البيت» بدل من الظرف . وقوله: «في عليّ» بدل من قوله: «في أهل البيت» .

ص: 124


1- الشورى (42) : 23
2- .في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «قال»
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 8
4- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 128

وفي القاموس : «الكِساء _ بالكسر _ معروف. الجمع: أكسية. وبالفتح: المجد، والشرف، والرفعة» (1). والظاهر هنا إرادة المعنى الأوّل، وإن كان الثاني صحيحا أيضا .

وكونهم عليهم السلام أصحاب الكساء لما رواه الخاصّة والعامّة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله خرج ذات غُدوةٍ، وعليه مِرط (2).

مُرَحّلٌ من شعر أسود، فجلس، فأتت فاطمة، فأدخلها فيه، ثمّ جاء عليّ عليه السلام فأدخله فيه، ثمّ جاء الحسن والحسين عليهماالسلام، فأدخلهما فيه، ثمّ قال : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا» (3). (4).

متن الحديث السابع والستّين (حديث أهل الشام)

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام (5) مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَدْ أَعْيَتْ عَلَيَّ أَنْ أَجِدَ أَحَدا يُفَسِّرُهَا، وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ شَيْئا غَيْرَ الَّذِي قَالَ الصِّنْفُ الْاخَرُ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «مَا ذَاكَ؟» قَالَ: فَإِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ مَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ سَأَلْتُهُ قَالَ: الْقَدَرُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْقَلَمُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الرُّوحُ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «مَا قَالُوا شَيْئا، أُخْبِرُكَ أَنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ كَانَ وَلَا شَيْءَ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَزِيزا وَلَا أَحَدَ كَانَ قَبْلَ عِزِّهِ، وَذلِكَ قَوْلُهُ: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ» (6) ، وَكَانَ الْخَالِقُ قَبْلَ الْمَخْلُوقِ، وَلَوْ كَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ مِنْ خَلْقِهِ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، إِذا لَمْ يَكُنْ لَهُ انْقِطَاعٌ أَبَدا، وَلَمْ يَزَلِ

ص: 125


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 383 (كسو)
2- في الحاشية: «المرط، بالكسر: كساء من صوف، أو خزق . والمرحّل، كمعظّم: بردٌ فيه تصاوير . وتفسير الجوهري إيّاه بإزار خزّ فيه علم غير جيّد، إنّما ذلك تفسير المرجّل بالجيم. القاموس» . اُنظر : القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 383 (رحل)
3- .الأحزاب (33) : 33
4- راجع : إقبال الأعمال ، ج 2 ، ص 350 ؛ الطرائف ، ص 123 ؛ بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 281 . صحيح مسلم، ج 6 ، ص 145 ؛ و ج 7 ، ص 130 ؛ سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 255 ، ح 4032 ؛ السنن الكبرى ، ج 2 ، ص 149
5- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «جاء إلى أبي جعفر عليه السلام رجل»
6- الصافّات (37) : 180

اللّهُ إِذا وَمَعَهُ شَيْءٌ لَيْسَ هُوَ يَتَقَدَّمُهُ، وَلكِنَّهُ كَانَ؛ إِذْ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ، وَخَلَقَ الشَّيْءَ الَّذِي جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خَلَقَ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ، فَجَعَلَ نَسَبَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَاءِ نَسَبا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَخَلَقَ الرِّيحَ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ سَلَّطَ الرِّيحَ عَلَى الْمَاءِ، فَشَقَّقَتِ الرِّيحُ مَتْنَ الْمَاءِ حَتّى ثَارَ مِنَ الْمَاءِ زَبَدٌ عَلَى قَدْرِ مَا شَاءَ أَنْ يَثُورَ، فَخَلَقَ مِنْ ذلِكَ الزَّبَدِ أَرْضا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَيْسَ فِيهَا صَدْعٌ، وَلَا ثَقْبٌ، (1) وَلَا صُعُودٌ، وَلَا هُبُوطٌ، وَلَا شَجَرَةٌ، ثُمَّ طَوَاهَا، فَوَضَعَهَا فَوْقَ الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ اللّهُ النَّارَ مِنَ الْمَاءِ، فَشَقَّقَتِ النَّارُ مَتْنَ الْمَاءِ حَتّى ثَارَ مِنَ الْمَاءِ دُخَانٌ عَلى قَدْرِ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَثُورَ، فَخَلَقَ مِنْ ذلِكَ الدُّخَانِ سَمَاءً صَافِيَةً نَقِيَّةً لَيْسَ فِيهَا صَدْعٌ، وَلَا ثَقْبٌ، (2) وَذلِكَ قَوْلُهُ: «السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها * وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» » (3).

قَالَ: «وَلَا شَمْسٌ، وَلَا قَمَرٌ، وَلَا نُجُومٌ، وَلَا سَحَابٌ، ثُمَّ طَوَاهَا، فَوَضَعَهَا فَوْقَ الْأَرْضِ، ثُمَّ نَسَبَ الْخَلِيقَتَيْنِ، فَرَفَعَ السَّمَاءَ قَبْلَ الْأَرْضِ، فَذلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» (4) ، يَقُولُ: بَسَطَهَا».

فَقَالَ لَهُ الشَّامِيُّ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، قَوْلُ اللّهِ تَعَالى: «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما» (5) ؟

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «فَلَعَلَّكَ تَزْعُمُ أَنَّهُمَا كَانَتَا رَتْقا مُلْتَزِقَتَانِ مُلْتَصِقَتَانِ، (6) فَفُتِقَتْ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرى؟»

فَقَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ؛ فَإِنَّ قَوْلَ اللّهِ _ جَلَّ وَعَزَّ _ : «كانَتا رَتْقا» ، يَقُولُ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقا لَا تُنْزِلُ الْمَطَرَ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقا لَا تُنْبِتُ الْحَبَّ، فَلَمَّا خَلَقَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْخَلْقَ، وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَتَقَ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِنَبَاتِ الْحَبِّ».

ص: 126


1- في الحاشية عن بعض النسخ وشرح المازندراني: «نقب»
2- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي وشرح المازندراني: «نقب»
3- النازعات (79) : 27 - 29
4- النازعات (79) : 30
5- الأنبياء (21) : 30
6- في كلتا الطبعتين وبعض النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة: «ملتزقتين ملتصقتين»

فَقَالَ الشَّامِيُّ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنْ وُلْدِ (1) الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ عِلْمَكَ عِلْمُهُمْ.

شرح الحديث

السند مجهول ، ورواه الصدوق رحمه الله في كتاب التوحيد بسند فيه ضعف (2).

قوله : (قد أعيت عليَّ) .

المستتر في «أعيت» راجع إلى المسألة، ووصفها بالإعياء مجاز مبالغة في إشكالها وعسر جوابها .

قال الفيروزآبادي : «عيّ بالأمر وعَيِيَ _ كرضي _ وتعايا وتعيّا: لم يهتدِ لوجه مراده، أو عجز عنه، ولم يُطق إحكامَه . وأعيا الماشي: كلَّ، والسيرُ البعيرَ : أكلَّه» (3) .

وقال الجوهري : «أعيا عليه الأمر وتعيّا وتعايا بمعنى» (4).

وقوله : (ثلاثة أصناف) .

لعلّ المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى، أو المسلمون والمتكلِّمون والفلاسفة .

وقوله : (عن أوّل ما خلق اللّه من خلقه) .

الظاهر أنّ كلمة «من» بيان للموصول .

وقال بعض الشارحين : ردُّه عليه السلام الأجوبةَ المذكورة بقوله : «ما قالوا شيئا» إلى آخره دلَّ على أنّ «من» ابتدائيّة، وأنّ مراد السائل بخلقه المثال، أو المهيّة النوعيّة القديمة، أو المادّة القديمة الأزليّة ، وقد ذهب إلى الأوّل من قال: إنّه تعالى لم يخلق إلّا باحتذاء مثال ، وإلى الثاني من قال: إنّ الأشياء محدثة بعضها من بعضٍ على سبيل التعاقب والتسلسل مع قِدم النوع ، وإلى الثالث من قال : إنّ خلق الأشياء من أصل قديم .

وقد مرّ بطلان هذه الأقوال في باب جوامع التوحيد وغيره . انتهى (5).

ص: 127


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «أولاد»
2- التوحيد ، ص 66 ، ح 20 . والإسناد فيه هكذا : «حدّثنا عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق _ رحمه اللّه _ قال : حدّثني محمّد بن أبي عبداللّه الكوفي ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكي ، عن الحسين بن الحسن ، قال : حدّثني أبوسمينة ، عن إسماعيل بن أبان ، عن زيد بن جبير ، عن جابر الجعفي ، قال : ...»
3- .القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 368 (عيي) مع التلخيص
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2443 (عيي)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 10

واعلم أنّه اختلفت الأخبار والأقوال في أوّل المخلوقات : منها : ما رواه الصدوق رحمه الله في كتاب العيون بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «أوّل ما خلق اللّه النور» (1).

ومنها : ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «أوّل ما خلق اللّه نوري» (2) وفي بعض الأخبار: «روحي» (3) ومنها : ما رواه المصنّف وغيره عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «إنّ اللّه خلق العقل، وهو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره»(4).

وهذا الخبر لا يدلّ على تقدّم خلق العقل على ما سواه من المخلوقات، بل سوا خلق الروحانيّين ، فلا يبعد أن يكون خلقه بعد الماء ، وأمّا الخبر الثاني والثالث فيمكن حملهما على الأوّليّة الإضافيّة ، ويمكن الجمع بينهما بحملهما على الاتّحاد . وكذا الخبر الأوّل .

ويمكن أيضا حمل أخبار الماء على الأوّليّة الإضافيّة بأن يكون خلق الروحانيّين أو النور مقدّما على خلقه، واللّه تعالى يعلم .

وأنت إذا أحطت خُبرا بما تلوناه عليك، لا يشكل عليك وجه الجمع بين غيرها من الأخبار، مثل ما نقل من التوراة أنّه جاء في السِفر الأوّل منه: «إنّ مبدأ الخلق جوهر خلقه اللّه تعالى، ثمّ نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه، فصارت ماءً، فصار هذا الماء بخارا كالدخان، فخلق منه السماوات، وظهر على وجه الماء مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض، ثمّ أرساها بالجبال» (5).

وقال عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (6) ، قال : «وذلك في مبدأ الخلق، أنّ الربّ _ تبارك وتعالى _ خلق الهواء، ثمّ خلق القلم، فأمره أن يجري ،

ص: 128


1- عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 240 ، ح 1 ؛ و ص 262 ، ح 22 (بسند آخر عنه عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه و آله ) . وانظر أيضا : علل الشرائع ، ج 2 ، ص 593 ، ح 44
2- .عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 99 ، ح 140 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 97 ، ح 7
3- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 309 ؛ نورالبراهين ، ج 1 ، ص 179
4- الكافي ، ج 1 ، ص 20 ، ح 14 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 196 ، ح 22 ؛ تحف العقول ، ص 399 ؛ الخصال ، ج 2 ، ص 588 ، ح 13 ؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 113 ، ح 10
5- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 308
6- هود (11) : 7

فقال : ياربّ بما أجري؟ فقال : بما هو كائن . ثمّ خلق الظلمة من الهواء، وخلق النور من الهواء، وخلق الماء من الهواء، وخلق العرش من الهواء، وخلق العقيم من الهواء وهو الريح الشديد، وخلق النار من الهواء، وخلق الخلق كلّهم من هذه الستّة التي خلقت من الهواء» (1). وروى الصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي الصلت الهروي، قال : سأل المأمون أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» (2). ، فقال : «إنّ اللّه _ تبارك وتعالى _ خلق العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض، وكانت الملائكة تستدلّ بأنفسها وبالعرش والماء على اللّه _ عزّ وجلّ _ ثمّ جعل عرشه على الماء؛ ليظهر بذلك قدرته للملائكة، فتعلم أنّه على كلّ شيء قدير ، ثمّ رفع العرش بقدرته، ونقله، فجعله فوق السماوات السبع، ثمّ خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام، وهو مستولٍ على عرشه، وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين، ولكنّه _ عزّ وجلّ _ خلقها في ستّة أيّام؛ ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا بعد شيء، فتستدلّ بحدوث ما يحدث على اللّه تعالى ذكره» (3).

وقوله : (فإنّ بعض من سألتُه قال: القَدَر) .

في القاموس : «القَدَرُ، محرّكة: القضاء، والحكم، ومبلغ الشيء» (4).

ولعلّ هذا القائل أراد به تقديرات الأشياء مع ما يلزمها من اللوح المثبت فيه ذلك ، أو أراد نفس اللوح مجازا وجوهرا، وهو أوّل المخلوقات، لكن تخطئتهُ عليه السلام هذا القائل يدلّ على أنّه أراد به نفس الحكم والقضاء، إلّا أن يحمل قوله عليه السلام : «ما قالوا شيئا» على أنّهم لم يقولوا فيه شيئا بيّنا، لا التباس فيه ولا إجمال .

وفي توحيد الصدوق : «القُدرة»، وهي القوّة . قيل : لعلّه مبنيّ على قول من قال بزيادة صفاته تعالى على ذاته، وأنّها مخلوقة له سبحانه (5).

ص: 129


1- هود (11) : 7
2- .تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 321 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 70 ، ح 46
3- التوحيد ، ص 320 ، ح 2 ؛ عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 134 ، ح 33
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 114 (قدر)
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 231

(وقال بعضهم : القلم) .

وقد ورد ذلك في بعض أخبارنا أيضا . ولعلّ المراد الأوّليّة الإضافيّة، كما مرّ ، وفي بعض الأخبار دلالة عليه .

وفي التوحيد : «وقال بعضهم : العِلم» . قيل : هو أيضا مبنيّ على ما مرّ في القدرة (1).

(وقال بعضهم: الروح) .

في القاموس : «الروح، بالضمّ: ما به حياة الأنفُس» (2) . ولعلّ هذا القائل أراد به العقل، كما هو رأي الفلاسفة، لكن على مذهبهم كونه مخلوقا _ بمعنى كون وجوده مسبوقا على عدمه الخارجي _ نظر .

وقيل : القدر هنا عبارة عمّا قضاه اللّه ، وحكم به من الاُمور . وقد يُراد به تقدير الأشياء .

والقلم يُطلق تارةً على [كلّ] ما يكتب به، وتارةً على ما كتب به اللوح المحفوظ، وهو المراد هنا . قال بعض العامّة : أوّل ما خلقه اللّه القلم، ثمّ النون وهو الدواة، ثمّ قال : اكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ، ثمّ ختم على القلم، فلا ينطق إلى يوم القيامة (3). واختلفوا في المأمور بالكتابة ؛ فقيل : هو صاحب القلم بعد خلقه . وقيل : القلم نفسه؛ لإجرائه مجرى أُولي العلم، وإقامته مقامه.

والروح ما يقوم به الجسد، وتكون به الحياة . وقد يُطلق على القرآن، وعلى جبرئيل .

ثمّ قال : إذا عرفت هذا، فأقول : القائل الأوّل نظر إلى أنّ القضاء والتقدير مقدّم على وجودات الأشياء، فحكم بأنّه الأوّل ، والقائل الثاني نظر إلى أنّه ثَبْت الأشياء في اللوح متوقّف على القلم، فحكم بأنّه الأوّل ، والقائل الثالث نظر إلى أنّ الروح أشرف الأشياء، ويتوقّف عليه الكتابة في اللوح، فحكم بأنّه الأوّل . والكلّ معترف بأنّ ما

ص: 130


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 25 ص 231
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 224 (روح)
3- اُنظر: أحكام القرآن لابن العربي ، ج 4، ص 304 ؛ تفسير ابن كثير ، ج 4 ، ص 427 ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ج 5، ص 174 ؛ و ج 61 ، ص 385

ذهبوا إليه نشأ من مثال سابق، وهذا باطل (1).

انتهى، فتأمّل فيه حتّى يظهر لك فساد هذا القول، وما نسب إلى العامّة من أنّ أوّل ما خلقه اللّه القلم، فهو مرويّ من طرق الخاصّة أيضا، كما أشرنا إليه آنفا .

روى عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام ، عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال : «أوّل ما خلق اللّه القلم، فقال له : اُكتب، فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة» (2).

وروى عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحيم القصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سألته عن «ن * وَالْقَلَمِ» (3). ، قال : «إنّ اللّه خلق القلم من شجرة في الجنّة يُقال لها: الخُلد، ثمّ قال لنهرٍ في الجنّة: كُن مدادا، فجمد النهر، وكان أشدّ بياضا من الثلج ، وأحلى من الشهد ، ثمّ قال للقلم : اكتب ، قال : ياربّ وما أكتب؟ قال : اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضا من الفضّة، وأصفى من الياقوت، ثمّ طواه، فجعله في ركن العرش، ثمّ ختم على فم القلم، فلم ينطق بعد ، ولا ينطق أبدا، فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلّها، أَ ولستم عَرَبا؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟! وأحدكم يقول لصاحبه: اُنسخ ذلك الكتاب؟! أَ وليسَ [إنّما] ينسخ من كتاب اُخذ من الأصل، وهو قوله : «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» ؟ (4). » (5).

وفي كتب الصدوق مثله (6).

وظهر من هذا الخبر ما قلناه من أنّ أوّليّة خلق القلم بالإضافة؛ لتقدّم الجنّة والشجرة عليه .

وقوله عليه السلام : (ما قالوا شيئا) أي شيئا واقعيّا، أو شيئا يعتدّ به .

وقوله : (وكان عزيزا) أي غالبا على الأشياء كلّها .

وقال صاحب العدّة : «العزيز: هو المنيع الذي لا يُغْلَب ، وهو أيضا الذي لا يعادله شيء،

ص: 131


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 10
2- تفسيرالقمّي ، ج 2 ، ص 198 . و عنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 366 ، ح 1
3- .القلم (68) : 1
4- . الجاثية (45) : 29
5- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 379 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 366 ، ح 3
6- اُنظر : التوحيد ، ص 136 ، ح 8 ؛ عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 118 ، ح 8

وأنّه لا مثل له ولا نظير له . وقد يُقال للملِك، كما قال إخوة يوسف: «يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» (1) أي يا أيّها الملك» (2).

(ولا أحد كان قبل عزّه) أي لم يكن قبل عزّته أحد يكون عزّته به، فلو كان أوّل ما خلقه من أصلٍ قديم لم يزل معه تعالى، فإن كان ذلك الأصل منه لزم أن يكون معه شيء في الأزل، وإن كان من غيره لزم أن يكون قبل عزّه أحدٌ أعزُّ منه، وهو سبحانه يتبع أثره. وكلاهما باطل ، واستدلّ عليه بقوله : (وذلك قوله : «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ» ) (3). ؛ إذ يدلّ ذلك على أنّه تعالى سبب كلّ عزّة، فلو كان عزّته بغيره كان ذلك الغير ربّ العزّة .

ووجه الدلالة أنّ إضافة الربّ إلى العزّة المطلقة تفيد اختصاصها به _ كما هو شأن الإضافة _ وتنزيهُهُ عن كلّ وصف لا يليق به يفيد ثبوتَ كلِّ كمالٍ له، وسلبَ كلّ نقصٍ عنه سبحانه . وكلّ منهما يستلزم انفراده في القدم والعزّة المطلقة .

وفي كتاب التوحيد للصدوق رحمه الله : «وكان عزيزا ولا عِزّ ؛ لأنّه كان قبل عِزّه، وذلك قوله» إلى آخره (4).

قيل : لعلّ المراد حينئذٍ أنّه كان غالبا وعزيزا قبل أن يظهر عزّه وغلبته على الأشياء بخلقها، ولذا قال: «ربّ العزّة»؛ إذ فعليّة العزّة وظهورها مُسبَّب عنه تعالى . انتهى (5).

والأظهر أن يُقال: معناه أنّه تعالى كان عزيزا بالعزّة الذاتيّة الحقيقيّة المطلقة، ولا عزّ بالإضافة إلى الغير؛ لأنّه سبحانه كان قبل عزّه الإضافيّة؛ (6).

فإنّ تحقّق هذا العزّ إنّما هو بعد وجود الأشياء واعتبارها .

ثمّ أشار عليه السلام إلى كبرى الدليل بقوله : (وكان الخالق قبل المخلوق) ؛ وصورة الاستدلال: أنّه تعالى خلق كلّ عزّة مقدّمة على وجود ذي العزّة الذي هو المخلوق ، والخالق يجب وجوده قبل المخلوق، فيجب وجوده تعالى قبل كان مخلوقا لا قبليّة مكانيّة فقط ، بل قبليّة زمانيّة متوهّمة أيضا، وإلّا لزمت مشاركة الغير معه في القدم، فلا يتصوّر حينئذٍ معنى الإيجاد

ص: 132


1- يوسف (12) : 78 و 88
2- عدّة الداعي ، ص 305 (مع التلخيص)
3- .الصافّات (37) : 180
4- التوحيد ، ص 66 ، ح 20
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 226
6- كذا. والصحيح: «عزّته الإضافيّته، أو عزّه الإضافي»

والتأثير بالنسبة إلى ذلك الغير، ويلزم منه أن يكون خلقه تعالى وإنشاؤه على سبيل القدرة والاختيار؛ إذ لو كان على الإيجاب لزم تخلّف المعلول على الموجب التامّ، وهو مُحال .

ثمّ إنّه عليه السلام بعد تمهيد المقدّمات المذكورة أشار إلى جواب السائل بقوله : (ولو كان أوّلُ ما خلق من خلقه الشيء من الشيء) المتوقّف عليه خلق ذلك الشيء (إذا لم يكن له) أي للخلق وسلسلة الوجود (انقطاع أبدا) وهو ظاهر .

والحاصل أنّه لو كان كيفيّة الإيجاد والتأثير على ما زعمه الفلاسفة من أنّ كلّ حادث مسبوق بالمادّة، يلزم أن لا يتحقّق شيء من المخلوقات، وهو أوّل الأشياء، فيلزم وجود قديم سوى اللّه _ عزّ وجلّ _ وهو محال ، كما أشار إليه بقوله : (ولم يزل اللّه إذا ومعه شيء ليس هو يتقدّمه) سواء اُسند ذلك الشيء إليه تعالى، أو إلى غيره، أو لم يسند إلى علّة أصلاً، وإن كان المفروض هو الأوّل؛ لظهور بطلان الأخيرين ، على أنّ الظاهر أن لا قائل بهما .

وقوله : (ولكنّه كان ؛ إذ لا شيء غيره) ؛ إشارة إلى كبرى القياس الأخير .

وفي توحيد الصدوق بعد قوله : «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ» : «و كان خالقا ولا مخلوق ، فأوّل شيء خَلَقه من خَلْقهِ الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء ».

فقال السائل : فالشيء خلقه من شيء، أو من لا شيء؟ فقال : «خلق الشيء لا من شيء كان قبله، ولو خلق الشيء من شيء إذا لم يكن له انقطاع أبدا، ولم يزل اللّه إذا ومعه شيء، ولكن كان اللّه ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء» (1).

وكان هذه الزوائد سقط هنا من النسّاخ .

ولا يخفى على من له أدنى مسكة أنّ هذا الخبر وأمثاله صريح في الدلالة على حدوث العالم بالمعنى الذي أجمع عليه أهل الملل والشرائع ؛ أعني الكون بعد أن لم يكن في الخارج، لا الحدوث الذاتي فقط، كما ذهب إليه الفلاسفة ومن يقول بمقالتهم ، ولكن «مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَا هَادِىَ لَهُ» (2).

(فجعل نسب كلّ شيء إلى الماء) ؛ بأن خلق جميعه منه، وجعله مادّة له.

وأصل النسب، بالتحريك: القرابة، كالنسبة، بالضمّ والكسر .

ص: 133


1- التوحيد ، ص 66 ، ح 20
2- الأعراف (7) : 186

(و لم يجعل للماء نسبا يُضاف إليه) ؛ بأن جعل له مادّة خلقه منها .

و كأنّه إشارة إلى قوله تعالى : «وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَىٍّ» (1) إن اُريد بالحياة أصل الوجود والظهور من العدم .

وقوله : (فشقّقت الريح متنَ الماء) .

التشقيق والشقّ: الخرق، والتفريق. والمتن: ما صلب من الأرض وارتفع .

(حتّى ثار من الماء زَبَد على قدر ما شاء أن يَثور) .

الثور: الهيجان، والوثب، والسطوع . والزَّبَد _ محرّكة _ للماء وغيره .

وقوله : (ليس فيها صَدْع و لا ثَقْب) .

الصَّدع: الشقّ في شيءٍ صلب . والثَّقب: الخرق النافذ .

وقوله : (ثمّ طَواها) ؛ يُقال : طوى الصحيفة _ كرمى _ فأطوى وانطوى .

(فوضعها فوقَ الماء) أي جمعها، فوضعها موضع البيت، كما ورد في خبر أبرش (2).

(ثمّ خلق اللّه النار من الماء) .

لا ينبغي أن يستبعد ذلك من قدرته الكاملة؛ فإنّه _ عزّ وجلّ _ هو الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، ومن صدمات أجزاء السحاب الماطر برقا .

(فشقّقت النار متن الماء) ، وسخّنه تسخينا شديدا .

(حتّى ثار من الماء دُخان) إلى قوله : (سماء صافية نقيّة) .

يفهم من ظاهره أنّ السماء مخلوقة من الدخان ، وكذا من قوله تعالى : «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ» (3) ، وأنّ المراد بالنار والدخان معناهما الحقيقي ، لكن ورد في بعض الأخبار مَا يوهم خلافه .

روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه قال أبو عبداللّه عليه السلام لأبرش الكلبي : «يا أبرش، هو كما وصف نفسه، كان عرشه على الماء، والماء على الهواء، والهواء لا يحدّ، ولم يكن يومئذٍ خلق غيرهما، والماء يومئذٍ عذب فرات ، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الرياح، فضربت

ص: 134


1- الأنبياء (22) : 30
2- اُنظر : تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 69
3- فصّلت (41) : 11

الماء حتّى صار موجا، ثمّ أزبد، فصار زَبَدا واحدا، فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلاً من زَبَد، ثمّ دحى الأرض من تحته ، فقال اللّه تبارك وتعالى : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا» (1) » (2).

و في خبر آخر ، قال أبو عبداللّه لأبرش : «ثمّ مكث الربّ _ تبارك وتعالى _ ما شاء، فلمّا أراد أن يخلق السماء أمر الرِّياح، فضربت البحور حتّى أزبَدتْ بها، فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء، وجعل فيها البروج والنجوم ومنازل الشمس والقمر، فأجراها في الفلك» الحديث (3).

فلعلّ المراد بقوله عليه السلام : «من غير نار» أنّه لم يتصاعد مع ذلك الدخان أجزاء ناريّة .

وقيل : أو كون ارتفاع الدخان بعد خمود النار(4) وهو ينافي الحديث الآتي بعد هذا الحديث .

فالصحيح الأوّل، فلا منافاة، ولا يحتاج إلى ما قيل من أنّ المراد بالدخان هنا البخار المتصاعد عن وجه الماء الحادث بسبب حركته بتحريك الريح له، وليس محمولاً على حقيقته ؛ لأنّه إنّما يكون من النار، ولا نار هناك، وإنّما سمّي البخار دخانا من باب الاستعارة؛ للتشابه بينهما في الصورة ؛ لأنّ البخار أجزاء مائيّة، خالطت الهواء بسبب لطافتها عن حرارة الحركة ، كما أنّ الدخان أجزاء مائيّة انفصلت عن جرم المحترق بسبب لطافتها عن حرارة النار .

وقوله تعالى : «رَفَعَ سَمْكَهَا» .

قال البيضاوي : «أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، أو ثخنها الذاهب في العلوّ رفيعا» (5).

و في القاموس : «سَمكه سَمْكا: رفعه. والسمك: السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، والقامة من كلّ شيء» (6).

ص: 135


1- .آل عمران (3) : 96
2- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 69 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 54 ، ص 72 ، ح 46
3- اُنظر المصادر السالفة
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 228
5- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 448
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 307 (سمك)

«فَسَوَّاهَا» .

قيل : أي فعدّلها، أو فجعلها مستوية، أو فتمّمها بما يتمّ به كمالها من الكواكب والتداوير وغيرها، من قولهم : سَوّى فلان أمره، إذا أصلَحهُ (1).

«وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا» .

في القاموس: «غطش الليل يغطِش: أظَلَم، كأغْطَشَ، وأغطشه اللّه » (2).

«وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا» (3). أي وأبرز ضوء شمسها ، كقوله : «وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا» (4) ؛ يريد النهار . وإضافتها إليهما لأنّهما يحدثان بحركتها .

قال الفيروزآبادي : «الضَّحو والضَّحوة والضَّحية: ارتفاع النهار . والضُّحى: فُوَيْقَه» (5).

(قال : و لا شمس و لا قمر و لا نجوم و لا سحاب) أي لم يكن في ابتداء خلقها تلك الأشياء، وإنّما حدثت بعدُ لمصالح الخلق ومنافعهم .

(ثمّ نسب الخليقتين) أي بيّن نسبة خلق الأرض والسماء في كتابه بقوله : «وَالسَّمَاءُ بَنَاهَا» إلى قوله : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا» (6) فبيّن أنّ دحو الأرض بعد رفع السماء . أو المراد أنّه تعالى رتّبهما في الوضع، وجعل إحداهما فوق الاُخرى . أو جاء بواحدة منهما في إثر الاُخرى .

قال الفيروزآبادي : «النسب _ محرّكة _ والنسبة، بالكسر والضمّ: القرابة . يُقال : نسبه _ كنصر وضرب _ أي ذَكَرَ نَسبَهُ . والنَّيْسَب، كحَيدر: النَّمل إذا جاء واحدٌ منها في إثر آخر، وطريق النمل» (7).

(فرفع السماء قبل الأرض) ؛ لعلّ المراد أنّه رفعها بالبسط المعلوم قبل بسط الأرض .

وقوله تعالى : «دَحَاهَا» .

قال البيضاوي : «بسطها، ومهّدها للسكنى» (8).

ص: 136


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 228
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 448
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 281 (غطش)
4- النازعات (79) : 27 - 29
5- الشمس (91) : 1
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 354 (ضحو)
7- النازعات (79) : 30
8- القاموس المحيط ، ، ج 1 ، ص 131 (نسب) مع التلخيص

وقوله تعالى : «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا» .

قال البيضاوي : أو لم يعلموا ، وقرأ ابن كثير بغير واو .

«وَكَانَتَا رَتْقا» : ذات رتق، أو مرتوقتين، وهو الضمّ والالتحام ؛ أي كانتا شيئا واحدا و حقيقة متّحدة .

«فَفَتَقْنَاهُمَا» بالتنويع والتمييز، أو كانت السماوات واحدة، ففُتِقَتْ بالتحريكات المختلفة حتّى صارت أفلاكا، وكانت الأرضون واحدة، فجعلت باختلاف كيفيّاتها وأحوالها طبقات أو أقاليم .

وقيل : «كَانَتَا» بحيث لا فرجة بينهما ففرّج .

وقيل «كَانَتَا رَتْقًا» لا تمطِر ولا تُنبت، ففتقتا بالمطر والنبات ، فيكون المراد بالسماوات سماء الدُّنيا، وجمعها باعتبار الآفاق أو السماوات بأسرِها، على أنّ لها مدخلاً مّا في الأمطار ، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فهم متمكِّنون من العلم به نظرا؛ فإنّ الفتق عارض مفتقر إلى مؤثّر واجب وابتداء، أو بواسطة، أو استفسارا من العلماء ومطالعة الكتب ، وإنّما قال: «كَانَتَا» ولم يقل: «كنّ»؛ لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض (1).

متن الحديث الثامن و الستّين

اشارة

مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَ (2) الْحَجَّالِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مَاءً، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَأَمَرَ اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ الْمَاءَ فَاضْطَرَمَ نَارا، ثُمَّ أَمَرَ النَّارَ فَخَمَدَتْ، فَارْتَفَعَ مِنْ خُمُودِهَا دُخَانٌ، فَخَلَقَ اللّهُ (3) السَّمَاوَاتِ (4) مِنْ ذلِكَ الدُّخَانِ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ مِنَ الرَّمَادِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالرِّيحُ، فَقَالَ الْمَاءُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، وَقَالَتِ الرِّيحُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، وَقَالَتِ النَّارُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، فَأَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَى

ص: 137


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 91
2- في السند تحويل بعطف «الحجّال ، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم» على «ابن محبوب ، عن العلاء بن زرين ، عن محمّد بن مسلم»
3- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : - «اللّه »
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «السماء»

الرِّيحِ: أَنْتِ جُنْدِيَ الْأَكْبَرُ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (و كان عرشه على الماء) .

ورد تفسير العرش في بعض الأخبار بالدين والعلم .

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة هود : «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (1). :

يعني قبل خلقهما لم يكن حائل بينهما ؛ لأنّه كان موضوعا على متن الماء ، واستدلّ [به ]على إمكان الخلأ، وأنّ الماء أوّل حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم .

وقيل : كان الماء على متن الريح ، واللّه أعلم بذلك (2).

(فاضطرم نارا) ؛ من قبيل انفجرت الأرض عيونا .

قال الجوهري : «اضطرمت النار، إذا التهَبت» (3).

(و خلق الأرض من الرَّماد) .

قيل : لعلّ المراد أنّ بقيّة الأرض التي حصلت بعد الدحو كانت مادّتها الدخان . قال : ويحتمل أيضا أن يكون الزبد المذكور في الأخبار الاُخر مادّة بعيدة للأرض، بأن يكون الرماد حصل من الزَّبَد ، ومن الرماد تكوّنت الأرض ، أو يكون الرماد أحد أجزاء الأرض مزج بالزبد، فجمد الزبد بذلك المزج وتصلّب (4).

وقيل : هذا لا ينافي ما مرّ من أنّها خلقت من زبد الماء ؛ لأنّ الرماد زبد سمّي رمادا باعتبار أنّه بقي بعد تأثير النار فيه ، وخروج أجزاء مائيّته، وتصاعدها من تأثيرات النار (5).

وقوله : (أنت جنديَ الأكبر) .

الجند، بالضمّ: الأعوان والأنصار .

ص: 138


1- هود (11) : 7
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 221
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1971 (ضرم)
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 232
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 16

وقيل : كلّ ناصر لدين اللّه ، وغالب على عدوّه، ونافع لخلقه فهو جند اللّه ، كما قال تعالى : «وَللّهِِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» (1) وقال : «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا» (2) ؛ أي أيّده بالملائكة والريح، فهزموا الأحزاب وقال : «إِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ» (3) .

و من البيّن أنّ الأكبريّة باعتبار القوّة والغلبة والضرّ والنفع، وأنّ لكلّ واحدٍ من الماء والنار والريح هذه الأوصاف إلّا أنّها في الريح أقوى وأشدّ من الماء والنار؛ إذ طبعهما لا يقتضي إلّا أمرا واحدا، بخلاف الريح؛ فإنّها مع اتّحاد جوهرها مَصْدرٌ لآثار مختلفة كإيقاد النار وإخمادها، وإثارة السحاب وجمعها وتفريقها، وتنقية الحبوب وترويح النفوس، وتلقيح الأزهار وتربية الأثمار، وتلطيف الأهوية وتكثيفها، وتحريك السُّفن وتسكينها بالإحاطة عليها وسرعة السير إلى جهات مختلفة، وقوّة الحركة إلى أمكنة متباعدة، إلى غير ذلك من خصالها التي لا تُحصى ، ويكفي في ذلك أنّه فتحت السماء بماءٍ منهمر، وانفجرت العيون، وجرت المياه من كلّ جانب لإهلاك قوم نوح، والريح خرجت على مقدار حلقة خاتم، أو خرق إبرة لهلاك قوم عاد، ولو خرجت على مقدار منخر ثورٍ لأهلكت البلاد كلّها (4).

متن الحديث التاسع و الستّين (حديث الجنان و النوق)

اشارة

متن الحديث التاسع و الستّين (حديث الجنان و النوق)عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْدا» (5) ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْوَفْدَ لَا يَكُونُونَ إِلَا رُكْبَانا، أُولئِكَ رِجَالٌ اتَّقَوُا اللّهَ، فَأَحَبَّهُمُ اللّهُ، وَاخْتَصَّهُمْ، وَرَضِيَ أَعْمَالَهُمْ، فَسَمَّاهُمُ الْمُتَّقِينَ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ، أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُمْ لَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَسْتَقْبِلُهُمْ بِنُوقٍ مِنْ نُوقِ الْعِزِّ، عَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ ، مُكَلَّلَةً بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَجَلَائِلُهَا الْاءِسْتَبْرَقُ

ص: 139


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 16
2- الفتح (48) : 4 و 7
3- .التوبة (9) : 40
4- الصافّات (37) : 173
5- .مريم (19) : 85

وَالسُّنْدُسُ، وَخُطُمُهَا جَدْلُ الْأُرْجُوَانِ، تَطِيرُ بِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَلْفُ مَلَكٍ مِنْ قُدَّامِهِ (1) ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ يَزُفُّونَهُمْ زَفّا، حَتّى يَنْتَهُوا بِهِمْ إِلى بَابِ الْجَنَّةِ الْأَعْظَمِ، وَعَلى بَابِ الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ، إِنَّ الْوَرَقَةَ مِنْهَا لَيَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا أَلْفُ رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ، وَعَنْ يَمِينِ الشَّجَرَةِ عَيْنٌ مُطَهِّرَةٌ مُزَكِّيَةٌ.

قَالَ: فَيُسْقَوْنَ مِنْهَا شَرْبَةً، فَيُطَهِّرُ اللّهُ بِهَا قُلُوبَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ، وَيُسْقِطُ عَنْ (2) أَبْشَارِهِمُ الشَّعْرَ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرابا طَهُورا» (3). مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ الْمُطَهِّرَةِ.

قَالَ: ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلى عَيْنٍ أُخْرى عَنْ يَسَارِ الشَّجَرَةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهَا، وَهِيَ عَيْنُ الْحَيَاةِ، فَلَا يَمُوتُونَ أَبَدا. قَالَ: ثُمَّ يُوقَفُ بِهِمْ قُدَّامَ الْعَرْشِ، وَقَدْ سَلِمُوا مِنَ الْافَاتِ وَالْأَسْقَامِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ أَبَدا. قَالَ: فَيَقُولُ الْجَبَّارُ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُمْ: احْشُرُوا أَوْلِيَائِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا تُوقِفُوهُمْ مَعَ الْخَلَائِقِ، فَقَدْ سَبَقَ رِضَايَ عَنْهُمْ، وَوَجَبَتْ رَحْمَتِي لَهُمْ، وَكَيْفَ أُرِيدُ أَنْ أُوقِفَهُمْ مَعَ أَصْحَابِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ. قَالَ: فَتَسُوقُهُمُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَإِذَا انْتَهَوْا بِهِمْ إِلى بَابِ الْجَنَّةِ الْأَعْظَمِ، ضَرَبَ الْمَلَائِكَةُ الْحَلْقَةَ ضَرْبَةً تَصِرُّ (4) صَرِيرا يَبْلُغُ صَوْتُ صَرِيرِهَا كُلَّ حَوْرَاءَ أَعَدَّهَا اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لأوْلِيَائِهِ فِي الْجِنَانِ، فَيَتَبَاشَرْنَ (5) بِهِمْ إِذَا سَمِعُوا (6) صَرِيرَ الْحَلْقَةِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَنَا أَوْلِيَاءُ اللّهِ، فَيُفْتَحُ لَهُمُ الْبَابُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَتُشْرِفُ عَلَيْهِمْ أَزْوَاجُهُمْ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْادَمِيِّينَ، فَيَقُلْنَ: مَرْحَبا بِكُمْ، فَمَا كَانَ أَشَدَّ شَوْقَنَا إِلَيْكُمْ، وَيَقُولُ لَهُنَّ أَوْلِيَاءُ اللّهِ مِثْلَ ذلِكَ.

فَقَالَ عَلِيٌّ عليه السلام : يَا رَسُولَ اللّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ قَوْلِ اللّهِ جَلَّ وَعَزَّ: «غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ» (7) بِمَا ذَا بُنِيَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، تِلْكَ غُرَفٌ بَنَاهَا اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لأوْلِيَائِهِ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، سُقُوفُهَا

ص: 140


1- في الحاشية عن بعض النسخ : «قدّامهم»
2- في الطبعة القديمة : «من»
3- الإنسان (76) : 21
4- في الطبعة القديمة : «فتصرّ»
5- في الطبعة الجديدة و جميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فيتباشرون»
6- في الطبعة الجديدة: «سمعن»
7- في المصحف الشريف سورة الزمر (39) الآية 20 هكذا: «لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ»

الذَّهَبُ مَحْبُوكَةٌ بِالْفِضَّةِ، لِكُلِّ غُرْفَةٍ مِنْهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ ذَهَبٍ (1) ، عَلى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، فِيهَا فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنَ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَحَشْوُهَا الْمِسْكُ وَالْكَافُورُ وَالْعَنْبَرُ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» (2) ، إِذَا أُدْخِلَ الْمُؤْمِنُ إِلى مَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَوُضِعَ عَلى رَأْسِهِ تَاجُ الْمُلْكِ وَالْكَرَامَةِ، أُلْبِسَ حُلَلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْيَاقُوتِ ، وَالدُّرُّ مَنْظُومٌ (3) فِي الْاءِكْلِيلِ تَحْتَ التَّاجِ.

قَالَ: وَأُلْبِسَ سَبْعِينَ حُلَّةَ حَرِيرٍ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، مَنْسُوجَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، فَذلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» (4) ، فَإِذَا جَلَسَ الْمُؤْمِنُ عَلى سَرِيرِهِ اهْتَزَّ سَرِيرُهُ فَرَحا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ لِوَلِيِّ اللّهِ _ جَلَّ وَعَزَّ _ مَنَازِلُهُ فِي الْجِنَانِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجِنَانِهِ لِيُهَنِّئَهُ بِكَرَامَةِ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ لَهُ خُدَّامُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْوُصَفَاءِ وَالْوَصَائِفِ : مَكَانَكَ؛ فَإِنَّ وَلِيَّ اللّهِ قَدِ اتَّكَأَ عَلى أَرِيكَتِهِ ، وَزَوْجَتُهُ الْحَوْرَاءُ تَهَيَّأُ لَهُ، فَاصْبِرْ لِوَلِيِّ اللّهِ.

قَالَ: فَتَخْرُجُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ الْحَوْرَاءُ مِنْ خَيْمَةٍ لَهَا تَمْشِي مُقْبِلَةً، وَحَوْلَهَا وَصَائِفُهَا، وَعَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً مَنْسُوجَةً بِالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالزَّبَرْجَدِ، هِيَ مِنْ مِسْكٍ وَعَنْبَرٍ، وَعَلى رَأْسِهَا تَاجُ الْكَرَامَةِ، وَعَلَيْهَا نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلَتَانِ بِالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ، شِرَاكُهُمَا يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، فَإِذَا دَنَتْ مِنْ وَلِيِّ اللّهِ، فَهَمَّ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهَا شَوْقا، فَتَقُولُ لَهُ: يَا وَلِيَّ اللّهِ، لَيْسَ هذَا يَوْمَ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، فَلَا تَقُمْ أَنَا لَكَ ، وَأَنْتَ لِي.

قَالَ: فَيَعْتَنِقَانِ مِقْدَارَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ مِنْ أَعْوَامِ الدُّنْيَا ، لَا يُمِلُّهَا وَلَا تُمِلُّهُ. قَالَ: فَإِذَا فَتَرَ بَعْضَ الْفُتُورِ مِنْ غَيْرِ مَلَالَةٍ نَظَرَ إِلى عُنُقِهَا، فَإِذَا عَلَيْهَا قَلَائِدُ مِنْ قَصَبٍ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَسَطُهَا لَوْحٌ، صَفْحَتُهُ دُرَّةٌ، مَكْتُوبٌ فِيهَا: أَنْتَ يَا وَلِيَّ اللّهِ حَبِيبِي، وَأَنَا الْحَوْرَاءُ حَبِيبَتُكَ، إِلَيْكَ تَنَاهَتْ نَفْسِي، وَإِلَيَّ تَنَاهَتْ نَفْسُكَ.

ثُمَّ يَبْعَثُ اللّهُ إِلَيْهِ أَلْفَ مَلَكٍ يُهَنِّئُونَهُ (5) بِالْجَنَّةِ، وَيُزَوِّجُونَهُ بِالْحَوْرَاءِ.

قَالَ: فَيَنْتَهُونَ إِلى أَوَّلِ بَابٍ مِنْ جِنَانِهِ، فَيَقُولُونَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِأَبْوَابِ جِنَانِهِ: اسْتَأْذِنْ لَنَا عَلى وَلِيِّ اللّهِ؛ فَإِنَّ اللّهَ بَعَثَنَا إِلَيْهِ نُهَنِّئُهُ.

ص: 141


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «الذهب»
2- الواقعة (76) : 34
3- في الطبعة القديمة : «والدرّ المنظوم»
4- الحجّ (22) : 23 ؛ فاطر (35) : 33
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «يهنّونه»

فَيَقُولُ لَهُمُ الْمَلَكُ حَتّى أَقُولَ لِلْحَاجِبِ، فَيُعْلِمَهُ بِمَكَانِكُمْ.

قَالَ: فَيَدْخُلُ الْمَلَكُ إِلَى (1) الْحَاجِبِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاجِبِ ثَلَاثُ (2) جِنَانٍ حَتّى يَنْتَهِيَ إِلى أَوَّلِ بَابٍ، فَيَقُولُ لِلْحَاجِبِ: إِنَّ عَلى بَابِ الْعَرْصَةِ أَلْفَ مَلَكٍ أَرْسَلَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لِيُهَنِّئُوا وَلِيَّ اللّهِ، وَقَدْ سَأَلُونِي أَنْ آذَنَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ الْحَاجِبُ: إِنَّهُ لَيَعْظُمُ عَلَيَّ أَنْ أَسْتَأْذِنَ لأحَدٍ عَلى وَلِيِّ اللّهِ، وَهُوَ مَعَ زَوْجَتِهِ الْحَوْرَاءِ.

قَالَ: وَبَيْنَ الْحَاجِبِ وَبَيْنَ وَلِيِّ اللّهِ جَنَّتَانِ. قَالَ: فَيَدْخُلُ الْحَاجِبُ إِلَى الْقَيِّمِ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ عَلى بَابِ الْعَرْصَةِ أَلْفَ مَلَكٍ أَرْسَلَهُمْ رَبُّ الْعِزَّةِ يُهَنِّئُونَ وَلِيَّ اللّهِ، فَاسْتَأْذِنْ لَهُمْ، فَيَتَقَدَّمُ الْقَيِّمُ إِلَى الْخُدَّامِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رُسُلَ الْجَبَّارِ عَلى بَابِ الْعَرْصَةِ، وَهُمْ أَلْفُ مَلَكٍ أَرْسَلَهُمُ اللّهُ يُهَنِّئُونَ وَلِيَّ اللّهِ، فَأَعْلِمُوهُ بِمَكَانِهِمْ.

قَالَ: فَيُعْلِمُونَهُ، فَيُؤْذَنُ لِلْمَلَائِكَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلى وَلِيِّ اللّهِ، وَهُوَ فِي الْغُرْفَةِ وَلَهَا أَلْفُ بَابٍ، وَعَلى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، فَإِذَا أُذِنَ لِلْمَلَائِكَةِ بِالدُّخُولِ عَلى وَلِيِّ اللّهِ، فَتَحَ كُلُّ مَلَكٍ بَابَهُ الْمُوَكَّلَ بِهِ.

قَالَ: فَيُدْخِلُ الْقَيِّمُ كُلَّ مَلَكٍ مِنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْغُرْفَةِ.

قَالَ: فَيُبَلِّغُونَهُ رِسَالَةَ الْجَبَّارِ جَلَّ وَعَزَّ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ تَعَالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ» مِنْ أَبْوَابِ الْغُرْفَةِ «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» (3) إِلى آخِرِ الْايَةِ.

قَالَ: وَذلِكَ قَوْلُهُ (4) جَلَّ وَعَزَّ: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا» (5) ؛ يَعْنِي بِذلِكَ وَلِيَّ اللّهِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ وَالْمُلْكِ الْعَظِيمِ الْكَبِيرِ؛ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ رُسُلِ اللّهِ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ يَسْتَأْذِنُونَ [فِي الدُّخُولِ] (6) عَلَيْهِ، فَلَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ إِلَا بِإِذْنِهِ، فَلِذلِكَ (7) الْمُلْكُ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ.

قَالَ: وَالْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهِمْ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ (8) عَزَّ وَجَلَّ: «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ

ص: 142


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «على»
2- في الحاشية عن بعض النسخ : «ثلاثة»
3- الرعد (13) : 23 و 24
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «قول اللّه »
5- الإنسان(76) : 20
6- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : - «في الدخول»
7- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فذلك»
8- في الحاشية عن بعض النسخ: «قوله»

الْأَنْهارُ» (1) وَالثِّمَارُ دَانِيَةٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً» (2) مِنْ قُرْبِهَا مِنْهُمْ يَتَنَاوَلُ (3) الْمُؤْمِنُ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ مِنَ الثِّمَارِ بِفِيهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَإِنَّ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْفَاكِهَةِ لَيَقُلْنَ لِوَلِيِّ اللّهِ: يَا وَلِيَّ اللّهِ، كُلْنِي قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَ هذَا قَبْلِي.

قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ إِلَا وَلَهُ جِنَانٌ كَثِيرَةٌ «مَعْرُوشَاتٌ وَغَيْرُ مَعْرُوشَاتٍ» (4) ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ، فَإِذَا دَعَا وَلِيُّ اللّهِ بِغِذَائِهِ أُتِيَ بِمَا تَشْتَهِي نَفْسُهُ عِنْدَ طَلَبِهِ الْغِذَاءَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمِّيَ شَهْوَتَهُ.

قَالَ: ثُمَّ يَتَخَلّى مَعَ إِخْوَانِهِ، وَيَزُورُ بَعْضُهُمْ بَعْضا، وَيَتَنَعَّمُونَ فِي جَنَّاتِهِمْ فِي ظِلٍّ مَمْدُودٍ فِي مِثْلِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَطْيَبُ مِنْ ذلِكَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ سَبْعُونَ زَوْجَةً حَوْرَاءَ، وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ مِنَ الْادَمِيِّينَ، وَالْمُؤْمِنُ سَاعَةً مَعَ الْحَوْرَاءِ وَسَاعَةً مَعَ الْادَمِيَّةِ، وَسَاعَةً يَخْلُو بِنَفْسِهِ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ (5) إِلى بَعْضٍ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَغْشَاهُ شُعَاعُ نُورٍ، وَهُوَ عَلى أَرِيكَتِهِ، وَيَقُولُ لِخُدَّامِهِ: مَا هذَا الشُّعَاعُ اللَّامِعُ، لَعَلَّ الْجَبَّارَ لَحَظَنِي؟ فَيَقُولُ لَهُ خُدَّامُهُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، جَلَّ جَلَالُ اللّهِ، بَلْ هذِهِ حَوْرَاءُ مِنْ نِسَائِكَ مِمَّنْ لَمْ تَدْخُلْ بِهَا بَعْدُ، قَدْ (6) أَشْرَفَتْ عَلَيْكَ مِنْ خَيْمَتِهَا شَوْقا إِلَيْكَ، وَقَدْ تَعَرَّضَتْ لَكَ، وَأَحَبَّتْ لِقَاءَكَ، فَلَمَّا أَنْ رَأَتْكَ مُتَّكِئا عَلى سَرِيرِكَ تَبَسَّمَتْ نَحْوَكَ شَوْقا إِلَيْكَ، فَالشُّعَاعُ الَّذِي رَأَيْتَ ، وَالنُّورُ الَّذِي غَشِيَكَ ، هُوَ مِنْ بَيَاضِ ثَغْرِهَا وَصَفَائِهِ وَنَقَائِهِ وَرِقَّتِهِ.

فَيَقُولُ (7) وَلِيُّ اللّهِ: ائْذَنُوا لَهَا، فَتَنْزِلَ إِلَيَّ، فَيَبْتَدِرُ إِلَيْهَا أَلْفُ وَصِيفٍ وَأَلْفُ وَصِيفَةٍ يُبَشِّرُونَهَا بِذلِكَ، فَتَنْزِلُ إِلَيْهِ مِنْ خَيْمَتِهَا، وَعَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً مَنْسُوجَةً بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، مُكَلَّلَةً بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، صِبْغُهُنَّ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ بِأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً ، طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعا، وَعَرْضُ مَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَإِذَا دَنَتْ مِنْ وَلِيِّ اللّهِ أَقْبَلَ الْخُدَّامُ بِصَحَائِفِ (8).

ص: 143


1- الأعراف (7) : 43 ؛ يونس (10) : 9 ؛ الكهف (18) : 31
2- الإنسان (76) : 14
3- في الحاشية عن بعض النسخ: + «لها»
4- الأنعام (6) : 141
5- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «بعض المؤمنين» بدل «بعضهم»
6- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : - «قد»
7- في الطبعة القديمة : «قال: فيقول»
8- في الحاشية عن بعض النسخ: «بصفائح». وفي بعض نسخ الكافي : «بصحاف»

الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فِيهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ وَالزَّبَرْجَدُ، فَيَنْثُرُونَهَا عَلَيْهَا، ثُمَّ يُعَانِقُهَا وَتُعَانِقُهُ، فَلَا يَمَلُّ وَلَا تَمَلُّ».

قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «أَمَّا الْجِنَانُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّهُنَّ جَنَّةُ عَدْنٍ، وَجَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ، وَجَنَّةُ الْمَأْوى».

قَالَ: «وَإِنَّ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ جِنَانا مَحْفُوفَةً بِهذِهِ الْجِنَانِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْجِنَانِ مَا أَحَبَّ وَاشْتَهى، يَتَنَعَّمُ فِيهِنَّ كَيْفَ يَشَاءُ، وَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ شَيْئا (1) إِنَّمَا دَعْوَاهُ (2) إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ» . فَإِذَا قَالَهَا، تَبَادَرَتْ إِلَيْهِ الْخَدَمُ بِمَا اشْتَهى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ طَلَبَهُ مِنْهُمْ أَوْ أَمَرَ بِهِ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ؛ يَعْنِي الْخُدَّامَ.

قَالَ: «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (3) ؛ يَعْنِي بِذلِكَ عِنْدَ مَا يَقْضُونَ مِنْ لَذَّاتِهِمْ مِنَ الْجِمَاعِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، يَحْمَدُونَ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عِنْدَ فَرَاغَتِهِمْ(4)

وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» (5). _ قَالَ: _ يَعْلَمُهُ الْخُدَّامُ، فَيَأْتُونَ بِهِ أَوْلِيَاءَ اللّهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُمْ إِيَّاهُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ» (6) _ قَالَ: _ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْتَهُونَ شَيْئا فِي الْجَنَّةِ إِلَا أُكْرِمُوا بِهِ».

شرح الحديث

قوله : (حديث الجنان و النوق) .

«الجنان» بالكسر: جمع الجنّة، وهي الحديقة ذات النخل والشجر . والمراد هنا الجنّة المعروفة في عرف الشرع .

و«النُّوق» بالضمّ: جمع الناقة .

وسند الحديث مجهول .

ص: 144


1- في الطبعة القديمة : + «أو اشتهى»
2- في الطبعة القديمة: + «فيها»
3- يونس (10) : 10
4- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فراغهم»
5- الصافّات (37) : 41
6- الصافّات (37) : 42

قوله تعالى : «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ» أي نجمعهم، أو نبعثهم .

وقيل : المراد بهم الذين حبسوا أنفسهم على الحقّ، ورفضوا الميل إلى الباطل، وطهّروا ظاهرهم وباطنهم عن الرذائل (1).

«إِلَى الرَّحْمنِ» .

قال البيضاوي : «أي إلى ربّهم الذي غمرهم برحمته، ولاختيار هذا الاسم في هذه السورة شأن، ولعلّه لأنّ مساق الكلام فيها لتعداد نِعمهِ الجسام، وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها» (2).

«وَفْدا» (3) : وافدين عليه، كما يفد الوفّاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم .

وقال الفيروزآبادي : «وفد إليه وعليه، يَفِدُ وَفْدا ووُفودا ووِفادا ووِفادَةً: قدم ، وورد، وهم وفُود، وَوِفْدٌ ، وأوفادٌ ، ووُفَّد» (4).

(فقال : يا عليّ)؛ كأنّ السائل هو عليه السلام .

(إنّ الوَفد لا يكونون إلّا رُكبانا) ؛ يعني عرفا .

وفي القاموس : «الراكب : للبعير خاصّةً. الجمع: رُكّاب ، ورُكبان ، ورُكوب بضمّهنّ» (5).

وقوله : (و اختصّهم) أي جعلهم من خواصّه . يُقال : اختصّه بالشيء، أي خصّه به، فاختصّ، لازم متعدٍّ .

وقوله : (نُوق العزّ) بالضمّ: جمع الناقة، والإضافة لاميّة ؛ أي النوق التي يعزّ من يركب عليها، أو أُعدّت لركوب من اُريد عزّته .

وقيل : نسب إلى عزّه تعالى؛ لرفعتها، وظهور قدرة اللّه فيها ، أو هي عزيزة في نفسها (6).

وقوله : (رَحائل (7) الذهب) ؛ كأنّه جمع رِحالة بالكسر، كرسائل جمع رسالة، وهي للبعير بمنزلة السرج للفرس .

ص: 145


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 16
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 34
3- مريم (19) : 85
4- القاموس المحيط ، ، ج 1 ، ص 346 (وفد)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 75 (ركب)
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 233
7- في الحاشية: «والرحالة، ككتابة: السرج، أو من جلود لا خشب فيه، يتّخذ للركض الشديد ». القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 383 (رحل)

قال الفيروزآبادي : «الرَّحْل: مركب للبعير. الجمع: أرْحُل، ورِحال، ككتاب: الطنافس الحيريّة» (1).

وقوله : (مُكلّلة) .

قال الجوهري : «سحاب مكلّل، أي ملمّع بالبرق . وكلّله، أي ألبَسَهُ الإكليل . وروضة مكلّلة، أي حُفّت بالنور» (2).

وفي القاموس : «الإكليل، بالكسر: التاج، وشبه عصابة تزيّن بالجوهر» (3).

وقوله : (و جلائلها الاستبرق و السُّندس) ؛ كأنّ «جلائل» جمع جِلال _ بالكسر _ كشمائل وشمال. والجلال جمع جُلّ _ بالضمّ والفتح _ وهو ما تلبسه الدابّة لتصان به .

و في القاموس : «الاستبرق: الديباج الغليظ، معرّب استَرْوَه، أو ديباج يعمل بالذهب، أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج»(4).

و فيه: «السُّندُس، بالضمّ: ضربٌ من رقيق الديباج، معرّب بلا خلاف» (5).

(وخُطُمُها جَدل الاُرجوان) أي أزمّتها من حبلٍ مفتول أرغوانيّ .

قال الفيروزآبادي : «الخِطام، ككتاب: كلّ ما وضع في أنف البعير ليُقتاد به . الجمع: ككتب» (6).

وقال: «جَدَله يجدُله ويجدِله: أحكمَ فَتله . والجديل: الزمام المجدول من أَدَمٍ ، أو شعرٍ في عنق البعير ، والوِشاح. الجمع: ككتب» (7).

وقال في المصباح : «الاُرجوان، بضمّ الهمزة والجيم: اللون الأحمر» (8).

وقال الجوهري : «الاُرجُوان معرّب، وهو بالفارسيّة: أرغوان، وهو شجر له نَوْر أحمر أحسن ما يكون، وكلّ لون يشبهه فهو اُرجُوان» (9).

(تطير بهم إلى المحشر) .

الباء للمصاحبة، أو للتعدية .

والظاهر أنّ المراد بالطيران معناه الحقيقي، وحمله على

ص: 146


1- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 383 (رحل) مع التلخيص
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1812 (كلل)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 46 (كلل)
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 213 (برق)
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 222 (سندس)
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 108 (خطم)
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 346 (جدل)
8- المصباح المنير ، ص 222 (رجو)
9- الصحاح ، ج 6 ، ص 2353 (رجو)

الاستعارة باعتبار تشبيه سيرها به في السرعة محتمل .

وقوله : (يَزُفّوهم زَفّا) أي يذهبون بهم في غاية الإعزاز والإكرام، كما تُزفّ العروس وتُهدى إلى زوجها ، أو يسرعون بهم .

قال الجوهري : زَفَفت العروس إلى زوجها، أزُفُّ _ بالضمّ _ زفّا وزِفافا، وأزفَفْتها وازدَففتها بمعنى. و الزفيف: السريع . يُقال : زفّ البعير والظليم يزفّ _ بالكسر _ زفيفا ؛ أي أسرع، وأزفّه صاحبه، وزفّ القوم في مشيهم؛ أي أسرعوا . ومنه قوله تعالى : «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ» (1) (2).

وقوله : (الأعظم) صفة الباب .

(و على باب الجنّة شجرة) .

قيل : لعلّ المراد على قرب منه شجرة ، فلا ينافي ما سيجيء من قوله : «فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة، فإذا انتهوا بهم إلى باب الجنّة» فليأمّل (3).

وقوله : (مُزكّية) .

قال الجوهري : «زكّى نفسه تزكية: مدحها . وقوله تعالى : «وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (4). ، قالوا : تُطهّرهم بها» (5)

وكان قوله : (فيطهّر اللّه بها قلوبهم من الحسد) ناظر إلى مطهّرة .

وقوله : (ويسقط عن أبشارهم الشَّعْر) ناظر إلى «مزكّية» .

قال الفيروزآبادي : «البَشَر، محرّكة: ظاهر جلد الإنسان، جمع بَشَرة، وأبشار: جمع الجمع» (6).

وقوله : (طَهورا) أي مطهّرا عمّا ذكر، كما أشار إليه بقوله : (من تلك العين المطهّرة) . والجارّ متعلّق ب «سقاهم» .

ص: 147


1- الصافّات (37) : 94
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1369 (زفف)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 17
4- التوبة (9) : 103
5- لم نعثر عليه في الصحاح . لكن انظر : مختار الصحاح ، ص 148 (زكي)
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 372 (بشر)

(ثمّ يوقف بهم قُدّام العرش) .

قيل : ظاهره أنّهم يَرِدُون أوّلاً باب الجنّة، ثمّ إلى الموقف، ثمّ يرجعون إلى الجنّة(1).

وفيه نظر .

وقوله : (الحَلْقة) بسكون اللّام، وقد تفتح وتكسر .

وقيل : تحريكها لغة ضعيفة (2).

وقوله : (تَصرّ صَريرا) .

في القاموس : «صرّ _ كفرّ _ يصرّ صرّا وصريرا: صوّت، وصاح شديدا» (3).

وقوله : (كلّ حوراء) بالفتح والمدّ .

قال الجوهري : «الحَورُ: شدّة بياض العين في شدّة سوادها ، والعين حوراء» انتهى (4).

فتسميتهنّ بذلك مجاز باعتبار «أعينهنّ» .

وقوله : (يتباشرون (5) بهم) أي بشّر بعضهم بعضا بمجيئهم.

والتذكير باعتبار تغليب الغلمان .

وقوله : (و تُشرف عليهم أزواجهم) من الغرف .

قال الفيروزآبادي : «أشرف عليه: اطّلع من فوق» (6).

وقيل : أي ترفع عليهم أبصارهنّ؛ للنظر إليهم، أو تخرج من قولهم: استشرفوك، إذا خرجوا إلى لقائك .

وفيه دلالة على أنّ النساء الصالحات يدخلون الجنّة قبل الصُّلحاء من الرجال (7) ، ولعلّه لكرامة الرجال أيضا؛ ليتهيّأنّ لهم .

(من الحور العين) .

«الحور» بالضمّ: جمع حوراء . و«العِين» بالكسر: جمع عَيناء، وهي واسعة العينين

ص: 148


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 234
2- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 234
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 68 (صرر)
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 639 (حور)
5- .في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا والطبعة القديمة : «فيتباشرن» . وفي الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فيتباشرون»
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 158 (شرف)
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12، ص 18

وعظيمتهما، وأصله: «فُعل» بالضمّ .

وقوله تعالى : «غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ».

في سورة الزمر : «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ» (1) ، وكأنّ ما في الكتاب كانت في قراءة أهل البيت عليهم السلام .

وقال بعض المفسّرين : «أي لهم علاليّ فوقَها علاليّ، ودرجات بعضها أرفع من بعض؛ ليتخيّروا منها ما أحبّوا ويكونوا منها حيث شاؤوا» (2).

وقوله صلى الله عليه و آله : (مَحبوكة بالفضّة) .

في القاموس: «الحَبْك : الشدّ، والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب. يحبِكه ويحبُكه، فهو حبيك ومَحبوك . والتحبيك: التوثيق والتخطيط» (3).

وقال الجوهري : «حَبَك الثوبَ يحبِكه _ بالكسر _ حَبْكا؛ أي أجادَ نسجَهُ . قال ابن الأعرابي : كلّ شيءٍ أحكمته وأحسنت عمله، فقد احتبكته» (4).

وقوله : (بعضها فوق بعض) تفسير لمرفوعة على الظاهر، كما ذكره المفسّرون؛ فإنّهم قالوا في تفسير قوله تعالى : «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» (5) :

أي منضّدة مرتفعة . وتنضيد المتاع: وضع بعضه على بعض (6) .

وقيل : يحتمل أن يكون وصفا آخر ل «فرش» ، وحينئذٍ يمكن أن يُراد بمرفوعة أنهار رفيعة القدر (7).

وقال بعضهم : الفرش: النساء، وهي مرفوعة على الأرائك، وأيّده بقوله تعالى : «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارا» (8) .

وعلى التفسيرين السابقين هذا القول منقطع عن سابقه؛ لبيان وصف نساء أهل الجنّة ، ومرجع الضمير معلوم بحسب المقام مع إمكان الاتّصال أيضا، بأن يُراد بقوله عليه السلام : «بعضها

ص: 149


1- الزمر (39) : 20
2- اُنظر : تفسير جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 215 ؛ جامع البيان ، ج 23 ، ص 247 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 63
3- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 297 (حبك)
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1578 (حبك)
5- الواقعة (56) : 34
6- اُنظر : تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 287 ؛ تفسير أبي السعود ، ج 8 ، ص 193 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 27 ، ص 141
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 18
8- الواقعة (56): 35 و 36

فوق بعض» أنّ كلّ واحدة عند الناظر أحسن من الاُخرى؛ للمبالغة في عدم وجود النقص فيهنّ .

وقوله : (بألوانٍ مختلفة) .

لعلّ كلّا من الحرير والديباج في الصفاء والصفاقة بحيث يرى لون كلّ من التحتاني من تحت الفوقاني، فيحصل باجتماع تلك الألوان في النظر لون متوسّط بينها .

وقيل : كأنّه إشارة إلى أنّ التحتاني يسع كلّ الغرفة، والذي فوقه لا يسع كلّها ، بل يظهر من جوانبها لون التحتاني، وعلى هذا القياس (1).

وقوله : (اُلبِسَ حُلَل الذهب و الفضّة) جواب «إذا» .

قال الفيروزآبادي : «الحُلّة، بالضمّ: إزارٌ، ورداء برد، أو غيره، ولا تكون حُلّة إلّا من ثوبين ، أو ثوب له بطانة . الجمع: حُلَلٌ، وحلال» (2).

وقوله : (و الياقوتُ) مبتدأ ، (و الدُّرّ) عطف عليه ، و(منظومٌ) خبره .

(في الإكليل تحتَ التاج) .

قال الفيروزآبادي : «التاج: الإكليل» (3).

وقال : «الإكليل: التاج، وشبه عِصابة تُزيَّن بالجوهر» (4).

وقيل : لعلّ المراد بالإكليل المعنى الثاني ، وإن اُريد به الأوّل كان المراد ب «تحت التاج» حواشيه (5).

وقوله : (و اللؤلؤ و الياقوت) عطف على الذهب، وكأنّه من قبيل «علفتها تبنا وماء باردا» ؛ أي منظومة بهما . واللّه يعلم .

(فكذلك قوله عزّ و جلّ) في سورة فاطر : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا» ؛ أي في تلك الجنان .

«مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤءٍ» . في بعض النسخ: «و لؤلؤا» بالنصب .

«وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ» (6) .

ص: 150


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 46 (كلل)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 236
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 359 (حلل)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 180 (توج)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 19
6- فاطر (35) : 33

قال البيضاوي : «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا» مبتدأ وخبر. «يُحَلَّوْنَ فِيهَا» خبر ثان. أو حال . و«من» الاُولى في قوله : «مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ» للتبعيض ، والثانية للتبيين . و «لُؤلؤا» عطف على «ذهب» ؛ أي من ذهب مرصّع باللؤلؤ ، أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ. ونَصَبَهُ نافع وعاصم عطفا على محلّ «أساور» انتهى (1).

ويحتمل كونه من الاُولى للابتداء ، بل هو أظهر .

و«أساور» جمع أسورة، وهي جمع السوار _ ككتاب وغراب _ وهو حليّ معروف .

ويُقال: القُلْب أيضا .

وقوله : (اهتزّ) أي تحرّك وارتاح .

(سريره فرحا) ونشاطا بصعود المؤمن عليه .

في القاموس : «هزّه وبه: حرّكه . والهِزّة، بالكسر: النشاط والارتياح . وهزّه تهزيزا: حرّكه، فاهتزّ. واهتزّ عرش الرحمان لموت سعد؛ أي ارتاح بروحه، واستبشر لكرامته على ربّه» (2) .

وقوله : (ليهنّئه) .

قال الجوهري في المهموز : «التهئنة: خلاف التعزية. تقول: هنّأته بالولاية تهنئة وتهنيئا» (3).

وقوله : (من الوُصفاء و الوَصائف) .

قال في النهاية : «الوصيف: العبد، والأَمَةُ وصيفةٌ. وجمعهما: وصفاء ووصائف» (4).

وقال الفيروزآبادي : «الوصيف، كأمير: الخادم، والخادمة. والجمع: وُصفَاء، كالوصيفة.

والجمع: وصائف» (5).

وقوله : (مكانك) بالنصب؛ أي الزم مكانك .

وقوله : (على أريكته) .

في القاموس : «الأريكة، كسفينة: سرير في حجلةٍ، أو كلّ ما يتّكأ عليه من سرير ومنصّة

ص: 151


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 420 (مع التلخيص واختلاف يسير)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 196 (هزز) مع التلخيص
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 84 (هنأ)
4- النهاية ، ج 5 ، ص 191 (وصف)
5- م القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 204 (وصف)

وفراش، أو سرير منجّد مزيّن في قبّة أو بيت . الجمع: أرائك» (1).

وقوله : (تهيّأ) على صيغة المضارع بحذف إحدى التاءين من التهيئة . وفي بعض النسخ: «تهنّأ» بالنون، وكأنّه من التهنّؤ ؛ أي صارت هنيئةً .

وما قيل: إنّه من التهنئة، (2). ففيه نظر .

هذا، ولم يذكر الإذن لهذا الملك، ولعلّه صار مأذونا عند دخول ألف ملك يأتي ذكرهم .

وقوله : (هي من مسكٍ و عَنبر) .

الظاهر أنّ الضمير راجع إلى الحلّة .

ولعلّ المراد أنّ أصل تلك الحلل من نوع من المسك والعنبر يمكن نسجها ولبسها، أو من شيء عطره كالمسك والعنبر، لكنّها نسجت ونظمت بالياقوت واللؤلؤ .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم : «صُبغن بمسك وعنبر» (3).

وقوله : (شراكهما) .

الشراك، ككتاب: سَيْر النعل . الجمع: ككتب .

وقوله : (لا يُملّها و لا تُملّه) .

قال الجوهري : «مَلِلْتُ الشيء _ بالكسر _ وملِلْت منه أيضا مَلَلاً ومَلّةً ومَلالاً، إذا سئمته» (4).

وقوله : (قَلائد من قَصَب) .

«القلائد»: جمع القِلادة _ بالكسر _ وهي ما يجعل في العنق . قال الجوهري : «القَصَب: أنابيب من جوهر» (5).

وفي القاموس : «القَصَب، محرّكةً: ما كان مستطيلاً من الجوهر، والدُّرُّ الرَّطب، والزبرجد الرطب المرصّع بالياقوت» (6).

وقوله : (إليك تناهت نفسي، و إليَّ تناهت نفسك) .

التناهي: بلوغ الغاية ؛ أي بلغت محبّتي وشوقي إليك، وميل نفسي إلى النهاية . وفي بعض

ص: 152


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 19
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 292 (أرك)
3- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 246
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1820 (ملل)
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 202 (قصب)
6- القاموس المحيط ، ، ج 1 ، ص 117 (قصب)

النسخ : «تاقت» بالقاف في الموضعين، وهو أظهر .

قال الفيروزآبادي : «تاق إليه تَوْقا: اشتاق» (1).

وقوله : (حتّى أقولَ للحاجب فيُعلمه بمكانكم) أي قفوا، أو الزموا مكانكم حتّى أقول واُخبر للحاجب، فيعلم، ويخبر ذلك الحاجب بكونكم في هذا المكان، أو بموضعكم وحضوركم فيه .

ويحتمل أن يكون «مكانكم» منصوبا بتقدير الناصب ؛ أي الزموا مكانكم حتّى أقول للحاجب، ففي الكلام حينئذٍ تقديم وتأخير .

وقوله : (باب العرصة) .

في القاموس: «العَرْصة: كلّ بقعةٍ بين الدُّور واسعةٍ ليس فيها بناء» (2).

وقوله : (رسالة الجبّار) .

قيل: ذكره هنا؛ لأنّه أنسب لدلالته على أنّه جبر نقائص الخلائق حتّى بلغوا هذه المراتب (3).

(و ذلك قول اللّه عزّ وجلّ) في سورة الرعد : «وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ» ، وفسّر عليه السلام «كلّ باب» بقوله : (من أبواب الغرفة) ، وليس هذا التفسير في بعض النسخ .

و فسّره بعض المفسّرين بكلّ باب من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين : «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ» ؛ بشارة بدوام السلامة .

(إلى آخر الآية) ، وهو قوله : «بِمَا صَبَرْتُمْ» ؛ متعلّق ب «عليكم» أو بمحذوف ؛ أي هذا بما صبرتم لا بسلام ؛ فإنّ الخبر فاصِل(4). والباء للسببيّة، أو البدليّة . «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (5).

قال الجوهري : «العقبى: جزاء الأمر» (6).

وقال البيضاوي : «عقبى الدار: عاقبة الدُّنيا، وما ينبغي أن يكون مآل أهلها، وهي الجنّة» (7).

ص: 153


1- القاموس المحيط ، ، ج 3 ، ص 216 (توق)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 307 (عرص)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 20
4- في الحاشية: «حال عن فاعل يدخلون . منه»
5- .الرعد (13) : 13 و 24
6- الصحاح ، ج 1 ، ص 186 (عقب)
7- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 327

(و ذلك) المذكور من حالات أولياء اللّه في الجنّة، وما هُيّئ لهم فيها من المنازل والكرامة واستئذان الملائكة .

(قوله عزّ و جلّ) في سورة الدهر : «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ» .

قال البيضاوي : ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدّر؛ لأنّه عامّ معناه أنّ بصرك أينما وقع .

«رَأَيْتَ نَعِيما وَمُلْكا كَبِيرا» (1). واسعا . وفي الحديث : «أدنى أهل الجنّة مَنزِلَةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه» (2) (3).

(يعني بذلك) الخطاب والنعيم والمُلك الكبير (وليّ اللّه و ما هو فيه) إلى آخره .

وقوله تعالى : «وَدَانِيَةً» أي قريبة .

«عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا» . الضمير للجنّة .

قال البيضاوي : «دانية» حال، أو صفة اُخرى معطوفة على ما قبلها، أو عطف على «جنّة» ؛ أي وجنّة اُخرى دانية على أنّهم وُعِدوا جنّتين، كقوله : «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» (4) .

وقرئت بالرفع على أنّها خبر «ظلالها» ، والجملة حال، أو صفة .

«وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» (5). ؛ معطوف على ما قبله، أو حال من «دانية» .

و تذليل القطوف: أن تجعل سهلة التناول، لا تمتنع على قُطّافها كيف شاؤوا (6).

وقال الجوهري : «القِطف، بالكسر: العنقود، وبجمعه جاء القرآن: «قُطُوفُهَا دَانِيَةً» » (7).

وقال الشيخ الطبرسي رحمه الله : «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا» ؛ يعني أنّ أفياء أشجار تلك الجنّة قريبة منهم .

وقيل : إنّ ظلال الجنّة لا تنسخها الشمس، كما تنسخ ظلال الدُّنيا .

ص: 154


1- الإنسان (76) : 20
2- اُنظر : مسند أحمد ، ج 2 ، ص 13 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 2 ، ص 509 ؛ مجمع الزوائد ، ج 10 ، ص 401 ؛ المصنّف ، ج 8 ، ص 74
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 429
4- الرحمن (55) : 46
5- الإنسان (76) : 14
6- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 428
7- الصحاح ، ج 4 ، ص 1417 (قطف)

«وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً» أي وسخّرت، وسهل أخذ ثمارها تسخيرا؛ إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد نزلت عليه حتّى ينالها، وإن اضطجع نزلت حتّى ينالها (1).

(من قربها منهم) ؛ كأنّ كلمة «من» الاُولى تعليليّة، والثانية للصلة؛ أي ذلك التذليل لأجل قربها بهم .

ويحتمل كون الاُولى ابتدائيّة ؛ أي تذليلاً ناشئا من قربها .

ويحتمل أن يقرأ «مَن» بفتح الميم، و«قرب» على صيغة الفعل، وجعل كلمة «مِن» للتبيين .

وقوله : (بفيه) أي بفمه (2).

وقوله : (قبل أن تأكل هذا) إشارة إلى نوع آخر من الفاكهة ، أو إلى فردٍ آخر منها .

وقوله : «مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» (3) .

قال الجوهري : «عَرَش : بنى [بناء] من خشب» (4).

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» : أي جنّات من الكروم «مَعْروُشَاتٍ» : مرفوعات على ما يحملها، «وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» : ملقيات على وجه الأرض .

وقيل : المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه ، وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال (5).

وقوله : (في ظلٍّ ممدود) أي منبسط لا يتقلّص، ولا يتفاوت، أو غير منقطع أبدا .

(في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) .

كلمة «في» للمقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحوه: «فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْاخِرَةِ إِلَا قَلِيلٌ» (6) . والتشبيه في الاعتدال واللطافة .

ص: 155


1- مجمع البيان ، ج 10 ، ص 410 (مع اختلاف يسير)
2- قال المحقّق المازندراني رحمه الله : «أو هو كناية عن نهاية قربها ، وكونها بحذاء الوجه»
3- الأنعام (6) : 141
4- الصحاح ، ج 3 ، ص 1010 (عرش)
5- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 458
6- التوبة (9) : 38

(و أطيب من ذلك) .

الظاهر أنّه إشارة إلى تفضيل المشبّه على المشبّه به. وكونه مبتدأ، وقوله : (لكلّ مؤمن ...) خبره بعيد .

وقوله : (و أربع نسوة من الآدميّين) .

قيل : لعلّ هذا أقلّ المراتب؛ لما رواه في الفقيه من «أنّ لكلّ مؤمن ألف نسوة من الآدميّين» (1).

وقيل : فيه دلالة على أنّ صنف النساء في الجنّة أكثر من صنف الرجال، وأنّه ينافي ما دلّ عليه بعض الأخبار من أنّ أكثر أهل النار النساء ، وردّ بأنّ المنافاة إنّما يتمّ لو ثبت أنّ عدد النساء مساوٍ لعدد الرجال، أو أنقص، وذلك ممنوع؛ لجواز أن يكون أزيد .

ولو سلّم، فنقول : أكثريّتهنّ في الجملة لا يستلزم أكثريتهنّ دائما؛ لجواز الخروج من النار بالشفاعة ونحوها، فيكون للمؤمن هذا العدد بعد الخروج لا ابتداءً (2).

وقوله : (لعلّ الجبّار لَحَظَني) .

لحظه: كمنعه . ولحظ إليه، إذا نظر إليه بمؤخّر عينيه . واللحاظ، بالفتح: مؤخّر العين .

ولعلّ المراد هنا التجلّي، وإفاضة الأنوار، فتقديس الخدّام إمّا لما يوهم ظاهرِ كلامه، أو لأنّهم لمّا سمعوا اسمه تعالى نزّهّوه، وهذا كما قال شخص: «يا اللّه »، فيقول آخر: «جلّ جلاله» .

أو يُقال: إنّه أراد نوعا من اللحظ المعنوي، الذي لا يناسب رفعة شأنه تعالى (3).

وقوله : (قدّوس قدّوس) خبر مبتدأ محذوف ؛ أي هو أو الجبّار قدّوس . والتكرير للمبالغة .

قال الفيروزآبادي : «القُدّوس: من أسماء اللّه تعالى ، ويفتح؛ أي الطاهر، أو المبارك، وكلّ فعّول مفتوح غير قدّوس وسبّوح وذرّوح وفرُّوج» (4).

ص: 156


1- لم نعثر عليه في الفقيه
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 22
3- احتمله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 239
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 239 (قدس)

وقوله : (من بياض ثَغرها) .

قال الجوهري : «الثّغر: ما تقدّم من الأسنان» (1) وقال الفيروزآبادي : «الثَّغر : الفم، أو الأسنان، أو مقدّمها، أو ما دامت في منابتها» (2).

وقوله : (يُرى مخّ ساقها من وراء سبعين حُلّةً) .

في القاموس: «المخّ، بالضمّ: نقيّ العظم والدماغ، وخالص كلّ شيء» (3) وفي كتاب الاحتجاج عن هشام بن الحكم أنّه سأل زنديق أبا عبداللّه عليه السلام عن مسائل، وكان فيما سأل : أخبرني عن الحوراء كيف تلبس سبعين حلّة، ويرى زوجها مخّ ساقها من وراء حللها وبدنها؟ فقال عليه السلام : «نعم، كما يرى أحدكم الدراهم إذا اُلقيت من ماء صاف قدره قيد رمح» (4).

وقوله : (جنّة عدن) إلى قوله : (جنّة المأوى) . في القاموس: «عَدَن بالبلد يَعدُن ويَعدِن عَدْنا وعُدُونا : أقام. ومنه: «جَنَّاتُ عَدْنٍ» » (5) انتهى .

وقيل : جنّة عدن: اسم لمدينة في الجنّة، وهي مسكن العلماء والشهداء وأئمّة العدل، والناس سواهم في جنّات حواليها (6).

وقال البيضاوي : «الفردوس: أعلى درجات الجنّة، وأصله البستان الذي يجمع الكرْم والنخل» (7).

وفي القاموس : «الفردوس: الأودية التي تنبت ضروبا من النبت ، والبستان، يجمع كلّ ما يكون في البساتين، يكون فيها الكروم . وقد يؤنّث ، عربيّة ، أو روميّة نُقِلت ، أو سريانيّة» (8).

وقال البيضاوي : «جنّة نعيم ؛ أي ذات تنعّم» (9) وقال : «جنّة المأوى: هي الجنّة التي يأوي إليها المتّقون وأرواح الشهداء» (10).

ص: 157


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 605 (ثغر)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 382 (ثغر)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 269 (مخخ)
4- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 351
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 246 (عدن)
6- حكاه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 23
7- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 526
8- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 236 (فردس)
9- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 294
10- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 255

وقيل : هي منزل مَن خاف المقام بين يدي الربّ (1).

وقوله تعالى : «دَعْوَاهُمْ فِيهَا» .

قيل : أي دعاؤهم في جنّات النعيم .

«سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ» ؛ إنّا نسبّحك تسبيحا .

وعلى تفسيره عليه السلام الدَعْوى بمعنى الدعاء ؛ أي طلب ما يشتهون، لا بالمعنى الذي نقلناه عن البعض. فتأمّل .

«وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ» .

قيل : أي ما يُحيّئ بعضهم بعضا، أو تحيّة الملائكة إيّاهم (2).

وعلى ما فسّره عليه السلام بقوله : (يعني الخُدّام) يكون التحيّة مضافا إلى المفعول، ولعلّ المحذوف الخدّام؛ يعني تحيّة الخدّام إيّاهم ، فظهر فساد ما قاله بعض الشارحين من أنّ قوله عليه السلام «يعني الخدّام» إشارة إلى أنّ ضمير الجمع راجع إلى الخدّام؛ أي يحيّونهم بهذا القول (3).

«وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ» .

قال البيضاوي : أي آخر دعائهم .

«أَنِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(4) أي أن يقولوا ذلك .

و لعلّ المعنى : أنّهم إذا دخلوا الجنّة، وعاينوا عظمة اللّه وكبرياءه حمدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثمّ حيّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات ، والفوز بأصناف الكرامة .

أو اللّهَ تعالى ، فحمدوه ، وأثنوا عليه بصفات الإكرام.

و«أن» هي المخفّفة من الثقيلة ، وقد قرئ بها ونصب الألف. انتهى (5).

وقال أمين الدِّين الطبرسي : يقولون ذلك لا على وجه العبادة؛ لأنّه ليس هناك تكليف، بل يلتذّون بالتسبيح .

وقيل : إنّهم إذا مرّ بهم الطير في الهواء يشتهونه، قالوا: «سبحانك اللّهمّ»، فيأتيهم

ص: 158


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 24
2- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 240
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 24
4- يونس (10) : 10
5- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 441

الطير، فيقع مشويّا بين أيديهم، وإذا قضوا منه الشهوة قالوا : «الحمد للّه ربّ العالمين» ، فيطير الطير حيّا كما كان، فيكون مفتتح كلامهم في كلّ شيء التسبيح، ومختتم كلامهم التحميد ، ويكون التسبيح في الجنّة بدل التسمية في الدنيا . عن ابن جريح.

«وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ» أي تحيّتهم من اللّه سبحانه في الجنّة سلام . وقيل : معناه: تحيّة بعضهم لبعض فيها، أو تحيّة الملائكة لهم فيها سلام، يقولون: سلامٌ عليكم؛ أي سلّمتم من الآفات والمكاره التي ابتلي بها أهل النار .

«وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ؛ ليس المراد أنّ ذلك يكون آخر كلامهم حتّى لا يتكلّموا بعده بشيء ، بل المراد أنّهم يجعلون هذا آخر كلامهم في كلّ ما ذكروه . عن الحسن والجبائي (1).

وقوله تعالى : «أُوْلئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» (2) . قال البيضاوي :

أي معلوم خصائصه من الدوام أو تمحّض اللّذّة، ولذلك فسّره بقوله : «فَوَاكِهُ» ؛ فإنّ الفاكهة ما يُقْصَد للتلذّذ لا للتغذّي، والقوت بالعكس . وأهل الجنّة لمّا اُعيدوا على خلقةٍ محكمةٍ محفوظة عن التحلّل، كانت أرزاقهم فواكه خالصة .

«وَهُمْ مُكْرَمُونَ» (3) في نيله يصِل إليهم بلا تعب وسؤال، كما عليه رزق الدُّنيا .

انتهى (4).

وأنت خبير ببُعد هذا التفسير، وتفسيره عليه السلام ألصق باللفظ وأظهر، كما لا يخفى .

متن الحديث السبعين

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:قِيلَ لأبِي جَعْفَرٍ عليه السلام وَأَنَا عِنْدَهُ: إِنَّ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ وَأَصْحَابَهُ يَرْوُونَ عَنْكَ أَنَّكَ تَكَلَّمُ عَلى سَبْعِينَ وَجْها لَكَ مِنْهَا الْمَخْرَجُ؟ فَقَالَ: «مَا يُرِيدُ سَالِمٌ مِنِّي؟ أَ يُرِيدُ أَنْ أَجِيءَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَاللّهِ مَا جَاءَتْ بِهذَا النَّبِيُّونَ، وَلَقَدْ قَالَ

ص: 159


1- تفسير مجمع البيان ، ج 5 ، ص 160
2- .الصافّات (37) : 41
3- الصافّات (37) : 42
4- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 11

إِبْرَاهِيمُ عليه السلام : «إِنِّي سَقِيمٌ» (1) ، وَمَا كَانَ سَقِيما، وَمَا كَذَبَ، وَلَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» (2) وَمَا فَعَلَهُ، وَمَا كَذَبَ، وَلَقَدْ قَالَ يُوسُفُ عليه السلام : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» (3) ، وَاللّهِ مَا كَانُوا سَارِقِينَ، وَمَا كَذَبَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (سالم بن أبي حفصة) .

قال الكشّي : «إنّه زيدي بتريّ من رؤسائهم . وروى في ذمّه روايات» (4) . وقال العلّامة في حقّه : «لعنه الصادق عليه السلام ، وكذّبه ، وكفّره» (5).

وقوله : (يَروون عنك أنّك تكلّم على سبعين وجها) .

قيل : أي على وجه المصلحة والتقيّة (6) ولا يخفى بُعد هذا التوجيه وعدم انطباقه بقوله عليه السلام : (ما يريد سالم منّي . . .) ، والأقرب أن يُقال: إنّهم يقولون: إنّك تتكلّم بالكذب في مطلب واحد كثيرا، وكأنّ ذكر السبعين لبيان الكثرة، لا خصوص العدد .

وقوله : (أن أجيء بالملائكة) ليشهدوا أنّي لا أكذب .

(و اللّه ما جاءت بهذا النبيّون) ؛ لإثبات صدقهم، مع كثرة احتياجهم إلى ظهور الأمر ووفور المعجزات .

ثمّ استشهد عليه السلام لما توهّمه سالم وأصحابه من كون الكلام ذي الوجوه المختلفة كذبا، أو فيه شوب كذب، ولا يليق بالإمام ، بأنّ مثل هذا صدر عن النبيّين مرارا ، ومعلوم أنّه ليس بكذب، ولا قبح فيه ، بل قد يجب للضرورة والمصلحة ، كالتقيّة ، والتعريض ، وإصلاح ذات البين ، ونحوها .

فقال : (و لقد قال إبراهيم عليه السلام «إِنِّى سَقِيمٌ» ).

قال هذا، وأراد غير ما فهّموه منه؛ لمصلحة دعته إلى إيراد مثل هذا الكلام .

ص: 160


1- الصافّات (37) : 89
2- الأنبياء (21) : 63
3- يوسف (12) : 70
4- اُنظر : رجال الكشّي ، ص 233 - 245 ، ح 423 - 428
5- رجال العلّامة ، ص 227
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 241

قال البيضاوي : أراهم أنّه استدلّ بالنجوم؛ لأنّهم كانوا منجّمين، على أنّه مشارف للسقم لئلّا يخرجوه إلى معبدهم؛ فإنّه كان أغلب أسقامهم الطاعون، وكانوا يخافون العَدْوي، أو أراد: أنّي سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا، قلّ من يخلو منه، أو بصدد الموت . ومنه المثل : «كفى بالسلامة داءً» انتهى (1).

وقيل : كانت الحمّى تأخذه عند طلوع نجم معلوم، فلمّا رآه اعتذر بعادته . وقيل : عرّض بسقم حجّته عليهم، وضعّف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها، ويعتقدون أنّها تضرّ وتنفع (2).

وقيل : يحتمل أن يراد به سقم قلبه خوفا من أن لا تؤثّر حجّته في قلوبهم، وأن يراد به ما طرأ عليه بإرادة كسر آلهتهم من الخوف في مآل أمره (3).

والأصحّ ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه أراد به انكسار قلبه وحزنه؛ لما رأى من ملاحظة النجوم ما يرد على الحسين عليه السلام (4).

(و ما كان سقيما) بما فهموه من كلامه .

(و ما كذب) ؛ لأنّه قصد التورية بذلك؛ لمصلحة دعته إليها، وهي أن يتخلّف عنهم ويخلو بأصنامهم، وفعل بها ما أراد .

وقوله : «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا» .

قال البيضاوي : اُسند الفعل إليه تجوّزا؛ لأنّ غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له سببٌ لمباشرته إيّاه، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء، والتبكيت على اُسلوب تعريضي، كما لو قال : لك من لا يُحسِن الخطّ ، فيما كتبته بخطٍّ رشيق: «أ أنت كتبت [هذا]؟» فقلت : «بل كتبته [أنت]» . أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه .

وقيل : إنّه في المعنى متعلّق بقوله : «إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ» (5) ، وما بينهما اعتراض ، أو

ص: 161


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 17 و 18
2- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 70
3- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 70
4- لم نعثر على الرواية في موضع . وانظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 70
5- الأنبياء (21) : 63

إلى ضمير «فتىً» أو «إبراهيم» . وقوله : «كَبِيُرهُمْ هذا» مبتدأ وخبر ، ولذلك وقف على فعله، وما روي أنّه عليه السلام قال لإبراهيم ثلاث كذبات تسمية للمعاريض كذبا؛ لما شابهت صورتها صورتَه (1).

(ولقد قال يوسف عليه السلام : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» (2) ) .

قيل : هذا القول وإن كان من مناديه إلّا أنّه لمّا كان بأمره نسب إليه (3) .

وفي القاموس: «العير، بالكسر: القافلة، مؤنّثة» (4).

وقال البيضاوي : «العِير: القافلة، وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال؛ لأنّها تَعِير، أي تتردّد. فقيل لأصحابها كقوله عليه السلام : يا خيل اللّه اركبي»(5).

(واللّه ما كانوا سارقين) ؛ يعني صُواع الملك، لا مطلقا .

(وما كذب) .

قال الشيخ الطبرسي : إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره، ولم يعلم بما أَمَر به يوسف عليه السلام من جعل الصاع في رحالهم . عن الجبائي .

وقيل : إنّ يوسف أمر المنادي أن ينادي به، ولم يرد سرقة الصاع، وإنّما عنى به: أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه، وألقيتموه في الجبّ . عن أبي مسلم .

وقيل : إنّ الكلام يجوز أن يكون خارجا مخرج الاستفهام، كأنّه قال : أ إنّكم لسارقون؟ فاُسقطت الهمزة . انتهى (6).

وروى الصدوق رحمه الله في كتاب معاني الأخبار بإسناده عن صالح بن سعيد، عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قلت: قوله _ عزّ وجلّ _ في يوسف : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ» ؟

ص: 162


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 99
2- يوسف (12) : 70
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 26
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 98 (عير)
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 300. وفي حاشية النسخة : «قيل: يمكن أن يكون من باب التورية ، بأن يُراد بالسارق ضعيف العقل، أو الذي خفي عن البصر ، من سرقت مفاصله _ كفرح _ إذا ضعفت، أو من سرق الشيء _ كفرح _ إذا خفي . منه» . شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 26
6- تفسير مجمع البيان ، ج 5 ، ص 434

قال : «إنّهم سرقوا يوسف من أبيه ؛ أ لا ترى أنّه قال لهم حين قالوا : «مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ» ، ولم يقل: سرقتم صواع الملك، إنّما عنى: سرقتم يوسف من أبيه» (1).

متن الحديث الواحد و السبعين (حَدِيثُ أَبِي بَصِيرٍ مَعَ الْمَرْأَةِ)

اشارة

أَبَانٌ (2). ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:

كُنْتُ جَالِسا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْنَا أُمُّ خَالِدٍ، الَّتِي كَانَ (3) قَطَعَهَا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ تَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «أَ يَسُرُّكَ أَنْ تَسْمَعَ كَلَامَهَا؟»

قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَذِنَ لَهَا.

قَالَ: وَأَجْلَسَنِي مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلَتْ، فَتَكَلَّمَتْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ بَلِيغَةٌ، فَسَأَلَتْهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ لَهَا: «تَوَلَّيْهِمَا»؟ (4) قَالَتْ: فَأَقُولُ لِرَبِّي إِذَا لَقِيتُهُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِوَلَايَتِهِمَا؟ قَالَ: «نَعَمْ».

قَالَتْ: فَإِنَّ هذَا الَّذِي مَعَكَ عَلَى الطِّنْفِسَةِ يَأْمُرُنِي بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمَا، وَكَثِيرٌ النَّوَاءُ يَأْمُرُنِي بِوَلَايَتِهِمَا، فَأَيُّهُمَا خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: «هذَا وَاللّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ النَّوَاءِ وَأَصْحَابِهِ، إِنَّ هذَا يُخَاصِمُ (5) ، فَيَقُولُ: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» (6) ، «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ» (7). ، «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (8) ».

شرح الحديث

السند ضعيف؛ فإنّه الإسناد السابق بعينه .

قوله : (قطعها) أي قطع يدها (9).

(يوسف بن عمر) .

ص: 163


1- معاني الأخبار ، ص 209 ، ح 1 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 76 ، ح 4
2- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن أبان ، الحسين بن محمّد الأشعري عن المعلّى عن الوشّاء
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «كانت»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «تولّهما»
5- في الطبعة القديمة وبعض نسخ الكافي : «تخاصم»
6- المائدة (5) : 44
7- المائدة (5) : 45
8- المائدة (5) : 47
9- قال المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي ، ج 2 ، ص 202 : «كأنّه اُريد به أنّه اصطفاها من الغنيمة»

قيل: كان والي العراق بعد الحجّاج في زمن دولة بني مروان ، وهو الذي قاتل زيد بن عليّ عليهماالسلام (1).

وقوله : (و أجلَسَني معه على الطِّنفسة) .

الضمير المستتر والبارز لأبي عبد اللّه عليه السلام ، وكأنّه عليه السلام فعل ذلك؛ ليظهر للمرأة مكان أبي بصير ومنزلته عنده عليه السلام ، وتعتمد بقوله .

قال الفيروزآبادي : «الطنفسة، مثلّثة الطاء والفاء، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وبالعكس: واحدة الطنافس للبسط والثياب، والحصير من سعف عرضه ذراع» (2).

وقوله : (فسألته عنهما) أي الأوّل والثاني.

وقوله : (تولَّيهما) على صيغة المفرد المؤنّث عن الأمر . يُقال : تولّاه، إذا اتّخذه وليّا، وأحبّه ، وكأنّه عليه السلام اتّقى منها .

وقوله : (و كثير النواء) .

قال الكشّي : «إنّه بتري»(3) وقال البرقي : «عامّي» (4) وروى الكشّي بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : «اللّهمّ إنّي إليك من كثير النواء بريء في الدنيا والآخرة» (5).

وروى بإسناده عن سدير، قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام ، ومعي سلمة بن كهيل، وأبو المقدام ثابت الحدّاد ، وسالم بن أبي حفصة ، وكثير النواء . وجماعة معهم ، وعند أبي جعفر عليه السلام أخوه زيد بن عليّ، فقالوا لأبي جعفر عليه السلام : نتولّى عليّا وحسنا وحسينا، ونتبرّأ من أعدائهم ؟ قال : «نعم» ، قالوا : نتولّى الأوّل والثاني، ونتبرّأ من أعدائهما؟

قال : فالتفت إليهم زيد بن عليّ، وقال لهم : أتبرّؤون من فاطمة، بتّرتم أمرنا بتّركم اللّه ، فيومئذٍ سمّوا البتريّة (6).

ص: 164


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 26
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 227 (طنفس)
3- رجال الكشّي ، ص 233
4- رجال البرقي ، ص 42
5- رجال الكشّي ، ص 241 ، ح 440
6- رجال الكشّي ، ص 236 ، ح 429 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 69 ، ص 178 ، ح 1

وقوله : (هذا واللّه أحبُّ إليّ ...) . أمرها عليه السلام أوّلاً بولايتهما تقيّة، ثمّ لمّا بالغت في السؤال أثبت لعنهما، وجواب التبرّي منهما كناية بأن لم يتعرّض بقول كثير النواء ، بل قال أبو بصير: أحبّ إليّ منه، ثمّ بيّن وجه كونه أحبَّ ووجوب الأخذ بقوله ، فقال : (إنّ هذا يخاصم) إلى آخره .

قال بعض الأفاضل : يعني أنّ أبا بصير يقول : إنّ كثير النواء يفتي، ويحكم بين الناس بغير الحقّ، ويثبت بالآيات المذكورة كفره وظلمه وفسقه ، فأشار عليه السلام في كلامه هذا ضمنا إلى كفر الملعونين ، ووجوب البراءة منهما بوجهين : الأوّل : أنّ محبوبيّة أبي بصير يستلزم صدقه في أمره بالبراءة منهما .

والثاني : أنّ العلّة التي بها أثبت كفر كثير النواء مشترك بينه وبينهما، فبها أيضا ثبت كفرهما وظلمهما وفسقهما. وهذا نوع من معاريض الكلام التي أشار أبو جعفر عليه السلام إليها في الخبر السابق .

قال : ويحتمل أن يكون مراده عليه السلام أنّ قول هذا أحبّ إليّ؛ لأنّه يستدلّ على كفر الأوّل والثاني بهذه الآيات، ويخاصم في ذلك كثير النواء، ويغلب عليه، ويخصمه، لكنّه عليه السلام أدّى ذلك بعبارة يكون له منها المخرج بالحمل على المعنى الأوّل عند الضرورة .

وقال الفاضل الإسترآبادي : معناه أنّ أبا بصير يخاصم علماء العامّة من جهتنا بهذه الآيات الشريفة ، وملخّص خصومته أنّ هذه الآيات صريحة في أنّ من أفتى في واقعة بغير ما أنزل اللّه فيها كافر ظالم فاسق ، فعلم من ذلك أنّ للّه تعالى في الأرض دائما رجلاً عالما بما أنزل اللّه في كلّ واقعة . ومن المعلوم أنّ أرباب الاجتهادات الظنّيّة غير عالمين بما أنزل اللّه في كلّ واقعة ، ومن ثمّ تقع بينهم الاختلافات في الفتاوى والأحكام، فتعيّن أن يكون في الأرض دائما رجل لم يكن حكمه من باب الاجتهاد، بل يكون من باب الوحي في كلّ واقعة، وباتّفاق الخصمين غير الأئمّة الاثني عشر _ صلوات اللّه عليهم _ لم يعلم ما أنزله اللّه في كلّ واقعة، فتعيّن أن يكونوا منصوبين من عنده تعالى لأجل الإفتاء والحكم والحدود وغير ذلك (1).

ص: 165


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 244 و 245

متن الحديث الثاني والسبعين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَابِشِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:قُلْتُ لَهُ: إِنَّ لَنَا جَارا يَنْتَهِكُ الْمَحَارِمَ كُلَّهَا حَتّى إِنَّهُ لَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَضْلاً عَنْ غَيْرِهَا؟ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللّهِ _ وَأَعْظَمَ ذلِكَ _ أَ لَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟» قُلْتُ: بَلى، قَالَ: «النَّاصِبُ لَنَا شَرٌّ مِنْهُ؛ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُذْكَرُ عِنْدَهُ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَيَرِقُّ لِذِكْرِنَا إِلَا مَسَحَتِ الْمَلَائِكَةُ ظَهْرَهُ، وَغُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا إِلَا أَنْ يَجِيءَ بِذَنْبٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الْاءِيمَانِ، وَإِنَّ الشَّفَاعَةَ لَمَقْبُولَةٌ، وَمَا تُقُبِّلَ فِي نَاصِبٍ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَشْفَعُ لِجَارِهِ وَمَا لَهُ حَسَنَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، جَارِي كَانَ يَكُفُّ عَنِّي الْأَذى، فَيُشَفَّعُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: أَنَا رَبُّكَ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ كَافى عَنْكَ، فَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، وَإِنَّ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ (1) شَفَاعَةً لَيَشْفَعُ لِثَلَاثِينَ إِنْسَانا، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» (2). ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (ينتهك) .

قال الجوهري : «انتهاك الحرمة: تناولها بما لا يحلّ» (3).

وقوله : (سبحان اللّه ) .

«سبحان» اسم التسبيح الذي هو التنزيه، وانتصابه بفعل مقدّر . وقد يُقال : «سبحان اللّه » في موضع التعجّب .

وقوله : (وأعظم ذلك) على صيغة الماضي .

يُقال : أعظمه وعظّمه، إذا فخّمه ؛ يعني أنّه عليه السلام عدَّ فعل هذا الرجل عظيما شنيعا، وتعجّب منه.

وحمله على اسم التفضيل بجعله مبتدأ ، وقوله : (ألا أخبركم ...) قائما مقام خبره بعيد .

ص: 166


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «المؤمن»
2- الشعراء (26) : 100 و 101
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1613 (نهك)

وقوله : (فيرقّ لذكرنا) أي يرقّ قلبه، من الرقّة ضدّ الغلظة . أو بمعنى الرحمة، أو الاستحياء، وفعل الكلّ كضرب .

وقوله : (لَيَشفع) كيمنع .

وقوله : (فيُشفّع فيه) على بناء المجهول من باب التفعيل . يُقال : شفّعته فيه تشفيعا ؛ أي قبلت شفاعته فيه .

وقوله : (ما له حسنة) ؛ يعني من الأعمال الصالحة سوى العقائد الصحيحة . وفيه دلالة على قبول شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض، كغيره من الأخبار .

وقوله : ( «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» ).

قال الفيروزآبادي : «الصديق، كأمير: الحبيب، للواحد والجمع والمؤنّث، وهي بهاء. الجمع: أصدقاء وصُدقاء وصُدقان» (1).

وقال : «الحميم، كأمير: القريب» (2).

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَمَا أَضَلَّنَا إِلَا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ» (3) :

يعني من الملائكة والأنبياء، «وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ» ؛ إذ الأخلّاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوّ إلّا المتّقين ؛ أي فما لنا من شافعين ، ولا صديق ممّن نعدُّهم شفعاء وأصدقاء .

أو وقعنا في مهلكة لا يخلّصنا منها شافع ولا صديق ممّن نعدّهم شفعاء وأصدقاء.

وجمع الشافع، ووحدة الصديق؛ لكثرة الشفعاء في العادة وقلّة الصديق ، أو لأنّ الصديق الواحد يسعى أكثر ممّا يسعى الشفعاء ، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدوّ؛ لأنّه في الأصل مصدر ، كالحنين والصهيل (4).

متن الحديث الثالث والسبعين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ، (5). عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

ص: 167


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 252 (صدق)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 100 (حمم)
3- الشعراء (26) : 99 و 100
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 245
5- في الحاشية: «كأنّه مكفوف الضعيف. منه». وانظر : رجال الكشّي ، ص 222

قَالَ لِنَفَرٍ عِنْدَهُ وَأَنَا حَاضِرٌ: «مَا لَكُمْ تَسْتَخِفُّونَ بِنَا؟» قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ خُرَاسَانَ، فَقَالَ: مَعَاذٌ لِوَجْهِ اللّهِ أَنْ نَسْتَخِفَّ بِكَ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ، فَقَالَ: «بَلى إِنَّكَ أَحَدُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِي» فَقَالَ: مَعَاذٌ لِوَجْهِ اللّهِ أَنْ أَسْتَخِفَّ (1) بِكَ! فَقَالَ لَهُ: «وَيْحَكَ، أَ وَلَمْ تَسْمَعْ فُلَانا، وَنَحْنُ بِقُرْبِ الْجُحْفَةِ، وَهُوَ يَقُولُ لَكَ: احْمِلْنِي قَدْرَ مِيلٍ، فَقَدْ وَاللّهِ أَعْيَيْتُ، وَاللّهِ مَا رَفَعْتَ بِهِ رَأْسا، وَلَقَدِ اسْتَخْفَفْتَ بِهِ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِمُؤْمِنٍ فِينَا اسْتَخَفَّ، وَضَيَّعَ حُرْمَةَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (معاذ لوجه اللّه ) .

قال الفيروزآبادي : «معاذ اللّه ، أي أعوذ باللّه معاذا» (2).

وقال بعض الأفاضل : المَعاذ _ بفتح الميم _ مصدر بمعنى التعوّذ والالتجاء؛ أي أمرنا وشأننا تعوّذ باللّه من هذا ، فاللام بمعنى الباء .

ويحتمل أن يكون في الكلام تقدير؛ أي نتعوّذ باللّه خالصا لوجهه من أن نستخفّ بك (3).

وقيل : «معاذ» في أكثر النسخ مرفوع، واللام بمعنى «إلى» . وفي بعضها منصوب، واللام بمعنى الباء . والمراد بالوجه الذات (4).

وقوله : (ما رفعتَ به رأسا) ؛ الظاهر أنّ الباء بمعنى «إلى»، وكونها للتعليل احتمال .

وهذا الكلام كناية عن عدم المبالاة به، وعدم الالتفات بقوله .

وقوله : (فينا استخفّ) .

قال الفاضل الإسترآبادي : لا يُقال: يلزم من ذلك أن يستخفّ باللّه ، فيلزم الكفر؛ لأنّا نقول : المراد بالاستخفاف

ص: 168


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «أن نستخفّ»
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 356 (عوذ)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 246
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 28

أن لا يعدّه عظيما، كما يعدّ شرب الخمر ، والمتّقي هو الذي يعدّ الكلّ عظيما؛ لأنّ حاكم الكلّ هو اللّه (1).

متن الحديث الرابع والسبعين

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، قَالَ:

قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ عَرَّفَنَا تَوْحِيدَهُ، ثُمَّ مَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ أَقْرَرْنَا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ اخْتَصَّنَا بِحُبِّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، نَتَوَلَاكُمْ ، وَنَتَبَرَّأُ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ (2) بِذلِكَ خَلَاصَ أَنْفُسِنَا مِنَ النَّارِ.

قَالَ: وَرَقَقْتُ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «سَلْنِي، فَوَ اللّهِ لَا تَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ إِلَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ»، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ: مَا سَمِعْتُهُ قَالَهَا لِمَخْلُوقٍ قَبْلَكَ .

قَالَ: قُلْتُ: خَبِّرْنِي عَنِ الرَّجُلَيْنِ.

قَالَ: (3) «ظَلَمَانَا حَقَّنَا فِي كِتَابِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنَعَا فَاطِمَةَ عليهاالسلاممِيرَاثَهَا مِنْ أَبِيهَا، وَجَرى ظُلْمُهُمَا إِلَى الْيَوْمِ _ قَالَ: وَأَشَارَ إِلى خَلْفِهِ _ وَنَبَذَا كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمَا».

شرح الحديث

شرحالسند ضعيف .

قوله : (إلاّ أخبرتك به) .

قيل : أي لا أتّقيك لعلمي بإخلاصك وصدقك (4).

وقيل : فيه إشارة إلى كمال علمه عليه السلام وتكرّمه لعبد الرحمن (5).

(قال : فقال له عبد الملك بن أعين) أي قال أبان: قال عبد الملك لعبد الرحمان عند روايته هذا الحديث ، وبلوغه إلى هذا الموضع من الكلام .

ص: 169


1- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 28 و 29
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «يريد اللّه »
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «فقال»
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 247
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 29

(ما سمعتُهُ) أي الصادق عليه السلام .

(قالها) أي هذه المقالة، أو الكلمة .

(لمخلوق قبلك) ؛ وإنّما خصّك به تشريفا وإكراما .

وقوله : (وأشار إلى خلفه ...) أي أشار عليه السلام بيده إلى خلفه؛ لبيان كيفيّة النبذ والطرح وراء ظهورهما .

قال الجوهري : «نَبَذَ يَنْبِذُ، أي ألقاه من يده . ونبّذ مبالغة»(1). وهو كناية عن إعراضهما عن كتاب اللّه ، وعدم العمل بمقتضاه .

متن الحديث الخامس والسبعين

اشارة

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ بَشِيرٍ الْأَسَدِيِّ، عَنِ الْكُمَيْتِ بْنِ زَيْدٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ:دَخَلْتُ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: «وَاللّهِ يَا كُمَيْتُ، لَوْ كَانَ عِنْدَنَا مَالٌ لَأَعْطَيْنَاكَ مِنْهُ، وَلكِنْ لَكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: لَنْ يَزَالَ مَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ مَا ذَبَبْتَ عَنَّا».

قَالَ: قُلْتُ: خَبِّرْنِي عَنِ الرَّجُلَيْنِ، قَالَ: فَأَخَذَ الْوِسَادَةَ، فَكَسَرَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَاللّهِ يَا كُمَيْتُ، مَا أُهَرِيقَ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَلَا أُخِذَ مَالٌ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَلَا قُلِبَ حَجَرٌ عَنْ حَجَرٍ إِلَا ذَاكَ فِي أَعْنَاقِهِمَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (معك روح القدس) ؛ يدلّ على نفث روح القدس أحيانا في روع غير المعصوم أيضا .

(ما ذَبَبْتَ عنّا) .

يُقال : ذبَّ عنه، إذا منع ودفع .

وفي بعض النسخ: «زبّيت» بالزاي . قال الفيروزآبادي : «زَباه يَزبيه: حمله، وساقه، كزبّاه» (2).

ص: 170


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 571 (نبذ) مع اختلاف
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 338 (زبي)

وحاصل المعنى على النسختين: ما دمتَ دفعتَ وأبعدت ومنعت عنّا بمدحك لنا وإظهار فضائلنا استخفافَ الجاهدين وإنكار الجاهلين .

وقيل : كان كميت شاعرا فصيحا مادحا للأئمّة عليهم السلام ، كما كان حسّان مدّاحا للنبيّ صلى الله عليه و آله ، وهو حسّان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن النجّار الأنصاري ، وقد كان نفرٌ من قريش يهجون النبيّ صلى الله عليه و آله ، وكان حسّان يدفعهم، ويردّ عليهم، فتركوا هجوه خوفا منه (1).

والمراد بروح القدس جبرئيل عليه السلام ، أو خلق آخر غير الملائكة والبشر، كما مرَّ في الاُصول .

ولعلّ المراد بكونه معه الإلهام والإمداد والتسديد . وقيل في التقييد بقوله : «ما ذببت»: إشعار برجوع حسّان عن ذلك، كما نقل عنه (2).

والوِسادة، بالكسر: المخدّة .

وقال الفيروزآبادي : «المِحجم والمحجَمة، بكسرهما: ما يُحجم به» (3). والمراد هنا مقدار ما يملؤها من الدم، وهو كناية عن كلّ قليل أو كثير منه اُهريق بغير الحقّ.

وتقليب الحجر عن الحجر كناية عن وضع الأشياء في غير مواضعها، وإزالة الحقّ عن مركزه، وتغيير الأحكام الشرعيّة، وإحداث الاُمور المبتدعة .

والحاصل : أنّ وزر جميع الناس إلى آخر الدهر عائد إليهما؛ لأنّهما سببان لها، ولولاهما لارتفع الجور، وشاع العدل .

متن الحديث السادس والسبعين

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَكِّيِّ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ عُمَرَ لَقِيَ عَلِيّا عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقْرَأُ هذِهِ الْايَةَ: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» (4). وَتُعَرِّضُ بِي وَبِصَاحِبِي؟» قَالَ (5). : «فَقَالَ لَهُ (6). : أَ فَلَا أُخْبِرُكَ بِآيَةٍ نَزَلَتْ فِي بَنِي أُمَيَّةَ: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي

ص: 171


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 29 و 30
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 248
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 93 (حجم)
4- القلم (68) : 6
5- .في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها : _ «قال»
6- .في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : _ «له»

الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» (1) ؟ فَقَالَ: كَذَبْتَ، بَنُو أُمَيَّةَ أَوْصَلُ لِلرَّحِمِ مِنْكَ، وَلكِنَّكَ أَبَيْتَ إِلَا عَدَاوَةً لِبَنِي تَيْمٍ وَبَنِي عَدِيٍّ وَبَنِي أُمَيَّةَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله تعالى : «بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ» .

قيل : أي أيّكم الذي فُتِنَ بالسفاهة والجهالة وإنكار الحقّ ؟ (2).

وقال البيضاوي : أيّكم الذي فتن بالجنون . والباء زائدة . أو بأيّكم الجنون، على أنّ «المفتون» مصدر كالمعقول والمجلود . أو بأيّ الفريقين منكم المجنون، أبفريق المؤمنين، أم بفريق الكافرين ؟ أي في أيّهما يوجد مَن يستحقّ هذا الاسم ؟ (3)

(تُعرّضُ بي وبصاحبي) ؛ يعني الثاني .

قال الجوهري : «عرّض: ضدّ صرّح . عرّض له وبه، ومنه المعاريض في الكلام، وهو التورية بالشيء عن الشيء» (4).

وقال بعض الأفاضل : تعريضه عليه السلام بهما لنزول الآية فيهما، حيث نسبا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله الجنون حين قال صلى الله عليه و آله في أمير المؤمنين عليه السلام ما قال ، كما روي عن أبي أيّوب الأنصاري، قال : لمّا أخذ النبيّ صلى الله عليه و آله بيد عليّ عليه السلام ، فرفعها، وقال : «مَن كنت مولاه، فعليٌّ مولاه» ، قال الناس : إنّما افتتن بابن عمّه، ونزلت الآية : «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ» (5) .

وروى أمين الدِّين الطبرسي عن أبي القاسم الحسكاني، بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم، قال : لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلى الله عليه و آله عليّا عليه السلام ، وإعظامه له، نالوا من عليّ، وقالوا : قد افتتن به محمّد، فأنزل اللّه تعالى : «ن * وَالْقَلَمِ * وَمَا يَسْطُرُونَ» إلى

ص: 172


1- محمّد (47) : 22
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 30
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 369
4- الصحاح ، ج 3 ، ص 1087 (عرض)
5- القلم (68) : 5 و 6

قوله: «بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (1). ، وهم النفر الذين قالوا ما قالوا (2).

ويحتمل أن يكون التعريض بأنّه عليه السلام كان يقرأ هذا عليهم؛ لبيان نظير مورد الآية؛ أي سيعلمون بعد موتهم أنّهم المجانين، حيث فعلوا ما يستحقّون به العذاب الأبدي، أم أنا ؟! (3).

وقوله : (نزلت في بني اُميّة) أي في ذمّهم وسوء صنيعهم .

«فَهَلْ عَسَيْتُمْ» .

قال البيضاوي : أي فهل يتوقّع منكم . «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» اُمور الناس، وتأمّرتم عليهم، أو أعرضتم وتولّيتم عن الإسلام .

«أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» تناحرا على الولاية، وتجاذبا لها. أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التغاور، ومقاتلة الأقارب .

والمعنى أنّهم لضعفهم في الدِّين، وحرصهم على الدُّنيا أحِقِّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم، ويقول لهم: «هل عسيتم»، وهذا على لغة أهل الحجاز؛ فإنّ بني تميم لا يلحقون الضمير به ، وخبره «أن تفسدوا» . و«إن تولّيتم» اعتراض (4).

وقوله : (كذبت) .

كان تكذيبه باعتبار أنّه عليه السلام قتل جماعة من أقاربه في الجهاد امتثالاً لأمر اللّه وإعلاء لكلمته .

متن الحديث السابع والسبعين

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَارِثِ النَّصْرِيِّ، قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْرا» (5) ؟ قَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي ذلِكَ؟» قُلْتُ: نَقُولُ: (6) هُمُ (7) الْأَفْجَرَانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو أُمَيَّةَ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ.

ص: 173


1- القلم (68) : 1 - 7
2- تفسير مجمع البيان ، ج 10 ، ص 333
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 249 و 250
4- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 194
5- إبراهيم (14) : 28
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «يقولون»
7- في الحاشية عن بعض النسخ: «هما»

قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «هِيَ وَاللّهِ قُرَيْشٌ قَاطِبَةً؛ إِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ خَاطَبَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ: إِنِّي فَضَّلْتُ قُرَيْشا عَلَى الْعَرَبِ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْهِمْ نِعْمَتِي، وَبَعَثْتُ إِلَيْهِمْ رَسُولِي، فَبَدَّلُوا نِعْمَتِي كُفْرا، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قال اللّه عزّ وجلّ : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ» (1) .

قال البيضاوي : أي بدّلوا شكر نعمته كفرا، بأن وضعوه مكانه، أو بدّلوا نفس النعمة كفرا؛ فإنّهم لمّا كفروها سُلبت منهم، فصاروا تاركين لها ، محصّلين للكفر بدلها .

ثمّ قال : وعن عمر وعليّ : هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو اُميّة . وأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأمّا بنو اُميّة فمتّعوا إلى حين. «وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ» الذين شايعوهم في الكفر. «دَارَ الْبَوَار» : دار الهلاك، بحملهم على الكفر . انتهى (2).

وروى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن عثمان بن عيسى ، عن أبي عبداللّه ، قال : سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرا» ، قال : «نزلت في الأفجرين من قريش : من بني اُميّة، وبني المغيرة ؛ فأمّا بنو المغيرة، فقطع اللّه دابرهم ، وأمّا بنو اُميّة فمتّعوا إلى حين» (3).

وقيل : يمكن الجمع بين هذا الخبر وخبر الكتاب بحمل هذا الخبر أنّها نزلت ابتداءً فيهما، ثمّ خرجت في غيرهما ممّن فعل مثل فعالهما .

أو أنّهما العمدة في ذلك ، فلا ينافي دخول غيرهم أيضا فيها .

وبنو المغيرة هم أولاد المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم القرشي، وقد آذوا رسول

ص: 174


1- إبراهيم (14) : 28 و 29
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 348
3- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 371 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 9 ، ص 218 ، ح 98

اللّه صلى الله عليه و آله كثيرا، لكن أكثرهم قتلوا واُسِروا يوم بدر، ومن بقي منهم أكثروا في إيذائه صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام كخالد بن الوليد ، وممّن قتل منهم في بدر: أبو جهل، عمرو بن هشام بن المغيرة، والعاص بن هاشم بن المغيرة _ خال عُمَر _ وأبو قيس بن الوليد _ أخو خالد _ وأبو قيس بن الفاكهة بن المغيرة، ومسعود بن أبي اُميّة بن المغيرة .

وممّن اُسِر منهم في غزوة بدر: خالد بن هشام بن المغيرة، واُميّة بن أبي حذيفة بن المغيرة، والوليد بن المغيرة (1).

وبما قرّرنا ظهر فساد ما قيل من أنّ الظاهر أنّ المراد بالأفجرين في هذا الخبر الأوّل والثاني ، وأنّ قوله : (بنو اُميّة وبنو المغيرة) خبر بعد خبر، بلا عاطف. وكونه بدلاً بعيد . انتهى (2).

وقوله عليه السلام : (قريش قاطبة) أي جميعا .

قال الجوهري : «تقول: جاء القوم قاطبةً، أي جميعا ، وهو اسم يدلّ على العموم» (3).

وقال الفيروزآبادي : «لا يستعمل إلّا حالاً»(4).

والمراد بقريش من بقي منهم على الكفر» .

وقوله : (فبدّلوا نعمتي كفرا) ؛ يفهم من بعض الأخبار أنّ النعمة هنا أعمّ من الرسالة، بحيث يشمل الولاية .

متن الحديث الثامن والسبعين

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّهِ عليهماالسلام أَنَّهُمَا قَالَا:«إِنَّ النَّاسَ لَمَّا كَذَّبُوا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، هَمَّ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ بِهَلَاكِ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَا عَلِيّا، فَمَا سِوَاهُ بِقَوْلِهِ: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» (5) ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَرَحِمَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (6) ».

ص: 175


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 251 و 252
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 31
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 204 (قطب)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 118 (قطب)
5- الذاريات (51) : 54
6- الذاريات (51) : 55

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (كذّبوا برسول اللّه ) .

في القاموس: «كذّب بالأمر تكذيبا وكذّابا: أنكره . وفلانا: جعله كاذبا» (1) . فالباء على الأوّل للصلة ، والمراد تكذيبهم بما جاء به ، وعلى الثاني زائدة .

(همّ اللّه ) أي أراد إرادة قابلة للبداء .

(بهلاك أهل الأرض) ؛ ظاهره الإطلاق، ويحتمل التخصيص بمن بلغ إليه دعوته صلى الله عليه و آله .

(إلّا عليّا فما سواه) من أهل البيت عليهم السلام والمؤمنين من الصحابة .

فقوله : «ما سواه» من جملة المستثنى، واحتمال كونه من المستثنى منه في شمول الهلاك لغير عليّ عليه السلام بعيد من حيث اللفظ والمعنى .

(بقوله) في سورة الذاريات : «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» .

قال بعض المفسّرين : «أي أعرض عن مجادلتهم بعد ما كرّرت عليهم الدعوة، فأبوا إلّا الإصرار والعناد . «فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ» على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في الإبلاغ» انتهى (2).

وكون الآية دالّا على ما ذكر؛ لأنّ الأمر بالتولّي والإعراض ليس إلّا الغضب عليهم وإرادة هلاكهم .

(ثمّ بدا له) .

قال الجوهري : «بَدَا الأمرُ بُدُوّا، مثل قعد قعودا ؛ أي ظهر، وبدا له في هذا الأمر بَداءً، ممدود؛ أي نشأ له فيه رأي» (3).

(فرحم المؤمنين) .

لعلّ المراد بهم من علم أنّهم يؤمنون به ، فالمنكرون وإن استحقّوا الهلاك؛ لإنكارهم، لكن لأجل من في أصلابهم من المؤمنين استحقّوا عدمه، فترحّم عليهم، ودفع الهلاك عن آبائهم المنكرين .

ص: 176


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 122 (كذب)
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 241
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2278 (بدا)

(ثمّ قال لنبيّه صلى الله عليه و آله ) في تلك السورة متّصلاً بالآية السابقة : «وَذَكِّرْ» ؛ أي لا تَدَع التذكير والموعظة .

«فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» ممّن علم اللّه إيمانه، وقدّره، ولكن لم يؤمن بعدُ ، وأمّا مَن آمن؛ فإنّه يزداد بها بصيرة .

هذا، ويظهر من هذا أنّ آخر الآية ناسخ لأوّلها . فتدبّر .

متن الحديث التاسع والسبعين

اشاره

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، قَالَ:

سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام يُحَدِّثُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، قَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام يُحَدِّثُ النَّاسَ، قَالَ:

إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بَعَثَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ النَّاسَ مِنْ حُفَرِهِمْ عُزْلاً مَهَلاً (1) جُرْدا مُرْدا (2) فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَسُوقُهُمُ النُّورُ، (3) وَتَجْمَعُهُمُ الظُّلْمَةُ حَتّى يَقِفُوا عَلى عَقَبَةِ (4) الْمَحْشَرِ، فَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضا، وَيَزْدَحِمُونَ دُونَهَا، (5) فَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُضِيِّ، فَتَشْتَدُّ أَنْفَاسُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَرَقُهُمْ، وَتَضِيقُ بِهِمْ أُمُورُهُمْ، وَيَشْتَدُّ ضَجِيجُهُمْ، وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ.

قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ هَوْلٍ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَالَ: فَيُشْرِفُ الْجَبَّارُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فِي ظِلَالٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَأْمُرُ مَلَكا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيُنَادِي فِيهِمْ: يَا مَعْشَرَ الْخَلَائِقِ، أَنْصِتُوا، وَاسْتَمِعُوا (6) مُنَادِيَ الْجَبَّارِ.

قَالَ: فَيَسْمَعُ آخِرُهُمْ، كَمَا يَسْمَعُ أَوَّلُهُمْ. قَالَ: فَتَنْكَسِرُ أَصْوَاتُهُمْ عِنْدَ ذلِكَ، وَتَخْشَعُ أَبْصَارُهُمْ، وَتَضْطَرِبُ فَرَائِصُهُمْ، وَتَفْزَعُ قُلُوبُهُمْ، وَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ إِلى نَاحِيَةِ الصَّوْتِ، «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» . قَالَ: فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (7) .

ص: 177


1- في الطبعة الجديدة وأكثر نسخ الكافي : «بُهما» . وفي بعض نسخ الكافي : «عذلاً»
2- في الحاشية عن بعض النسخ : «فردا»
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «النار»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: + «في»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «عليها»
6- في الحاشية عن بعض النسخ:«واسمعوا»
7- القمر (54) : 8

قَالَ: فَيُشْرِفُ الْجَبَّارُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْحَكَمُ الْعَدْلُ عَلَيْهِمْ، فَيَقُولُ: أَنَا اللّهُ لَا إِلهَ إِلَا أَنَا الْحَكَمُ الْعَدْلُ، الَّذِي لَا يَجُورُ الْيَوْمَ ، أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِعَدْلِي وَقِسْطِي، لَا يُظْلَمُ الْيَوْمَ عِنْدِي أَحَدٌ، الْيَوْمَ آخُذُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ بِحَقِّهِ، وَلِصَاحِبِ الْمَظْلِمَةِ بِالْمَظْلِمَةِ بِالْقِصَاصِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأُثِيبُ عَلَى الْهِبَاتِ، وَلَا يَجُوزُ هذِهِ الْعَقَبَةَ الْيَوْمَ عِنْدِي ظَالِمٌ، وَلأحَدٍ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ إِلَا مَظْلِمَةً يَهَبُهَا صَاحِبُهَا، وَأُثِيبُهُ عَلَيْهَا، وَآخُذُ لَهُ بِهَا عِنْدَ الْحِسَابِ، (1) فَتَلَازَمُوا أَيُّهَا الْخَلَائِقُ، وَاطْلُبُوا مَظَالِمَكُمْ عِنْدَ مَنْ ظَلَمَكُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَفى بِي (2). شَهِيدا.

قَالَ: فَيَتَعَارَفُونَ، وَيَتَلَازَمُونَ، فَلَا يَبْقى أَحَدٌ لَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مَظْلِمَةٌ، أَوْ حَقٌّ إِلَا لَزِمَهُ بِهَا.

قَالَ: فَيَمْكُثُونَ مَا شَاءَ اللّهُ، فَيَشْتَدُّ حَالُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَرَقُهُمْ، وَيَشْتَدُّ غَمُّهُمْ، وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتُهُمْ بِضَجِيجٍ شَدِيدٍ، فَيَتَمَنَّوْنَ الْمَخْلَصَ مِنْهُ بِتَرْكِ مَظَالِمِهِمْ لأهْلِهَا.

قَالَ: وَيَطَّلِعُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَلى جَهْدِهِمْ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ يُسْمِعُ آخِرَهُمْ كَمَا يُسْمِعُ أَوَّلَهُمْ: يَا مَعْشَرَ (3) الْخَلَائِقِ، أَنْصِتُوا لِدَاعِي اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَاسْمَعُوا؛ إِنَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى يَقُولُ [لَكُمْ] (4) : أَنَا الْوَهَّابُ، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَوَاهَبُوا، فَتَوَاهَبُوا، وَإِنْ لَمْ تَوَاهَبُوا أَخَذْتُ لَكُمْ بِمَظَالِمِكُمْ.

قَالَ: فَيَفْرَحُونَ بِذلِكَ؛ لِشِدَّةِ جَهْدِهِمْ، وَضِيقِ مَسْلَكِهِمْ وَتَزَاحُمِهِمْ. قَالَ: فَيَهَبُ بَعْضُهُمْ مَظَالِمَهُمْ رَجَاءَ أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَيَبْقى بَعْضُهُمْ، فَيَقُولُ: (5) يَا رَبِّ مَظَالِمُنَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ نَهَبَهَا، قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ تِلْقَاءِ الْعَرْشِ: أَيْنَ رِضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ جِنَانِ الْفِرْدَوْسِ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُهُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُطْلِعَ مِنَ الْفِرْدَوْسِ قَصْرا مِنْ فِضَّةٍ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ (6) وَالْخَدَمِ، قَالَ: فَيُطْلِعُهُ عَلَيْهِمْ فِي حِفَافَةِ الْقَصْرِ الْوَصَائِفُ وَالْخَدَمُ.

قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: يَا مَعْشَرَ الْخَلَائِقِ، ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَانْظُرُوا إِلى هذَا الْقَصْرِ.

ص: 178


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «الحسنات»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «باللّه »
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «معاشر»
4- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها وشرح المازندراني والوافي : _ «لكم»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيقولون»
6- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها : «الآنية»

قَالَ: فَيَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، فَكُلُّهُمْ يَتَمَنَّاهُ. قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ تَعَالى: يَا مَعْشَرَ الْخَلَائِقِ، هذَا لِكُلِّ مَنْ عَفَا عَنْ مُؤْمِنٍ.

قَالَ: فَيَعْفُونَ كُلُّهُمْ إِلَا الْقَلِيلَ. قَالَ: فَيَقُولُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَجُوزُ إِلى جَنَّتِيَ الْيَوْمَ ظَالِمٌ، وَلَا يَجُوزُ إِلى نَارِيَ الْيَوْمَ ظَالِمٌ، وَلأحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتّى يَأْخُذَهَا مِنْهُ عِنْدَ الْحِسَابِ، أَيُّهَا الْخَلَائِقُ اسْتَعِدُّوا لِلْحِسَابِ.

قَالَ: ثُمَّ يُخَلّى سَبِيلُهُمْ، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى الْعَقَبَةِ يَكْرُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضا، حَتّى يَنْتَهُوا إِلَى الْعَرْصَةِ،الْجَبَّارُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عَلَى الْعَرْشِ قَدْ نُشِرَتِ الدَّوَاوِينُ، وَنُصِبَتِ الْمَوَازِينُ، وَأُحْضِرَ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ، يَشْهَدُ كُلُّ إِمَامٍ عَلى أَهْلِ عَالَمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ قَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدَعَاهُمْ إِلى سَبِيلِ اللّهِ.

قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ الرَّجُلِ الْكَافِرِ مَظْلِمَةٌ، أَيَّ شَيْءٍ يَأْخُذُ مِنَ الْكَافِرِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : يُطْرَحُ عَنِ الْمُسْلِمِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِقَدْرِ مَا لَهُ عَلَى الْكَافِرِ، فَيُعَذَّبُ الْكَافِرُ بِهَا مَعَ عَذَابِهِ بِكُفْرِهِ عَذَابا بِقَدْرِ مَا لِلْمُسْلِمِ قِبَلَهُ مِنْ مَظْلِمَةٍ(1)

قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقُرَشِيُّ: فَإِذَا كَانَتِ الْمَظْلِمَةُ لِلْمُسْلِمِ (2) عِنْدَ مُسْلِمٍ، كَيْفَ تُؤْخَذُ مَظْلِمَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ؟ قَالَ: يُؤْخَذُ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ حَقِّ الْمَظْلُومِ، فَتُزَادُ عَلى حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ.

قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقُرَشِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ؟ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلظَّالِمِ حَسَنَاتٌ، فَإِنَّ لِلْمَظْلُومِ سَيِّئَاتٍ يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ، فَتُزَادُ عَلى سَيِّئَاتِ الظَّالِمِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (حُفَرهم) ؛ يحتمل كونه بضمّ الحاء وفتح الفاء، جمع حُفرة _ بالضمّ _ وهي ما يحتفر، فتكون كناية عن القبور .

ص: 179


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «مظلمته»
2- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها : «لمسلم»

ويحتمل كونه بضمّتين، جمع الحفير، وهو القبر، كرُغُف ورَغيف .

وقوله : (عُزلاً) بضمّ العين المهملة وسكون الزاي، أو ضمّها، بالتخفيف أو بالتشديد .

قال الفيروزآبادي : «الأعْزل: الرمل المنفرد المنقطع، ومَن لا سلاح معه، كالعُزُل _ بضمّتين _ وجمعها: عُزل، بالضمّ. وأعزل أو عُزّل، كركّع» (1).

والمقصود أنّهم يحشرون فريدا وحيدا .

وفي كثير من النسخ: «غُرْلاً» بضمّ الغين المعجمة وسكون الراء، جمع: أغرل، وهو الأغلفُ. والمعنى أنّهم يحشرون غير مختونين، كما خُلقوا أوّل مرّة، لا يفقدون شيئا حتّى الغُلفة، أعني الجلدة التي تُزال في الختان .

وقوله : (مَهَلاً) .

قال الجوهري : «المَهَل، بالتحريك: التُّؤدة» (2).

وفي القاموس: المَهْل، ويحرّك، والمهملة بالضمّ: السكينة، والرفق . ومهّله تمهيلاً: أجّله . ويُقال : مَهْلاً يا رجل _ وكذا الاُنثى والجمع _ بمعنى أَمْهِل. والمُهل بالضمّ: اسم يجمع معدنيّات الجواهر كالفضّة والحديد ونحوهما . والمُهلة، بالضمّ: العدّة . وأمْهَل: بالغ و أعذر . والماهل: السريع، والمتقدّم . انتهى (3).

ومناسبة كلّ من هذه المعاني هنا يظهر بالتأمّل .

وقال بعض الفضلاء : «لعلّ المراد تأنّيهم وتأخّرهم وحيرتهم» . قال : «والظاهر تصحيف» (4).

وفي كثير من النسخ: «بهما» بدل «مهلاً» .

قال الجزري : فيه: «يحشر الناس يوم القيامة عُراة حُفاة بُهما» . البُهم، جمع بهيم، وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه ؛ يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي

ص: 180


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 15 (عزل)
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1822 (مهل)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 53 (مهل) مع التلخيص
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 253

تكون في الدُّنيا، كالعمى والعور والعرج وغير ذلك، وإنّما هي أجساد مصحّحة لخلود الأبد في الجنّة، أو في النار .

وقال بعضهم : روي في تمام الحديث: «قيل : وما البهم؟ قال : ليس معهم شيء» ؛ يعني من أعراض الدنيا . وهذا لا يخالف الأوّل من حيث المعنى (1).

وقوله : (جُرْدا مُردا) .

هما جَمْعا «أجرد» و«أمرد» . قال الجزري في صفته عليه السلام : «إنّه أجرد . الأجرد: الذي ليس على بدنه شعر، ومنه الحديث : «أهل الجنّة جُردٌ مُردٌ» (2).

وقال الفيروزآبادي : «الأمْردُ: الشابّ، طرّ (3) شاربه، ولم تنبت لحيته» (4). انتهى .

وروي من طريق العامّة عنه صلى الله عليه و آله : «أنّه يحشر الناس يوم القيامة حُفاة عُراة عُزلاً بهما جُردا مُردا» (5) .

قال بعضهم : الأظهر أنّ مقام التكرمة يقتضي عدم حشر الأنبياء كذلك (6).

وقوله : (في صعيد) .

قيل : المراد به هنا الأرض المستوية التي لا عِوَج فيها ولا أمَتا (7).

وقال الجوهري : «الصعيد: التراب . وقال ثَعلب : وجه الأرض» (8).

وقوله : (يسوقهم النور، وتجمعهم الظلمة» .

الظاهر أنّ المراد بالنور والظلمة معناهما الحقيقي، وذكر فيه وجوه : الأوّل : أن يكون المراد أنّ من خلفهم نور يسوقهم، لكن ممشاهم في الظلمة. أو تحيط بهم الظلمة في موافقهم . ويؤيّده ما روته العامّة بإسنادهم عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «يحشر معهم النار، يبيت معهم حيث باتوا، ويقيل معهم حيث قالوا، ويُصبح معهم حيث أصبحوا،

ص: 181


1- النهاية ، ج 1 ، ص 167 (بهم)
2- النهاية ، ج 1 ، ص 256 (جرد) مع التلخيص
3- في الحاشية: «الطرّ: طلوع النبت والشارب»
4- .القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 337 (مرد)
5- اُنظر : مسند أحمد ، ج 1 ، ص 235 ؛ و ج 6 ، ص 90 ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 325 ؛ صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 110 ؛ و ج 7 ، ص 195 ؛ صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 156
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 33
7- في الحاشية: «أي تلالأ وصعودا وهبوطا . منه». والقائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ص 33
8- الصحاح ، ج 2 ، ص 498 (صعد)

ويُمسي معهم حيث أمسوا» (1).

وفي رواية اُخرى في ذكر أشراط الساعة عنه صلى الله عليه و آله ، أنّه قال : «وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن تطرد الناس إلى محشرهم» (2).

والثاني : أن يكون المراد أنّه إذا حصل لهم نور يمشون فيه، وإذا أحاطت بهم الظلمة يقفون ويتحيّرون .

والثالث : أن يكون المراد بالنور الملائكة؛ أي تسوقهم الملائكة وهم في الظلمة .

والرابع : أن يكون المراد بالنور الإيمان وتوابعه من العبادات؛ لأنّها أنوار تسعى بين يدي صاحبها يوم القيامة، وهم يمشون على أثرها ، وبالظلمة الكفر والشرك ولواحقهما من المعاصي والذنوب .

والمعنى أنّ من كان له ذلك النور يمشي ، ومن لم يكن له ذلك يقف ويبقى متحيّرا .

وعلى التقادير نسبته إلى النور مجاز باعتبار كونه سببا لمشيهم، وهاديا لهم . ونسبة الجمع إلى الظلمة؛ لكونها منشأً لحيرتهم واجتماعهم (3).

(حتّى يقفوا على عقبة المحشر) .

العقبة، بالتحريك: مرقى صعب من الجبال . قيل : في المحشر عقبات مخوفة ومنازل مهولة هي عقبات الفرائض ومنازل الأخلاق ، سمّيت عقبة؛ لشدّة المرور عليها، وصعوبة التخلّص من شدائدها ، وكان المراد بهذه العقبة عقبة الإيمان ومظالم الخلق ؛ ويرشد إلى الأوّل قوله فيما بعد : «يقول الكافر: «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» » ، وإلى الثاني قوله : «ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم» إلى آخره . فالكفّار يسلكون طريق جهنّم من هذه العقبة .

والظاهر من السياق أنّ من المسلمين من عنده مظلمة يجوز هذه العقبة، وإن لم يقع العفو منها بعدُ، ولكن لا يدخل الجنّة حتّى يخرج من عهدة الحسنات، ويقع التقاصّ

ص: 182


1- اُنظر : مسند أحمد، ج 7 ، ص 7 ؛ صحيح البخاري ، ج 7 ، ص 194 ؛ صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 157 ؛ سنن الترمذي ، ج 3 ، ص 323 ؛ سنن النسائي ، ج 4 ، ص 116
2- اُنظر : شرح مسلم للنووي ، ج 17 ، ص 195 ؛ فتح الباري ، ج 11 ، ص 326 ؛ السنن الكبرى ، ج 6 ، ص 424
3- راجع : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 253 و 254

بالحسنات أو السيّئات ، وإن أوهم ظاهر قوله : «ولا يجوز هذه العقبة» خلافه (1).

فتأمّل جدّا .

(فيركب بعضهم بعضا) من الكثرة وضيق المسلك .

(ويزدحمون) أي يدفع بعضهم بعضا .

قال الفيروزآبادي : «زحمه _ كمنعه _ زحما وزحاما، بالكسر: ضايقه . وازدحم القوم وتزاحموا» (2).

(فيُمنعون من المُضيّ) على بناء المجهول، وذلك لازدحامهم، ولخروج عن عهدة المظالم .

(فتَشتدّ أنفاسهم) جمع النفس بالتحريك .

(ويَكثُر عَرَقهم) .

في القاموس: «العرق، محرّكة: رشح جلد الحيوان، ويستعار لغيره . ورجلٌ عُرَق، كصُرد: كثيره» (3).

وقيل: في كتاب مسلم عن المقداد بن أسود، قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمُهُ العرقُ إلجاما» ، وأشار رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى فِيه (4).

وفي رواية اُخرى، قال : «إنّ العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا، وأنّه ليبلغ إلى أفواه الناس وإلى آذانهم» .

قال عياض : يُحتمل أنّه عرق نفسه بقدر خوفه لما شاهد من الأهوال . ويحتمل أنّه عرق نفسه وعرق غيره يختلط، ويصير لكلّ بقدر عمله، وهذا للازدحام وانضمام بعضهم إلى بعض، حتّى يصير العرق بينهم سائحا على وجه الأرض (5).

وقال القرطبي : العرق: للزحام، ودنوّ الشمس، حتّى تغلى منها الرؤوس وحرارة

ص: 183


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 33
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 124 (زحم)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 262 (عرق)
4- راجع : صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 158 ؛ فتح الباري ، ج 11 ، ص 341 ؛ رياض الصالحين للنووي ، ص 235 ؛ كنزل العمّال ، ج 14 ، ص 356 ، ح 38921
5- اُنظر : فتح الباري ، ج 11 ، ص 341

الأنفاس . فإن قيل : لزم أن يسيح الجميع فيه سيحا واحدا، ولا يتفاضلون في القدر، قيل : يزول هذا الاستبعاد بأن يخلق اللّه تعالى في الأرض التي تحت كلّ أحد ارتفاعا بقدر عَمَلهِ، فيرتفع العرق بقدر ذلك .

وجواب ثان، وهو أن يُحشر الناس جماعات متفرّقة، فيحشر من بلغ كعبيه إلى جهة، ومن بلغ حقويه في جهة . انتهى (1).

وقوله : (ضجيجهم) .

قال الجوهري : «أضجَّ القوم إضجاجا، إذا جلبوا وصاحوا، فإذا جَزِعُوا من شيء وغُلِبوا ، قيل : ضجّوا يضجّون ضجيجا» (2).

وقوله : (فيُشرف الجبّار _ تبارك وتعالى _ عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة) .

قيل : الإشراف على الشيء: الاطّلاع عليه من فوق، وهو يستلزم العلم به على وجه الكمال ، وإذا نسب إليه تعالى يُراد به هذا اللازم . انتهى (3).

وقد ذكرنا سابقا أنّ صفاته تعالى وما ينسب إليه ويحمل عليه إنّما يعتبر بالنظر إلى الغايات، لا المبادئ ، فإشرافه سبحانه مواصلة معهم معاملة المشرف على الشيء وما يترتّب عليه من الأثر .

أو المراد أشرف أمره في حكمه . أو من قبيل الاستعارة التمثيليّة ، والمراد بالعرش عرش العظمة، أو العرش الجسماني . وعلى الثاني تخصيصه بالذكر؛ للإشعار بأنّ أمره إنّما ينزل من جهة الأعلى .

و«من» الاُولى ابتدائيّة، والثانية بيانيّة . و«في» للمصاحبة، أو للظرفيّة .

قال الفيروزآبادي : الظِلّ، بالكسر: نقيض الضِّحّ. الجمع: ظِلال وظُلول وأظلال، والخيال من الجنّ وغيره يُرى، والعزّ. والمَنعة. ومن كلّ شيء : شخصه، أو كنهه . ومن السحاب : ما وارى الشمس منه أو سواده . ومن النهار: لونه، إذا غلبته الشمس، وهو في ظلّه: في كنفه (4).

ص: 184


1- شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 33 و 34
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 326 (ضجج)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 34
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 10 (ظلل)

وقال بعض الأفاضل : «يمكن أن يكون إشراف اللّه كناية عن توجّهه إلى محاسبتهم ، فالإشراف في حقّه تعالى مجاز، وفي الملائكة حقيقة» (1).

قال : «ويحتمل أن يكون «في» سببيّة؛ أي يشرف عليهم بسبب إرسال طائفة كثيرة من الملائكة، يظلّون الناس فوق رؤوسهم» .

قال : «ويحتمل أن يكون المراد بالإشراف أمر الملك بالنداء؛ أي يأمر ملكا في ظِلال من الملائكة» (2). فتأمّل .

وقوله : (يا معشر الخلائق) .

في القاموس: «المعشر، كمقعد: الجماعة، والجنّ، والإنس» (3).

(أنصتوا) .

الإنصات: السكوت، والاستماع للحديث . يُقال : أنصتوه، وأنصتوا له .

(واستمعوا منادي الجبّار) . يُقال : استمع له وإليه، إذا أصغى . فتعلّق المنادي بالاستماع محمول على الحذف والإيصال .

ويحتمل تعلّقه بالفعلين على سبيل التنازع .

وقوله : (وتخشع أبصارهم) .

الخشوع في البصر: إظهار المذلّة، والاستكانة بها بغضّها وإرخاء أجفانها .

(وتضطرب فرائصهم) .

في القاموس: «الفرائص: أوداجُ العنق . والفريصة واحدته ، واللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد» (4).

وقيل : أراد بها أصل الرقبة وعروقها؛ لأنّها هي التي تثور عند الغضب والخوف (5).

وقوله : (مُهطعين إلى الداع) أي مسرعين ، مادّ أعناقهم إليه .

قال الجوهري : «أهطع، إذا مدّ عنقه وصوّب رأسه. وأهْطع في عدوِهِ: أسرع، فعند ذلك

ص: 185


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 34
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 254
3- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 254 و 255
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 90 (عشر)
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 311 (فرص)

الهول» (1).

(يقول الكافر : «هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» ) أي صعب .

وهذه الفقرات إشارة إلى قوله تعالى في سورة القمر : «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ» (2) .

وقوله : (الحكم) أي الحاكم .

قال الفيروزآبادي : «الحاكم: مُنفِذُ الحُكم، كالحَكَم ، محرّكة» (3).

(العدل ... الذي لا يجور) .

الموصول صفة موضحة للعدل . وقيل : يحتمل الاحتراز؛ لأنّ العدل من الناس قد يجور .

قال : ولعلّ الغرض من هذا القول مع وضوحه في ذلك اليوم هو التصريح بأنّه لا حَكَم فيه إلّا هو ، وللتنبيه بزهوق آلهة اتّخذوها في الدُّنيا، وقطع طمعهم عن ملجأ سواه، وبه يحصل زيادة انبساطٍ للمؤمن ، وزيادة اغتمام للكافر (4).

وقوله : (بعدلي وقسطي) .

القِسط، بالكسر: العَدْل، وهو من المصادر الموصوف كالعدل، يستوي فيه الواحد والجمع . فالعطف للتفسير والتأكيد، والإضافة للدلالة على كمال المضاف .

(لا يُظلم) على بناء المعلوم .

(اليوم عندي أحد) أي لا يحتوي اليوم أحدٌ أن يظلم عندي أحدا .

أو على بناء المجهول، وتخصيص اليوم بالذكر مع أنّه تعالى حكم عدل أزلاً وأبدا؛ لعلمه لزيادة الاهتمام بإظهار العدل فيه، ولأنّ آثاره فيه أظهر وأقوى منها في غيره ؛ إذ ربّما ينتفي العدل من آحاد الناس في الاُمور الدنيويّة لانتفاء علمهم بالمصالح، ولا حكم ولا عدل في ذلك اليوم سواه تعالى، ولا يتصوّر الجهل في حقّه .

وقوله : (ولصاحب المظلمة بالمظلمة) بكسر اللّام فيهما، أو بفتحها فيهما، أو بالتفريق .

ص: 186


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1307 (هطع)
2- . القمر (54) : 6 - 8
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 98 (حكم)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 35

قال الجوهري : «ظلمه يظلِمه ظُلما ومَظْلَمَةً . وأصله: وضع الشيء في غير موضعه . والظُّلامة والظَّليمة والمَظْلِمة: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما اُخذ منك» (1).

(بالقصاص من الحسنات والسيّئات) بنقل حسنات الظالم إلى المظلوم وسيّئات المظلوم إلى الظالم حتّى يبلغ الاستيفاء .

وفي القاموس: «القِصاص، بالكسر: القود» (2).

(واُثيب على الهبات) أي اُجزي في هذا اليوم، واُعطي الثواب من وهب مظلمته لظالمه .

وقوله : (ولأحد عنده مظلمة) . الواو للحال .

(إلّا مظلمة يَهَبُها صاحبُها) بالرفع، فاعل «يهب» .

وفي كثير من النسخ: «لصاحبها» ، فالمراد بصاحب المظلمة حينئذٍ الظالم باعتبار كونه حاملاً لها . والضمير المستتر عائد إلى «أحد» .

(واُثيبه) .

الضمير للصاحب، أو للأحد ، والمآل واحد .

(عليها) أي على الهبة .

(وآخذ له بها عند الحساب) .

لعلّه معطوف على قوله : «لا يجوز» أي إن لم يهب ذلك الأحَد آخُذ الظالم له بتلك المظلمة عند الحساب .

وقيل : الظاهر أنّه عطف على «يهبها»، لا على «اُثيبه»؛ إذ لا أخْذَ بعد الهبة . ولعلّ المراد أنّه لا يجوز هذه العقبة ظالم إلّا إذا وهبه المظلوم، أو استحقّ دخول الجنّة بعد الأخذ منه عند الحساب . وأمّا غيرهما فيسلك هناك مسلك النار . انتهى (3).

وقوله : (فتلازموا) على صيغة الأمر من التلازم .

وقوله : (مَظلمة أو حقّ) أي على غير جهة الظلم، كالدَّين الذي عُجز أداؤه ونحوه .

(إلّا لزمه) أي لزم صاحب المظلمة والحقّ مَنْ عنده مظلمة، أو حقّه، ولا يفارقه .

ص: 187


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1977 (ظلم) مع التلخيص
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 313 (قصص)
3- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 35

(بها) أي بتلك المظلمة . ولعلّ الإتيان بضمير المظلمة دون الحقّ؛ للعلم به بقرينة السياق، أو تعميم المظلمة بحيث يشمل الحقّ من باب الاستخدام .

وقوله : (ويطّلع اللّه على جَهدهم) .

الاطّلاع: العلم بباطن الشيء على وجه البصيرة . والجهد، بالفتح: المشقّة .

وقوله : (أنصتوا لداعي اللّه ) .

في بعض النسخ: «الداعي» بلام التعريف .

وقوله : (أنا الوهّاب) .

في وصفه تعالى ذاته المقدّسة بهذه الصفة ترغيب للمخاطبين في التواهب؛ ليتخلّقوا بأخلاقه، ويتوقّعوا مثلها من مواهبه .

وقوله : (من تِلقاء العرش) . يُقال : جلس تلقاه _ بالكسر _ أي حذاه .

وقوله : (أن يُطلع) من باب الإفعال .

(من الفردوس قصرا) أي يظهره من إشراف إلى انحدار .

وفي القاموس: «الفردوس : البستان، يجمع كلّ ما يكون في البساتين، تكون فيه الكروم ، عربيّة، أو روميّة نقلت ، أو سريانيّة» (1).

وقوله : (في حفافة القصر) بكسر الحاء؛ أي جانبه .

قال الفيروزآبادي : «الحِفاف، ككتاب: الجانب . وحافّين من حول العرش : محدقين بأحفّته؛ أي جوانبه» (2).

وقوله : (هذا لكلّ من عفا) . لعلّ المراد لكلّ من عفا عن مؤمن مثله .

وقوله : (أيّها الخلائق، استعدّوا للحساب) ؛ الظاهر أنّه من كلامه تعالى .

وقيل : يحتمل أن يكون من كلامه عليه السلام بأن يأمر بالاستعداد في الدنيا لحساب الآخرة؛ فإنّ ذلك يوجب سلب المفاسد، وجلب المنافع، حتّى يرد على القيامة، ولا حساب عليه (3).

وقوله : (إلى العقبة) أي العقبة التي سبق ذكرها، أو عقبة اُخرى بعدها .

ص: 188


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 236 (فردوس)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 128 (حفف)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 36

وقوله : (يَكْرُدُ) كينصر .

والكرد: السوق، وطرد العدوّ . كذا في القاموس (1) وفي النهاية: «كَرَد القوم: صرفهم، وردّهم» (2).

وقوله : (إلى العَرصة) أي عرصة القيامة، وهي موضع اجتماع الخلق للحساب .

وفي القاموس: «العَرصة: كلّ بقعة بين الدور واسعةٍ ليس فيها بناء» (3).

وقوله : (الدواوين) جمع الديوان، بالكسر، ويُفتح، وهو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطايا، مِن دوّن الكتب، إذا جمعها .

وقوله : (فيعذّب الكافر) .

فيه دلالة على تعذيب الكافر بالفروع أيضا .

متن الحديث الثمانين

اشاره

أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ يُوسُفَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي سَعِيدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام :

أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ: إِنَّمَا أَحْبَبْنَاكُمْ لِقَرَابَتِكُمْ (4) مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَلِمَا أَوْجَبَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مِنْ حَقِّكُمْ ، مَا أَحْبَبْنَاكُمْ لِلدُّنْيَا (5). ، نُصِيبُهَا مِنْكُمْ إِلَا لِوَجْهِ اللّهِ وَالدَّارِ الْاخِرَةِ، وَلِيَصْلُحَ لأْرِئٍ مِنَّا دِينُهُ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «صَدَقْتُمْ، صَدَقْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّنَا، كَانَ مَعَنَا، أَوْ جَاءَ مَعَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ هكَذَا _ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: _ وَاللّهِ، لَوْ أَنَّ رَجُلاً صَامَ النَّهَارَ، وَقَامَ اللَّيْلَ، ثُمَّ لَقِيَ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِغَيْرِ وَلَايَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، لَلَقِيَهُ وَهُوَ عَنْهُ غَيْرُ رَاضٍ، أَوْ سَاخِطٌ عَلَيْهِ».

ثُمَّ قَالَ: «وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ * فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (6). ».

ص: 189


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 332 (كرد)
2- النهاية ، ج 4 ، ص 162 (كرد)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 307 (عرص)
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «بقرابتكم»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «لدنيا»
6- التوبة (9) : 54 و 55

ثُمَّ قَالَ: «وَكَذلِكَ الْاءِيمَانُ لَا يَضُرُّ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَكَذلِكَ الْكُفْرُ لَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ».

ثُمَّ قَالَ: «إِنْ تَكُونُوا وَحْدَانِيِّينَ، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَحْدَانِيّا يَدْعُو النَّاسَ، فَلَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَجَابَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسى، إِلَا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».

شرح الحديث

السند موثّق .

قوله : (أنّهم قالوا) أي جماعة من الشيعة .

وقوله : (للدنيا) .

في بعض النسخ: «لدنيا» .

وعلى الأوّل يكون قوله : (نُصيبها منكم) جملة حاليّة ، وعلى الثاني وصفيّة .

وقوله : (إلّا لوجه اللّه ) أي لكن أحببناكم لوجه اللّه ، غير مشوب بغرض آخر . فالاستثناء منقطع بمنزلة الإضراب عن السابق .

(ولَيَصلُح) بضمّ اللام (لامرئ) أي لكلّ امرئ منّا .

وقوله : (دينُهُ) فاعل «يصلح» .

والصلاح: ضدّ الفساد، وفعله كنصر ، وقد يجيء ككرم . ويحتمل كونه من باب الإفعال، وفاعله المستتر راجعا إلى اللّه ، و«دينه» مفعوله .

وقوله : (ثمّ جمع بين السبّابتين) أي سبّابتي اليدين على الظاهر.

وكون المراد السبّابة والوسطى على سبيل التغليب (1). بعيد .

والسبّابة _ بالفتح وتشديد الباء _ من الأصابع: ما يلي الإبهام .

وقوله : (أو ساخط) ؛ الترديد من الرواة .

(ثمّ قال : وذلك) أي عدم قبول العمل من غير أهل الإيمان، وعدم الرضا عنه، أو السخط عليه .

(قول اللّه عزّ وجلّ) في سورة التوبة : «وَمَا مَنَعَهُمْ» أي ما منع هؤلاء المنافقين .

ص: 190


1- احتمله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 257

«أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ» أي من قبولها والإثابة بها .

«إِلَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا» أي إلّا كفرهم .

«بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ» ؛ وذلك ممّا يحبط الأعمال، ويمنع من استحقاق الثواب عليها .

«وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَا وَهُمْ كُسَالى» متثاقلين في فعلها .

«وَلَا يُنفِقُونَ إِلَا وَهُمْ كَارِهُونَ» أي لا يؤدّونها على الوجه المأمور به؛ لعدم اعتقادهم بفضلها، لا يرجون بفعلها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا .

قيل : في هذا دلالة على أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع؛ لأنّه سبحانه ذمّهم على ترك الصلاة والزكاة، ولولا وجوبهما عليهم لم يذمّوا بتركهما (1) . وفيه بحث .

«فَلَا تُعْجِبْكَ» ؛ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله ، والمراد عامّة المؤمنين .

وقيل : عامّ؛ أي لا تشرك أيّها السامع كثرة.

«أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ» ؛ فإنّ ذلك استدراج لهم، ووبالٌ عليهم ، كما في «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» .

قال البيضاوي : «بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب» (2).

وقال الشيخ الطبرسي : قد ذكر في معناه وجوه: أحدها: أنّ فيه تقديما وتأخيرا ؛ أي لا يسرّك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الآخرة ، فيكون الظرف على هذا متعلّقا بأموالهم وأولادهم (3).

وثانيها : أنّ معناه: إنّما يريد اللّه أن يعذّبهم بها في الدُّنيا بالتشديد عليهم في التكليف، وأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو، فيؤدّونها على كره منهم ومشقّة؛ إذ لا يرجون به ثوابا في الآخرة ، فيكون ذلك عذابا لهم (4).

ص: 191


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 258
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 151
3- نسبه إلى ابن عبّاس وقتادة
4- نسبه إلى الحسن والبلخي

وثالثها : أنّ معناه : إنّما يريد اللّه ليعذّبهم في الدُّنيا بسبي الأولاد، وغنيمة الأموال عند تمكّن المؤمنين من أخذها وغنمها، فيتحسّرون عليها، ويكون ذلك جزاءً على كفرهم (1).

ورابعها : أنّ المراد: يعذّبهم بجمعها وحفظها وحبّها والبخل بها، والخوف عليها، وكلّ هذا عذاب، وكذلك خروجهم عنها بالموت؛ لأنّهم يفارقونها، ولا يدرون إلى ماذا يصيرون .

وخامسها : أنّ معناه: إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بحفظها، والمصائب فيها، مع حرمان المنفعة بها (2).

واللام في قوله : «ليعذّبهم» ، يحتمل أن تكون لام العاقبة، والتقدير إنّما يريد اللّه أن يُملي لهم فيها ليعذّبهم .

«وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ» أي تَهلِك، وتذهب بالموت .

وأصل الزهوق: الخروج بصعوبة .

«وَهُمْ كَافِرُونَ» بما يجب الإيمان به .

والجملة في موضع الحال، والإرادة تعلّقت بزهوق أنفسهم، لا بالكفر، وهذا كما تقول : «اُريد أن أضربه، وهو عاص» ، فالإرادة تعلّقت بالضرب، لا بالعصيان (3).

وحاصل استشهاده عليه السلام بهذه الآية أنّها دلّت على أنّ من دخل في الدين، وكفر باللّه ورسوله بإنكار أمرٍ من اُمور الدين، أو حكمٍ من أحكامه، كان غير مرضيّ عند اللّه ، أو مسخوطا به، وعمله غير مقبول .

ومعلوم أنّ المراد بالآية من أعظم اُمور الدين .

(وكذلك الإيمان لا يضرّ معه العمل) أي الإخلال بالعمل لا يضرّ بأصل الإيمان، بحيث يصير سببا للخلود في النار ، أو لعدم استحقاق الشفاعة والرحمة .

(وكذلك الكفر لا ينفع معه العمل) _ أي استقامة العمل _ نفعا يوجب الخلاص عن النار، أو استحقاق الشفاعة والمغفرة .

وقال بعض الشارحين : لعلّ المراد بالعمل الأوّل العمل الحقير القليل ، وبالعمل الثاني العمل العظيم الكثير ؛

ص: 192


1- نسبه إلى الجبائي
2- نسبه إلى ابن زيد
3- تفسير مجمع البيان ، ج 5 ، ص 69 و 70 (مع التلخيص واختلاف يسير)

فإنّ قليل العمل مع الإيمان مقبول ، وكثيره مع الكفر غير مقبول .

ثمّ قال : وممّا يدلّ على أنّه لابدّ في هذا الخبر من التأويل ما روي عن محمّد بن مارد، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حديث روي لنا أنّك قلتَ : «إذا عرفت _ يعني الولاية _ فاعمل ما شئتَ؟» فقال : «قد قلتُ ذلك» .

قال : قلت : وإن زنوا، وسرقوا، وشربوا الخمر؟

فقال : «إنّا للّه ، وإنّا إليه راجعون، ما أنصفونا أن نكون اُخذنا بالعمل ووُضع عنهم، إنّما قلت : إذا عرفت، فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره؛ فإنّه يُقبل منك» (1) (2).

وقوله : (إن تكونوا وحدانيّين) إلى آخره .

في النهاية : «الوحداني: المفارق للجماعة ، المنفرد بنفسه، وهو منسوب إلى الوحدة : الانفراد ، بزيادة الألف والنون» (3).

وأقول : لا يبعد كونه هنا منسوبا إلى الوُحدان _ بالضمّ _ جمع الواحد ؛ يعني أن تكونوا منفردين في هذا الأمر، قليلين في العدد، لا يشارككم فيه غيركم، فاصبروا، ولا تحزنوا؛ فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان في كثير من الأزمنة متفرّدا بالحقّ، يدعو الناس إليه بالمعجزات، فلا يستجيبون له إلّا قليل .

وفيه تسلية للشيعة، ودفع شبهة من زعم أنّ الحقّ مع الكثرة .

وقوله : (قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله ...) أي عند استجابته له في أوّل الأمر .

متن الحديث الواحد والثمانين

اشاره

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ:قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام لِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الْبَصْرِيِّ الصُّوفِيِّ: «وَيْحَكَ يَا عَبَّادُ، غَرَّكَ أَنْ عَفَّ بَطْنُكَ وَفَرْجُكَ؛ إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا *

ص: 193


1- الكافي ، ج 2 ، ص 464 ، ح 5 ؛ مجموعة ورّام ، ج 2 ، ص 160 ؛ وسائل الشيعة ، ج 1 ، ص 114 ، ح 287
2- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 39
3- النهاية ، ج 5 ، ص 160 (وحد)

يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ» (1) ، اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنْكَ شَيْئا (2) حَتّى تَقُولَ قَوْلاً عَدْلاً».

شرح الحديث

السند مختلفٌ فيه ، وفيه شائبة الإرسال؛ فإنّ يونس بن عبد الرحمان الذي روى عنه اليقطيني، لم يعدّوه في رجال الصادق عليه السلام ، ولم يعهد رواية اليقطيني عنه .

قوله عليه السلام : (غرّك) .

قال الجوهري: «غرّه يغرّه؛ أي خدعه» (3).

(أن عفّ بطنُك وفرجك) .

قال الجوهري: «عفَّ عن الحرام يَعِفّ عَفّا وعِفّةً وعَفافَةً ؛ أي كفّ» انتهى (4).

وقيل : العِفّة : الاكتفاء بقدر الضرورة، أو ما دونه من الحلال (5). والحاصل أنّه عليه السلام حذّره من الانخداع بعفّة البطن والفرج بأن عدّ نفسه من الأولياء والكمّل بدون الإقرار والإذعان بولاية وليّ الأمر .

واستدلّ على ذلك بقوله تعالى في سورة الأحزاب : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ» في ارتكاب ما يكرهه «وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا» . قيل : أي قاصدا إلى الحقّ، من سَدَّ يَسِدُّ سَدادا (6). وقيل : هو المُعرّى عن الباطل(7) .

«يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ» أي يصلحها بالقبول والإثابة عليها . أو يوفّقكم للأعمال الصالحة . وقوله عليه السلام : (حتّى تقول قولاً عدلاً) إشارة إلى تفسير القول السديد .

وقيل : المراد به الاعتقاد الصحيح ، ولمّا كان هذا الصوفيّ المبتدع منحرفا عن ناحية أهل البيت عليهم السلام منكرا لإمامتهم، نبّه عليه بأنّه لا ينفعه أعماله مع تلك العقيدة الفاسدة ؛ فإنّ قبول الأعمال مشروط بصحّة العقائد (8).

وأقول: في تفسير القول بالاعتقاد خفاء ، ولعلّ هذا القائل أراد به ما يكون منشؤه الاعتقاد

ص: 194


1- الأحزاب (33) : 70 و71
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «قولاً»
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 769 (غرر)
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1405 (عفف)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 40
6- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 260
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 40
8- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 260

الصحيح ، والأظهر أن يُقال: لمّا كانت حصائد الألسنة وزلّاتها كثيرة، وأعظمها إنكار الولاية لأهلها، نبّه عليه السلام بأنّ سائر أعماله لا ثمرة لها حتّى يستقيم لسانه، ويقول قولاً عدلاً ، والعمدة فيه الإقرار بالولاية .

متن الحديث الثاني والثمانين

اشارة

يُونُسُ (1) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَجَرَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِي بِلَادِهِ خَمْسُ حُرَمٍ: حُرْمَةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَحُرْمَةُ آلِ الرَّسُولِ (2) صلى الله عليه و آله ، وَحُرْمَةُ كِتَابِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُرْمَةُ كَعْبَةِ اللّهِ، وَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ».

شرح الحديث

السند كما عرفت في سند الحديث السابق .

قوله : (خمس حُرَم) إلى آخره .

في القاموس: الحرمة، بالضمّ وبضمّتين، وكهُمزَة: ما لا يحلّ انتهاكه . والذِّمّة، والمهابة، والنصيب. «وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه » (3). ؛ أي ما وجب القيام به، وحَرُم التفريط فيه. وكأمير: ما حُرِّم، فلم يُمسّ. وعن الدار: ما اُضيف إليها في حقوقها ومرافقها . وحريم الرجل: ما يحميه، ويُقاتل عنه . والجمع: أحرام، وحُرُم بضمّتين . انتهى (4).

ويظهر من هذا الحديث أنّ الحرم جمع الحرمة، وأنّ المراد بها ما يجب احترامه . وقيل : المراد بالحرم الحقوق المقرّرة شرعا، ومن حقوق الرسول على الاُمّة التصديق به، وبما جاء به ، إلى غير ذلك . ومن حقوق آل الرسول أن يقرّ بولايتهم، ويتّبعهم في العقائد والأعمال، وقس عليهما البواقي جملةً؛ فإنّ تفصيل الحقوق يوجب الإطناب (5).

ص: 195


1- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن يونس ، عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى بن عبيد
2- في كلتا الطبعتين وبعض النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «آل رسول اللّه »
3- الحجّ (22) : 30
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 95 (حرم) مع التلخيص
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 40

متن الحديث الثالث والثمانين

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِذَا بَلَغَ الْمُؤْمِنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، آمَنَهُ اللّهُ مِنَ الْأَدْوَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْبَرَصِ، وَالْجُذَامِ، وَالْجُنُونِ.

فَإِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ، خَفَّفَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ حِسَابَهُ. فَإِذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، رَزَقَهُ اللّهُ الْاءِنَابَةَ. فَإِذَا بَلَغَ السَّبْعِينَ، أَحَبَّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ. فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ، أَمَرَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِإِثْبَاتِ حَسَنَاتِهِ وَإِلْقَاءِ سَيِّئَاتِهِ. فَإِذَا بَلَغَ التِّسْعِينَ، غَفَرَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ أَسِيرَ اللّهِ فِي أَرْضِهِ».

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: «فَإِذَا بَلَغَ الْمِائَةَ، فَذلِكَ أَرْذَلُ الْعُمُرِ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (آمنه اللّه من الأدواء الثلاثة) ؛ كأنّه محمول على الغالب، أو مختصّ بالمؤمن الكامل .

والأدواء: جمع الدواء . قال الجوهري : «الدواء، مقصور: المرض. تقول منه: دَوِيَ، بالكسر؛ أي مرض» (1).

وقال الفيروزآبادي : «الدواء، مثلّثة: ما داويتَ به. وبالقصر: المرض» (2).

وقال : «الجذام، كغراب: علّة تحدث من انتشار السوداء في البدن كلّه، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها . وربّما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرّح . جُذِم كعُني» (3).

وقوله : (خفّف اللّه حسابه) أي يساهل معه في كثير من اُموره يوم القيامة، ولا يشدّد عليه .

وقوله : (الإنابة) .

ص: 196


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2342 (دوي)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دوي)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 88 (جذم)

قال الجوهري : «أناب إلى اللّه ؛ أي أقبل، وتاب» (1).

وقوله : (أحبّه أهلُ السماء) .

وثمرة محبّتهم إيّاه أنّهم يذكرونه في الملأ الأعلى، ويدعون له، ويستغفرون لذنوبه .

وقوله : (أمر اللّه بإثبات حسناته، وإلقاء سيّئاته) .

ولعلّ المراد أنّه يوفّق حينئذٍ لفعل الحسنات وترك السيّئات، وهذا أيضا إمّا محمول على الغالب ؛ لانكسار سورة أكثر الدواعي الشهوانيّة في هذا السنّ ، أو مختصّ بالمؤمن الكامل .

وقيل : لا يخفى أنّ الإتيان في هذا السنّ بالسيّئات أشنع، والمخالفة للربّ أقبح وأفظع ، ولكنّه تعالى يرحمه؛ لضعفه وعجزه، فيأمر بإلقاء سيّئاته؛ لئلّا يخجّله على رؤوس الأشهاد تفضّلاً عليه .

وقد مرّ في الاُصول أنّ اللّه تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى شيخ زان . فتأمّل (2).

وقوله : (ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر) .

الظاهر أنّ المراد جميع ما فرّط منه ممّا يصحّ كونه منشأً للعتاب .

ولعلّ غفرانه بتوفيق الإنابة والتدارك .

وقيل : كأنّ المراد بالذنوب الصغائر من حقوق اللّه تعالى مع احتمال الكبائر أيضا (3) .

وقوله : (أسيرَ اللّه ) .

لعلّه لكونه مغلوبا بالضعف والانكسار، وتعطّل الحواسّ كلّاً أو جُلّاً، وعجزه عمّا يريد من الأعمال كالأسير .

وقيل : سمّي أسيرا؛ لأنّه أسره قضاء اللّه ، فأخرجه من موطنه الأصلي، وحبسه في دار الغربة مدّة طويلة، وعذّبه بهواء النفس وإغراء الشيطان، فهو محلّ الترحّم (4).

وقوله : (أرذلُ العمر) .

في القاموس: «الأرذل: الدون الخسيس، أو الرديء من كلّ شيء . فأرذل العمر: أسوؤهُ» انتهى(5) .

ص: 197


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 229 (نوب)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 41
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 41
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 41
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 384 (رذل)

وقال بعض المفسّرين : « أرذل العمر: الهرم، والحزف»(1) وحدَّهُ بعضهم بخمس وتسعين، وبعضهم بخمس وسبعين (2).

وقيل : لزمان بقاء كلّ شخص وعمره مراتب في القوّة والضعف ؛ فأضعف المراتب وأرذلها مائة سنة فصاعدا؛ لأنّ العمر في حال الطفوليّة وإن كان ضعيفا لكنّه في مقام الترقّي؛ لقبول الكمال بخلاف مائة سنة؛ فإنّه فيها في غاية الضعف، ومقامِ التنزّل حتّى يبلغ حدّا لا يدري ما يقول وما يفعل (3).

متن الحديث الرابع والثمانين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «إِنَّ الْعَبْدَ لَفِي فُسْحَةٍ مِنْ أَمْرِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلى مَلَكَيْهِ: قَدْ عَمَّرْتُ عَبْدِي هذَا عُمُرا، فَغَلِّظَا، وَشَدِّدَا، وَتَحَفَّظَا، وَاكْتُبَا عَلَيْهِ قَلِيلَ عَمَلِهِ وَكَثِيرَهُ ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (فُسحة) بالضمّ؛ أي سعة من عفو اللّه وغفرانه في اُموره التكليفيّة ، للمسامحة معه في كثير منها؛ لشدّة داعية الشهوانيّة وقوّتها .

وقيل : ليس فيه ما ينافي الحديث السابق؛ إذ ليس في السابق حكم ما دون الأربعين ، وأمّا في السابق من رفع الأدواء الثلاثة عن صاحب الأربعين، فلا ينافي التشديد عليه في أمره، ولكن لابدّ من تقييد التشديد بالبلوغ إلى الخمسين ؛ لأنّ الخمسين يوجب التخفيف، كما مرّ .

أو القول بأنّ التخفيف من باب التفضّل لمن يشاء ، فقد يخفّف لصاحب

ص: 198


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 41
2- راجع : تفسير جوامع الجامع ، ج 2 ، ص 548 ؛ تفسير السمرقندي ، ج 2 ، ص 449 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 7 ، ص 8 ؛ تفسير الواحدي ، ج 2 ، ص 728 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 409
3- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 261

الخمسين، وقد يشدّد عليه (1).

وقوله : (تحفّظا) .

التحفّظ: التذكّر، والتيقّظ .

متن الحديث الخامس والثمانين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنِ الْوَبَاءِ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْمِصْرِ، فَيَتَحَوَّلُ الرَّجُلُ إِلى نَاحِيَةٍ أُخْرى، أَوْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ، فَيَخْرُجُ مِنْهُ إِلى غَيْرِهِ؟

فَقَالَ: «لَا بَأْسَ، إِنَّمَا نَهى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَنْ ذلِكَ؛ لِمَكَانِ رَبِيئَةٍ (2) كَانَتْ بِحِيَالِ الْعَدُوِّ، فَوَقَعَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ، فَهَرَبُوا مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : الْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْلُوَ مَرَاكِزُهُمْ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله: (الوباء) بهمز اللام، محرّكة .

قال الجوهري في المهموز: «الوباء، يقصر ويمدّ: مرض عامّ. وجمع المقصور: أوباء ، وجمع الممدود: أوبئة» (3).

وقال الفيروزآبادي : «الوَباء، محرّكة: الطاعون، وكلّ مرض عامّ» (4) .

وقال : «الطاعون: الوباء» (5).

وقال الجوهري : «الطاعون: الموت الوَحِيّ من الوباء» (6).

ومفاده أنّ الطاعون نفس الموت المسبّب من الوباء . وقيل : الطاعون مرض مخصوص،

ص: 199


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 42
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «ريبة»
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 79 (وبأ)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 31 (وبأ)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 245 (طعن)
6- الصحاح ، ج 6 ، ص 2158 (طعن)

وهو غدّة، كغدّة البعير، تخرج في الآباط غالبا، وقد تخرج في الأيدي والأصابع وغيرها من الأعضاء ، وعلى هذا كلّ طاعون وباء، ولا ينعكس (1).

وقوله : (لمكان رَبيئة) إلى آخره .

الرَّبيئةُ، بفتح الراء، وكسر الباء الموحّدة، وفتح الهمزة: طليعة الجيش: من يبعث ليطّلع طِلْع (2). العدوّ. يقال: رَباهم ولهم _ كمنع _ إذا صار رَبئةً لهم. ورابَأْتُهُ : حَذرته، واتّقيته، وراقبته، وحارسته .

وفي بعض النسخ : «ريبة». وفي بعضها: «رئبة»، والمآل واحد .

والضمير في قوله: «فيهم» راجع إلى «ربيئة» جيش المسلمين.

والحيال، بالكسر: الإزاء، وأصله الواو .

وفي القاموس: «المركز: موضع الرجل ، ومحلّه، وحيث أمر الجُند أن يلزموه» (3).

متن الحديث السادس والثمانين

اشارة

عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«ثَلَاثَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْهَا نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ: التَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ، وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ، إِلَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (التفكّر في الوسوسة في الخلق) .

قيل : الظاهر أنّ المراد التفكّر فيما يحصل في نفس الإنسان من الوساوس في خالق

ص: 200


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12، ص 42
2- في الحاشية: «الطِّلْع، بالكسر: الاسم من الاطّلاع . تقول منه : أطلع طِلعَ العدوّ . ويقال أيضا : كن بطلع الوادي وطَلع الوادي، بالفتح والكسر، وكلاهما صواب ». الصحاح ، ج 3 ، ص 1254 (طلع)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ، ص 177 (ركز)

الأشياء، وكيفيّة خلقها، وخلق أعمال العباد، والتفكّر في الحكمة في خلق بعض الشرور في العالم من غير استقرار في النفس وحصول شكّ بسببها (1).

وقيل : المراد بالخلق المخلوقات، وبالتفكّر فيهم بالوسوسة التفكّر، وحديث النفس بعيوبهم، وتفتيش أحوالهم، وهو بعيد (2).

قال الفيروزآبادي : «الوسوسة: حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه ولا خير، كالوسواس، بالكسر. والاسم بالفتح. وقد وسوس له وإليه» (3).

(والطيرة) .

قال الجوهري : «الطِّيرَة، مثال العنبة: ما يتشاءم به من الفأل الرديء، وفي الحديث: أنّه كان يحبّ الفأل، ويكره الطيرة» (4).

وفي النهاية : فيه: لا عدوى ولا طيرة . الطيرة، بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تسكن، هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطيّر . يُقال : تطيّر طيرة، وتخيّر خيرَة، ولم يجئمن المصادر هكذا غيرهما.

وأصله فيما يُقال: التطيّر بالسوانح والبوارح من الطير والظِّباء وغيرهما ، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، ونهى عنه، وأخبر أنّه ليس له تأثير في جلب نفع ودفع ضرّ ، وقد تكرّر ذكرها في الحديث اسما وفعلاً . ومنه الحديث : «ثلاث لا يسلَم منها أحد: الطيرة، والحسد، والظنّ» . قيل : فما نصنعُ؟ قال : «إذا تطيّرت فامضِ، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقّق الشيء . انتهى (5).

وقال بعض الفضلاء :

المراد بها هاهنا إمّا انفعال النفس عمّا يتشاءم به، أو تأثيرها واقعا، وحصول مقتضاها ، ويظهر من الأخبار أنّها تؤثّر مع تأثّر النفس بها، وعدم التوكّل على اللّه (6).

ص: 201


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 262
2- لم نعثر على قائله
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 257 (وسوس)
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 728 (طير)
5- النهاية ، ج 3 ، ص 152 (طير)
6- مرآة العقول ، ج 25 ، ص 264

وقال الزجّاج :

اشتقاق الطيرة إمّا من الطيران ؛ لأنّ الإنسان إذا تشأّم بشيء كَرِهَهُ، تباعد عنه، فيشبّه سرعة إعراضه عنه بالطيران . وإمّا من الطير؛ لأنّهم كانوا يستعملونه من زجر الطير، ويتشأّمون ببعضها (1).

وقال صاحب المصباح :

الطِّيرَة، وزان عِنبة: التشاءم. وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمُهمٍّ مرّت بمجاثم الطير، وأثارتها لتستفيد هل تمضي، أو ترجع، فنهى الشارع عن ذلك، وقال : «لا هام، ولا طيرة» (2).

(والحَسَد) .

في القاموس: «حَسَده الشيء وعليه، يَحْسِده ويَحسُده حَسَدا وحُسُودا: تمنّى أن تتحوّل إليه نعمتهُ وفضيلتهُ، أو يسلبهما» (3).

(إلّا أنّ المؤمن لا يستعمل حَسَدَه) لا قولاً، ولا فعلاً، ولا بالتروّي في كيفيّة إجرائه على المحسود .

ويفهم من هذا الخبر عدم الإثم بتلك الاُمور، وإن كانت مركوزة في الخاطر إذا لم يظهر أثرها ، وإلّا فلا يمكن اتّصاف الأنبياء بها .

وقيل : يمكن أن يُراد بالحسد ما يعمّ الغبطة . وقيل : المراد به أنّ الناس يحسدونهم، وكذا في الأوّلين، وهو بعيد غاية البُعد (4).

متن الحديث السابع والثمانين

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ، قَالَ:قَالَ لِي: «إِنِّي لَمَوْعُوكٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَقَدْ وُعِكَ ابْنِي اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرا، وَهِيَ تَضَاعَفُ عَلَيْنَا ،

ص: 202


1- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 43
2- المصباح المنير ، ص 382 (طير)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 288 (حسد)
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 264

أَ شَعَرْتَ أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ، وَلَمْ تَأْخُذْ فِي أَسْفَلِهِ، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَسْفَلِهِ، وَلَمْ تَأْخُذْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ أَذِنْتَ لِي حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ جَدِّكَ ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا وُعِكَ اسْتَعَانَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوْبَانِ: ثَوْبٌ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَثَوْبٌ عَلى جَسَدِهِ، يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُنَادِي حَتّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلى بَابِ الدَّارِ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ!

فَقَالَ: «صَدَقْتَ (1) ».

قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَمَا وَجَدْتُمْ لِلْحُمّى عِنْدَكُمْ دَوَاءً؟

فَقَالَ: «مَا وَجَدْنَا لَهَا عِنْدَنَا دَوَاءً إِلَا الدُّعَاءَ، وَالْمَاءَ الْبَارِدَ؛

إِنِّي (2). اشْتَكَيْتُ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِطَبِيبٍ لَهُ، فَجَاءَنِي بِدَوَاءٍ فِيهِ قَيْءٌ، فَأَبَيْتُ أَنْ أَشْرَبَهُ؛ لأنِّي إِذَا قَيَيْتُ (3).

زَالَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنِّي».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لموعوك) .

في النهاية: «الوَعك: الحمّى . وقيل : ألمها . وقد وعكه المرض [وعكا]، فهو موعوك»(4).

وقوله: (وُعِك) على البناء للمفعول .

وقوله : (وهي) أي الحمّى المفهوم من الوعك.

(تضاعَفُ علينا) على البناء للمجهول .

قال الجوهري : «التضعيف: أن يزاد على أصل الشيء، فيجعل شيئين أو أكثر، وكذلك الإضعاف والمضاعفة» (5).

ويفهم من هذا الخبر أنّ بيان كيفيّة المرض ودخول حدّته وشدّته ليس بشكاية .

وقوله : (أشَعرتَ) بصيغة المتكلِّم المجهول، من الإشعار . أو بصيغة الخطاب المعلوم من الشعور ، والهمزة للاستفهام ؛ أي هل أحسستَ بذلك .

ص: 203


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «صدق»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «وإنّي»
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «قئت»
4- النهاية ، ج 5 ، ص 207 (وعك)
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1390 (ضعف) مع اختلاف يسير

قال الفيروزآبادي : «أشْعَرَهُ الأمرَ وبه: أعلمه. وشعر به _ كنشر وكرم _ شعورا: علم به، وفطن له ، وعقله» (1).

(أنّها لا تأخذ في الجسد كلّه) إلى قوله : (تأخذ في أعلى الجسد كلّه) .

لعلّ المراد أنّ حرارة الحمّى قد تظهر آثارها في أعالي الجسد ، وقد تظهر في أسافلها .

وقوله: (استعان بالماء البارد) .

قال بعض الشارحين : نظيره كثير من طرق العامّة .

روى مسلم تسعة:

منها: ما رواه عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : «الحمّى من فيح جهنّم، فأبردوها بالماء» (2).

ومنها: ما رواه أنّ أسماء كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة، فتدعو بالماء، فتصبّها في جيبها، وتقول : إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال : «أبردوها بالماء» ، وقال : «إنّها من فيح جهنّم» (3).

والفيح: شدّة حرّها .

قال محي الدِّين البغوي : بعض من في قلبه مرض من جَهَلة الأطبّاء يتلاعب، ويكثر من ذكر هذه الأحاديث استهزاءً ، ثمّ يشنّع ويقول : الأطبّاء مجمعون على أنّ اغتسال المحموم بالماء البارد مُهلِك؛ لأنّه يجمع المسامّ، ويحقُن البُخار المتحلّل، فتنعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فتهلِك . وهذا تعيير فيما لم يقله عليه السلام ؛ فإنّه عليه السلام قال : «أبردوها» ، فمن أين لهم أنّه أراد الانغماس؟!

فيحمل على أنّه أراد بالإبراد أدنى استعمال الماء البارد على وجهٍ ينفع ، ولا يبعد أن يُراد به أن يرشّ بعض الجسد بالماء، كما دلَّ عليه حديث أسماء .

فلا يبقى للملاحدة مطعن، وأيضا الأطبّاء يسقون صاحب الحمّى الصفراويّة الماء الشديد البرد، ويسقونه الثلج، ويغسلون أطرافه بالماء البارد ، فغير بعيد أن يكون عليه السلام أراد هذا النوع من الحمّى، وهذا النحو من الغسل على ما قالوه، أو قريبا منه (4).

وقوله : (يراوح بينهما) .

قال الجوهري : «المراوحة في العملين: أن يعمل هذا مرّة، وهذا مرّة» (5).

ص: 204


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 59 (شعر) مع اختلاف يسير
2- صحيح مسلم ، ج 2 ، ص 108 ؛ و ج 7 ، ص 23
3- المصدر
4- القائل والناقل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 44 و 45
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 370 (روح)

(ثمّ ينادي) .

قيل : لعلّ نداءه كان للاستشفاع بها صلوات اللّه عليها (1).

وقوله : (اشتكيتُ) أي مرضت .

وقوله : (محمّد بن إبراهيم) ؛ كأنّه ختنه عليه السلام باُخته، وهو محمّد بن إبراهيم الملقّب بالإمام ابن محمّد بن عليّ بن عبداللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب .

وقوله : (قَيَيتُ) بهمز اللام، على البناء للمفعول من التقيئة .

قال الفيروزآبادي : «قاء يقيء قَيْئا، وقيّأه الدواء، وأقاءه» (2).

وقوله : (زال كلّ مَفصل منّي) . كان كناية قدرته على القيء؛ إمّا للضعف، أو لعلّة اُخرى .

متن الحديث الثامن والثمانين

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ (3) بْنِ إِسْحَاقَ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ، قَالَ:قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «حُمَّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَأَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عليه السلام ، فَعَوَّذَهُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ يَا مُحَمَّدُ، وَبِسْمِ اللّهِ أَشْفِيكَ، وَبِسْمِ اللّهِ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُعْيِيكَ، (4) بِسْمِ اللّهِ وَاللّهُ شَافِيكَ، بِسْمِ اللّهِ خُذْهَا فَلْتَهْنِيكَ، بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ» (5). ، لَتَبْرَأَنَّ بِإِذْنِ اللّهِ». قَالَ بَكْرٌ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ رُقْيَةِ الْحُمّى، فَحَدَّثَنِي بِهذَا.

شرح الحديث

السند مجهول .

وروى الحميري في كتاب قرب الإسناد (6).

عن أحمد بن إسحاق الأشعري، وهو الظاهر؛ لروايته كثيرا عن بكر بن محمّد ، فالسند حينئذٍ صحيح .

ص: 205


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 265
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 25 (قاء)
3- في الطبعة الجديدة وبعض النسخ التي قوبلت فيها : «أحمد» بدل «محمّد»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «يعينك»
5- الواقعة (56) : 75
6- قرب الإسناد ، ص 20

قوله : (حُمَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ) على البناء للمفعول ؛ أي أصابته الحمّى، وصار محموما .

وقوله : (فعوّذه) .

قال الجوهري : «عاذ به، واستعاذ: لجأ إليه. وأعاذه وعوّذه بمعنى» (1).

وقوله : (بسم اللّه أرقيك) .

في المغرب: «رَقاه الراقي رقْيةً ورَقْيا، من باب ضرب: عوّذه، ونفث في عُوذته» (2).

وفي المصباح : «رقيت له رقية، من باب رَقيا: عوّذته باللّه » انتهى (3).

وقيل : معنى «بسم اللّه أرقيك»: بسم اللّه اُعوّذك، لا بغيره . والمراد بالاسم هنا المسمّى، كقوله : «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» (4). ، والاسم هو الكلمة الدالّة على المسمّى، إلّا أنّه قد يتّسع ، فيوضع الاسم موضع المسمّى مسامحة (5).

أقول : الظاهر حمله على الظاهر، ولا داعي لصرفه عنه؛ فإنّ أسماءه تعالى يتبرّك بها كما يتبرّك بذاته المقدّسة ؛ فإنّ لها أيضا فضيلة جزيلة، وخواصّ جليلة، وفضائل الاسم الأعظم والآثار المترتّبة عليه أكثر من أن تُحصى .

(وبسم اللّه أشفيك) . الظاهر أنّه من المجرّد، وكونه من باب الإفعال أو التفعيل محتمل . والشِّفاء، بالكسر: الدواء . يُقال : شفاه اللّه من مرضه شِفاءً، وشفّاه تشفيةً: برّأه، وطلب له الشفاء .

وحكى الجوهري ، عن أبي عبيد : «أشفاه اللّه عَسَلاً، إذا جعله له شفاءً» (6).

وقال بعض الشارحين : «معنى «بسم اللّه أشفيك»: اُعالجك بهذا الاسم ، فوضع الشفاء موضع العلاج والمداواة» (7). هذا كلامه، فليتأمّل .

وقوله : (يُعييك) (8) من الإعياء . يُقال : أعيا السيرُ البعير، إذا أكلّه . وداءٌ عَياء؛ أي صعب لا

ص: 206


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 567 (عوذ) مع اختلاف
2- المغرب ، ص320 (رقي)
3- المصباح المنير ، ص 236 (رقي) مع اختلاف
4- الأعلى (87) : 1
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 45
6- الصحاح ، ج 6 ، ص 2394 (شفي)
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 46
8- في الوافي كما في بعض نسخ الكافي : «يعنيك» . وقال في الوافي : «أي يقصدك . يقال : عنيت فلانا عنيا ، إذا قصدت . وقيل : معناه: من كلّ داء يشغلك ويهمّك»

دواء له، كأنّه أعيا الأطبّاء .

وفي كثير من النسخ: «يعنيك» من العناية ؛ يُقال : عناه الأمر يعنيه ويعنوه عناية _ بالفتح والكسر _ إذا أهمّه، وأشغله.

أو من الإعناء ؛ يُقال : أعناه الأمر، إذا أتعبه. وأعناه ؛ أي أذلّه، وأخضعه .

أو من التعنية، من قولهم : عني _ كرضي _ عناء؛ أي تَعِب، ونَصب. وعنّيته أنا تعنية .

وقوله : (خذها) ؛ كأنّ الضمير راجع إلى ما ذكر من الكلمات، أو إلى العوذة، أو إلى البسملة، أو إلى الرقية، أو إلى الشفاء .

وكذا المستتر في قوله : (فلتهنيكَ) بفتح اللام وكسرها، وفتح التاء وكسر النون، أو فتحها من الهنئ، وهو السائغ واللذيذ، وما أتاك بلا مشقّة. يُقال : هَنَأ لي الطعام يَهْنئ ويهنأ ، فهو هنيء .

وحكى الجوهري هنا في الطعام: «يهنئنِي ، ويَهْنؤني» (1).

وقوله : «فَلَا اُقْسِمُ» .

قال البيضاوي : كلمة «لا» للنفي؛ أي لا اُقسم ؛ إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قَسَم، أو فاُقسم ، و«لا» مزيدة للتأكيد، كما في «لئلّا يعلم» أو «فَلَأَنَا اُقسم» فحذف المبتدأ، واُشبع فتحة لام الابتداء ، ويدلّ عليه قراءة «فَلَاُقْسِمُ»، أو فلا مَردٌّ لكلام يخالف المقسم عليه .

«بِمَوَاقِعِ النُّجوُمِ» بمساقِطها . وتخصيص المغارب لما في غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثّر لا يزول تأثيره . أو بمنازلها ومجاريها .

وقيل : النجوم نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها (2).

وقوله : (لتبرأنّ) بكسر اللام، على صيغة الأمر من البرء . يُقال : بَرَأ من مرضه _ كعلم ومنع _ بُرْءً، بالضمّ: إذا صحّ .

وقوله : (وسألته عن رُقية الحُمّى، فحدّثني بهذا) أي حدّثني بهذا الحديث حين سألته عن رقية الحمّى .

ص: 207


1- راجع : الصحاح ، ج 1 ، ص 84 (هنأ)
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 292 (مع اختلاف يسير)

والرُّقية، بالضمّ وتخفيف الياء: العُوذة التي يُرقى بها صاحب الآفة، كالحمّى ونحوها .

متن الحديث التاسع والثمانين

اشارة

أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَا بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ _ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ _ كَفَاهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ (1). نَوْعا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، أَيْسَرُهُنَّ الْخَنْقُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (الخَنق) بفتح الخاء وكسر النون . يُقال : خنقه _ كنصر _ خَنقا، ككتف: إذا عصر حَلقه حتّى يموت، فهو خَنِق أيضا وخنيق ومخنوق . وككتاب: الحبْل يُخنَقُ به . وكغُراب: داءٌ يمتنع معه نفوذ النَّفَس إلى الرِّية والقلب .

متن الحديث التسعين

اشاره

حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الْمِيثَمِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ نُعْمَانَ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَغَضِبَ غَضَبا شَدِيدا» قَالَ: «وَكَانَ إِذَا غَضِبَ انْحَدَرَ عَنْ (2) جَبِينِهِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤِ مِنَ الْعَرَقِ» قَالَ: «فَنَظَرَ، فَإِذَا عَلِيٌّ عليه السلام إِلى جَنْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: الْحَقْ بِبَنِي أَبِيكَ مَعَ مَنِ انْهَزَمَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، لِي بِكَ أُسْوَةٌ، قَالَ: (3) فَاكْفِنِي هؤُلَاءِ، فَحَمَلَ، فَضَرَبَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَ مِنْهُمْ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام : إِنَّ هذِهِ لَهِيَ الْمُوَاسَاةُ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُ. فَقَالَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام : وَأَنَا مِنْكُمَا يَا مُحَمَّدُ».

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله إِلى جَبْرَئِيلَ عليه السلام عَلى كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ السَّمَاءِ

ص: 208


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «و سبعين»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «من»
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «فقال»

وَالْأَرْضِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا سَيْفَ إِلَا ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتى إِلَا عَلِيٌّ».

شرح الحديث

السند مجهول .

(الحَق ببني أبيك) محمول على الامتحان، أو التعريض بتعيير غيره عليه السلام ممّن انهزم وتوبيخهم ، واحتمال كون الأمر للرخصة بعيد .

وقوله : (اُسوة) ؛ هي بالضمّ والكسر: القدوة . وتأسّيت به: اقتديت ، وآسيتُه بنفسي، بالمدّ: سوّيته . ويجوز إبدال الهمزة واوا في لغة اليمن، فيُقال : واسيته . كذا في المصباح (1).

وقوله : (هؤلاء) إشارة إلى جماعة عليه .

وقوله : (فحمل) ؛ من الحملة في الحرب .

وقيل : في قول جبرئيل عليه السلام : (وأنا منكما) دلالة على أنّها أشرف منه حيث طلب أن يكون له منزلة من اللّه مثل منزلتهما .

وقوله : (ذو الفَقار) بفتح القاف .

واعلم أنّ مضمون هذا الخبر ممّا رواه الخاصّة والعامّة في كتبهم ؛ روى ابن أبي الحديد عن أبي عمرو محمّد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب، (2) ورواه أيضا محمّد بن حبيب في أماليه: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّا فرَّ معظم أصحابه عنه يوم اُحد ، كثرت عليه كتائب المشركين، وقَصَدَتهُ كتيبة من بني كنانة ، ثمّ من بني عبد مناة بن كنانة ، فيها بنو سفيان بن عويف؛ وهم: خالد بن سفيان، وأبو الشعثاء بن سفيان، وأبو الحمراء بن سفيان، وغراب بن سفيان ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «يا عليّ، اكفني هذه الكتيبة» فحمل عليها، وإنّها لتقارب خمسين فارسا، وهو عليه السلام راجل ، فما زال يضربها بالسيف، فتفرّق عنه، ثمّ تجتمع عليه ، هكذا مرارا حتّى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة ، وتمام العشرة منها ممّن لا يعرف بأسمائهم ، فقال جبرئيل : يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، إنّ هذه المواساة، لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «وما يمنعه، وهو منّي، وأنا منه» .

ص: 209


1- المصباح المنير ، ص 15 (أسو)
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 10 ، ص 182 ؛ و ج 14 ، ص 251

فقال جبرئيل : وأنا منكما . قال : وسُمع ذلك اليومَ صوتٌ من قبل السماء، لا يُرى شَخص الصارخ به، ينادي مرارا : لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا عليّ . فسُئِلَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنه ، فقال : «هذا جبرئيل» .

قلت : وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدّثين، وهو من الأخبار المشهورة، ووقفت عليه في بعض مغازي محمّد بن إسحاق، ورأيت بعضها خاليا عنه، وسألت شيخي عبد الوهّاب بن سكينة عن هذا الخبر، فقال : خبر صحيح .

فقلت له : فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال : أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة . انتهى (1).

متن الحديث الواحد والتسعين

اشاره

حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّهْقَانِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ عِيسى بَيَّاعِ السَّابِرِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي فُضَيْلٌ الْبُرْجُمِيُّ، قَالَ:كُنْتُ بِمَكَّةَ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَمِيرٌ، وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَقَالَ: ادْعُوا لِي قَتَادَةَ.

قَالَ: فَجَاءَ شَيْخٌ أَحْمَرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَدَنَوْتُ (2) لأسْمَعَ، فَقَالَ خَالِدٌ: يَا قَتَادَةُ، أَخْبِرْنِي بِأَكْرَمِ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، وَأَعَزِّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، وَأَذَلِّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللّهُ الْأَمِيرَ، أُخْبِرُكَ بِأَكْرَمِ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، وَأَعَزِّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، وَأَذَلِّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، وَاحِدَةٌ.

قَالَ خَالِدٌ: وَيْحَكَ وَاحِدَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللّهُ الْأَمِيرَ.

قَالَ: أَخْبِرْنِي.

قَالَ: بَدْرٌ.

قَالَ: وَكَيْفَ ذَا؟

ص: 210


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 14 ، ص 250 و 251
2- في الحاشية عن بعض النسخ: + «منه»

قَالَ: إِنَّ بَدْرا أَكْرَمُ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، بِهَا أَكْرَمَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْاءِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، (1). وَهِيَ أَعَزُّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، بِهَا أَعَزَّ اللّهُ الْاءِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَهِيَ أَذَلُّ وَقْعَةٍ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ، فَلَمَّا قُتِلَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ ذَلَّتِ الْعَرَبُ.

فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللّهِ، إِنْ كَانَ فِي الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْهُمْ، وَيْلَكَ يَا قَتَادَةُ، أَخْبِرْنِي بِبَعْضِ أَشْعَارِهِمْ.

قَالَ: خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ أَعْلَمَ لِيُرى مَكَانُهُ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَمْرَاءُ، وَبِيَدِهِ تُرْسٌ مُذَهَّبٌ وَهُوَ

يَقُولُ: مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الشَّمُوسُ مِنِّي

بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثُ السِّنِّ

لِمِثْلِ هذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي

فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللّهِ، إِنْ كَانَ ابْنُ أَخِي لَأَفْرَسَ مِنْهُ _ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قُشَيْرِيَّةً _ : وَيْلَكَ يَا قَتَادَةُ، مَنِ الَّذِي يَقُولُ: أُوفِي بِمِيعَادِي، وَأَحْمِي عَنْ حَسَبْ؟

فَقَالَ: أَصْلَحَ اللّهُ الْأَمِيرَ، لَيْسَ هذَا يَوْمَئِذٍ، هذَا يَوْمُ أُحُدٍ، خَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ يُنَادِي: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُجَهِّزُونَّا بِأَسْيَافِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَنَحْنُ نُجَهِّزُكُمْ بِأَسْيَافِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَلْيَبْرُزَنَّ إِلَيَّ رَجُلٌ يُجَهِّزُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ، وَأُجَهِّزُهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام وَهُوَ يَقُولُ:

«أَنَا ابْنُ ذِي الْحَوْضَيْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

وَهَاشِمِ المُطْعِمِ فِي الْعَامِ السَّغِبْ

أُوفِي بِمِيعَادِي وَأَحْمِي عَنْ حَسَبْ».

فَقَالَ خَالِدٌ لَعَنَهُ اللّهُ: كَذَبَ لَعَمْرِي وَاللّهِ أَبُو تُرَابٍ، مَا كَانَ كَذلِكَ.

فَقَالَ الشَّيْخُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، ائْذَنْ لِي فِي الأْصِرَافِ.

قَالَ: فَقَامَ الشَّيْخُ يُفَرِّجُ النَّاسَ بِيَدِهِ، وَخَرَجَ، وَهُوَ يَقُولُ: زِنْدِيقٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، زِنْدِيقٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.

ص: 211


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «بها أنزل اللّه الملائكة لإمداد الإسلام وأهله» بدل «بها أكرم اللّه _ عزّ وجلّ _ الإسلام وأهله»

شرح الحديث

السند مجهول .

وقيل : ضعيف (1). ، وفيه بحث .

قوله : (البُرْجُميّ) .

الظاهر أنّه منسوب إلى البُرجُمة، بضمّ الباء الموحّدة والجيم . وقيل : منسوب إلى البراجم (2).

قال الجوهري : البُرجمةُ، بالضمّ: واحدة البراجم، وهي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع والرواجب، وهي رؤوس السلاميات من ظهر الكفّ ، إذا قبض القابض كفّه نشرت وارتفعت . والبراجم: قوم من بني تميم . قال أبو عبيدة : خمسة من أولاد حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم يُقال لهم: البَراجم (3).

وقوله : (ادعوا لي قَتادة) ؛ كأنّه قتادة المشهور، من أعاظم مفسّري العامّة ومحدّثيهم، وكان من التابعين، روى عن أنس وأبي الطفيل وسعيد بن المسيّب والحسن البصري .

وقيل : كأنّه قتادة بن النعمان من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وقوله : (واحدة) خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على الحاليّة .

وقوله : (بدر) أي هي وقعة بدر .

وقوله : (ذلّت العرب) ؛ يعني لذهاب عظمائهم، وقتل رؤسائهم .

وقوله : (لعمر اللّه ) بفتح اللّام؛ أي اُقسم ببقاء اللّه ودوامه .

والعمر، بالضمّ وبضمّتين، وبالفتح: الحياة، والعيش الطويل .

(إن كان في العرب) .

كلمة «إن» مخفّفة من المثقّلة .

(يومئذٍ) أي يوم قتل قريش .

(هل هو أعزّ منهم) أي من قريش . وكأنّه _ لعنه اللّه _ زعم أنّ قبيلة قَسْر _ وهي بطن من

ص: 212


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 268
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 47
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1870 (برجم)

بُجيلة _ أعزّ من قريش، وهم لم يقتلوا يومئذٍ .

وقيل : لعلّ غرضه الحميّة لأبي سفيان وسائر بني اُميّة وخالد بن الوليد؛ فإنّهم كانوا يومئذٍ بين المشركين (1).

قال : «ويحتمل أن يكون مراده أنّ غلبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ وهو سيّد العرب _ يكفي لعزّهم، ولم يذلّوا بفقد هؤلاء» .

وقوله : (وقد أعلم) على بناء الفاعل .

(ليُرى مكانه) .

في القاموس : «أعلم الفرس: علّق عليه صوفا ملوّنا في الحرب. ونَفْسَه : وسَمَها بسيماء الحرب، كعلّمها» (2).

وقوله : (ليُرى) من الإراءة على البناء للفاعل، أو المفعول . وعلى الثاني يحتمل كونه من الرؤية .

والمراد بمكانه منزلته بين الشجعان والأبطال .

وقوله : (تُرْس مُذهّبٌ) .

الترس _ بالضمّ _ معروف . وفي القاموس: «الذهب: التبر. وأذهبه : طلّاه به ، كذهّبه، فهو مُذهب وذهيب ومُذَهّبٌ» (3).

وقوله : (ما تَنقم الحربُ الشموس منّي) .

قال الفيروزآبادي : «النقمة، بالكسر والفتح، وكفرحة: المكافأة بالعقوبة . ونقم منه، كضرب وعلم: عاقبه.

والأمرَ: كرهه» (4) وقال الجوهري : «نَقَمت على الرجل أنقم _ بالكسر _ فأنا ناقم، إذا عتبت عليه .

يُقال : ما نقمت منه إلّا الإحسان .

وقال الكسائي : نقِمت ، بالكسر لغة» (5).

وقال : «شَمَس الفرسُ شموسا وشماسا: منع ظهره، فهو شَموسٌ. ورجل شَموس: صَعْب الخلق» انتهى (6).

ص: 213


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 268 و 269
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 153 (علم)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 70 (ذهب)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 183 (نقم)
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 2045 (نقم)
6- الصحاح ، ج 3 ، ص 940 (شمس)

وكان وصف الحرب به باعتبار التشبيه في الإهلاك والاضطراب، أو الشدّة، أو عدم أمن صاحبه من المكاره .

وكلمة «ما» إمّا للاستفهام، أو للنفي، والمآل واحد ؛ أي لا يقدر الحرب التي لا يطيع المرء فيما يريد منها، ولا يقدر أن يركبها بسهولة أن تكافيني بالعقوبة، أو تُظهر عيبي .

والحاصل: أنّي لا اُبالي منها ومن شدائدها ومهالكها .

(بازل عامين حديث السنّ) ؛ كأنّ «بازل» منصوب على الحاليّة من ضمير المتكلّم، أو مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف ؛ أي أنا كذلك .

وقيل : إنّه مجرور على البدليّة من ضمير المتكلّم(1).

وقس عليه قوله : «حديث السنّ»، وغرضه أنّه في عنفوان الشباب، واستكمال القوّة والشجاعة .

قال الجزري :

ومنه حديث عليّ بن أبي طالب: بازل عامين حديث السنّ . البازل من الإبل الذي تمّ له ثماني سنين، ودخل في التاسعة ، وحينئذٍ يطلع نابه، وتكمل قوّته، يقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين .

يقول : أنا مستجمع الشباب مستكمل القوّة . انتهى (2).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام مثله هكذا :

«قد عرف الحرب العوان عنّي***بازل عامين حديث سنّي

سَنَحنحُ الليل كأنّي جنّي***أستقبل الحرب بكلّ فنِّ

معي سلاحي ومعي مجنّي***وصارمٌ يذهب كلّ ضغن

أقصي به كلّ عدوّ عنّي***لمثل هذا ولدتني اُمّي» (3).

في القاموس : «رجل سَنَحنح، لا ينام الليل» (4).

وقوله : (لأفرس منه) ؛ الظاهر أنّه للتفضيل في الفارس، بمعنى راكب الفرس، أو صاحبه، ويكون كناية عن الحاذق بركوب الخيل وأمرها، والشديد الشجاع .

ص: 214


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 270
2- النهاية ، ج 1 ، ص 125 (بزل)
3- بحار الأنوار ، ج 19 ، ص 323 ، ح 79
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 230 (سنح)

وقيل : الأفرس: الأشجع، من فرس الأسد فريسته، إذا دقّ عنقها (1).

وقوله : (يعني خالد بن الوليد) تفسير لابن أخيه، وهو يومئذٍ كان في حزب المشركين، فلمّا قتل أكثر صناديد القريش نجا بالفرار، وأسلم بعد فتح مكّة .

(وكانت اُمّه) أي اُمّ خالد .

(قسريّة) (2) ، ولذا قال: ابن أخي؛ لأنّ خالدا كانت اُمّه من قبيلته .

قال الجوهري : «قسر: بطن من بجيلة، وهم رهط خالد بن عبداللّه القَسْري» (3).

وفي بعض النسخ: «قُشريّة» بضمّ القاف، وسكون الشين المعجمة . والظاهر أنّه تصحيف؛ لأنّ خالد بن الوليد مشتهر بالقسري _ بالسين المهملة _ كما مرّ في صدر الحديث .

قال الفيروزآبادي : «قشير بن كعب بن ربيعة، كزُبَيْر: أبو قبيلة» (4).

وقوله : (طلحة بن أبي طلحة) ؛ هو طلحة بن أبي طلحة العبدري من بني عبد الدار، قتله أمير المؤمنين عليه السلام يوم اُحد .

(ينادي: من يُبارز) .

المبارزة في الحرب: الظهور والخروج من الصفّ للقتال .

وقوله : (إنّكم تزعمون أنّكم تُجهّزونا) .

هذا الكلام عنه على سبيل الاستهزاء، والتحريض على المبارزة، والتعيير بتركها . قال الفيروزآبادي : «جهاز الميّت والعروس والمسافر، بالكسر والفتح: ما يحتاجون إليه . وقد جهّزه تجهيزا، فتجهّز. وجهز على الجريح _ كمنع _ وأجهز: أثبت قتله، وأسرعه ، وتمّم عليه» انتهى (5).

ويحتمل أن يكون «تجهزونا» بتشديد النون، أو بتخفيفها، بناءً على حذف نون الجمع بغير قياس .

وقوله عليه السلام : (أنا ابن ذي الحَوضين) .

قيل : المراد الحوضين الذين صنعهما عبد المطّلب عند بئر زمزم لسقاية الحاجّ (6).

ص: 215


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 48
2- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «قُشيريّة»
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 791 (قسر)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 117 (قشر)
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 171 (جهز)
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 271

وفي القاموس: «الحوض : معروف. وذو الحوضين : عبد المطّلب، واسمه: شيبة، أو عامر بن هاشم» (1).

وقوله : «عبد المطّلب» بدل من «ذي الحوضين»، أو عطف بيان له .

وقوله : (وهاشم المُطعم في العام السَّغب) عطف على ذي الحوضين .

والسغب _ ككتف _ صفة مشبّهة، وبسكون الغين وفتحها مصدر . يُقال : سغب _ كعلم ونصر _ سَغْبا وسَغَبَا: جاع، أو لا يكون إلّا مع تعب، فهو ساغبٌ وسَغبان وسَغِبٌ.

وحمل السِّغْب على العامّ مبالغة في عموم القحط، وشيوعه فيه ، واسم هاشم عَمْرو، ويقال له: «عمرو العُلى»، ويكنّى أبا فضلة ، وإنّما سمّي هاشم؛ لهشمه الثريد للحاجّ، وكانت إليه الوفادة والرفادة، وهو الذي سنّ الرحلتين: رحلة الشتاء إلى اليمن والعراق، ورحلة الصيف إلى الشام . كذا في كتاب عمدة الطالب (2).

وقال بعض المؤرّخين : كان اسم هاشم بن عبد مناف عبد العلى، أو عمرو، ثمّ لقّب بهاشم؛ لأنّه كان يهشم الخبز، ويكسره، ويجعله ثريدا للفقراء، وذلك أنّه وقع في مكّة قحط عظيم، وكان لهاشم دقيق كثير فخبزه، وذبح في كلّ صباح وفي كلّ مساء إبلاً، وطبخه، وأطعم المحتاجين في كلّ يوم خبزا وثريدا، فاشتهر بهاشم (3).

وقوله : (اُوفي بميعادي) .

الإيفاء: ضدّ الغَدْر. والميعاد: وقت الوعد وموضعه . والوعد: يكون في الخير والشرّ .

وقيل : أراد هنا ميعاده مع الرسول صلى الله عليه و آله في نصرته (4). وأنت خبير بعدم الدليل على هذا التخصيص، فالأصوب إبقاؤه على العموم .

(وأحمي عن حسب) .

حماه يحميه حمايةً، بالكسر؛ أي دفع عنه . ولعلّ المراد أنّي أدفع العار عن حسبي وحسب آبائي؛ فإنّ دفع النقص والعار عنه ممّا يلزم أهل الكمال والدين والشرف.

ص: 216


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 271
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 329 (حوض)
3- عمدة الطالب لابن عنبة ، ص 25
4- اُنظر : تاريخ اليعقوبي ، ج 1 ، ص 241

وما قيل من احتمال كون الحَسَب بكسر السين؛ أي عن ذي حَسَب ، والمراد به الرسول صلى الله عليه و آله (1) ، فبُعده أظهر من أن يخفى .

قال الفيروزآبادي : الحَسَب: ما تعدّه من مفاخر آبائك ، أو الدِّين، أو الكرم ، أو الشرف في الفعل، أو الفعال الصالح ، أوالشرف الثابت في الآباء، أوالحَسَب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء، والشرف والمجد لا يكونان إلّا بهم. وقد حَسُب حسابةً _ كخطُب خطابةً _ وحسبا، محرّكة، فهو حسيب من حسباء (2).

متن الحديث الثاني والتسعين (حديث آدم عليه السلام مع الشجرة)

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عَهِدَ إِلى آدَمَ عليه السلام أَنْ لَا يَقْرَبَ هذِهِ الشَّجَرَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ فِي عِلْمِ اللّهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، نَسِيَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما» (3). ، فَلَمَّا أَكَلَ آدَمُ عليه السلام مِنَ الشَّجَرَةِ أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَوُلِدَ لَهُ هَابِيلُ وَأُخْتُهُ تَوْأَمٌ، وَوُلِدَ لَهُ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ تَوْأَمٌ.

ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عليه السلام أَمَرَ هَابِيلَ وَقَابِيلَ أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانا، وَكَانَ هَابِيلُ صَاحِبَ غَنَمٍ، وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ زَرْعٍ، فَقَرَّبَ هَابِيلُ كَبْشا مِنْ أَفَاضِلِ غَنَمِهِ، وَقَرَّبَ قَابِيلُ مِنْ زَرْعِهِ مَا لَمْ يُنَقَّ، فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُ قَابِيلَ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْاخَرِ» (4) إِلى آخِرِ الْايَةِ.

وَكَانَ الْقُرْبَانُ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَعَمَدَ قَابِيلُ إِلَى النَّارِ، فَبَنى لَهَا بَيْتا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنى بُيُوتَ النَّارِ، فَقَالَ: لَأَعْبُدَنَّ هذِهِ النَّارَ حَتّى تَتَقَبَّلَ مِنِّي قُرْبَانِي، ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ _ لَعَنَهُ اللّهُ _ أَتَاهُ، وَهُوَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ.

ص: 217


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 271
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 54 (حسب)
3- طه (20) : 115
4- المائدة (5) : 27

فَقَالَ لَهُ: يَا قَابِيلُ، قَدْ تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، وَإِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَهُ يَكُونُ لَهُ عَقِبٌ يَفْتَخِرُونَ عَلى عَقِبِكَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، فَاقْتُلْهُ؛ كَيْلَا يَكُونَ لَهُ عَقِبٌ يَفْتَخِرُونَ عَلى عَقِبِكَ.

فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَابِيلُ إِلى آدَمَ عليه السلام ، قَالَ لَهُ: يَا قَابِيلُ، أَيْنَ هَابِيلُ؟ فَقَالَ: اطْلُبْهُ حَيْثُ قَرَّبْنَا الْقُرْبَانَ، فَانْطَلَقَ آدَمُ عليه السلام ، فَوَجَدَ هَابِيلَ قَتِيلاً، فَقَالَ آدَمُ عليه السلام : لُعِنْتِ مِنْ أَرْضٍ كَمَا قَبِلْتِ دَمَ هَابِيلَ، وَبَكى آدَمُ عليه السلام عَلى هَابِيلَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

ثُمَّ إِنَّ آدَمَ سَأَلَ رَبَّهُ وَلَدا، فَوُلِدَ لَهُ غُلَامٌ، فَسَمَّاهُ هِبَةَ اللّهِ؛ لأنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَهَبَهُ لَهُ، وَأُخْتُهُ تَوْأَمٌ، فَلَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ عليه السلام ، وَاسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ، أَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَيْهِ (1) : أَنْ يَا آدَمُ، قَدِ انْقَضَتْ (2) نُبُوَّتُكَ، وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْاءِيمَانَ وَالأْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ هِبَةِ اللّهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَقْطَعَ الْعِلْمَ وَالْاءِيمَانَ وَالأْمَ الْأَكْبَرَ وَآثَارَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي، وَيُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ نُوحٍ، وَبَشَّرَ آدَمَ بِنُوحٍ عليه السلام ، فَقَالَ: إِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ بَاعِثٌ نَبِيّا اسْمُهُ نُوحٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، وَيُكَذِّبُهُ قَوْمُهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللّهُ بِالطُّوفَانِ، وَكَانَ بَيْنَ آدَمَ وَبَيْنَ نُوحٍ عليهماالسلام عَشَرَةُ آبَاءٍ أَنْبِيَاءُ وَأَوْصِيَاءُ كُلُّهُمْ.

وَأَوْصى آدَمُ عليه السلام إِلى هِبَةِ اللّهِ: أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ، وَلْيَتَّبِعْهُ، وَلْيُصَدِّقْ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْجُو مِنَ الْغَرَقِ.

ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عليه السلام مَرِضَ الْمَرْضَةَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ هِبَةَ اللّهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ لَقِيتَ جَبْرَئِيلَ، أَوْ مَنْ لَقِيتَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامُ، وَقُلْ لَهُ: يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ أَبِي يَسْتَهْدِيكَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: يَا هِبَةَ اللّهِ، إِنَّ أَبَاكَ قَدْ قُبِضَ، وَإِنَّا نَزَلْنَا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَارْجِعْ، فَرَجَعَ، فَوَجَدَ آدَمَ عليه السلام قَدْ قُبِضَ، فَأَرَاهُ جَبْرَئِيلُ كَيْفَ يُغَسِّلُهُ، فَغَسَّلَهُ حَتّى إِذَا بَلَغَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، قَالَ هِبَةُ اللّهِ: يَا جَبْرَئِيلُ، تَقَدَّمْ، فَصَلِّ عَلى آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ لأبِيكَ آدَمَ، وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَؤُمَّ شَيْئا مِنْ وُلْدِهِ، فَتَقَدَّمَ هِبَةُ اللّهِ، فَصَلّى عَلى أَبِيهِ، وَجَبْرَئِيلُ خَلْفَهُ وَجُنُودُ الْمَلَائِكَةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ

ص: 218


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : _ «إليه»
2- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي ومرآة العقول : «قضيت»

ثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَأَمَرَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام ، فَرَفَعَ خَمْسا وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً، وَالسُّنَّةُ الْيَوْمَ فِينَا خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَدْ كَانَ يُكَبَّرُ عَلى أَهْلِ بَدْرٍ تِسْعا وَسَبْعا.

ثُمَّ إِنَّ هِبَةَ اللّهِ لَمَّا دَفَنَ أَبَاهُ أَتَاهُ قَابِيلُ، فَقَالَ: يَا هِبَةَ اللّهِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَبِي آدَمَ قَدْ خَصَّكَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ أُخَصَّ بِهِ أَنَا، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي دَعَا بِهِ أَخُوكَ هَابِيلُ، فَتُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَإِنَّمَا قَتَلْتُهُ لِكَيْلَا يَكُونَ لَهُ عَقِبٌ فَيَفْتَخِرُونَ عَلى عَقِبِي، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبَانُهُ، وَأَنْتُمْ أَبْنَاءُ الَّذِي تُرِكَ قُرْبَانُهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أَظْهَرْتَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي اخْتَصَّكَ بِهِ أَبُوكَ شَيْئا، قَتَلْتُكَ كَمَا قَتَلْتُ أَخَاكَ هَابِيلَ.

فَلَبِثَ هِبَةُ اللّهِ وَالْعَقِبُ مِنْهُ مُسْتَخْفِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْاءِيمَانِ وَالأْمِ الْأَكْبَرِ وَمِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَآثَارِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، حَتّى بَعَثَ اللّهُ نُوحا عليه السلام ، وَظَهَرَتْ وَصِيَّةُ هِبَةِ اللّهِ حِينَ نَظَرُوا فِي وَصِيَّةِ آدَمَ عليه السلام ، فَوَجَدُوا نُوحا عليه السلام نَبِيّا قَدْ بَشَّرَ بِهِ آدَمُ عليه السلام ، فَآمَنُوا بِهِ، وَاتَّبَعُوهُ، وَصَدَّقُوهُ.

وَقَدْ كَانَ آدَمُ عليه السلام وَصّى هِبَةَ اللّهِ أَنْ يَتَعَاهَدَ هذِهِ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، فَيَكُونَ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَيَتَعَاهَدُونَ نُوحا وَزَمَانَهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَكَذلِكَ جَاءَ فِي وَصِيَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ، وَإِنَّمَا عَرَفُوا نُوحا بِالْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحا إِلى قَوْمِهِ» (1) إِلى آخِرِ الْايَةِ.

وَكَانَ مَنْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُسْتَخْفِينَ، وَلِذلِكَ خَفِيَ ذِكْرُهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُسَمَّوْا كَمَا سُمِّيَ مَنِ اسْتَعْلَنَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (2) ؛ يَعْنِي لَمْ أُسَمِّ الْمُسْتَخْفِينَ، كَمَا سَمَّيْتُ الْمُسْتَعْلِنِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ، فَمَكَثَ نُوحٌ عليه السلام فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَا خَمْسِينَ عَاما، لَمْ يُشَارِكْهُ فِي نُبُوَّتِهِ أَحَدٌ، وَلكِنَّهُ قَدِمَ عَلى قَوْمٍ مُكَذِّبِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عليه السلام ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» (3) ؛ يَعْنِي مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ عليه السلام ، إِلى أَنِ انْتَهى إِلى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (4)

ثُمَّ إِنَّ نُوحا عليه السلام لَمَّا انْقَضَتْ نُبُوَّتُهُ، وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ، أَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَيْهِ: أَنْ يَا نُوحُ، قَدْ

ص: 219


1- هود (11) : 25 ؛ المؤمنون (23) : 23 ؛ العنكبوت (29) : 14
2- النساء (4) : 164
3- الشعراء (26) : 105
4- .الشعراء (26) : 122

قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ، وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْاءِيمَانَ وَالأْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؛ فَإِنِّي لَنْ (1) أَقْطَعَهَا، كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ آدَمَ عليه السلام ، وَلَنْ أَدَعَ الْأَرْضَ إِلَا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي، وَتُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَ قَبْضِ النَّبِيِّ إِلى خُرُوجِ النَّبِيِّ الْاخَرِ، وَبَشَّرَ نُوحٌ سَاما بِهُودٍ عليه السلام ، وَكَانَ (2) فِيمَا بَيْنَ نُوحٍ وَهُودٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ، وَقَالَ نُوحٌ: إِنَّ اللّهَ بَاعِثٌ نَبِيّا يُقَالُ لَهُ: هُودٌ، وَإِنَّهُ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُكَذِّبُونَهُ، وَاللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مُهْلِكُهُمْ بِالرِّيحِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيُؤْمِنْ بِهِ وَلْيَتَّبِعْهُ؛ فَإِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الرِّيحِ، وَأَمَرَ نُوحٌ عليه السلام ابْنَهُ سَاما أَنْ يَتَعَاهَدَ هذِهِ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، فَيَكُونَ يَوْمُئِذٍ عِيدا لَهُمْ، فَيَتَعَاهَدُونَ فِيهِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْاءِيمَانِ وَالأْمِ الْأَكْبَرِ وَمَوَارِيثِ الْعِلْمِ وَآثَارِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، فَوَجَدُوا هُودا نَبِيّا عليه السلام ، وَقَدْ بَشَّرَ بِهِ أَبُوهُمْ نُوحٌ عليه السلام ، فَآمَنُوا بِهِ، وَاتَّبَعُوهُ، وَصَدَّقُوهُ، فَنَجَوْا مِنْ عَذَابِ الرِّيحِ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودا» (3) ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ» (4) ، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» (5) ، وَقَوْلُهُ: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًا هَدَيْنا» لِنَجْعَلَهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ «وَنُوحا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» (6) لِنَجْعَلَهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وأَمَرَ الْعَقِبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مَنْ كَانَ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ لأِبْرَاهِيمَ عليه السلام ، وَكَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَهُودٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» (7) ، وَقَوْلُهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» (8) ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (9) .

فَجَرى بَيْنَ كُلِّ نَبِيَّيْنِ عَشَرَةُ أَنْبِيَاءَ وَتِسْعَةُ وَثَمَانِيَةُ أَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ أَنْبِيَاءُ، وَجَرى لِكُلِّ نَبِيٍّ مَا جَرى لِنُوحٍ عليه السلام ، وَكَمَا جَرى لآِدَمَ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ عليه السلام حَتَّى انْتَهَتْ إِلى يُوسُفَ بْنِ

ص: 220


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «لم»
2- في الطبعة الجديدة و معظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فكان»
3- الأعراف (7) : 65
4- الشعراء (26) : 123 و 124
5- البقرة (2) : 132
6- الأنعام (6) : 84
7- هود (11) : 89
8- العنكبوت (29) : 26
9- العنكبوت (29) : 16

يَعْقُوبَ عليه السلام ، ثُمَّ صَارَتْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ فِي أَسْبَاطِ إِخْوَتِهِ حَتَّى انْتَهَتْ إِلى مُوسى عليه السلام ، فَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَبَيْنَ مُوسى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ، فَأَرْسَلَ اللّهُ مُوسى وَهَارُونَ عليهماالسلام إِلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ الرُّسُلَ تَتْرى، «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضا وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» (1) ، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ نَبِيّا وَاثْنَانِ قَائِمَانِ، وَيَقْتُلُونَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعَةٌ قِيَامٌ، حَتّى أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا قَتَلُوا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ سَبْعِينَ نَبِيّا، وَيَقُومُ سُوقُ قَتْلِهِمْ آخِرَ النَّهَارِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ عَلى مُوسى عليه السلام ، بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَمُوسى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ وَصِيُّ مُوسى يُوشَعَ بْنَ نُونٍ عليه السلام ، وَهُوَ فَتَاهُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله حَتّى بَعَثَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَبَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: «يَجِدُونَهُ _ يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارى _ مَكْتُوبا _ يَعْنِي صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله _ عِنْدَهُمْ _ يَعْنِي فِي التَّوْراةِ وَالْاءِنْجِيلِ _ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» (2) ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يُخْبِرُ عَنْ عِيسى: «وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (3) .

وَبَشَّرَ مُوسى وَعِيسى بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، كَمَا بَشَّرَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتّى بَلَغَتْ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ، فَلَمَّا قَضى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله نُبُوَّتَهُ، وَاسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ، أَوْحَى اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ، وَاسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ الْعِلْمَ الَّذِي عِنْدَكَ وَالْاءِيمَانَ وَالأْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام ؛ فَإِنِّي لَمْ أَقْطَعِ الْعِلْمَ وَالْاءِيمَانَ وَالأْمَ الْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ الْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِيكَ آدَمَ، وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (4)

وَإِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَمْ يَجْعَلِ الْعِلْمَ جَهْلاً، وَلَمْ يَكِلْ أَمْرَهُ إِلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، لَا إِلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا (5) نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلكِنَّهُ أَرْسَلَ رَسُولاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ (6) كَذَا وَكَذَا، فَأَمَرَهُمْ بِمَا يُحِبُّ،

ص: 221


1- المؤمنون (23) : 44
2- الأعراف (7) : 157
3- الصفّ (61) : 6
4- آل عمران (3) : 33
5- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : + «إلى»
6- في الحاشية عن بعض النسخ : + «له»

وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَكْرَهُ، فَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَمْرَ خَلْقِهِ بِعِلْمٍ، فَعَلِمَ ذلِكَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَ أَنْبِيَاءَهُ وَأَصْفِيَاءَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ (1) وَالْاءِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَذلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكا عَظِيما» ؛ (2) فَأَمَّا الْكِتَابُ فَهُوَ النُّبُوَّةُ، وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَهُمُ الْحُكَمَاءُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَأَمَّا الْمُلْكُ الْعَظِيمُ فَهُمُ الْأَئِمَّةُ [الْهُدَاةُ] (3) مِنَ الصَّفْوَةِ، وَكُلُّ هؤُلَاءِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ جَعَلَ اللّهُ فِيهِمُ الْبَقِيَّةَ، وَفِيهِمُ الْعَاقِبَةَ، وَحِفْظَ الْمِيثَاقِ حَتّى تَنْقَضِيَ الدُّنْيَا، وَالْعُلَمَاءَ (4) وَلِوُلَاةِ الْأَمْرِ اسْتِنْبَاطُ الْعِلْمِ، وَلِلْهُدَاةِ.

فَهذَا شَأْنُ الْفُضَّلِ مِنَ الصَّفْوَةِ وَالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدى وَالْخُلَفَاءِ الَّذِينَ هُمْ وُلَاةُ أَمْرِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللّهِ، وَأَهْلُ آثَارِ عِلْمِ اللّهِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ الَّتِي بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ مِنَ الصَّفْوَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مِنَ الْابَاءِ وَالْاءِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنِ اعْتَصَمَ بِالْفُضَّلِ انْتَهى بِعِلْمِهِمْ، وَنَجَا بِنُصْرَتِهِمْ، وَمَنْ وَضَعَ وُلَاةَ أَمْرِ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَأَهْلَ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِهِ فِي غَيْرِ الصَّفْوَةِ مِنْ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام ، فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَعَلَ الْجُهَّالَ وُلَاةَ أَمْرِ اللّهِ، وَالْمُتَكَلِّفِينَ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ اسْتِنْبَاطِ عِلْمِ اللّهِ، فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ، وَرَغِبُوا عَنْ وَصِيِّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَضَعُوا فَضْلَ اللّهِ حَيْثُ وَضَعَهُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي آلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ؛ لِقَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما» ، فَالْحُجَّةُ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام وَأَهْلُ بُيُوتَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام حَتّى تَقُومَ السَّاعَةُ؛ لأنَّ كِتَابَ اللّهِ يَنْطِقُ بِذلِكَ وَصِيَّةُ اللّهِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ» (5) ، وَهِيَ بُيُوتَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْحُكَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدى، فَهذَا بَيَانُ عُرْوَةِ الاْءِيمَانِ الَّتِي نَجَا بِهَا مَنْ نَجَا قَبْلَكُمْ، وَبِهَا يَنْجُو مَنْ يَتَّبِعُ الْأَئِمَّةَ، وَقَالَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِي كِتَابِهِ: «وَنُوحا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطا وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * وَمِنْ آبائِهِمْ

ص: 222


1- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي و شرح المازندراني: «الآباء»
2- النساء (4): 54
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «الهدى». وفي الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : - «الهداة»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «للعلماء»
5- النور (24) : 36

وَذُرِّيّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * [... ]أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْما لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» (1).

؛ فَإِنَّهُ وَكَّلَ بِالْفُضَّلِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْاءِخْوَانِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: إِنْ تَكْفُرْ بِهِ أُمَّتُكَ فَقَدْ وَكَّلْتُ أَهْلَ بَيْتِكَ بِالْاءِيمَانِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ ، فَلَا يَكْفُرُونَ بِهِ أَبَدا، وَلَا أُضِيعُ الْاءِيمَانَ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِكَ عُلَمَاءِ أُمَّتِكَ، وَوُلَاةِ أَمْرِي بَعْدَكَ، وَأَهْلِ اسْتِنْبَاطِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كَذِبٌ وَلَا إِثْمٌ وَلَا زُورٌ وَلَا بَطَرٌ وَلَا رِيَاءٌ، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُ هذِهِ الْأُمَّةِ، إِنَّ اللّهَ _ جَلَّ وَعَزَّ _ طَهَّرَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ عليهم السلام ، وَسَأَلَهُمْ أَجْرَ الْمَوَدَّةِ، وَأَجْرى لَهُمُ الْوَلَايَةَ، وَجَعَلَهُمْ أَوْصِيَاءَهُ وَأَحِبَّاءَهُ ثَابِتَةً بَعْدَهُ فِي أُمَّتِهِ.

فَاعْتَبِرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا قُلْتُ، حَيْثُ وَضَعَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَلَايَتَهُ وَطَاعَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ وَاسْتِنْبَاطَ عِلْمِهِ وَحُجَجَهُ، فَإِيَّاهُ فَتَقَبَّلُوا، وَبِهِ فَاسْتَمْسِكُوا تَنْجُوا بِهِ، وَتَكُونُ لَكُمُ الْحُجَّةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَطَرِيقُ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَزَّ، لَا تَصِلُ وَلَايَةٌ إِلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَا بِهِمْ، فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ كَانَ حَقّا عَلَى اللّهِ أَنْ يُكْرِمَهُ، وَلَا يُعَذِّبَهُ، وَمَنْ يَأْتِ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ كَانَ حَقّا عَلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُذِلَّهُ، وَأَنْ يُعَذِّبَهُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (عهد إلى آدم) أي أمره وأوصاه .

وقوله : (أن لا يقرب هذه الشجرة) أي لا يتناول، ولا يأكل منها. عبّر عنها بالقُرب مبالغةً في تحريمها .

وقال البيضاوي : الشجرة: هي الحنطة، أو الكرمة، أو التينة، أو شجرة من أكل منها أحدث _ قال : _ والأولى أن لا تعيّن من غير قاطع، كما لم تعيّن في الآية؛ لعدم توقّف ما هو المقصود عليه . انتهى (2).

ونقل الاختلاف عن الاُمّة في نهيه عليه السلام عن أكل الشجرة نهي تنزيه أو تحريم ، فمذهب علمائنا الأوّل، وقالوا : لا ينافيه نسبة العصيان والغواية إليه في قوله تعالى : «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ

ص: 223


1- الأنعام (6) : 84 - 89
2- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 297

فَغَوى» (1) بناءً على أنّ المتّصف بهما هو الذي ارتكب كبيرة من الذنوب، أو صغيرة منها، بدليل قوله تعالى : «وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ» (2) ، وقوله : «إِلَا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ» (3). ؛ فإنّ متابعة إبليس كبيرة، أو صغيرة ، ووجه عدم المنافاة أنّ حصر العصيان والغواية في الكبيرة والصغيرة ممنوع؛ إذ كما أنّهما يتحقّقان بفعل القبيح والحرام، كذلك يتحقّقان بترك الأولى والمندوب .

وأمّا العصيان والغواية في الآية فإنّما يراد بهما ما حصل بفعل محرّم ؛ ألا ترى أنّك إذا قلت لرجل على سبيل التنزيه : لا تفعل كذا؛ فإنّ الخير في خلافه ، ففعله ، صحّ لك أن تقول : عصاني، وخالفني، فغوى؛ أي خاب عن ذلك الخير . أو يُراد أنّه ضلّ عن مطلوبه بناءً على ما قيل من أنّه عليه السلام طلب الخلد بأكلها ، أو عن المأمور به، أو عن الرشد حيث اغترّ بقول العدوّ .

وتفصيل المقام ما أفاده بعض الأفاضل الكرام حيث قال :

اعلم أنّ أقوى شبهة المخطئين للأنبياء الظواهر الدالّة على عصيان آدم عليه السلام ، وحملوها على ظواهرها بناءً على أصلهم من عدم وجوب عصمة الأنبياء ، وضبط القول في ذلك أنّ الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة :

أحدها : ما يقع في باب العقائد .

وثانيها : ما يقع في التبليغ .

وثالثها : ما يقع في الأحكام والفتيا .

ورابعها : في أفعالهم وسيرهم .

أمّا الكفر والضلال في الاعتقاد، فقد أجمعت الاُمّة على عصمتهم عنها قبل النبوّة وبعدها ، غير أنّ الأزارقة من الخوارج جوّزوا عليهم الذنب، وكلّ ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم، بل يحكى عنهم أنّهم قالوا: يجوز أن يبعث اللّه نبيّا علم أنّه يكفر بعد نبوّته .

وأمّا النوع الثاني _ وهو ما يتعلّق بالتبليغ _ فقد اتّفقت الاُمّة، بل جميع أرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلّق [بالتبليغ ]عمدا

ص: 224


1- طه (20) : 121
2- الجنّ (72) : 23
3- الحجر (15): 42

وسهوا إلّا القاضي أبا بكر؛ فإنّه جوّز ما كان من ذلك على سبيل النسيان وفَلَتات اللِّسان .

وأمّا النوع الثالث _ وهو ما يتعلّق بالفتيا _ فأجمعوا على أنّه لا يجوز خطاؤهم فيه عمدا وسهوا إلّا شرذمة قليلة من العامّة .

وأمّا النوع الرابع _ وهو الذي يقع في أفعالهم _ فقد اختلفوا فيه على خمسة أقوال : الأوّل : مذهب أصحابنا الإماميّة، وهو أنّه لا يصدر عنهم الذنب لا صغيرة ولا كبيرة، لا عمدا ولا نسيانا، ولا للإسهاء من اللّه ، ولم يخالف فيه إلّا الصدوق وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد؛ فإنّهما جوّزا الإسهاء، لا السهو الذي يكون من الشيطان .

الثاني : أنّه لا يجوز عليهم الكبائر، ويجوز عليهم الصغائر، إلّا الصغائر الخسيسة المنفّرة، كسرقة حبّة أو لقمة، وكلّ ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضعة، وهذا قول أكثر المعتزلة .

الثالث : أنّه لا يجوز إتيانهم بصغيرة ولا كبيرة على جهة العمد، لكن يجوز على جهة التأويل أو السهو . وهو قول أبي عليّ الجبائي .

الرابع : أنّه لا يقع منهم الذنب إلّا على جهة السهو والخطأ، لكنّهم مأخوذون بما يقع منهم سهوا، وإن كان موضوعا عن اُممهم؛ لقوّة معرفتهم وعلوّ مرتبتهم، وأنّهم يقدرون من التحفّظ على ما لا يقدر عليه غيرهم . وهو قول النظام، وجعفر بن مبشر، ومن تبعهما .

الخامس : أنّه يجوز عليهم الكبائر والصغائر عمدا وسهوا وخطأً . وهو قول الحشويّة، وكثير من أصحاب الحديث من العامّة .

ثمّ اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : الأوّل : أنّه من وقت ولادتهم إلى أن يَلقُوا اللّه سبحانه . وهو مذهب أصحابنا الإماميّة .

والثاني : أنّه من حين بلوغهم، ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوّة . وهو مذهب كثير من المعتزلة .

والثالث : أنّه وقت النبوّة ، وأمّا قبله فيجوز صدور المعصية عنهم . وهو قول أكثر الأشاعرة .

وبه قال أبو هذيل، وأبو عليّ الجبائي من المعتزلة .

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ العمدة فيما اختاره أصحابنا قول أئمّتنا عليهم السلام ، وإجماع

ص: 225

أصحابنا مع تأيّده بالنصوص المتظافرة حتّى صار ذلك من قبيل الضروريّات في مذهبنا ، وقد استدلّوا بالأدلّة العقليّة أيضا . انتهى (1).

والجواب عن شبه المخالفين ما عرفت .

وقوله : (فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي، فأكل منها) .

تحقيقه ما مرّ في الاُصول من كون علمه تعالى تابعا للمعلوم، وعدم علّيّته له . نعم ، لمّا علم أكله، أراد أن يأكله؛ ليطابق علمه بالمعلوم إرادة تخيير واختيار، لا إرادة حتم وإجبار.

وبه يظهر سرّ ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : «نهى آدم عن أكل الشجرة، وشاء أن يأكل منها، ولو لم يشأ لم يأكله» (2).

وأيضا يندفع به التنافي بين إرادة الأكل والنهي عنه المتضمّن لإرادة تركه .

وهذا التوجيه جارٍ في أفعال العباد من المناهي كلّها .

وقوله تعالى : «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلى آدَمَ» .

قال البيضاوي : أي ولقد أمرناه . يُقال : تقدّم الملك إليه، وأوعَزَ إليه، وعزم عليه، وعهد إليه، إذا أمره . واللام جواب قسم محذوف .

«مِنْ قَبْلُ» ؛ من قبل هذا الزمان .

«فَنَسِىَ» العهد، ولم يَعْنِ به حتّى غفل عنه، أو ترك ما وُصّي به من الاحتراز عن الشجرة .

«وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما» (3) تصميم رأي وثبات على الأمر؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلّب لم يزلّه الشيطان، ولم يستطع تغريره ، ولعلّ ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرّب الاُمور، ويذوق مشوبها (4).

وقيل : عزما على الذنب؛ لأنّه أخطأ، ولم يتعمّد، ولم نجد إن كان من الوجود الذي

ص: 226


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 272 - 274
2- الكافي ، ج 1 ، ص 150 ، ح 3
3- طه (20) : 115
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 72 و 73

بمعنى العلم، فله عزما مفعولاً، وإن كان من الوجود المناقض للعدم، فله حال من عزما، أو متعلّق ب «نجد» انتهى (1).

وقد ورد في كثير من الأخبار تفسير النسيان بالترك . وقال الجزري : «أصل النسيان: الترك» (2) . واعلم أنّه قد مرَّ في كتاب الإيمان والكفر من الاُصول عن أبي جعفر: أنّ المراد بالعهد في هذه الآية العهد إلى آدم عليه السلام بخلافة المهديّ عليه السلام (3). ؛ ولا تنافي بينهما؛ إذ العهد المطلق شامل لهما .

وقوله : (اُهبط منها) صيغة المجهول ؛ أي اُنزل .

وقوله : (توأم) .

قال الفيروزآبادي : التوءم من جميع الحيوان: المولود مع غيره في بطن من الاثنين فصاعدا، ذكرا أو اُنثى. والجمع: توائم ، وتؤام، كرخال. ويقال: توأم للذكر وتوأمة للاُنثى، فإذا جُمِعا فهما تَوْأمان وتَوأم (4).

وقال الجوهري : «قال الخليل : تقدير توأم فَوعَلٌ، وأصله وَوْأم، فاُبدل من إحدى الواوين تاء، كما قالوا: تولج من وَلَج» (5).

وقوله : (كبشا) بسكون الباء .

في القاموس: «الكَبْش: الحَمَل إذا أثنى ، أو إذا خرجت رباعيته» (6).

وقوله : (ما لم يُنَقَّ) على بناء المفعول، من التنقية، أو الإنقاء .

قال الجوهري : «التنقية: التنظيف» (7). وقال الجزري : «التنقية: إفراد الجيّد من الرديء» (8).

وفي المصباح: «نَقِي الشيء _ من باب علم _ نقاء، بالفتح والمدّ: نَظُف، ويُعدّى بالهمزة» (9).

ص: 227


1- في الحاشية: «حاصله : أنّ العزم المنفيّ، وهو العزم القويّ على تحفّظ العهد؛ إذ لو كان له ذلك العزم لم يأكل من الشجرة، ولم يرتكب خلاف الأولى . منه». اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 51
2- النهاية ، ج 5 ، ص 50 (نسي)
3- .الكافي ، ج 1 ، ص 416 ، ح 22
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 82 (توأم)
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 1876 (تأم)
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 285 (كبش)
7- الصحاح ، ج 6 ، ص 2515 (نقا)
8- النهاية ، ج 5 ، ص 111 (نقا)
9- المصباح المنير ، ص 623 و 624 (نقي)

وقوله تعالى : «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقِّ» .

قال البيضاوي : بالحقّ، صفة مصدر محذوف؛ أي تلاوة ملتبسة بالحقّ. أو حال من الضمير في «اُتل»، أو من «نبأ»؛ أي ملتبسا بالصدق، موافقا لما في كتب الأوّلين .

«إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانا» ظرف ل «نبأ»، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف ؛ أي اُتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت .

والقربان: اسم لما يتقرّب به إلى اللّه من ذبيحة، أو غيرها ، كما أنّ الحُلوان اسم ما يُحلى [به] ؛ أي يُعطى ، وهو في الأصل مصدر، ولذلك لم يثنّ .

وقيل : تقديره : إذ قرّب كلّ واحدٍ منهما قربانا . قيل : كان قابيل صاحب زرع، وقرّب أردأ قمح عنده ، وهابيل صاحب ضَرع، وقرّب حَمَلاً سمينا .

«فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْاخَرِ» (1) ؛ لأنّه سخط حكم اللّه ، ولم يخلص النيّة في قربانه، وقصد إلى أخسّ ما عنده .

«قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ» ؛ نوعده بالقتل؛ لفرط الحسد له على تقبّل قربانه، ولذلك قال : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ» في جوابه ؛ أي إنّما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى، لا من قبلي، فلِمَ تقتلني .

وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا، لا في إزالة حظّه؛ فإنّ ذلك ممّا يضرّه ولا ينفعه، وإنّ الطاعة لا تُقبل إلّا من متّقٍ (2).

وقوله : (فعمد) أي قصد .

وقوله : (يجري من ابن آدم مجرى الدم) .

نقل عن الأزهري أنّه قال : «معناه أنّ الشيطان لا يفارق ابن آدم ما دام حيّا، كما لا يفارق دمه» .

وقال : هذا على طريق ضرب المثل، والأكثر أجروه على ظاهره، وقالوا : إنّ الشيطان جعل له هذا المقدار من التطرّق إلى باطن الآدمي، إلى أن يصل إلى قلبه، فيوسوسه على

ص: 228


1- المائدة (5) : 27
2- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 315

حسب ضعف إيمانه وقلّة ذكره وكثرة غفلته، ويبعد عنه، ويقلّ وسوسته وتسلّطه وسلوكه إلى باطنه بمقدار قوّته ويقظته ودوام ذكره وإخلاص توحيده . ويشهد لذلك ظواهر الكتاب والسنّة (1).

وقوله : (يكون له عقب يفتخرون) .

في القاموس: «العَقْبُ: الوَلَد، وولد الولد، كالعَقِب ، ككتف» (2).

وفيه: «الافتخار: التمدّح بالخصال» (3).

وقوله : (فقتله) .

قيل : كان هابيل أقوى منه، ولكن تحرّج عن قتله، واستسلم منه خوفا من اللّه ؛ لأنّ الدفع لم يُبَح بعدُ (4).

وقيل : إنّه قتل، وهو ابن عشرين سنة عند عقبة حذّاء. وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم (5).

وقوله : (فلمّا رجع قابيل) إلى آخره .

قال بعض المؤرّخين : «كان آدم عليه السلام عند وقوع تلك الواقعة مشتغلاً بأداء مناسك الحجّ ، فلعلّ رجوع قابيل إليه كان بعد عوده عليه السلام من مكّة» (6).

وروي أنّه لمّا قتله، اسودّ جسده، فسأله آدم عن أخيه، فقال : ما كنتُ عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته، ولذلك اسودّ جسدك، وتبرّأ منه، ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك (7).

وقوله : (فوجد هابيل قتيلاً) .

يظهر ممّا ذكرنا أنّه عليه السلام وجده مدفونا ، ويدلّ عليه أيضا قوله تعالى : «فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» الآية (8).

ص: 229


1- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 52
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 106 (عقب)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 108 (فخر)
4- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 53
5- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 279
6- اُنظر: شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 51
7- اُنظر : تفسير جوامع الجامع ، ج 1 ، ص 494 ؛ تفسير الرازي ، ج 11 ، ص 208 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 318 ؛ تفسير أبي السعود ، ج 3 ، ص 29 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 6 ، ص 115
8- المائدة (5) : 31

وقوله : (لُعِنْتِ من أرض) على البناء للمفعول، بصيغة المؤنّث للمخاطبة ، خاطب عليه السلام القطعة من الأرض التي قُتل فيها ابنه بالدعاء عليها، وقد شاع ذمّ المكان والزمان باعتبار وقوع الفعل فيهما .

وقيل : يحتمل أن يكون لُعِنَتْ _ بسكون التاء _ مسندا إلى ضمير القطعة منها ، وكلمة «من» على التقديرين بيانيّة، أو للتبعيض، باعتبار أنّ الملعونة هي تلك القطعة من الأرض لا جميعها؛ إذ لها قطع مباركة طيّبة نزلت فيها الرحمة والخير دائما(1).

واللعن: الطرد، والإبعاد . والملعون: المشؤوم البعيد من الخير .

وقوله : (فسمّاه هبة اللّه ) .

قيل : دلّ هذا على أنّه عليه السلام يعرف لغة العرب، ويتكلّم بها . وقيل: اسمه بالسريانيّة: «شيث»، والتسمية ب «هبة اللّه » من العرب (2).

وقوله : (واُخته توأم) عطف على «غلام»، و«توأم» خبر مبتدأ محذوف، والجملة حال من المعطوف ، بل من المعطوف عليه أيضا .

ويحتمل أن يكون الواو للحال، و«اُخته توأم» مبتدأ وخبر، أو تكون الجملة حالاً من «غلام» .

وقيل: فيه ردّ لما ذكره بعض العامّة من أنّه تولّد من حوّاء منفردا بخلاف سائر الإخوة .

وقوله : (استكمل أيّامه) .

في الصحاح: «استكمله: استتمّه» (3).

وفي القاموس: «أكمله واستكمله وكمّله: أتمّه، وجمّله»(4) .

وقوله : (قد قضيت نبوّتك) على صيغة المخاطب المعلوم، أو الغائبة المجهولة.

وقس عليه قوله : (واستكملت أيّامك) .

وقوله : (فاجعل العلم) إلى قوله : (وآثار علم النبوّة) .

ص: 230


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 53
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 53
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1813 (كمل)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 46 (كمل)

قيل : لعلّ المراد بالعلم العلم بالأحكام وغيرها ممّا اُوحي إليه، وبالإيمان اُصول الدِّين وأركانه، وبالاسم الأكبر الاسم الأعظم، أو كتاب الأنبياء .

روى المصنّف رحمه الله في باب ما نصّ اللّه ورسوله على الأئمّة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : «أنّ الاسم الأكبر هو الكتاب الذي يعلم به علم كلّ شيء، الذي كان مع الأنبياء» (1). والمراد بميراث العلم الإرشاد والتعليم والهداية والخلافة . وبآثار علم النبوّة الصلاح والكرامات والأسرار التي لايجوز للنبيّ إظهاره لغير الوصيّ .

وقال بعض المؤرّخين من العامّة : إنّ آدم عليه السلام أخرج صندوقا أبيض عند وصيّته إلى شيث عليه السلام ، وفتح قفله، وأخرج منه صحيفة بيضاء، ونشرها، فبلغ نورها شرقا وغربا، وكانت فيها أسامي جميع الأنبياء والأوصياء وصفاتهم وعلاماتهم ومعجزاتهم وأزمنتهم وأيّامهم ومدّة عمرهم وما يرد عليهم من القضاء والبلاء، أوّلهم آدم عليه السلام ، وآخرهم خاتم الأنبياء، وسائرهم على الترتيب، فعرضهم على شيث، ثمّ وضعها في الصندوق، ودفعه إلى شيث، وأمره بحفظه (2).

وقوله : (في العقب من ذرّيّتك) .

كلمة «من» للتبيين، أو للتبعيض. وذرّيّة الرجل: ولده .

وقوله : (عند هبة اللّه ) بيان للذرّيّة .

ويفهم منه أنّ الرسالة والنبوّة والوصاية من لدن آدم عليه السلام إلى من بلغ إنّما كانت بأمر اللّه عزّ وجلّ، وتنصيص الأنبياء ووصيّتهم وهكذا كانت سنّة اللّه فيهم، فبطل قول من زعم تفويض الخلافة والإمامة إلى إجماع الجهلة من هذه الاُمّة، «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (3) .

وقوله : (ولن أدَع الأرض) أي لن أتركها .

وقوله : (ويكون نجاة) .

اسم «يكون» العالم المذكور، أو ما عنده من آثار علم النبوّة .

والمراد بالنجاة نجاة الدارين

ص: 231


1- الكافي ، ج 1 ، ص 293 ، ح 3. وعنه في بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 142 ، ح 29
2- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 53
3- ص (38) : 27

لمن مضى بسيرة العلماء، واستنّ بسنّتهم، والنجاة من عقوبة الدُّنيا لمن لم يكن بهذه المثابة؛ فإنّ وجود العالم سبب لبقاء نظام الخلق، ولولاه لساخت الأرض بأهلها .

وقوله : (وبشّر آدم بنوح صلّى اللّه عليهما) .

قال الجوهري : «بَشَره يَبْشُرُهُ، من البُشرى . وكذا أبشر وبشّر. والاسم: البشارة. بَشَرَ به يَبشَرُ استبشر» (1). ؛ يعني أنّه عليه السلام أخبر ابنه هبة اللّه ببعثة نوح عليه السلام وظهوره .

وقيل : اسم نوح بالسريانيّة: «يشكر». وقيل : «ساكن» . وقيل : «ساكب» أو «سكبا»، وسمّاه العرب نوحا، وآدما ثانيا، ولقّبوه بشيخ الأنبياء ونجيّ اللّه .

وذكر بعض العامّة لتسميته عليه السلام بنوح ثلاثة أوجه أحدها: أنّه مرَّ بكلبٍ أجرب، فقال : إخسأ يا قبيح، فتكلّم الكلب ، وقال : اُخلق وأوجِد ما هو أحسن منّي إن قدرتَ . أو قال: تعيب النقّاش، دون النقش . أو قال : احفظ لسانك، إنّما أجريت أنت اسم آدمَ، ووصف النبوّة على نفسك، فاضطرب نوح، وبكى سنين كثيرة، فسمّي بنوح؛ لكثرة اشتغاله بالنوحة. وإنّما سمّوه آدم الثاني؛ لأنّ سلسلة أنساب بني آدم تنتهي إليه بعد الطوفان (2).

قال الجوهري : «الطوفان: المطر الغالب يغشي كلّ شيء . قال الأخفش : واحدها في القياس: طوفانة» (3).

وقوله : (وكان بين آدم وبين نوح _ صلّى اللّه عليهما _ عشرة آباء أنبياء وأوصياء كلّهم) ؛ يعني بعضهم نبيّ، وبعضهم وصيّ، لم يخرج النبوّة والوصاية من بينهم .

واعلم أنّ جماعة من أرباب السِّير ذكروا بين آدم ونوح ثمانية آباء؛ اثنان منهم من الأنبياء، والباقي من الأوصياء هكذا : نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس عليه السلام بن اليارد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم عليه السلام .

والأشهر في كتب النسّابة: نوح بن مشخد بن لمك، إلى آخره، فيكون بينهما تسعة من الآباء (4).

ص: 232


1- اُنظر : الصحاح ، ج 2 ، ص 590 (بشر)
2- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 54
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1397 (طفن) مع التلخيص
4- راجع للمزيد : المناقب لابن شهر آشوب ، ج 1 ، ص 135 ؛ العمدة لابن البطريق ، ص 24 ، عمدة الطالب لابن عنبة ، ص 30

ويمكن حمل هذه الرواية على القولين بإدخال الطرف الواحد، أو الطرفين في جملة العشرة . واللّه أعلم بحقائق الاُمور .

(وأوصى آدم عليه السلام إلى هبة اللّه ) .

قال الجوهري : «أوصيت له بشيء، وأوصيت إليه، إذا جعلته وصيّك» (1)

وفي المصباح : «الإيصاء: الأمر، والتذكير» (2).

ويظهر من قوله عليه السلام فيما بعد أنّه كان آدم عليه السلام وصّى هبة اللّه أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة ، وأنّه كتب هذه الوصيّة، وكتب اسم نوح ونعته، وجعله وديعة عند هبة اللّه .

وقوله : (فأرسل هبة اللّه ) إلى آخره .

كأنّه عليه السلام كان عالما بمجيء جبرئيل أو غيره من الملائكة، فأرسله ليلقاهم في الطريق .

وقيل : فيه دلالة على أنّه كان للملائكة مقام معلوم يراهم آدم ووصيّه فيه، وإلّا لما احتاج إلى الإرسال (3).

هذا كلامه، وهو كما ترى .

وقوله : (يستهديك) أي طلب منك الهديّة .

وقوله : (حتّى إذا بلغ) أي جبرئيل، أو هبة اللّه .

(للصلاة عليه) .

في بعض النسخ: «بالصلاة» . وفي الفقيه : «فبلغ إلى الصلاة عليه»، وهو أظهر .

وقوله : (فليس لنا أن نؤمّ شيئا من وُلده) .

في الفقيه : «قال جبرئيل : فلسنا نتقدّم أبرار ولده، وأنت من أبرّهم» (4) ، وهذا كالصريح في أنّ الأبرار من بني آدم أفضل من جبرئيل وسائر الملائكة، وأنّ تقدّم المفضول على الفاضل غير جائز في أمر الصلاة، فكيف غيرها ممّا هو أعظم منها من الرئاسة العامّة في اُمور الدِّين والدُّنيا .

وقوله : (كبّر عليه ثلاثين تكبيرة) أي في صلاة واحدة، أو في ستّ صلوات .

ص: 233


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2525 (وصي)
2- المصباح المنير ، ص 662 (وصي)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 54
4- الفقيه ، ج 1 ، ص 163 ، ح 465

وفي الفقيه : «فتقدّم، فكبّر عليه خمسا عدّة الصلوات التي فرضها اللّه _ عزّ وجلّ _ على اُمّة محمّد صلى الله عليه و آله » .

وفي بعض روايات العامّة: «أنّه كبّر عليه ثلاث تكبيرات» .

وفي بعضها: «أربع تكبيرات» (1).

وقوله : (فأمر جبرئيل) ؛ لعلّ المراد أنّه عليه السلام أمر هبة اللّه .

(فرفع) أي أسقط، ووضع (2).

(خمسا وعشرين تكبيرة) أي وجوبها، أو عموم مشروعيّتها، فلا ينافي ما روي من فعل النبيّ صلى الله عليه و آله أحيانا لبعض الخصومات .

وقوله : (وقد كان يكبّر على أهل بدر تسعا وسبعا) . الظاهر أنّها في الصلاة على ميّت واحد .

ويحتمل كونها بالتشريك على ميّتين؛ بأن كان حضور الثاني بعد [التكبير] الثاني، أو بعد الرابع .

(ثمّ إنّ هبة اللّه لمّا دفن أباه) .

قال أرباب التواريخ : «دفنه في غار جبل أبي قبيس» (3). وقال بعضهم : «ثمّ حمله نوح عليه السلام يوم الطوفان معه في السفينة، ودفنه بعد الخروج منها في سرنديب» (4).

وقيل : «عاش حيّا عليه السلام بعده بسنة» . وقيل : «سبع سنين» (5).

وقوله : (فلبث هبة اللّه ) إلى آخره .

فيه دلالة على أنّ العلم ما زال مكتوما منذ توفّي آدم عليه السلام ، وأنّ التقيّة شرعت من ذلك الوقت.

وقوله : (وظهرت وصيّة هبة اللّه ) أي ظهر صدق إخباره، ووصيّته ببعثة نوح، أو ببعثة الأنبياء الذين كانوا قبله أيضا .

وقيل : أي ظهر كونه وصيّا لآدم؛ لأنّه كان يُخفيه من الأشرار (6).

وقوله : (أن يتعاهد هذه الوصيّة) أي أنّه عليه السلام أمره بالمحافظة والمواظبة على تجديد العهد

ص: 234


1- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 54 و 55
2- قال المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي ، ج 2 ، ص 291 : «يعني رفعها من التكليف ، وخفّف الأمر»
3- اُنظر: قصص الأنبياء للجزائري ، ص 70 ؛ شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 55
4- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 55
5- اُنظر : الوافي ، ج 2 ، ص 291 و 292
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 55

بها وتلاوتها لئلّا تندرس آثارها .

قال الجوهري : «التعهّد: التحفّظ بالشيء، وتجديد العهد به. وتعهّدت فلانا، وتعهّدت ضيعتي، وهو أفصح من قولك : تعاهدته ؛ لأنّ التعاهد إنّما يكون بين اثنين» (1).

وفي القاموس: «تعهّده وتعاهده: تفقّده، وأحدث العهد به» (2).

وقوله : (فيتعاهدون نوحا) إلى آخره .

ضمير الجمع للمؤمنين المستخفين من قابيل وأتباعهِ . والحاصل : أنّهم يتجدّدون العهد بالوصيّة به، ويطلبونها، وينظرون ما فيها من نعته وزمان بعثته؛ ليصدّقوه، ويؤمنوا به عند ظهوره .

وقوله : (بالعلم الذي عندهم) ؛ يعني وصيّة آدم وأبناءه الأنبياء والأوصياء .

(وهو) أي كون نوح رسولاً بأمر اللّه ووحيه، لا من عند نفسه، أو برأي الخلق .

(قول اللّه عزّ وجلّ) في مواضع عديدة من القرآن .

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا» (3) حيث أسند الإرسال إلى نفسه المقدّسة .

(وكان من بين آدم ونوح من الأنبياء) ؛ لعلّ المراد بهم ما يعمّ الأوصياء .

(مستخفين) ؛ خوفا من قابيل وذرّيّته، كما مرّ . يُقال : استخفيت منك ؛ أي تواريت .

قيل : لعلّ المراد أنّ أكثرهم، أو جماعة منهم كانوا مستخفين، وإلّا فإدريس كان بين آدم ونوح نبيّا، وسمّاه اللّه تعالى في القرآن، ورفعه مكانا عليّا (4).

(ولذلك خفي ذكرهم في القرآن) ؛ لأنّ ذكرهم فيه يوجب تكذيب المعاندين، حيث لم يحيطوا بهم خبرا .

وقوله : (وهو) أي ذكر المستعلنين منهم دون المستخفين .

(قول اللّه عزّ وجلّ) في سورة النساء: «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» (5) ؛ أي من قبل هذه السورة، أو اليوم .

ص: 235


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 516 (عهد)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 320 (عهد)
3- هود (11) : 25 ؛ المؤمنون (23) : 23 ؛ العنكبوت (29) : 14
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 56
5- النساء (4) : 164

قال بعض المفسّرين : «نصب «رسلاً» بمضمر دلّ عليه «أوحينا» كأرسلنا» (1).

وقوله : (فمكث نوح) إلى آخره .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَا خَمْسِينَ عَاما» :

بعد المبعث؛ إذ روي أنّه بعث على رأس الأربعين، ودعا قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستّين .

ولعلّ اختيار هذه العبارة للدلالة على إكمال العدد؛ فإنّ تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه، ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدّة إلى السامع؛ فإنّ المقصود من القصّة تسليته لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتثبيته على ما يكابده من الكفَرَة، واختلاف المميّزين؛ لما في التكرير من البشاعة (2).

وقوله : (وذلك) أي تكذيب قوم نوح للأنبياء .

(قول اللّه عزّ وجلّ) في سورء الشعراء : «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ» (3) .

قال بعض المفسّرين : «القوم مؤنّثة، ولذا تصغّر على قويمة» (4).

(يعني من كان بينه وبين آدم) ؛ لعلّ المراد أنّهم كذّبوا تلك الرسل أوّلاً، ثمّ كذّبوا نوحا بعد مبعثه .

وقيل : يعني كذّبوا نوحا ومن قبله من الرسل بعد إظهار نوح عليه السلام رسالتهم . وفسّر الآية به بعض المفسّرين أيضا .

وقال بعضهم : إنّهم كذّبوا نوحا وحده، إلّا أنّ تكذيب واحد من الرُّسل لمّا كان كتكذيب الكلّ صحّ أنّهم كذّبوا الكلّ (5).

(إلى أن انتهى) ؛ يعني أمر القوم من اللجاج والعناد، ودعائه عليه السلام عليهم وإهلاكهم بالطوفان .

(إلى قوله عزّ وجلّ : «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» (6). ) أي المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه .

ص: 236


1- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 281
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 310
3- الشعراء (26) : 105
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 246
5- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 56
6- الشعراء (26) : 122

وقوله : (فإنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ يُنجيه) أي هودا أو من تبعه .

ويحتمل إرجاع الضمير إلى أحدهما فقط .

(وهو قول اللّه عزّ وجلّ) في سورة الأعراف : «وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ» (1) ؛ عطف على قوله تعالى : «نوحا» قبل هذه الآية ؛ أي وأرسلنا إلى عاد هودا، عطف بيان لأخاهم .

قال البيضاوي : المراد به الواحد منهم، كقولهم : يا أخا العرب ؛ فإنّه هود بن عبد اللّه بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح . وقيل : هود بن شالح بن أرفخشد بن سام ابن عمّ أبي عاد (2).

(وقوله عزّ وجلّ) في سورة الشعراء : «كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ» (3) ؛ أنّثه باعتبار القبيلة، وهو في الأصل اسم أبيهم، كما عرفت .

«إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ» (4) اللّه ، فتتركوا عبادة غيره .

(وقال تبارك وتعالى) في سورة البقرة : «وَوَصّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ» (5) .

قال البيضاوي : التوصية، هي التقدّم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، وأصلها: الوصل . يُقال : وصّاه، إذا وصله. وفَصّاه، إذا فعله، كأنّ الموصي يصل فعله بفعل الوصيّ (6).

والضمير في «بها» للملّة، أو لقوله : «أسلمت عنّي تأويل الكلمة»، أو الجملة .

«وَيَعْقُوبُ» عطف على «إبراهيم» ؛ أي وصّى هو أيضا بنيه (7).

(وقوله تعالى) في سورة الأنعام : «وَوَهَبْنَا لَهُ» أي لإبراهيم عليه السلام .

«إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» أي ولدا ونافلة حين يئس من الولادة من عجوز عاقر ، ولذا لم يذكر إسماعيل هنا .

«كُلاًّ هَدَيْنَا» (8).

قال بعض المفسّرين : «أي كلّاً منهما» (9).

ص: 237


1- الأعراف (7) : 65
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 31
3- الشعراء (26) : 123
4- الشعراء (26) : 124
5- البقرة (2) : 132
6- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 404
7- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 404
8- الأنعام (6) : 84
9- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 426

وفسّره عليه السلام بقوله : (لنجعلها) بصيغة المتكلّم . وفي بعض النسخ: «ليجعلها» بصيغة الغيبة .

(في أهل بيته) .

لعلّ المراد: هديناه لتعيين الخليفة، لنجعل الخلافة في أهل بيته ، فيدلّ على أنّها من صُنعه تعالى يضعها فيمن يشاء، ولم يفوّضها بآراء الناس واختيارهم .

«وَنُوحا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ» (1) .

قال البيضاوي : «أي من قبل إبراهيم، عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه، وشرف الوالد يتعدّى إلى الولد» (2).

(وأمر العقب من ذرّيّة الأنبياء عليهم السلام مَن كان قبل إبراهيم) أي أمر هود عليه السلام العقب بتعاهد الوصيّة .

(لإبراهيم عليه السلام ) .

وفي كثير من النسخ: «وآمَن العقب».

وكلمة «من» في قوله : (من الأنبياء) للتبعيض، وكان قوله عليه السلام : (وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» (3). ) ، وقوله : «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» (4) بيانا لمن آمن لإبراهيم من ذرّيّة الأنبياء . وقوله : «وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ» (5) الآية، بيان لنبوّة إبراهيم عليه السلام وبعثته، فلا يرد ما قيل من أنّ الظاهر أنّ الآيتين الأوّلتين لبيان أنّه قد كان بين هود وإبراهيم أنبياء، ومنهم لوط. وهو مخالف لغيره من الأخبار الدالّة على أنّ لوطا كان بعثته بعد بعثة إبراهيم عليه السلام ، وكان معاصرا له على هذا .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة هود : «وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي» : أي لا يكسبنّكم [ «شِقَاقِي» ] معاداتي «أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ» من الغرق «أَوْ قَوْمَ هُودٍ» من [الريح.

«أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ» من الرجفة]، و«إنّ» بصلتها ثاني مفعولي «جرم»؛ فإنّه يعدّى إلى واحد وإلى اثنين، ككسب.

«وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» 6 زمانا، أو مكانا، فإن لم تعتبروا بمَن قبلهم، فاعتبروا

ص: 238


1- الأنعام (6) : 84
2- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 426
3- هود (11) : 89
4- العنكبوت (29) : 26
5- العنكبوت (29) : 16

بهم. أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي، فلا يبعد عنكم ما أصابهم .

وإفراد البعيد؛ لأنّ المراد: وما إهلاكهم، أو وما هم شيء ببعيد . ولا يبعد أن يُسوّى في أمثاله بين المذكّر والمؤنّث؛ لأنّها على زِنة المصادر، كالصهيل والشهيق (1).

أقول : الغرض من قوله : «ولا يبعد أن يسوّى» إلى آخره ، دفع ما يقال من أنّ «قوما» مؤنّث باعتبار الجمعيّة، أو لتصغيره على «قويمة»، فالمناسب أن يُقال : «ببعيدة» .

وقال في تفسير قوله تعالى في سورة العنكبوت : «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» : «هو ابن أخيه، وأوّل مَنْ آمن به . وقيل : إنّه آمن به حين رأى النار، ولم تحرقه . «وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ» من قومي «إِلى رَبِّي» ؛ إلى حيث أمرني ربّي» (2).

وقال في تفسير قوله تعالى في سورة العنكبوت :

«وَإِبْراهِيمَ» عطف على «نوحا»، أو نصب بإضمار «اُذكر»، وقرئ بالرفع على تقدير «ومن المرسلين إبراهيم».

«إِذْ قَالَ لِقَومِهِ اعْبُدُوا اللّهَ» ظرف لأرسلنا ؛ أي أرسلناه حين كمل عقله، وتمّ نظره، بحيث عرف الحقّ، وأمر الناس به . أو بدل منه بدل الاشتمال إن قدّر ب «اُذكر».

«وَاَتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» ممّا أنتم عليه «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» الخير والشرّ، وتميّزون ما هو خير ممّا هو شرّ ، أو كنتم تنظرون في الاُمور بنظر العلم دون نظر الجهل (3).

وقوله : (فجرى بين كلّ نبيّين) أي من الأنبياء المعروفين، أو اُولي العزم .

وقوله : (ما جرى لنوح عليه السلام ) من وصيّته إلى وصيّه ، والأمر بتعاهدها وكتمانها، وبشارته بمن يأتي بعده من الأنبياء.

وهذا كالتأكيد لقوله : «وكذلك جاء في وصيّة كلّ نبيّ» .

(وكما جرى لآدم) من وصيّته إلى هبة اللّه ، وبشارته بنوح . وكذا البواقي .

وقوله : (حتّى انتهت) أي الوصيّة، أو النبوّة .

وقوله : (فكان بين يوسف وبين موسى من الأنبياء) من قبيل قوله ممّا مرّ .

وقوله عليه السلام : (ثمّ أرسل الرُّسل تترى ...) اقتباس من قوله تعالى في سورة المؤمنون : «ثُمَّ

ص: 239


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 255 و 256
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 313
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 311

أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ» (1) .

قال البيضاوي : «تَتْرى» أي متواترين واحدا بعد واحد، من الوتر، وهو الفرد . والتاء بدل من الواو، كتولج ، والألف للتأنيث؛ لأنّ الرسل جماعة .

وقرأ أبو عمرو: «وتترًى» بالتنوين، على أنّه مصدر بمعنى المتواترة وقع حالاً.

«كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ» ؛ أضاف الرسول مع الإرسال إلى المرسل، ومع المجيء [إلى المرسل إليهم]. «بَعْضَهُمْ بَعْضا» في الإهلاك «وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ» لم نبق منهم إلّا حكايات يُسمر بها ، وهو اسم جمع «اُحدُوثة»، وهي ما يتحدّث به تلهّيا وتعجّبا (2).

وقوله : (اثنان قائمان) جملة حاليّة؛ أي والحال أنّ اثنين من الأنبياء قائمان ينظران إلى النبيّ المقتول، ولا ينصرانه للتقيّة، أو لعدم القدرة على النصرة .

والغرض أنّ التقيّة ممّا جرت به سنّة اللّه في الأوّلين والآخرين، وليست مختصّة بأوصياء هذه الاُمّة وشيعتهم . أو يراد باثنان رجلان من القوم واقفان، ولا يزجران القاتل؛ إمّا لما ذكر، أو عدم المبالاة، وعلى هذا القياس .

قوله : (ويقتلون اثنين وأربعة قيام) جمع قائم .

وقوله : (ويقوم سوق قتلهم) .

السوق، بالضمّ: معروف ، وقيامه: نَفاقه، ورواجه .

(آخر النهار) ظرف للقيام، أو غاية له .

وعلى الثاني يكون المراد أنّهم كانوا يقتلون في هذا الزمان القليل هذا العدد الكثير .

وفي بعض النسخ: «سوق بقلهم»، وهو موافق لما روي في غير هذا الخبر ؛ أي لا يبالون بذلك حيث كان بعد قتل سبعين نبيّا يقوم أسواقهم إلى آخر النهار، حتّى سوق بقلهم .

وقوله : (وكان بين يوسف وموسى من الأنبياء) تأكيد لما مرّ سابقا .

وقوله : (وذلك) أي كون العلم والإيمان والوصاية في العقب من ذرّيّته، وعدم قطعها

ص: 240


1- المؤمنون (23) : 44
2- تفسيرالبيضاوي ، ج 4 ، ص 155 (مع اختلاف يسير)

عنهم؛ لأنّهم آل إبراهيم، وهم آل عمران، وهم الذرّيّة التي بعضها من بعض .

وقيل : «ذلك» إشارة إلى كون العلم والرسالة والولاية والوصاية في السابقين واللاحقين بوحي منه تعالى وأمره (1).

(قول اللّه تعالى) في سورة آل عمران : «إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ» (2) .

قال البيضاوي : أي بالرسالة والخصائص الروحانيّة والجسمانيّة، ولذلك قَووا على ما لم يَقْوَ عليه غيرهم . «وَآلَ إبْرَاهِيمَ» : إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وقد دخل فيهم الرسول عليه السلام . «وَآلَ عِمْرَانَ» : موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، أو عيسى واُمّه مريم بنت عمران بن ماثان من أسباط يهوذا بن يعقوب، وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة .

«ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ؛ حال، أو بدل من الآلَيْنِ، أو منهما ومن نوح؛ أي إنّهم ذرّيّة واحدة متشعّبة بعضها من بعض .

وقيل : بعضها من بعض في الدين . والذرّيّة: الولد، يقع على الواحد والجمع، فُعليّة من الذرّ، أو فُعّولة من الذرء اُبدلت همزتها ياء، ثمّ قلبت الواو، واُدغمت .

«وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» بأقوال الناس وأعمالهم، فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل (3).

وأقول : يظهر من الأخبار المتكثّرة المتظافرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أنّه دخل في الآلَين، وفي الذرّيّة الرسول صلى الله عليه و آله وذرّيّته المعصومين ، بل يظهر من بعضها اختصاص الآل والذرّيّة بهم .

وقوله : (لم يجعل العلم جهلاً) .

قيل : أي لم يجعل العلم مبنيّا على الجهل، بأن يكون أمر الحجّة مجهولاً لا يعلمه الناس، ولا بيّنه لهم، أو لم يجعل العلم مخلوطا بالجهل، بل لابدّ أن يكون العالم عالما بجميع ما

ص: 241


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 60
2- آل عمران (3) : 33
3- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 29

يحتاج إليه الخلق، ولا يكون اختيار مثله إلّا منه تعالى (1).

وقيل : أي لم يجعل العلم قطّ بمنزلة الجهل، ولا العالم بمنزلة الجاهل في وجوب الاتّباع، بل أمر باتّباع العلم والعالم في جميع الأزمنة والأعصار دون الجهل والجاهل ، فكيف يجوز بهذه الأدلّة تقديم الجاهل على العالم؟! (2).

وقال الفاضل الإسترآبادي : فيه ردّ على من قال بأنّ اللّه تعالى بيّن بعض أحكامه على لسان نبيّه، وفوّض الباقي إلى ظنون المجتهدين وأفكارهم واجتهاداتهم الظنّيّة، وأمر من لم يبلغ درجة الاجتهاد الظنّي باتّباع ظنون المجتهدين .

وملخّص الكلام أنّ الظنّ قد يكون باطلاً، فيكون جهلاً؛ لعدم مطابقة الواقع، وأمر عباده باتّباع العلم، وهو اليقين المطلوب للواقع (3).

(ولم يَكل) أي لم يترك، ولم يسلّم أمره في تقرير الأحكام وتعيين الهداة .

(إلى أحد من خلقه ، لا إلى ملكٍ مقرّب، ولا نبيّ مرسل) ؛ فكيف غيرهما ؟!

(ولكنّه تعالى أرسل رسولاً من الملائكة) إلى من يشاء من أنبيائه ورسله .

(فقال له) أي لذلك الملك : (قل) للرسل والأنبياء .

(كذا وكذا) ؛ فأمرهم اللّه ، أو ذلك الملك بما يحبّ اللّه .

(ونهاهم عمّا يكره) من الاُمور المختصّة بهم، أو الأعمّ .

(فقصّ عليهم أمر خلقه) .

في القاموس : «قصّ الخبر قصّا وقصصا: أعلمه» (4) . وقال الجوهري : «قصّ الحديث: رواه على وجهه.

والقَصَص المصدر والاسم» (5).

وقيل : لعلّ المراد بأمر الخلق كلّ ما هو مطلوب منهم من الأوامر والنواهي وغيرهما ممّا فيه صلاحهم، أو الأعمّ منه، وممّا يصدر منهم ظاهرا وباطنا .

ص: 242


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 281
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 60
3- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 60
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 313 (قصص)
5- الصحاح ، ج 3 ، ص 1051 (قصص)

وقوله : (بعلم) حال عن الفاعل. والغرض منه أنّ تحديثه كان مقرونا بعلم من اللّه تعالى لا برأيه، فإذا لم يفوّض شيئا من أمر الخلق إلى رأي الملك الرسول من اللّه ، فكيف يفوّضه إلى الجهلة من الناس (1).

(فعلم ذلك العلم ، وعلّم أنبياءه وأصفياءه) .

«علم» في الموضعين يحتمل أن يكون على صيغة المجرّد المعلوم ؛ أي عَلم ذلك الملك العلم الذي أفاضه اللّه تعالى عليه، وعلّمه إيّاه، وعَلِمَ أنبياؤه وأصفياؤه ذلك العلم بتعليم ذلك الملك .

أو يكون على صيغة المزيد المعلوم فيهما ؛ أي علّمه اللّه ذلك العلم، وعلّم هو أنبياء اللّه وأصفياءه .

أو يكون الأوّل من المجرّد، والثاني من المزيد، أو بالعكس.

والمستتر فيهما في السابق عائد إلى الملك، وفي الأخير المستتر في الأوّل عائد إلى اللّه ، وفاعل الثاني الأنبياء والأوصياء .

أو يكون الأوّل على صيغة المجهول من المزيد ، والثاني على صيغة المعلوم منه، والمستتر فيهما عائدا إلى الملك .

وقيل : كأنّ المراد بالأنبياء المعنى العامّ الشامل للرُّسل أيضا، وبالأصفياء الأوصياء مطلقا؛ لصدقها على الرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، فبينهما عموم مطلق ؛ لأنّ كلّ نبيّ صفيّ، دون العكس.

وحمل العطف على التفسير بعيد (2).

وقوله : (من الآباء والإخوان والذرّيّة التي بعضها من بعض) بيان للأصفياء؛ يعني أنّ بعضهم آباء بعض، وبعضهم إخوان في النسب أو في الدِّين، كمحمّد وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام ، وكموسى ويوشع ويوسف وأسباط إخوته، وبعضهم ذرّيّةٌ من بعض . وقد اجتمعت الثلاثة في كثير منهم باختلاف الإضافة والاعتبار .

وقوله : (فذلك قوله عزّ وجلّ) ؛ استشهاد لما أشار إليه من أنّ النبوّة والوصاية والعلم من قبله تعالى .

ص: 243


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 61
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 61

في سورة النساء : «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما» (1) .

فما في [بعض ]نسخ الكتاب إمّا نقل بالمعنى، أو كان في مصحفهم عليهم السلام كذلك، أو تغيير من الرواة أو من النسّاخ (2).

(فأمّا الكتاب فهو النبوّة) أي نبوّة الأنبياء .

(وأمّا الحكم فهم الحكماء) ؛ الضمير راجع إلى معنى الحكمة المفهوم ضمنا، والغرض أنّ المراد بالحكمة حكمة الحكماء.

(من الأنبياء من الصفوة).

والحكمة: خروج النفس إلى كمالها الممكن في مباني العلم والعمل . وبعبارة اُخرى هي العلم بالشرائع وأسرار التوحيد ومصالح الدُّنيا والآخرة، والعمل بمقتضاه .

وصفوة الشيء _ مثلّثة _ : ما صفا منه . وكلمة «من» في الموضعين بيانيّة، وكونها ابتدائيّة بعيد .

(وأمّا الملك العظيم فهم الأئمّة) أي وجوب طاعتهم .

روى المصنّف رحمه الله في باب أنّ الأئمّة ولاة الأمر، بإسناده عن حمران بن أعين، قال لأبي عبد اللّه عليه السلام : قول اللّه عزّ وجلّ : «فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ» ؟

فقال : «النبوّة» .

قلت : «الْحِكْمَةَ» ؟

قال : «الفهم والقضاء» .

قلت : «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما» ؟

فقال : «الطاعة» انتهى (3).

وكلمة «من» في قوله : (من الصفوة) كما عرفت .

وقوله : (هؤلاء) إشارة إلى الأنبياء والحكماء والأئمّة .

وقوله : (والعلماء) بالجرّ، عطف على الذرّيّة .

ص: 244


1- النساء (4) : 54
2- متن النسخة مضطرب هنا جدّا ، فصحّحناها على القياس
3- الكافي ، ج 1 ، ص 206 ، ح 3 ؛ بصائر الدرجات ، ص 36 ، ح 7

وقوله : (البقيّة) أي بقيّة علوم الأنبياء وآثارهم . وكأنّه إشارة إلى قوله تعالى : «بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ» (1). ، وفسّرت في كثير من الأخبار بالأئمّة عليهم السلام .

وفي القاموس: البقيّة: اسم من البقاء، وهو ضدّ الفناء . و «بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ» ؛ أي طاعة اللّه ، أو انتظار ثوابه ، أو الحالة الباقية لكم من الخير، أو ما أبقى لكم من الحلال . و «اُولوٌا بَقِيَّةٍ يَنْهُونَ» (2) ؛ أي إبقاءٍ، أو فهمٍ. وأبقيتُ ما بيننا: لم اُبالغ في إفساده. والاسم: البقيّة. وبَقاهُ بَقْيا: رصده، أو نظر إليه (3).

وقيل : أراد بالبقيّة هنا من ينتظر وجوده، ويترقّب ظهوره، من قولك: بقيت الرجل بقيّة، إذا انتظرته ورقبته (4).

(وفيهم العاقبة المحمودة) ؛ وكأنّه إشارة إلى قوله تعالى : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (5) .

وقيل : المراد عاقبة أمر النبوّة والولاية والوصاية . والعاقبة أيضا: آخر كلّ شيء ، وكأنّ المراد بها نبيّنا صلى الله عليه و آله ، وهو آخر الأنبياء، أو المهديّ المنتظر وهو آخر الأوصياء .

ويمكن أن يُراد بها مجيء واحد بعد الآخر، على أن يكون مصدرا، ومنه العاقب، وهو الذي يخلُف من قَبله .

وفي الخبر : «ومن أسماء نبيّنا صلى الله عليه و آله العاقب؛ لأنّه آخر الأنبياء» (6) (7).

(وحفظ الميثاق) .

«الميثاق»: العهد، وهم عليهم السلام يحفظون العهد الذي أخذه اللّه تعالى عليهم وعلى غيرهم، وأمرهم بأن يوفوا به .

(وللعلماء ولولاة الأمر استنباط العلم) .

تقديم الظرف للحصر . وفي بعض النسخ: «والعلماء»، وهو معطوف على العاقبة . قال الفيروزآبادي : «نبط الماء: نبع. والبئر: استخرج ماءها، وكلّ ما أظهر بعد خفاء فقد

ص: 245


1- هود (11) : 86
2- هود (11) : 116
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 304 (بقي)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 62
5- الأعراف (7) : 128 ؛ القصص (28) : 83
6- لم نعثر على الخبر في الجوامع الروائيّة
7- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 62

اُنبِط واستُنبِط مجهولين. واستنبط الفقيه: استخرج الفِقه الباطن برأيه واجتهاده» (1).

والمراد بالعلم علم الكتاب من أسرار التوحيد، وعلم أحكام الدِّين والأخلاق والسياسيّات، وغير ذلك ممّا يختصّ علمه بهم، وهو المسمّى بالحكمة الإلهيّة .

(وللهداة) عطف على قوله : «لولاة الأمر» .

وفي كتاب إكمال الدِّين وغيره: «فَهُمُ العلماء وولاةُ الأمر وأهل استنباط العلم والهداة» (2).

وفيه إشارة إلى اختصاص الاستنباط بهم، وأنّ كلّ من ليست له قوّة الاستنباط لا يستحقّ أمر الخلافة .

(فهذا) أي استنباط العلم .

(شأن الفُضّل من الصفوة) .

كلمة «من» بيانيّة . و«الفضّل» بالضمّ والتشديد: جمع الفاضل، كركّع وراكع، وكمّل وكامل .

وقوله : (ولاة أمر اللّه ) أي دينه، أو حكمه .

(واستنباط علم اللّه ) عطف على أمر اللّه .

ولعلّ المراد بعلم اللّه الكتب الإلهيّة .

(وأهل آثار علم اللّه ) عطف على الولاة .

وقيل : المراد به السلاح والمعجزات، والإخبار بالمغيبات، وتطهير الظاهر والباطن عن الرذائل، وتزيينها بالفضائل، وتحذير الخلق عن المنهيّات، وإرشادهم إلى الخيرات (3).

وقوله : (من الآباء) بيان للأنبياء .

وقوله : (فمن اعتصم بالفُضّل) أي المتّصفون بما ذكر من الصفات، وهم أهل البيت صلوات اللّه عليهم .

(انتهى بعلمهم) أي اقتصر به، ولم يتجاوز إلى غيره . أو وصل إليه. والأوّل أظهر .

وقيل : الباء للسببيّة ؛ أي وصل بسبب علمهم إلى الدرجة القصوى والمرتبة العُليا

ص: 246


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 62
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 387 (نبط)
3- كمال الدين ، ج 1 ، ص 217

المطلوب من الإنسان (1).

(ونجا بنصرتهم) من وساوس الشيطان، وعقوبات النيران .

وقوله عليه السلام : (والمتكلّفين) عطف على «الجهّال» ؛ أي جعل المتكلّفين ولاة أمر اللّه . يُقال : تكلّفت الشيء، إذا تجشّمته، أو أظهرت ما ليس فيك .

(بغير هدىً من اللّه ) ؛ متعلّق بالتكلّف، أو بالجهل . ويحتمل كونه حالاً عن فاعل كلّ منهما، أو كليهما، أو عن «الجهّال» .

(وزعموا أنّهم أهل استنباط علم اللّه ) ؛ يحتمل عطفه على «وضع»، وعود الضمير المرفوع إلى الموصول باعتبار المعنى .

ويحتمل كونه استئنافا ؛ أي وزعم أهل الخلاف أنّ الجهّال والمتكلّفين أهل استنباط علم اللّه .

والفاء في قوله : (فقد كذبوا على اللّه ) جزائيّة على الأوّل، وتفريعيّة على الثاني .

وقوله : (فضل اللّه ) إمّا مصدر، وهو ضدّ النقص . أو بمعنى الفضيلة، وهي الدرجة الرفيعة في الكمال ، وهنا كناية عن ولاية الأمر والإمامة .

وقوله : (ولم يكن لهم حجّة) أي برهان .

(يوم القيامة) في وضع ولاية الأمر في غير الصفوة، واتّباع الجهّال .

وقيل : المراد بالحجّة هنا إمام يدفع عنهم العذاب، ويشفع لهم (2).

(إنّما الحجّة في آل إبراهيم) أي اتّباع آله الموصوفين بالصفات الآتية، فليس لهم أن يحتجّوا بأنّ من جعلوه إماما وخليفة هو أيضا من آل إبراهيم الذي جعله اللّه حجّة لهم .

(لقول اللّه عزّ ذكره) إلى قوله : «وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما» .

والملك العظيم إنّما هو الرئاسة العامّة، وإيتاؤه من اللّه لا منهم .

وقوله : (ينطق بذلك) أي يكون الحجّة لهم، لا لغيرهم من الجَهَلة .

وقوله : (وصيّة اللّه ) منصوب على الحاليّة من اسم الإشارة، أو مرفوع على الخبريّة من

ص: 247


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 63
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 63

مبتدأ محذوف وما بعده ؛ أعني قوله : (بعضها من بعض) ؛ مبتدأ وخبر منصوب المحلّ على الحاليّة منه .

وقوله : (التي وضعها على الناس) أي أوجب عليهم قبولها صفة للوصيّة .

وضمير التأنيث في الموضعين راجع إليها؛ أي هذه الاُمور المذكورة من النبوّة والخلافة، وموضعهما ومحلّهما وصيّة من اللّه ، أخذها كلّ نبيّ وإمام عمّن قبله، وأوجب اللّه على غيرهما من الرعيّة أخذها وقبولها .

وقوله : (فقال عزّ وجلّ ...) إشارة إلى بيان ما ينطق به الكتاب .

«فِي بُيُوتٍ» .

قال البيضاوي : إنّه متعلّق بما قبله ؛ أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت، فيكون تقييدا للمثَل به بما لايكون تحبيرا ومبالغة فيه؛ فإنّ قناديل المساجد تكون أعظم . أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين، أو أبدانهم بالمساجد.

ولا ينافي جمع «البيوت» وحدة «المشكاة»؛ إذ المراد بها ما له هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة، أو بما بعده وهو «يسبّح» ، وفيها تكرير مؤكّد لا يذكر؛ لأنّه من صِلَةِ «أنْ»، فلا يعمل فيما قبله، أو بمحذوف مثل سبّحوا في بيوت ، والمراد بها المساجد؛ لأنّ الصفة تلائمها . وقيل : المساجد الثلاث، والتنكير للتعظيم .

«أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ» (1) بالبناء، أو التعظيم . «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» عامّ فيما يتضمّن ذكره حتّى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه . انتهى (2).

وقوله : (فهذا) أي ما ذكر من الاُصول والقواعد .

(بيان عروة الإيمان) .

«العروة» في الأصل من الدلو والكوز: المقبض. ومن الثوب: اُخت زره، وقد استعيرت لاستمساك الحقّ بالنظر الصحيح والرأي القويم .

وقيل : المراد بالعروة هنا الرسول ووصيّه على سبيل الاستعارة ؛ لأنّ من تمسّك بها، فهو حامل للإيمان، وناج من الهلاك الدنيوي والاُخروي، والعقوبات اللاحقة لمن لم يتمسّك بها (3).

ص: 248


1- النور (24) : 36
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 191
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 64

وقوله : (وبها ينجو من يتّبع الأئمّة) .

قيل : مقتضى الظاهر أن يقول: وبها ينجو من ينجو منكم. وإنّما عدل عنه؛ للتصريح بالمقصود، وهو أنّ نجاة هذه الاُمّة باتّباع الأئمّة من آل محمّد صلى الله عليه و آله (1).

(وقال اللّه _ عزّ وجلّ _ في كتابه) في سورة آل عمران : «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» .

قال البيضاوي : الضمير لإبراهيم؛ إذ الكلام فيه . وقيل : لنوح؛ لأنّه أقرب، ولأنّ يونس ولوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختصّ البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها، والمذكورون في الآية الثالثة عطف على «نوحا» .

«دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» أي نجزي المحسنين جزاءً مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثرة أولاده وكون النبوّة فيهم .

«وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى» ؛ هو ابن مريم ، وفي ذكره دليل على أنّ الذرّيّة يتناول أولاد البنت .

«وَإِلْيَاسَ» . قيل : هو إدريس جدّ نوح، فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الاُولى . وقيل : هو من أسباط هارون أخي موسى .

«كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ» ؛ الكاملين في الصلاح، وهو الإتيان بما ينبغي، والتحرّز عمّا لا ينبغي .

«وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ» ؛ هو اليسع بن أخطوب .

«وَيُونُسَ» ؛ هو يونس بن متّى .

«وَلُوطا» ؛ هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام .

«وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ» بالنبوّة .

وفيه دليل فضلهم على من عداهم من الخلق .

«وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ» ؛ عطف على «كلّاً»، أو «نوحا» ؛ أي فضّلنا كلّاً منهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم؛ فإنّ منهم من لم يكن نبيّا ولا مهديّا .

ص: 249


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 64

«وَاجْتَبَيْنَاهُمْ» ؛ عطف على «فضّلنا»، أو «هدينا» .

«وَهَدَيْنَاهُمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ؛ تكرير لبيان ما هدوا إليه .

«ذلِكَ هُدَى اللّهِ» ؛ إشارة إلى ما دانوا به .

«يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا» أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلوّ شأنهم .

«لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ؛ لكانوا كغيرهم في هبوط أعمالهم بسقوط ثوابها .

«أُوْلئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ» ؛ يريد به الجنس .

«وَالْحُكْمَ» : الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحقّ .

«وَالنُّبُوَّةَ» : الرسالة .

«فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا» أي بهذه الثلاثة .

«هؤُلَاءِ» ؛ يعني قريشا .

«فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا» أي بمراعاتها .

«قَوْما لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ» ، وهو الأنبياء المذكورون ومتابعوهم .

وقيل : هم الأنصار، أو أصحاب النبيّ، أو كلّ مَنْ آمن به، أو الفُرْسُ . وقيل : الملائكة .

«أُوْلئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ» ؛ يريد الأنبياء المتقدّم ذكرهم .

«فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ» (1) ؛ فاختصّ طريقهم بالاقتداء . والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد واُصول الدِّين دون الفروع المختلَف فيها؛ فإنّها ليست هدى مضافا إلى الكلّ ، ويمكن التأسّي بهم جميعا (2).

إلى هاهنا كلام البيضاوي ، وأنت خبير بأنّ تفسير «قوما» بما ذكره من الأنبياء ومتابعيهم بعيد من العبارة جدّا . وكذا تفسيره بمن آمن به عموما أو خصوصا؛ فإنّ في لفظ التوكيل إشعارا بأنّ تلك القوم كانت حافظة للكتاب والحكم وآثار النبوّة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وهذا اللفظ لا يتيسّر إلّا للخلف العدول من أهل بيت العصمة صلوات اللّه عليهم؛ لأنّ غيرهم لا يأمن الخطأ من نفسه، ولا يأمنه غيره أيضا .

ص: 250


1- الأنعام (6) : 84 - 90
2- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 426 - 428 (مع التلخيص واختلاف يسير)

وتفسيره بالملائكة؛ لأنّ لفظ القوم لا يشملهم لغةً .

قال الجوهري : القوم: الرجال دون النساء، لا واحد له من لفظه . والقوم يُذكّر ويؤنّث ؛ لأنّ أسماء الجموع _ التي لا واحد لها من لفظها _ إذا كانت للآدميّين تذكّر وتؤنّث، مثل رَهْط ونفر وقوم . انتهى (1).

إذا عرفت هذا فنقول : الظاهر أنّ المشار إليهم اُولئك القوم المذكورون، والأمر بالاقتداء بهداهم لكلّ مكلّف .

وقوله عليه السلام : (فإنّه وكّل بالفُضَّل من أهل بيته) أي لعمل أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله .

والظاهر أنّ «الفضّل» بيان للقوم الموكّلين . و«وكّل» على صيغة المعلوم من المزيد، والمستتر فيه راجع إلى اللّه . والباء زائدة .

وقال بعض الأفاضل : يحتمل أن يقرأ: «وكَلَ» بالتخفيف، ويكون الباء بمعنى «إلى»؛ أي وَكَلَ الإيمان والعلم إلى الأفاضل من أهل بيته بالتشديد على سبيل القلب، أو بتخفيف الفَضْل، فيكون «من أهل بيته» مفعولاً لقوله: «وكّل» ؛ أي جماعة من أهل بيته بالفضل ، وهو العلم والإيمان .

قال : وإنّما احتجنا إلى هذه التكلّفات؛ لأنّ الظاهر من كلامه عليه السلام بعد ذلك أنّه فسّر القوم بالأئمّة (2).

وقوله : (والإخوان والذرّيّة) عطف على «أهل بيته» ، أو على «الفضّل» .

وعلى التقديرين يكون العطف للتفسير والبيان، أو من عطف الخاصّ على العامّ ؛ أي بعض إخوان كالحسنين، وبعضهم ذرّيّة كسائر الأئمّة ، وبعضهم ليس هذا ولا ذاك كأمير المؤمنين عليه السلام .

وعلى الأوّل يمكن إدراجه عليه السلام في الإخوان؛ لقول النبيّ صلى الله عليه و آله : «أنت أخي» . وفي الذرّيّة؛ لأنّه من ذرّيّة الأنبياء .

وقوله : (أن تكفر بها اُمّتك) إشارة إلى تفسير هؤلاء، وأنّ المراد به جميع الاُمّة، لا خصوص قريش .

ص: 251


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2016 (قوم)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 283 و 284

والظاهر أنّ المراد بالإيمان ما يجب الإيمان به ممّا جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله لقوله : (أرسلتك به) ؛ وأعظمه الولاية .

وقوله : (علماء اُمّتك) صفة لأهل بيتك، أو بدل منه . ويحتمل كونه مبتدأ ، وقوله : «من أهل بيتك» خبره، قدّم عليه للتخصيص .

وفي كتاب إكمال الدِّين هكذا : «وجعلت أهل بيتك بعدك عَلَمَ اُمّتك» .

وقوله : (وأهل استنباط العلم) إلى آخره .

قال الفاضل الإسترآبادي : «فيه إشارة إلى أنّ الاستنباطات الظنّيّة من الأصل والاستصحاب وإطلاق الآية والقياس أو نحو ذلك غير جائزة» انتهى (1).

والرياء: معروف. والإثم، بالكسر: الذنب، وأن يعمل ما لا يحلّ .

والبَطَر، بالتحريك: الدهش، والحيرة، وكراهة الشيء من غير أن يستحقّ الكراهة، وطول الفساد، والتكبّر عن قبول الحقّ، والكذب من القول، والعقد بما لا يطابق الواقع .

والزور، بالضمّ: الكذب مطلقا ؛ أي الكذب عن عمد، أو الميل عن الحقّ، أو الشرك باللّه ، أو ما يُعبد من دون اللّه .

قيل : فعلى الأوّل لا فرق بينه وبين الكذب، فذكره تأكيد . وعلى الثاني بينهما عموم وخصوص مطلقا . وعلى الثلاثة الأخيرة بينهما مباينة ؛ أمّا على الأخيرين فظاهر ، وأمّا على السابق منهما؛ فلأنّ القول من حيث إنّه غير مطابق للواقع كذب، ومن حيث إنّه مائل عن الحقّ زور . وفيه تعريض بمن فيه جميع ذلك (2).

(فهذا بيان ما ينتهي إليه أمر هذه الاُمّة) ؛ كأنّه تأكيد لقوله عليه السلام : (فهذا) بيان عروة الإيمان .

والمراد بأمر هذه الاُمّة جعل الرئاسة والإمامة في العقب من ذرّيّة خاتم الأنبياء وأهل بيت العصمة، كما سنّه اللّه _ عزّ وجلّ _ في أعقاب سائر الأنبياء وذراريهم المعصومين .

والمراد بالانتهاء إليه وجوب الأخذ والتمسّك به، وعدم التخلّف عنه، والإذعان بأنّ المتمسّك بهم لاحق، والمتخلّف عنهم زاهق .

ص: 252


1- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 65
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 65

وقوله : (طهّر أهل بيت نبيّه) ؛ إشارة إلى آية التطهير، وأنّها نزلت فيهم عليهم السلام .

وقوله : (وسألهم أجر المودّة) ؛ إشارة إلى قوله تعالى : «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (1). ، وظاهر أنّه كناية عن وجوب طاعتهم، لا ينكره إلّا معاند .

وفي القاموس: «سأله كذا ، وعن كذا ، وبكذا ، بمعنى» (2).

فكان هنا حذفا وإيصالاً ؛ أي سأل لهم. وكان المستتر فيه راجع إلى اللّه ، كما هو مقتضى السياق باعتبار كونه أمرا للسؤال. ورجوعه إلى النبيّ محتمل .

وفي كتاب إكمال الدِّين : «جعل لهم أجر المودّة» .

وقوله : (وأجرى لهم الولاية) ؛ إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللّهُ» (3) الآية ، وقوله : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (4) ، وقوله : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» (5) ، وقوله : «أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (6) . وأمثالها كثير في القرآن ، ودلالتها على المراد موكول على الكتب الكلاميّة والتفسير .

وقوله : (وجعلهم أوصياءه وأحبّاءه) .

فاعل «جعل» كفاعل «سأل» ، والضمير المنصوب في الموضعين للنبيّ صلى الله عليه و آله .

وقوله : (ثابتة) ؛ حال عن الولاية والمودّة، أو عنهما وعن الوصاية والمحبّة، أو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي الاُمور المذكورة ثابتة لهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله في اُمّته ؛ يعني أنّها واجبة لازمة، أو مستمرّة غير منقطعة .

وقيل : هي حال عن الأوصياء والأحبّاء ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، أو الوصاية والمحبّة (7).

وقوله : (حيث وضع اللّه ) ظرف للقول، أو للاعتبار .

وقوله : (فإيّاه فتقبّلوا ، وبه فاستمسكوا تنجوا به) ؛ الظاهر أنّ الضمائر المنصوبة والمجرورة للموصول، وإرجاعها إلى الوضع بعيد .

ص: 253


1- الشورى (42) : 23
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 392 (سأل)
3- المائدة (5) : 55
4- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7
5- التوبة (9) : 119
6- النساء (4) : 59
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 66

وفسّر البيضاوي التقبّل في قوله تعالى : «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ» (1) بالرضا، أو التسليم، أو الاستقبال (2) . والمشهور في كتب اللغة أنّ القبول والتقبّل مترادفان.

وكان قوله : (وطريق ربّكم) عطف على الحجّة ؛ أي يكون لكم طريق إلى ربّكم في الدُّنيا، أو طريق موصل إلى الجنّة في الآخرة .

ويحتمل كونه خبر مبتدأ محذوف ؛ أي ما قلت، أو الحجج طريق إلى ربّكم .

وقوله : (لا تصل ولاية إلى اللّه إلّا بهم) ؛ لعلّ المراد أنّه لا تقبل ولاية اللّه إلّا بولايتهم، أو لا تصل ولاية إلى اللّه إلّا إذا تعلّقت بهم .

وقوله : (أن يُكرمه ولا يعذّبه) .

قيل : الإكرام إشارة إلى إيصال أنواع الخير، ونفي التعذيب إلى دفع أنواع الشرّ (3).

متن الحديث الثالث والتسعين

اشاره

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ الثُّمَالِيِّ وَأَبِي (4) مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، قَالَ:

حَجَجْنَا مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي السَّنَةِ الَّتِي كَانَ حَجَّ فِيهَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَهُ نَافِعٌ مَوْلى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَنَظَرَ نَافِعٌ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي رُكْنِ الْبَيْتِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ نَافِعٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ هذَا الَّذِي قَدْ تَدَاكَّ عَلَيْهِ النَّاسُ؟

فَقَالَ: هذَا نَبِيُّ أَهْلِ الْكُوفَةِ، هذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ.

فَقَالَ: اشْهَدْ لَاتِيَنَّهُ، فَلَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ مَسَائِلَ لَا يُجِيبُنِي فِيهَا إِلَا نَبِيٌّ، أَوِ ابْنُ نَبِيٍّ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ.

قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ، وَسَلْهُ، لَعَلَّكَ تُخْجِلُهُ. فَجَاءَ نَافِعٌ حَتَّى اتَّكَأَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ أَشْرَفَ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، إِنِّي قَرَأْتُ التَّوْرَاةَ وَالْاءِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ، وَقَدْ عَرَفْتُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَقَدْ جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَسَائِلَ لَا يُجِيبُ فِيهَا إِلَا نَبِيٌّ، أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ، أَوِ ابْنُ نَبِيٍّ.

ص: 254


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 66
2- آل عمران (3) : 37
3- اُنظر : تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 33
4- في الطبعة الجديدة وبعض نسخ الكافي : «وأبو» . ولايخفى أنّ أبي منصور معطوف علي أبي حمزة الثمالي، كما يُعلم ذلك أيضا من تفسيرالقمّي ، ج 2 ، ص 284. فتأمّل

قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام رَأْسَهُ، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ».

فَقَالَ: أَخْبِرْنِي كَمْ بَيْنَ عِيسى وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِنْ سَنَةٍ؟

قَالَ: «أُخْبِرُكَ بِقَوْلِي، أَوْ بِقَوْلِكَ؟»

قَالَ: أَخْبِرْنِي بِالْقَوْلَيْنِ جَمِيعا.

قَالَ: «أَمَّا فِي قَوْلِي، فَخَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. وَأَمَّا فِي قَوْلِكَ فَسِتُّمِائَةِ سَنَةٍ».

قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لِنَبِيِّهِ: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» (1). ؛ مَنِ الَّذِي سَأَلَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسى خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ؟ قَالَ: فَتَلَا أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام هذِهِ الْايَةَ: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» (2). ؛ فَكَانَ مِنَ الْايَاتِ الَّتِي أَرَاهَا اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله حَيْثُ أَسْرى بِهِ إِلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ حَشَرَ اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ الْأَوَّلِينَ وَالْاخِرِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ أَمَرَ جَبْرَئِيلَ عليه السلام ، فَأَذَّنَ شَفْعا، وَأَقَامَ شَفْعا، وَقَالَ فِي أَذَانِهِ: «حَيَّ عَلى خَيْرِ الْعَمَلِ»، ثُمَّ تَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ، فَصَلّى بِالْقَوْمِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُمْ: عَلى مَا تَشْهَدُونَ، وَمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟

قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللّهِ، أَخَذَ عَلى ذلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا».

فَقَالَ نَافِعٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَ وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما» (3) .

قَالَ: «إِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقا لَا تَمْطُرُ شَيْئا، وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقا لَا تُنْبِتُ شَيْئا، فَلَمَّا أَنْ تَابَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَلى آدَمَ عليه السلام ، أَمَرَ السَّمَاءَ فَتَقَطَّرَتْ بِالْغَمَامِ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَأَرْخَتْ عَزَالِيَهَا، ثُمَّ أَمَرَ الْأَرْضَ فَأَنْبَتَتِ الْأَشْجَارَ، وَأَثْمَرَتِ الثِّمَارَ، وَتَفَهَّقَتْ بِالْأَنْهَارِ، فَكَانَ ذلِكَ رَتْقَهَا، وَهذَا فَتْقَهَا».

ص: 255


1- الزخرف (43) : 45
2- الإسراء (17) : 1
3- الأنبياء(21) : 30

قَالَ (1) نَافِعٌ: صَدَقْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (2) ؛ أَيُّ أَرْضٍ تُبَدَّلُ يَوْمَئِذٍ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «أَرْضٌ تَبْقى (3).

خُبْزَةً يَأْكُلُونَ مِنْهَا، حَتّى يَفْرُغَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مِنَ الْحِسَابِ».

فَقَالَ نَافِعٌ: إِنَّهُمْ عَنِ الْأَكْلِ لَمَشْغُولُونَ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «أَ هُمْ يَوْمَئِذٍ أَشْغَلُ، أَمْ إِذْ هُمْ فِي النَّارِ؟»

فَقَالَ نَافِعٌ: بَلْ إِذْ هُمْ فِي النَّارِ.

قَالَ: «فَوَ اللّهِ، مَا شَغَلَهُمْ؛ إِذْ دَعَوْا بِالطَّعَامِ، فَأُطْعِمُوا الزَّقُّومَ، وَدَعَوْا بِالشَّرَابِ، فَسُقُوا الْحَمِيمَ».

قَالَ: صَدَقْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، وَلَقَدْ بَقِيَتْ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ: «وَمَا هِيَ؟»

قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ اللّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مَتى كَانَ؟ قَالَ: «وَيْلَكَ مَتى لَمْ يَكُنْ حَتّى أُخْبِرَكَ مَتى كَانَ؟ سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فَرْدا صَمَدا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدا».

ثُمَّ قَالَ: «يَا نَافِعُ، أَخْبِرْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ».

قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «مَا تَقُولُ فِي أَصْحَابِ النَّهْرَوَانِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُمْ بِحَقٍّ فَقَدِ ارْتَدَدْتَ، وَإِنْ قُلْتَ: إِنَّهُ قَتَلَهُمْ بَاطِلًا فَقَدْ كَفَرْتَ!»

قَالَ: فَوَلّى مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللّهِ أَعْلَمُ النَّاسِ حَقّا حَقّا.

فَأَتى هِشَاما، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: دَعْنِي مِنْ كَلَامِكَ، هذَا وَاللّهِ أَعْلَمُ النَّاسِ حَقّا حَقّا، وَهُوَ ابْنُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله حَقّا، وَيَحِقُّ لأصْحَابِهِ أَنْ يَتَّخِذُوهُ نَبِيّا.

شرح الحديث

السند مجهول كالحسن ؛ لأنّ الظاهر عطف أبي منصور على ثابت بن دينار، وروايتهما جميعا عن الربيع الشامي .

قوله : (نافع مولى عمر بن الخطّاب) ؛ هو نافع بن الأزرق .

ونقل عن جامع الاُصول : «نافع مولى عمر، هو أبو عبد اللّه نافع بن سَرْجس _ على وزن

ص: 256


1- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي : «فقال»
2- إبراهيم (14) : 48
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «أرضا بيضاء»

نَرْجِس _ مولى عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب، كان ديلميّا تابعيّا» انتهى (1).

وهو من ثقات العامّة ، ورووا عنه كثيرا ، وروى هو عن ابن عمر غالبا، وكان ناصبيّا خبيثا معاندا لأهل البيت عليهم السلام ، ويظهر من بعض أحاديثنا أنّه يرى رأي الخوارج ، وفي آخر هذا الحديث أيضا إيماء إلى ذلك .

وقوله : (تَداكّ عليه الناس) أي ازدحموا جدّا .

وأصل الدكّ: الدقّ، والهدم، والكسر . يقال : دككت الشيء أدكّهُ _ بالضمّ _ دكّا، إذا ضربته، وكسرته حتّى سوّيته بالأرض .

وقوله : (أمّا في قولي: فخمسمائة سنة) .

هذا موافق لأخبار متكثّرة من طرقنا ، لكن روى الصدوق رحمه الله في كتاب إكمال الدِّين بعد ما روى ما يطابق هذا الخبر عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «كانت الفترة بين عيسى وبين محمّد صلى الله عليه و آله أربعمائة سنة وثمانين سنة» (2).

وقال بعض الفضلاء : هذا الخبر الذي رواه الصدوق، وإن كان عامّيّا، يمكن حمله على أنّه لم يحسب فيه بعض زمان الفترة منها لقرب العهد بعيسى عليه السلام . وأمّا العامّة فقد اختلفوا فيه على أقوال : منها : أنّه ستّمائة سنة (3) . ومنها : أنّه خمسمائة وستّون سنة (4) ومنها : أنّه أربعمائة وبضع وستّون سنة (5) ومنها : أنّه خمسمائة وشيء ، وأسندوه إلى ابن عبّاس . وقيل : كان بين ميلاد عيسى ومحمّد صلى الله عليه و آله خمسمائة وتسع وستّون سنة (6). وقوله : (اشهد) على صيغة الأمر .

وقوله : (لآتينّه) بفتح اللام الموطّئة للقسم .

ويحتمل كونه على صيغة المتكلِّم من الشهادة، أو الإشهاد .

وقوله : (تُخجله) من الإخجال. يُقال: خَجِل _ بالكسر _ خجلاً، إذا تحيّر، ودهِش. ومن

ص: 257


1- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 285
2- كمال الدين ، ج 1 ، ص 226 - 227 ، ح 20
3- روي عن الحسن والقتادة
4- عن قتادة أيضا في رواية اُخرى
5- نسبة العامّة إلى الضحّاك
6- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 286

الاستحياء ، وأخجله غيره .

وقوله تعالى : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ» (1) الآية .

قال أكثر المفسّرين : إنّ المراد: اسأل اُممهم وعلماءهم (2).

ولا يخفى ما فيه من التكلّف والتعسّف. وعلى ما فسّره عليه السلام لا يحتاج إلى ارتكاب حذف وتكلّف أصلاً .

وقوله : (من الذي سأله محمّد صلى الله عليه و آله ) إلى آخره .

قيل : زعم نافع أنّ بُعد الزمان والمسافة مانع من الملاقاة والسؤال . وأجاب عليه السلام بأنّه وقع الملاقاة والسؤال ليلة الإسراء، وإنّما اُجيب به؛ لأنّه لا يقدر المخاطب المتعنّت على إنكاره، وإلّا فهو صلى الله عليه و آله قادر على السؤال في كلّ وقت أراد؛ إذ لا مسافة في العالم الروحاني (3).

وأقول : الظاهر أنّ مبنى الجواب بيان الواقع ، فلا وجه لما ذكره هذا القائل من التوجيه .

وقوله : (حشر اللّه ) أي جمع . والحشر: جمع الناس .

وقوله : (فأذّن شَفعا، وأقام شفعا) ؛ يدلّ كغيره من الأخبار على تثنية التكبير في أوّل الأذان، وكذا التهليل في آخر الإقامة، وكلاهما خلاف ما هو المشهور بين علمائنا فتوى ورواية .

ويمكن توجيه الأوّل على وجه يندفع المنافاة بما رواه الصدوق فيما ذكره الفضل بن شاذان من العلل عن الرِّضا عليه السلام أنّه قال : «إنّما اُمر الناس بالأذان لعلل كثيرة _ إلى أن قال : _ وجعل التكبير في أوّل الأذان أربعا ؛ لأنّ أوّل الأذان إنّما يبدأ غفلة، وليس قبله كلام يُنبَّه المستمع له، فجعل الاُوليين تنبيها للمستمعين لما بعده في الأذان» (4).

وهذا صريح في أنّ الأصل في الأذان إنّما هو التكبيرتان، وزيدت الاُخريان لغرض التنبيه . وأمّا الثاني فالحقّ إبقاؤه بحاله والحكم بظاهره، ويؤيّده أخبار صحيحة اُخرى، وما استدلّوا به على وحدة التهليل في آخر الإقامة ضعيف جدّا .

وما قيل في توجيه الثاني من أنّه يمكن حمله على كون أكثر فصولهما شفعا ردّا على

ص: 258


1- الزخرف (43) : 45
2- راجع : تفسير الرازي ، ج 27 ، ص 216 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 147
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 67
4- علل الشرائع ، ج 1 ، ص 258 ، ح 9 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 58 ، ح 1

بعض العامّة القائلين بأنّ فصول الإقامة كلّها وتر (1) ، فبُعده ظاهر .

نعم، في قوله عليه السلام : (وقال في أذانه: حيَّ على خير العمل) إيماء إلى ذلك .

وقوله : (فصلّى بالقوم) .

قيل : كيف يصلّون وهم في دار الآخرة ، وليست دار عمل، واُجيب عنه بوجوه : الأوّل : أنّه إذا كان الشهداء أحياءً، فهؤلاء أولى، وإذا كانوا أحياءً صحّ أن يصلّوا ويعملوا سائر القربات، ويتقرّبوا بذلك إلى اللّه تعالى، وهم وإن كانوا في الآخرة فالدُّنيا لم تنقطع بَعدُ ، فإذا فنيت، وعقبتها الآخرة دار الجزاء، انقطع العمل .

الثاني : أنّ الصلاة ذكر ودعاء، والآخرة دار الذِّكر والدعاء . قال اللّه تعالى : «وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ» (2) .

الثالث : أنّ الموت يمنع التكليف، لا العمل (3).

وأقول : لا يبعد أن يقع ذلك بسؤالهم والتماسهم من جناب الحقّ، فلا إشكال .

وقوله : (فتقطّرت بالغمام) .

الغمام: السحاب . وقيل : سمّي به؛ لأنّه يغمّ؛ أي يغطّي ويستر وجه السماء، أو وجه الشمس (4).

ولعلّ الباء للتعدية ؛ أي أمر السماء، فصيّرت الغمام ذا قطرةٍ ومَطَرٍ بتأثيرها فيه. أو يكون للإلصاق، أو للسببيّة . والسماء بمعنى المطر ؛ أي أمر المطر، فوكف وترشّح، أو نزل وانفصل عن موضعه متلبّسا بالغمام، أو بسببه .

وفي القاموس: «تقطّر: رمى بنفسه من علوّ. وتقطر عنه: تخلّف» (5).

وقيل : معنى «تقطّرت بالغمام»: أحدثت القطرات بالغمام .

وفي بعض النسخ : «فتفطّرت» بالفاء . والتفطّر: التشقّق . ولعلّ الباء هنا أيضا للتعدية؛ أي

ص: 259


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 287
2- يونس (10) : 10
3- والقائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 67
4- والقائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 67
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 119 (قطر)

أمر السماء ، فشقّت بالغمام بتأثيرها لنزول المطر .

وقال بعض الفضلاء : «أي تشقّقت السماء بسبب الغمام، أو عنه، بأن يكون الباء بمعنى «عن» ، وظاهره أنّ الغمام أوّلاً نزل من السماء ، ونظيره ما قاله تعالى في وصف يوم القيامة : «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً» (1). » .

قال : «ويحتمل أن يكون المراد بالغمام المطر مجازا» (2).

وقوله : (فأرخَتْ عَزاليها) .

في القاموس: «أرخى السِتر: أَسْدَلهُ» (3) . وفي المصباح : «العَزلاء، وزان حمراء: فم المَزادة الأسفل. والجمع: العزالي، بفتح اللام وكسرها . وأرسلت السماء عزاليها؛ إشارة إلى شدّة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادات» (4).

وقال الجوهري : «العَزلاء: فم المزادة الأسفل. والجمع: العزالي، بكسر اللام، وإن شئت فتحت مثل الصحاري والصحارَى، والعذارِي والعذارَى» (5).

(وتفيهقت بالأنهار) .

قال الجوهري : «قال الفرّاء : يقال: فلان يتفيهق في كلامه، وذلك إذا توسّع فيه، وتنطّع» قال : «وأصله الفَهْق، وهو الامتلاء، كأنّه ملأ به فمه» (6).

وفي بعض النسخ : «تفهّقت» . قال الجوهري : «فَهِق الإناء _ بالكسر _ يفهَق فَهْقا وفُهَقا، إذا امتلأ حتّى يتصبّب» (7).

وفي كثير من النسخ: «تقيّهت». ولعلّ المراد أنّها فتحت أفواهها، لكنّ القياس: «تفوّهت» . قال الجوهري : «يُقال : ما فهتُ بكلمة، وما تفوّهت بمعنىً؛ أي ما فتحت فَمي به» (8).

وقوله تعالى في سورة إبراهيم : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ» (9) .

ص: 260


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 287
2- الفرقان (25) : 25
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 333 (رخو)
4- المصباح المنير ، ص 408 (عزل)
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 1763 (عزل)
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1545 (فهق) . وفي الحاشية : «تنطّع في الكلام ، أي تعمّق»
7- الصحاح ، ج 4 ، ص 1545 (فهق)
8- الصحاح ، ج 6 ، ص 2245 (فوه)
9- إبراهيم (14) : 48

قال البيضاوي : «السماوات» عطف على الأرض، وتقديره: والسماوات غير السماوات، والتبديل يكون في الذات، كقولك: بدّلت الدراهم بالدنانير ، وعليه «بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَهَا» (1) .

وفي الصفة كقولك : بدّلت الحلقة خاتما، إذا أذبتها وغيّرت شكلها ، وعليه قوله : «يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ» (2) ، والآية تحتملهما .

وعن عليّ عليه السلام : «تبدّل أرضا من فضّة، وسماوات من ذهب» (3).

وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئة .

وعن ابن عبّاس : هي تلك الأرض، وإنّما تغيّرت صفاتها ، ويدلّ عليه ما رَوى أبو هريرة أنّه عليه السلام قال : «تبدّل الأرض غير الأرض، فتبسط، وتُمدّ مدّ الأديم العكاظي» (4).

واعلم أنّه لا يلزم على الوجه الأوّل أن يكون الحاصل بالتبديل أرضا وسماءً على الحقيقة ، ولا يبعد على الثاني أن يجعل اللّه الأرض جهنّم والسماوات الجنّة على ما أشعر به قوله : «كَلَا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» (5) ، وقوله : «كَلَا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» (6) .

وقوله : (أرض تبقى خبزة ...) ؛ كأنّ «تبقى» من الإبقاء ، والمستتر فيه راجع إلى الأرض ، و«خبزة» مفعوله ؛ يعني لا يبقى ممّا كان فيها سوى الخبز .

ويحتمل كونه من البقاء ، و«خبزةً» _ بفتح الخاء وكسر الباء _ على أن تكون صفة مشبّهة منصوبة على التمييز، أو بتضمين الصيرورة .

وفي كثير من النسخ المصحّحة: «أرضا بيضاء خبزة» . وفي بعض الأخبار: «أنّها تبدّل خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب» (7).

وفي بعضها: «يحشر الناس على مثل قرصة البرّ النقيّ، فيها أنهار متفجّرة يأكلون ويشربون حتّى يفرغ من الحساب» (8).

ص: 261


1- النساء (4) : 56
2- الفرقان (25) : 70
3- اُنظر : الكشّاف ، ج 2 ، ص 384 ؛ تفسير النسفي ، ج 2 ، ص 235
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 356 و 357
5- المطفّفين (83) : 18
6- المطفّفين (83) : 7
7- الكافي ، ج 6 ، ص 286 ، ح 1. وعنه في وسائل الشيعة ، ج 24 ، ص 321 ، ح 30658 ؛ وبحار الأنوار ، ج 7 ، ص 71
8- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 57 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 105 ، ح 21

واعلم أنّ هذا التفسير موافق لأخبار كثيرة من طرق الخاصّة، وفي بعضها ما يخالفه ظاهرا : منها : ما روي عن ثوير بن أبي فاختة، عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال : «تبدّل الأرض غير الأرض؛ يعني بأرض لم تكتسب عليها الذنوب بارزة، ليست عليها جبال ولا نبات، كما دحاها أوّل مرّة» (1).

قيل : يمكن أن يحمل هذا الخبر على التقيّة ، أو على أنّ هذا بيان حال غير أرض المحشر من سائر أجزاء الأرض (2).

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن داود بن فرقد، عن رجل، عن سعيد بن أبي الخطيب: أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال لابن أبي ليلى : «ما تقول إذا جيء بأرض من فضّة وسماوات من فضّة، ثمّ أخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله بيدك، فأوقفك بين يدي ربّك، وقال : ياربّ هذا قضى بغير ما قضيتُ» تمام الخبر (3).

قيل : يمكن حمله على أنّه عليه السلام قال ذلك موافقا لما كان يعتقده ابن أبي ليلى إلزاما عليه ، أو على أنّ هذا مختصّ بجماعة من المجرمين يعذّبون بذلك (4). انتهى .

ولا يخفى عليك عدم المنافاة بين تلك الأخبار حتّى يحتاج إلى ارتكاب مثل هذه التوجيهات البعيدة؛ فإنّه يمكن تبدّلها بأرض لم تكتب عليها الذنوب، وتكون من فضّة، وتكون عليها خبزة وأنهار جارية .

وقوله : (ما شغلهم) .

كلمة «ما» نافية ، و«شغل» على بناء الفاعل ، والمستتر فيه راجع إلى العذاب المفهوم من السياق .

(إذ دعوا بالطعام) على بناء المفعول .

وكذا قوله : (فاُطعموا الزقّوم) .

في القاموس: «الزقّوم، كقنّور: شجرة بجهنّم، وطعام أهل النار» (5).

ص: 262


1- تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 236 ، ح 52 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 252
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 290
3- التهذيب ، ج 6 ، ص 220 ، ح 5
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 290
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 125 (زقم)

(ودعوا بالشراب، فسقوا الحميم) أي الماء الحارّ المتناهي في الحرارة .

وقوله : (أخبرني عن اللّه تعالى متى كان) ؛ سأل عن ابتداء وجوده، أو مدّة زمان وجوده ، فأجاب عليه السلام بأنّه (متى لم يكن حتّى اُخبرك متى كان) وحاصله : أنّ وجود الواجب لا يجري فيه مقولة متى، كما أنّ عدمه لا يجري فيه ذلك، وإنّما تجري في الوجودات الحادثة .

والتحقيق أنّ قولك: «متى كان زيد» سؤال عن أوّل زمان كونه ووجوده، أو عن مدّته ومقداره، ويلزمه جواز السؤال عن عدمه السابق على وجود ، ومن هذا تسمعهم يقولون : كلّ ما يصحّ أن يسأل عن وجوده بمتى، يصحّ أن يسأل عن عدمه بمتى ، واللازم باطل؛ لما ثبت من كونه تعالى واجب الوجود ، فبطل الملزوم ، وهو المطلوب .

وقوله : (لم يزل) إشارة إلى استمرار وجوده أزلاً، بحيث لم يسبقه العدم .

(ولا يزال) إشارة إلى استمراره أبدا، بحيث لا يلحقه الفناء .

والحاصل : أنّه سبحانه يستحيل عليه الانتقال من العدم إلى الوجود، ومن الوجود إلى العدم؛ لاستحالة انفكاك الوجود عنه وقتا مّا .

(فردا صمدا) نصب على الحال عن فاعل «لم يزل» و«لا يزال» .

والصمد، محرّكة: السيّد، من الصمد _ بالسكون _ وهو القصد ، سمّي به؛ لأنّه يقصد في الحوائج . والصَّمَد أيضا: الدائم والرفيع. ومصمّت: لا جوف له. والرجل: لا يعطش ولا يجوع في الحرب .

قيل : هذا حجّة لعدم كون وجوده مسبوقا بالعدم؛ إذ لو كان كذلك لاحتاج إلى الموجد ضرورة، فإنّ الشيء لا يوجد نفسه، فلا يكون فردا صمدا على الإطلاق؛ لكونه مع موجده واحتياجه إليه (1).

(لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا) ؛ لتقدّسه تعالى عن الشهوة، والتعاون، والتماثل، والاحتياج إلى الولد، ونحو ذلك من صفات الحدوث وسمات الإمكان .

وقوله عليه السلام : (ما تقول في أصحاب النهروان) .

قيل : أراد عليه السلام الاحتجاج عليه فيما كان يعتقده من رأي الخوارج ، فقال : إن قلت : إنّ

ص: 263


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 69

الخوارج قتلهم أمير المؤمنين عليه السلام بحقّ، فقد ارتددت، ورجعت عن مذهبك .

وإن قلت : إنّ قتلهم كان باطلاً، فقد نسبت البطلان والقتل بغير حقّ إلى عليّ عليه السلام وكفرت بذلك ، وكان هذا منه عليه السلام أخذا في الاحتجاج، وأراد أن يثبت بالبرهان عليه كفره بهذه العقيدة، فلم يقف ليتمّ عليه الحجّة؛ إمّا لعلمه بأنّه عليه السلام يغلب عليه في الحجّة ويفتضح بذلك ، أو لأنّه كان لا يظهر هذا الرأي لكلّ أحد، وكان يخفيه، فخاف أن يشتهر بذلك، ويكفّره الناس (1).

وأقول : يحتمل أن يكون غرضه عليه السلام إلزام كفره على كلّ من شقّي الترديد ؛ إمّا على الأوّل، فبالنظر إلى معتقده من تصويب الخوارج ، وإمّا على الثاني، ففي الواقع وعند عامّة المسلمين سوى الخوارج التي شقّت عصا المسلمين، وأنكرت ما هو العمدة من ضروريّات الدِّين .

وقال بعض الشارحين : كأنّ نافعا كان يعتقد بأنّ عليّا عليه السلام كان إماما مفترض الطاعة بعد الثلاثة، وبأنّ أهل نهروان كانوا محقّين في مخالفته، فأورد عليه السلام عليه بأنّ هذين الاعتقادين متنافيان لا يجتمعان معا ؛ وذلك لأنّك إن قلت: إنّ عليّا عليه السلام قاتلهم بحقّ ارتددت بتصديقك أهل النهروان كما ارتدّوا . وإن قلت: إنّه قاتلهم باطلاً، فقد كفرت عند الاُمّة بنسبة الباطل إليه عليه السلام . انتهى (2).

وهذا التوجيه بمعزل عن التحقيق؛ إذ لم نسمع إلى الآن أنّ ما نسب إلى نافع ذهب إليه أحد من فرق المسلمين .

متن الحديث الرابع والتسعين (حديثُ نَصْرانيِّ الشَّامِ مع الباقر عليه السلام )

اشارة

عَنْهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ:أَخْرَجَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، فَأَنْزَلَ مَعَهُ، (3). وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ النَّاسِ فِي مَجَالِسِهِمْ، فَبَيْنَا هُوَ قَاعِدٌ _ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُونَهُ _ إِذْ نَظَرَ إِلَى النَّصَارى يَدْخُلُونَ فِي جَبَلٍ هُنَاكَ، فَقَالَ: «مَا لِهؤُلَاءِ؟ أَ لَهُمْ عِيدٌ الْيَوْمَ؟» فَقَالُوا: لَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ، وَلكِنَّهُمْ يَأْتُونَ عَالِما لَهُمْ فِي هذَا الْجَبَلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي هذَا الْيَوْمِ،

ص: 264


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 291
2- شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 69
3- في كلتا الطبعتين وأكثر نسخ الكافي : «فأنزله منه»

فَيُخْرِجُونَهُ، فَيَسْأَلُونَهُ عَمَّا يُرِيدُونَ، وَعَمَّا يَكُونُ فِي عَامِهِمْ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «وَلَهُ عِلْمٌ؟» فَقَالُوا: هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ الْحَوَارِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ عِيسى عليه السلام .

قَالَ: «فَهَلْ نَذْهَبُ إِلَيْهِ؟» قَالُوا: ذَاكَ إِلَيْكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ.

قَالَ: فَقَنَّعَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ، وَمَضى هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَاخْتَلَطُوا بِالنَّاسِ حَتّى أَتَوُا الْجَبَلَ، فَقَعَدَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام وَسْطَ النَّصَارى هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَخْرَجَ النَّصَارى بِسَاطا، ثُمَّ وَضَعُوا الْوَسَائِدَ، ثُمَّ دَخَلُوا، فَأَخْرَجُوهُ، ثُمَّ رَبَطُوا عَيْنَيْهِ، فَقَلَّبَ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُمَا عَيْنَا أَفْعًى، ثُمَّ قَصَدَ قَصْدَ (1) أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا شَيْخُ، أَ مِنَّا أَنْتَ، أَمْ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «بَلْ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ».

فَقَالَ: أَ فَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ، أَمْ مِنْ جُهَّالِهِمْ؟

فَقَالَ: «لَسْتُ مِنْ جُهَّالِهِمْ».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَسْأَلُكَ، أَمْ تَسْأَلُنِي؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «سَلْنِي».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارى، رَجُلٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَلْنِي، إِنَّ هذَا لَمَلِيءٌ بِالْمَسَائِلِ.

ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ سَاعَةٍ مَا هِيَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ؛ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلى طُلُوعِ الشَّمْسِ».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، فَمِنْ أَيِّ السَّاعَاتِ هِيَ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «مِنْ سَاعَاتِ الْجَنَّةِ، وَفِيهَا تُفِيقُ مَرْضَانَا».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: فَأَسْأَلُكَ، أَمْ تَسْأَلُنِي؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «سَلْنِي».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارى، إِنَّ هذَا لَمَلِيءٌ بِالْمَسَائِلِ.

أَخْبِرْنِي عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ كَيْفَ صَارُوا يَأْكُلُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ؟ أَعْطِنِي مَثَلَهُمْ فِي الدُّنْيَا.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «هذَا الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُ أُمُّهُ، وَلَا يَتَغَوَّطُ».

ص: 265


1- في الطبعة القديمة : «إلى» بدل «قصد»

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: أَ لَمْ تَقُلْ: مَا أَنَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ: مَا أَنَا مِنْ جُهَّالِهِمْ».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: فَأَسْأَلُكَ، أَوْ تَسْأَلُنِي؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «سَلْنِي».

فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارى، وَاللّهِ لَأَسْأَلَنَّهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ يَرْتَطِمُ فِيهَا كَمَا يَرْتَطِمُ الْحِمَارُ فِي الْوَحْلِ.

فَقَالَ لَهُ: «سَلْ».

فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَجُلٍ دَنَا مِنِ امْرَأَتِهِ، فَحَمَلَتْ بِاثْنَيْنِ، حَمَلَتْهُمَا جَمِيعا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَوَلَدَتْهُمَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَاتَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، عَاشَ أَحَدُهُمَا خَمْسِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَعَاشَ الْاخَرُ خَمْسِينَ سَنَةً، مَنْ هُمَا؟

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «عُزَيْرٌ، وَعَزْرَةُ، كَانَا حَمَلَتْ أُمُّهُمَا بِهِمَا عَلى مَا وَصَفْتَ، وَوَضَعَتْهُمَا عَلى مَا وَصَفْتَ، وَعَاشَ عُزَيْرٌ وَعَزْرَةُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، ثُمَّ أَمَاتَ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عُزَيْرا مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ بُعِثَ، وَعَاشَ مَعَ عَزْرَةَ هذِهِ الْخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَاتَا كِلَاهُمَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ».

فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارى، مَا رَأَيْتُ بِعَيْنِي قَطُّ أَعْلَمَ مِنْ هذَا الرَّجُلِ، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ حَرْفٍ وَهذَا بِالشَّامِ، رُدُّونِي.

قَالَ: فَرَدُّوهُ إِلى كَهْفِهِ، وَرَجَعَ النَّصَارى مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام .

شرح الحديث

السند مجهول كالحسن .

وضمير «عنه» راجع إلى أحمد بن محمّد؛ لروايته عن إسماعيل بن أبان .

قوله : (فأنزل معه) .

في بعض النسخ: «فأنزله معه» . وفي بعضها : «فأنزله منه» . ولعلّ المراد أنزله في بيته، أو أجلسه معه في سريره . ويؤيّد الثاني أنّ في تفسير عليّ بن إبراهيم : «وكان ينزله معه» (1). وفي أمان الأخطار : «لمّا دخل عليه قال له : إليَّ يا محمّد ، فصعد أبي إلى السرير، وأنا أتبعه، فلمّا

ص: 266


1- تفسير القمّي ، ج 1 ،ص 98 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 313 ، ح 2

دنا من هشام قام إليه، واعتنقه، وأقعده عن يمينه» (1).

وقوله : (فقنّع أبو جعفر عليه السلام رأسه بثوبه) .

التقنيع : إلباسُ القناع . والمراد هنا مطلق التغطية، أو شبه النقاب ، وعلى الثاني لعلّه إنّما فعل ذلك لئلّا يعرفه أحد .

وقوله : (بساطا) ؛ هو بالكسر: ما يبسط .

وقوله : (الوسائد) ؛ جمع الوساد _ بالكسر والضمّ _ والوسادة بالكسر . وقيل: مثلّثة، وهي المخدّة .

وقوله : (ثمّ ربطوا عينيه) .

قيل : كأنّهم ربطوا حاجبيه؛ لطوله المانع من الرؤية، أو لئلّا تتضرّر من شعاع الشمس بعد خروجه من الغار المظلم، وذلك كما توضع اليد فوق الحاجبين عند مواجهة الشمس لأجل رؤية ما يقابله .

وتعلّق الربط بالعين لأدنى ملابسة ومقاربة (2).

أقول : يؤيّده أنّ في كتاب أمان الأخطار لابن طاووس : «قد شدّ حاجبيه بحريرة صفراء» (3).

وقيل : يحتمل أن يكون المراد ربط ثوب شفيف على عينيه بحيث لا يمنع رؤيته من تحته؛ لئلّا يضرّه نور الشمس لاعتياده بالظلمة (4).

وقوله : (لمليء) أي غنيّ معتمد .

وقيل : أي جدير بأن يسأل عنه . قال الجوهري : «مَلأ الرجل : صار مليئا ؛ أي ثقة، فهو غنيّ مليء» (5).

وفي القاموس: «المُلاء: الأغنياء المتموّلون، أو الحسن والقضاء منهم . الواحد: مَلِيء. وقد ملأ _ كمنع وكرم _ مليّا ومَلاءً وملآءَةً» (6).

وقوله : (ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) .

قيل : هذا لا ينافي ما نقله العلّامة وغيره من إجماع الشيعة على كونها من ساعات النهار ؛

ص: 267


1- أمان الأخطار ، ص 66
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 70
3- أمان الأخطار ، ص 69
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 293
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 73 (ملأ)
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 28 (ملأ)

لأنّ الظاهر أنّ المراد بهذا الخبر أنّها ساعة لا تشبه شيئا من ساعات الليل والنهار ، بل هي شبيهة بساعات الجنّة، وإنّما جعلها اللّه في الدُّنيا ليعرفوا بها طيب هواء الجنّة ولطافتها واعتدالها ، على أنّه يحتمل أن يكون عليه السلام أجاب السائل على ما يوافق مذهبه واعتقاده ومصطلحه (1).

وقوله : (فيها) أي في تلك الساعة .

(تُفيق مَرضانا) .

في القاموس: «أفاق من مرضه: رجعت الصحّة إليه، أو رجع إلى الصحّة . والإفاقة: الراحة» (2).

وقوله : (كما يرتطم الحمار في الوَحل) .

قال الفيروزآبادي : «رطمه: أوْحله في أمرٍ لا يخرج منه، فارتطم. وارتطم عليه الأمر: لم يقدر على الخروج منه» (3).

وقال : «الوَحْل، ويحرّك: الطين الرقيق» (4).

وقوله : (عَزرة) بتقديم المعجمة على المهملة .

وقوله : (هذه الخمسين سنة) أي تتمّة الخمسين .

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم: «كانت حملت اُمّهما على ما وصفتَ، ووضعتهما على ما وصفتَ، وعاش عزرة وعزير ثلاثين سنة، ثمّ أمات اللّه عزيرا مائة سنة، وبقي عزرة يحيى، ثمّ بعث اللّه عزيرا، فعاش مع عزرة عشرين سنة» (5).

وفي أمان الأخطار : «أنّه عاش قبل موته خمسا وعشرين سنة، وبعده أيضا مثل ذلك» . وفي الخرائج بعد ذلك: «فخرّ الشيخ مغشيّا عليه، فقام أبي، وخرجنا من الدَّيْر، فخرج إلينا جماعة من الدير، وقالوا : يدعوك شيخنا . فقال أبي : ما لي بشيخكم من حاجة، فإن كان له عندنا حاجة فليقصدنا ، فرجعوا، ثمّ جاؤوا به، واُجلِسَ بين يدي أبي، فقال : ما اسمك؟

ص: 268


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 293
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 278 (فوق)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 120 (رطم)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 64 (وحل)
5- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 98

قال : محمّد . قال : أنت محمّد النبيّ؟ قال : لا، أنا ابن ابنته . قال : ما اسم اُمّك؟ قال : اُمّي فاطمة . قال : من كان أبوك؟ قال : اسمه عليّ . قال : أنت ابن إليا بالعبرانيّة وعليّ بالعربيّة؟ قال : نعم . قال : ابن شبّر، أو شبير؟ قال : إنّي ابن شبير . قال الشيخ : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده، لا شريك له، وأنّ محمّدا رسول اللّه » (1).

متن الحديث الخامس والتسعين (حديثُ أبي الحسن موسى عليه السلام )

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، (2) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْخُزَاعِيِّ، (3) عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، (4) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، (5) عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ، (6) عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ وَ (7) الْحَسَنُ (8) بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّهْدِيِّ، (9) عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، (10) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ:

كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام _ وَهُوَ فِي الْحَبْسِ _ كِتَابا أَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، وَعَنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَاحْتَبَسَ الْجَوَابُ عَلَيَّ أَشْهُرا، ثُمَّ أَجَابَنِي بِجَوَابٍ هذِهِ نُسْخَتُهُ:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، الَّذِي بِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ عَادَاهُ الْجَاهِلُونَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ ابْتَغى مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بِالْأَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْأَدْيَانِ الْمُتَضَادَّةِ، فَمُصِيبٌ وَمُخْطِئٌ، وَضَالٌّ وَمُهْتَدٍ، وَسَمِيعٌ وَأَصَمُّ، وَبَصِيرٌ وَأَعْمى حَيْرَانُ.

فَالْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي عَزَّ، (11) وَوَصَفَ دِينَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله .

ص: 269


1- الخرائج ، ج 1 ، ص 291
2- في الحاشية: «ثقة على الأصحّ. منه»
3- في الحاشية: «مجهول الحال. منه»
4- في الحاشية: «وثّقه كثير. منه»
5- في الحاشية: «ثقة. منه»
6- في الحاشية: «وثّقه العلّامة، وفيه نظر. منه»
7- في السند تحويل بثلاثة طرق منتهية إلى عليّ بن سويد
8- في الطبعة الجديدة ونسخة من الكافي من النسخ التي قوبلت فيها : «الحسين» . وقد تكرّرت في أسناد الكافي رواية الحسين بن محمّد شيخ المصنّف رحمه الله عن النهدي بعناوينه المختلفة . اُنظر للمزيد : معجم رجال الحديث للمحقّق الخوئي رحمه الله ، ج 6 ، ص 340 ، الرقم 342
9- في حاشية النسخة : «هو محمّد بن أحمد بن خاقان»
10- في الحاشية: «ضعّفه ابن الغضائري، ومثله النجاشي. منه»
11- في كلتا الطبعتين : «عرف»

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ امْرُؤٌ أَنْزَلَكَ اللّهُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةٍ خَاصَّةٍ، وَحَفِظَ مَوَدَّةَ مَا اسْتَرْعَا كَ مِنْ دِينِهِ، وَمَا أَلْهَمَكَ مِنْ رُشْدِكَ، وَبَصَّرَكَ مِنْ أَمْرِ دِينِكَ بِتَفْضِيلِكَ إِيَّاهُمْ، وَبِرَدِّكَ الْأُمُورَ إِلَيْهِمْ.

كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ أُمُورٍ كُنْتُ (1) مِنْهَا فِي تَقِيَّةٍ، وَمِنْ كِتْمَانِهَا فِي سَعَةٍ، فَلَمَّا انْقَضى سُلْطَانُ الْجَبَابِرَةِ، وَجَاءَ سُلْطَانُ ذِي السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ بِفِرَاقِ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ إِلى أَهْلِهَا الْعُتَاةِ عَلى خَالِقِهِمْ، رَأَيْتُ أَنْ أُفَسِّرَ لَكَ مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَيْرَةُ عَلى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا مِنْ قِبَلِ جَهَالَتِهِمْ، فَاتَّقِ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ وَخُصَّ بِذلِكَ (2) الْأَمْرِ أَهْلَهُ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ سَبَبَ بَلِيَّةٍ عَلَى الْأَوْصِيَاءِ، أَوْ حَارِشا عَلَيْهِمْ بِإِفْشَاءِ مَا اسْتَوْدَعْتُكَ، وَإِظْهَارِ مَا اسْتَكْتَمْتُكَ، وَلَنْ تَفْعَلَ إِنْ شَاءَ اللّهُ؛ إِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْهِي إِلَيْكَ: أَنِّي أَنْعى إِلَيْكَ نَفْسِي فِي لَيَالِيَّ هذِهِ، غَيْرَ جَازِعٍ، وَلَا نَادِمٍ، وَلَا شَاكٍّ فِيمَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا قَدْ قَضَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَحَتَمَ، فَاسْتَمْسِكْ بِعُرْوَةِ الدِّينِ آلِ مُحَمَّدٍ، وَالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الْوَصِيِّ بَعْدَ الْوَصِيِّ، وَالْمُسَالَمَةِ لَهُمْ وَالرِّضَا بِمَا قَالُوا، وَلَا تَلْتَمِسْ دِينَ مَنْ لَيْسَ مِنْ شِيعَتِكَ، وَلَا تُحِبَّنَّ دِينَهُمْ؛ فَإِنَّهُمُ الْخَائِنُونَ الَّذِينَ خَانُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَتَدْرِي مَا خَانُوا أَمَانَاتِهِمُ ائْتُمِنُوا عَلى كِتَابِ اللّهِ، فَحَرَّفُوهُ، وَبَدَّلُوهُ، وَدُلُّوا عَلى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ، فَأَذَاقَهُمُ اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

وَسَأَلْتَ عَنْ رَجُلَيْنِ اغْتَصَبَا رَجُلاً مَالاً كَانَ يُنْفِقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ، فَلَمَّا اغْتَصَبَاهُ ذلِكَ لَمْ يَرْضَيَا حَيْثُ غَصَبَاهُ، حَتّى حَمَّلَاهُ إِيَّاهُ كُرْها فَوْقَ رَقَبَتِهِ إِلى مَنَازِلِهِمَا، فَلَمَّا أَحْرَزَاهُ تَوَلَّيَا إِنْفَاقَهُ؛ أَ يَبْلُغَانِ بِذلِكَ كُفْرا، فَلَعَمْرِي لَقَدْ نَافَقَا قَبْلَ ذلِكَ، وَرَدَّا عَلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ كَلَامَهُ، وَهَزِئَا بِرَسُولِهِ صلى الله عليه و آله _ وَهُمَا الْكَافِرَانِ _ عَلَيْهِمَا لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَاللّهِ مَا دَخَلَ قَلْبَ أَحَدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْاءِيمَانِ مُنْذُ خُرُوجِهِمَا مِنْ حَالَتِهِمَا، (3) وَمَا ازْدَادَا إِلَا شَكّا كَانَا خَدَّاعَيْنِ مُرْتَابَيْنِ مُنَافِقَيْنِ، حَتّى تَوَفَّتْهُمَا مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِلى مَحَلِّ الْخِزْيِ فِي دَارِ الْمُقَامِ.

وَسَأَلْتَ عَمَّنْ حَضَرَ ذلِكَ الرَّجُلَ، وَهُوَ يُغْصَبُ مَالُهُ، وَيُوضَعُ عَلى رَقَبَتِهِ، مِنْهُمْ عَارِفٌ وَمُنْكِرٌ، فَأُولئِكَ أَهْلُ الرَّدَّةِ الْأُولى مِنْ هذِهِ الْأُمَّةِ، فَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَسَأَلْتَ عَنْ مَبْلَغِ عِلْمِنَا، وَهُوَ عَلى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: مَاضٍ، وَغَابِرٌ، وَحَادِثٌ؛ فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرٌ،

ص: 270


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «لما» بدل «كنت»
2- في الطبعة القديمة : «لذلك»
3- في كلتا الطبعتين : «حالتيهما» . وفي حاشية النسخة ومرآة العقول : «جاهليّتهما»

وَأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، (1) وَأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ وَنَقْرٌ فِي الْأَسْمَاعِ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله .

وَسَأَلْتَ عَنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ، وَعَنْ نِكَاحِهِمْ، وَعَنْ طَلَاقِهِمْ؛ فَأَمَّا أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِمْ فَهُنَّ عَوَاهِرُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، نِكَاحٌ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَطَلَاقٌ فِي غَيْرِ (2) عِدَّةٍ. فَأَمَّا (3) مَنْ دَخَلَ فِي دَعْوَتِنَا، فَقَدْ هَدَمَ إِيمَانُهُ ضَلَالَهُ، وَيَقِينُهُ شَكَّهُ.

وَسَأَلْتَ عَنِ الزَّكَاةِ فِيهِمْ؛ فَمَا كَانَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ؛ لأنَّا قَدْ حَلَّلْنَا (4) ذلِكَ لَكُمْ، مَنْ كَانَ مِنْكُمْ، وَأَيْنَ كَانَ.

وَسَأَلْتَ عَنِ الضُّعَفَاءِ؛ فَالضَّعِيفُ مَنْ لَمْ يُرْفَعْ إِلَيْهِ حُجَّةٌ، وَلَمْ يَعْرِفِ الأْتِلَافَ، فَإِذَا عَرَفَ الأْتِلَافَ، فَلَيْسَ بِضَعِيفٍ.

وَسَأَلْتَ عَنِ الشَّهَادَاتِ لَهُمْ؛ فَأَقِمِ الشَّهَادَةَ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَلَوْ عَلى نَفْسِكَ وَالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ خِفْتَ عَلى أَخِيكَ ضَيْما، فَلَا، وَادْعُ إِلى شَرَائِطِ (5) اللّهِ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ بِمَعْرِفَتِنَا مَنْ رَجَوْتَ إِجَابَتَهُ، وَلَا تَحْضُرْ حِصْنَ زِنا، (6) وَوَالِ آلَ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَقُلْ لِمَا بُلِّغْتَ (7) عَنَّا، وَنُسِبَ إِلَيْنَا، هذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِنَّا خِلَافَهُ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي لِمَا قُلْنَاهُ، وَعَلى أَيِّ وَجْهٍ وَصَفْنَاهُ آمِنْ بِمَا أُخْبِرُكَ، (8) وَلَا تُفْشِ مَا اسْتَكْتَمْنَاكَ مِنْ خَبَرِكَ؛ (9) إِنَّ مِنْ وَاجِبِ حَقِّ أَخِيكَ أَنْ لَا تَكْتُمَهُ شَيْئا تَنْفَعُهُ بِهِ لأمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَلَا تَحْقِدَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَاءَ، وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ إِذَا دَعَاكَ، وَلَا تُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ مِنَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْكَ، وَعُدْهُ فِي مَرَضِهِ، لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الْغِشُّ، وَلَا الْأَذى، وَلَا الْخِيَانَةُ، وَلَا

ص: 271


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «فمكتوب»
2- في الحاشية عن بعض النسخ ومرآة العقول : «بغير». وفي بعض نسخ الكافي والوافي : «لغير»
3- في الطبعة القديمة : «وأمّا»
4- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «أحللناها» . وفي الوافي وشرح المازندراني : «أحللنا» . وفي مرآة العقول : «فقد أحللنا» بدل «لأنّا قد حلّلنا»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «صراط»
6- في كلتا الطبعتين : «ولا تحصّن بحصن رياء» بدل «ولاتحضر حصن زنا»
7- في كلتا الطبعتين : «بلغك»
8- في الحاشية عن بعض النسخ: «أخبرتك»
9- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي: «خيرك»

الْكِبْرُ، وَلَا الْخَنَا، وَلَا الْفُحْشُ، وَلَا آمُرُ (1) بِهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْمُشَوَّهَ الْأَعْرَابِيَّ فِي جَحْفَلٍ جَرَّارٍ، فَانْتَظِرْ فَرَجَكَ وَلِشِيعَتِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِذَا (2) انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَانْظُرْ مَا فَعَلَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِالْمُجْرِمِينَ، فَقَدْ فَسَّرْتُ لَكَ جُمَلاً مُجْمَلاً، وَصَلَّى اللّهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الْأَخْيَارِ».

شرح الحديث

هذا الحديث رواه الصدوق رحمه الله بسندٍ صحيح ، والمصنّف رواه بثلاثة أسانيد؛ في بعضها جهالة، وبعضها مختَلفٌ فيه ، لكن باجتماعها، وتعاضد بعضها ببعض يحصل فيه قوّة .

قوله : (وهو في الحبس) ؛ يعني حين كان محبوسا بأمر الرشيد عند سنديّ بن شاهك، لعنة اللّه عليهما .

وقوله : (هذه نسخته).

في القاموس: «نسخ الكتاب: كتبه عن معارضة، كانتسخه، واستنسخه، والمنقول منه: النُسْخة، بالضمّ» (3).

قوله : (الحمد للّه العليّ العظيم) .

قال صاحب العدّة : العليّ: المنزّه عن صفات المخلوقين تعالى أن يوصف بها ، وقد يكون بمعنى العالي فوق خلقه بالقدرة عليهم، أو الترفّع بالتعالي عن الأشباه والأنداد وعمّا خاضت فيه وساوس الجهّال، وترامت إليه فكر الضُّلّال، فهو متعالٍ عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا (4) وقال : «العظيم: هو ذو العظمة والجلال، وهو منصرف إلى عظيم الشأن وجلالة القدر» (5).

(الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين) .

في القاموس: «أبصره وتبصّره ونظره ببصره . وقوله تعالى : «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً» (6).

أي تبصّرهم، وتجعلهم بصراء»(7).

ص: 272


1- في كلتا الطبعتين : «الأمر» بدل «آمر»
2- في كلتا الطبعتين : «وإذا»
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 271 (نسخ)
4- عدّة الداعي ، ص 301
5- عدّه الداعي ، ص 313
6- النمل (27) : 13
7- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 373 (بصر) مع التلخيص

فقوله عليه السلام : «قلوب المؤمنين» مرفوع على الفاعليّة، أو منصوب على المفعوليّة ؛ أي إبصار قلوب المؤمنين، وإدراكهم للمعارف الربّانيّة إنّما هو بما جعل فيها من نوره، وأفاض عليها من هدايته، وتجلّى لها من عظمته .

(وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون) ؛ يعني عظم شأنه، وجلالة قدره، ودوام ظهوره على الأشياء صار سببا لإنكار الجاهلين إيّاه ؛ لأنّ وجود الشيء بعد عدمه، وعدمَه بعد وجوده سبب لعلم القاصرين بإسناد أثر ما يعدم عند عدمه إليه .

وبعبارة اُخرى؛ لأنّ المؤثّر ما لم يكن له زوال أو غيبة بعد ثبوته وظهوره وانعدام أثره بهما لم يتبيّن للقاصر الجاهل بطرق الاستدلال أنّ الأثر مستند إليه، كما أنّ الشمس لو لم يكن لها غروبٌ لأنكر الجاهل كون ضياء العالم بالشمس، فلمّا صار الهواء بعد غروبها مظلما حكم بكون الضوء منها . وكذلك شمس عالم الوجود لاستمرار إفاضته وبقاء هذا النظام به ، يقول الجاهل : لعلّ هذا الصنع حدث بلا صانع، وهذا النظام انتظم بلا مدبّر ، وكذا عظمته منعت العقول عن الإحاطة به ، فتحيّروا فيه، وأثبتوا له ما لا يليق بجناب ذاته المقدّسة وصفاته .

قيل : ويحتمل أن يكون المراد أنّ كثرة النور تمنع عن إدراك القاصرين، وفرط الظهور يغلب على مدارك العاجزين، فكما أنّ الخفّاش لضعف بصره لا ينتفع بنور الشمس ، فكذا الأذهان القاصرة لضعفها يغلب عليها نوره الباهر، فلا تحيط به .

وبعبارة اُخرى : لمّا كان تعالى في غاية الرفعة والنور والعظمة والجلال ، والجاهلون في غاية الانحطاط والنقص والعجز، فلذا بعدوا عن معرفته؛ لعدم المناسبة، فأنكروه، وحصل بينه تعالى وبينهم بونٌ بعيد، فجحدوه، فَضَعْفُ بصيرتهم حَجَبهم عن أنوار جلاله، ونقصهم منعهم عن إدراك كماله (1).

(وبعظمته ونوره ابتغى ...) .

قيل : هذه الفقرة قريبة في المآل من الفقرة السابقة، وحاصلها : أنّ عظمته ونوره وظهوره دعت العباد إلى الإقبال إلى جنابه، لكن لفرط نوره وعظمته ، ووفور جهلهم وعجزهم صاروا

ص: 273


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 296

حيارى فيما يتوسّلون به إليه من الأعمال والأديان، فمنهم مصيب برشده، ومنهم مخطئ بغيّه ، فكلّ منهم يطلبونه، لكن كثيرا منهم أخطؤوا السبيل، وضلّوا عن قصد الطريق، فهم يسعون على خلاف جهة الحقّ عامهين، ويتوسّلون بما يبعدهم عن المراد جاهلين (1).

وقيل : الظاهر أنّ الباء في قوله: «بعظمته» في المواضع الثلاثة للسببيّة؛ إذ الإبصار والمعاداة والابتغاء وقعت بسبب العظمة والنور .

بيان ذلك أنّ عظمته المطلقة وكبرياءه يقتضي معرفة جميع ما سواه إيّاه، وانقيادهم [له ]في أوامره ونواهيه، وابتهالهم في ذلّ الحاجة إليه ، ولا يتحقّق ذلك إلّا بوضع علم بجميع ما يحتاجون إليه في صدرِ رسولٍ ومن ينوب منابه ، وهذا العلم يسمّى تارةً بالنور؛ لاهتداء الخلق به ، وتارةً بالعرش؛ لاستقرار العظمة وجميع الخلق فيه ، فبسبب نوره وعظمته المقتضية له أبصر قلوب المؤمنين سبل الحقّ وطرق الخيرات وكيفيّة سلوكها . «وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون» بإنكاره ، أو إنكار رسوله ، أو إنكار وليّه ووصيّ رسوله، حتّى توقّفوا، وتحيّروا في سبيله الحقّ .

فلو لم يكن العظمة والنور، لم يتصوّر الإبصار، ولم يتحقّق المعاداة والابتغاء ، وكذلك بنوره وعظمته ابتغى الخلق كلّهم الوسيلة والتقرّب إليه بالأعمال المختلفة والأديان المتضادّة، حيث علموا أنّه مستحقّ للتقرّب به، فمنهم من اقتفى نوره، واتّخذ دينه الحقّ ، ومنهم من مزجه بظلمة الجهل، وحصلت له شبهة، واتّخذ دينا باطلاً، فظنّ أنّه وسيلة التقرّب به، كما فرّع على ذلك قوله : (فمُصيب) (2) ؛ يعني فمنهم من أصاب وأتى بالصواب في القصد والعمل .

(ومخطئ) أي ومنهم من أخطأ فيهما .

(وضالّ) في اُمور الدِّين .

(ومهتدٍ) فيها .

(وسميع) يسمع نداء الحقّ، وآياته الجاذبة إليه .

ص: 274


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 296
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 72

(وأصمّ) ؛ حيث لا يصغي إليها فضلاً عن العمل بمقتضاها .

(وبصير) يبصر طريق الحقّ .

(وأعمى حَيران) ؛ لا يدرك شيئا منه، ولا يهتدي لوجه مراده . يُقال : حارَ يَحار حَيْرَةً وحَيْرا _ بالتسكين والتحريك _ وحَيَرانا محرّكة، إذا نظر إلى الشيء فَغَشِيَ، ولم يهتد لسبيله، فهو حَيْران وحائر .

(فالحمد للّه الذي عزّ، ووصف دينه محمّد صلى الله عليه و آله ).

المستتر في «عزّ»، والبارز في «دينه» راجع إلى «اللّه ». و«محمّد» بالرفع، فاعل «وصف» ، و«دينه» مفعوله ؛ أي بيّنه وأوضحه .

وفي بعض النسخ: «عرّف» بدل «عزّ» ، و«محمّدا» بالنصب ، فالمستتر في «عرّف» بالتشديد و«وصف» راجع إلى اللّه ، و«محمّدا» مفعول الفعلين على التنازع .

وفي بعضها: «عرف» و«وصف دينه محمّد» بالرفع ، فينبغي أن يقرأ: «عرف» بالتخفيف، فيكون «محمّد» على الفعلين، و«دينه» مفعولهما على سبيل التنازع ، والمراد بالدِّين الطريقة الإلهيّة التي لعباده، واستعبدهم بها .

وقوله : (بمنزلة خاصّة) ؛ هي منزلة الإخلاص، والطاعة، والانقياد لهم، والتسليم لأمرهم .

وفي بعض النسخ: «منزلة» بدون الباء، فهو منصوب على الظرفيّة .

(وحفظ مودّة ما استرعاك من دينه) .

يُقال : استرعاه إيّاهم؛ أي استحفظه . والظاهر أنّ «حفظ» على صيغة الماضي عطفا على «أنزل» .

وقيل : يحتمل كونه على صيغة المصدر عطفا على «منزلة» ؛ أي جعلك تحفظ مودّة ما استرعاكه، وهو دينه (1).

والباء في قوله : (بتفضيلك إيّاهم) للسببيّة ؛ أي بسبب إقرارك بفضلهم على غيرهم .

وقوله : (كنت) على صيغة المتكلّم .

وقوله : (فلمّا انقضى سلطان الجبابرة) ؛ يعني سلطنة أهل الجور وبأسهم وشدّتهم . قال

ص: 275


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 297

الفيروزآبادي : السُّلطان: الحجّة، وقدرة الملك _ وتضمّ لامه _ والوالي، مؤنّث ؛ لأنّه جمع سليط للدُّهن، كأنّ به يُضيء الملك ، أو لأنّه بمعنى الحجّة . وقد يذكّر ذهابا إلى معنى الرجل. والسلطان من كلّ شيء: شدّته . انتهى (1).

وغرضه عليه السلام : أنّي كنت في تقيّة ومماشاة مع سلاطين الجور وتبعتهم ، ولذا تأخّر جواب كتابك ، وأمّا الآن فقد بلغ أجلي، وانقضت أيّامي، فلا أتّقي الآن أحدا لانقضاء ما يتعلّق بالتقيّة من المصالح .

(وحاء سلطان ذي السلطان العظيم) .

المراد بذي السلطان العظيم هو اللّه جلّ شأنه ، وبسلطانه الموت ؛ يعني دنا الموت، وانقضى تسلّط الجبابرة، وبطلت قدرتهم واستيلاؤهم عليَّ، فلا أخاف الآن من سلطانهم ، كما أشار إليه بقوله : (بفراق الدُّنيا المذمومة إلى أهلها) أي عندهم .

وقيل : لعلّ المراد أنّها مذمومة بما يصل منها إلى أهلها الذين ركنوا إليها، كما يُقال : استذمّ إليه؛ أي فعل ما يذمّه على فعله .

ويحتمل أن يكون «إلى» بمعنى اللّام ؛ أي إنّما هي لهم بئست الدار ، وأمّا للصالحين فنعمت الدار؛ فإنّ فيها يتزوّدون لدار القرار (2).

وقوله : (العُتاة) جمع العاتي، وهو المستكبر المجاوز عن الحدّ .

وقوله : (رأيتُ) جواب «لمّا» .

وقوله : (ضعفاء شيعتنا) أي جهّالهم، كما يشعر به قوله : (من قبل جهالتهم) . وأمّا العقلاء منهم فهم بُرآء من الحيرة والضلالة .

وقوله : (خُصَّ) على صيغة الأمر . والمراد بذلك الأمر أمر الولاية والإمامة .

(واحذر أن تكون سبب بليّة على الأوصياء) بإفشاء سرّهم، وإنكار ولايتهم ، والبليّة: اسم من قولك : بلوته بَلوا وبلاءً، إذا اختبرته ، والمراد بها هنا المصيبة .

(أو حارشا عليهم) أي خادعا، أو مُغريا على ضررهم .

ص: 276


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 297
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 365 (سلط)

قال في القاموس : «حرش الضبّ يحرشُه حرشا: صاده، وذلك بأن يحرّك يده على باب جحره ليظنّه حيّة، فيخرج ذنبه ليضربها، فيأخذه . وفلانا : خدشه . والتحريش: الإغراء بين القوم، أو الكلاب» (1).

وقوله : (بإفشاء ما استودعتُك) متعلّق ب «تكون» ، والباء للسببيّة .

وقوله : (اُنهي إليك) أي أبلغ، من الإنهاء، وهو إبلاغ الخير .

وقوله : (أنعى إليك نفسي) أي اُخبر بموتها . يُقال : نَعيتُ الميّت نَعْيا ونَعيّا ونُعيانا _ من باب منع _ إذا أخبرت بموته، فهو منعيّ .

وقوله : (ولا شاكّ)؛ يحتمل كونه بالتخفيف من الشكاية ، أو بالتشديد من الشكّ ؛ أي لا أشكّ في وقوع ما قُضي وقُدّر ، بل أعلمه وأتيقّن به، أو لا أشكّ في خيريّته .

وقال بعض الشارحين : إنّه عليه السلام نفى أوّلاً عن نفسه القدسيّة الجزع ؛ لأنّ الجزع _ وهو ضدّ الصبر _ إمّا لضعفه عن حمل ما نزل به ، أو لشدّة خوفه عمّا يرد عليه بعد الموت ، أو لشدّة حرصه في الدُّنيا وخوف فواتها ، وهو عليه السلام منزّه عن جميع ذلك .

ونفى ثانيا عنها الندامة؛ لأنّها إمّا عن فعل ما لا ينبغي فعله ، أو عن ترك ما لا ينبغي تركه ، وكانت ذاته منزّهة عنهما .

ونفى ثالثا عنها الشكّ؛ لأنّه من لوازم الجهل، وهو عليه السلام معدن العلم ومنبع الحكمة ، وكان عالما بما كان وما يكون إلى يوم القيامة (2).

وقوله : (آل محمّد) بدل من «العروة» .

وقوله : (الوصيّ بعد الوصيّ) بدل من العروة الثانية ، ومآل الفقرتين واحد .

قال الفيروزآبادي : «العروة من الدلو والكوز: المقبض . ومن الثوب: اُخت زِره» (3). وقيل : شبّه آل محمّد والوصيّ منهم بالعروة في أنّ التمسّك بهم حامل للدِّين، شاربٌ من زلاله ، ووصفها بالوثقى على التوشيح؛ للتنبيه على أحكامها، وصحّة الائتمان بها حيث لا يعتبر

ص: 277


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 268 (حرش) مع التلخيص
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 74
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 361 (عرو)

القصم والكسر والقطع (1).

(والمسالمة) أي المصالحة .

(لهم) وهو عطف على العروة . والمراد بها التسليم والانقياد لهم في الاُمور كلّها، وعدم مخالفتهم في شيء منها .

(والرضا بما قالوا) ؛ يعني ينبغي أن يكون ما ذكر من الاستمساك والمسالمة مقرونا بالرِّضا، لا بالسخط، وإن لم يظهر له وجه الصحّة ، أو ثقل ذلك الأمر وقبوله على النفس .

(ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك) .

الالتماس: الطلب . والمراد هنا الإذعان والقبول والعمل به . قال الجوهري : «شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره» (2) وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» (3) : «أي من كلّ اُمّة شاعت دينا» (4).

(ولا تحبّنّ دينهم ؛ فإنّهم الخائنون) .

الخَوْن: أن يؤتمن الإنسان، فلا ينصح .

يُقال : خانه يخونه خونا أو خيانةً ومخانة وخانة، فهو خائن .

وقوله : (الذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم) إشارة إلى قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ» (5).

وقال بعض المفسّرين : «خيانة اللّه والرسول بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن يضمروا خِلاف ما يُظهرون، أو بالنكول في الغنائم . «وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ» أي فيما بينكم» انتهى (6).

والأمانة: ضدّ الخيانة، وهو ما يلزم أداؤه .

وقيل : لمّا كان عدم التمسّك بدينهم غير مستلزم لعدم محبّته، نهى بعده عن محبّته ، وعلّل بأنّهم خائنون، وفعلهم خيانة، ودينهم باطل، ولا يجوز محبّة الباطل، كما لا يجوز

ص: 278


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 74
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1240 (شيع)
3- مريم (19) : 69
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 27
5- الأنفال (8) : 27
6- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 102

التمسّك به (1).

ثمّ بيّن عليه السلام خيانتهم بقوله : (ائتمنوا على كتاب اللّه ) على صيغة المجهول ؛ يعني اتّخذهم الرسول اُمناء على كتاب اللّه ، وأمرهم بحفظه .

(فحرّفوه) .

قال الجوهري : «تحريف الكلام عن مواضعه: تغييره» (2).

(وبدّلوه) كأنّ العطف للتفسير، أو يُراد بالتحريف تغيير لفظه ومعناه، وبالتبديل تغيير أصله وأحكامه .

قال الجوهري : «أبدَلْتُ الشيءَ بغيره، وبدّله اللّه من الخوف أمنا . وتبديل الشيء أيضا: تغييره» (3).

وفي القاموس: «بدّله تبديلاً: حرّفه. وتبدّل : تغيّر» (4).

وكأنّ قوله : (ودُلّوا) على بناء المفعول .

(على ولاة الأمر منهم) بيان للتحريف والتبديل ؛ يعني دلّهم اللّه والرسول على ولاة الأمر من آل محمّد في مواضع عديدة .

(فانصرفوا عنهم) كفرا وعنادا وحسدا . ويحتمل أن يكون هذا خيانة اُخرى .

(فأذاقهم اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) أي بصنعهم .

وهذا إشارة إلى قوله تعالى : «وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» (5).

وفي تفسيرها وبيان لطائفها أقول : فقال البيضاوي :

استعار الذوق؛ لإدراك أثر الضرر واللباس لما غشيهم، واشتمل عليهم من الجوع والخوف، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له، كقول كثير :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

علقت لضحكته رقاب المال

فإنّه استعار الرداء للمعروف؛ لأنّه يصون عِرْض صاحبه صَونَ الرداء لما يلقى

ص: 279


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 74
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1343 (حرف)
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1632 (بدل)
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 333 (بدل)
5- النحل (16) : 112

عليه ، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء نظرا إلى المستعار له (1)

وقال الزمخشري : هو استعارة حقيقيّة عقليّة، أو حسّيّة ؛ لأنّه شبّه الضرر والألم الحاصل لهم من الجوع، أو شبّه تغيّر اللون ورثاثة الهيئة الحاصلة لهم منه باللباس؛ لاشتماله عليهم ، واستُعير له لفظ اللباس، فجاءت الاستعارة حقيقة عقليّة على الأوّل، وحسّيّة على الثاني (2).

وقيل : إنّه على المكنيّة والتخييليّة؛ لأنّه شبّه الجوع بإنسان لابس قاصد للتأثير والضرر، واخترع للجوع صورة وهميّة خياليّة شبيهة باللباس ، واستعير له لفظ اللباس .

وقيل : إنّه تشبيه بليغ شبّه الجوع باللباس في الشمول والإحاطة والملابسة التامّة، فصار التركيب من قبيل لجين الماء (3).

(وسألت عن رجلين) أي الأوّل والثاني .

(اغتصبا رجلاً) ؛ يعني عليّ بن أبي طالب عليه السلام .

(مالاً كان ينفقه ...) ؛ كأنّ المراد بالمال الرئاسة العامّة، وما يتبعها من الأموال والغنائم والولايات والأحكام، وبإنفاقه على الفقراء تعليمهم، والدلالة على مراشدهم ومصالحهم، وإعطاء مؤونهم، وما جعل اللّه لهم من الحقوق الماليّة .

وقوله : (حتّى حمّلاه [إيّاه] كرها) إلى آخره .

الكَرْه، ويضمّ: الإباء، والمشقّة . أو بالضمّ: ما أكرهتَ نفسك عليه . وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه .

والمراد هنا المعنى الأخير ، وهذا إشارة إلى سوء صنيعهم بأمير المؤمنين عليه السلام حين أكرهوه على المبايعة؛ أي كلّفاه أن يحمل الخلافة التي جعلها اللّه له على كتفه، ويذهب بها إلى منازلهما، ويسلّمها إليهما، ولا ينازعهما في ذلك .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد تكليفهم إيّاه عليه السلام حمل ما كانوا يعجزون عنه من حلّ

ص: 280


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 423
2- لم نعثر عليه في كتب الزمخشري
3- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 75

المشكلات وردّ الشُّبهات وفصل القضايا التي أشكلت عليهم (1).

(فلمّا أحرزاه تولّيا إنفاقه) .

الضمير المنصوب والمجرور راجع إلى المال .

والإحراز: الإحكام، والتحصين . والمراد هنا تملّكه والاستبداد به ، وهو إشارة إلى تولّيهما الخلافة، وإجراء الأحكام، وإنفاق الأموال كيف شاءا، وبمن أرادا على حسب آرائهما ووفق أهوائهما خلافا لكتاب اللّه وسنّة نبيّه .

وقوله : (أيبلغان بذلك كفرا) من تتمّة نقل كلام السائل . فقوله : (فلعمري ...) ابتداء الجواب .

وفي بعض النسخ: «ليبلغان» باللّام المفتوحة، على أن تكون جواب قسم محذوف ، فهذا ابتداء الجواب .

وقوله : (لقد نافقا قبل ذلك) ؛ يعني ليس نفاقهما وكفرهما منحصرا بما فعلا بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، بل كانا منافقين في حياته صلى الله عليه و آله أيضا حيث عهدا مع أعوانهما على ردّ الخلافة عن أهل بيته .

(وردّا على اللّه كلامه) من الآيات الدالّة على اختصاص ولاية الأمر لأهل العصمة عليهم السلام .

(وهزئا برسوله) حين احتضاره ، وفي غدير خمّ حيث قالا : «انظروا إلى عينيه تدوران كأنّهما عينا مجنون» ، وأمثال ذلك منهما كثير .

قال الفيروزآبادي : «هزأ منه وبه _ كمنع _ وهزئ _ كسمع _ هُزْأً ومهزأةً: سخر، كتهزّأ، واستهزأ» (2).

وقوله : (ما دخل قلب أحد منهما شيء من الإيمان) تأكيد لما سبق من نفاقهما .

(منذ خروجهما من حالتهما) ؛ يعني خروجهما من الكفر الصريح إلى النفاق والشقاق .

وفي بعض النسخ: «من جاهليّتهما» .

(وما ازدادا) بعد الإقرار بالإسلام ظاهرا.

ص: 281


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 298
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 34 (هزأ)

(إلّا شكّا) ؛ وهو خلاف اليقين . والازدياد يتعدّى ولا يتعدّى .

(كانا خَدّاعين مُرتابين) .

قال الجوهري : «خَدَعه يخدَعه، أي ختله، وأراد به المكروه من حيث لا يعلم» (1) وقال : «ارتاب فيه، أي شكّ» (2).

وقوله : (يُغْصَب مالُه) على بناء المجهول .

وقوله : (منهم عارف) أي عالم بحقيقته عليه السلام .

(ومنكر) أي جاهل بحقّه، وزاعم بحقّيّتهما ، وكلا الفريقين تركا نصرته وإعانته .

وقوله : (فاُولئك) إشارة إلى الفريقين معا .

ويحتمل أن يُراد بالعارف من عرف حقيقته عليه السلام وأراد نصرته، لكن عجز عنها، كسلمان ومقداد وأبي ذرّ ، وحينئذٍ المراد ب «اُولئك» المنكرون فقط .

(أهل الردّة الاُولى) .

الرِّدّة _ بالكسر _ من الارتداد ؛ يعني أنّهم أوّل المرتدّين من هذه الاُمّة، ومن سار بسيرتهم، واقتفى أثرهم من بعدهم أهل الردّة الثانية .

وقال بعض الشارحين : «يمكن أن يُراد بأهل الردّة الثانية اثنان وسبعون فرقة من هذه الاُمّة، كما نطق به بعض الروايات» .

قال : «ويمكن أن يكون تعريضا بأنّهم أهل الردّة الاُولى، لا هما؛ لأنّهما لم يدخلا في الدِّين أصلاً، ولا يتحقّق الارتداد إلّا بالخروج بعد الدخول» (3).

وقوله : (مبلغ علمنا) ؛ يعني مقداره وغايته، والحدّ الذي لا يتجاوزه إلى غيره .

وقوله : (ماض) أي علم بالاُمور الماضية .

(وغابر) أي علم بالاُمور المستقبلة . ويُقال : غبر _ كنصر _ غبورا، إذا مكث وبقي، أو مضى وذهب، ضدّ، فهو غابر؛ أي ماضٍ باقٍ .

(وحادث) أي علم يحدث آنا فآنا، ويفيض من اللّه ساعة فساعة؛ إمّا بتوسّط الملك، أو بدونه .

ص: 282


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1201 (خدع)
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 141 (ريب)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 79

وقوله : (فمفسَّر) إلى قوله : (ونَقر في الأسماع) .

التفسير: الكشف، والإيضاح. والزبر. الكتابة. والقذف بالحجارة: الرمي بها .

وفي القاموس: «نقر في الناقور، أي نفخ في الصور . ونَقَر في الحجر: كتب . والطائر : لقط من هاهنا وهاهنا . والنقر أيضا: صُوَيت يسمع من نَقْر الإبهام على الوسطى» (1).

وقال بعض الشارحين في شرح هذا الكلام :

قسّم العلم بتلك الأقسام باعتبار المعلوم؛ إذ بعضه متعلّق بالاُمور الماضية، وهو مفسّر لهم في الكتب المنزلة ، أو بتفسير الأنبياء. وبعضه متعلّق بالغابر؛ أي بالاُمور المستقبلة الحتميّة، وهو مزبور في الصحف التي عندهم . وبعضه متعلّق بأمر حادث في الليل والنهار آنا فآنا، وشيئا فشيئا، وهو قذف في القلوب، ونقر في الأسماع ؛ أمّا القذف فلأنّ قلوبهم صافية بأنوار إلهيّة، فإذا توجّهوا إلى العوالم اللاهوتيّة، وتجرّدوا عن الطبائع البشريّة ، ظهرت لهم من العلوم بالحوادث ما شاء اللّه ، ويعبّر عن ظهور هذه العلوم تارةً بالقذف في القلوب، وتارةً بالإلهامات الغيبيّة . وأمّا النقر في الأسماع، فهو يتصوّر على وجهين : أحدهما : أن يسمع من الملك صوتا منقطعا متميّزا بالحروف والكلمات، كما هو المعروف في سماعنا كلام الناس .

وثانيهما : أن يسمع صوتا وهمهمة ودويّا، ولا يفهم منه شيئا ما دام باقيا ، فإذا زالت الهمهمة وجد قولاً مُنْزَلاً مُلقىً في الروع، واقعا موقع المسموع .

وهذا الحديث وأمثاله محمولة على ظواهرها، والإيمان بها واجب لا دليل عقلاً أو نقلاً على استحالته، فلا يحملها على خلاف الظاهر إلّا ضعيف النظر أعمى (2).

(وهو أفضل علمنا) . الضمير للحادث .

وقيل : كونه أفضل لكثرته، وحصوله بلا واسطة بَشرٍ، ولأنّه لا يطّلع عليه غيرهم بخلاف المفسّر والمزبور؛ فإنّه كثيرا ما كان يطّلع عليه خواصّ شيعتهم (3).

(ولا نبيّ بعد نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله ) ؛ كأنّه دفع لتوهّم النبوّة ؛ أي لا يتوهّم أنّ إلقاء الملك مستلزم

ص: 283


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 147 (نقر) مع التلخيص واختلاف يسير
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 76 و 77
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 77

للنبوّة مطلقا؛ لمكان المحدّث .

وقد مرّ الفرق بينه وبين النبيّ في كتاب الحجّة . وما قيل من أنّه يحتمل أن يكون وجها لتخصيص القذف والنقر بالذكر، وبيانا لعدم احتمال السماع من الملك عيانا ومشاهدةً ؛ لأنّ ذلك يختصّ بالنبيّ (1). ، فبعيد .

وقوله : (فهنّ عَواهر) أي زانيات . يُقال : عهرت المرأة، إذا زَنَتْ، وهي عاهر؛ وذلك لأنّ الإماء كلّهنّ أو خمسهنّ من مال الإمام عليه السلام ، ولم يرخّص لغير أهل الولاية في وطئهنّ، فمن قاربهنّ من أهل الخلاف كان زانيا، وهنّ زانيات (إلى يوم القيامة) .

وقوله : (نكاح بغير وليّ) ؛ الظاهر أنّ المراد بالنكاح النكاح المصطلح، لا مطلق الوطي ، وبالوليّ الإمام؛ لأنّه وليّ المسلمين والمسلمات ، فإذا لم يقع نكاحهم بإذنه ورضائه لكونه ساخطا عليهم كان نكاحا بغير وليّ، وهو باطل ، وكأنّه هو السرّ لما ورد في بعض الأخبار أنّ المخالفين كلّهم أولاد بغايا .

وقيل : أي نكاحهم للإماء بغير وليّ ؛ لأنّ أولياءهنّ وملّاكهنّ الأئمّة عليهم السلام . ويحتمل أن يكون إخبارا عمّا كان قضاتهم يفعلون بادّعائهم الولاية الشرعيّة من نكاح غير البالغات ، ولعلّه أظهر ؛ لأنّ السؤال عنه وقع بعد السؤال عن الإمام (2) . انتهى .

وأنت خبير بأنّ ما ذكره هذا القائل من التعليل يهدم بنيان الوجه الأوّل، وهو قوله : «أي نكاحهم للإماء» إلى آخره ، ويردّ على توجيهه الثاني الذي جعله أظهر : أنّ السؤال عن مطلق نكاحهم يقتضي الجواب عن المطلق، فتخصيصه ببعض المناكح تحكّم ، بل الأظهر ما ذكرناه أوّلاً .

(وطلاق في غير عدّة) .

في بعض النسخ: «بغير عدّة». وفي بعضها: «لغير عدّة» .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» (3). :

أي وقتها، وهو الطهر ؛ فإنّ اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت، ومن عدّ العدّة

ص: 284


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 77
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 299 و 300
3- الطلاق (65) : 1

بالحيض علّق اللام بمحذوف مثل «مستقبلات» ، وظاهره يدلّ على أنّ العدّة بالأطهار، وأنّ طلاق المعتدّة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، وأنّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه، ولا يدلّ على عدم وقوعه؛ إذ النهي لا يستلزم الفساد ، كيف وقد صحّ أنّ ابن عمر لمّا طلّق امرأته حائضا، أمره النبيّ صلى الله عليه و آله بالرجعة، وهو سبب نزوله .

انتهى (1).

فلعلّ غرضه عليه السلام أنّ طلاقهم طلاق في غير الوقت الذي يمكن فيه إنشاء العدّة، وهو طهر غير المواقعة، وهو باطل؛ لقوله تعالى : «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» .

وقيل : كأنّه أشار بنفي ثبوت العدّة في نفس الأمر إلى عدم صحّة الطلاق فيها؛ لأنّ نفي اللازم دليل على نفي الملزوم ، والمقصود أنّ طلاقهم غير صحيح؛ لعدم اقترانه بشرائط صحّته في الشريعة، كما يظهر لمن رجع إلى اُصولهم وفروعهم (2).

(فأمّا من دخل في دعوتنا) ؛ يعني قال بالولاية .

(فقد هَدَم إيمانُهُ ضلالَه) .

قيل : المراد بالضلالة نكاح اُمّهات الأولاد والإماء المسبيّات في الحروب بدون إذنهم عليهم السلام ، ونكاحهنّ أعظم أفراد الضلالة لهؤلاء ورخصته للشيعة .

(ويقينُه شكّه) ؛ في جواز نكاح مطلّقاتهم؛ فإنّه يجوز للشيعة نكاحهنّ بناءً على اعتقاد هؤلاء صحّة طلاقهم، وإن لم يكن صحيحا في مذهب الشيعة ، وقد وقعت الرخصة به أيضا .

إلى هاهنا كلام القائل .

وأقول : تخصيص الضلال والشكّ بما ذكر غير جيّد ، والأولى التعميم؛ ليدخل فيها الثلاثة المذكورة وغيرها ممّا يعدّ ضلالاً وشكّا .

وفي هذا الكلام إيماء إلى أنّ الإيمان تطهير لولادتهم .

(وسألت عن الزكاة فيهم) ؛ كأنّه سأل عن إعطاء هؤلاء المخالفين زكاتهم في أهل نحلتهم، هل يجوز ذلك، وتبرأ ذمّتهم؟

ص: 285


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 348
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 77

فأجاب عليه السلام بقوله : (فما كان من الزكاة) إلى آخره .

وحاصله: أنّه لا يجوز ذلك، ويبقى في ذمّتهم إلى أن يعطوا أهل الإيمان من الشيعة .

وقيل : سأل: هل يجوز لنا صرف الزكاة فيهم، وإعطاؤهم إيّاها؟ فأجاب عليه السلام بأنّه لا يجوز ذلك، ولا يجوز إعطاؤها غير أهل الولاية .

وقيل : كأنّه سأل: هل يجوز أن نشتري منهم، وفي مالهم زكاة أو خمس؟ فأجاب عليه السلام بأنّه يجوز ، وهذا ما ذكره الأصحاب من إباحة المتاجر . أو سأل أنّهم إذا أخذوا الزكاة منّا، هل يجب علينا إخراجها مرّة اُخرى؟ فأجاب عليه السلام بأنّهم إذا أخذوا الزكاة منكم ، إن لم يكونوا أهلها، ولم يعطوا أهلها، لا يجب عليكم أن تزكوا مرّة اُخرى . وقد دلّ عليه بعض الأخبار أيضا (1).

وقيل : يدلّ قوله : «فقد أحللت ذلك لكم» ظاهرا على عدم اشتراط العدالة في المستحقّين .

ويحتمل أن يكون المراد سقوط الزكاة عند فقدان المستحقّ من أهل الحقّ ، بأن يكون السائل سأل عمّا إذا لم يوجد المستحقّ من الشيعة ، قال : ولا يبعد أن يكون المراد بالزكاة الخمس عبّر بها عنه تقيّة (2).

ولا يخفى عليك ما في هذه التوجيهات من التكلّف والتعسّف . والأظهر ما قلناه أوّلاً . (وسألت عن الضعفاء) أي المستضعفين المرجون لأمر اللّه .

(فالضعيف من لم يُرفع إليه حجّة) .

لعلّ المراد بها الدليل والبرهان .

أو ما يوجب عليهم حجّة، وإن كان محض العلم بالاختلاف؛ فإنّه يحكم عقلهم حينئذٍ بلزوم طلب الحقّ والتجسّس حتّى يعرفوا الحقّ، فإن أهملوا فقد ثبت الحجّة عليهم .

(ولم يعرف الاختلاف) .

قيل : لعلّ المراد معرفة الاختلاف على وجه الكمال ، فإن عرف أنّ هنا اختلافا يسيرا لا

ص: 286


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 78
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 300

يعبأ به ، وكلّ الاُمّة على الحقّ، كما هو شأن كثير من المخالفين وغيرهم الذين ليس لهم تعصّب في الدِّين، ولا يتبرّؤون من أئمّة المسلمين ولا من أعدائهم ، بل قد يحبّونها جميعا (1) وقيل : كأنّه سأل عن المستضعفين المذكورين في قوله تعالى : «إِلَا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ» (2) الآية . فأجاب عليه السلام بأنّ المستضعف من لم يعرف الإمام، ولم ينكره ، إذا لم ترفع إليه حجّة دالّة على حقّيّة الإمام، ولم يعرف اختلاف الناس فيه ، وأمّا من دفعت إليه حجّة، أو عرف اختلاف الناس، فليس بمستضعف؛ لأنّه مكلّف بالإيمان وطلب الحقّ ، فلا يكون معذورا . من هنا يعلم أنّه ليس اليوم مستضعف؛ لشيوع الحقّ والاختلاف، فمن قبله فهو مؤمن، ومن ردّه فهو كافر (3).

(وسألته عن الشهادات لهم) ؛ يعني عن إقامتها للمخالفين عند حكّام الجور، أو مطلقا .

(فأقم الشهادة) إلى قوله : (فيما بينك وبينهم) .

قيل : لعلّ المراد أنّه وإن كانت الشهادة فيما بينك وبينهم، ولم يعرف بها أحد، يلزمك أيضا إقامتها . ويدلّ ظاهرا على جواز إقامة الشهادة عند المخالفين وقضاة الجور .

وقيل : المراد به أنّه لا يلزمه إقامة الشهادة عند قضاتهم، بل يلزمك إظهار الحقّ فيما بينك وبينهم ، وهو كما ترى (4).

(فإن خفت على أخيك ضَيما) أي ظلما، فلا تقم الشهادة عليه ، وذلك إذا علمت أنّه لا يقدر على أداء الدَّين، وعلمت أنّك إذا شهدت عليه يؤخذ أو يحبس ظلما ، وكذا إن خفت على نفسك ضررا غير مستحقّ .

(وادع إلى شرائط اللّه _ عزّ ذكره _ بمعرفتنا مَنْ رجوتَ إجابته) .

الشرط والشريطة: إلزامُ الشيء والتزامه في البيع ونحوه . ويجمع الأوّل على «شروط»، والثاني على «الشرائط» .

والباء للسببيّة، أو صلة للدعاء . ولعلّ المراد: ادع الناس ممّن رجوتَ إجابته إلى معرفة ما

ص: 287


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 300 و 301
2- النساء (4) : 98
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 78
4- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 301

يلزم معرفته عليهم من اُصول الدِّين وفروعه ملتبسا بمعرفتنا . فيدلّ على اشتراط الإيمان في الداعي .

أو بما عرّفناك من طريق الدعوة وآدابها . فيدلّ على اشتراط علم الداعي وفقهه بما يدعو إليه .

وعلى التقديرين فيه إشعار بأنّه لا يمكن الوصول إلى تلك الشرائط إلّا بمعرفتهم .

وقيل : أي ادع إلى الشرائط التي اشترطها اللّه على الناس بسبب معرفة الأئمّة عن ولايتهم ومحبّتهم وطاعتهم، والتبرّي من أعدائهم ومخالفيهم .

قال : ويحتمل أن يكون المراد بالشرائط الوعد والوعيد، والتأكيد والتهديد الذي ورد في أصل المعرفة وتركها (1).

(ولا تحضر حصن زنى) .

الحِصن، بالكسر: كلّ موضع حَصين لا يوصل إلى جوفه . وتحصّن؛ أي صار حصانا .

والظاهر أنّ المراد النهي عن الحضور في البقاع والمواضع التي يوقع فيها الزنى . أو عن الحضور في مجالس الزُّناة .

وقيل : المراد به النهي عن ارتكاب الزنى بأبلغ وجه (2). ، نظير قوله تعالى : «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنى»(3) . ؛ فإنّ المقصود النهي عن ارتكابه .

وقيل : يمكن أن يقرأ: «زنّاء» بالتشديد؛ أي هؤلاء المرتكبين للزنى بغصب حقوق أهل البيت عليهم السلام (4).

وفي بعض النسخ : «ولا تَحصّن بحِصن رياء» . قيل : أي لا تتحصّن من ملامة الخلق بحصن الأعمال الريائيّة (5).

وفي بعضها : «ولا تحضر حصن زناد آل محمّد» . قال الفيروزآبادي : «الزَّنَد: العُود الذي يُقدَح به النار. الجمع: زنّاد. وزنّد تزنيدا: كَذَب، وعاقب فوق حقّه. وتزنّد: ضاق

ص: 288


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 301
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 301
3- الإسراء (17) : 32
4- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 302
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 301

بالجواب، وغضب» (1) قيل : المراد: لا تحضر حصنا توقد فيه نار الفتنة على أهل البيت عليهم السلام (2).

وقرأ بعض الفضلاء: «لا تحضر حِضْنَ زنى» بالضّاد المعجمة . وقال في شرحه:

الحضور معروف، وقد يأتي بمعنى النزول والسكون، ومنه الحاضر ، لمن نزل على ما يقيم به، ولا يرحل عنه . والحِضن، بكسر الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة: الجانب، والناحية . وإضافته إلى زنى؛ لكثرة وقوعه فيه، وإنّما نهى عن حضور ناحيتهم وسكونه فيها؛ لأنّه يستلزم مشاهدة منكراتهم الثقيلة على المؤمن، وميل الطبع إلى طبائعهم الشريرة، وهي أثقل وأشدّ عليه (3).

(ووالِ آل محمّد) .

الموالاة: ضدّ المعاداة .

وقوله : (بُلّغتْ) بصيغة المخاطب المجهول، من التبليغ .

وقوله: (آمن بما اُخبرك) .

في بعض النسخ: «بما أخبرتك» . والمراد بالإيمان الإذعان والتصديق الذي يستتبع العمل .

(ولا تُفش) من الإفشاء، وهو الإذاعة .

(بما استكتمناك) .

في بعض النسخ: «ما»، وهو أظهر . وعلى نسخة الأصل الباء للتقوية .

(من خَبَرك) .

في بعض النسخ: «خيرك» بالياء المثنّاة التحتانيّة ؛ أي ممّا يكون خيرك في كتمانه ، أو أراد بالخير الاُمور الحقّة المختصّة بأهل الحقّ . ولعلّ استكتامه لعدم لحوق الضرر به وبإخوانه .

(إنّ من واجب حقّ أخيك) ؛ يعني في الدِّين .

(أن لا تكتمه شيئا تنفعه) أي توصل إليه النفع .

ص: 289


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 79
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 298 (زند)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 302

(به لأمر دنياه وآخرته)، ولا تلجئه في ذلك إلى السؤال .

وفي هذا الكلام تنبيه إلى أنّ الكتمان إنّما يكون بالنسبة إلى غير المؤمن .

(ولا تحقد عليه) ؛ عطف على قوله : «لا تكتمه» . وتحتمل كونه على صيغة النهي .

والحقد ، بالكسر والفتح وبالتحريك: الضِّغن، وهو إمساك العداوة في الضمير، والتربّص لفرصتها . وفعله كضرب وفرح . وهذه الخِصلة تنشأ من الطغيان في القوّة الغضبيّة .

(وأجِبْ دعوته إذا دعاك) ؛ للضيافة، أو لجلب نفع، أو دفع ضرر .

(ولا تُخل بينه وبين عدوّه) أي لا تخذله في يد عدوّه ، بل انصره، وادفع عنه كيفما أمكن .

قال الجوهري : «أخليت؛ أي خلوتُ. وأخْليت غيري _ يتعدّى ولا يتعدّى _ وخلّيت عنه، وخلّيت سبيله، فهو مُخلًّى» (1).

(وإن كان أقرب إليه منك) ؛ الظاهر كون «كان» ناقصة، والمستتر فيها راجعا إلى العدوّ، وضمير «إليه» إلى الأخ .

والمراد بالعدوّ من كان له عداوة دينيّة . ويحتمل الأعمّ ؛ أي وإن كان ذلك العدوّ أقرب إليه منك في النسب ، فكيف إذا كنت أقرب إليه منه ؛ لأنّ تلك النصرة من مقتضى الإيمان وواجب حقوق الإخوان، ولا يؤثّر فيه القرب والبُعد.

ولك أن تجعل كلمة «كان» تامّة، و«أقرب» فاعله؛ أي وإن وجد لنصرته ودفع شرّ العدوّ عنه من هو أقرب إليه منك ، فلا تكل أمره إليه، بل أعِنْهُ بنفسك ، فكيف إن لم يوجد ؟

(وعُدْهُ في مرضه) .

العودُ والعيادة: زيارة المريض، وفعلها كقال .

وقوله : (الغشّ) بالفتح، خلاف النصيحة. وبالكسر الاسم منه. يقال: غشّه _ كمدّه _ غشّا، إذا لم يمحضه النصح، أو أظهر خلاف ما أضمر . والغشّ أيضا: الغلّ، والحقد .

(ولا الأذى) ؛ يفهم من كلام الجوهري أنّ «أذىً» اسم من الإيذاء، وهو إيصال المكروه (2) وقيل : هو اسم لما يؤذي مطلقا، كالضرب، والشتم، والغيبة، ونحوها (3).

ص: 290


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2332 (خلا)
2- راجع : الصحاح ، ج 6 ، ص 2266 (إذا)
3- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 80

(ولا الخيانة) ؛ هي أن يُؤتمن الإنسان فلا ينصح .

وقيل : ترك ما يجب حفظه ورعايته من حقوق اللّه وحقوق الناس، وهي كما تجري في أفعال الجوارح، كذلك تجري في أفعال القلوب (1).

(ولا الخَنَا ولا الفحش) .

الخنا، بالقصر: الفحش . قاله الجوهري (2)

ويفهم من كلام صاحب النهاية أنّه أخصّ من الفحش؛ فإنّه قال : الخنا: الفحش من القول، والفحش يكون في القول والفعل، وهو القبيح مطلقا، أو ما يشتدّ قبحه من الذنوب والمعاصي (3).

وفي القاموس: «الفاحشة: الزنى، وكلّ ما يشتدّ قبحه من الذنوب، وكلّ ما نهى اللّه _ عزّ وجلّ _ عنه . والفحشاء: البخل في أداء الزكاة. وقد فحش _ ككرم _ فُحشا، والفحش: عدوان الجواب» (4).

وقوله : (آمُر به) على صيغة المتكلّم ، والجملة حال عن الخصال المذكورة ؛ أي ليس تلك الاُمور من أخلاق المؤمنين حتّى آمر بها أن توقعوها بالنسبة إلى أحدٍ، وإن كان مخالفا . أو المراد أنّها ليست من أخلاق المؤمنين ، وأنّي آمُرُ بتركها .

وعلى التقديرين إفراد الضمير باعتبار كلّ واحدٍ منها . ويحتمل تعلّقه بالأخير منها فقط .

ولا يبعد حمله على الاستفهام الإنكاري؛ أي إذا لم تكن تلك من أخلاق المؤمنين، فكيف آمُرُ بها ؟

وفي بعض النسخ : «ولا الأمرُ به» .

(فإذا رأيت المُشَوّه الأعرابي) .

في القاموس: «شوّهه اللّه ؛ أي قبّح وجهه» (5).

وقيل : يمكن أن يكون المراد بالأعرابي السفياني . قال : وقد يُطلق الأعرابي على من

ص: 291


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 80
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2332 (خنا)
3- اُنظر : النهاية ، ج 3 ، ص 415 (خنا)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 282 (فحش)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 287 (شوه)

يسكن البادية من العجم أيضا، فيمكن أن يكون إشارة إلى هلاكو (1) وقيل : أراد به المسيح الدجّال صاحب الفتنة العظمى، وسمّي مشوّها؛ لقبح منظره (2).

وفي القاموس: «المسح: أن يخلق اللّه الشيء مباركا، أو ملعونا ضدّ . والمسيح: الدجّال لشؤمه، أو هو كسكّين» (3)

وفي النهاية: «سمّي الدجّال مسيحا؛ لأنّه مُسِح أحد شقّي وجهه، ولا عين له، ولا حاجب» (4).

وقيل : كلتا عينيه معيوبة؛ إحداهما مطموسة مغمورة، والاُخرى بارزة كبروز حبّة العنب عن صواحبها (5).

(في جَحْفَل) بتقديم المعجمة على المهملة .

(جَرّار) بالتشديد، أو بالتخفيف . في القاموس: «الجَحْفَل، كجعفر: الجيش الكثير» (6)

وفي الصحاح: «كتيبة جرّارة، أي ثقيلة المسير لكثرتها ، وجيش جرّار» (7).

وفي بعض النسخ: «حرار» بالحاء المهملة . قال الجوهري : «الحرّة: أرض ذو حجارة سود. الحرار جمع. والحَرّان: العطشان، والحِرار جمع» (8).

وفي النهاية: «الحرّة: هي الأرض ذات الحجارة [السود]، ويجمع على حُرٍّ وحِرار. وأرض بظاهر المدينة بها حجارة سُود كثيرة» انتهى (9).

وتركيب «جحفل جرّار» على بعض التقادير إضافيّ، وعلى بعضها توصيفيّ . فتدبّر .

(فانتظر فرجك) جواب «إذا»؛ يعني أنّ ما ذكر من علامات قرب ظهور الصاحب عليه السلام .

وقوله : (فإذا انكسفت الشمس).

لعلّ المراد انكسافها في غير الوقت المعهود، كما سيجيء من انكسافها في النصف من رمضان .

ص: 292


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 302
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 80
3- م القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 249 (مسح)
4- النهاية ، ج 4 ، ص 327 (مسح)
5- نقله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 80
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 346 (حجفل)
7- الصحاح ، ج 2، ص 611 (جرر)
8- الصحاح ، ج 2 ، ص 627 (حرر)
9- النهاية ، ج 1 ، ص 365 (حرر) مع التلخيص

(فارفع بصرك إلى السماء) ؛ لعلّ رفع البصر إليها كناية عن تعمّق النظر فيما فعل اللّه بالمجرمين بيد القائم عليه السلام وأصحابه من القتل والنهب والسبي ونحو ذلك من أنواع العقوبات .

وقد روى المصنّف رحمه الله في باب تفسير «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ» من حديث إلياس مع الباقر عليه السلام ، إلى أن قال له : «فوددت أنّ عينك تكون مع مهديّ هذه الاُمّة ، والملائكة بسيوف آل داود بين السماء والأرض، تُعذّب أرواح الكفرة من الأموات، وتُلحق بهم أرواح أشباههم من الأحياء» (1).

(فقد فسّرت لك بملأ جملاً) . في بعض النسخ: «جملاً مُجملاً» .

قال الجوهري : «الجملة: واحدة الجمل. وقد أجملتُ الحساب، إذا رددتُه إلى الجملة» (2) وفي القاموس: «الجملة، بالضمّ: جماعة الشيء» (3).

متن الحديث السادس والتسعين (حديثٌ نادر)

اشارة

حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ؛ وَ (4) عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، جَمِيعا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«أَتى أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إِنِّي قَدِ اجْتَوَيْتُ الْمَدِينَةَ، أَ فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَخْرُجَ أَنَا وَابْنُ أَخِي إِلى مُزَيْنَةَ، فَنَكُونَ بِهَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخْشى أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكَ خَيْلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَيُقْتَلَ ابْنُ أَخِيكَ، فَتَأْتِيَنِي شَعَثا، فَتَقُومَ بَيْنَ يَدَيَّ مُتَّكِئا عَلى عَصَاكَ، فَتَقُولَ: قُتِلَ ابْنُ أَخِي، وَأُخِذَ السَّرْحُ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، بَلْ لَا يَكُونُ إِلَا خَيْرا إِنْ شَاءَ اللّهُ.

فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَخَرَجَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَامْرَأَتُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ هُنَاكَ إِلَا يَسِيرا حَتّى غَارَتْ خَيْلٌ لِبَنِي فَزَارَةَ، فِيهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَأُخِذَتِ السَّرْحُ، وَقُتِلَ ابْنُ أَخِيهِ، وَأُخِذَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، وَأَقْبَلَ أَبُو ذَرٍّ يَشْتَدُّ حَتّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَبِهِ طَعْنَةٌ جَائِفَةٌ، فَاعْتَمَدَ عَلى عَصَاهُ، وَقَالَ:

ص: 293


1- الكافي ، ج 1 ، ص 242 ، ح 1 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 74 ، ح 64
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1662 (جمل)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 351 (جمل)
4- في السند تحويل بعطف عليّ بن إبراهيم على «حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن محمّد بن أيّوب»

صَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ، أُخِذَ السَّرْحُ، وَقُتِلَ ابْنُ أَخِي، وَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ عَلى عَصَايَ، فَصَاحَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي الْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجُوا فِي الطَّلَبِ، فَرَدُّوا السَّرْحَ، وَقَتَلُوا نَفَرا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

شرح الحديث

السند حسن ، [أو] موثّق كالصحيح على المشهور .

قوله : (اجتويتُ المدينة) .

في النهاية : «اجتووا المدينة؛ أي أصابهم الجَوى، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها، واستوخموها. ويقال : اجتويت البلد، إذا كرهت المقام فيه، وإن كنت في نعمة» (1).

وقوله : (مُزَيْنة) مصغّرة ، قبيلة من مُضر .

وقوله : (يُغير عليك) .

في القاموس:

أغار على القوم غارَةً وإغارة: دفع عليهم الخيل . والفرس، اشتدّ عَدْوُه في الغارة وغيرها . وببني فلان: جاءهم لينصروه. وقد يُعدّى بإلى. وأسرَعَ ، ومنه : أشرق ثبير كيما نغير؛ أي نسرع إلى النحر . انتهى (2).

وقد يجيء غار بمعنى أغار، كما سيجيء، لكن لم نره في كتب اللغة .

(خيل من العرب) .

في القاموس: «الخيل: جماعة الفرس، لا واحد له، أو واحد خائل؛ لأنّه يختال. الجمع: أخيال، وخيول، ويكسر . والفُرسان» (3).

وقوله : (شَعثا) بالتحريك، مصدر، بمعنى انتشار الأمر، واغبرار الرأس.

ونصبه على التمييز، أو على الحال مبالغة . ويحتمل على الثاني كونه ككتف، على أن يكون صفة مشبّهة .

وقوله : (السَّرحُ)؛ هو المال السائم .

ص: 294


1- النهاية ، ج 1 ، ص 318 (جوي)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 105 (غور)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 372 (خيل)

وقيل : أصله المصدر (1).

وقوله : (بل لا يكون إلّا خير) .

قيل : قال ذلك لظنّه أنّ خشية النبيّ صلى الله عليه و آله من باب الاحتمال ، فلمّا وقع ما خشيه، علم أنّه كان من باب الإخبار، فلذلك قال: «صدق اللّه ورسوله» انتهى (2) .

والأظهر أنّ أمثال هذه الكلمات ليس ببديع من الصحابة في بَدو الإسلام، وقبل كمال المعرفة برسول اللّه ، ولمّا يتعلّموا محاسن الآداب .

وكلمة «لا يكون» تامّة، و«خير» بالرفع فاعله . وفي بعض النسخ: «خيرا»، فهي ناقصة، واسمها مستتر؛ أي لا يكون الأمر شيئا إلّا خيرا .

وقوله : (فَزارة) بالفتح، أبو حيّ من غطفان .

(فيها) إلى تلك الخيل .

(عيينة بن حِصن) بكسر الحاء، وسكون الصاد المهملتين .

وقوله : (من بني غِفار) حال من «امرأته» .

وفي المصباح: «غِفار، ككتاب: حيّ من العرب، ومنه أبو ذرّ الغفاري»(3) .

وقوله : (يشتدّ) أي يَعدُو، ويُسرع .

وقوله : (جائفة) .

قال الجزري : «الجائفة: هي الطعنة التي تنفذ إلى الجوف» (4) وقال الجوهري : «النفر من الرِّجال : من ثلاثة إلى عشرة» (5).

متن الحديث السابع والتسعين

اشارة

متن الحديث السابع والتسعينأَبَانٌ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : قَالَ: (6)«نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ تَحْتَ شَجَرَةٍ عَلى شَفِيرِ وَادٍ، فَأَقْبَلَ سَيْلٌ، فَحَالَ بَيْنَهُ

ص: 295


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 82
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 82
3- المصباح المنير ، ص 449 (غفر) مع اختلاف
4- النهاية ، ج 1 ، ص 317 (جوف)
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 833 (نفر)
6- في الطبعة القديمة : - «قال»

وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُسْلِمُونَ قِيَامٌ عَلى شَفِيرِ الْوَادِي يَنْتَظِرُونَ مَتى يَنْقَطِعُ السَّيْلُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِقَوْمِهِ: أَنَا أَقْتُلُ مُحَمَّدا، فَجَاءَ، وَشَدَّ عَلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يُنْجِيكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ، فَنَسَفَهُ جَبْرَئِيلُ عليه السلام عَنْ فَرَسِهِ، فَسَقَطَ عَلى ظَهْرِهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَأَخَذَ السَّيْفَ، وَجَلَسَ عَلى صَدْرِهِ، وَقَالَ: مَنْ يُنْجِيكَ مِنِّي يَا غَوْرَثُ؟ فَقَالَ: جُودُكَ وَكَرَمُكَ يَا مُحَمَّدُ. فَتَرَكَهُ، فَقَامَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللّهِ لَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي وَأَكْرَمُ».

شرح الحديث

قوله : (أبان) بمنزلة العطف على السند السابق، وحاله كحاله .

وقوله : (شدّ) .

قال الجوهري : «شدّ عليه في الحرب يشدّ شدّا، أي حمل عليه . والشدّ: العَدْو، وقد شدّ ، أي عدا» (1).

وقوله : (فنسفه) أي قلعه . يُقال : نَسَفَ البناء، كضرب، إذا قلعه من أصله .

وقوله : (يا غَورَث) .

قال الفيروزآبادي : «غَوْرَثُ بن الحارث، سلَّ سيفَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليفتك به، فرماه اللّه بزلخة بين كتفيه» (2).

وقوله : (جودك وكرمك) .

قيل : كان صلى الله عليه و آله شديدا في المؤاخذة بحقّ اللّه تعالى ، وسليما صبورا حليما في المؤاخذة بحقّ نفسه ، وهذا هو الخُلق الحسن المحمود؛ لأنّه لو ترك القيام في حقّ اللّه تعالى، كان ذلك مهانة ، ولو انتقم لنفسه، لم يكن ثمّة صبر، وكان هذا الخلق بطشا ، فانتفى عنه الطرفان، وبقي الوسط، وهو العدل (3).

وقوله : (وهو يقول) . الضمير راجع إلى «غورث» .

(لأنت خيرٌ منّي وأكرم) .

هذا الكلام لا يدلّ على إيمانه، ولكن روى الواقدي في تفسير قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

ص: 296


1- الصحاح، ج 2 ، ص 492 (شدد)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 171 (غرث)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 83

آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ» (1).

: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله غزا جمعا من بني ذُبيان ومحارب[بذي أمر]، فتحصّنوا برؤوس الجبال، ونزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحيث يراهم، فذهب لحاجته، فأصابه مطر، فبلّ ثوبه، فنشره على شجرة واضطجع تحته، والأعراب ينظرون إليه، فجاء سيّدهم دُعثور بن الحرث حتّى وقف على رأسه بالسيف مشهورا ، فقال : يا محمّد، مَن يمنعك منّي اليوم؟

فقال : اللّه .

فدفع جبرئيل في صدره، ووقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقام على رأسه ، وقال : مَن يمنعك منّي اليوم؟

فقال : لا أحد ، وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه . فنزلت الآية (2).

وروى ابن شهرآشوب عن الثمالي نحوا من ذلك، فزاد في آخره: «فسئل بعد انصرافه عن حاله، فقال : نظرت إلى رجل طويل أبيض، دفع في صدري، فعرفت أنّه مَلَك . ويُقال : إنّه أسلم، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام» (3).

متن الحديث الثامن والتسعين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ [عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:قَالَ: «إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ لَا تُعْرَفُوا فَافْعَلُوا، وَمَا عَلَيْكَ إِنْ لَمْ يُثْنِ النَّاسُ عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُوما عِنْدَ النَّاسِ إِذَا كُنْتَ مَحْمُودا عِنْدَ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَقُولُ: لَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَا لأحَدِ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ يَزْدَادُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ إِحْسَانا، وَرَجُلٍ يَتَدَارَكُ مَنِيَّتَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَأَنّى لَهُ بِالتَّوْبَةِ؟! فَوَ اللّهِ، أَنْ لَوْ سَجَدَ حَتّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ، مَا قَبِلَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ مِنْهُ عَمَلًا إِلَا بِوَلَايَتِنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.

ص: 297


1- المائدة (5) : 11
2- التبيان ، ج 3 ، ص 464 ؛ تفسير مجمع البيان ، ج 3 ، ص 293
3- المناقب ، ج 1 ، ص 70

أَلَا وَمَنْ عَرَفَ حَقَّنَا، أَوْ رَجَا (1). الثَّوَابَ بِنَا، وَرَضِيَ بِقُوتِهِ نِصْفَ مُدٍّ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، وَمَا أَكَنَّ بِهِ رَأْسَهُ، وَهُمْ مَعَ ذلِكَ وَاللّهِ خَائِفُونَ وَجِلُونَ، وَدُّوا أَنَّهُ حَظُّهُمْ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَذلِكَ وَصَفَهُمُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ حَيْثُ يَقُولُ: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» (2). ، مَا الَّذِي أَتَوْا بِهِ، أَتَوْا وَاللّهِ بِالطَّاعَةِ مَعَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَلَايَةِ، وَهُمْ فِي ذلِكَ خَائِفُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ وَاللّهِ خَوْفُهُمْ خَوْفَ شَكٍّ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ إِصَابَةِ الدِّينِ، وَلكِنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَكُونُوا مُقَصِّرِينَ فِي مَحَبَّتِنَا وَطَاعَتِنَا».

ثُمَّ قَالَ: «إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِكَ فَافْعَلْ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ فِي خُرُوجِكَ أَنْ لَا تَغْتَابَ، وَلَا تَكْذِبَ، وَلَا تَحْسُدَ، وَلَا تُرَائِيَ، وَلَا تَتَصَنَّعَ، وَلَا تُدَاهِنَ».

ثُمَّ قَالَ: «نَعَمْ، صَوْمَعَةُ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ، يَكُفُّ فِيهِ بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ وَنَفْسَهُ وَفَرْجَهُ، إِنَّ مَنْ عَرَفَ نِعْمَةَ اللّهِ بِقَلْبِهِ اسْتَوْجَبَ الْمَزِيدَ مِنَ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ شُكْرَهَا عَلى لِسَانِهِ، وَمَنْ ذَهَبَ يَرى أَنَّ لَهُ عَلَى الْاخَرِ فَضْلاً، فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ».

فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّمَا يَرى أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلاً بِالْعَافِيَةِ إِذَا رَآهُ مُرْتَكِبا لِلْمَعَاصِي؟

فَقَالَ: «هَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا أَتى، وَأَنْتَ مَوْقُوفٌ مُحَاسَبٌ؛ أَ مَا تَلَوْتَ قِصَّةَ سَحَرَةِ مُوسى عليه السلام ؟».

ثُمَّ قَالَ: «كَمْ مِنْ مَغْرُورٍ بِمَا قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ يَسْتُرُ (3) اللّهُ عَلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ».

ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي لَأَرْجُو النَّجَاةَ لِمَنْ عَرَفَ حَقَّنَا مِنْ هذِهِ الْأُمَّةِ إِلَا لأحَدِ ثَلَاثَةٍ: صَاحِبِ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَصَاحِبِ هَوًى، وَالْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ».

ثُمَّ تَلَا: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ» (4) .

ثُمَّ قَالَ: «يَا حَفْصُ، الْحُبُّ أَفْضَلُ مِنَ الْخَوْفِ».

ثُمَّ قَالَ: «وَاللّهِ مَا أَحَبَّ اللّهَ مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا، وَوَالى غَيْرَنَا، وَمَنْ عَرَفَ حَقَّنَا وَأَحَبَّنَا فَقَدْ أَحَبَّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى».

فَبَكى رَجُلٌ، فَقَالَ: «أَ تَبْكِي ، لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّهُمُ اجْتَمَعُوا يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللّهِ _

ص: 298


1- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي: «ورجا»
2- المؤمنون (23) : 60
3- في كلتا الطبعتين : «بستر»
4- آل عمران (3) : 31

عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُنْجِيَكَ مِنَ النَّارِ، وَيُدْخِلَكَ الْجَنَّةَ، لَمْ يُشَفَّعُوا فِيكَ»(1)

ثُمَّ قَالَ (2) : «يَا حَفْصُ، كُنْ ذَنَبا، وَلَا تَكُنْ رَأْسا. يَا حَفْصُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ خَافَ اللّهَ كَلَّ لِسَانُهُ».

ثُمَّ قَالَ: «بَيْنَا مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام يَعِظُ أَصْحَابَهُ، إِذْ قَامَ رَجُلٌ، فَشَقَّ قَمِيصَهُ، فَأَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَيْهِ: يَا مُوسى، قُلْ لَهُ : لَا تَشُقَّ قَمِيصَكَ، وَلكِنِ اشْرَحْ لِي عَنْ قَلْبِكَ».

ثُمَّ قَالَ: «مَرَّ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عليه السلام بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَانْصَرَفَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ عَلى حَالِهِ، فَقَالَ لَهُ (3) مُوسى عليه السلام : لَوْ كَانَتْ حَاجَتُكَ بِيَدِي، لَقَضَيْتُهَا لَكَ، فَأَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَيْهِ: يَا مُوسى، لَوْ سَجَدَ حَتّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ، مَا قَبِلْتُهُ حَتّى يَتَحَوَّلَ عَمَّا أَكْرَهُ إِلى مَا أُحِبُّ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لا تُعرفوا) على بناء المجهول ؛ أي لا تكونوا معروفا بين الناس بأشخاصكم، أو بعلمكم وصلاحكم، وكأنّه مختصّ ببعض الأزمان وبعض الأشخاص .

وقوله : (إن لم يُثن الناس عليك) .

الثناء: الوصف بالمدح . وقد أثنى عليه خيرا .

وقال بعض المحقّقين : العاقل اللبيب لا يرضى بثناء الناس عليه؛ لعلمه بأنّه قد يوجب الفخر والكبر والغفلة عن التقصير والرضا بالعمل والعزّة ، وكلّ ذلك من المهلكات ، ولو فرض طهارة نفسه عن قبول أمثال ذلك، فيعلم أنّ الثناء لا يليق إلّا باللّه عزّ وجلّ، فلا يريده لنفسه تعظيما له تعالى (4).

وقوله : (أن تكون مذموما عند الناس) .

قيل : المراد بالناس أهل الدُّنيا والمخالفون؛ لأنّهم الذين يذمّون الفقراء والعلماء

ص: 299


1- في الطبعة القديمة : + «ثمّ كان لك قلب حيّ لكنت أخوف الناس للّه _ عزّ وجلّ _ في تلك الحال»
2- في الطبعة القديمة : + «له»
3- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي : - «له»
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 83

والصلحاء من أهل الدِّين؛ لكون أطوارهم الحسنة خلاف ما نشأوا هؤلاء عليه ، وقوانينهم الشرعيّة والعقليّة خلاف قوانينهم الموضوعة بينهم (1).

وقوله : (يزداد فيها) أي في الدُّنيا .

(كلّ يوم إحسانا) .

الإحسان: ضدّ الإساءة . والمراد هنا ما يعمّ الإحسان لنفسه من تحصيل ما يوجب ارتقاءه في مدارج الكمال من العلم والعمل، ولغيره من النصيحة، وتعليم ما فيه صلاحه ونجاته .

وقد روي: «أنّه من استوى يوماه، فهو مغبون» (2).

وقوله : (يتدارك منيّته بالتوبة) .

المنيّة: الموت .

ولعلّ المراد بتداركها تدارك أمرها، والتهيئة لنزولها .

وقيل : يحتمل أن يكون «منيّته» منصوبا بنزع الخافض؛ أي يتدارك ذنوبه لمنيّته .

وقد روى المصنّف هذا الخبر في كتاب الإيمان والكفر ، وفيه: «يتدارك سيّئته بالتوبة» (3).

وقيل : «المنيّة» إمّا بفتح الميم وكسر النون وشدّ الياء، وهي الموت، مِن مَناهُ اللّه عليك، إذا قدّره، وسمّي بها؛ لأنّه مقدّر بوقت مخصوص . أو بسكون النون وضمّ الميم، أو كسرها، ما أرادته نفسك، وتمنّته من الأباطيل (4).

(وأنّى له بالتوبة) .

«أنّى» من كلمات الاستفهام بمعنى كيف أو أين. والباء زائدة، وضمير «له» راجع إلى رجل، ورجوعه إلى المخالفين المعهودين _ كما قيل (5). _ بعيد جدّا ؛ يعني كيف تقبل توبته مع عدم شرائطها ، ومن أعظم الشرائط واُصولها لقبول التوبة وسائرِ الأعمال ولايةُ أهل البيت عليهم السلام . فقوله : (فواللّه أن لو سجد ...) إشارة إلى هذا .

وقوله : (ومن عرف حقّنا) مبتدأ، وخبره مقدّر بقرينة المقام، وهو ناج، أو نحوه . وكون

ص: 300


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 83
2- الأمالي للصدوق ، ص 766 ، ح 1030 ؛ معاني الأخبار ، ص 342 ، ح 3 ؛ وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 376 ، ح 5
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 306
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 85
5- احتمله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 306

قوله : (ودّوا) خبرا له بعيد .

وقوله : (ورضي بقوته نصفَ مدّ) ؛ كأنّه كناية عن القلّة ؛ يعني أنّه يكتفي بأقلّ ما تيسّر له من الحلال، أو لا يتعب في تحصيل الزيادة، ولو حصل له الزيادة من غير تعب لم يكثر في الأكل متعدّيا عن قدر الضرورة؛ لأنّ في الأوّل تضييع العمر فيما لا يعنيه، والاشتغال عمّا يعنيه، ويهمّه من العمل للآخرة ، وفي الثاني مفاسد كثيرة من زوال الرقّة، وحدوث المرض، والقسوة، والكسل، ونحوها .

(وما أكنّ به رأسُه) من العمامة ونحوها ، أو البيت وشبهه .

قال الجوهري : «الكِنّ: السُّترة. وكننتُ الشيء: سترته، وصُنْتُهُ من الشمس ، وأكنَنْتُهُ في نفسي: أسْرَرْته . وقال أبو زيد : كَنَنْتَهُ وأكننتهُ بمعنى ، في الكِنّ وفي النفس جميعا» (1).

(وهم مع ذلك واللّه خائفون وجِلون) .

أفرد ضمير الموصول سابقا، وجمّعه هاهنا، من حيث اعتبار اللفظ والمعنى .

والوجل والخوف في أصل اللغة متقارب المعنى . قيل : ثمّ كثر إطلاق الوجل على اضطراب القلب التابع للخوف، وعلى الاستغاثة، وطلب الناصر الدافع له، فإن صحّ هذا فهو أثبت بالمقام ؛ لأنّ التأسيس خيرٌ من التأكيد (2).

(ودّوا أنّه حظّهم من الدُّنيا) .

في القاموس: «الحظّ: النصيب، والجدّ، أو خاصّ بالنصيب من الخير والفضل» (3).

والضمير المنصوب راجع إلى عرفان حقّهم ، وما عطف عليه، وتخصيصه ببعضها تحكّم .

(وكذلك وصفهم اللّه ) ؛ إشارة إلى قوله عليه السلام : «من عرف حقّنا» وما عطف عليه، وفيه إيماء إلى تفسير الإيتاء في الآية .

(حيث يقول) في سورة المؤمنين : «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا» .

قال في مجمع البيان :

أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة . وقيل : أعمال البرّ كلّها .

«وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ» (4). أي خائفة . عن قتادة .

ص: 301


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2189 (كنن)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 84
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 394 (حظظ)
4- المؤمنون (23) : 60

وقال الحسن : «المؤمن جمع إحسانا وشفقةً؛ أي خوفا ، والمنافق جمع إساءة وأمْنا» .

وقال أبو عبد اللّه : «معناه: خائفة أن لا تقبل منهم» .

وفي رواية اُخرى : «يؤتى ما أتى، وهو خائف راج» .

وقيل : إنّ في الكلام حذفا وإضمارا، وتأويله: [قلوبهم] وجلة أن لا يقبل منهم؛ لعلمهم بأنّهم إلى ربِّهم راجعون ؛ أي لأنّهم يوقنون بأنّهم يرجعون إلى اللّه تعالى، يخافون أن لا يقبل منهم، وإنّما يخافون ذلك ؛ لأنّهم لا يأمنون التفريط(1).

وقوله : (بالطاعة) أي بطاعة اللّه ، أو بطاعة من أمر بطاعته.

وقس عليه قوله : (مع المحبّة والولاية) .

وقوله : (وليس واللّه ) إلى قوله : (من إصابة الدِّين) .

قال الجوهري : «أصابه؛ أي وجده، وأصابته مصيبة ، وأصاب في قوله» (2)

أي ليس خوفهم لشكّهم في حقّيّة دينهم .

وقوله : (أن لا تخرج من بيتك) ؛ حمل على الخروج لغير ما يلزم الخروج له ؛ فإنّ الخروج قد يكون واجبا، وقد يكون مندوبا _ كالخروج لطلب العلم، وطلب المعاش، وأداء الجمعات والجماعات، وتشييع الجنائز، وعيادة المرضى، ونحوها _ جمعا بين الأخبار ، وكأنّ في قوله عليه السلام : «إن قدرت» إيماءً إلى ذلك .

وقوله : (فإنّ عليك في خروجك ...) ؛ معناه أنّه يلزمك عند الخروج منه كفّ النفس عن هذه الاُمور؛ لتكامل أسبابها، بخلاف ما إذا كنت في بيتك؛ فإنّه غالبا لا يحصل أسبابها فيه، فلا يلزمك التكليف في تركها .

وقوله : (ولا تُرائي) ؛ من باب المفاعلة، وكونه من التفاعل بحذف إحدى التائين _ كما قيل (3). _ بعيد؛ أي وعليك في الخروج أن لا تعمل عملاً رياءً .

وقيل : قد يأتي المرائي بمعنى المجادل (4).

ص: 302


1- تفسير مجمع البيان ، ج 7 ، ص 196
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 165 (صوب)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 84
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 84

(ولا تتصنّع) ؛ كأنّه تأكيد لسابقه . أو يُراد بالتصنّع التزيّن للناس، والتكلّف في اللباس . قال الفيروزآبادي : «التصنّع: تكلّف حسن السمت، والتزيّن» (1).

(ولا تُداهن) .

المداهنة: إظهار خلاف ما يضمر، والغشّ . وقيل : المساهلة في الدِّين (2).

وقوله : (نِعْمَ صَومعة المسلم بيتُه) ؛ ترغيب في الاعتزال عن الراغبين إلى الدُّنيا بذكر بعض منافعه من كفّ البصر وغيره، وكأنّ المراد بالصومعة المَعْبَد، وأصلها معبد النصارى .

وفرق الصَّمعاء الصغيرة اللطيفة المنضمّة إلى الرأس ، والصومعة، كجوهرة بيت النصارى، كالصَّومِع؛ لدقّة في رأسها .

وقوله : (إنّ من عرف نعمة اللّه بقلبه) أي عرف فضل النِّعمة، وأنّ المنعم بها هو اللّه ، وأذعَن بذلك .

(استوجب المزيد) ؛ لكونه شاكرا . وقد قال اللّه عزّ وجلّ : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» (3) ، فيستحقّ بذلك مزيد النعمة والإحسان (من اللّه عزّ وجلّ) .

وقوله : (قيل أن يظهر شكرها على لسانه) ؛ إشارة إلى أنّ العمدة في الشكر معرفة النعمة بالقلب، ولا يتوقّف تحقّقه على إظهاره باللِّسان، بل هو مؤكّد له . ولعلّ تعدية الإظهار ب «على» لتضمين مثل معنى الجريان، أو الإجراء .

وقوله : (فقلت) من كلام حفص .

وقوله : (بالعافية) أي من المعاصي .

والعافية: دفاع اللّه عن العبد .

يُقال : عافاه اللّه من المكروه معافاةً وعافيةً، إذا وهب له العافية من العلل والبلاء .

وقوله : (فلعلّه أن يكون قد غُفر له) إلى آخره .

قيل : أشار به إلى أنّ الفضل والقُرب واستحقاق الرحمة وحسن العاقبة والارتباط بينه تعالى وبين العبد أمرٌ معنويّ ليس له علم، ولا يعلمه إلّا هو، فلعلّه غفر له بالتوبة أو العفو ،

ص: 303


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 84
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 53 (صنع)
3- إبراهيم (14) : 7

وأنت موقوفٌ يوم القيامة، محاسَبٌ بالمعصية وغيرها ، فكيف يجوز أن ترى نفسك أفضل منه ؟! نعم ، لو رأى في نفسه فضلاً وخيرا من علمٍ وطاعة وغيرهما، وعدّه نعمةً من اللّه ، ونسبه إليه من حيث إنّه منه ومن توفيقه، فالظاهر أنّه لا يضرّ، كما قال سليمان عليه السلام : «الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ» (1) (2).

(أما تلوت قصّة سَحَرة موسى عليه السلام ) ؛ حيث وفّقهم اللّه للإيمان والطاعة بعد الكفر والمعصية، وغفر ما سلف منهم من ذنوبهم .

وفيه إيماء إلى عدم جواز تفضيل النفس على الكافر أيضا ، وهذا لا ينافي ذمّه ولعنه من حيث الكفر .

وقوله : (مستدرَج) ؛ على صيغة اسم المفعول .

قال الفيروزآبادي : «استدرجه: خدعه . واستدراج اللّه تعالى العبد: أنّه كلّما جدّد خطيئة جدّد له نعمة» (3).

(وأنساه) الاستغفار، وأن يأخذه قليلاً قليلاً، ولا يباغته .

وقال : «المباغتة: المفاجأة» (4).

وقوله : (يستر اللّه ) .

في بعض النسخ: «بستر اللّه » بالباء الموحّدة .

وقوله : (لأرجو النجاة) أي من دخول النار؛ فإنّ صاحب السلطان الجائر وأخويه يدخلونها، لكن يمكن أن يدركهم الشفاعة والرحمة بعدُ ؛ فإنّ هذه الفسوق ليست بكفر يوجب خلود النار .

وقوله : (سلطانٌ جائر) ؛ لعلّ المراد به ذو السلطنة مطلقا .

(وصاحب هوىً) أي من اتّبع رأيا مبتدعا بغير هدىً من اللّه ، أو مطلقا .

(والفاسق المُعلِن) بكسر اللّام، هو الذي لا يستخفي بفسقه، ولا يبالي بظهوره .

وقيل : هو من يذكر فسقه عند الناس، أو المشهور به (5).

ص: 304


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 85
2- النمل (27) : 15
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 188 (درج)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 143 (بغت)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 86

وقيل : لا يبعد تخصيص صاحب السلطان الجائر بمن كان مُعينا له في جوره، أو ساكتا لا يُعينه ولا يمنعه ؛ لأنّ صاحبه المانع له ربّما وقع مدحه في بعض الروايات (1) ثمّ تلا قوله تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي» (2) .

قال البيضاوي : المحبّة: ميل النفس إلى الشيء لكمال اُدرِك فيه، بحيث يحملها على ما يقرّبها إليه . والعبد إذا علم أنّ الكمال الحقيقي ليس إلّا للّه ، وأنّ كلّ ما يراه كمالاً من نفسه أو غيره فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه ، لم يكن حبّه إلّا للّه وفي اللّه ، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقرّبه إليه ، فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتّباع الرسول في عبادته، والحرص على مطاوعته .

«يُحْبِبْكُمْ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» جواب للأمر ؛ أي يرضَ عنكم، ويكشف الحُجب عن قلوبكم بالتجاوز عمّا فرط منكم، فيدخلكم في جنّات عزّه، ويبوّأكم في جوار قدسه . عبّر عن ذلك بالمحبّة على طريق الاستعارة، أو المقابلة . انتهى (3).

وأقول : كأنّ الآية هاهنا استشهاد لنجاة أهل المعرفة غير الثلاثة، وتوجيهه أنّ نجاتهم مسبّبة لمحبّة اللّه ، المستلزمة لمتابعة الرسول، المستتبعة لمعرفة أهل بيته، المقتضية للعمل الموجب للنجاة .

ويحتمل كونها استشهادا لانتفاء النجاة عن الثلاثة ، وتقريبه يُعلم ممّا ذكر . ولك أن تجعلها استشهادا لمجموع المستثنى والمستثنى منه معا .

وقوله : (الحبّ أفضل من الخوف) .

قيل : كأنّ الوجه أنّ الخوف يقتضي الإتيان بالمأمور به، والاجتناب من المنهيّ عنه؛ للتحرّز عن العقوبة، ودفع الضرر عن النفس ، بخلاف الحبّ؛ فإنّه يقتضي ما ذكر لمجرّد رضائه، وطلب التقرّب منه . والفصل بينهما ظاهر .

أو أنّ حقيقة الحبّ تقتضي الميل إليه، والتوصّل به، وحقيقة الخوف _ وإن كانت درجة عظيمة _ يقتضي الوحشة والفرار . وبينهما بونٌ بعيد .

ص: 305


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 86
2- آل عمران (3) : 31
3- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 27

أو أنّ مقام المحبّة أعلى من مقام الخوف ؛ لأنّ الخوف حالة نفسانيّة، تحصل من معرفته تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وغنائه عن الخلق، ومعرفة قهره وغضبه وكمال قدرته عليهم، وعدم مبالاته بتعذيبهم وتأديبهم وإهلاكهم، ومعرفة عيوب نفسه وتقصيره في الطاعات، ومعرفة أمر الآخرة وشدائدها ، وكلّما ازدادت تلك المعارف زاد الخوف، فيؤثّر ذلك في القلب والجوارح تأثيرا عظيما، فيميل القلب إلى ترك الشهوات، والندامة على الزلّات، والعزم على الخيرات ، فيحصل له بترك الشهوات العفّة والزهد، وبترك المحرّمات التقوى، وبترك ما لا يعني الورع والصدق، حتّى يترقّى منها إلى مقام المحبّة، فلا يرى لنفسه إرادة ولا مرادا، ويحبّ كلّ ما يرد عليه منه، ولا يراه ثقيلاً على نفسه ، بل يراه محبوبا مرغوبا يلتذّ به أشدّ التذاذ؛ لمجيئه من جانب المحبوب، ويعدّه تحفة وهديّة منه (1).

وقوله : (فبكى رجل) ؛ كأنّه كان من المخالفين .

أو المراد بقوله : (لم يُشفّعوا فيك) إلاّ بولايتنا . يُقال : شفّعته فيه تشفيعا: قبلت شفاعته، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب . فقوله : «لم يشفّعوا» على بناء المفعول ؛ أي لم تقبل شفاعتهم فيك . وقوله : (كن ذَنَبا) .

الذَّنَب _ بالتحريك _ معروف ، وهنا كناية عن متابعة من يحبّ متابعته، وعدم التقدّم عليهم في شيء من الاُمور، كما أشار إليه بقوله : (ولا تكن رأسا) .

ويحتمل أن يكون المراد النهي عن طلب مطلق الرئاسة ، أو عن كونه متبوعا لأهل الباطل في باطلهم .

وقوله : (كلَّ لسانه)؛ يعني عمّا لا يعنيه . يُقال: كلَّ لسانه يَكِلّ كلّاً وكُلولاً وكَلالاً، إذا عجز عن النطق، وتحيّر فيه .

وقوله : (ولكن اشرح لي عن قلبك) .

الشرح: الكشف، والتوسيع . ولعلّ المراد هنا فتح القلب وتوسيعه لقبول الحقّ ؛ أي كاشفا عن قلبك برفع ما يواريه ويغطّيه من موانع دخول الحقّ فيه .

ص: 306


1- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 86 و 87

وقيل : أي اظهر لي ما كتمته من المساوئ في قلبك؛ ليعرفك الناس . قال : والغرض توبيخه بما ستره في جوفه من المساوئ، ويُظهر للناس محاسن الأخلاق . انتهى (1).

والحاصل : أنّه ينبغي الاهتمام بتطهير القلب، وتخليته عن الرذائل، وتحليته بالفضائل، وإلّا فلا نفع في البكاء والصياح وشقّ القميص الذي هو من فعل السفهاء والمجانين .

وقوله : (حتّى يتحوّل عمّا أكره إلى ما اُحبّ) ؛ كأنّ المراد بما أكره العقيدة الفاسدة، أو أعمّ منها ومن الأعمال الكاسدة، أو الأخير فقط . ويقابله ما اُحبّ .

وقيل : كأنّ ذلك الساجد كان منافقا في دين موسى عليه السلام ، وهكذا يفعل اللّه ببعض عباده ؛ إمّا من باب اللطف والتنبيه ليرجع ويتوب، أو من باب الغضب .

وليس المراد أنّه يفعله بالجميع كذلك، فلا ينافي ما مرّ في باب الدُّعاء من أنّه تعالى قد يقبل دعاء الفَسَقة سريعا؛ لكراهة سماع صوتهم (2).

متن الحديث التاسع والتسعين (حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله )

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِنْ أَنْ يَظَلَّ (3) جَائِعا خَائِفا فِي اللّهِ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (يظلّ) .

قال الجوهري : «ظَلِلت أعمل كذا _ بالكسر _ ظُلُولاً، إذا عملته بالنهار دون الليل» (4).

وقال الفيروزآبادي : «أظَلَّني الشيء: غشيني، أو دنا منّي حتّى ألقى عليّ ظلّه.

وظلّ نهاره: يفعل كذا يظلَّ _ بالفتح _ ظلّاً وظلولاً» (5).

ص: 307


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 309
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 88
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «يصلّ _ يصلّي»
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1756 (ظلل)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 10 (ظلل)

وقال : «سمع في الشعر: ظَلّ ليلَه يفعل كذا» (1).

وفي بعض النسخ: «يصل» من الصِّلة والإحسان، والمستتر فيه راجع إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، و«جائعا» مفعوله .

وفي بعضها: «يصلّي» .

ويؤيّد نسخة الأصل ما رواه المصنّف رحمه الله في باب ذمّ الدُّنيا عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «ما أعجب رسول اللّه صلى الله عليه و آله شيءٌ من الدُّنيا إلّا أن يكون فيها جائعا خائفا» (2).

متن الحديث المائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ جَمِيعا، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْجُعْفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:

دَخَلْتُ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ذَاتَ يَوْمٍ، وَهُوَ يَأْكُلُ مُتَّكِئا، قَالَ: وَقَدْ كَانَ يَبْلُغُنَا أَنَّ ذلِكَ يُكْرَهُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَدَعَانِي إِلى طَعَامِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ:

«يَا مُحَمَّدُ، لَعَلَّكَ تَرى أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله [مَا] رَأَتْهُ عَيْنٌ (3) يَأْكُلُ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ مِنْ أَنْ (4) بَعَثَهُ اللّهُ إِلى أَنْ قَبَضَهُ؟».

[قَالَ]: ثُمَّ رَدَّ عَلى نَفْسِهِ، فَقَالَ: «لَا وَاللّهِ، مَا رَأَتْهُ عَيْنٌ يَأْكُلُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ مِنْ أَنْ (5).

بَعَثَهُ اللّهُ إِلى أَنْ قَبَضَهُ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، لَعَلَّكَ تَرى أَنَّهُ شَبِعَ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً مِنْ أَنْ (6) بَعَثَهُ اللّهُ إِلى أَنْ قَبَضَهُ؟».

ثُمَّ رَدَّ عَلى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَا وَاللّهِ، مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةً مُنْذُ بَعَثَهُ اللّهُ إِلى أَنْ قَبَضَهُ؛ أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَجِدُ، لَقَدْ كَانَ يُجِيزُ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ بِالْمِائَةِ مِنَ الْاءِبِلِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ

ص: 308


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 10 (ظلل)
2- الكافي ، ج 2 ، ص 129 ، ح 7 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 16 ، ص 266 ، ح 66
3- في الطبعة القديمة : + «وهو»
4- في الحاشية عن بعض النسخ والوافي والوسائل : «منذ» بدل «من أن»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «منذ» بدل «من أن»
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «منذ» بدل «من أن»

يَأْكُلَ لَأَكَلَ، وَلَقَدْ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عليه السلام بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يُخَيِّرُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَهُ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مِمَّا أَعَدَّ اللّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئا، فَيَخْتَارُ التَّوَاضُعَ لِرَبِّهِ _ جَلَّ وَعَزَّ _ وَمَا سُئِلَ شَيْئا قَطُّ، فَيَقُولَ: لَا، إِنْ كَانَ أَعْطى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ: يَكُونُ، وَمَا أَعْطى عَلَى اللّهِ شَيْئا قَطُّ إِلَا سَلَّمَ ذلِكَ إِلَيْهِ، حَتّى إِنْ كَانَ لَيُعْطِي الرَّجُلَ الْجَنَّةَ، فَيُسَلِّمُ اللّهُ ذلِكَ لَهُ».

ثُمَّ تَنَاوَلَنِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: «وَإِنْ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَأْكُلُ إِكْلَةَ الْعَبْدِ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَرْجِعُ إِلى أَهْلِهِ، فَيَأْكُلُ الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ، وَإِنْ كَانَ لَيَشْتَرِي الْقَمِيصَ السُّنْبُلَانِيَّ، (1) ثُمَّ يُخَيِّرُ غُلَامَهُ خَيْرَهُمَا، ثُمَّ يَلْبَسُ الْبَاقِيَ، فَإِذَا جَازَ أَصَابِعَهُ قَطَعَهُ، وَإِذَا جَازَ كَعْبَهُ حَذَفَهُ، وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ قَطُّ كِلَاهُمَا لِلّهِ رِضًا إِلَا أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلى بَدَنِهِ، وَلَقَدْ وُلِّيَ النَّاسَ خَمْسَ سِنِينَ، فَمَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلى آجُرَّةٍ، وَلَا لَبِنَةً عَلى لَبِنَةٍ، وَلَا أَقْطَعَ قَطِيعَةً، وَلَا أَوْرَثَ بَيْضَاءَ وَلَا حَمْرَاءَ إِلَا سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَضَلَتْ مِنْ عَطَايَاهُ، أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ لأهْلِهِ بِهَا خَادِما، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام لَيَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ مِنْ كُتُبِ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَيَضْرِبُ بِهِ الْأَرْضَ، وَيَقُولُ: مَنْ يُطِيقُ هذَا؟».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (من أن بعثه اللّه ) . يحتمل أن يقرأ «أن» بفتح الهمزة، وأن يقرأ بمدّها .

وقوله : (ردّ على نفسه) بالتحريك؛ أي ردّه إلى جوفه، ولم يتنفّس هنيئة، من قولهم: ردّ عليه ؛ أي لم يقبله .

وقوله : (ما رأته عين يأكل وهو متّكئ) .

إن قلنا: إذا لم يفعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلِمَ فعله عليه السلام ؟! وقد قال اللّه عزّ وجلّ : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (2).

؟! قلت : لعلّه عليه السلام فعله لعذر ، أو ضعف، أو لبيان الجواز .

وقوله : (يُجيز الرجل الواحد بالمائة من الإبل) أي يعطيها إيّاه، أو ينفذها ويرسلها إليه .

ص: 309


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «السبلاني»
2- الأحزاب (33) : 21

قال الجوهري : «أَجَزْته: أنفذته. وأجازه بجائزة: أعطاه» (1).

وقوله : (بمفاتيح خزائن الأرض) ؛ كأنّه كناية عن إعطاء تلك الأرض إيّاه، وسلطنته على أهلها، والبقاء فيها، ودوام التمتّع بنعمها ، فاختار صلى الله عليه و آله الفقر والموت تواضعا للّه ، ورجاءً للقائه، وترجيحا لسلطنة الآخرة ونعيمها .

وقوله : (وإن لم يكن) أي وإن لم يوجد عنده شيء .

(قال : يكون) أي يكون ويمكن أن يعطيك اللّه . أو يكون ويمكن أن يوجد عندنا فنعطيك .

(وما أعطى) ؛ على بناء الفاعل .

(على اللّه شيئا) أي معتمدا ومتوكّلاً عليه تعالى .

وقيل : يحتمل أن تكون «على» بمعنى «عن»؛ أي عنه تعالى ومن قِبَلهِ (2).

(قطّ) .

في القاموس: «ما رأيته قَطّ _ ويضمّ ويخفّف _ وقطّ _ مشدّدة ومجرورة _ بمعنى الدهر، مخصوص بالماضي فيما مضى من الزمان، أو فيما انقطع من عمري» (3).

(إلّا سلّم ذلك إليه) .

«سلّم» على بناء الفاعل، والمستتر فيه راجع إلى اللّه وإليه صلى الله عليه و آله .

ويحتمل كونه على بناء المفعول، و«ذلك» إشارة إلى الشيء ، وضمير «إليه» راجع إلى المُعطى له .

ويحتمل إرجاعه إليه صلى الله عليه و آله ؛ أي سلّم اللّه ذلك الشيء إليه ليعطي من وعده به .

وقوله : (من يناوله بيده) (4).

يحتمل أن يكون الموصول بدلاً من الضمير في «له» ، والجارّ متعلّقا ب «سلّم»، والضمير المجرور راجعا إلى اللّه ؛ أي سلّم اللّه الجنّة بيده لمن يناوله الرسول صلى الله عليه و آله ويَعِده . ولا يبعد إرجاع الضمير المجرور إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله . فتدبّر .

ص: 310


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 871 (جوز) مع اختلاف يسير
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 311
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 380 (قطط)
4- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «ثمّ تناولني بيده»

وقيل : لعلّه بيان وتفسير، أو بدل لقوله «ذلك» . أو الباء للسببيّة ، وفيه مقدّرة؛ أي يسلّم ذلك له بأن يبعث إليه من يعطيه بيده (1).

وفي كثير من النسخ: «ثمّ تناولني بيده» .

وقوله : (وإن كان صاحبكم) ؛ يعني أمير المؤمنين عليه السلام . و«إن» مخفّفة .

(ليجلس جِلسة العبد) .

الجلسة _ بالكسر _ مصدر للنوع، ويظهر من بعض الأخبار أنّ جلسة العبد الجثوّ على الركبتين .

وقال بعض العلماء : «إنّها الجلوس متورّكا» .

وقيل : المقصود أنّه عليه السلام كان يجلس على التراب والجلود، ولم يكن له بساط وفرش مزيّنة ؛ لا لأنّه لم يجدها، بل للتواضع للّه تعالى (2).

(ويأكل أكلة العبد) .

الأكلة، بالفتح: المرّة من الأكل . وبالضمّ: اللُّقمة، والقُرصة، والطُّعمة، وهي ما يطعم .

ولعلّ المراد بأكلة العبد الأكل على الحضيض من غير أن يجلس على فرش مختصّ به، أو من غير خوان يضع الطعام عليه .

وقيل : المقصود أنّ طعامه كان خشنا غليظا، أو بلا اُدم (3).

وقوله : (القميص السنبلاني) .

في القاموس : «قميص سُنبلانيّ: سابغ الطول . أو منسوب إلى بلاد بالروم . وسَنْبَلَ ثوبَه؛ أي جرّه من خلفه أو أمامه . وسُنبلان وسُنبُل: بلدان بالروم بينهما عشرون فرسخا، الكتاب السَّنبلاني» (4).

قال الجزري : «السَّنبَل، بالتحريك: الثياب المُسبَلَة، كالرَّسَل والنَّشَر في المرسلة والمنشورة . وقيل : إنّها أغلظ ما يكون من الثياب يتّخذ من مشاقة الكتّان» (5).

ص: 311


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 311
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه، ج 12 ، ص 90 و 91
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 91
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 398 (سنبل) مع اختلاف يسير و زيادة
5- النهاية ، ج 2 ، ص 339 (سبل)

وفي القاموس: «المشاقة، كثمامة: ما سقط من الشعر أو الكتّان عند المشط، أو ما طار» (1) وفي أمالي الصدوق بسندٍ آخر عنه عليه السلام : «القميصين السنبلانيّين» (2). ، وهو أظهر .

(فإذا جاز أصابعه قَطَعَه) ؛ فرارا من شعار المتكبّرين، ومن الفضول الغير المحتاج إليه .

(وإذا جاز كعبه حَذَفَه) .

قال الجوهري : «الكَعْبُ: العظم الناشِز عند ملتقى الساق والقَدَم . وأنكر الأصمعي قول الناس: إنّه في ظهر القَدَم» (3)

وفي القاموس: «حذفه يحذفه: أسقطه» (4).

ولعلّ إسقاطه عليه السلام ما جاز عن الكعب؛ لئلّا يتشابه بالمتكبّرين أهل الخيلاء . وقد روي: «أنّ قميص المؤمنين إلى نصف الساق، أو إلى الكعب؛ لئلّا يتنجّس أو يتلوّث بجرّه على الأرض غالبا، مع كونه إسرافا وتسارعا إلى البِلى والخرق» (5) وقوله : (إلّا أخذ بأشدّهما) ؛ وذلك لكون الأشدّ والأشقّ أفضل، كما روي : «أنّ أفضل الأعمال ما أكرهتَ عليه نفسك» (6).

وفي خبر آخر : «أفضل الأعمال أحمزها» (7).

وقوله : (فما وضع آجرّة على آجرّة، ولا لبنة على لبنة) .

الغرض عدم اشتغاله بعمارة الدُّنيا واعتراضه عنها . قال في المصباح : «الآجُرّ: اللَّبن إذا طُبخ، بمدّ الهمزة، والتشديد أشهر من التخفيف . الواحدة: آجُرة، وهو معرّب» (8).

وقال الجوهري : «اللبِنةُ: التي يُبنى بها. والجمع: لَبِن، مثال كَلِمة وكَلِم . مِن العرب مَن يقول: لِبْنَة ولبن، مثال لِبدَةٍ ولِبْدٍ» (9).

(ولا أقطع قطيعةً) أي ولا اتّخذ مستغلّة من الأرض لنفسه وأهله زهدا عن الدُّنيا، وإن كان

ص: 312


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 283 (مشق)
2- الأمالي للصدوق ، ص 281 ، ح 14
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 213 (كعب)
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 126 (حذف)
5- لم نعثر على الرواية في الجوامع الروائيّة . لكن انظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 91
6- بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 69 ، ج 20 (رواه مرسلاً عن أمير المؤمنين عليه السلام )
7- مفتاح الفلاح ، ص 45 (رواه مرسلاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله )
8- المصباح المنير ، ص 6 (أجر)
9- الصحاح ، ج 6 ، ص 2192 (لبن)

جائزا . يُقال : أقطعه الإمام الأرض ؛ أي جعل غلّتها رزقا، واسم تلك الأرض: قطيعة .

وقوله : (ولا أورث بيضاء ولا حمراء) ؛ كناية عن الدراهم والدنانير بقرينة الاستثناء .

وقوله : (وإن كان عليّ بن الحسين عليهماالسلام) .

«إن» مخفّفة .

(لينظر في الكتاب من كتب عليّ عليه السلام ) .

قيل : من كتب سيره وتواريخه، أو من كتب أعماله التي كان يعمل بها (1).

(فيضرب به الأرض) .

الباء للتعدية ؛ أي يضعه عليها سريعا، أو أذهبه إليها، أو أقامه فيها .

قال الجوهري : «ويُقال : الضرب: الإسراع في السير» (2).

وفي القاموس: «ضرب في الأرض: أسرع، أو ذهب. وبنفسه الأرض: أقام» (3).

متن الحديث الواحد والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ:

حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ جَبْرَئِيلَ عليه السلام أَتى رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَخَيَّرَهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالتَّوَاضُعِ، وَكَانَ لَهُ نَاصِحا، فَكَانَ (4) رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله يَأْكُلُ إِكْلَةَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ تَوَاضُعا لِلّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، ثُمَّ أَتَاهُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: هذِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ رَبُّكَ لِيَكُونَ لَكَ مَا أَقَلَّتِ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَكَ شَيْئا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلى».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (فخيّره) ؛ يعني بين حياة الدُّنيا ومُلكها وبين تركها ، واختار التسليم والتواضع للّه .

ص: 313


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 312
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 168 (ضرب) مع اختلاف يسير
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 95 (ضرب)
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «وكان»

(وأشار) أي جبرئيل عليه السلام .

(عليه بالتواضع) للّه ، وترك قبولها .

وفي بعض النسخ: «أشار إليه» . في القاموس: «أشار إليه: أومأ، ويكون بالكفّ والعين والحاجب . وأشار عليه بكذا: أمره» (1).

(وكان له ناصحا) .

الواو للحال؛ أي فلم يصدر الإشارة منه بالتواضع من باب الغشّ، بل لمحض النصيحة؛ لكون ذلك خيرا له في الدُّنيا والآخرة .

وقوله : (ثمّ أتاه عند الموت بمفاتيح خزائن الدُّنيا) .

قال الفاضل الإسترآبادي : «كأنّ العلّة في إتيانه عند الموت بهذا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله عسى أن يتقبّلها لذرّيّته الطاهرة؛ فإنّ معظم قصد الناس أن لا تكون ذرّيّتهم فقراء بعده» (2). انتهى .

والأظهر أن تكون العلّة في ذلك أنّه صلى الله عليه و آله عسى أن يختار حياة الدُّنيا وبقاءها وملكها . وفي آخر الحديث إيماءً إليه .

وقوله : (ما أقلّت الأرضُ) أي حملته، ورفعته .

وقوله : (في الرفيق الأعلى) متعلّق ب «أكون»؛ أي أحبّ أن أكون في الرفيق الأعلى .

قال في النهاية:

في حديث الدعاء : ألحقني بالرفيق الأعلى . الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى علّيّين، وهو اسمٌ جاء على فَعيل، ومعناه الجماعة، كالصديق، والخَليط، يقع على الواحد والجمع . ومنه قوله تعالى : «وَحَسُنَ أُوْلئِكَ رَفِيقا» (3).

وقيل : معنى «ألحقني بالرفيق الأعلى» ؛ أي باللّه تعالى . يُقال : اللّه رفيقٌ بعباده ، من الرفق والرأفة، وهو فعيل بمعنى فاعل .

ومنه حديث عائشة ، سمعتهُ يقول عند موته: بل الرفيق الأعلى، وذلك حين خُيِّرَ بين البقاء في الدُّنيا وبين ما عند اللّه ، فاختار ما عند اللّه . انتهى (4).

ولو اُريد في هذا الخبر المعنى الأخير، فينبغي أن يكون «في» بمعنى المصاحبة، أو الباء،

ص: 314


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 65 (شار)
2- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 92
3- النساء (4) : 69
4- النهاية ، ج 2 ، ص 246 (رفق)

أو «إلى» ، أو يقدّر بعده مضاف من نحو «كرامة الرفيق الأعلى»، أو رحمته، أو جنّته، أو نحو ذلك .

متن الحديث الثاني والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (1). ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : عُرِضَتْ عَلَيَّ بَطْحَاءُ مَكَّةَ ذَهَبا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، لَا، وَلكِنْ أَشْبَعُ يَوْما، وَأَجُوعُ يَوْما، فَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِذَا جُعْتُ دَعَوْتُكَ وَذَكَرْتُكَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (بَطحاء مكّة ذهبا) ؛ كأنّ المراد أنّه جعلت أرضها وما فيها من الحصى كذلك، أو خلق فيها من الذهب ملأها، وعرضت عليه .

وقال بعض الأفاضل : «أي قيل له: إن أردت أن نجعل لك تلك البطحاء مملوّة من الذهب، أو نجعل أرضها وحصاها ذهبا» (2).

.

قال الفيروزآبادي : «البطحاء والأبطح: سيل واسع فيه دقاق الحصى» (3).

وقوله : (ياربّ لا) أي لا اُريد ذلك . كأنّ المراد بالجوع والشبع الصوم والإفطار، ويحتمل الأعمّ .

متن الحديث الثالث والمائة (حديث عيسى بن مريم عليه السلام )

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْهُمْ عليهم السلام ، قَالَ:«فِيمَا وَعَظَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِهِ عِيسى عليه السلام : يَا عِيسى، أَنَا رَبُّكَ وَرَبُّ آبَائِكَ، اسْمِي وَاحِدٌ، وَأَنَا

ص: 315


1- في الطبعة الجديدة وأكثر النسخ التي قوبلت فيها: - «بن زياد» . والسند معلّق على سابقه
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 313
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 216 (بطح)

الْأَحَدُ الْمُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ صُنْعِي، وَكُلٌّ إِلَيَّ رَاجِعُونَ.

يَا عِيسى، أَنْتَ الْمَسِيحُ بِأَمْرِي، وَأَنْتَ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي، وَأَنْتَ تُحْيِي الْمَوْتى بِكَلَامِي، فَكُنْ إِلَيَّ رَاغِبا، وَمِنِّي رَاهِبا، وَلَنْ تَجِدَ مِنِّي مَلْجَأً إِلَا إِلَيَّ.

يَا عِيسى، أُوصِيكَ وَصِيَّةَ الْمُتَحَنِّنِ عَلَيْكَ بِالرَّحْمَةِ، حَتّى حَقَّتْ لَكَ مِنِّي الْوَلَايَةُ بِتَحَرِّيكَ مِنِّي الْمَسَرَّةَ، فَبُورِكْتَ كَبِيرا، وَبُورِكْتَ صَغِيرا، حَيْثُ مَا كُنْتَ أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدِي، ابْنُ أَمَتِي، أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْ ذِكْرِي لِمَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيَّ أَكْفِكَ، وَلَا تَوَكَّلْ عَلى (1).

غَيْرِي فَآخُذَ لَكَ.

يَا عِيسَى اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ، وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ كَمَسَرَّتِي فِيكَ؛ فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصى.

يَا عِيسى، أَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْيَكُنْ وُدِّي فِي قَلْبِكَ.

يَا عِيسى، تَيَقَّظْ فِي سَاعَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاحْكُمْ لِي لَطِيفَ الْحِكْمَةِ.

يَا عِيسى، كُنْ رَاغِبا رَاهِبا، وَأَمِتْ قَلْبَكَ بِالْخَشْيَةِ.

يَا عِيسى، رَاعِ اللَّيْلَ لِتَحَرِّي مَسَرَّتِي، وَأَظْمِئْ نَهَارَكَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ عِنْدِي.

يَا عِيسى، نَافِسْ فِي الْخَيْرِ جُهْدَكَ تُعْرَفْ بِالْخَيْرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ.

يَا عِيسَى احْكُمْ فِي عِبَادِي بِنُصْحِي، وَقُمْ فِيهِمْ بِعَدْلِي، فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ الشَّيْطَانِ.

يَا عِيسى، لَا تَكُنْ جَلِيسا لِكُلِّ مَفْتُونٍ.

يَا عِيسى، حَقّا أَقُولُ: مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَا خَشَعَتْ لِي، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَا رَجَتْ ثَوَابِي، فَأَشْهَدُ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي مَا لَمْ تُبَدِّلْ، وَلاَ تُغَيِّرْ (2) سُنَّتِي.

يَا عِيسَى ابْنَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، ابْكِ عَلى نَفْسِكَ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ، وَقَلَى الدُّنْيَا، وَتَرَكَهَا لأهْلِهَا، وَصَارَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلهِهِ.

ص: 316


1- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والشروح الموجودة على الكافي : «ولا تولّ» بدل «ولا توكّل على»
2- في كلتا الطبعتين : «أو تغيّر» بدل «ولا تغيّر»

يَا عِيسى، كُنْ مَعَ ذلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ، وَتُفْشِي السَّلَامُ، يَقْظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ حَذَرا لِلْمَعَادِ وَالزَّلَازِلِ الشِّدَادِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُ أَهْلٌ، وَلَا وَلَدٌ، وَلَا مَالٌ.

يَا عِيسَى اكْحُلْ عَيْنَيْكَ (1) بِمِيلِ الْحُزْنِ إِذَا ضَحِكَ الْبَطَّالُونَ.

يَا عِيسى، كُنْ خَاشِعا صَابِرا، فَطُوبى لَكَ إِنْ نَالَكَ مَا وُعِدَ الصَّابِرُونَ.

يَا عِيسى، رُحْ مِنَ الدُّنْيَا يَوْما فَيَوْما، وَذُقْ لِمَا (2) قَدْ ذَهَبَ طَعْمُهُ، فَحَقّا أَقُولُ: مَا أَنْتَ إِلَا بِسَاعَتِكَ وَيَوْمِكَ، فَرُحْ مِنَ الدُّنْيَا بِبُلْغَةٍ، وَلْيَكْفِكَ الْخَشِنُ الْجَشِبُ، فَقَدْ رَأَيْتَ إِلى مَا تَصِيرُ، وَمَكْتُوبٌ مَا أَخَذْتَ، وَكَيْفَ أَتْلَفْتَ؟!

يَا عِيسى، إِنَّكَ مَسْئُولٌ، فَارْحَمِ الضَّعِيفَ كَرَحْمَتِي إِيَّاكَ، وَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ.

يَا عِيسَى ابْكِ عَلى نَفْسِكَ فِي الْخَلَوَاتِ، وَانْقُلْ قَدَمَيْكَ إِلى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَأَسْمِعْنِي لَذَاذَةَ نُطْقِكَ بِذِكْرِي؛ فَإِنَّ صَنِيعِي إِلَيْكَ حَسَنٌ.

يَا عِيسى، كَمْ مِنْ أُمَّةٍ قَدْ أَهْلَكْتُهَا بِسَالِفِ ذُنُوبٍ قَدْ عَصَمْتُكَ مِنْهَا.

يَا عِيسَى ارْفُقْ بِالضَّعِيفِ، وَارْفَعْ طَرْفَكَ الْكَلِيلَ إِلَى السَّمَاءِ، وَادْعُنِي؛ فَإِنِّي مِنْكَ قَرِيبٌ، وَلَا تَدْعُنِي إِلَا مُتَضَرِّعا إِلَيَّ، وَهَمَّكَ هَمّا وَاحِدا؛ فَإِنَّكَ مَتى تَدْعُنِي كَذلِكَ أُجِبْكَ.

يَا عِيسى، إِنِّي لَمْ أَرْضَ بِالدُّنْيَا ثَوَابا لِمَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَا عِقَابا لِمَنِ انْتَقَمْتُ مِنْهُ.

يَا عِيسى، إِنَّكَ تَفْنى، وَأَنَا أَبْقى، وَمِنِّي رِزْقُكَ، وَعِنْدِي مِيقَاتُ أَجَلِكَ، وَإِلَيَّ إِيَابُكَ، وَعَلَيَّ حِسَابُكَ، فَسَلْنِي، وَلَا تَسْأَلْ غَيْرِي، فَيَحْسُنَ مِنْكَ الدُّعَاءُ، وَمِنِّي الْاءِجَابَةُ.

يَا عِيسى، مَا أَكْثَرَ الْبَشَرَ، وَأَقَلَّ عَدَدَ مَنْ صَبَرَ؛ الْأَشْجَارُ كَثِيرَةٌ، وَطَيِّبُهَا قَلِيلٌ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ حُسْنُ شَجَرَةٍ حَتّى تَذُوقَ ثَمَرَهَا(3) يَا عِيسى، لَا يَغُرَّنَّكَ الْمُتَمَرِّدُ عَلَيَّ بِالْعِصْيَانِ، يَأْكُلُ رِزْقِي، وَيَعْبُدُ غَيْرِي، ثُمَّ يَدْعُونِي عِنْدَ الْكَرْبِ، فَأُجِيبُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَعَلَيَّ يَتَمَرَّدُ، أَمْ بِسَخَطِي يَتَعَرَّضُ؟ فَبِي حَلَفْتُ، لآَخُذَنَّهُ أَخْذَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا مَنْجًى، وَلَا دُونِي مَلْجَأٌ، أَيْنَ يَهْرُبُ مِنْ سَمَائِي وَأَرْضِي؟! يَا عِيسى، قُلْ لِظَلَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَدْعُونِي، وَالسُّحْتُ تَحْتَ أَحْضَانِكُمْ، (4). وَالْأَصْنَامُ فِي

ص: 317


1- في كلتا الطبعتين : «عينك»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «ما» بدون اللام
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «ثمرتها»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «أقدامكم»

بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنِّي آلَيْتُ أَنْ أُجِيبَ مَنْ دَعَانِي، وَأَنْ أَجْعَلَ إِجَابَتِي إِيَّاهُمْ، لَعْنا عَلَيْهِمْ حَتّى يَتَفَرَّقُوا.

يَا عِيسى، كَمْ أُطِيلُ النَّظَرَ، وَأُحْسِنُ الطَّلَبَ، وَالْقَوْمُ فِي غَفْلَةٍ لَا يَرْجِعُونَ، تَخْرُجُ الْكَلِمَةُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ لَا تَعِيهَا قُلُوبُهُمْ، يَتَعَرَّضُونَ لِمَقْتِي، وَيَتَحَبَّبُونَ بِقُرْبِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ.

يَا عِيسى، لِيَكُنْ لِسَانُكَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَاحِدا، وَكَذلِكَ فَلْيَكُنْ قَلْبُكَ وَبَصَرُكَ، وَاطْوِ قَلْبَكَ وَلِسَانَكَ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَكُفَّ بَصَرَكَ عَمَّا لَا خَيْرَ فِيهِ، فَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ نَظْرَةً قَدْ زَرَعَتْ فِي قَلْبِهِ شَهْوَةً، وَوَرَدَتْ بِهِ مَوَارِدَ حِيَاضِ الْهَلَكَةِ.

يَا عِيسى، كُنْ رَحِيما مُتَرَحِّما،ً وَكُنْ كَمَا تَشَاءُ أَنْ يَكُونَ الْعِبَادُ لَكَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ (1) الْمَوْتَ، وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِينَ، وَلَا تَلْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهْوَ يُفْسِدُ صَاحِبَهُ، وَلَا تَغْفُلْ؛ فَإِنَّ الْغَافِلَ مِنِّي بَعِيدٌ، وَاذْكُرْنِي بِالصَّالِحَاتِ حَتّى أَذْكُرَكَ.

يَا عِيسى، تُبْ إِلَيَّ بَعْدَ الذَّنْبِ، وَذَكِّرْ بِيَ الْأَوَّابِينَ، وَآمِنْ بِي، وَتَقَرَّبْ بِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَمُرْهُمْ يَدْعُونِي مَعَكَ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنِّي آلَيْتُ عَلى نَفْسِي أَنْ أَفْتَحَ لَهَا بَابا مِنَ السَّمَاءِ بِالْقَبُولِ، وَأَنْ أُجِيبَهُ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

يَا عِيسَى اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ السَّوْءِ يُعْدِي، وَقَرِينَ السَّوْءِ يُرْدِي، وَاعْلَمْ مَنْ تُقَارِنُ، وَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ إِخْوَانا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

يَا عِيسى، تُبْ إِلَيَّ؛ فَإِنِّي لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اعْمَلْ لِنَفْسِكَ فِي مُهْلَةٍ مِنْ أَجَلِكَ قَبْلَ أَنْ لَا يَعْمَلَ لَهَا غَيْرُكَ، وَاعْبُدْنِي لِيَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فِيهِ أَجْزِي بِالْحَسَنَةِ أَضْعَافَهَا، وَإِنَّ السَّيِّئَةَ تُوبِقُ صَاحِبَهَا، فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ فِي مُهْلَةٍ، وَنَافِسْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَمْ مِنْ مَجْلِسٍ قَدْ نَهَضَ أَهْلُهُ وَهُمْ مُجَارُونَ (2) مِنَ النَّارِ.

يَا عِيسَى ازْهَدْ فِي الْفَانِي الْمُنْقَطِعِ، وَطَأْ رُسُومَ مَنَازِلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَادْعُهُمْ (3) ، وَنَاجِهِمْ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، وَخُذْ مَوْعِظَتَكَ مِنْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَلْحَقُهُمْ فِي اللَاحِقِينَ.

يَا عِيسى، قُلْ لِمَنْ تَمَرَّدَ عَلَيَّ بِالْعِصْيَانِ، وَعَمِلَ بِالْاءِدْهَانِ: لِيَتَوَقَّعْ عُقُوبَتِي، وَيَنْتَظِرُ إِهْلَاكِي (4) إِيَّاهُ،

ص: 318


1- في كلتا الطبعتين : «ذكرك»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «مجاوزون»
3- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والشروح : «وادعهم»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «هلاكي»

سَيُصْطَلَمُ مَعَ الْهَالِكِينَ.

طُوبى لَكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ، ثُمَّ طُوبى لَكَ، إِنْ أَخَذْتَ بِأَدَبِ إِلهِكَ الَّذِي يَتَحَنَّنُ عَلَيْكَ (1) تَرَحُّما، وَبَدَأَكَ بِالنِّعَمِ مِنْهُ تَكَرُّما، وَكَانَ لَكَ فِي الشَّدَائِدِ.

لَا تَعْصِهِ يَا عِيسى؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ عِصْيَانُهُ، قَدْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ كَمَا عَهِدْتُ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَأَنَا عَلى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.

يَا عِيسى، مَا أَكْرَمْتُ خَلِيقَةً بِمِثْلِ دِينِي، وَلَا أَنْعَمْتُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ رَحْمَتِي.

يَا عِيسَى اغْسِلْ بِالْمَاءِ مِنْكَ مَا ظَهَرَ، وَدَاوِ بِالْحَسَنَاتِ مِنْكَ مَا بَطَنَ؛ فَإِنَّكَ إِلَيَّ رَاجِعٌ.

يَا عِيسى، أَعْطَيْتُكَ بِمَا (2) أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكَ فَيْضا مِنْ غَيْرِ تَكْدِيرٍ، وَطَلَبْتُ مِنْكَ قَرْضا لِنَفْسِكَ، فَبَخِلْتَ بِهِ عَلَيْهَا لِتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.

يَا عِيسى، تَزَيَّنْ بِالدِّينِ وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ، وَامْشِ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنا، وَصَلِّ عَلَى الْبِقَاعِ، فَكُلُّهَا طَاهِرٌ.

يَا عِيسى، شَمِّرْ، فَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَاقْرَأْ كِتَابِي، وَأَنْتَ طَاهِرٌ، وَأَسْمِعْنِي مِنْكَ صَوْتا حَزِينا.

يَا عِيسى، لَا خَيْرَ فِي لَذَاذَةٍ لَا تَدُومُ، وَعَيْشٍ مِنْ صَاحِبِهِ يَزُولُ.

يَا ابْنَ مَرْيَمَ، لَوْ رَأَتْ عَيْنُكَ مَا أَعْدَدْتُ لأوْلِيَائِيَ الصَّالِحِينَ، ذَابَ قَلْبُكَ، وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ شَوْقا إِلَيْهِ، فَلَيْسَ كَدَارِ الْاخِرَةِ، دَارٌ تَجَاوَرَ فِيهَا الطَّيِّبُونَ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَهُمْ مِمَّا (3) يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَهْوَالِهَا آمِنُونَ، دَارٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا النَّعِيمُ، وَلَا يَزُولُ عَنْ أَهْلِهَا.

يَا ابْنَ مَرْيَمَ، نَافِسْ فِيهَا مَعَ الْمُتَنَافِسِينَ؛ فَإِنَّهَا أُمْنِيَّةُ الْمُتَمَنِّينَ، حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ، طُوبى لَكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ إِنْ كُنْتَ لَهَا مِنَ الْعَامِلِينَ (4) مَعَ آبَائِكَ آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، لَا تَبْغِي بِهَا (5) بَدَلاً وَلَا تَحْوِيلاً، كَذلِكَ أَفْعَلُ بِالْمُتَّقِينَ.

يَا عِيسَى اهْرُبْ إِلَيَّ مَعَ مَنْ يَهْرُبُ مِنْ نَارٍ ذَاتِ لَهَبٍ، وَنَارٍ ذَاتِ أَغْلَالٍ وَأَنْكَالٍ، لَا يَدْخُلُهَا رَوْحٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا غَمٌّ أَبَدا، قِطَعٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، مَنْ يَنْجُ مِنْهَا يَفُزْ، (6) وَلَنْ يَنْجُوَ مِنْهَا مَنْ كَانَ مِنَ الْهَالِكِينَ، هِيَ دَارُ الْجَبَّارِينَ، وَالْعُتَاةِ الظَّالِمِينَ، وَكُلِّ فَظٍّ غَلِيظٍ، وَكُلِّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.

ص: 319


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «إليك»
2- في الطبعة القديمة : «ما» بدون الباء
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «فيما»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «العالمين»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «لا تبتغي لها»
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «يعزّ»

يَا عِيسى، بِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا، وَبِئْسَ الْقَرَارُ دَارُ الظَّالِمِينَ؛ إِنِّي أُحَذِّرُكَ نَفْسَكَ، فَكُنْ بِي خَبِيرا.

يَا عِيسى، كُنْ حَيْثُ مَا كُنْتَ مُرَاقِبا لِي، وَاشْهَدْ عَلى أَنِّي خَلَقْتُكَ، وَأَنْتَ (1) عَبْدِي، وَأَنِّي صَوَّرْتُكَ، وَإِلَى الْأَرْضِ أَهْبَطْتُكَ.

يَا عِيسى، لَا يَصْلُحُ لِسَانَانِ فِي فَمٍ وَاحِدٍ، وَلَا قَلْبَانِ فِي صَدْرٍ وَاحِدٍ، وَكَذلِكَ الْأَذْهَانُ.

يَا عِيسى، لَا تَسْتَيْقِظَنَّ عَاصِيا، وَلَا تَسْتَنْبِهَنَّ لَاهِيا، وَافْطِمْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْمُوبِقَاتِ، وَكُلُّ شَهْوَةٍ تُبَاعِدُكَ مِنِّي فَاهْجُرْهَا، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنِّي بِمَكَانِ الرَّسُولِ الْأَمِينِ، فَكُنْ (2) مِنِّي عَلى حَذَرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ دُنْيَاكَ مُؤَدِّيَتُكَ إِلَيَّ، وَأَنِّي آخُذُكَ بِعِلْمِي، وَكُنْ ذَلِيلَ النَّفْسِ عِنْدَ ذِكْرِي، خَاشِعَ الْقَلْبِ حِينَ تَذْكُرُنِي، يَقْظَانَ عِنْدَ نَوْمِ الْغَافِلِينَ.

يَا عِيسى، هذِهِ نَصِيحَتِي إِيَّاكَ، وَمَوْعِظَتِي لَكَ، فَخُذْهَا مِنِّي، وَإِنِّي رَبُّ الْعَالَمِينَ.

يَا عِيسى، إِذَا صَبَرَ عَبْدِي فِي جَنْبِي، كَانَ ثَوَابُ عَمَلِهِ عَلَيَّ، وَكُنْتُ عِنْدَهُ حِينَ يَدْعُونِي، وَكَفى بِي مُنْتَقِما مِمَّنْ عَصَانِي، أَيْنَ يَهْرُبُ مِنِّي الظَّالِمُونَ؟!

يَا عِيسى، أَطِبِ الْكَلَامَ، وَكُنْ حَيْثُمَا كُنْتَ عَالِما مُتَعَلِّما.

يَا عِيسى، أَفِضْ بِالْحَسَنَاتِ إِلَيَّ حَتّى يَكُونَ لَكَ ذِكْرُهَا عِنْدِي، وَتَمَسَّكْ بِوَصِيَّتِي؛ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً لِلْقُلُوبِ.

يَا عِيسى، لَا تَأْمَنْ إِذَا مَكَرْتَ مَكْرِي، وَلَا تَنْسَ عِنْدَ خَلَوَاتِ الدُّنْيَا ذِكْرِي.

يَا عِيسى، حَاسِبْ نَفْسَكَ بِالرُّجُوعِ إِلَيَّ حَتّى تَتَنَجَّزَ ثَوَابَ مَا عَمِلَهُ الْعَامِلُونَ، أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُؤْتِينَ.

يَا عِيسى، كُنْتَ خَلْقا بِكَلَامِي، وَلَدَتْكَ مَرْيَمُ بِأَمْرِيَ الْمُرْسَلُ إِلَيْهَا رُوحِي جَبْرَئِيلُ الْأَمِينُ مِنْ مَلَائِكَتِي، حَتّى قُمْتَ عَلَى الْأَرْضِ حَيّا تَمْشِي كُلُّ ذلِكَ فِي سَابِقِ عِلْمِي.

يَا عِيسى، زَكَرِيَّا بِمَنْزِلَةِ أَبِيكَ، وَكَفِيلُ أُمِّكَ؛ إِذْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْمِحْرَابَ، فَيَجِدُ عِنْدَهَا رِزْقا،

ص: 320


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «وأنّك»
2- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «وكن»

وَنَظِيرُكَ يَحْيى مِنْ خَلْقِي، وَهَبْتُهُ لأمِّهِ بَعْدَ الْكِبَرِ مِنْ غَيْرِ قُوَّةٍ بِهَا، أَرَدْتُ بِذلِكَ أَنْ يَظْهَرَ لَهَا سُلْطَانِي، وَيَظْهَرَ فِيكَ قُدْرَتِي، أَحَبُّكُمْ إِلَيَّ أَطْوَعُكُمْ لِي، وَأَشَدُّكُمْ خَوْفا مِنِّي.

يَا عِيسى، تَيَقَّظْ، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ رَوْحِي، وَسَبِّحْنِي مَعَ مَنْ يُسَبِّحُنِي، وَبِطَيِّبِ الْكَلَامِ فَقَدِّسْنِي.

يَا عِيسى، كَيْفَ يَكْفُرُ الْعِبَادُ بِي، وَنَوَاصِيهِمْ فِي قَبْضَتِي، وَتَقَلُّبُهُمْ فِي أَرْضِي، يَجْهَلُونَ نِعْمَتِي، وَيَتَوَلَّوْنَ عَدُوِّي، وَكَذلِكَ يَهْلِكُ الْكَافِرُونَ.

يَا عِيسى، إِنَّ الدُّنْيَا سِجْنٌ مُنْتِنُ الرِّيحِ، وَحَسُنَ فِيهَا مَا قَدْ تَرى مِمَّا قَدْ تَذَابَحَ عَلَيْهِ الْجَبَّارُونَ، وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا، فَكُلُّ نَعِيمِهَا يَزُولُ، وَمَا نَعِيمُهَا إِلَا قَلِيلٌ.

يَا عِيسَى ابْغِنِي عِنْدَ وِسَادِكَ تَجِدْنِي، وَادْعُنِي، وَأَنْتَ لِي مُحِبٌّ؛ فَإِنِّي أَسْمَعُ السَّامِعِينَ، أَسْتَجِيبُ لِلدَّاعِينَ إِذَا دَعَوْنِي.

يَا عِيسى، خَفْنِي، وَخَوِّفْ بِي عِبَادِي، لَعَلَّ الْمُذْنِبِينَ أَنْ يُمْسِكُوا عَمَّا هُمْ عَامِلُونَ بِهِ، فَلَا يَهْلِكُوا إِلَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.

يَا عِيسى، ارْهَبْنِي رَهْبَتَكَ مِنَ السَّبُعِ وَالْمَوْتِ الَّذِي أَنْتَ لَاقِيهِ، فَكُلُّ هذَا أَنَا خَلَقْتُهُ، فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.

يَا عِيسى، إِنَّ الْمُلْكَ لِي وَبِيَدِي، وَأَنَا الْمَلِكُ، فَإِنْ تُطِعْنِي أَدْخَلْتُكَ جَنَّتِي فِي جِوَارِ الصَّالِحِينَ.

يَا عِيسى، إِنِّي إِنْ (1)غَضِبْتُ عَلَيْكَ، لَمْ يَنْفَعْكَ رِضَا مَنْ رَضِيَ عَنْكَ، وَإِنْ رَضِيتُ عَنْكَ، لَمْ يَضُرَّكَ غَضَبُ الْمُغْضَبِينَ.

يَا عِيسَى اذْكُرْنِي فِي نَفْسِكَ، أَذْكُرْكَ فِي نَفْسِي؛ وَاذْكُرْنِي فِي مَلَئِكَ، أَذْكُرْكَ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْ مَلَإِ الْادَمِيِّينَ.

يَا عِيسَى ادْعُنِي دُعَاءَ الْغَرِيقِ الْحَزِينِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ(2) مُغِيثٌ.

يَا عِيسى، لَا تَحْلِفْ بِي كَاذِبا، فَيَهْتَزَّ عَرْشِي غَضَبا؛ الدُّنْيَا قَصِيرَةُ الْعُمُرِ، طَوِيلَةُ الْأَمَلِ، وَعِنْدِي دَارٌ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ.

يَا عِيسى، كَيْفَ أَنْتُمْ صَانِعُونَ إِذَا أَخْرَجْتُ لَكُمْ كِتَابا يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِسَرَائِرَ قَدْ كَتَمْتُمُوهَا، وَأَعْمَالٍ كُنْتُمْ بِهَا عَامِلِينَ؟

ص: 321


1- في الطبعة القدیمة «اذا»
2- في الحاشیة عن بعض النسخ «معه»

يَا عِيسى، قُلْ لِظَلَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: غَسَلْتُمْ وُجُوهَكُمْ، وَدَنَّسْتُمْ قُلُوبَكُمْ، أَ بِي تَغْتَرُّونَ؟ أَمْ عَلَيَّ تَجْتَرِؤُونَ؟ تَطَيَّبُونَ بِالطِّيبِ لأهْلِ الدُّنْيَا، وَأَجْوَافُكُمْ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ الْجِيَفِ الْمُنْتِنَةِ، كَأَنَّكُمْ أَقْوَامٌ مَيِّتُونَ.

يَا عِيسى، قُلْ لَهُمْ: قَلِّمُوا أَظْفَارَكُمْ مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ، وَأَصِمُّوا أَسْمَاعَكُمْ عَنْ ذِكْرِ الْخَنَا، وَأَقْبِلُوا عَلَيَّ بِقُلُوبِكُمْ؛ فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ ضَرَرَكُمْ(1).

يَا عِيسَى افْرَحْ بِالْحَسَنَةِ؛ فَإِنَّهَا لِي رِضًا، وَابْكِ عَلَى السَّيِّئَةِ؛ فَإِنَّهَا شَيْنٌ، وَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُصْنَعَ بِكَ، فَلَا تَصْنَعْهُ بِغَيْرِكَ، وَإِنْ لَطَمَ خَدَّكَ الْأَيْمَنَ، فَأَعْطِهِ الْأَيْسَرَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالْمَوَدَّةِ جُهْدَكَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.

يَا عِيسى، ذِلَّ لأهْلِ الْحَسَنَةِ، وَشَارِكْهُمْ فِيهَا، وَكُنْ عَلَيْهِمْ شَهِيدا، وَقُلْ لِظَلَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: يَا أَخْدَانَ السَّوْءِ، وَالْجُلَسَاءَ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أَمْسَخْكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.

يَا عِيسى، قُلْ لِظَلَمَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الْحِكْمَةُ تَبْكِي فَرَقا مِنِّي، وَأَنْتُمْ بِالضَّحِكِ تَهْجُرُونَ، أَتَتْكُمْ بَرَاءَتِي، أَمْ لَدَيْكُمْ أَمَانٌ مِنْ عَذَابِي، أَمْ تَعَرَّضُونَ لِعُقُوبَتِي، فَبِي حَلَفْتُ لَأَتْرُكَنَّكُمْ مَثَلاً لِلْغَابِرِينَ.

ثُمَّ أُوصِيكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبِي، فَهُوَ أَحْمَدُ، صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، وَالْوَجْهِ الْأَقْمَرِ، الْمُشْرِقِ بِالنُّورِ الطَّاهِرِ الْقَلْبِ الشَّدِيدِ الْبَأْسِ الْحَيِيِّ الْمُتَكَرِّمِ؛ فَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَسَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ يَوْمَ يَلْقَانِي، أَكْرَمُ السَّابِقِينَ عَلَيَّ، وَأَقْرَبُ الْمُرْسَلِينَ مِنِّي، الْعَرَبِيُّ الْأَمِينُ، الدَّيَّانُ بِدِينِي، الصَّابِرُ فِي ذَاتِي، الْمُجَاهِدُ الْمُشْرِكِينَ بِيَدِهِ عَنْ دِينِي، أَنْ تُخْبِرَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَأْمُرَهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَنْ يَتَّبِعُوهُ، وَأَنْ يَنْصُرُوهُ.

قَالَ عِيسى عليه السلام : إِلهِي، مَنْ هُوَ حَتّى أُرْضِيَهُ؟ فَلَكَ الرِّضَا.

قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، أَقْرَبُهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً، وَأَحْضَرُهُمْ شَفَاعَةً، طُوبى لَهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَطُوبى لأمَّتِهِ، إِنْ (2)هُمْ لَقُونِي عَلى سَبِيلِهِ يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، أَمِينٌ مَيْمُونٌ، طَيِّبٌ مُطَيَّبٌ، خَيْرُ الْبَاقِينَ عِنْدِي، يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، إِذَا خَرَجَ أَرْخَتِ السَّمَاءُ عَزَالِيَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ زَهْرَتَهَا، حَتّى يَرَوُا الْبَرَكَةَ، وَأُبَارِكُ لَهُمْ فِيمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، كَثِيرُ الْأَزْوَاجِ، قَلِيلُ الْأَوْلَادِ، يَسْكُنُ بَكَّةَ مَوْضِعَ أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ.

ص: 322


1- في الطبعة القدیمة:«صورکم»
2- في الحاشیة عن بعض النسخ:«اذ»

يَا عِيسى، دِينُهُ الْحَنِيفِيَّةُ، وَقِبْلَتُهُ يَمَانِيَّةٌ، وَهُوَ مِنْ حِزْبِي، وَأَنَا مَعَهُ، فَطُوبى لَهُ، ثُمَّ طُوبى لَهُ، لَهُ الْكَوْثَرُ وَالْمَقَامُ الْأَكْبَرُ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، يَعِيشُ أَكْرَمَ مَنْ عَاشَ، وَيُقْبَضُ شَهِيدا، لَهُ حَوْضٌ أَكْبَرُ مِنْ بَكَّةَ إِلى مَطْلَعِ الشَّمْسِ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، فِيهِ آنِيَةٌ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَأَكْوَابٌ مِثْلُ مَدَرِ الْأَرْضِ عَذْبٍ، فِيهِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ وَطَعْمِ كُلِّ ثِمَارٍ فِي الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ أَبَدا، وَذلِكَ مِنْ قَسْمِي لَهُ، وَتَفْضِيلِي إِيَّاهُ، عَلى فَتْرَةٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، يُوَافِقُ سِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَقَوْلُهُ فِعْلَهُ، لَا يَأْمُرُ النَّاسَ إِلَا بِمَا يَبْدَأُهُمْ بِهِ ، دِينُهُ الْجِهَادُ فِي عُسْرٍ وَيُسْرٍ، تَنْقَادُ لَهُ الْبِلَادُ، وَيَخْضَعُ لَهُ صَاحِبُ الرُّومِ، عَلى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، يُسَمِّي عِنْدَ الطَّعَامِ، وَيُفْشِي السَّلَامُ، وَيُصَلِّي وَالنَّاسُ نِيَامٌ.

لَهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُ صَلَوَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ،(1) يُنَادِي إِلَى الصَّلَاةِ كَنِدَاءِ الْجَيْشِ بِالشِّعَارِ، وَيَفْتَتِحُ بِالتَّكْبِيرِ، وَيَخْتَتِمُ بِالتَّسْلِيمِ، وَيَصُفُّ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ أَقْدَامَهَا، وَيَخْشَعُ لِي قَلْبُهُ وَرَأْسُهُ، النُّورُ فِي صَدْرِهِ، وَالْحَقُّ عَلى لِسَانِهِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ ، أَصْلُهُ يَتِيمٌ، ضَالٌّ بُرْهَةً مِنْ زَمَانِهِ عَمَّا يُرَادُ بِهِ.

تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، لَهُ الشَّفَاعَةُ، وَعَلى أُمَّتِهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَيَدِي فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ أَوْفَيْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ.

فَمُرْ ظَلَمَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَا يَدْرُسُوا كُتُبَهُ، وَلَا يُحَرِّفُوا سُنَّتَهُ، وَأَنْ يُقْرِؤُوهُ السَّلَامُ؛ فَإِنَّ لَهُ فِي الْمَقَامِ شَأْنا مِنَ الشَّأْنِ.

يَا عِيسى، كُلُّ مَا يُقَرِّبُكَ مِنِّي، فَقَدْ دَلَلْتُكَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يُبَاعِدُكَ مِنِّي، فَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْهُ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ.

يَا عِيسى، إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ فِيهَا، فَجَانِبْ مِنْهَا مَا حَذَّرْتُكَ، وَخُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتُكَ عَفْوا.

يَا عِيسَى انْظُرْ فِي عَمَلِكَ نَظَرَ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ الْخَاطِئِ، وَلَا تَنْظُرْ فِي عَمَلِ غَيْرِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّبِّ، كُنْ فِيهَا زَاهِدا، وَلَا تَرْغَبْ فِيهَا، فَتَعْطَبَ.

يَا عِيسَى اعْقِلْ، وَتَفَكَّرْ، وَانْظُرْ فِي نَوَاحِي الْأَرْضِ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.

يَا عِيسى، كُلُّ وَصْفِي لَكَ نَصِيحَةٌ، وَكُلُّ قَوْلِي لَكَ حَقٌّ، وَأَنَا الْحَقُّ الْمُبِينُ، فَحَقّا أَقُولُ: لَئِنْ أَنْتَ

ص: 323


1- في الحاشیة عن بعض النسخ:«متتالیات»

عَصَيْتَنِي بَعْدَ أَنْ أَنْبَأْتُكَ، مَا لَكَ مِنْ دُونِي وَلِيٌّ وَلَا نَصِيرٌ.

يَا عِيسى، أَذِلَّ قَلْبَكَ بِالْخَشْيَةِ، وَانْظُرْ إِلى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْكَ، وَلَا تَنْظُرْ إِلى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ رَأْسَ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَذَنْبٍ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا تُحِبَّهَا؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّهَا.

يَا عِيسى، أَطِبْ لِي قَلْبَكَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرِي فِي الْخَلَوَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ سُرُورِي أَنْ تُبَصْبِصَ إِلَيَّ، كُنْ فِي ذلِكَ حَيّا، وَلَا تَكُنْ مَيِّتا.

يَا عِيسى، لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئا، وَكُنْ مِنِّي عَلى حَذَرٍ، وَلَا تَغْتَرَّ بِالنَّصِيحَةِ،(1) وَتُغَبِّطْ نَفْسَكَ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا كَفَيْءٍ زَائِلٍ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْهَا كَمَا أَدْبَرَ، فَنَافِسْ فِي الصَّالِحَاتِ جُهْدَكَ، وَكُنْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ، وَإِنْ قُطِعْتَ، وَأُحْرِقْتَ(2) بِالنَّارِ، فَلَا تَكْفُرْ بِي بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا(3) تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ؛ (4). فَإِنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ مَعَ الشَّيْءِ.

يَا عِيسى، صُبَّ لِيَ (5) الدُّمُوعَ مِنْ عَيْنَيْكَ، وَاخْشَعْ لِي بِقَلْبِكَ.

يَا عِيسَى اسْتَغِثْ بِي فِي حَالَاتِ الشِّدَّةِ؛ فَإِنِّي أُغِيثُ الْمَكْرُوبِينَ، وَأُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ، وَأَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».

شرح الحديث

السند حسن، أو موثّق حسن .

وقال بعض الفضلاء : «الظاهر أنّ فيه إرسالاً» (6) ورواه الصدوق في أماليه، عن محمّد بن موسى بن المتوكّل ، عن عبداللّه بن جعفر الحميري ، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن عليّ بن أسباط ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام (7) فالخبر موثّق على الأظهر ، ضعيف على المشهور ، وهو يؤيّد الإرسال هاهنا .

وأقول : الظاهر أنّ عليّ بن أبي حمزة هذا البطائنيّ الضعيف، لا الثماليّ الثقة؛ لروايته عن

ص: 324


1- في الطبعة القدیمة : «بالصحة»
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «وحرفت»
3- في الطبعة القدیمة : «فلا»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «ولا تكن مع الجاهلين»
5- في الحاشية عن بعض النسخ: «إليّ»
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 313
7- اُنظر: الأمالي للصدوق ، ص 521 ، ح 1

أبي بصير ، فالحكم بتوثيق الخبر، ونسبة الضعف إلى المشهور، ليس بجيّد . فتأمّل .

(قال) أي عليّ بن أسباط، أو أحد المعصومين عليهم السلام . والأوّل أظهر .

(فيما وعظ اللّه _ عزّ وجلّ _ به عيسى عليه السلام ) أي نصحه، وذكّره .

قال الجوهري : «الوعَظْ والعِظة: النُّصح» (1) .

وفي القاموس: «وعظه يعِظه وعْظا وموعِظةً: ذكره ما يليّن قلبه من الثواب والعقاب، فاتّعظ» (2).

وقوله : (أنا ربّك) .

قال البيضاوي : الربّ _ في الأصل _ بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا . ثمّ وصف به للمبالغة كالصوم والعدل .

وقيل : هو نعت من رَبَّهُ يُربّه، فهو رَبٌّ، كقولك : نمّ ينمُّ فهو نمُّ. ثمّ سمّي به المالك؛ لأنّه يحفظ ما يملكه، ويُربّيه، ولا يُطلق على غيره تعالى إلّا مقيّدا، كقوله : «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ» (3). انتهى (4).

وقيل : هو منكّرا بلا إضافة مختصّ بالواجب، وكذا المعروف باللام إذا كان بمعنى المالك؛ لأنّ اللام للعموم ، والمخلوق لا يملك جميع المخلوقين .

وتقديم هذا الوصف لدلالته على أفضل النعماء، وهو الإيجاد والتربية، ولأنّ فيه إيماء على أداء حقوق الربوبيّة (5).

(اسمي واحد، وأنا الأحد) .

قال صاحب العدّة :

الواحد والأحَد اسمان يشملهما نفي الأبعاض عنهما والأجزاء، والفرق بينهما من وجوه :

الأوّل : أنّ الواحد هو المنفرد بالذات ، والأحد هو المنفرد بالمعنى .

ص: 325


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1181 (وعظ)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 400 (وعظ)
3- يوسف (12) : 50
4- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 51 و 52
5- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 93

الثاني : أنّ الواحد أعمّ موردا؛ لكونه يُطلق على من يعقل وغيره، ولا يطلق الأحد إلّا على من يعقل .

الثالث : أنّ الواحد يدخل في الضرب والعدد، ويمتنع دخول الأحد في ذلك (1).

(المتفرّد بخلق كلّ شيء) .

قال بعض المفسّرين : الشيء يختصّ بالموجود؛ لأنّه في الأصل مصدر «شاء»، اُطِلق بمعنى «شاء» تارةً، وحينئذٍ يتناول الباري تعالى، كما قال : «قُلْ أَىُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللّهُ» (2). وبمعنى «مَشيء» اُخرى؛ أي مشيء وجوده، وما شاء اللّه وجوده، فهو موجود في الجملة . وعليه قوله : «إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (3). ، «اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» (4). ، فهما على عمومهما بلا مثنويّة والمعتزلة لما قالوا: الشيء ما يصحّ أن يوجد، وهو يعمّ الواجب والممكن، أو ما يصحّ أن يُعلم ويخبر عنه، فيعمّ الممتنع أيضا؛ لزمهم التخصيص بالممكن في الموضعين بدليل العقل . انتهى (5)

وهذا الكلام وأمثاله ردّ على الفلاسفة القائلين بأنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد، وأنّ خلق غير المعقول من الأشياء مستند إلى العقل الفعّال (6).

وقوله : (وكلّ شيء من صُنعي) ؛ كالتأكيد لسابقه .

وفي القاموس : «صنع إليه معروفا _ كمنع _ صنعا، بالضمّ. وصنع به صنيعا: قبيحا فعله .

والشيء صُنعا، بالفتح والضمّ: عَمِلَه» (7).

(وكلٌّ إليّ راجعون) ؛ للحساب والثواب والعقاب، أو بالحاجة في الوجود والبقاء، أو بالزوال والفناء .

قال الفاضل الإسترآبادي : «المقصود أنّ كلّ شيء من صنعي _ بلا واسطة أو بواسطة _ كأفعال العباد ، وهذا معنى قوله : «كلٌّ إليه راجعون» (8).

ص: 326


1- عدّة الداعي ، ص 300
2- الأنعام (6) : 19
3- البقرة (2) : 20 ، 106 ، 109 ومواضع اُخر
4- الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62
5- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 209 و 210
6- لا يخفى أنّ في كلامه هذا مغالطة محسوسة، فليرجع القارى ء الفاحص إلى المنابع الفلسفيّة المعروفة عند الأصحاب
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 52 (صنع)
8- حكاه عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 94 ، والاعتراض بعده أيضا منه

واعترض عليه بأنّه يصدق على مذهب صدور الواحد عنه فقط، وهو باطل عندنا ، فالأصوب حمله على الصدور بلا واسطة، واستثناء أفعال العباد بدليل خارج . فليتأمّل .

وقوله : (أنت المسيح) .

قال في النهاية : «قد تكرّر فيه ذكر المسيح عليه السلام ، فسمّي به؛ لأنّه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلّا برأ» (1).

وقيل : لأنّه كان أمسحَ الرجل لا أخمص له . وقيل : لأنّه خرج من بطن اُمّه ممسوحا بالدهن . وقيل : لأنّه كان يمسح الأرض؛ أي يقطعها . وقيل : المسيح: الصدِّيق . وقيل : هو بالعبرانيّة: «مشيحا»، فعرّبت (2).

وقوله : (وأنت تخلق من الطين) إلى آخره .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلام : «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ» : (3).

المعنى : اُقدّر لكم، واُصوّر شيئا مثل صورة الطير . «فَأَنفُخُ فِيهِ» ، الضمير للكاف؛ أي في ذلك المماثل .

«فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللّهِ» ، فيصير حيّا طائرا بإذن اللّه .

نبّه به على أنّ إحياءه من اللّه لا منه .

وفي قوله تعالى : «وَأُحْىِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ» ؛ كرّر بإذن اللّه دفعا لتوهّم الاُلوهيّة؛ فإنّ الإحياء ليس من أفعال البشريّة (4).

وكذا قوله : (بكلامي).

وقيل : الاسم الأعظم . والأوّل أنسب بقوله : «وَأُحْىِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ»(5)

قال الفيروزآبادي : «أذِنَ بالشيء _ كسمع _ إذنا، بالكسر، ويحرّك، وأذانا وأذانة: علم به. وأذِن له في الشيء _ كسمع _ إذنا، بالكسر، وأذينا: أباحه له. وأذن إليه وله، كفرِح: استمع معجبا، أو عامّ» (6) .

ص: 327


1- النهاية ، ج 4 ، ص 326 (مسح)
2- راجع في الأقوال : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 314
3- آل عمران (3) : 49
4- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 42
5- آل عمران (3) : 49
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 195 (أذن)

(فكُن إليَّ راغبا، ومنّي راهبا) .

الفاء فصيحة . وقيل : للتفريع (1).

وتقديم الظرف للحصر؛ لأنّه إذا كان وجوده وحوائجه وجميع كمالاته منه تعالى، وجب أن تكون رغبته في جميع المقاصد، ورهبته من العقوبة ومن فوات مطالبه إليه تعالى، لا إلى غيره.

وإلى هذا إشارة بقوله : (ولن تجد منّي ملجأ) ؛ أي ملاذا ومعقلاً لنيل المقصود ودفع المكروه (إلّا إليّ) .

وقوله : (المتحنّن): المترحّم، والمتلطّف .

وفيه إيماء إلى خلوص تلك الوصيّة من شائبة الأغراض، وحثّ على الأخذ بها .

وقوله : (حتّى حَقّت) أي ثبتت، ووجبت؛ إشارة إلى غاية الوصيّة، ونهاية التحنّن والرحمة .

وفي الأمالي : «حين حقّت» .

(منّي الوَلاية) أي ولايتي ومحبّتي ونصرتي لك، أو ولايتك لي، أو إمارتك وسلطنتك في الناس .

في القاموس: «الوليّ: المحبّ، والصديق، والنصير. وَلِيَ الشيء وعليه وِلاية ووَلاية. أو هي المصدر. وبالكسر: الخطّة، والإمارة، والسلطان» (2).

وفي الصحاح:

الوِلاية، بالكسر: السلطان . عن ابن السكّيت : «الوِلاية والوَلاية: النصرة» . قال سيبويه : «الولاية، بالفتح: المصدر ، والوِلاية، بالكسر: الاسم، مثل الإمارة، والنِقابة؛ لأنّه اسمٌ لما تولّيته، وقمت به ، فإذا أرادوا المصدر فتحوا» انتهى (3).

وفي لفظ «منّي» التفات وإشعار بأنّ ثبوت تلك الولاية من لطفه تعالى وتوفيقه .

(بتحرّيك منّي المَسَرّة) .

التحرّي: التعمّد، وطلب ما هو أحرى وأولى وأليق .

وإضافته إلى فاعله ، والمسرّة مفعوله، وهي في الأصل مصدر سرّه سرورا، ثمّ اُطلق على كلّ ما يوجب السرور .

ص: 328


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 95
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 401 (ولي)
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2530 (ولي)

والباء للسببيّة؛ يعني ثبوت الولاية لك بسبب أنّك تطلب مسرّتي، ولا تفعل إلّا ما فيه رضائي .

وفي لفظ «منّي» إشعار إلى ما ذكر سابقا .

وفي بعض النسخ : «تنجز لك» . يُقال : نجز حاجته وأنجزها، إذا قضاها . وكأنّه على صيغة المجهول ، و«المسرّة» قائم مقام فاعله .

وقيل : فاعل «تُنْجِز» ضمير راجع إلى الولاية، و«المسرّة» مفعوله ؛ يعني أنّ الولاية تنجز لك من عوني، أو من لدنّي ما يوجب سرورك، وهو القرب والسعادة والجنّة ونعيمها الباقية (1).

(فبُورِكتَ كبيرا، وبُورِكتَ صغيرا) .

البركة، محرّكة: النماء، والزيادة، والسعادة . وبارَكَهُ، أي أدام له ما أعطاه من التشريف والكرامة ؛ يعني أنّك جعلت سعيدا، أو زيدَ في علمك وقربك وكمالك ، أو جعلت مباركا ميمونا منشأً لمزيد الخيرات والبركات نفّاعا، أو معلِّما للخير في كبرك وصِغرِك ؛ فإنّه عليه السلام كانت من جملة معجزاته البركة بالخصب والرخاء أينما كان، وبإحياء الموتى، وإبراء ذوي العاهات، وأمثالها من أنواع الخيرات .

(أينما (2) كنتَ) من الأمكنة .

وقوله : (أشهد)؛ على صيغة الأمر، والمقصود أمره عليه السلام باليقين.

وقوله: (أنّك عبدي، وابن أمتي)؛ ترغيب له بالإتيان بحقّ العبوديّة.

وقوله: (أنزلني من نفسك كهمّك) .

قال الجوهري : «هممت الشيء أهمّ هما، إذا أردته» (3)

وقال الفيروزآبادي : «الهَمُّ: الحُزن، وما همّ به في نفسه» (4).

وقال : «النزول: الحلول. نزل لهم وبهم وعليهم ينزل نزولاً ومَنْزلاً: حلّ. ونزّله تنزيلاً، وأنزله إنزالاً ومُنزَلاً ، كمُجمَلٍ» (5). ؛ أي اجعلني، أو اتّخذني قريبا منك كقرب همّك، وما يخطر

ص: 329


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 95
2- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «حيث ما»
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2061 (همم)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 192 (همم)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 56 (نزل)

ببالك منك، أو اهتمّ بأوامري كما تهتمّ بأمور نفسك .

وقال بعض الشارحين : النزول من علوّ إلى سفل، ويتعدّى بالهمزة . يُقال : أنزلته، فنزل. وأنزلت الضيف فهو نزيل . والنزل _ بضمّتين _ ما يهيّى ء للضيف . و«من» بمعنى «في» .

والهمُّ: المراد، والمقصود. والكلام من باب التمثيل والتشبيه ؛ أي اجعلني في نفسك ومرادك ومقصودك، واجعل لي نزلاً، وهو القيام بوظائف الطاعات في جميع الحالات (1).

وقوله : (اجعل ذكري لمعادك) .

أمر له عليه السلام بجعل ذكره تعالى خالصا لوجهه الكريم قلبا ولسانا؛ ليكون ذخرا لمعاده، ونافعا له أن يعود إليه .

وقوله : (ولا تولّ (2) غيري) ؛ من التولية، أي لا تجعل غيري وليّ أمرك، أو من التولّي؛ أي لا تتّخذ غيري وليّا ولا ناصرا .

(فَآخذُ لك) . يقال : خذله _ كنصره _ خَذْلاً وخِذلانا، بالكسر، إذا ترك عونه ونصرته .

(وكن لمسرّتي (3). فيك) أي كُن عاملاً وساعيا لما يوجب مسرّتي ورضائي في حقّك .

وفي كثير من النسخ: «كمسرّتي» .

قيل : معناه: كُن كما يسرّني أن تكون عليه (4).

وبالجملة : أمره عليه السلام بكونه دائما؛ لما يوجب سروره تعالى فيه .

(فإنّ مسرّتي أن اُطاع فلا اُعصى) .

الفعلان على بناء المفعول . والمقصود بيان ما يوجب المسرّة، وأنّه هو الطاعة الخالصة الغير المشوبة بالمعصية .

وقوله : (أحي ذكري بلسانك) .

قيل : تشبيه الذِّكر بالميّت في سقوطه وسكونه، وعدم اعتباره عند أكثر الخَلْق مكنيّة،

ص: 330


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 96
2- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «ولا توكّل على» بدل «ولا تولّ»
3- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «كمسرّتي»
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 315

وتعلّق الإحياء به تخييليّة، وذكر اللسان تجديد (1).

وأقول : الأولى أن يُقال : تشبيهه بالميّت بالنظر إلى حال عدم الاشتغال، والتنطّق به، والتوجّه والإقبال إليه، وإحياؤه بخلافه .

(وليكن وُدّي في قلبك) .

الودّ، بالضمّ: المحبّة . وقيل : كأنّه إشارة إلى أنّ ذكر اللسان ليس ذكرا حقيقةً ما لم يكن القلب متيقّظا، ولم يكن المذكور وودّه فيه ؛ فإنّ الذكر اللساني عبادة، وكون المذكور في القلب روح لها، وسبب لحياتهم، أو حياة القلب، ولا خير في عبادة لا روح لها (2).

وقوله : (تيقّظ في ساعات الغفلة) .

قيل : هي ساعات النوم، وأوقات الاشتغال بالضروريّات من الدُّنيا وباُمور الخلق . والمراد بالتيقّظ فيها ذكره تعالى، والإتيان بوظائف الطاعات وغيرها ممّا يوجب القرب بالحقّ، والحذر ممّا يوجب البُعد عنه(3).

وقيل : المراد بساعات الغفلة ساعات غفلة الناس، وهي المشار إليه بقوله تعالى : «فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» (4) ، وقوله عزّ وجلّ : «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ»(5) ، وقوله : «وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ» (6) ، وقوله : «وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» (7) (8).

وروى المصنّف في كتاب الصلاة عن الباقر عليه السلام أنّه قال : «إنّ إبليس إنّما يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس إلى مغيب الشفق ، ويبثّ جنود النهار من حين يطلع الفجر إلى مطلع الشمس» ، وذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يقول : «أكثروا ذكر اللّه _ عزّ وجلّ _ في هاتين الساعتين، وتعوّذوا باللّه من شرّ إبليس وجنوده ، وعوّذوا صغاركم في هاتين

ص: 331


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97
4- الروم (30) : 17
5- ق (50) : 39
6- طه (20) : 130
7- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 315
8- الإنسان (76) : 25

الساعتين؛ فإنّهما ساعة غفلة» (1).

(والحكم لي لطيفَ الحكمة) .

يُقال : أحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكما . ولعلّ المراد: أتقِن لطلب مرضاتي، وخالصا لوجهي في قلبك الحكمة الدقيقة اللطيفة، وامنعها من الزوال والفساد بالتعليم والتذكّر والعمل بمقتضاها .

والحكمة: خروج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل ، وفسّر بعلوم الشرائع، أو معالم الدِّين من المعقول والمنقول .

وفي الأمالي: «واحكم لي بلطيف الحكمة» (2) . ولعلّ المراد: اقض بين الخلق بما علّمتك من لطائف الحكمة .

وقوله : (وأمِت قلبك بالخشية) أي أمته عن الشهوات، أو أمت شهواته بسبب الخشية .

وقيل : إنّما جعل الخشية موت النفس؛ لأنّها توجب ذبولها، وهو موتها، وتوجب ترك اللذّات الحاضرة النفسانيّة والجسمانيّة، وهو موتها وموت الجسد أيضا .

قال : وإنّما أمر بهذه الإماتة؛ لأنّها مع كونها مطلوبة لتطويع النفس الأمّارة، وحفظها عن المهلكات، مستلزمة لمطلوب آخر، وهو إحياؤها بالعلوم والفضائل النفسانيّة والجسمانيّة، وهي حياة أبديّة .

ومنه يظهر سرّ «موتوا قبل أن تموتوا» (3) ، وسرّ «موتكم في حياتكم، وحياتكم في موتكم» (4) وهذا أيضا أحد الوجوه في قول أمير المؤمنين عليه السلام : «الناس نيام، فإذا ماتوا انتهبوا» (5) (6).

وقوله : (راع الليل) .

في القاموس : «راعيتُه: لاحظته محسنا إليه . والأمر: نظرت إلى ما يصير. والنجوم: راقبها،

ص: 332


1- الكافي ، ج 2 ، ص 522 ، ح 2 (مع اختلاف)
2- الأمالي للصدوق ، ص 514 ، ح 1
3- إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 45 ؛ أعلام الدين ، ص 333 ؛ الدعوات ، ص 237
4- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 97
5- خصائص الأئمّة ، ص 112 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 73، ح 48 ؛ مجموعة ورّام ، ج 1 ، ص 150
6- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97

وانتظر مغيبها . وأمرَهُ: حِفظه، كرعاه» (1)

وقيل : رعاية الليل حفظ ساعاته للقيام بوظائف طاعاته، وإنّما خصّ الليل بالذِّكر؛ لأنّ الشغل فيه أقلّ، والقلب فيه أفرغ، والطاعة فيه أخلص»(2) .

(وأظمئ نهارك) .

قيل : إظْمَأ، أمر من ظَمِأ، مهموز اللّام، كفرح، بمعنى عَطِش . و«نهارك» مفعول فيه، وهو كناية عن الصوم. لا مِن أظْمَأه غيرُه ، و«نهارك» مفعول به، والتعلّق مجاز عقليّ؛ فإنّه بعيد(3).

أقول : هذا الاستبعاد مستبعَد جدّا، كيف وقد روى المصنّف في باب أنّ الأئمّة عندهم جميع الكتب: «أنّ إلياس النبيّ عليه السلام كان يقول في سجوده : أتراكَ معذّبي وقد أظْمَأتُ لك هواجري _ إلى أن قال : _ أتراك معذّبي وقد أسهرتُ لك ليلي» (4).

وقوله : (نافس في الخير) .

في النهاية : «المنافسة: الرغبة في الشيء، والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيّد في نوعه . ونافست في الشيء منافسةً ونفاسا، إذا رغبت فيه»(5) .

(جُهدك) بفتح الجيم، أي اجهد جهدك ؛ يعني أبلغ غايتك في المنافسة بقدر وسعك وطاقتك .

وقوله : (تُعرف بالخير) ؛ مجزوم على أنّه جواب الأمر؛ أي حتّى تكون معروفا بالخير .

وقيل : الخير جامع لكلّ ما هو مطلوب شرعا ، وقد أمره به على سبيل المنافسة والمغالبة بقدر الإمكان ، وأشار إلى أنّ غايته المترتّبة عليه سوى ثواب الآخرة معرفة الخلق إيّاه به، وذلك من فضل اللّه عليه ليذكروه به، ويتأسّوا له، كما دلّ عليه بعض الروايات الدالّة فيه على جواز قصد ذلك من عمل الخير ، على أنّ الظاهر جوازه لا للسمعة والرياء ، بل لما ذكر، أو لإرادة ظهور نعمته تعالى ؛ فإنّ فعل الخير والتوفيق عليه من أجلّ نعمائه ، ولذلك قال خليل الرحمن : «وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْاخِرِينَ» (6)(7).

ص: 333


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 335 (رعي)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 97
4- الكافي ، ج 1 ، ص 227 ، ح 2 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 13 ، ص 393 ، ح 1
5- النهاية ، ج 5 ، ص 95 (نفس)
6- الشعراء (26) : 84
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 98

وقوله : (احكُم في عبادي بنُصحي) .

النُّصح، بالضمّ: الخلوص، وإرادة خير المنصوح .

ولعلّ المراد هنا شرائع الدِّين وقوانينه ؛ أي احكم بينهم على ما علّمتك من قوانين الحكومة، أو بأحكام شرائع ديني، على أن يكون الباء للبيان، أو للإلصاق .

وفيه إيماء إلى النهي عن الحكم بالتظنّي والرأي والقياس والاستحسانات العقليّة .

وقيل : معناه: احكم بينهم لنصحي لهم، أو كما أنّي لك ناصح فكُن أنت ناصحا لهم(1) وقيل : أي بنصح لي، من باب الحذف والإيصال (2).

(وقُم فيهم بعدلي) أي بالحكم العدل الذي جعلت لهم لدفع الظلم والجور .

وقوله : (شفاءً لما في الصدور من مرض الشيطان) .

المراد بالشفاء العدل، أو الكتاب المشتمل عليه، والحقائق الحكميّة التي بها يتمّ نظام المعاش والمعاد.

والمرض: إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها ، وإضافته إلى الشيطان لحصوله من وساوسه، وكون الحِكَم الشرعيّة شفاء منه؛ لأنّ مرض الوسواس في صدور الناس إمّا في أمر الدِّين، أو الاُمور المتعلّقة بالدُّنيا ، وقد اُنزل إلى الحكماء الإلهيّة من العلوم والحِكَم ما يعالج به جميعها .

وقوله : (لكلّ مفتون) أي المبتلى بالدُّنيا، أو بالمعصية .

وقوله : (حقّا أقول) .

نصب «حقّا» بما بعده ؛ أي أقول قولاً حقّا. أو بفعل مقدّر قبله، وما بعده مفسّر له .

ثمّ بيّن ذلك القول الحقّ، فقال : (ما آمنت بي خليقة إلّا خشعت لي) .

الخليقة: الخلائق . يُقال : هم خليقة اللّه ، وهم خَلْق اللّه . والخشوع: التطاول، والتواضع.

وقيل : مبدأه العلم بأنّ كلّ موجود مقهور في تصريف قدرته تعالى، ومربوط بربقة الحاجة إليه ؛ فإنّ هذا العلم يوجب تخشّعه وتخضّعه في أفعاله القلبيّة والبدنيّة، وإقباله إليه تعالى(3) .

ص: 334


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 316
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 98
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 98

وفي هذا الكلام دلالة على أنّ الإيمان مستلزم للخشوع، فعدم أحدهما دليل على عدم الآخر .

وعلى تقدير جواز كون اللازم _ أعني الخشوع _ أعمّ، فانتفاؤه دليل على انتفاء الملزوم _ أعني الإيمان _ ولا عكس .

ولعلّ المراد بالإيمان هنا ما هو سبب للنجاة من العقوبات الدنيويّة والاُخرويّة مطلقا، فلا يرد أنّ أقلّ مراتب الإيمان يتحقّق بدون هذا اللازم .

(ولا خَشعت لي إلّا رَجَتْ ثوابي) ؛ يعني أنّ الخشوع ملزوم لرجاء الثواب ، كما أنّ الإيمان ملزوم للخشوع ، ومعلوم أنّ رجاء الثواب يستلزم العمل الموجب له، فإذن لا يتحقّق الإيمان بدون رجاء الثواب والعمل له . وأمّا استلزام الخشوع لرجاء الثواب فقط، ولولاه لم يحصل الخشوع؛ فإنّ من لم يرج من أحد شيئا، لم يخشع له أصلاً .

وقوله : (فأشهد) إلى قوله : (ولا تغيّر سنّتي) .

«أشهد» على صيغة الأمر، أو المتكلّم . والفاء للتفريع . ويفهم منه أنّ الأمنَ من العذاب يتوقّف على الإيمان المستلزم للخشوع ورجاء الثواب، ما لم يبتدع في الدِّين، ولم يغيّر شيئا من السنّة .

وقوله : (ابن البكر البتول) .

قال الفيروزآبادي : «البِكر، بالكسر: العَذْراء. الجمع: أبكار. والمصدر: البَكارة بالفتح. والمرأة، والناقة، إذا ولدَتا بطنا واحدا» (1).

وقال : «بتله يبتله: قطعه. والبتول: المنقطعة عن الرجال، والمنقطعة عن الدُّنيا إلى اللّه » (2).

وقوله : (ودَّع الأهلَ، وقلى الدُّنيا) .

في القاموس : «ودعه، كوضعه ، وودّعه بمعنى. والاسم: الوَداع، وهو تخليف المسافر الناسُ، وهم يودّعونه إذا سافر؛ أي يتركونه وسفره» (3)

وفيه: «قلاه _ كرماه ورضيه _ قَلىً وقَلاءً ومَقْلِية: أبغضه، وكرهه غاية الكراهة، فتركه، أو قَلاه في الهَجْر، وقَليه في البغض» (4).

ص: 335


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 376 (بكر)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 332 (قطع)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 92 (ودع)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 380 (قلي)

(وتركها لأهلها) ؛ هم الراغبون إليها، المفتونون بزخارفها .

(وصارت رغبته فيما عند إلهه) ؛ من المثوبات والكرامات ورفيع الدرجات .

وقيل : أشار بقوله : «ودّع الأهل ...» إلى أعلى درجات الزهد، ورغبته في تحصيله حيث أمَره أوّلاً بوداع الأهل، والميل إلى سفر الآخرة، وتفويض حالهم إلى ربّهم؛ لأنّ الاشتغال باُمورهم مانع من هذا السفر .

وثانيا : بقلي الدُّنيا وبغضها؛ لأنّ محبّتها أيضا مانعة .

وثالثا : بتركها لأهلها الراغبين إليها ؛ لأنّ بغضها مع عدم تركها أيضا مانع .

ورابعا : بالرغبة فيما عند اللّه من قربه وإحسانه. فإذا حصلت هذه المراتب لأحد دخل في مقام المحبّة، وهو ما دام في هذه الدار، لا يخلو عن فراقٍ مّا من المحبوب، وكان شأنه البكاء، فلذلك أمره ببكاء من كان على الوصف المذكور ، فلذلك قيل: العارفون المحبّون يبكون شوقا إلى المحبوب ، والمذنبون يبكون من خوف الذنوب (1).

وقوله : (كُن مع ذلك تُلين الكلام)(2).

الإلانة والتليين واحد، ومعناه : لا يكن زهدك سببا لنفرتك عن الخلق، وهجرتك منهم، وسوء الخلق معهم ، بل كُن مع الزهد خليقا مع كلّ أحدٍ .

(وتُفشي السلام) إلى كلّ مَن تلقاه إلّا ما استثني .

يُقال : فشا خبره، إذا انتشر. وأفشاه، أي نشره .

وقوله : (يقظانَ) بالنصب، خبر آخر لقوله : «كُن» ، وهو غير منصرف للوصفيّة ، والألف والنون المزيدتين، ووجود فَعلى في مؤنّثه كما ستعرفه.

وترك العطف في الأخبار المتعدّدة جائز مع رعاية عدم التناسب، وعدم قصد الاشتراك في الإعراب .

في القاموس: «اليقظة، محرّكة: نقيض النوم. وقد يَقُظ _ ككرم وفرح _ يقاظة ويَقظا،

ص: 336


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 99
2- في الحاشية: «احتمال كون تلين وتفشي على صيغة المصدر المضاف إلى الفاعل من باب التفعّل بعيد غاية البُعد، مع عدم استقامته إلّا بتكلّف . فتأمّل»

محرّكة . ورجلٌ يَقظ، كندس وككتف وسكران. الجمع: أيقاظ، وهي يَقظى. الجمع: يقاظى» (1).

(إذا نامت عيون الأبرار) ؛ فكيف الأشرار !

(حَذرا للمعاد) ؛ بكسر الذال، على أن يكون حالاً، أو خبرا للكون، أو بفتحها على أن يكون مفعولاً له .

وقوله : (الزلازل) أي زلازل القيامة . قال اللّه تعالى : «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْ ءٌ عَظِيمٌ» (2) .

في القاموس: «زَلْزَلَه زلْزَلةً وزلزالاً، مثلّثة: حرّكه . والزلازل: البلايا» (3).

وقوله : «وَأهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» إلى آخره .

في القاموس : «الهول : المخافة من الأمر لا يدري ما يهجم عليه منه ، الجمع أهوال» (4)

وفيه : «أهل الرجل : عشيرته، وذوو قرباهِ» (5).

وقوله : (اكحل عينيك بميل الحزن) ؛ كناية عن البكاء ممّا لعلّه يستقبله من انقلابات أحوال الدُّنيا وسوء خاتمتها ، ومن شدائد أهوال العقبى وفقدان عافيتها .

وقيل : هو عبارة عن حزن القلب. وتشبيه الحزن به _ وهو تشبيه معقول بمحسوس _ لقصد الإيضاح مكنيّة، وذكر الميل تخييليّة .

قال : والمراد بالعين عين القلب؛ لأنّه مورد الحزن، وبميل الحزن أسبابه الموجبة لحصوله فيه . انتهى (6).

وأنت إذا تأمّلت عرفت ما في هذا الكلام من التعسّف .

والكحل، بالضمّ: ما وضع في العين للاستشفاء، أو التزيّن . والكحل أيضا: الإثمد. وكحل العين، كمنع ونصر .

وفي بعض النسخ: «بملمول الحزن»، وهو بضمّ الميمين وسكون اللام: الميل الذي يكتحل به .

ص: 337


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 400 (يقظ)
2- الحجّ (22) : 1
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 389 (زلزل)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 71 (هول)
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 331 (أهل)
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 317

(إذا ضحك البَطّالون) ؛ وهم الغافلون عمّا ذكر .

في القاموس : «بطل بُطلاً وبُطلانا وبُطولاً، بضمّهنّ: ذهب ضياعا وخُسرا . وفي حديثه بطالة : هزلٌ. والباطِل: ضدّ الحقّ، ورجل بطّال: ذو باطل» (1).

وقوله : (فطوبى لك) إلى آخره .

في القاموس : «طوبى: الطَّيْب، وجمع الطيبة، وتأنيث الأطيب . والحُسنى، والخير، وشجرة في الجنّة، أو الجنّة بالهنديّة . وطوبى لك وطوباك لغتان، أو طوباك لَحْنٌ»(2) وفيه: «نِلته أنيله وأناله نَيْلاً ونالاً ونالَةً: أصبتهُ» (3).

وقوله : (رُحْ من الدُّنيا) .

في القاموس : «الرواح: العشي، أو من الزوال إلى الليل . ورُحنا رَواحا: سِرنا فيه، أو عَمِلنا.

ورُحت القوم وإليهم وعندهم رَوْحا ورَواحا: ذهبت إليهم رواحا» انتهى (4).

أوالمراد هنا: سِرْ واذهَب من الدُّنيا إلى الآخرة .

(يوما فيوما) ؛ كما يروح المسافر من مركزه إلى مقصده كذلك؛ أي اقطع عنك كلّ يوم من تعلّقات الدُّنيا، حتّى لا يصعب عليك فراقها عند انقضائها وبلوغ أجلك؛ فإنّ الموت الاختياري أسهل من الموت الاضطراري ، وقطع التعلّقات بالتدريج أمكن من قطعها فجأةً .

والغرض الأصلي من أمثال هذا الكلام حسن الاستعداد للآخرة، وتهيئة الزاد لها .

(وذُق لما قد ذهب طعمه) .

في الأمالي: «ما قد ذهب» بدون اللّام، وهو أظهر .

والذوق: اختبار الطعم . قيل : أي لا تتّبع اللذّات، واقنع بالأشياء البشعة التي ذهب طعمها (5).

وقيل : أمره بذوق طعم ما قد ذهب من عمره، وما عمل فيه من خير وشرّ؛ فإنّه يجد طعم الأوّل حلوا، وطعم الثاني مُرّا .

قال : «ويحتمل أن يكون من باب التهكّم تنبيها على عدم بقاء لذّة ما ذهب من المعصية

ص: 338


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 317
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 335 (بطل)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 98 (طاب)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 62 (نيل)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 225 (روح)

وغيرها ممّا يتعلّق بلذّات الدنيا» (1).

وقوله : (ما أنت إلّا بساعتك ويومك) أي لستَ موجودا إلّا في الساعة واليوم الذي أنت فيه؛ فإنّ الماضي من الزمان ليس من عمرك الذي يمكنك الانتفاع به، ولا يعود إليك أبدا ، والمستقبل منه غير معلوم الوقوع لك، ولا تعلم وجودك وبقاءك بعد تلك الساعة وهذا اليوم، فليس عمرك إلّا ما أنت [فيه] فاغتنمه، ولا تغفل فيه ، ماضيك مضى، وما سيأتيك فأين؟ قم، فاغتنم الفرصة بين العدمين .

(فرُحْ من الدُّنيا ببُلغة) ؛ الظاهر أنّ الفاء فصيحة.

والبُلغَة، بالضمّ: ما يتبلّغ به من العيش؛ أي يكتفى به . ولعلّ المراد: اكتف بالبلاغ والكفاف من الدُّنيا في أيّام حياتك، ولا تشتغل بتحصيل الزائد عمّا تحتاج إليه .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالبُلغة ما يبلغ الإنسان من زاد الآخرة إلى درجاتها الرفيعة (2).

(وليكفك الخشن الجَشب) .

قال الفيروزآبادي : «الخشن، ككتف. والأخشن: الأخرش من كلّ شيء. وتخشّن: لبس الخَشِن، أو تكلّم به، أو عاش عيشا خشنا» (3)

وقال : «جَرَش الشيء: لم ينعم دقّه، فهو جريش» (4).

وقال : «جشب الطعام _ كنصر وسمع _ فهو جَشْب وجَشِب ؛ أي غليظ، أو بلا اُدم.

وجشبه: طحنه جريشا . والجشيب: الخَشِن الغليظ البشع من كلّ شيء، والسيّئ المأكل . وقد جَشب _ ككرم _ جشوبةً» (5).

وأقول : يحتمل أن يُراد هنا بالخَشِن الغليظُ من اللباس ، وبالجَشب الغليظ من الطعام، أو بلا اُدم . ويحتمل العكس، أو يراد بكلٍّ كلّ، ويكون الثاني تأكيدا للأوّل ، ولعلّ الأوّل أولى .

وعلى التقادير يكون الغرض منه الأمر بترك الزيادة عن قدر الضرورة من الدنيا .

ص: 339


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 100
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 318
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 219 (خشن)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 264 (جرش)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 46 (جشب)

(فقد رأيت إلى ما تَصير) .

قال بعض الفضلاء : «يصير، بالياء؛ أي الثوب والطعام؛ فإنّ مصير الأوّل إلى البِلى، والثاني إلى القذارة والأذى . أو بالتاء؛ أي بدنك يصير إلى البِلى» (1).

وقال بعض الشارحين : «أي إلى ما تصير من السعادة والقُرب ونعيم الجنّة، أو من وداع الدُّنيا وأمر الآخرة وأهوالها . والظاهر أنّ المراد بالرؤية الرؤية العقليّة، وهي العلم» انتهى (2).

والأوّل أقرب، ولا يحتاج فيه إلى حمل الرؤية بالرؤية القلبيّة . والظاهر أنّ الفاء للتفريع، واحتمال كونه للسببيّة بعيد .

(ومكتوبٌ ما أخذتَ) ؛ الظاهر أنّ المراد ما أخذت من الدُّنيا، وتمتّعت به من الطعام والشراب واللباس ونحوها ، أو من الأعمال مطلقا، فهو مكتوبٌ في كتاب عملك، وما يتراءى من كون المراد بالكتابة التقدير فبعيد من السياق .

(وكيف أتلفتَ) .

يُقال : أتلفَه، إذا أفناه ؛ يعني أنّ ما أخذت منها مكتوب في صحيفة عملك بأيّ مصرفٍ صرفته، وبأيّ وجهٍ أفنيته، فيجب عليك ملاحظة المكاسب والمصارف، وإصلاحهما عن المفاسد .

(يا عيسى إنّك مسؤول) عن أعمالك وصنيعك .

(فارحم الضعيف) .

الفاء فصيحة . والظاهر أنّ المراد بالضعيف من لا اقتدار له من حيث المال، أو السنّ، أو الحال، أو العقل . وبالرحم معاونته ومعاضدته وتعليمه وإرشاده .

(كرحمتي إيّاك) .

الكاف إمّا للتشبيه في أصل الرحمة، لا كيفيّتها، أو كمّيّتها ، وإمّا للتعليل، كما قيل في قوله تعالى : «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ» (3). أي لهدايته إيّاكم.

ص: 340


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 100
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 318
3- البقرة (2) : 198

(ولا تَقهر اليتيم).

القهر: الغلبة، وفعله كمنع.

وقال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»(1) : «أي فلا تغلبه على ماله لضعفه» (2).

وقوله : (مَواقيت الصلوات) أي مواضعها المُعدَّة لها، كالمساجد. أو أوقاتها المقرّرة لها .

والأوّل أنسب بنقل القدمين، وبما وقع في نسخ الأمالي : «إلى مواضع الصلوات» .

قال الجوهري : «الميقات: الوقت المضروب للفعل، والموضع. يُقال : هذا ميقات أهل الشام، للموضع الذي يحرمون منه» (3).

(وأسمعني لَذاذة نُطقك بذِكري) أي نطقك اللذيذ، أو التذاذك بذكري .

وقد مرّ مثله في حديث موسى عليه السلام .

وقيل : النطق مفعول الإسماع حقيقةً ، وإدراج اللذاذة وإضافتها إليه؛ للتنبيه على أنّ ذكره لذيذ يلتذّ بسماعه، فلا يرد أنّ اللذّة ليست بمسموعة ، وهذا من باب التمثيل، أو اللذاذة به كناية عن إرادته (4)

قال الجوهري : «لَذذْتُ به لذاذا ولذاذةً: وجدته لذيذا»(5) .

(فإنّ صَنيعي إليك حسن) .

قيل: هذا علّة للنقل والإسماع ؛ لأنّ حسن الصنيعة يقتضي مقابلته بحسن الطاعة والعبوديّة والشكر والفكر (6).

وفي بعض النسخ : «صنعي» . قال الفيروزآبادي : «صنع إليه معروفا _ كمنع _ صُنعا بالضمّ.

وصنع به صنيعا قبيحا: فعله . والشيء صُنعا، بالفتح والضمّ: عمِله. وما أحسن صنع اللّه _ بالضمّ _ وصنيع اللّه عندك» (7).

وقوله : (كم من اُمّة) .

ص: 341


1- الضحى (93) : 9
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 503
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 269 (وقت)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 101
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 570 (لذذ)
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 101
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 52 (صنع)

«كم» خبريّة للتكثير .

وقوله : (ارفُق بالضعيف) .

في القاموس : «الرفق، بالكسر: ما استعين به، واللطف. رفق به وعليه _ مثلّثة _ رِفقا، ورفق فلانا: نفعه، كأرْفَقَه . والرفق: اللطف، وحسن الصنيع» (1).

(وارفع طرفك الكليل إلى السماء) .

قال الجوهري : «الطَّرْف: العين. ولا يجمع؛ لأنّه في الأصل مصدر، فيكون واحدا، ويكون جماعة . وطَرَف بَصَره يطرِف طَرفا، إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر . الواحد من ذلك: طَرْفة» (2)

وقال الجزري : «طَرْف كليل، إذا لم يحقّق المنظور به» (3) انتهى .

وهذا الكلام وأمثاله يُقال في مقام التنبيه عن الغفلة .

وقيل : وصف الطرف بالكليل للتنبيه على أنّ رفعه ينبغي أن يكون كذلك ؛ أي على وجه التخشّع والكلالة، لا على الحدّة والتحديق . أو للإشارة إلى ضعفه الموجب للترحّم، وبيان عجز قوى المخلوقين .

قال : وإنّما أمره برفعه إلى السماء؛ لأنّها أشرف الجهات؛ لجريان فيضه تعالى من جهتها عادةً (4).

وقوله : (فإنّي منك قريب) ؛ تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم، واطّلاعهم على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، وترغيب على الدعاء؛ فإنّ الداعي إذا علم أنّ المدعوّ قريب يسمع نداءه، يجتهد في الدعاء، ويتشوّق به غاية التشوّق .

وقوله : (وهمّك همّا واحدا) .

الهمّ: الحزن، والقصد، والمقصود .

وفي الأمالي : «وهمُّك همّ واحد»، وهو أظهر . والظاهر أنّ الواو حينئذٍ للحال، وعلى

ص: 342


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 236 (رفق)
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1395 (طرف) مع التلخيص
3- النهاية ، ج 4 ، ص 198 (كلل)
4- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 101

نسخ الكتاب قيل: معناه: اجعل همّك همّا واحدا، أو: لا تجعل همّك إلّا همّا واحدا (1)

وقيل : الظاهر أنّه عطف على «متضرّعا»، وأنّ «همّا» منصوب على المفعوليّة، وأنّ المراد بالهمّ الواحد هو اللّه تعالى بتفريغ القلب عن الغير، وصرفه إليه وإلى ذكره (2).

وقوله : (إنّي لم أرض بالدُّنيا ...)؛ تنفير عن الدنيا وتحقير لها، حيث لم تكن ثوابا للمطيع، ولا عقابا للعاصي، بل هي دار الاختبار والامتحان، والثواب والعقاب في دار الآخرة .

وقوله : (إنّك تَفنى) .

قيل : الخطاب لهذا المجموع المركّب من الهيكل المخصوص، والنفس الناطقة، وينتفي بانتفاء الجزء، فلا ينافي بقاء النفس (3).

(ومنّي رزقك) ؛ فينبغي أن لا تثق بغيري .

قيل : الرزق كلّ ما يحتاج إليه ذو الحياة في حياته .

وقال الجوهري : «الرزق: ما يُنتفع به. والجمع: الأرزاق . والرزق: العطاء، ومنه مصدر قولك : رزقه اللّه » (4).

وفي القاموس : «الرزق، بالكسر: ما ينتفع به. وبالفتح: المصدر الحقيقي» (5).

(وعندي ميقات أجلك) أي الوقت المضروب، أو المكان المقدّر لغاية عمرك .

والأجل، محرّكة: غاية الوقت في الموت، ومدّة الشيء . فإضافة الميقات إلى الأجل إمّا لاميّة، أو بيانيّة. فتدبّر .

(وإليَّ إيابك) بالكسر؛ أي رجوعك من الدُّنيا بعد نزولك فيها.

وتقويم الظرف للتخصيص والمبالغة في الوعد والوعيد .

وكذا قوله : (وعليَّ حسابك) ؛ يعني في المحشر، ممّا عملت من خيرٍ أو شرّ .

وقيل : هذه الفقرات كعلّة مستقلّة للرجوع إليه في جميع الاُمور، وطلب جميع المطالب منه، لا من غيره ، فلذلك قال : (فسلني، ولا تسأل غيري) ؛ لأنّه لا يملك لك ضرّا ولا نفعا، ولا

ص: 343


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 101
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 319
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 102
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1481 (رزق)
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 235 (رزق)

حياةً ولا نشورا (1).

وقوله : (ما أكثر البشر) بالتحريك .

(وأقلّ عدد من صَبَرَ) ؛ على المصائب والنوائب، ومشقّة الطاعات، والانزجار عن المنهيّات، وذلك لعدم اهتمامهم وقلّة مبالاتهم بأمر الدِّين ، أو لضعف عقولهم وقوّة جهالاتهم .

وقوله تعالى : (الأشجار كثيرة، وطيّبها قليل) ؛ تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لقصد الإيضاح، والمراد بطيّبها التي لها ثمرة طيّبة، ورائحة حسنة .

(فلا يغرّنّك حُسن شجرة حتّى تذوق ثمرها) .

في بعض النسخ: «ثمرتها» .

والغرض من النهي عن الاغترار بحسن ظاهر الخلق، ورؤية صورتهم قبل الاختبار عن باطنهم وحسن سيرتهم؛ فإنّ كمال الإنسان الحقيقي إنّما هو في الثاني .

وقوله : (لا يغرّنّك المتمرّد عليَّ بالعصيان) ؛ كأنّ غروره من حيث الإمهال، وعدم العجلة بالعقوبة .

وقيل : خدعته ومكره بفعله أو قوله؛ ليجعل الغير مثله (2). وفي القاموس: «مرد _ كنصر وكرم _ مُرُودا ومُرادةً، فهو مارد ومريد ومتمرّد: أقدم ، وعتا، أو هو أن يبلغ الغاية التي تخرُجُ ما عليه من ذلك الصنف» (3).

(يأكل رزقي، ويعبد غيري) من الأصنام والشياطين وهوى النفس وما أشبهها .

(ثمّ يدعوني عند الكرب) أي الغمّ والحزن الذي يأخذ بالنفس .

(فأُجيبه) تفضّلاً لحكمة مقتضية له كإتمام الحجّة، أو تذكير النعمة لعلّه يتذكّر ويخشى .

(ثمّ يرجع) بعد الإجابة، وكشف الكرب عنه .

(إلى ما كان عليه) ؛ من التمرّد والعصيان، وعبادة الغير؛ لأنّ مانع الطغيان _ وهو الكرب _ قد

ص: 344


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 102
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 102
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 337 (مرد) مع التلخيص

كشف عنه، ودواعي العصيان _ وهي النفس الأمّارة بالسوء، ورفاهيّة الخاطر _ حاصلة فيه .

(فعليَّ يتمرّد، أم بسخطي يتعرّض) أي يتقدّم .

والاستفهام للتعجّب . والفرق بين شقّي الترديد أنّ في الأوّل استخفاف بالربّ، وفي الثاني بعقوبته؛ فإنّ العصيان إن كان للتكبّر، والاستنكاف عن الإقرار بعظمته تعالى، وأهليّته للعبوديّة، فهو التمرّد ، وإن كان مع اعترافه بذلك، فهو التعرّض لسخطه وعقوبته .

(فبي حلفتُ) أي اُقسم بذاتي المقدّسة .

(لآخذنّه أخذةً) شديدة عظيمة .

والأخذ: التناول، والعقوبة .

(ليس له منها) أي من تلك الأخذة .

(مَنجىً) أي موضع نجاة .

(ولا مَلجأ) أي ملاذ، ومعقل من الخلق، ولا يقدر أحد أن يُنجيه من عقوبة اللّه .

(أين يهرب من سمائي وأرضي) .

الاستفهام للإنكار؛ لأنّه لا يمكن لأحد الهرب والخروج من ملك اللّه وسلطانه .

والحاصل أنّ الدافع للعقوبة يتصوّر من تلك الجهات الثلاثة، وليس له منها شيء .

(يا عيسى، قُل لظَلَمة بني إسرائيل) ؛ كما تطلق الظلمة على الكفّار، كذلك تُطلق على الفسّاق والفجّار من أهل الإسلام .

(لا تدعوني ، والسُّحت تحت أحضانكم) .

في بعض النسخ: «تحت أقدامكم» .

والسحت، بالضمّ وبضمّتين: الحرام، وما خبث من المكاسب . فلزم منه العار، كالرشوة والرِّبا ، من سحته ، إذا استأصله؛ لأنّه مسحوت البركة .

والحِضْن، بالكسر: الجانب، والناحية، أو الصدر، والعضدان، وما بينهما، أو ما دون الإبط إلى الكشح. وجمعه: أحضان .

وكأنّ المراد أكل الحرام، وضبطه وحفظه، وعدم ردّه إلى أهله، مع غاية الإصرار فيه .

(والأصنام في بيوتكم) ؛ حقيقة، أو كناية عمّا يحبّونه، ويهتمّون به من فضول أمتعة الدنيا مطلقا .

ص: 345

وقيل : لعلّ المراد بها الدراهم والدنانير، والذخائر التي أحرزوها في بيوتهم، ولا يؤدّون حقوق اللّه منها، ويتركون طاعة اللّه فيما أمرَ فيها، فكأنّهم عبدوها ، كما ورد في الخبر : «ملعون من عبد الدينار والدرهم» (1). (2)

وقيل : يحتمل بعيدا أن يُراد بالبيوت القلوب، وبالأصنام الأهواء النفسانيّة (3).

وقوله : (فإنّي آليتُ) ؛ بمدّ الألف، من آلى يُوْلي إيلاءً، أي حلف. وهو تعليل للنهي عن دعائهم في تلك الحالة .

(أن اُجيب مَن دعاني) منهم، أو كائنا من كان . والأوّل أنسب بقوله : (وأن أجعل إجابتي إيّاهم لعنا عليهم) ؛ عطف على «اُجيب»، أو على «آليت» .

والأوّل أقرب ؛ أي إجابتي للظالمين فيما يطلبون من اُمور دنياهم موجبة لبُعدهم عن رحمتي، واستدراج منّي لهم، وهو موجب لمزيد طغيانهم وبُعدهم من الخير .

(حتّى يتفرّقوا) عن الدعاء، أو من موضع دعائهم .

وقيل : بالموت (4) وقيل : في المذاهب والآراء . وقيل : من الخصلة المذمومة المذكورة (5).

وعلى التقادير «حتّى» غاية لجعل الإجابة لعنا عليهم .

وقوله : (كم اُطيل النظر) ؛ يحتمل كونه بمعنى التأمّل بالعين أو الفكر، أو الانتظار من باب التمثيل، أو التأنّي بهم، والتأخير في أخذهم وتعذيبهم .

قال الفيروزآبادي : «نظره _ كضربه وسمعه _ وإليه نظر: تأمّله بعينه. والنظر، محرّكة: الفكر في الشيء، يقدّره ويقيسه. والانتظار . ونظره وانتظره وتنظّره: تأنّى عليه . والنَظِرة، كفرحة: التأخير في الأمر» (6).

(واُحسنُ الطلب) .

«اُحسّن» من التحسين . والمراد بالطلب طلب رجوعهم من المعصية إلى الطاعة والإنابة،

ص: 346


1- الكافي ، ج 2 ، ص 270 ، ح 9 ؛ الخصال ، ص 129 ، ح 132 ؛ معاني الأخبار ، ص 402 ، ح 67
2- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 320
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 103
4- احتمله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 320
5- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 103
6- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص144 و 145 (نظر) مع التلخيص

بإرسال الرُّسل، وإنزال الكتب، والمواعظ البليغة .

وقوله : (لا تَعيها قلوبهم) إشارة إلى نفاقهم ؛ أي لا ترعاها، ولا تحفظها بالعمل، والاعتقاد الخالص الجازم بها .

(يتعرّضون لمَقتي) .

يُقال : مَقَتَه مَقْتا _ من باب نصر _ أي أبغضه . والمراد هنا سلب الرحمة، أو العقوبة .

والظاهر أنّ الجملة حاليّة . وقيل : استئنافيّة في جواب من يقول: ما ثمرة اختلاف ظاهرهم وباطنهم ؟

(ويتحبّبون بي (1) إلى المؤمنين) .

في القاموس: «تحبّب: أظهر المحبّة» (2) قيل : يعني يظهرون حبّ المؤمنين بمعونتي، وتوفيقي لهم على ذلك، للحفظ عن أذيّتهم وإضرارهم (3).

وفي بعض النسخ: «يتحبّبون بقربي» .

وكأنّ مآل النسختين واحد . والمراد أنّهم مراؤون بأعمالهم، وغَرَضهم منها تحصيل محبّة المؤمنين لهم؛ لدفع شرّهم عن أنفسهم ، فالمراد بالقُرب ما يوجبه من أنواع الطاعات ؛ واللّه أعلم .

وقيل : الظاهر أنّ «إلى» متعلّق بالقُرب والتحبّب على سبيل التنازع؛ يعني يتحبّبون إلى المؤمنين، ويظهرون حبّهم بسبب قربي إلى المؤمنين، فأميل ظاهرهم إلى المؤمنين، وأدفع شرّهم عنهم (4).

وقوله : (وكذلك فليكن قلبك وبصرك) .

لعلّ المراد: فليكن كلٌّ من قلبك ونظرك أيضا في السرّ والعلانية واحدا ؛ يعني لا تظهر من قلبك عند الناس خلاف ما تضمر فيه، وما تفعله في السرّ، وكذا من نظرك .

ص: 347


1- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «بقربي»
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 50 (حبب)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 104
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 104

(واطوِ قلبك ولسانك عن المحارم) .

في القاموس: «طَوى كشحه عنّي: أعرض مهاجرا» (1).

(فكم من ناظر نظرة) ؛ التاء للوحدة .

(قد زرعت) أي أنبتت .

(في قلبه شهوة) ؛ شهيّة _ كرضيه _ شهوة أحبّه، ورغب فيه .

قيل : هو استعارة تمثيليّة متضمّنة لتشبيه الأجزاء بالأجزاء، حيث شبّه الشهوة بالبذر، والقلب بالأرض، والنظر بالزراع (2).

(ووردت به مواردَ حياض الهلكة) .

المستتر في «وردت» راجع إلى النظرة على الظاهر من السياق . ويحتمل إرجاعه إلى الشهوة .

والباء للتعدية، والضمير المجرور راجع إلى الناظر . ورجوعه إلى القلب بعيد .

والإضافة الاُولى بيانيّة؛ أي الموارد التي هي حياض الهلكة. أو لاميّة بأن يراد بالموارد أطراف تلك الحياض ونواحيها . والثانية من قبيل «لجين الماء».

والموارد: جمع المورد، وهو موضع الورود على الماء .

والحوض معروف، وجمعه: حِياض، وأصله من حاض الماء، إذا جمعه. وكأنّ المراد هنا مجتمع الماء لسَقْي الزرع .

والهلكة، بالتحريك: الهلاك .

ولا يخفى لطف هذا الكلام، حيث عطف «وردت» على «زرعت» بجعله صفة اُخرى للنظرة؛ فإنّ الزارع يحتاج إلى ماء يسقي به زرعه .

(يا عيسى، كُن رحيما مترحّما) للعباد .

قال الجوهري : «الرحمة: الرقّة، والتعطّف. والمرحمة مثله. وقد رحمته وترحّمت عليه» انتهى (3).

ص: 348


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 358 (طوي)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 104
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1929 (رحم)

وقيل : الترحّم أخصّ من الرحمة؛ لدلالته على الزيادة فيها، أو على صيرورتها مَلَكة، مع احتمال المبائنة بحمله على إظهار الرحمة (1).

وقيل : الرحمة: رقّة القلب. والترحّم: إعمالها وإظهارها (2).

وقوله : (لا تَلْهُ) من اللهو. وكونه من الإلهاء بمعنى اشتغال القلب إلى الملاهي بعيد؛ أي لا تشتغل بما يلهي عن أعمال الآخرة .

في القاموس: «لَهِيَ به، كرضي: أحبّه. وعنه: سلا، وغفل، وترك ذكره» (3).

وقال الجوهري : «لَهَوْتُ بالشيء ألهو لَهْوا، إذا لعِبتَ به، وتلهّيتُ به مثله. وألهاه، أي شغله» (4).

(ولا تغفل) ؛ يعني عن تذكّر الصالحات بقرينة ما سيأتي .

(فإنّ الغافل منّي بعيد) ؛ تعليل للنهي . والمراد بُعده عن رحمته تعالى .

(واذكرني بالصالحات) من الأعمال والأخلاق .

(حتّى أذكرك) بالثواب والجزاء، أو في الملأ الأعلى .

(وذكّر بي) أي بذاتي، وعظمتي، أو بشرائع ديني وأحكامي، أو بمثوباتي ورحمتي .

والتذكير: التعليم، والوعظ .

(الأوّابين) ؛ فإنّهم المنتفعون بذلك .

والأوّاب: الكثير الرجوع إلى اللّه بالتوبة، من آبَ، إذا رجع .

(وآمن بي) .

أَمَره بالإيمان الكامل، والارتقاء أعلى مدارجه . ويحتمل كونه من الأمن، أي آمِنْهم من عذابي، كيلا يقنطوا من رحمتي بعد أن يُوفوا بعهدي، ويعملوا بشرائط وصيّتي، ويتوبوا من معصيتي .

(وتقرّب [بي] إلى المؤمنين) ؛ بالتودّد، والتحبّب، والاُلفة، وحسن المعاشرة؛ فإنّ التقرّب إليهم وسيلة للتقرّب إلى اللّه .

ص: 349


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 105
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 321
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 388 (لهي)
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2487 (لهو)

(ومُرهم يدعوني معك) أي يجتمعوا معك في الدُّعاء، أو يتأسّوا بك فيه .

(وإيّاك ودعوة المظلوم) .

قال الجوهري : «دَعَوتُ اللّه له وعليه دعاءً، والدعوة المرّة» (1).

وقوله : (أفتح لها) أي لدعوة المظلوم .

(بابا من السماء) .

في بعض النسخ: «إلى السماء»، وهو كناية عن الإجابة .

وقيل : يحتمل أن يُراد بالباب ظاهره، وأن يُراد به باب سماء الجود والغضب؛ فإنّ قبول دعاء المظلوم جود بالنسبة إليه، وغضب بالنسبة إلى الظالم (2).

وقوله : (ولو بعد حين) أي مرّة من الزمان، وأجل مسمّى .

وهذا التأخير إنّما يكون لمصالح وحِكَم داعية إليه، منها : استدراج الظالم . ومنها : إمكان رجوعه عن الظلم . ومنها : تكثير ثواب المظلوم بصبره عليه، وغير ذلك .

وقوله : (صاحبَ السوء يُعدي) .

إضافة الصاحب إلى «السوء» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة .

قال الجوهري :

ساءه يسوءه سَوءًا _ بالفتح _ ومساءة ومسائية: نقيض سَرّه. والاسم: السوء، بالضمّ .

وقرئ: «عليهم دائرة السوء»؛ يعني الهزيمة، والشرّ . ومن فتح ، فهو من المساءة. وتقول : هذا رجلُ سوء بالإضافة، ثمّ تدخل عليه الألف واللام، فتقول : هذا رجل السوء .

قال الأخفش : «ولا يقال: الرجلُ السَّوء، ويقال: الحقّ اليقين، وحقّ اليقين جميعا ؛ لأنّ السَّوء ليس بالرجل، واليقين هو الحقّ» . قال : «ولا يقال : هذا رجلُ السُّوء، بالضمّ» (3).

وقال الفيروزآبادي : عدا عليه عَدْوا وعُدُوّا وعَداءً وعُدْوانا، بالضمّ: ظلمه، كتعدّي واعتدى وأعدى .

ص: 350


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2337 (دعو)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 106
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 55 - 56 (سوأ)

والعَدوى: الفساد. وعَدَى اللصّ على القماش عَداء وعُدْوانا، بالضمّ والتحريك: سَرَقه . وذِئب عَدوان، محرّكة: عاد. وعَداه عن الأمر عَدْوا وعدوانا: صرفه، وشغله، كعدّاه . وعليه: وثب. وأعدى زيدا عليه: نصره، وأعانه، وقوّاه . والعَدوى: ما يعدي من جَرَبٍ أو غيره، وهو مجاوزته من صاحبه إلى غيره . انتهى (1).

وكلّ من هذه المعاني مناسب للمقام، وإن كان الأخير أنسب ؛ يعني أنّ المصاحب الشرير يؤثّر أخلاقه الذميمة فيمن صحبه .

(وقرين السوء يُردي) .

القرين: المقارن، والمصاحب .

وفي القاموس: «رَدَى فلان في البئر: سقط، كتردّى، وأرداه غيره، وردّاه. ورَدِي _ كرضي _ رَدىً: هلك. وأرداه غيره» (2) انتهى .

وهذا الكلام في المعنى نهي وتنفير عن مصاحبة أهل المعصية .

(واعلم من تُقارن) ؛ يعني أنّه لابدّ لك في انتظام اُمور دينك ودنياك من مصاحب ومُعين ، ولابدّ لك أيضا من اختباره قبل اختياره، كما أشار إليه بقوله : (واختر لنفسك إخوانا من المؤمنين) .

روى المصنّف رحمه الله في كتاب العلم، بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : قالت الحواريّون لعيسى : يا روح اللّه مَن نجالِس؟ قال : من يذكّركم اللّه رؤيتُه، ويزيد في علمكم منطقُه، ويرّغبكم في الآخرة عملُه» (3).

وقوله : (لا يتعاظمني) .

في القاموس: «تعاظمه الأمر: عظُم عليه. وأمرٌ لا يتعاظمه شيء، ولا يعظم بالإضافة إليه» (4).

وقوله : (في مُهلة من أجلك) .

المهلة، بالضمّ: اسم من أمهله إمهالاً، ومهّله تمهيلاً، إذا أنظره .

ص: 351


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 360 (عدو)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 16 (ردي)
3- الكافي ، ج 1 ، ص 39 ، ح 3 ؛ إرشاد القلوب ، ج 1 ، ص 77 ؛ أعلام الدين ، ص 272 ؛ عدّة الداعي ، ص 121
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 152 (عظم)

والمراد بالأجل غاية الوقت في الموت . ويحتمل أن يُراد به مدّة بقاء الشيء، فكلمة «من» بيانيّة .

(قبل أن لا يعمل لها) .

الضمير للنفس؛ أي قبل أن لا تقدر على العمل بحلول الموت في انقضاء الأجل .

وفي الأمالي: «قبل أن لا يعمل لها غيرك» .

(واعبدني ليوم) ؛ يعني يوم القيامة .

(كألف سنة ممّا تعدّون) في الدُّنيا .

وقد قيل: إنّه محمول على الحقيقة . وقيل : كناية عن استطالته؛ إمّا لشدّته على الكفّار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات .

وقيل : طُوله بالنسبة إلى الكافرين والظالمين . وأمّا بالنسبة إلى خلّص المؤمنين، فقد يكون بمقدار صلاة مكتوبة (1) وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في حديث محاسبة النفس، إن شاء اللّه تعالى .

(فيه أجزي) ؛ الضمير لليوم، والظرف متعلّق بما بعده .

(بالحسنة أضعافها) .

قال الجوهري : «ضِعف الشيء: مثله. وضِعفاه: مثلاه. وأضعافه: أمثاله» (2).

وفي القاموس: «ضِعف الشيء، بالكسر: مثله. وضعفاه: مثلاه. أو الضِّعف: المثل إلى ما زاد . ويُقال : لك ضعفه، يريدون مثليه، وثلاثة أمثاله؛ لأنّه زيادة غير محصورة» (3).

وقوله : (توبق صاحبها) أي تهلكه .

(فامهد لنفسك) .

في القاموس: «مهده، كمنعه: بسطه، كمهّده، وكسب، وعمل» (4).

(في مُهلة) أي في زمان إمهال وتأخير من عمرك .

ص: 352


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 106
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1390 (ضعف)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 165 (ضعف)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 339 (مهد)

وقوله : (وهم مُجارون من النار) ؛ أمر بحفظ المجلس عمّا يضرّ في الآخرة، والاشتغال بما ينفع فيها .

قال الجوهري : «أجاره اللّه من العذاب: أنقذه» (1).

وفي بعض النسخ : «وهم مجاوزون» .

وقوله : (ازهد في الفاني المنقطع) أي لا ترغب في الدُّنيا ومتاعها .

(وطَأْ رسوم منازل من كان قبلك) أي امش على آثار منازلهم . يُقال : وطِئهُ _ بالكسر _ يطأه، أي داسه، كوطّأه .

والرسوم: جمع الرسم، وهو الأثر. ورَسْم الدار: ما كان من آثارها لاصِقا بالأرض .

(وناجهم) أي خاطبهم سِرّا . يُقال : ناجيته، ونجوته، إذا ساررته .

(هل تُحِسُّ) . يُقال : أحسَسْتُ، إذا ظننت، ووجدت، وأبصرت، وعلمت.

والاستفهام للإنكار؛ أي هل تُبصر أحدا منهم، وهل تُشعر به، أو تسمع صوتهم ؟ قال اللّه عزّ وجلّ : «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا» (2)

والركز: الصوت الخفيّ .

(بالإدهان) بالدال المهملة الساكنة، مصدر أدْهن، كأكرم؛ أي أظهر خلاف ما أضمر، كداهَنَ .

وقيل : هو إخفاء الحقّ، أو المساهلة فيه، أو ترك النصيحة(3)

وقرأه بعض العلماء بالذال المعجمة، وقال : «هو جمع الذهن، بمعنى الفهم والعقل والفطنة» (4) وهو كما ترى .

(ويتوقّع) (5).

في بعض النسخ: «ليتوقّع» بصيغة الأمر .

ص: 353


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 618 (جور)
2- مريم (19) : 98
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 108
4- القائل هو المحقّق الفيض رحمه الله في الوافي، ذيل الحديث
5- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «ليتوقّع»

(عقوبتي) في الآخرة .

(وينتظر إهلاكي إيّاه) في الدنيا ؛ أي يجعل نفسه في معرض الهلاك ، فكأنّه ينتظره .

فافهم .

وقوله : (سيُصطلم) على بناء المفعول .

(مع الهالكين) ؛ مقول القول. وعلى نسخة «ليتوقّع» مستأنف، كأنّ سائلاً يسأل : ما عاقبته؟ وكيف خاتمة أمره ؟ فأجاب به .

والاصطلام: الاستيصال . والظرف متعلّق به، وكونه حالاً _ كما قيل (1). _ بعيد .

(طوبى لك يا ابن مريم، ثمّ طوبى لك) .

كأنّ الثاني تأكيد للأوّل .

وقيل : الأوّل في الدنيا، والثاني في الآخرة . وفي لفظ «ثمّ» إشارة إلى التفاوت بين الحالين مع احتمال الإشارة إلى تفاوت المقامات الثابتة في الآخرة (2) .

(إن أخذتَ بأدب إلهك) .

«إن» يحتمل أن يكون بكسر الهمزة، أو بفتحها . والأدب، بالتحريك: أدب النفس، وحُسن التناول، والعلم، والدرس. ومنه الأديب للمعلّم والمدرّس . والأدب، بالتسكين: إقراء الضيف . يُقال : أدَب القوم _ كضرب _ إذا دعاهم إلى طعامه . ولعلّ المراد به هنا الأحكام الشرعيّة، أو التأدّب بآداب اللّه ، والتخلّق بأخلاقه، والعمل بكلّ ما اُمر به من الصالحات .

(الذي يتحنّن عليك) .

في بعض النسخ: «إليك» ، وكأنّه تضمين مثل معنى التوجّه . يُقال : تحنّن عليه، أي ترحّم وتعطّف .

وقوله : (ترحما) مفعول مطلق، أو تمييز .

وقوله : (تكرّما) أي إظهارا لكرمه.

والغرض أنّ نعمه وعطاياه محض التفضّل من غير سبق استحقاق .

ص: 354


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 109
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 109

(وكان لك في الشدائد) أي في حال نزولها، أو لأجل دفعها .

وفي وصف الإله بتلك الأوصاف تنبيه على التعليل بوجوب أخذ آدابه .

(لا تَعصه يا عيسى).

قيل : إنّه استئناف، كأنّ سائلاً سأل: ما الأدب؟ فأجابه بأنّه لا تعصه، فترك العصيان من جميع الوجوه هو الأدب ، وهو يتوقّف على استعمال القوّة النظريّة والعمليّة فيما هو مطلوب له تعالى من العقائد والأخلاق والأعمال، وصرفهما عمّا هو مكروه(1).

وقوله: (قد عهدتُ إليك) ؛ التفات من الغيبة إلى التكلّم .

والعَهد: الوصيّة . وقد عَهِدت إليه، أي أوصيته .

(كما عَهِدتُ إلى من كان قبلك) من الأنبياء والرُّسل.

(وأنا على ذلك من الشاهدين) ؛ ترغيب على الوفاء بذلك العهد .

وكأنّ في الإتيان ب «من» التبعيضيّة إشعار بعدم انحصار الشاهد عليه تعالى، بل الملائكة والرُّسل بعضهم على بعض أيضا من الشاهدين .

وقوله : (بمثل ديني) أي بشيء مثل ديني .

ولعلّ المراد به هنا الملّة، أو الطاعة والعبادة، أو السيرة، أو التوحيد، أو الورع .

(ولا أنعمتُ عليها) أي على الخليقة .

(بمثل رحمتي) ؛ لعلّ المراد بها الجنّة، أو المغفرة، أو الوجود والكمالات اللاحقة به .

وقيل : يحتمل أن يراد بها الرسول (2).

وقوله : (اغسل بالماء منك ما ظهر) أي اغسل الأعضاء والجوارح من النجاسات، فيكون «من» بيانا للموصول مقدّما عليه .

ويحتمل أن يكون الموصول عبارة عن النجاسات ؛ أي ما ظهر منها . والأوّل أنسب بقوله : (وداوِ) أي عالج .

(بالحسنات) أي بإيقاعها على الوجه المقرّر المطلوب .

ص: 355


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 108
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 109

(منك ما بطن)؛ فإنّ الظاهر أنّ الموصول عبارة عن الأعضاء والقوى الباطنة، أو القلب، مع احتمال كونه عبارة عن النجاسات والأدناس والأمراض القلبيّة ، ووجه المعالجة بها أنّ الحسنات يُذهبن السيّئات .

(فإنّك إليّ راجعٌ) ؛ فينبغي التنزّه عن التدنّس .

وفيه وعد ووعيد .

وقوله : (أعطيتُك بما أنعمتُ به عليك) .

الباء الاُولى زائدة، والموصول مع صلته مفعول ثان للإعطاء . ويُقال: أنعمها اللّه عليه، وأنعم بها عليه.

وقيل: في إبهام الموصول دلالة على التفخيم ، والمراد به القوى الظاهرة والباطنة، أو الأعمّ منها ومن النِّعم الظاهرة والعلم بالشريعة (1).

وقوله : (فَيضا) نصب على التميز . يُقال : فاض الماء فيضا وفَيضوضة، أي كثر حتّى سال على جانب الوادي . وفيه استعارة مكنيّة .

وقوله : (من غير تكدير) ؛ ترشيح لها .

وفي القاموس: «كدّر، مثلّثة الدال، كدارة وكَدرا محرّكة: نقيض صفا. وكدّره تكديرا: جعله كَدِرا» (2).

(وطلبتُ منك قرضا) ؛ يعني إنفاق المال في سبيل اللّه ، أو الأعمّ منه ومن سائر الطاعات .

وعلى التقديرين تسميته بالقرض على سبيل التشبيه، كما أشار إليه بقوله : (لنفسك) ؛ يعني أنّ ثمرته ومنفعته تعود إليك أحوج ما تكون إليه لا إليه سبحانه؛ فإنّ له خزائن السماوات والأرض .

(فبخلتَ به) أي بذلك القرض .

(عليها) أي على نفسك؛ لجهالتك، وعدم اطّلاعك بفوائده، ولعلّه من قبيل : «أقول لك، واسمعي يا جاره» ؛ لأنّه عليه السلام كان منزّها عن البُخل والمخالفة.

وقس عليه قوله : (لتكون من الهالكين) ؛ يعني أنّ ثمرة البخل الهلاك .

ص: 356


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 109
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 125 (كدر)

وقوله : (تزيّن بالدِّين) أي بأخذ أصوله وفروعه، وآثاره وأعماله؛ فإنّها زينة المتّقين ، ولمّا كان من أحسن زينتهم حبّ المساكين، والمعاشرة معهم، وترك التكبّر عليهم ، قال : (وحُبّ المساكين) المؤمنين .

ويتحقّق هذا الحبّ بتحقّق لوازمه؛ من حُسن البِشر معهم، ودفع الشرّ، وكشف الأذى عنهم، ونصرتهم بالقلب واليد والمال، وترك الاستطالة والترفّع عليهم، ونحوها .

وقوله : (هَونا) أي بالسكينة والوقار والتواضع .

وقيل : بالرفق، واللين، والتلبّث (1).

(وصَلّ على البقاع) .

في القاموس: «البقعة، بالضمّ، ويفتح: القطعة على غير هيئة التي إلى جنبها» (2).

وهذا بظاهره يدلّ على جواز الصلاة في شرعه عليه السلام في قطعات الأرض كلّها . واستشكله بعض الأفاضل وقال : «هذا خلاف ما هو المشهور من أنّ جواز الصلاة في كلّ البقاع من خصائص نبيّنا صلى الله عليه و آله ، بل كان يلزمهم الصلاة في بيعهم وكنائسهم» (3).

قال : «فيمكن أن يكون هذا الحكم فيهم مختصّا بالفرائض، أو بغيره عليه السلام من اُمّته» .

وأقول : يمكن التوجيه بأنّ المراد جواز بناء الكنائس في البقاع كلّها، وإن كانت الصلاة وإيقاعها في شرعه عليه السلام مختصّة بالكنائس، أو المراد جواز إيقاع الصلاة في البقاع التي تجوز له الصلاة فيها من الكنائس، وإن كان فيها نجاسة وهميّة، أو مطلق النجاسة؛ فإنّ المعروف من مذهب النصارى العفو عن النجاسة مطلقا . ويؤيّده التعليل بقوله : (فكلّها طاهر)، فلا إشكال .

وقوله : (شَمّر) كناية عن التهيّؤ للعبادة، وغاية الكدّ والاجتهاد فيها .

قال الفيروزآبادي : «شَمَر وشمّر وانشمر وتشمّر: مرّ جادا، أو مختالاً. وتشمّر للأمر: تهيّأ.

وشمّر الثوب تشميرا: رفعه . وفي الأمر: خفّ» (4).

ص: 357


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 109
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 6 (بقع)
3- المستشكل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 324
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 63 (شمر)

وقال في المصباح : «التشمير في الأمر: السرعة فيه، والخفّة. ومنه قيل : شمّر في العبادة، إذا اجتهد وبالغ» انتهى (1).

يعني اجتهد في العبادة، وأخذ الزاد للآخرة؛ فإنّ (كلّ ما هو آت) ؛ يعني الموت، أو القيامة والجزاء أيضا .

(قريب) .

وفيه تقليل لمدّة بقاء الحياة الدُّنيا، وتسهيل لارتكاب كلفة العبادة فيها .

وقوله : (وأنت طاهر) أي من الحدث، أو من الخبث أيضا .

وقوله : (صوتا حزينا) .

مرَّ تفسيره في حديث موسى عليه السلام .

وقوله : (ما أعددتُ) أي هيّأت في الجنّة، أو في الدُّنيا أيضا من مراتب القُرب .

وقوله : (ذاب قلبك) .

في القاموس: «ذابَ ذَوْبا وذَوبانا _ محرّكة _ ضدّ جمد. وأذابه غيره» (2).

(وزَهِقَتْ نفسك) أي خرجت، وهلكت، واضمحلّت .

في القاموس: «زهق الباطل، كمنع: اضمحلّ . والراحلة زُهوقا: سبقت، وتقدّمت أمام الخيل . ونفسه: خرجت، كزهقت، كسمع. والشيء: بطل، وهلك، فهو زاهق وزَهوق» (3).

وقوله : (تَجاور فيها الطيّبين) .

في بعض النسخ: «الطيّبون» . و«تجاور» على النسخة الاُولى على صيغة المخاطب المعلوم ، وعلى الثاني على صيغة المؤنّث الغائبة المجهولة .

وقوله : (من أهوالها) بيان للموصول .

والضمير للقيامة، أو ليومها. والتأنيث باعتبار المضاف إليه .

(آمنون)؛ لتجنّبهم في الدُّنيا عن أسباب تلك الأهوال .

وقوله : (دار) ؛ عطف بيان للدار الاُولى، أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة لها .

ص: 358


1- المصباح المنير ، ص 322 (شمر)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ، ص 69 (ذوب)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 243 (زهق)

وقوله : (نافس فيها) .

كلمة «في» للتعليل، وضمير التأنيث راجع إلى الدار؛ أي ارغب، واجتهد في تحصيل أسبابها .

(مع المتنافسين) أي مع الراغبين العاملين لها .

وقيل : «في» للظرفيّة. والأمر بالمنافسة يوجب الدخول فيها (1).

وقوله : (اُمنيّة المتمنّين) .

الاُمنيّة _ بالضمّ _ الاسم من قولك : تمنّاه، إذا أراده، ومنّاه إيّاه، وبه تمنية . ولعلّ المراد بالمتمنّين أهل التقوى والصلاح في الدُّنيا، أو أهل العرصات مطلقا؛ فإنّهم يتمنّونها يومئذٍ .

(حسنة المنظر) ؛ لاشتمالها على كلّ ما له مدخليّة في الحسن والكمال .

في القاموس: «المنظر: ما نظرت إليه، فأعجبك، أو ساءك» (2).

وقوله : (إن كنت لها من العاملين) ؛ تقديم الظرف للحصر بالنسبة إلى العاملين لغيرها .

(مع آبائك) .

قيل : أي تكون، أو طوبى لك مع آبائك (3).

وقيل : الظرف حال عن اسم «كنت»، وفيه دلالة على أنّ ابن البنت ابن لأبيها حقيقةً ؛ لأنّ الأصل في الإطلاق الحقيقة . وقد تقدّم مثله (4).

وقوله : (نعيم) هو الخفض، والدعة، والمال .

(لا تبغي بها) أي لا تطلب بعد مشاهدة تلك الدار (بدلاً بها) .

قال الجوهري : «بَدلَ الشيء غيره بَدَلٌ وبِدْلٌ لغتان، مثل شَبَهٍ وشِبْهٍ»(5) .

(ولا تحويلاً) . يُقال : حوّلت الشيء، فتحوّل، وحوّلتُ أيضا بنفسي، بمعنى تحوّلت، يتعدّى ولا يتعدّى، وكلاهما مناسب للمقام، وإن كان الثاني أنسب ؛ أي لا تطلب التحوّل عنها

ص: 359


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 111
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 144 (نظر)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 325
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 111
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1632 (بدل)

إلى غيرها، أو عن موضع منها إلى موضع آخر، منها طلبا للأحسن ؛ لأنّ كلّ موضع منها في غاية الحُسن، ولا يوجد أحسن منها .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد: لا تطلب الدنيا في الدنيا بدلاً منها، ولا تحويلاً عنها. فهو على الأوّل خبر، وعلى الثاني نهي بصورة الخبر (1).

(كذلك) أي على النحو الذي ذكر من قوله : «لو رأت عينك» إلى قوله : «ولا تحويلاً» .

(أفعل بالمتّقين) .

التعليق بالوصف يشعر بالعلّيّة .

وقيل : معناه: مثل ما أفعل بآبائك أفعل بالمتّقين(2) ، وهو بعيد.

وقوله : (اهرب) إلى قوله : (وأنكال).

الهرب إلى اللّه : الالتجاء إليه بالطاعة، وترك المخالفة .

قال الفيروزآبادي : «اللَّهب واللَّهَبُ واللهيب: اشتغال النار إذا خلص من الدخان. أو لَهبها : لسانها، ولهيبها : حرّها» (3).

وقال : «النِّكل، بالكسر: القيد الشديد. الجمع: أنكال، أو قيد من نار» انتهى(4) .

والأغلال: جمع الغُلّ _ بالضمّ _ وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه . وقد يكون من حيّة .

ولعلّ وصف النار بالأغلال والأنكال لكونهما منها، أو لتقييد أهلها بهما .

(لا يدخلها رَوح) بالفتح، وهو الراحة، والرحمة، ونسيم الريح .

(ولا يخرج منها غمّ) أبدا؛ لكون أهلها مغمومين دائما.

والغمّ: الكرب .

وقوله : (قِطَع) خبر مبتدأ محذوف .

والقِطَع، كعِنب: جمع القِطعة _ بالكسر _ وهي الطائفة من الشيء .

ص: 360


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 111
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 111
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 129 (لهب)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 60 (نكل)

والقُطعة، بالضمّ: طائفة تقطع من الشيء. والقِطع، بالكسر: ظلمة آخر الليل . والقِطعة منه، كالقِطَع كعنب، أو من أوّله إلى ثلثه .

(كقطع الليل المظلم) .

التشبيه باعتبار عدم نورها ، أو لأنّ نورها لا يزيل ظلمة اختلاط الدخان به؛ لكثرة دخنتها وبخرتها وكثافتها . والأوّل أظهر .

وفي الأدعية السجّاديّة : «ومن نار نورها ظلمة» (1).

وقوله : (العُتاة) جمع العاتي. تقول : عتا عتوّا: استكبر، وجاوز الحدّ، فهو عات .

وقوله : (فَظٍّ) ؛ هو بالفتح: الغليظ الجانب ، السيّء الخُلق ، القاسي القلب ، الخشِن الكلام، وفعله كعلم .

وقوله : (كلّ مُختالٍ فخور) .

الاختيال: التكبّر، والإعجاب بالنفس. والفخر: التمدّح بالخصال، وفعله كمنع .

وقوله : (دار الظالمين) ؛ هي المخصوص بالذمّ للفعلين على سبيل التنازع .

والظاهر أنّ المراد بها جهنّم، لا الدُّنيا . والمراد بالركون إليها الميل إلى الأسباب الموجبة لدخولها .

(إنّي اُحذّرك نفسك) ؛ يعني أخوّفك من شرّها، فلا تغفل عنها؛ فإنّها أمّارة بالسوء .

(فكن بي خبيرا) ؛ لعلّ الباء صلة «خبيرا»؛ أي كُن عارفا بي، أو برحمتي ونقمتي، أو بشرائع ديني ، حتّى لا تغلبك نفسك ولا تخدعك .

واحتمال كون الباء صلة للكون بمعنى السببيّة؛ أي كُن بمعونتي خبيرا بعيوب نفسك، بعيد .

(مراقبا لي) .

المراقبة: الخوف، أو الحراسة، أو الانتظار، أو التوقّع، أو التحفّظ . ولعلّ المراد: كُن منتظرا لأمري، ومتوقّعا فضلي وإحساني، أو خائفا من عقوبتي، أو حارسا متحفّظا سرائرك، عالما بأنّي مطّلعٌ عليها .

ص: 361


1- الصحيفة السجّاديّة ، ص 152 ، الدعاء 32

وقيل : مراقبته تعالى محافظة القلب له، ومراعاته في السرّ والعلانية، وهي ثمرة العلم بأنّه تعالى مطّلع على الضمائر والسرائر ، وهذا العلم إذا استقرّ في القلب يجذبه إلى مراعاته في جميع الأهوال، وثمرته التعظيم والإجلال، واشتغال القلب بملاحظة الكبرياء والجلال، وصرف الظواهر إلى الأعمال الصالحة (1).

وقوله : (أهبطتك) أي أنزلتك بإهباط أبيك، أو بإهباط روحك .

والغرض من أمثال تلك الفقرات التنبيه على نفاذ أمره تعالى، وإمضاء حكمه، وتثبيت كلماته .

وقوله : (لا يصلح لسانان في فَمٍ واحد) .

نهاه عن كونه ذا اللسانين بأن يقول عند حضور أحد ما يخالف قوله عند غيبته، أو يمدحه شاهدا ويُعيبه غائبا ، أو يمزج الحقّ من القول بالباطل منه ، أو ما شابه ذلك .

(ولا قلبان في صدرٍ واحد) ؛ بأن يكون فيه رغبة إلى الحقّ وإلى الباطل معا ، أو يميل إلى المؤمن والكافر معا ، أو محبّة اللّه ومحبّة أعدائه ، أو محبّة المال والجاه وزخارف الدنيا وشهواتها ، ولا يتصوّر الجمع بين تلك الأضداد إلّا بأن يكون لشخصٍ قلبان، وهو محال .

وهذا نظير قوله تعالى : «مَا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (2) قال البيضاوي : «أي ما جمع قلبين في جوف ؛ لأنّ القلب معدِن الروح الحيواني المتعلّق للنفس الإنساني أوّلاً، ومنبع القوى بأسرها، وذلك يمنع التعدّد» (3).

(وكذلك الأذهان) .

في القاموس : «الذِهن، بالكسر: الفهم، والعقل، وحفظ القلب، والفِطْنة _ ويحرّك _ والقوّة» (4).

ويفهم من التشبيه أنّ ذكر اللسان والقلب كالتوطئة والتمهيد لذكر الأذهان ؛ أي كما لا يصلح تعدّد اللسان في فم واحد، ولا القلب في صدر واحد، كذلك لا يصلح أن يجتمع شيئان متضادّان وخيالان متبائنان في قلب واحد، بحيث يصيران منشأين لاُمور مختلفة متضادّة، كالتوجّه إلى إدراك الآخرة، وتحصيل أسباب النجاة فيها، والتوجّه إلى إدراك الدُّنيا،

ص: 362


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 113
2- الأحزاب (33) : 4
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 362
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 226 (ذهن)

والاشتغال بجمعها وضبطها ، وكالتوكّل على اللّه والطمع والحرص على الدُّنيا ، وغير ذلك من الاُمور المتضادّة .

والحاصل : أنّ هذه الأشياء في كلّ شخص واحد، فينبغي صرفها إلى ما خلقت لأجله، وميلها عن كلّ ما ينافيه .

وقوله : (لا تستيقظنّ عاصيا، ولا تستنبهنّ لاهيا) ؛ لعلّ المراد: لا يكن استيقاظك من النوم في حال اشتغالك بالمعصية، ولا استنباهك من الغفلة في حال اشتغالك باللهو واللعب .

قال الجوهري : «رجل يقظ؛ أي متيقّظ، حَذِرٌ. أيقظه من نومه: نبّهه، فتيقّظ، واستيقظ» (1).

وفي القاموس : النُّبه، بالضمّ: الفِطنة، والقيام من النوم. وهذا مُنبهة على كذا: مُشعِرٌ به . ولفلانٍ : مشعر بقدره، ومُعلٍ له . والنُّبه، محرّكة: المشهور. ونبّه باسمه: نوّه. وأنبه حاجته: نسيها. والنَّباه، كسحاب: المشرف الرفيع . انتهى (2).

قال بعض الفضلاء في شرح هذا الكلام : «أي لا تتوجّه إلى تيقّظ الغير، والحال أنّك عاص ، بل ابدأ بإصلاح نفسك قبل إصلاح غيرك . وكذا الفقرة الثانية» .

وقال : هذا إذا ورد الفعلان متعدّيين، لكن أكثر اللغويّين ذكروا البناء الأوّل لازما، ولم يذكروا البناء الثاني. فيحتمل أن يكون المراد: لا تستيقظ استيقاظا لا يردعك عن المعاصي، ولا استنباها مخلوطا باللهو والغفلة ، أو لا يكن استيقاظك وتنبّهك عند الموت بعد العصيان واللهو .

ويحتمل أن يكون الأوّل لازما، والثاني متعدّيا، فيكون [المعنى ] أتمّ وأكمل . فتأمّل (3).

وقال بعض الشارحين : النهي راجع إلى القيد، ولعلّ المقصود النهي عن العصيان في حال الاستيقاظ، ومعرفة الاُمور، والعلم بصحيحها وسقيمها ، وعن اللهو في حال النباهة والشرف؛ فإنّ المعصية من الفطن العارف واللهو من النبيه الشريف أقبح وأشنع، كما دلَّ عليه

ص: 363


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1181 (يقظ) مع اختلاف يسير
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 293 (نبه) مع التلخيص
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 326

صريح بعض الروايات (1).

(وافطِم) أي اقطع وامنع .

(نفسك عن الشهوات) .

في القاموس : «فطمه يفطِمه: قطعه. والصبيَّ: فصله عن الرِّضاع» (2).

(الموبقات) أي المهلكات .

(وكلّ شهوة تُباعدك منّي) ؛ الظاهر أنّ «كلّ شهوة» مبتدأ، وما بعده خبره.

والفاء في قوله : «فاهجرها» فصيحة، وكون «كلّ شهوة» عطفا على الشهوات، وما بعده صفته ، والفاء للتفريع، أو كونه مبتدأ وما بعده صفته، والخبر (فاهجرها)، محتمل بعيد .

والمراد بالشهوة الميل، والرغبة في الشيء بمقتضى النفس الأمّارة، فالكلّيّة بحالها، ولا يحتاج إلى استثناء بعض الشهوات، كما فعله البعض .

وقوله : (إنّ دنياك مؤدّيتُك إليّ) .

نسبة التأدية إلى الدُّنيا مجاز باعتبار أنّ العمر ينقطع وينتهي بمرور الأيّام .

(وإنّي آخذك بعلمي) بسريرتك وعلانيتك .

والغرض منه التنبيه على وجوب مراقبة الأعمال والأفعال، والاستقامة في جميع الأحوال .

(وكُن ذليل النفس عند ذكري) بالقلب واللِّسان .

وقيل : الذلّ مترتّب على العلم بالاحتياج إليه تعالى من جميع الجهات؛ فإنّه يوجب ذلّ النفس، وسلب العزّ عنها، ويتبعه الخشوع في القلب والصوت والبصر وسائر الجوارح .

فلذلك قال : (خاشع القلب حين تذكرني) (3).

تخصيص خشوع القلب بالذِّكر؛ لاستلزامه خشوع سائر الجوارح والأعضاء .

وقوله : (يقطانَ) بفتح الياء، وسكون القاف .

ص: 364


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 114
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 160 (فطم)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 115

وقوله : (إذا صبر عبدي في جنبي) .

قال الجوهري : «الجنب معروف. والجنب: الناحية. «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» : صاحبك في السفر» (1).

وقال الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى : «يَا حَسْرَتَى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ» (2). : «الجنب: القرب؛ أي يا حسرتا على ما فرّطت في قرب اللّه وجواره . وفلان في جنب فلان؛ أي في قربه وجواره . ومنه قوله تعالى : «وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ» (3). » (4).

وقال البيضاوي : «أي في جانبه؛ أي في حقّه، وهو طاعته . وقيل : في ذاته على تقدير مضاف كالطاعة . وقيل : في قربه من قوله : «وَالصَّاحِبِ بِالْجِنْبِ» » (5).

وقال بعض الشارحين : في جنبي؛ أي في أمري التكليفي، مثل الحجّ والصوم والصلاة. والإيجادي، مثل الفقر والنوائب. أو في جانبي وسبيلي، وهو الدِّين القويم، والصراط المستقيم. أو في حفظ أوليائي، وتحمّل الشدائد في متابعتهم .

قال : والجنب يُطلق على هذه المعاني، كما هو ظاهر لمن تتبّع اللغة والاستعمال . والصبر على هذه الاُمور من أعظم العبادات، وثوابه جزيل . فلذلك قال : (كان ثواب عمله عليَّ) ؛ حيث أحاله على ذاته المقدّسة، وخصّه بذلك لمزيد الاعتناء به، وإلّا فثواب جميع الأعمال الصالحة عليه (6).

(وكنت عنده حين يدعوني) ؛ كناية عن سماع دعائه وإجابته، وإلّا فهو عند كلّ أحد .

(وكفى بي منتقما ممّن عصاني) . يُقال : كفاه مؤونته، إذا حصل به الاستغناء عن غيره .

والغرض منه عدم احتياجه تعالى في الانتقام من العُصاة إلى معاونة أحد .

(أين يهرب منّي الظالمون) ؛ يعني لا يمكن الخروج عن ملكي وسلطاني، فلا يغترّوا بإمهالي وإملائي .

ص: 365


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 101 (جنب)
2- الزمر (39) : 56
3- النساء (4) : 36
4- تفسير مجمع البيان ، ج 8 ، ص 410
5- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 74
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 115 (مع اختلاف يسير)

وقوله : (أطِب الكلام) أي اجعله طيّبا، وهو خلاف الخبيث .

(وكُن حيثما كنتَ عالما متعلِّما) ؛ الظاهر أنّه من قبيل «إيّاك أعني، واسمعي يا جاره» .

وقيل : تنبيه على أنّه وإن بلغ حدّ الكمال في العلم، لابدّ له من أن يتعلّم؛ لأنّ العلم بحرٌ لا ينزف، كما دلّ عليه قوله تعالى : «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (1).

ودلَّ عليه أيضا حكاية موسى مع الخضر عليهماالسلام ، ولذلك أمر اللّه تعالى سيّد المرسلين _ وهو أعلم العالمين _ بطلب الزيادة في العلم بقوله : «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما» (2) (3).

وقوله : (أفض) ؛ من الإفضاء، وهو الوصول، والبلوغ .

والباء في قوله : (بالحسنات إليَّ) للتعدية . أو بمعنى «مع»، أو للسببيّة .

والمراد أمره عليه السلام بالسعي والاهتمام في تحصيلها، والإقبال إليه تعالى بسببها أو معها .

ويحتمل كونه من الإفاضة . في القاموس : «أفاض الماء على نفسه: أفرغه . والناس من عرفات: دفعوا، أو رجعوا، أو أسرعوا منها إلى مكان آخر» (4)

وفي الصحاح : «أفاض: ملأ» انتهى (5).

وفيه إشعار بإكثارها .

وقوله : (ذكرها عندي) .

قيل : المراد به ذكر أجرها وثوابها .

أو ذكر نفسها ، وكأنّه على الأخير من باب التمثيل؛ لأنّ أحدنا إذا أرسل هديّة إلى صديقه، فمتى رآها الصديق يذكرها، ويذكر صاحبها (6).

وقوله : (شفاء للقلوب) ؛ يعني من مرض الجهل، ووساوس الشيطان .

وقوله : (مكرتَ) على صيغة الخطاب .

وقوله : (مكري) من باب المشاكلة؛ فإنّه سمّى جزاء المكر مكرا . أو المكر: الاحتيال، والخديعة، وفعله كنصر .

وقوله : (حاسب نفسك بالرجوع إليّ) .

ص: 366


1- يوسف (12) : 76
2- طه (20) : 114
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 116
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 341 (فيض)
5- الصحاح ، ج 3 ، ص 1099 (فيض)
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 116

قيل : أي بسبب أنّ مرجعك إليَّ(1) وهو كما ترى ، والصواب ما قيل من أنّ حساب النفس يتوقّف على الرجوع إليه تعالى؛ لأنّ حسابها عبارة عن ملاحظة طاعتها ومعصيتها له، ويعرف أنّه يرجع إلى اللّه ، وأنّه تعالى يثيبه إن أطاع، ويعاقبه إن عصى ، فإذا حصلت له هذه المعرفة اشتغل بنفسه، ويحاسبها في كلّ يوم وساعة، فينظر إلى أفعالها وأعمالها، فما كان منها موافقا لإرادة اللّه تعالى دام عليه وشكر ، وما كان مخالفا لأمره فرَّ منه واستغفر (2).

(حتّى تتنجّز ثوابَ ما عمله العاملون) أي مثله .

وهذا إشارة إلى غاية محاسبة النفس، وفائدته المترتّبة عليه .

في القاموس : «نجز حاجته: قضاها، كأنجزها، وتنجّزها.

واستنجزها: استنجحها .

والعِدة: سأل إنجازها» (3).

والمراد بالثواب جزاء العمل في الآخرة .

وقيل : في الدُّنيا أيضا، وهو السعادة الروحانيّة الأبديّة التي هي قُرب الحقّ (4).

(اُولئك) العاملون، أو المحاسبون .

(يؤتون) أي يُعطَون .

(أجرهم) ؛ يعني ثواب عملهم .

(وأنا خير المؤتين) ؛ لعدم النقص في عطائه، ولا ينفد ما عنده .

وقوله : (كنتَ خَلقا بكلامي) أي بمجرّد لفظ «كُن» .

وهذا تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع وتوقّف، وافتقار إلى مزاولة عمل، واستعمال آلةٍ، وإظهار للقدرة على إيجاد كلّ فرد بلا أب، بل بلا اُمّ أيضا .

وقيل : يحتمل أن يُراد به الاسم الأعظم الذي تكلّم به جبرئيل عليه السلام حين نفخه في مريم عليهاالسلام (5).

ص: 367


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 328
2- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 116
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 193 (نجز)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 117
5- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 117

وقوله : (بأمريَ المُرسلُ إليها) ؛ على صيغة اسم المفعول .

والمراد به جبرئيل عليه السلام . ويمكن أن يُراد بالأمر نفخه فيها .

(روحي) بدل من المرسل إليها، أو عطف بيان له .

(جبرئيل الأمين) ؛ عطف بيان للروح .

(من ملائكتي) ؛ بيان لجبرئيل .

وقوله : (حيّا) ؛ نصب على الحال، أو على التميز .

وقوله : (تمشي) ؛ صفة ل «حيّا»، وهما مترادفان، أو متداخلان .

وقوله : (في سابق علمي) أي علمي السابق، وهو العلم الأزلي بأن يكون خلقك على هذا النحو .

وقوله : (زكريّا بمنزلة أبيك) ؛ يعني في الرأفة والشفقة والمحبّة . أو لأنّه كفل اُمّه، كما قال : (وكفيل اُمّك) أي متكفّل لاُمورها .

والغرض من ذكره ترغيبه عليه السلام على برّه وتعظيمه، حيّا وميّتا .

(إذ يدخل عليها المحراب) .

قال البيضاوي : «المحراب: الغُرفة التي بنيت لها في المسجد، أو المسجد، أو أشرف مواضعه ومقدمها، سمّي به؛ لأنّه محلّ محاربة الشيطان، كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس» (1).

(فيجد عندها رزقا) .

قال البيضاوي : «روي أنّه لا يدخل عليها غيره ، وإذا اخرج أغلق عليها سبعة أبواب، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس» (2).

(ونظيرك يحيى من خلقي) في الزهد والعبادة، أو في العلم والنبوّة وسائر الكمالات ، أو في تولّده من شيخٍ كبير يَئسَ من الولد ، فكأنّه أيضا ولد من غير أب ، أو في دلالته على القدرة الكاملة. ونظير الشيء مثله .

(وَهبتُهُ لاُمّه بعد الكِبر) .

ص: 368


1- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 34
2- تفسير البيضاوي، ج 2 ، ص 34

قيل : كان سنّها حينئذٍ نيفا وتسعين سنة (1).

(من غير قوّة بها) أي مع غاية ضعفها، وعدم قوّة كانت بها بحيث تقوّي بتلك القوّة على الاستيلاد عادةً .

(أردتُ بذلك) أي بخلق يحيى، وتولّده من كبيرين، وبخلقك وتولّدك بلا أب .

(أن يظهر لها) أي لاُمّ يحيى .

(سلطاني) أي عظمتي وقدرتي على ما اُريد .

(ويظهر) للخلق (فيك) أي لأجل تولّدك بلا أب .

(قدرتي) أي قوّتي .

وقيل : ذكر الظهور لها في الأوّل، وللخلق في الثاني ؛ لأنّ الثاني أغرب وأعجب ، وتخصيص الظهور بها؛ لأنّ توليد العاقر أبعد من توليد الكبير (2).

وقوله : (تيقّظ، ولا تيأس من رَوحي) أي لا تقنط من رحمتي وتنفيسي .

قيل : المتيقّظ وإن كان مستعدّا لفيض الربّ، إلّا أنّه ربّما كان لا يبرّئ نفسه عن التقصير، وربّما يؤدّي تيقّظه إلى اليأس ، فلذا نهاه عنه (3).

وقوله : (وبطيّب الكلام) ؛ بتشديد الياء.

والجارّ متعلّق بما بعده ، أعني قوله : (فقدّسني) ، ولا محذور في ذلك؛ لعدم كون الفاء للشرط .

وقوله : (كيف يكفر العباد بي) .

«كيف» للاستخبار الإنكاري مع توبيخ وتعجّب لكفرهم، من قبيل قوله تعالى : «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ» (4) .

والكفر شامل لكفر الجحود، وكفر النعمة، وكفر المخالفة .

(ونَواصيهم في قبضتي) ؛ كناية عن كمال الاقتدار والقهر والاستيلاء عليهم؛ فإنّ من أخذ

ص: 369


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 118
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 118
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 118
4- البقرة (2) : 28

بناصية أحد، فقد قهره وملكه، ولا يجد عنه مهربا . والناصية: قصاص الشعر .

والقبضة: بالفتح، وضمّه أكثر: ما قبضت عليه من شيء؛ أي أمسكته بيدك .

(وتقلّبهم في أرضي) .

التقلّب في الاُمور: التصرّف فيها، والتحوّل في الأحوال .

وقوله : (وكذلك يهلِك) ؛ على بناء الفاعل من الهلاك، أو على بناء المفعول من الإهلاك .

(الكافرون) .

قيل : هذا إشارة إلى أنّ جهل نعمته وتولّى غيره أمرٌ مشترك بين الكفرة كلّهم على تفاوت مِللهم واختلاف درجاتهم (1).

وقوله : (إنّ الدُّنيا سجنٌ) ضيّق .

السجن، بالكسر: المحبَس. وبالفتح المصدر . والحمل على المجاز، أو على التشبيه، بحذف أداته، مثل: زيد أسد .

وقيل : من باب الحقيقة؛ لأنّ الدُّنيا محبس لآدم وأولاده، خصوصا للأولياء، وضيّقة بالنسبة إلى الآخرة (2).

(مُنتن الريح) ؛ في الواقع، أو عند أهل البصيرة .

هذا إذا كان حمل السجن على الدُّنيا حقيقةً، كما قيل . وعلى ما ذكرناه، فلا يحتاج إلى التوجيه .

والنَّتَن: الرائحة الكريهة . وقد نَتُن الشيء _ ككرم _ وأنتَنَ، فهو مُنتِن، ومِنتين بالكسر .

(وحَسُن) ؛ من الحسن، أو من التحسين على بناء المفعول .

قال الجوهري : «حسّنت الشيء تحسينا: زيّنته» (3) أي زُيِّن للناس .

(فيها ما قد تَرى) من زَهَراتها الرائقة، وزخارفها الفانية .

وفي الأمالي : «منتن الريح، وحُشٌّ» (4) ، وفيها ما قد ترى .

ص: 370


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 119
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 119
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2099 (حسن)
4- الأمالي للصدوق ، ص 517 ، ح 1

قال الجوهري : «الحُشّ: البُستان، والمخرج» (1) وفي القاموس: «الحشّ، مثلّثة: المَخْرَج» (2) ؛ لأنّهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين .

(ممّا قد تَذابح عليه الجبّارون) أي ذبح بعضهم بعضا؛ لأخذ ما في يده من أمتعتها .

(وإيّاك والدُّنيا) إلى قوله : (إلّا قليل) ؛ يعني في جنب نعيم الآخرة، وإن كان كثيرا في بادئ الرأي .

وفيه تحذير عنها، وصرف العمر في تحصيلها ، وعلّل ذلك بأنّ نعيمها قليل يزول ، والعاقل لا يلتفت إلى القليل الزائل من حيث هو، فكيف إذا كان سببا لزوال الكثير الباقي؟!

(أبغني عند وِسادك تجدني) .

في القاموس: «بغيته أبغيه بُغاءً وبُغا وبُغية _ بضمّهنّ _ وبِغيَةً، بالكسر: طَلَبْتُهُ»(3) .

وفيه: «الوَساد: المتّكأ، والمخدّة، كالوِسادة، ويثلّث»(4).

قيل : معناه: اطلبني، وتقرّب إليَّ عندما تتّكأ على وسادك للنوم بذكري، تجدني لك حافظا في نومك، أو قريبا منك، مجيبا فيتلك الحال أيضا .

ويحتمل أن يكون المراد: اطلبني بالعبادة عند إرادة التوسّد، أو في الوقت الذي يتوسّد فيه الناس، تجدني مفيضا عليك مترحّما .

ويحتمل على بُعدٍ أن يكون المراد التوسّد في القبر (5)

وقيل : هو إشارة إلى قربه من كلّ أحد في كلّ زمان ومكان، أو إلى طلب العبادة في زمان الغفلة، وحثّ على ترك النوم (6).

(وادعني، وأنت لي محبّ) .

تقديم الظرف لإفادة الحصر .

(فإنّي أسمع السامعين، أستجيب للدّاعين إذا دعوني) .

قيل : وصفه تعالى بأسمع السامعين إيماء إلى أنّه ينبغي أن تحبّ من كان كذلك، أو إن لم

ص: 371


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 119
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1001 (حشش)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 269 (حشش)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 304 (بغي)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 345 (وسد)
6- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 329 و 330

أستجب لأحد فإنّما هو لعدم المحبّة، وإلّا فأنا أسمع السامعين. والأوّل أظهر (1) انتهى .

ولا يخفى بُعد التوجيهين، والأقرب أن يُقال : إنّه ترغيب في طلب جميع الخيرات منه تعالى، والتيقّن بحصولها؛ لأنّ عدم الحصول إمّا لعدم سماع المدعوّ، أو لعدم الاستجابة، والبخل بها مع سماعه، وكلاهما منتف عنه سبحانه .

وقوله : (فلا يهلكوا إلّا وهم يعلمون) أي إن هلكوا، وضلّوا، وأصرّوا على المعاصي بعد التخويف والإنذار، هلكوا بعد البيّنة، وإلزام الحجّة عليهم .

وهذا نظير قوله تعالى : «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» (2).

وقوله : (فكلّ هذا) أي كلّ من السَبُّع والموت.

(أنا خلقته، فإيّاي فارهبون) ؛ فإنّ الخالق أولى بأن يكون مرهوبا منه من المخلوق .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» (3). :

أي فيما تأتون، وتذرون، وهو آكد في إفادة التخصيص من «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» ؛ لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول ، والفاء الجزائيّة الدالّة على تضمّن الكلام معنى الشرط، كأنّه قيل : إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني . والرهبة خوفٌ معه تحرّز ، والآية متضمّنة للوعد والوعيد، دالّة على أنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلّا اللّه تعالى (4).

وقوله : (غضبُ المغضبين) بفتح الضاد، من أغضبه، فهو مُغضِب، وذاك مُغضَب.

وقوله : (اذكرني في نفسك) ؛ يعني في قلبك، ولا تغفل عنّي .

(أذكرك في نفسي) ؛ كأنّه من باب المشاكلة، أي عاملتك معاملة المذكورين، لا المنسيّين .

وقيل : أي أفيض عليك من رحماتي الخاصّة من غير أن يطّلع عليها غيري(5).

قال الفيروزآبادي : «النفس: الجسد، والعند. «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ» (6). ؛

ص: 372


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 330
2- الأنفال(8) : 42
3- النحل (16) : 51
4- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 310
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 330
6- المائدة (5) : 116

أي ما عندي وما عندك، أو حقيقتي وحقيقتك، وعين الشيء ، والعظمة، والعزّة ، والهمّة» (1) .

(واذكرني في ملئك) .

الملأ، كجبل: الجماعة، والقوم، والأشراف . والمراد هنا ملأ الآدميّين .

وفي قوله : (أذكرك في ملأ خيرٌ من ملأ الآدميّين) ؛ ملأ الملائكة المقرّبين.

والذِّكر في هذا الملأ بالثناء عليه، والمباهات به، أو إثابته بحضرتهم . واستدلّ بمثل هذا بعض العامّة على أفضليّة الملائكة من الأنبياء؛ إذ عدّ ملائكة خيرا من ملأ الآدميّين، ولو كان فيهم نبيّ .

ويمكن الجواب بأنّ المراد بملأ الآدميّين الملأ الذي لم يدخل فيه الأنبياء والصدّيقون، وهذا وإن كان مخالفا للظاهر، إلّا أنّ الأخبار الدالّة على أفضليّة الأنبياء، ومن يحذو حذوهم، تخصّص هذا العموم .

وقد يُجاب بأنّ تفضيل المجموع على المجموع لا يوجب تفضيل الأجزاء على الأجزاء، كما في قولك : «الرجل خيرٌ من المرأة» إذا اُريد باللام الحقيقة .

(يا عيسى ادعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له) .

في بعض النسخ: «معه» .

(مُغيث) غيري .

قال الجوهري : «غَرقَ في الماء غَرَقا، فهو غَرِقٌ، وغارق أيضا . وأغرقه غيره، وغرّقه، فهو مغرق وغريق. واغتراق النَفَس: استيعابه في الزفير» (2).

ويفهم منه أنّ من شرائط قبول الدعاء قطع الرجل عن غيره تعالى، والانقطاع إليه مع غاية التضرّع والاستكانة .

وقوله : (فيهتزّ عرشي) . يُقال : هزّه هزّا، أي حرّكه، فاهتزّ .

والظاهر أنّ المراد بالعرش الجسم المعروف الذي فوق جميع الأجسام، وهو العرش الجسماني .

وقيل: يمكن أن يُراد به قدرته تعالى الشاملة لكلّ الموجودات، وإن لم يشتهر إطلاقه

ص: 373


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 255 (نفس)
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1537 (غرق)

عليها(1).

وقوله : (الدنيا قصيرة العُمُر) .

إن اُريد بالدُّنيا نفسها، فقصر عمرها؛ أي بقاؤها بالنسبة إلى الآخرة . وإن اُريد أهلها _ يعني عمر كلّ أحد فيها _ فقصره ظاهر .

وعلى التقديرين المقصود منه التحذير والتنفير عن الركون إليها .

وأمّا قوله : (طويلة الأمل) ؛ فالمراد به طول أمل أهلها فيها، والإسناد إليها مجاز.

والأمل: الرجاء، قد يفرّق بينه وبين الطمع بأنّ الأمل كثر استعماله فيما يستبعد حصوله، والطمع فيما يقرب .

وقوله : (وأنتم تشهدون) ؛ من الشهادة، أو من الشهود، وهو الحضور .

والظاهر أنّ الواو للحال .

وقوله : (بسرائر) ؛ متعلّق بالشهادة على الظاهر. ويحتمل كونه بدلاً من قوله (بالحقّ) .

وقوله : (غسلتم وجوهكم) ؛ لعلّ المراد غسل الأعضاء الظاهرة مطلقا بقرينة المقابلة بقوله : (ودنّستم قلوبكم) .

في الصحاح: «دَنِسَ الثوب، وتدنّس: توسّخ. ودنّسه غيره» (2).

(أبي تغترّون) أي هل بعفوي، أو إمهالي تختدعون .

والاستفهام للتوبيخ .

(أم عليَّ تجترؤون) أي أم على عقوبتي لا تبالون .

قال الجوهري : «الجرأة، مثال الجرعة: الشجاعة . والجَرِيء: المِقدام . أو تقول : جرّأتك على فلان، حتّى اجترأت عليه» (3).

وقوله : (قلّموا أظفاركم) .

قلم الأظفار، وتقليمها: قطعها . وهنا كناية عن قبض اليد والامتناع .

وقوله : (الخَنا) أي الفحش من القول .

ص: 374


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 121
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 931 (دنس)
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 40 (جرأ)

وقوله : (ضرركم) .

في بعض النسخ: «صوركم»، وهو أظهر وأنسب بما روي: «أنّ اللّه لا ينظر إلى صُوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكنّه ينظر إلى قلوبكم ونيّاتكم» (1).

وفي بعضها: «صرركم» بالصاد المهملة، وكأنّه بكسر الفاء وفتح العين، جمع صرّة _ بالفتح _ نحو بَدْرة وبِدَر . أو جمع صِرّة _ بالكسر _ نحو قِربة وقِرَب .

قال الجوهري : «الصرّة: الصيحة، والجماعة، والشدّة» (2).

وفي القاموس: «الصِّرة، بالكسر: أشدّ الصياح . وبالفتح: الشدّة، والحرب، والحرّ، والجماعة» (3).

وقوله : (شَين) ؛ هو بالفتح، خلاف الزين .

وقوله : (لطم) ؛ على بناء الفاعل، وفاعله ذلك الغير.

أو على بناء المفعول من المجرّد، أو المزيد فيه .

واللطم: الضرب على الوجه بباطن الراحة .

وقوله : (وتقرّب إليّ بالمودّة) أي بالتودّد إلى الناس ، أو بما يوجب مودّتي، أو بمودّتك لي .

ففيه على الأوّل ترغيب في حسن المعاشرة ، وعلى الأخيرين في تحصيل محبّته تعالى بتصفية الظاهر والباطن من الرذائل، وتحليتهما بالفضائل .

وقوله : (واعرض عن الجاهلين) ؛ أمر بالإعراض عن مخاصمتهم ومعارضتهم ومماراتهم والمكافأة بمثل أفعالهم، لا عن نصحهم وتأديبهم وإرشادهم .

أو المراد بالجاهلين المنهمكين في آثار الجهل، المستغرقين فيها، بحيث لا يجوّز العقل تأثير النصيحة والموعظة، بل رجّح بالإقبال إليهم، والتعرّض لإصلاحهم مفاسد كثيرة .

وقوله : (ذِلّ لأهل الحسنة) ؛ على صيغة الأمر، من الذِّلّة _ بالكسر، والضمّ _ وهو ضدّ الصعوبة، والرفق، والرحمة. وفعل الكلّ كفرّ .

ص: 375


1- الأمالي للطوسي ، ص 536 ، ح 1 ؛ مكارم الأخلاق ، ص 469 ؛ محاسبة النفس للكفعمي ، ص 182
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 710 (صرر)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 68 (صرر)

وهذا نظير قوله تعالى : «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» (1) .

(وشاركهم فيها) أي فعل الحسنة .

(وكُن عليهم شهيدا) .

قيل : أي شهيدا تمنعهم من المهلكات، وتبعثهم على الصالحات، وتشهد لهم بها يوم القيامة (2).

وقوله : (يا أخدان السوء) .

في الصحاح: «الخدِن والخَدِين: الصديق» (3) وفي القاموس: «الخِدن، بالكسر، كأمير: الصاحب، ومن يخادنك في كلّ أمرٍ ظاهر وباطن» (4).

وقد مرَّ تفسير السوء بما لا مزيد عليه .

وقيل : يحتمل أن يكون إطلاقه «أخدان إلى السوء» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، كما هو الشائع في مثله، وأن يكون المراد أنّهم محبّون للسوء مخادنون له .

ولعلّ قوله : (والجلساء عليه) بهذا أنسب وأوفق؛ فإنّ الضمير راجع إلى السوء، فيكون بضمّ السين (5).

وقوله تعالى : (الحكمة تبكي فرقا منّي) .

في القاموس: «الحكمة، بالكسر: العدل، والعلم، والحلم، والنبوّة، والقرآن، والإنجيل» (6).

وفي الصحاح : «الفَرق، بالتحريك: الخوف . وقد فرِق بالكسر، تقول منه: فرِقت منك، ولا تقل: فرقتك» (7).

وأقول : لعلّ المراد ببكاء الحكمة بكاء أهلها ، والإسناد إليها مجاز باعتبار أنّها سببه .

و«الفرق» منصوب على أنّه مفعول لأجله .

ولعلّ ذلك الخوف لمشاهدة عظمته تعالى، أو لاحتمال التقصير في طاعته . أو لعدم

ص: 376


1- الشعراء (26) : 215
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 123
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2107 (خدن)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 218 (خدن)
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 332
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 98 (حكم)
7- الصحاح ، ج 4 ، ص 1541 (فرق)

رواجها، وكساد سوقها .

وقراءة «تبكي» على بناء الفاعل من باب الإفعال بحذف المفعول ؛ أي تبكي الحكمة أهلها، احتمال .

وقال بعض الشارحين :«الظاهر أنّ الحَكَمة _ بالتحريك _ جمع الحاكم، وهو صاحب الحكم والقدر والمنزلة من عند اللّه ، كالحَفَظة جمع الحافظ» (1).

(وأنتم بالضحك تهجرون) أي تَهزؤون، أو تستهزؤون، أو تتكلّمون بالفحش والقبيح، أو تعرضون عن الحكمة، وتهجرون أهلها ملتبسا بالضحك .

في القاموس: «الهجر، بالضمّ: القبيح من الكلام. وأهجر في منطقه إهجارا وهُجرا. وبه: استهزأ، ورماه بهاجرات ومهجرات؛ أي بفضائح . وهجرَ في نومه ومرضه هجُرا، بالضمّ» (2) وفي الصحاح: «الهجر: الهَذيان» (3).

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرا تَهْجُرُونَ» (4).

: من الهَجْر _ بالفتح _ إمّا بمعنى القطيعة، أو الهذيان ؛ أي تعرضون عن القرآن، أو تهذون في شأنه . والهجر، بالضمّ: الفحش . ويؤيّد الثاني قراءة نافع: «تُهجِرون» من أهجر . وقرئ: «تهجّرون» على المبالغة(5).

(أتتكم بَراءتي) أي جاءكم من عندي تخلّص من عذابي، من قولهم : بَرِئت منك ومن الديون والعيوب براءةً .

(أم لديكم) .

في بعض النسخ : «أم كذبكم» ، ولعلّه تصحيف .

وعلى تقدير صحّته يحتمل أن يكون على صيغة المصدر، أو الفعل الماضي من التكذيب .

وحينئذٍ قوله : (أمانٌ من عذابي) فاعل له. فتدبّر .

(أم تعرّضون لعقوبتي) ؛ يحتمل كونه من التعرّض بحذف إحدى التائين . يُقال : تعرّض له،

ص: 377


1- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 123
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 158 (هجر)
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 851 (هجر)
4- المؤمنون (23) : 67
5- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 161

أي تصدّى؛ وكونه من التعريض ؛ أي تجعلون أنفسكم في معرض عقوبتي. وعلى التقديرين عبارة عن جرأتهم على المعاصي، وعدم مبالاتهم من عقوبتها .

قيل : إنّما ردّد بين هذه الاُمور الثلاثة؛ لأنّ حالتهم المذكورة توجب أن يكون لهم واحد منها قطعا، ولكن في الواقع لما كان هو الأمر الثالث(1).

قال : (فبي حلفتُ لأتركنّكم) أي لأجعلنّكم، أو أبقينّ آثار ما أفعل بكم من المثلات .

في القاموس: «الترك: الجَعْل. «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْاخَرِيْنَ» (2). ، أي أبقينا» (3).

(مثلاً) بالتحريك؛ أي حديثا يمثّل به .

(للغابرين) أي الذين يوجدون بعدكم إلى يوم القيامة .

والحاصل : أنّي أُهلِككم، وأجعل هلاككم مثلاً يمثّل به، يذكره ويعتبر به مَن بعدكم .

ويحتمل بعيدا تفسير الغابرين بالماضين ، والمِثل _ بالكسر _ بالشبه والنظير ؛ أي أجعلكم مثل من قبلكم من العصاة، وأفعل بكم ما فعلت بهم من العقوبات .

وقوله : (بسيّد المرسلين) أي رأسهم، ورئيسهم، وأشرفهم، وأكرمهم .

(وحبيبي) ؛ فعيل بمعنى الفاعل، أو المفعول .

وقوله : (والوجه الأقمر) ؛ يعني كالقمر في النور والضياء .

في القاموس: «القُمرة، بالضمّ: لون إلى الخُضرة، أو بياضٍ فيه كدرة . والقَمَر يكون في الليلة الثالثة . والقَمراء: ضوءه، وليلة فيها القمر. ووجهٌ أقمر : مشبّه به . والأقمر: الأبيض» (4).

وقد روى المصنّف رحمه الله في باب تاريخ مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ، بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا رُئي في الليلة الظَّلماء، رُئي له نورٌ كأنّه شِقّة قمرٍ» (5). الشِّقة، بالكسر: نصف الشيء إذا شُقّ .

وبما نقلناه من القاموس أنّ أقمر صفة بشرته، وأنّه من القَمَر، يظهر فساد ما قيل من أنّه اسم تفضيل من القُمرة (6).

ص: 378


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 124
2- الصافّات (37) : 78 و 108 و 129
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 296 (ترك)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 121 (قمر)
5- الكافي ، ج 1 ، ص 446 ، ح 20 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 16 ، ص 189 ، ح 20
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 124

وقوله : (المُشرِق بالنور) ؛ صفة ثانية للوجه، أو صفة للصاحب . يُقال : أشرق وجهه؛ أي أضاء، وتلألأ حُسنا .

والمراد هنا النور الظاهر لكمال حُسنه، أو الأعمّ منه ومن نور العلم والحكمة .

(الطاهر القلب) ؛ صفة للصاحب .

وكذا قوله : (الشديد البأس) .

البأس: العذاب ، والشدّة في الحرب، والقوّة، والشجاعة .

(الحييّ المتكرّم) أي لا يتصدّى لشيء من المقابح حياءً، ولا يفوت شيئا من المكارم والمحاسن تكرّما وتنزّها .

قال الفيروزآبادي : «الحياء، بالمدّ: التّؤبة، والحِشمة. حَيى منه حَياءً، واستحيا منه، واستحياه، فهو حَييّ، كغنيّ، ذو حياء» (1) وقال : «التُؤبة: العار» (2).

وقال : «تكرّم عنه وتكارم : تنزّه» (3).

(فإنّه رحمةً للعالمين) .

قال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (4) :

إنّه رحمة للمؤمنين والكافرين ؛ أمّا الأوّل فلأنّ ما بُعِث به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم . وأمّا الثاني فلأمنهم من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال (5) وقيل : كونه رحمةً للعالمين أنّه سبب لإيجاد العالم، أو أنّه سبب لنجاة الخلائق يوم القيامة (6).

(وسيّد وُلد آدم) .

ذكره بعد سيّد المرسلين من باب التعميم بعد التخصيص . والولد، محرّكه، وبالضمّ والكسر والفتح: واحد وجمع، وقد يجمع على أولاد .

ص: 379


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 124
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 322 (حيأ)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 135 (وأب)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 170 (كرم)
5- الأنبياء (21) : 107
6- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 111

وقيل : السيّد: أجلّ القوم، الفائق بهم، المفزوع إليه في الشدائد ، وهو صلى الله عليه و آله كذلك في الدُّنيا والآخرة ؛ أمّا في الدنيا فلأنّ أصل وجود الممكنات لوجوده، وكلّ مَن لحقته فتنة من الأنبياء توسّلوا به، فرُفِعتْ عنهم . وأمّا في الآخرة، فلأنّ آدم ومن دونه تحت لوائه، وله المقام المحمود، ومقام الشفاعة، ومقام الوسيلة. وهذه المنزلة ليست لأحدٍ غيره (1).

(يوم يَلقاني) أي يلقى رحمتي وكرامتي .

والظرف متعلّق بالسيادة؛ أي يظهر سيادته على ولد آدم في ذلك اليوم . ويحتمل تعلّقه بما بعده؛ أعني قوله : (أكرم السابقين عليّ) أي واردا، أو وافِدا عليَّ .

والسابقون: الأنبياء، والأوصياء، والأولياء .

(وأقرب المرسلين منّي) ؛ فضلاً عن غيرهم العربيّ النسب .

(الأمين) الحسب، وهو الثقة المأمون به .

(الديّان بديني) .

في القاموس : «الديّان: القهّار، والقاضي، والحاكم، والسائس، والحاسب، والمجازي الذي لا يضيع عملاً، بل يجزي بالخير والشرّ» .

وفيه: الدين، بالكسر: الجزاء، والعادة، والعبادة، والحساب، والقهر، والغلبة، والاستعلاء، والسلطان، والملك، والحكُم، والسيرة، والتدبير، والتوحيد، واسمٌ لجميع ما يُتعبّد اللّه به، والملّة، والورع، والقضاء . انتهى (2).

ولعلّ المراد هنا أنّه صلى الله عليه و آله يقهرهم على الدخول في دين اللّه ، أو يحكِم بينهم بحكم اللّه ، أو يتعبّد اللّه بدين الحقّ .

وفيه احتمالات اُخر يظهر بالتأمّل فيما نقلناه من اللغة .

(الصابر في ذاتي) أي طلبا لمرضاتي، أو غير خالص لوجهي .

وقوله : (عن ديني) أي كاشفا عنه، مُروّجا له، مُظهِرا إيّاه .

ص: 380


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 124 و 125
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 225 (دين)

(أن تُخبر به بني إسرائيل) ؛ لعلّه بدل اشتمال من قوله : «بسيّد المرسلين»، فهو المقصود الأصلي بالوصيّة.

أو التقدير: أخبرك به، أو أوصيك به؛ لأن تخبر به بني إسرائيل .

وقيل : يحتمل كون الشرط والجزاء محذوفا بقرينة المقام؛ يعني أن تخبر به، فقد بلّغت رسالتي، أو نحو ذلك (1).

وفي الأمالي : «يا عيسى آمرك أن تخبر به . قال عيسى : إلهي، مَن هو؟ قال : يا عيسى، ارضه، فلك الرضا . قال : اللّهمَّ رضيت، فمَن هو؟ قال : محمّد رسول اللّه » انتهى (2).

ويظهر منه أنّ في نسخ الكتاب سقطا وتحريفا . واللّه أعلم .

وقوله : (إلهي مَن هو)؛ الظاهر أنّ السؤال عن خصوص اسمه العَلَم المشتهر به، بعد العِلم ببعض خصوصيّاته السابقة .

(حتّى اُرضيه) من الإرضاء؛ أي أجعلهُ راضيا عنّي بالإيمان به قبل رؤيته ، أو بالتنويه باسمه، أو بأمر الاُمّة بنصرته بعد بعثته .

(فلك الرِّضا) ؛ لعلّ المراد: فيحصل بإرضائه رضاك، أو فأنت راضية بأن اُرضيه .

وقوله : (إلى الناس كافّة) .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَا كَافَّةً لِلنَّاسِ» (3). :

أي إلّا إرساله عامّة لهم، من الكفّ؛ فإنّها إذا عمّتهم، فقد كفّتهم أن يخرج منها أحدٌ منهم. أو إلّا جامعا لهم في الإبلاغ ؛ فهي حال من الكاف، والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار . انتهى (4)

وقيل : يحتمل نصبه على المصدر، ومعناه: يكفّهم عن الغير، أو عن السؤال في اُمور دينهم ودنياهم كافّة؛ لأنّه يجيء بمقدار حاجتهم من غير نقص (5).

قال الجوهري : «الكافّة: الجميع من الناس. يُقال: لقيتهم كافّة؛ أي كلّهم» (6).

ص: 381


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 335
2- الأمالي للصدوق، ص 517 ، ح 1
3- سبأ (34) : 28
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 401
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 125
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1422 (كفف)

وقوله : (وأحضرهم شفاعة) أي أكثر حضورا له، فيكون كناية عن كثرتها. ويحتمل كونه من الحُضر _ بالضمّ _ وهو العَدوْ؛ أي أسرعهم، وأعجلهم .

(طوبى له من نبيّ) ؛ الظاهر أنّ الظرف الأخير تميز عن نسبة «طوبى» إليه صلى الله عليه و آله ، واستعمال التميز ب «من» شائع، إذا لم يكن تميزا للعدد، ولا فاعلاً في المعنى، نحو : غرست الأرض من شجر ، بخلاف: طاب زيد من نفس .

قال ابن مالك : واُجوّز بمن، إن شئت غير ذي العدد . والفاعل المعنى، كطِب نفسا تُفَدْ .

وقوله : (ويستغفر له) ؛ كأنّ المراد بالاستغفار إظهار شرفه وكونه مغفورا عند اللّه ، مطهّرا من الذنوب، أو طلب المغفرة لاُمّته .

وقوله : (مَيمون) ؛ من اليُمن _ بالضمّ _ وهو البركة والخير، كالميمنة . وفعله كعلم ، وعني، وجعل، وكرم. يَمُنَ على قومه، فهو ميمون، إذا صار مباركا عليهم .

وفي بعض النسخ : «مأمون» .

(طيّب مطيّب) ؛ لعلّ المراد بكونه طيّبا أنّه خُلق من طينة طيّبة، أو طهارته وتخليته من الأرجاس الشيطانيّة والأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة. وبكونه مطيّبا على صيغة المفعول من التطيّب كونه مطهّرا من النقائص والرذائل ، أو تحليته بفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق . ويحتمل كونه بصيغة الفاعل ؛ أي مطهِّر لمن تبعه .

(خير الباقين عندي) أي من صدق عليه البقاء في أحد الأزمنة، فيشمل السالفين واللاحقين .

(يكون في آخر الزمان) ؛ لانقطاع الزمان باُمّته ودينه وشريعته .

وقوله : (عَزاليها) بفتح اللّام وكسرها، جمع عَزلاء، وهو فم المزادة الأسفل.

وهاهنا كناية عن شدّة وقع المطر، وقد مرّ تحقيقه في حديث نافع .

وقوله : (زهرتها) أي زرعها ونباتها وبركتها .

قال الفيروزآبادي : «الزهرة، ويحرّك: النبات، ونوره. الجمع: زَهَر وأزهار . ومن الدُّنيا: بهجتها، ونضارتها، وحُسنها. وبالضمّ: البياض، والحسن. وقد زهِر _ كفرح وكرم _ وهو أزهَر» (1).

ص: 382


1- القاموس المحيط ، ج 6 ، ص 483 و 484 (زهر) مع التلخيص

وقوله : (حتّى يروا البركة) أي النماء، والزيادة، والخير في آفاق الأرض .

(واُبارك لهم فيما وضع يده عليه) ؛ حيث وضع يده على طعام قليل، فأشبع به جمّا غفيرا، وعلى ماءٍ قليل فأروى به خَلقا كثيرا .

وهذه المعجزة من معجزاته صلى الله عليه و آله مشهور ، وفي كتب الأخبار والسِّير مسطور .

وقوله : (قليل الأولاد) ؛ يعني أولاده الأوّليّة، وإنّما كثر أولاد أولاده .

(يسكن بكّة) من حين ولادته إلى أوان هجرته .

وفي القاموس: «بكّهُ : خرقه، وفرّقه، وفسخه. وفلانا: زاحمه، أو رحمه، ضدّ، ورد نخوته، ووضعه. وعنقُه: دقّها. ومنه بكّة لمكّة، أو لما بين جبليها، أو للمطاف؛ لدقّها أعناق الجبابرة، أو لازدحام الناس بها» (1).

(موضع أساس إبراهيم) .

في القاموس: «الاسّ، مثلّثة: أصل البناء، كالأساس، وأصل كلّ شيء. الجمع: أساس، كقياس، وقُذُل، وأسباب» (2).

وقوله : (دينه الحنيفيّة) .

في النهاية : «الحنيف: هو المائل إلى الإسلام الثابت عليه . والحنيف عند العرب: من كان على دين إبراهيم عليه السلام . وأصل الحنيف: الميل، ومنه الحديث: بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة» (3).

(وقبلته يمانيّة) .

في النهاية : «فيه: الإيمان يمان، والحكمة يمانيّة . إنّما قال ذلك؛ لأنّ الإيمان بدأ من مكّة، وهي من تهامة، وتهامة من أرض اليمن ، ولهذا يُقال: الكعبة اليمانيّة» (4).

(فهو من حزبي) .

الحِزب، بالكسر: جماعة الناس. والقوم يجتمعون لأمرٍ حزَّ بهم؛ أي نابهم، واشتدّ عليهم ، وجُند الرجل، وأصحابه الذين هم على رأيه . وحزب اللّه : أعوان دينه باللِّسان والقلب واليد . (وأنا معه) بالنصرة، والعصمة، والمعونة .

ص: 383


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 295 (بكك)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 197 (أسس)
3- النهاية ، ج 1 ، ص 451 (حنف)
4- النهاية ، ج 5 ، ص 300 (يمن)

وقوله : (الكوثر) .

قيل : هو نهر في الجنّة يتفجّر منه جميع أنهارها .

قال البيضاوي : روي عنه عليه السلام أنّه نهرٌ في الجنّة، وَعَدَنيه ربّي ، فيه خيرٌ كثير ، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافّتاه الزبرجد، وأوانيه من فضّةٍ، لا يظمأ من شرب منه . انتهى (1).

وقيل : الكوثر: الخير الكثير من العلم والعمل وشرف الدارين .

وقيل : أولاد النبيّ صلى الله عليه و آله وأتباعه، أو علماء اُمّته، أو القرآن .

وقيل : المشهور أنّه حوض في الجنّة، أو في خارجها . ويؤيّد الثاني أنّ جماعة يطردون منها، وهم لا يدخلون الجنّة، وهو فَوْعَل من الكثرة، والواو زائدة، ومعناه الخير الكثير (2).

(والمقام الأكبر) ؛ من مقام جميع الخلائق، حتّى الأنبياء والرُّسل .

(في جنّات عدن) .

قال الجوهري : «عَدَنْتُ البلد: توطّنته. وعدنت الإبل بمكان كذا: لزِمَتْهُ، فلم تبرح . ومنه: «جَنَّاتُ عَدْنٍ» أي جنّات إقامة» (3)

وقيل : جنّة عدن: اسم لمدينة في الجنّة، فيها جنان كثيرة، هي مسكن الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمّة العدل وسائر الناس في جنّات حواليها (4).

(يعيش أكرم معاش) (5).

في بعض النسخ: «أكرم من عاش» .

وقيل : كون عيشه أكرم؛ لكونه أكمل في القوّة النظريّة والعمليّة، والأعمال البدنيّة والقلبيّة، وحسن العيش تتفاوت بحسب تفاوتها (6).

ص: 384


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 536 (كثر)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 126 و 127
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2162 (عدن)
4- حكاه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 127
5- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله : «من عاش» بدل «معاش»
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 127

(ويُقبَض شهيدا) .

روى الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن جعفر بن محمّد ، عن عبداللّه بن ميمون القدّاح ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «سمّت اليهوديّة النبيّ صلى الله عليه و آله في ذراع، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحبّ الذراع، والكتف، ويكره الورك؛ لقربها من المَبال» . قال : «فلمّا اُوتي بالشواء أكل من الذراع، وكان يحبّها، فأكل ما شاء اللّه ». ثمّ قال الذراع : يا رسول اللّه ، إنّي مسموم ، فتركه، وما زال ينتفض به سمّهُ حتّى مات» (1).

وروى ابن شهرآشوب في كتاب المناقب : روي أنّه أكل من الشاة المسمومة مع النبيّ صلى الله عليه و آله بشر بن البراء بن معرور، ومات من ساعته ، ودخلت اُمّه على النبيّ صلى الله عليه و آله عند وفاته، فقال : «يا اُمّ بشر، ما زالت أكلة خيبر التي أكلتُ مع ابنك تعاودني، والآن قطعت أبهري» (2)

قال الجوهري : «الأبهر: عِرق إذا انقطع مات صاحبه» (3).

(له حوض) ؛ كأنّه الكوثر المذكور، أو غيره، بأن يراد بالكوثر المعاني الاُخر .

(أكبر) صفة «حوض»، والمفضّل عليه محذوف؛ أي أكبر الحياض .

(من بكّة إلى مطلع الشمس) صفة اُخرى؛ أي عرضه، أو طوله، أو سعته من بكّة إلى منتهى الأرض من جانب المشرق .

ويحتمل كون «من» صلة لأكبر؛ أي عرضه أكبر وأكثر من تلك المسافة . ويؤيّده ما وقع في الأمالي: «له حوض أبعد من مكّة إلى مطلع الشمس» .

وقال بعض الشارحين :

لم تبيّن أنّ هذا المقدار من جهة الطول، أو من جهة العرض، ولكن مرَّ في كتاب الحجّة في باب فرض الكون مع الأئمّة أنّه قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «عرضه ما بين صنعاء إلى أيلة» الحديث (4) فهذا يدلّ على أنّ المراد بالمقدار في هذا الخبر هو الطول، ولو جعل هذا أيضا تحديدا للعرض، وقع الاختلاف بينهما ، اللّهمَّ إلّا أن يُقال : المقصود منهما هو الكناية عن السعة، لا التقدير المحقّق (5).

ص: 385


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 127
2- بصائر الدرجات ، ص 503 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 17 ، ص 405 ، ح 26
3- المناقب ، ج 1 ، ص 92
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 598 (بهر)
5- الكافي ، ج 1 ، ص 209 ، ح 6

(من رحيق مختوم) أي من جنسه .

وفي النهاية : «الرحيق من أسماء الخمر ؛ يريد خمر الجنّة . والخمر المختوم: المصون الذي لم يبتذل لأجل خِتامه» (1).

(فيه آنية مثل نجوم السماء) .

الإناء _ بالكسر _ يجمع على الآنية، وهي تجمع على الأواني .

وقيل : الإناء يجمع عليهما جميعا، والتشبيه باعتبار كثرة العدد والصفاء، لا الجرم (2).

(وأكواب مثل مَدَر الأرض) .

قال الفيروزآبادي : «الكُوب، بالضمّ: كوز لا عروة له، أو لا خرطوم له . والجمع: أكواب» (3).

وقال : «المَدَر، محرّكة: قطع الطين اليابس. واحدته بهاء»(4).

والتشبيه باعتبار الكثرة أيضا .

(عَذب) .

في الصحاح: «العَذْب: الماء الطيّب» (5)

وفي القاموس: «العَذْب من الطعام والشراب: كلّ مستساغ» (6).

والظاهر أنّه صفة للحوض باعتبار مظروفه، واحتمال كونه صفة للرحيق بعيد . ويحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أو هو مبتدأ وخبره «فيه»، و«من» بيان له، والضمير المجرور راجع إلى الحوض .

(فيه من كلّ شراب) ؛ يعني من أشربة الجنّة .

ولعلّ المراد: فيه طعم كلّ شراب منها ، بقرينة ما بعده .

وقيل : فيه كلّ شراب بالمزج والتركيب . أو يكون في كلّ ناحية منه شراب خاصّ(7) .

(وطعم كلّ ثمار في الجنّة) ؛ يحتمل تعلّق الجارّ بكلّ من الطعم والشراب، وأن يجد الذائقة

ص: 386


1- النهاية ، ج 2 ، ص 208 (رحق)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 128
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 126 (كوب)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 131 (مدر)
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 178 (عذب)
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 101 (عذب)
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 128

تلك الطعوم مفردا أو مركّبا، وذلك الذي من فضائله وعطاياه .

(من قَسمي له، وتفضيلي إيّاه) على غيره من الأنبياء .

قال الجوهري : «القَسْمُ: مصدر قسمت الشيء، فانقسم . والقِسم، بالكسر: الحظّ والنصيب من الخير . قال يعقوب : يُقال : هو يَقسِم أمره قَسْما؛ أي يقدّره، وينظر فيه كيف يفعل» (1) وفي القاموس: «القَسْم: العطاء»(2).

وفي الإتيان ب «من» التبعيضيّة إشعار بأنّ قسمه تعالى وتفضّلاته إيّاه كثيرة، وما ذكر هنا بعضٌ منها .

(على فترةٍ بينك وبينه) .

قال الجوهري : «الفترة: الإنكسار، والضعف . والفَتْرة: ما بين الرسولين من رسل اللّه » (3).

وقوله : (يبدأهم به) ؛ لعلّ المراد يسبقهم بفعله .

في القاموس: «بدأ به _ كمنع _ ابتدأ . والشيء: فعله ابتداء» (4).

وقوله : (تَنقاد له البلاد) ؛ يعني أهلها .

والبلد والبلدة: كلّ قطعة من الأرض مستحيزة، عامرة أو غامرة .

(ويخضع له صاحب الروم) ؛ مع شوكته، وكثرة حَشَمه وجُنده .

وهذا من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ .

(على دين إبراهيم)؛ يعني هو على اُصول دينه وسننه الحنيفيّة .

وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنّه يخضع له صاحب الروم؛ لأنّه على دين إبراهيم، ينادي إلى الصلاة بالأذان والإقامة .

(كنداء الجَيش بالشعار) بالكسر .

قال ابن الأثير: «في الحديث : إنّ شعار أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله في الغزو : يا منصور، أمِتْ، أَمِتْ ؛ أي علامتهم التي كانوا يتعارفون بها في الحرب» (5).

ص: 387


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2010 (قسم) مع التلخيص
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 164 (قسم)
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 777 (فتر)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 7 (بدأ)
5- النهاية ، ج 2 ، ص 479 (شعر)

وفي المغرب: «الشِّعار: نداء في الحرب يُعرف أهلها به . ومنه أنّه صلى الله عليه و آله جعل شِعارهم يوم بَدر : يا نصر اللّه ، اقترب اقترب . ويوم اُحد : يا نصر اللّه ، اقترب» انتهى .

والظاهر أنّ التشبيه باعتبار أصل النداء الذي يُعرف ويمتاز صاحبه وأهلُه عن الغير .

وقيل : إنّما شبّه الأذان بالشعار؛ لأنّه أيضا شعار لمحاربة النفس والشيطان، وهي الجهاد الأكبر (1).

وقوله : (ويصفّ قدميه في الصلاة) .

يفهم من بعض الأخبار أنّ صفّ القدمين وضع إحداهما جنب الاُخرى، بحيث يكون البُعد بينهما قدر شبر، أو أربع أصابع مضمومة ، أو فِترٍ، وهو بالكسر: ما بين طرف الإبهام والسبّابة إذا فتحهما، ويكون رؤوس أصابعهما نحو القبلة .

(كما تصفّ الملائكة) ؛ بيان للواقع، وترغيب فيه .

(ويخشع لي قلبه ورأسه) ؛ كأنّ المراد بخشوع القلب _ كما قيل _ دوام ذكره، وانقياده، والاعتقاد بعجزه وحاجته . وبخشوع رأسه تطأمنه، أو خشوع لسانه، ودوام اشتغاله بالدعاء والذكر، أو خضوع قواه الباطنة؛ لأنّها في الرأس (2). وفي الأخيرين بُعد .

(النور في صدره) نور الإيقان، والعلم، والإيمان .

وقوله : (أصله يتيم) أي بلا أب، أو بلا نظير ، أو منفرد عن الخلق .

في القاموس: «اليُتم، بالضمّ: الانفراد، أو فقدان الأب ، ويُحرّك . وفي البهائم: فقدان الاُمّ .

واليتيم: الفرد، وكلّ شيء يعزّ نظيره.

وقد يتم _ كضرب وعلم _ يُتما، ويفتح، وهو يتيم» (3).

(ضالّ برهة من زمانه) .

قال الفيروزآبادي : «الضلال: ضدّ الهدى . والضَّلول: الضالّ، وكلّ شيء لا يهتدى له.

وضلّ هو عنّي . وضلّ يَضِلّ _ وتفتح الضاد _ ضَلالاً: ضاع، وخفي، وغاب. وفلانا: أنسيه. وضلّني: ذهب عنّي» (4).

ص: 388


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 336
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 129
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 193 (يتم)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 5 (ضلل) مع التلخيص

وقال : «البَرهة، وتضمّ: الزمان الطويل، أو أعمّ» (1).

(عمّا يُراد به) .

قيل : يعني أنّه فارغ غير مشتغل، ولا مشتهر في حين من زمان عمره، وهو ما قبل البعثة ، بما يُراد به بعد البعثة من إجراء أحكام دينه وحدوده، والاشتغال بهداية الناس، والجهاد مع الكفّار، وغير ذلك.

وهو مع كونه بيانا للواقع، تنبيه على عظم نعمائه تعالى عليه، حيث إنّه ربّاه من هذه الحالة إلى حالة خضعت له بها قلوب الخلائق وأعناق الجبابرة . انتهى (2)

وأقول : لعلّ المراد ب «عمّا يُراد به» الوحي، والبعثة، وما يتعلّق بهما، نظير قوله تعالى : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْاءِيمَانُ» الآية (3).

وروى الصدوق بإسناده عن الحسن بن الجهم، عن الرِّضا عليه السلام ، قال : «قال اللّه _ عزّ وجلّ _ لنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله : «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوى» (4). ؛ يقول : ألم يجدك وحيدا، فآوى إليك الناس .

«وَوَجَدَكَ ضَالّاً» ؛ يعني عند قومك، «فَهَدى» (5). أي هداهم إلى معرفتك . «وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنى» (6). ؛ يقول : أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا» (7).

وروى في العلل بإسناده عن ابن عبّاس، قال : سُئل عن قول اللّه : «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوى» ، قال : «إنّما سمّي يتيما؛ لأنّه لم يكن له نظير على وجه الأرض من الأوّلين والآخرين ، فقال _ عزّ وجلّ _ ممتنّا عليه: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما» أي وحيدا، لا نظير لك، «فَآوى» إليك الناس، وعرّفهم فضلك حتّى عرفوك، «وَوَجَدَكَ ضَالّاً» ؛ يقول : منسوبا عند قومك إلى الضلالة، فهداهم بمعرفتك، «وَوَجَدَكَ عَائِلاً» ؛ يقول : فقيرا عند قومك، يقولون: لا مال لك ، فأغناك اللّه بمال خديجة ، ثمّ زادك من فضله، فجعل دعاءك مستجابا حتّى لو دعوتَ على حجرٍ أن يجعله اللّه لك ذهبا، لنقل عينه إلى مرادك، وآتاك بالطعام حيث لا طعام، وآتاك بالماء حيث لا ماء، وأغاثك بالملائكة حيث لا مُغيث، فأظفرك بهم

ص: 389


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 281 (بره)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 130
3- الشورى (42) : 52
4- الضحى (93) : 6
5- الضحى (93) : 7
6- الضحى (93) : 8
7- عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 200 ، ح 1 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 78 ، ح 8

على أعدائك» (1).

وروى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن زرارة ، عن الإمامين عليهماالسلام في قول اللّه : «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوى» : «أي فآوى إليك الناس. «وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدى» أي هدى إليك قوما لا يعرفونك حتّى عرفوك . «وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنى» أي وجدك تعول أقواما، فأغناهم بعلمك» .

قال عليّ بن إبراهيم : «اليتيم: الذي لا مثَلَ له، ولذلك سمّيت الدرّة اليتيمة؛ لأنّه لا مَثَلَ لها ، ووجدك عائلاً فأغناك بالوحي، لا تسأل عن شيء أحدا ، «وَوَجَدَكَ ضَالّاً» في قوم لا يعرفون فضل نبوّتك، فهداهم اللّه بك» (2).

وقوله : (وعلى اُمّته تقوم الساعة) ؛ كناية عن ختم النبوّة به صلى الله عليه و آله .

(ويدي فوق أيديهم) .

قال بعض المفسّرين في تفسير قوله تعالى : «يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (3). :

أنّه من باب التخييل والتمثيل بما جرت به العادة من التصافق بالأيدي في المبايعات» .

وقيل : قوّة اللّه في نصرة الرسول فوق قوّتهم .

وقيل : هو من قوله صلى الله عليه و آله : «اليد العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى» . العليا: المعطية؛ أي اللّه معطيهم ما يكون له به الفضل عليهم .

وقيل : عَقْدُ اللّه في هذه البيعة فوق عَقْدِهم .

وقيل : ملك اللّه فوق ملكهم .

وقيل : يد اللّه بالوفاء فوق أيديهم .

وقيل : نِعم اللّه بما هداهم له فوق إجابتهم إلى ما أجابوا إليه من البيعة (4) (فمن نكث) أي نقض العهد، ولم يَفِ به .

وقيل : أي كفر . والنكث: نقض العهد. والنكث، بالكسر: المنكوث .

(فإنّما ينكث على نفسه) أي عليها وبال ذلك، ولا يعود ضرر نكثه إلّا عليه .

(ومن أوفى بما عاهد عليه) أي أتى به وافيا غير منتقص .

ص: 390


1- علل الشرائع ، ج 1 ، ص 130 ، ح 1 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 16 ، ص 141 ، ح 4
2- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 427 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 16 ، ص 142 ، ح 6
3- الفتح (48) : 10
4- تفسير مجمع البيان ، ج 9 ، ص 189 (مع اختلاف)

وقيل : ما عاهد عليه عبارة عن متابعته، والإيمان به، ونصرته (1).

وقوله : (ألّا يدرسوا كتبه) .

درس الرسمُ _ كنصر _ دروسا: عفى. ودرسته الريحُ درسا.

والضمير المجرور راجع إلى محمّد صلى الله عليه و آله . وجمع الكتب باعتبار القرآن، وكتب السنّة التي سمعوا منه وكتبوها. أو القرآن باعتبار اشتماله على سائر الكتب المنزلة .

وقيل : الجمع للتعظيم(2) ويحتمل أن يقرأ: «كَتْبه» على صيغة المصدر؛ أي كتابة اسمه في الإنجيل وغيره من كتب الأنبياء .

قال الجوهري : «الكتاب معروف، والجمع: كُتَب، وكُتُب. وقد كتبت كَتْبا وكِتابا وكِتابةً» (3).

وقوله : ([أن] يقرؤوه السلام) .

في القاموس: «قرأ: أبلغه، كأقرأه. ولا يُقال: أقرأه إلّا إذا كان السلام مكتوبا»(4).

(فإنّ له في المَقام) ؛ يعني عند اللّه ، وهو مقام القُرب، أو مقام النبوّة، أو مقام الكرامة، أو مقام الشفاعة، أو مقام القيامة .

قال الجوهري : المَقام والمُقام قد يكون كلّ واحدٍ منهما بمعنى الإقامة ، وقد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنّك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح ، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم؛ لأنّ الفعل إذا جاوز الثلاثة، فالموضع مضموم الميم (5).

(شأنا من الشأن) بالهمزة: الأمر، والحال.

والتنوين للتعظيم، و«من» للتبعيض .

وقوله : (فارتد لنفسك) ؛ من الارتياد، وهو الطلب؛ أي اطلب لنفسك ما هو خيرٌ لك ممّا يقرّبك منّي .

وقوله : (الدُّنيا حُلوة) .

الحُلْو، بالضمّ: نقيض المُرّ . وحَلِيَ فلان بعيني _ كعلم _ وفي عيني وبصري وفي صدري

ص: 391


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 130
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 130
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 208 (كتب)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 24 (قرأ)
5- الصحاح ، ج 5 ، ص 2017 (قوم)

حَلاوَةً، إذا أعجبك؛ يعني أنّ اغترار الناس بالدنيا وانخداعهم منها لحلاوة متاعها في نظرهم بادئ الرأي .

(وإنّما استعملتك) أي أعملتك، أو طلبت منك العمل للآخرة، ورغبت فيه .

(فيها) أي الدنيا .

(فجانب) أي باعد، واجتنب.

(منها) أي من أعمالها .

(ما حذّرتك) أي أمرتك بالتحرّز عنه .

وقوله : (عَفوا) أي ما تيسّر لك أخذه وبذله من غير أن يبلغ حدّ الجهد والمشقّة ، أو بغير مسألة . فهو على الأوّل متعلّق بالأخذ، وعلى الثاني بالإعطاء، مع احتمال تعلّقه بالأخذ أيضا . فتأمّل .

وقيل : أي فضلاً وإحسانا، أو حلالاً طيّبا (1).

في القاموس: «العَفْو: أصل المال، وأطيبه، وخيار الشيء، وأجوده ، والفضل، والمعروف.

وأعطيته عفوا؛ أي بغير مسألة» (2)

وقال الجوهري : «عفو المال: ما يفضل عن النفقة»(3).

ولا يبعد أن يُراد بالأخذ منها جعله زادا للآخرة، وصرفه في تحصيل أسباب النجاة فيها .

وقوله : (نظر العبد المذنب الخاطئ) ؛ يعني لا تخرج نفسك عن حدّ التقصير حين تنظر في عملك .

وقيل : أي كما أنّ ذلك العبد ينظر في ذنبه، ويتذلّل عند مولاه لعلّه يتجاوز عن تقصيره (4)

(ولا تنظر في عمل غيرك بمنزلة الريب (5) ) ؛ يعني بنظر الشكّ والتّهمة في صحّة عمله، أو كماله، وتقصيره فيه ، بل ينبغي أن تظنّ أنّه أتى به بقدر الوسع والطاقة .

ص: 392


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 12 ، ص 131
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 364 (عفو)
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2432 (عفو)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 131
5- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «الربّ»

وقيل : أي النظر في أعمال الغير ومحاسبتها شأن الربّ، لا شأن العبد(1) وهو كما ترى .

وفي بعض النسخ: «بمنزلة الربّ» .

في القاموس: «ربّ كلّ شيء: مالكه، ومستحقّه، أو صاحبه» (2).

وفي بعضها: «بمنزلة المربّي»، وكان من التربية، فَمآلُهُ مع النسخة السابقة واحد .

وقيل : إنّه من رباء _ مهموز اللّام _ معناه المتّهم له باعتقاد النقصان فيه .

قال الفيروزآبادي في المهموز اللام: «ربأهم ولهم، كمنع: صار ربيئة لهم؛ أي طليعة.

وَرابأته: حَذِرته، واتّقيته، وراقبته، وحارسته.

وربّأه تربئةً: أذهبه» (3).

(كن فيها) أي في النظرة، أو في تلك الحالة والمنزلة .

وقيل: في أعمال الغير، أو في الدنيا لظهورها بقرينة المقام (4) . ولا يخفى بُعد الثاني ، وأمّا الأوّل فإن كان بتقدير النظر في أعمال الغير ونحوه، فيرجع إلى ما ذكرنا، وإلّا فلا معنى للزهد في أعمال الغير .

والظرف متعلّق بقوله : (زاهدا) . يُقال : زَهِدَ فيه وعنه، إذا لم يرغب .

وقوله : (ولا ترغب فيها) ؛ كالتأكيد للزهد .

(فتعطب) .

العَطَب، بالتحريك: الهلاك، وفعله كعلم .

وقوله : (اعقل وتفكّر) .

العقل: الإدراك . والتفكّر: التأمّل . وعرّفوه بأنّه تردّد القلب بالنظر والتدبّر، وطلب معرفة الشيء وأوّله وآخره، وحسنه وقبحه، ونفعه وضرّه، وخيره وشرّه .

وقوله : (كلّ وصفي لك) أي تبييني وإيضاحي .

وقيل : كلّ ما بيّنته (5) وأصل الوصف: النعت .

(نصيحةً وموعظة) خالصة .

ص: 393


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 375
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 70 (ربب)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 15 (ربأ)
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 338
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه، ج 12 ، ص 132

(وكلّ قولي) أي مقولي، وإخباري .

(لك حقّ) مطابقٌ للواقع، لا يحوم حوله الشكّ والرَّيب .

وفيه تحريض بقبوله، والأخذ بموجبه .

(وأنا الحقّ المبين) .

قال صاحب العدّة : «الحقّ: المتحقّق كونه ووجوده، وكلّ شيء يصحّ وجوده وكونه فهو حقّ، كما يُقال : الجنّة حقّ كائنة، والنار حقّ كائنة» (1)

وقال: «المبين: الظاهر البيّن بآثار قدرته وآياته، المُظهِرُ حكمته بما أبان من تدبيره، وأوضح من بيانه» (2).

وقال الجوهري : «بانَ الشيء بيانا: اتّضح، فهو بَيِّنٌ. وكذلك أبانَ الشيء، فهو مبين.

وأبَنْتُهُ أنا؛ أي أوضحته» (3).

ويظهر منه أنّ المبين لازم متعدّ، فالتعريف الأوّل ناظر إلى الأوّل، والثاني إلى الثاني.

وفيه أيضا ترغيب باتّباع قوله، والأخذ بنُصحه .

(فحقّا أقول) ؛ يحتمل نصب «حقّا» بما بعده؛ أي أقول قولاً حقّا . ويحتمل نصبه على المصدريّة بتقدير الناصب له ؛ أي حقّ حقّا، أي ثبت، ووجب، ووقع بلا شكّ. أو من حقّه _ كمدّه _ إذا غلبه على الحقّ . أو من حقّ الطريق، إذا ركب حاقَّه؛ أي وسطه. أو من حَقَقتُ الأمر، إذا تحقّقته، وتيقّنته . أو من حققت فلانا؛ أي أتيته .

وعلى الأخير يحتمل نصبه على المفعوليّة . وعلى بعض الاحتمالات يحتمل أن يكون «أقول» صفة، أو جملة حاليّة، أو مستأنفة .

وقوله : (أنبأتك) أي أخبرتك، وأعلمتك .

وقوله : (وليّ) أي من يتولّى أمرك ويكفيك .

(ولا نصير) أي من ينصرك ويعاضدك .

وفي هذا الكلام وعيدٌ للعالم العامل بغير علمه بأنّ عقوبته أشدّ وأقوى من الجاهل .

ص: 394


1- عدّة الداعي ، ص 302
2- عدّة الداعي ، ص 310
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2083 (بين)

وقوله : (أذلّ قلبك بالخشية) .

قيل : أمر بالخشية؛ لأنّها تابعة للعلم باللّه ، وأنّها إذا حصلت لأحدٍ تبعثه على القيام بالعبوديّة ورعاية الأدب ، فهي أصل لقبول النصائح (1).

(وانظر إلى من أسفل منك) ؛ يعني بحبّ الدنيا؛ فإنّ ذلك يوجب سهولة الصبر على الفائت منها وشرائدها، ويورث الرضا بما أُعطي منها، وهو أصلٌ عظيم للرضا بالمقدّر، والزُّهد في زخارف الدُّنيا ، كما أنّ النظر إلى من هو أعلى منه بحسبها يوجب خلاف ذلك ، ولذا قال : (ولا تنظر إلى من [هو] فوقك) .

وقوله : (كلّ خطيئة أو ذنب) (2) .

الخطيئة: الذنب، أو ما يتعمّد منه، كالخِطأ _ بالكسر _ والخَطَأ: ما لم يتعمّد.

أو الخطيئة أعمّ من الذنب؛ لأنّ ترك الأولى وخلاف المروّة خطيئة، وليس بذنب.

أو الخطيئة كبائر الذنوب، والذنب صغائرها، أو بالعكس .

واحتمال كون الترديد من الراوي بعيد .

وقوله : (أطِبْ لي قلبك) أي اجعل قلبك طاهرة من الأخلاق الذميمة، والعقائد الباطلة، ومن حبّ الدُّنيا، وما يتعلّق بها لمحبّتي واستعداد معرفتي .

أو افعل ذلك خالصا لوجهي، ولا ترد به غيري .

وفي الأمالي : «أطب بي قلبك» . يُقال : طِبتُ به نفسا، أي طابت نفسي به، ورضيت عنه، وأحببته ؛ أي اجعل قلبك محبّا بي راضيا عنّي .

وقيل : أي كُن بي محبّا راضيا عنّي. وفيه ما فيه .

(وأكثر ذكري في الخلوات) ؛ لبُعده عن شائبة الرياء، وفراغ الحواسّ من التفرّق، والاشتغال بعلائق الدُّنيا ؛ ولأنّ الشيطان أكثر ما يهمّ الإنسان إذا كان وحده ، فذكره تعالى في هذه الحالة أهمّ .

(واعلم أنّ سروري أن تُبَصْبِصَ إليّ).

نسبة السرور إليه سبحانه باعتبار لازمه الذي هو الرضا والإحسان والإكرام . قال

ص: 395


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 132
2- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «وذنب»

الجوهري : «بَصْبَصَ الكلب، وتَبَصْبَصَ: حرّك ذنبه» (1)

وقال ابن الأثير : «يُقال : بصبص الكلب بذنبه، إذا حرّكه، وإنّما يفعل ذلك لخوفٍ أو طمع» (2).

(كُن في ذلك) أي فيما ذكر من الإطابة، وكثرة الذِّكر والبَصْبصة .

(حيّا، ولا تكن ميّتا) .

أُريد بالحياة كمال توجّه النفس إليه تعالى، والاشتغال به عن غيره ، وبالممات خلافه .

(ولا تغترّ بالنصيحة) .

قيل : أي لا تنخدع عن النفس والشيطان بترك النصيحة، أو لا تغفل بنصح غيرك عن نصح نفسك ، أو لا تعرّض نفسك للهَلكة بترك النصيحة (3)

وقيل : أي لا تغترّ بنصيحتي لك، وخطابي إيّاك، كما يغترّ جليس السلطان بخطابه، أو بعمل يعمله، ويعجب به (4).

وفي بعض نسخ الكتاب وفي الأمالي : «ولا تغترّ بالصحّة»، وهو أظهر .

(ولا تغبّط نفسك) .

في القاموس : الغِبطة، بالكسر: حسن الحال، والمسرّة، والحسد كالغبط. وقد غبطه _ كضربه وسمعه _ وتمنّى نعمة على أن لا تتحوّل عن صاحبها، فهو غابط . وفي الحديث : «اللّهمَّ غَبِطا لا هَبْطا»؛ أي نسألُك الغبطة، أو منزلة تغبط عليها . وفي الحديث : «إنّه جاؤوهم يصلّون، فجعل يغبّطهم» ، هكذا روي بالتشديد؛ أي يحملهم على الغبط ، ويجعل هذا الفعل عندهم ممّا يُغبَط عليه، وإن روي بالتخفيف، فيكون قد غبطهم لسبقهم إلى الصلاة . انتهى (5).

ولعلّ «تغبط» هنا بالتخيف، و«نفسك» بالرفع ؛ أي لا تكن نفسك غابطا طالبا لمنزلة تغبط

ص: 396


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1030 (بصص)
2- النهاية ، ج 1 ، ص 131 (بصص)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 339
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 133
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 375 و 376 (غبط) مع التلخيص واختلاف يسير

عليها بحبّ الدُّنيا. أو بالنصب؛ أي لا تجعل أنت نفسك كذلك .

ويحتمل أن يكون بالتشديد؛ أي لا تجعل نفسك في اُمور الدُّنيا بحيث يغبطها الناس، ولا تجعل نفسك بحيث تغبط الناس على ما في أيديهم وتحسدهم عليها . أو لا تجعل نفسك مسرورة متبهّجة بمتاع الدنيا .

(فإنّ الدُّنيا كفيء زائل) .

الفَيء: ما كان شمسا، فنسخه الظلّ . وتشبيه الدُّنيا به إمّا في سرعة الزوال والفناء، أو في أنّه ليس بشيء ثابت حقيقة ، أو في الاستظلال به قليلاً، ثمّ الارتحال عنه كالمسافر ، أو في أنّه يزول بالتدريج آنا فآنا، ويرى ساكنا.

وعلى التقادير الغرض منه التنفير عن الدنيا .

وكذا قوله : (وما أقبل منها كما أدبر) أي المستقبل منها كالماضي، زمانا كان أو زمانيّا، في عدم البقاء وسرعة الفناء، أو في عدم وجودك فيه .

(فنافس في الصالحات) .

الفاء فصيحة؛ أي إذا عرفت حال الدُّنيا في سرعة الزوال، وعدم إمكان التمتّع بها، فاغتنم زمانك الذي أنت فيه، وارغب في الأعمال الصالحة لدار البقاء .

(جُهدك) أي بقدر وسعك وطاقتك .

وقوله : (وإن قطعت) ؛ على صيغة المخاطب المجهول، من التقطيع، أو القطع . والأوّل أنسب بالمقام؛ لإفادته التأكيد والمبالغة .

وقوله : (ولا تكن مع الجاهلين) (1). الذين ركنوا إلى الدُّنيا وزخارفها الفانية، وأعرضوا عن العلم وأهله، وعن الآخرة ونعيمها الباقية .

وفي أكثر النسخ : «ولا تكوننّ من الجاهلين» ، والأوّل أليق بقوله: (فإنّ الشيء يكون مع الشيء) ؛ لعلّ المراد أنّ كلّ جنس يكون مع مجانسه، ويُعدّ منه ، فجليس الفاسق يُعدّ فاسقا، وإن كان صالحا، وبالعكس ، على أنّ الصحبة مُسرية .

وقيل : المراد أنّ لكلّ عمل جزاء (2).

ص: 397


1- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «ولا تكوننّ من الجاهلين»
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 340

وفي بعض النسخ: «السيّى ء» بالسين المهملة، وتشديد الياء، ثمّ الهمزة، في الموضعين .

وقوله : (واخشع لي بقلبك) .

الباء للتعدية، أو للآلة .

والخشوع: الخضوع، وفعله كمنع. أو قريب من الخضوع، وهو في البدن، والخشوع في الصوت والبَصَر. والخشوع أيضا: السكون، والتذلّل .

وقيل : خشوع القلب تفريغه عن غيره تعالى، وصرف الهمّة إلى جميع ما يتقرّب به، بحيث يوجب التذلّل والخوف من التقصير (1).

وقوله : (استغث بي) .

الباء زائدة، أو متعلّق بالاستغاثة بتضمين مثل معنى التوسّل . يُقال : استغاثني، فأغثته ؛ أي دعاني، واستعانني، واستنصرني في دفع الكرب ورفع الشدّة، فأجبته، فأنا مُغيث .

متن الحديث الرابع والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِذَا اسْتَقَرَّ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، يَفْقِدُونَكُمْ، فَلَا يَرَوْنَ مِنْكُمْ أَحَدا، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» (2). » قَالَ: «وَذلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ» (3). يَتَخَاصَمُونَ فِيكُمْ فِيمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا».

شرح الحديث

السند موثّق على الظاهر (4).

قوله : (يفقدونكم) .

يُقال : فقده _ كضربه _ فقدا وفِقدانا، إذا عدمه .

ص: 398


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 134
2- ص (38) : 63
3- ص (38) : 64
4- هذا ، واستضعفه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 342

وقوله تعالى : «مَا لَنَا لَا نَرى» الآية . مرَّ تفسيرها في الحديث السادس .

وقوله : (وذلك) أي قول بعضهم لبعض.

وكلمة «في» في الموضعين للتعليل . والمراد بما كانوا يقولون في الدُّنيا أنّهم من الأشرار .

متن الحديث الخامس والمائة (حديث إبليس لعنه اللّه )

اشارة

أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ:

قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكُمْ»؟

قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كُلٌّ.

قَالَ: «أَ تَدْرِي مِمَّ (1). ذَاكَ يَا يَعْقُوبُ»؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي جُعِلْتُ فِدَاكَ.

قَالَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ؛ وَأَمَرَهُمْ، فَأَطَاعُوهُ؛ وَدَعَاكُمْ، فَلَمْ تُجِيبُوهُ؛ وَأَمَرَكُمْ، فَلَمْ تُطِيعُوهُ، فَأَغْرى بِكُمُ النَّاسَ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله عليه السلام : (من أشدّ الناس عليكم) .

المراد بالناس المخالفون ؛ أي أيّهم أشدّ عداوةً لكم، أو أشدّ ضررا ؟

وقوله : (كلّ) .

التنوين عوض عن المضاف إليه ؛ أي كلّ أهل الخلاف في غاية الشدّة ونهاية الإضرار والعداوة، حتّى لا يمكن ترجيح بعضهم في ذلك على بعض .

وقوله : (دعاهم) ؛ يعني إلى إنكار الولاية .

(وأمرهم) بطاعة أهل الضلالة والغواية .

وقوله : (فلم تجيبوه) ؛ يعني فيما دعاكم إليه من إنكار الولاية بحكم المقابلة ، فلا تغفل .

ص: 399


1- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها : «ممّا»

وقوله : (فأغرى بكم الناس) .

يُقال : أغريت الكلب بالصيد، إذا أولَعته .

وأغريت بهم العداوة، أي ألقيتها .

متن الحديث السادس والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«إِذَا رَأَى الرَّجُلُ مَا يَكْرَهُ فِي مَنَامِهِ، فَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ شِقِّهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ نَائِما، وَلْيَقُلْ: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئا إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ» (1) ، ثُمَّ لْيَقُلْ: عُذْتُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللّهِ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَنْبِيَاؤُهُ الْمُرْسَلُونَ، وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ، مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتُ، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (ما يكره) أي ما يخوّفه، ويشوّش خاطره، ويسوؤهُ .

قيل : لعلّ أمره بالتحوّل ليتمّ تيقّظه ، وللتفأّل بتحوّل الرؤيا عن تأويلها المكروه، وأنّها لا تضرّ (2).

وقوله : (عن شقّه) .

قال الجوهري : «الشِّقّ، بالكسر: نصف الشيء . والشِّقّ أيضا: الناحية» (3).

وقوله تعالى : «إِنَّمَا النَّجْوى» .

قال البيضاوي :

أي النجوى بالإثم والعدوان . «مِنْ الشَّيْطَانِ» ؛ فإنّه المزيّن لها، والحامل عليها . «لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» بتوهّمهم. «وَلَيْسَ» الشيطان، أو التناجي «بِضَارِّهِمْ» : بضارّين للمؤمنين. «شَيْئا إِلَا بِإِذْنِ اللّهِ» ؛ إلّا بمشيئته.

ص: 400


1- المجادلة (58) : 10
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 135
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1502 (شقق)

«وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ» ولا يبالون بنجواه . انتهى (1).

ويظهر من ذكر هذه الآية في هذا المقام، وممّا سيأتي من خبر عليّ بن إبراهيم أنّ المراد بالنجوى إنّما هو الرؤيا الهائلة الموحشة .

ولعلّ إطلاق النجوى عليها؛ لأنّها مسارّة من الشيطان، وإذا قال ذلك أذهب اللّه عنه الفزع والمساءة ، وما دلّ عليه المنام، كما ورد: «أنّ الصدقة تدفع البلاء» (2). ، و«أنّ الدُّعاء يردّ القضاء، ينقضه كما يُنقض السِّلك، وقد اُبرِم إبراما» (3).

متن الحديث السابع والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَ (4) عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، جَمِيعا عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَنْصُورٍ الْعَبْدِيِّ (5) ، عَنْ أَبِي الْوَرْدِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لِفَاطِمَةَ عليهاالسلام فِي رُؤْيَاهَا الَّتِي رَأَتْهَا: قُولِي: أَعُوذُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللّهِ الْمُقَرَّبُونَ، وَأَنْبِيَاؤُهُ الْمُرْسَلُونَ، وَعِبَادُهُ الصَّالِحُونَ، مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي هذِهِ، أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ سُوءٌ أَوْ شَيْءٌ أَكْرَهُهُ. ثُمَّ انْقَلِبِي عَنْ يَسَارِكِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (في رؤياها التي رأتها) .

روى عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : «إِنَّمَا النَّجْوى مِنْ الشَّيْطَانِ» (6) الآية، بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «كان سبب نزول هذه الآية أنّ فاطمة عليهاالسلام رأت في منامها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله همَّ أن يخرج هو وفاطمة وعليّ والحسن والحسين _ صلوات اللّه عليهم _ من المدينة، فخرجوا حتّى جاوزوا من حيطان المدينة، فتعرّض لهم طريقان؛ فأخذ رسول

ص: 401


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، 311
2- دعائم الإسلام ، ج 2 ، ص 336 ؛ مكارم الأخلاق ، ص 419 ؛ وسائل الشيعة ، ج 2 ، ص 433 ، ح 2565
3- الكافي ، ج 2 ، ص 469 ، ح 1 ؛ مكارم الأخلاق ، ص 270 ؛ وسائل الشيعة ، ج 7 ، ص 36 ، ح 8646
4- في السند تحويل بعطف طبقتين على طبقتين
5- في وسائل الشيعة : «العبيدي»
6- المجادلة (58) : 10

اللّه صلى الله عليه و آله ذات اليمين، حتّى انتهى بهم إلى موضع فيه كلّ نخلٍ وماء، فاشترى رسول اللّه صلى الله عليه و آله شاة كبراء، وهي التي في أحد اُذنيها نقط بيض، فأمر بذبحها، فلمّا أكلوا ماتوا في مكانهم .

فانتبهت فاطمة باكية ذعرة، فلم تخبر رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك، فلمّا أصبحت جاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحمار، فأركب فاطمة عليهاالسلام، وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام من المدينة، كما رأت فاطمة في نومها .

فلمّا خرجوا من حيطان المدينة، عرض لهم طريقان؛ فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذات اليمين _ كما رأت فاطمة _ حتّى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء، فاشترى رسول اللّه صلى الله عليه و آله شاة _ كما رأت فاطمة عليهاالسلام_ فأمر بذبحها، فذبحت، وشويت، فلمّا أرادوا أكلها، قامت فاطمة، وتنحّت ناحية منهم، تبكي مخافة أن يموتوا، فطلبها رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى وقف عليها وهي تبكي، فقال : ما شأنك يا بُنيّة؟

قالت : يارسول اللّه ، رأيت [البارحة] كذا وكذا في نومي، وقد فعلت أنت كما رأيته، فتنحّيت عنكم، فلا أراكم تموتون .

فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فصلّى ركعتين، ثمّ ناجى ربّه، فنزل عليه جبريل، فقال : يا محمّد، هذا شيطانٌ يُقال له: الدها (1) ، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا، ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمّون به، فأمر جبرئيل، فجاء به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال له : أنت أريتَ فاطمة هذه الرؤيا؟

فقال : نعم يا محمّد، فبزق عليه ثلاث بزقات، فشجّه في ثلاث مواضع .

ثمّ قال جبرئيل لمحمّد صلى الله عليه و آله : قل يا محمّد ، إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه، أو رأى أحدٌ من المؤمنين، فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة اللّه المقرّبون، وأنبياء اللّه المرسلون، وعباده الصالحون، من شرّ ما رأيت من رؤياي. ويقرأ الحمد، والمعوّذتين، و«قل هو اللّه أحد»، ويتفل عن يساره ثلاث تفلات؛ فإنّه لا يضرّه ما رأى . وأنزل اللّه على رسوله : «إِنَّمَا النَّجْوى مِنْ الشَّيْطَانِ» الآية» (2).

وقوله : (سوء أو شيء أكرهه) ؛ كأنّ الثاني أعمّ من الأوّل.

ص: 402


1- في المصدر : «الزها» . وفيه عن بعض النسخ : «الرها»
2- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 355 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 58 ، ص 187 ، ح 53

واحتمال كون الترديد من الراوي بعيد .

قال الفيروزآبادي : «ساءهُ سَوْأً وسُوءا: فَعَلَ به ما يكره» (1).

وقال : «الكَرْه، ويضمّ: الإباء، والمشقّة. أو بالضمّ: ما أكرهت نفسك عليه. وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. كَرِهَهُ _ كسمعه _ كَرْها _ ويضمّ _ وكَراهةً وكراهِية ومكرَهَة، وتضمّ راؤه» (2).

وقوله : (ثمّ انقلبي عن يسارك ثلاث مرّات) .

في كثير من النسخ المصحّحة: «على» بدل «عن».

قيل: لعلّ المراد الانقلاب عن اليمين إلى اليسار ثلاث مرّات، بأن ينقلب أوّلاً إلى اليسار، ثمّ إلى اليمين، ثمّ إلى اليسار، وهكذا (3).

ويحتمل أن يكون متعلّقا بالقول فقط ؛ أي بقوله ثلاث مرّات ، ثمّ ينقلب .

وقيل : المراد أنّه ينقلب شيئا فشيئا، وقليلاً قليلاً عن اليمين إلى اليسار، إلى ثلاث دفعات .

وقال بعض الشارحين :

انقلبي، من الانقلاب في النسخ التي رأيناها، وفيه : أنّ الانقلاب إنّما هو عن الشقّ الذي وقع النوم عليه _ كما مرّ _ لا عن اليسار، إلّا إذا ثبت أنّها عليهاالسلام كانت تنام على اليسار. وهو كما ترى .

والظاهر أنّه تصحيف «اتفلي» بالتاء المثنّاة الفوقانيّة، والفاء من التفل، وهو شبيه بالبزق . وقد تَفَل يتفُل .

ويؤيّده ما روي من طريق العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : «الرؤيا الصالحة من اللّه ، فإذا رأى أحدكم ما يحبّ، فلا يحدّث بها إلّا مَن يحبّ . وإذا رأى ما يكره، فليتفُل عن يساره ثلاثا، وليتعوّذ باللّه من شرّ الشيطان وشرّها، ولا يحدِّث بها [أحدا]؛ فإنّها لا تضرّه» (4).

ص: 403


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 18 (سوء)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 291 (كره)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 343
4- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 303 ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 124 ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 52 ؛ السنن الكبرى ، ج 6 ، ص 223 ؛ كنزالعمّال ، ج 15 ، ص 372 ، ح 41431

ولهم روايات كثيرة في هذا المعنى، إلّا أنّ في بعضها: «فلينفث». وفي بعضها: «فليبصق». والتفل والنفث والبصق بمعنى واحد، والتفاوت بالقلّة والكثرة، كما يفهم من كلام الجوهري. وكون ذلك على اليسار؛ لأنّها محلّ الشيطان والأقذار . وقيل : يحتمل أن يجعل اللّه ذلك التفل ممّا يطرد به الشيطان ويبعده . انتهى .

وأنت خبير بأنّ الإشكال الذي أورده مندفع بما نقلناه أوّلاً من الاحتمال ، على أنّ هذا الإشكال على تقدير وروده إنّما يرد على نسخة «عن» دون «على»، كما لا يخفى .

متن الحديث الثامن والمائة (حديث محاسبة النفس)

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، جَمِيعا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ:

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّهُ شَيْئا إِلَا أَعْطَاهُ، فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَلَا يَكُونُ لَهُ رَجَاءٌ إِلَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، فَإِذَا عَلِمَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ذلِكَ مِنْ قَلْبِهِ، لَمْ يَسْأَلْهُ شَيْئا إِلَا أَعْطَاهُ؛ فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ لِلْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفا، كُلُّ مَوْقِفٍ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ».

ثُمَّ تَلَا: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ (1) أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ» (2)

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (فحاسبوا أنفسكم) .

قال بعض الأفاضل :

جعل اللّه العقل والنفس تاجرين شريكين في التجارة للآخرة ، وجعل العمر رأس المال، والطاعة والقُرب ودخول الجنّة ربحها ، والمعصية والبُعد والخلود في النار خسرانها ، وجعل العقل لاتّصافه بالأمانة أميرا رقيبا حاكما على النفس الأمّارة؛ لاتّصافها بالخيانة، ولذلك خاطبه بقوله : «بك اُثيب، وبك اُعاقب» .

ص: 404


1- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي وشرح المازندراني : + «خمسين»
2- السجدة (32) : 5

وجعل النفس تابعة له في تلك [التجارة]؛ لأنّه يستعين بها وبقواها الباطنة والظاهرة التي هي بمنزلة الخدم لها في تلك التجارة، كما يستعين التاجر الدنيوي بشريكه، ثمّ يحاسبه اللّه تعالى لكونه الشريك الأعظم في مواقف القيامة التي هي موقف المعرفة وموقف الإيمان وموقف الرسالة وموقف الولاية، وموقف غيرها من الحقوق والطاعات .

فوجب على العقل أن يحاسب النفس في أوان التجارة؛ ليأمن من خيانتها، ويجعلها مطمئنّة، ويسهّل له الحساب في مواقف القيامة، أو يتخلّص منه .

وحقيقة تلك المحاسبة أن يضبط عليها أعمالها وحركاتها وسكناتها وخطراتها ولحظاتها، ولا يغفل عن مراقبتها، ويصرفها إلى الخيرات، ويزجرها عن المنهيّات، ويعاتبها، ويجاهدها، ويعاقبها؛ فإن رأى أنّها مالت إلى كسب معصية، أو ترك طاعة، يوبّخها بأنّ ذلك من الحمق والجهل باللّه وبأمر الآخرة، وبعقوباتها وخسرانها، ويجاهدها حتّى ترجع عنه إلى الخير، وهكذا يفعل بها في حال جميع الاكتسابات، حتّى تصير منقادة مطمئنّة، تصلح أن تخاطب ب «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً» (1) ، وقوله تعالى في سورة المعارج : «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرا جَمِيلاً» (2). (3).

وفي بعض نسخ الكتاب: «خمسين ألف سنة ممّا تعدّون» . ولعلّه كان في مصحفهم عليهم السلام كذلك، أو بيان للمدّة، أو اشتباه من الرواة، أو النسّاخ .

قال البيضاوي : الآية استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج، وبعد مداها على التمثيل والتخييل ، والمعنى أنّها بحيث لو قدّر قطعها في زمان، لكان في زمان يُقدّر بخمسين ألف سنة من سني الدُّنيا .

وقيل : معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه في يوم كان مقداره كمقدار خمسين ألف سنة من حيث إنّهم يقطعون فيه ما يقطع الإنسان فيها، لو فرض لا أنّ ما بين أسفل العالم وأعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة؛ لأنّ ما بين مركز

ص: 405


1- الفجر (89) : 27 و 28
2- المعارج (70) : 4
3- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 136 و 137

الأرض ومقعر السماء الدُّنيا _ على ما قيل _ مسيرة خمسمائة عام ، وثخن كلّ واحد من السماوات السبع والكرسيّ والعرش كذلك، وحيث قال: «كَاَنَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» ، يريد به زمان عروجهم من الأرض إلى محدب السماء الدنيا .

وقيل : «فِي يَوْمٍ» متعلّق بواقع، أو «سأل»، إذا جعل من السيلان . والمراد به يوم القيامة، واستطالته؛ إمّا لشدّته على الكفّار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات . أو لأنّه على الحقيقة كذلك . انتهى (1) وأقول : هذا الخبر صريح بأنّ المراد به يوم القيامة، وأنّ مقدار خمسين ألف سنة، وحينئذٍ ينافي ظاهر قوله تعالى في سورة الحجّ : «وَإِنَّ يَوْما عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (2) ، وقوله في سورة السجدة : «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (3) ، وقوله في حديث عيسى عليه السلام : «واعبدني ليومٍ كألف سنة ممّا تعدّون» (4).

ويمكن الدفع عن الآية الثانية بأنّه تحديد لمسافة العروج، كما أشار إليه البيضاوي ، وعن الآية الاُولى والحديث بأنّه تحديد لأيّام الآخرة مطلقا ، وخمسون سنة ليوم القيامة . واللّه أعلم .

ودفع بعض المحقّقين هذه المنافاة بأنّ يوم الآخرة وسنيها أمرٌ موهوم . وقال : بيانه أنّ أيّام الآخرة لا يمكن حملها على حقيقتها؛ إذ اليوم المعهود عبارة عن زمان طلوع الشمس إلى مغيبها، وبعد خراب العالم _ على ما نطقت به الشريعة _ لا يبقى ذلك ، فتعيّن حمل اليوم على مجازه، وهو الزمان المقدّر بحسب الوهم القايس لأحوال الآخرة بأحوال الدنيا وأيّامها، إقامة لما بالقوّة مقام ما بالفعل، وكذلك السنة .

وحينئذٍ قوله تعالى : «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» ، وفي موضع آخر : «مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ» إشارة إلى الأزمنة الموهومة؛ لشدّة أهوال الآخرة وضعفها، وطولها وقصرها، وسرعة حساب بعضهم، وخفّة ظهره، وثقل أوزار قوم آخرين، وطول حسابهم، كما روي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ

ص: 406


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 387
2- الحجّ (22) : 47
3- السجدة (32) : 5
4- الكافي ، ج 8 ، ص 134 ، ح 103 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 7 ، ص 128 ، ح 10

أَلْفَ سَنَةٍ» ، قال : «هو يوم القيامة ؛ جعل اللّه على الكافرين مقداره خمسين ألف سنه ، وأراد أنّ أهل الموقف لشدّة أهوالهم يستطيلون بقاءهم فيها، وشدّتها عليهم، حتّى تكون في قوّة ذلك المقدار» .

وعن أبي سعيد الخدري، قال : قيل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ؛ ما طول هذا اليوم ؟ قال : «والذي نفسي بيده، إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» .

وهذا يدلّ على أنّها يومٌ موهوم، وإلّا لما تفاوت في الطول والقصر إلى هذه الغاية (1).

متن الحديث التاسع والمائة

اشارة

متن الحديث التاسع والمائةوَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَنْ كَانَ مُسَافِرا فَلْيُسَافِرْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلَوْ أَنَّ حَجَرا زَالَ عَنْ جَبَلٍ يَوْمَ السَّبْتِ، لَرَدَّهُ اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ إِلى مَوْضِعِهِ، وَمَنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْحَوَائِجُ، فَلْيَلْتَمِسْ طَلَبَهَا يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ؛ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أَلَانَ اللّهُ فِيهِ الْحَدِيدَ لِدَاوُدَ عليه السلام ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (من كان مسافرا) أي متهيّأً للسفر مريدا له .

وقد اشتهر إطلاق الفعل وإرادة مباديه، كما قيل في قوله تعالى : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ» (2) أنّ المراد: إذا أردتم القيام عليها .

وفي القاموس : «يوم الثلاثاء، بالمدّ، ويضمّ» (3).

وقوله : (ألآن اللّه [فيه] الحديد لداود عليه السلام ) أي جعله في يده كالشمع، يصرفه كيف يشاء من غير نار وإحماء واستعمال آلة، وأعطاه قوّة في هذا التصرّف .

ص: 407


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 137 و 138
2- المائدة (5) : 6
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 163 (ثلث)

متن الحديث العاشر والمائة

اشارة

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَثَلُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَامُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مَثَلُ السَّهْمِ فِي الْقُرْبِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَا مَوْضِعُ قَدَمِهِ، كَالسَّهْمِ فِي الْكِنَانَةِ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزُولَ هَاهُنَا وَلَا هَاهُنَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (مثل السهم في القرب) .

يحتمل كونه بالضمّ ؛ أي قرب بعضهم من بعض . أو بضمّتين، جمع قِراب _ بالكسر _ ككتب وكتاب ، وحُمُر وحمار. وقِراب السيف: جَفْنه، وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده وحِمالته، اُريد به هنا وعاء السهم مجازا . والقِراب أيضا: مقاربة الأمر .

وفي بعض النسخ: «في القَرن» . قال الجزري : «القَرَن، بالتحريك: جعبة من جلود تشقّ، ويُجعل فيها النُشّاب. ومنه الحديث : الناس يوم القيامة كالنبل في القَرن؛ أي مجتمعون مثلها» (1).

وقال الجوهري : «القَرَن، بالتحريك: الجعبة . قال الأصمعي : القَرَن: جعبة من جلود تكون مشقوقة، ثمّ تخرز، وإنّما تشقّ كي تصل الريح إلى الريش، فلا يفسد» (2).

وقوله : (ليس له ...) بيان للمثل .

والضمير إلى كلّ أحدٍ مفهوم من الناس .

وقوله : (في الكنانة) .

في القاموس : «كنانة السِّهام: جعبة من جلد لا خشب فيها، أو بالعكس» (3).

متن الحديث الحادي عشر والمائة

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، عَنْ حَفْصٍ، قَالَ:

رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَتَخَلَّلُ بَسَاتِينَ الْكُوفَةِ، فَانْتَهى إِلى نَخْلَةٍ، فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ،

ص: 408


1- النهاية : ج 4 ، ص 55 (قرن)
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2180 (قرن)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 264 (كنن)

فَأَحْصَيْتُ فِي سُجُودِهِ خَمْسَمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ، ثُمَّ اسْتَنَدَ إِلَى النَّخْلَةِ، فَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا حَفْصٍ، إِنَّهَا وَاللّهِ النَّخْلَةُ الَّتِي قَالَ اللّهُ _ جَلَّ وَعَزَّ _ لِمَرْيَمَ عليه السلام : «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيًّا» (1) ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (يتخلّل بساتين الكوفة) أي يسير خلالها، ويدخل بين أشجارها .

و«بساتين» جمع بُستان _ بالضمّ _ معرّب «بوستان» .

وقوله : (فأحصيت في سجوده) أي عَدَدت في كلّ سجدة، أو في جميعها . والأوّل أظهر .

وقوله : (إنّها) إلى قوله : (الذي) (2) أي الجذع الذي .

وفي بعض النسخ: «النخلة التي» بدل «الذي»، وهو أظهر .

وقوله : «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» .

الجذع، بالكسر: ما بين العِرق والغصن من النخل .

وقال البيضاوي : الهزّ: التحريك بجذب أو دفع ؛ أي أميليه إليك . والباء مزيدة للتأكيد، أو افعلي الهزّ والإمالة به، أو هُزّي الثمرة بهزّة .

«تُسَاقِطْ عَلَيْكِ» . أصله: «تتساقط»، فاُدغمت التاء الثانية في السين .

وقرأ حفص: «تُساقِط» من ساقط بمعنى أسقط. «رُطَبا جَنِيّا» تميز، أو مفعول .

روي أنّها كانت نخلة يابسة، لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاءً، فهزّتها، فجعل اللّه تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا، وتسليتها بذلك؛ لما فيه من المعجزات الدالّة على براءة ساحتها ؛ فإنّ مثلها لا يتصوّر لمن يرتكب الفواحش ، والمنبّهة لمن رآها على أنّ من قدر أنْ يُثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل، وأنّه ليس ببدع من شأنها .

انتهى (3).

وقال الجوهري : «جنبت الثمرة أجنيها جنيا واجتنيتها بمعنى . وثمرٌ جنيّ _ على فعيل _

ص: 409


1- مريم (19) : 25
2- في المتن الذي أثبته الشارح رحمه الله سابقا : «التي»
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 11 و 12 (مع تلخيص واختلاف يسير)

حين جنى» (1)

قيل : هذا الخبر مؤيّد لما ورد في الأخبار من [أنّ] عيسى عليه السلام ولد بشاطئ الفرات، وما اشتهر بين المؤرِّخين من كون سكناها في بيت المقدس، لا ينافي ذلك؛ لجواز أن يكون أجائها اللّه عند المخاض إلى هذا المكان بطيّ الأرض، ثمّ أرجعها إلى بيت المقدس (2).

وأقول : المشهور بين المؤرِّخين أنّه عليه السلام ولد في موضع يُقال له: «بيت اللحم» على بُعد فرسخين من بيت المقدس ، فقول هذا القائل لا ينافي ذلك خطأ ، فالتعويل في ذلك على الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة صلوات اللّه عليهم .

متن الحديث الثاني عشر والمائة

اشارة

حَفْصٌ، (3) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«قَالَ عِيسى عليه السلام : اشْتَدَّتْ مَؤُونَةُ الدُّنْيَا وَمَؤُونَةُ الْاخِرَةِ؛ أَمَّا مَؤُونَةُ الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ لَا تَمُدُّ يَدَكَ إِلى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَا وَجَدْتَ فَاجِرا قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَؤُونَةُ الْاخِرَةِ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ أَعْوَانا يُعِينُونَكَ عَلَيْهَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

والمؤونة: الثقل. وشاع إطلاقه على القوت .

قال الجوهري :

المؤونة، تُهمز ولا تُهمز، وهي فَعُولة . قال الفرّاء: هي مفعلة من الأين، وهو الخُرج، والعِدْل؛ لأنّها ثقل على الإنسان .

قال الخليل : «لو كان مَفعلة لكان بيّنة . وعند الأخفش يجوز أن تكون مفعلة» (4).

ص: 410


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2305 (جني)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول، ج 25، ص344
3- السند معلّق على الأسناد الثلاثة السابقة ، ويروي عن حفص ، عليّ بن إبراهيم عن أبيه وعليّ بن إبراهيم بن محمّد ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمان المنقري
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2198 (مأن)

وقال : «فجر فجورا: فسق، وكذب، أصله: الميل . والفاجر: المائل» (1)

وفي القاموس : «الفاجر: المتموّل» (2).

متن الحديث الثالث عشر والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ شَكَا حَاجَتَهُ وَضُرَّهُ إِلى كَافِرٍ، أَوْ إِلى مَنْ يُخَالِفُهُ عَلى دِينِهِ، فَكَأَنَّمَا شَكَا اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلى عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللّهِ؛ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُؤْمِنٍ شَكَا حَاجَتَهُ وَضُرَّهُ إِلى مُؤْمِنٍ مِثْلِهِ، كَانَتْ شَكْوَاهُ إِلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

شرح الحديث

شرحالسند مجهول .

قوله : (شكا حاجته وضُرّه) إلى آخره .

الضرّ _ بالضمّ والفتح _ ضدّ النفع ، والشدّة، والضرر، وسوء الحال. أو بالفتح: مصدر، وبالضمّ: اسم المضارّة.

والشكوى _ بالقصر وبالتنوين _ مصدر قولهم : شكا أمره إلى اللّه ، وشكوت فلانا، إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك .

وفي هذا الخبر دلالة على جواز الشكاية إلى المؤمن .

وقيل : تركه أولى مطلقا .

متن الحديث الرابع عشر والمائة

اشارة

ابْنُ مَحْبُوبٍ (3) ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَوْحى إِلى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليه السلام : أَنَّ آيَةَ مَوْتِكَ أَنَّ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يُقَالُ لَهَا: الْخُرْنُوبَةُ».

ص: 411


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 778 (فجر)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 107 (فجر)
3- السند معلّق على سابقه ، والراوي عن ابن محبوب هو محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد

قَالَ: «فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ يَوْما، فَإِذَا الشَّجَرَةُ الْخُرْنُوبَةُ قَدْ طَلَعَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتِ: الْخُرْنُوبَةُ».

قَالَ: «فَوَلّى سُلَيْمَانُ مُدْبِرا إِلى مِحْرَابِهِ، فَقَامَ فِيهِ مُتَّكِئا عَلى عَصَاهُ، فَقُبِضَ رُوحُهُ مِنْ سَاعَتِهِ».

قَالَ: «فَجَعَلَتِ الْجِنُّ وَالْاءِنْسُ يَخْدُمُونَهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي أَمْرِهِ كَمَا كَانُوا، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ، وَهُوَ قَائِمٌ ثَابِتٌ حَتّى دَنَتِ (1).

الْأَرَضَةُ مِنْ عَصَاهُ، فَأَكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ، فَانْكَسَرَتْ، وَخَرَّ سُلَيْمَانُ إِلَى الْأَرْضِ: أَ فَلَا تَسْمَعُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ «فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» (2).

».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (الخُرنوبة) .

في القاموس : «الخرّوب، كتنّور، والخُرْنوب، وقد تفتح هذه : شجرة بريّة ذات شوك ذو حمل، كالتفّاح، لكنّه بَشِع ، وشامية ذات حمل كالخيار شَنْبَر، إلّا أنّه عريض، وله ربّ وسويق» (3).

وقال الجوهري : «الخرّوب: نبت معروف. والخُرنوب لغةً. ولا تقل: الخَرنوب بالفتح» (4).

وقوله : (حتّى دنت الأرضة) .

«دنت» من الدُنوّ .

وفي بعض النسخ: «دبّت» بالباء، من الدبيب، وهو المشي هُنيئة .

و«الأرضة» بالتحريك: دُويبة معروفة تأكل الخشب .

وفي بعض النسخ: «الأرض» وهو أيضا _ بالتحريك _ جمع أَرَضة .

وقوله : (مِنسأته) .

ص: 412


1- في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة: «دبّت»
2- سبأ (34) : 14
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 60 (خرب)
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 119 (خرب)

قال الفيروزآبادي في المهموز اللام: «نَسَأه، كمنعه: زجره، وساقه. والمِنْسأه، كمِكْنَسَة ومَرْتَبَة، ويُترك الهَمز فيهما: العصا؛ لأنّ الدابّة تُنسّأ بها» (1).

وقوله تعالى : «فَلَمَّا خَرَّ» من الخور، وهو السقوط.

«تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ» .

قال البيضاوي : أي علمت الجنّ بعد التباس الأمر عليهم.

«أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ» أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون، لعلموا موته حينما وقع، فلم يلبثوا حولاً في تسخيره إلى أن خرّ، أو حضرت الجنّ، وأنّ بما في حيّزه بدل منه ؛ أي ظهر أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب . انتهى (2) وقيل : أي علمته عامّة الجنّ وضعفاؤهم أنّ رؤساؤهم لا يعلمون الغيب (3).

وروى عليّ بن إبراهيم وغيره أنّ الآية نزلت هكذا: «تبيّنت الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»، وذلك أنّ الإنس كانوا يقولون: إنّ الجنّ يعلمون الغيب، فلمّا سقط سليمان على وجهه علم الإنس أن لو كان الجنّ يعلمون الغيب لم يعملوا سنةً لسليمان، وهو ميّت، ويتوهّمونه حيّا (4) وقال الزمخشري: في قراءة اُبيّ: «تبيّنت الإنس» ، وفي قراءة ابن مسعود: «تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب» (5).

متن الحديث الخامس عشر والمائة

اشارة

ابْنُ مَحْبُوبٍ (6). ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِذَا مَرُّوا بِرَسُولِ اللّهِ حَوْلَ الْبَيْتِ طَأْطَأَ أَحَدُهُمْ ظَهْرَهُ وَرَأْسَهُ هكَذَا، وَغَطّى رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ، لَا يَرَاهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ

ص: 413


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 30 (نسأ)
2- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 395
3- حكاه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 346
4- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 199 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 14 ، ص 139
5- الكشّاف ، ج 3 ، ص 283
6- السند معلّق كسابقه

صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» (1) ».

شرح الحديث

السند ضعيف (2).

قوله : (طأطأ أحدهم ظهره ورأسه) أي حَنى وعطف ظهره، وخفض رأسه .

وقوله : (هكذا) إشارة إلى صورة فعله .

والظاهر أنّ قوله : (وغطّى رأسه بثوبه) من كلام أبي جعفر عليه السلام ، والمستتر في «غطّى» راجع إلى أحدهم .

وقوله : (لا يراه) تعليل للطأطأة والتغطية .

(فأنزل اللّه عزّ وجلّ) في سورة هود : «أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ» .

قال الجوهري : «ثنيت الشيء ثنيا: عطفته. وثناه؛ أي كفّه. وثنيته أيضا: صرفته عن حاجته» (3).

وقال البيضاوي : أي يثنونها عن الحقّ، وينحرفون عنه، أو يعطفونها على الكفر وعداوة النبيّ، أو يولون ظهورهم. «لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ» من اللّه بسرّهم، فلا يُطلِعُ رسوله والمؤمنون عليه .

قيل : إنّها نزلت في طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وطوينا صدورنا على عداوة محمّد، كيف يعلم؟

وقيل : نزلت في المنافقين . وفيه نظر ؛ إذ الآية مكّيّة، والنفاق حدث بالمدينة .

«أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ» أي حين يأوون إلى فراشهم، ويتغطّون بثيابهم .

«يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ» في قلوبهم .

«وَمَا يُعْلِنُونَ» بأفواههم، يستوي في عِلمه سرّهم وعَلَنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه؟ (4).

ص: 414


1- هود (11) : 5
2- هذا ، واستحسنه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 346
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2294 (ثني)
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، 220 و 221 (مع التلخيص)

متن الحديث السادس عشر والمائة

اشارة

ابْنُ مَحْبُوبٍ (1) ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ سَلَامِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ خَلَقَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ النَّارَ، وَخَلَقَ الطَّاعَةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَعْصِيَةَ، وَخَلَقَ الرَّحْمَةَ قَبْلَ الْغَضَبِ، وَخَلَقَ الْخَيْرَ قَبْلَ الشَّرِّ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَخَلَقَ الْحَيَاةَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَخَلَقَ الشَّمْسَ قَبْلَ الْقَمَرِ، وَخَلَقَ النُّورَ قَبْلَ الظُّلْمَةِ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (خلق الجنّة) إلى آخره .

أصل الخلق التقدير، كما صرّح به أهل اللّغة .

قال الجوهري : «الخلق: التقدير. يُقال: خلقت الأديم، إذا قدّرته قبل القطع» (2).

ويظهر منه أنّ استعماله في الإيجاد والتكوين، أو الإبداع والاختراع مجاز . فلعلّ المراد أنّه تعالى قدّر الاُمور المتقدّمة أن تكون متقدّمة، والاُمور المتأخّرة أن تكون متأخّرة.

فلا يرد الإشكال بتعلّق الخلق بالموت، ولا يحتاج إلى التوجيه بأنّ المراد بخلق الشرّ خلق ما يترتّب عليه شرّ، وإن كان إيجاده خيرا وصلاحا .

وقيل : لعلّ تعلّق التقدير أوّلاً بالاُمور المتقدّمة باعتبار أنّها أشرف ، وهذا ظاهر في غير الأرض والسماء .

قال : ويمكن أن يُقال: الأرض أيضا أشرف من حيث إنّها مهد للإنسان أمواتا وأحياءً، ومعبد للأنبياء والأوصياء والصلحاء، وفيها معاشهم ، والسماء مخلوقة لأجلهم، كما دلّ عليه ظاهر الآيات والروايات .

ثمّ الترتيب بين التقديرات المتقدّمة، وكذا بين التقديرات المتأخّرة غير ظاهر ، ولا يستفاد من هذا الحديث؛ لأنّ الواو لمطلق الجمع، والتقديم الذكري غير مفيد (3).

ص: 415


1- السند كسابقه
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 147 (خلق)
3- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 141

متن الحديث السابع عشر والمائة

اشارة

عَنْهُ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ اللّهَ خَلَقَ الْخَيْرَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ الشَّرَّ قَبْلَ الْخَيْرِ، وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالْاءِثْنَيْنِ خَلَقَ الْأَرَضِينَ، وَخَلَقَ أَقْوَاتَهَا فِي يَوْمِ الثَّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ أَقْوَاتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَذلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ» (2).».

شرح الحديث

السند صحيح .

وضمير «عنه» راجع إلى ابن محبوب .

قوله : (خلق الخير يوم الأحد، وما كان ليخلق الشرّ قبل الخير» .

المراد أنّ ابتداء الخلق يوم الأحد؛ إذ مقتضى خيريّته تعالى أن لا يقدّم خلق الشرّ على خلق الخير، وابتداء خلق الخير إنّما كان يوم الأحد، فلم يخلق قبله شيء ، فثبت أنّ ابتداء الخلق فيه .

وقيل : يمكن أن يُراد بالخير هنا الجنّة، وبالشرّ النار ، وقد فسّر الخير والشرّ بهما بعض المحقّقين ، وأن يراد بالخلق هنا التكوين؛ إذ لا مانع منه ؛ ويؤيّده قوله : «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» ؛ إذ الظاهر من الخلق فيه التكوين والإيجاد (3).

وقوله : (وخلق أقواتها) .

لعلّ المراد أقوات أهلها، بأن عيّن لكلّ نوع ما يصلحه، ويعيش به، أو ما ينتفع به حيّ.

وأصل القوت ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام ؛ يُقال : قات أهله يقوتهم قيتا _ بالفتح _ وقياتةً، والاسم: القوت، بالضمّ .

وقيل : أي أقواتا تنشأ منها، بأن خصّ حدوث كلّ قوت بقطر من أقطارها .

ص: 416


1- الضمير راجع إلى ابن محبوب
2- الفرقان (25) : 59 : السجدة (32) : 4
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 142 و 143

وقيل : هي المطر .

وقيل : خلق النبات والثمار والحبوب التي هي أقوات الحيوانات، أو يكون الخلق بمعنى التقدير؛ أي جعلها مهيّأةً، لأن ينبت منها أرزاق العباد .

ولعلّ المراد بأقوات السماوات أسبابها المقدّرة فيها لأهل الأرض، كالمطر ونحوه، والإضافة لأدنى ملابسة (1). وكونها بتقدير «في» محتمل بعيد .

وأورد بعض الشارحين هنا سؤالاً، وهو أنّ أيّام الاُسبوع وأسماؤها إنّما تحقّقت بعد خلق السماوات والأرضين، فكيف تكون قبلها؟

وأجاب بأنّ هذه الأيّام كانت في علم اللّه تعالى، فنزّل العلم منزلة المعلوم، أو نزّل الزمان الموهوم بمنزلة الموجود، فأجرى عليه حكمه (2) . وسيجيء لهذا زيادة تحقيق .

وقوله : (وذلك) أي ما ذكر من خلق الأجسام والأجرام في تلك الأيّام .

(قول اللّه عزّ وجلّ) في سورة فرقان : «خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» .

قال البيضاوي : أي في ستّة أوقات، كقوله : «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» (3) ، أو في مقدار ستّة أيّام؛ فإنّ المتعارف من اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن حينئذٍ، وفي خلق الأشياء مدرّجا مع القدرة على إيجادها دفعةً دليل للاختيار، واعتبار للنظّار، وحثّ على التأنّي في الاُمور. انتهى (4).

واعلم أنّ هاهنا إشكالٌ يحتاج دفعه إلى تمهيد مقدّمة .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ» : (5).

أي في مقدار يومين، أو نوبتين، وخلق في كلّ نوبة ما خلق في أسرع ما يكون . ولعلّ المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، ومن خلقها في يومين أنّه خلق لها أصلاً مشتركا، ثمّ خلق لها صورا بها صارت أنواعا، وكفرهم به إلحادهم في ذاته وصفاته.

ص: 417


1- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 143
2- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 143
3- الأنفال (8) : 16
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 25
5- فصّلت (41): 9

«وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ» (1) ؛ في تتمّة أربعة أيّام، كقولك : سرتُ من البصرة إلى بغداد في عشر، وإلى الكوفة في خمس عشر . ولعلّه قال ذلك، ولم يقل: في يومين؛ للإشعار باتّصالهما باليومين الأوّلين، والتصريح على الفَذْلَكة.

«سَوَاءً» أي استوت سواء بمعنى استواء ، والجملة صفة الأيّام، وتدلّ عليه قراءة يعقوب بالجرّ .

وقيل : حال من الضمير في «أقواتها»، أو في «فيها» . وقرئ بالرفع على هي «سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ» متعلّق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدّة خلوّ الأرض وما فيها، أو بِ«قدّر»؛ أي قُدّر فيها الأقوات للطالبين لها .

«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ» . قصد نحوها من قولهم : استوى إلى مكان كذا، إذا توجّه إليها توجّها لا يلوي على غيره .

والظاهر أنّ «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقتين، لا للتراخي في المدّة؛ لقوله : «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا» ، ودحوها متقدّم على خلق الجبال من فوقها.

«وَهِيَ دُخَانٌ» ؛ أمر ظلماني . ولعلّه أراد به مادّتها، أو الأجزاء المتصغّرة التي كتب منها.

«فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ» ، فخلقهنّ خلقا إبداعيّا، وأتقن أمرهنّ .

والضمير للسماء على المعنى، أو مبهم . و«سبع سماوات» حال على الأوّل، وتميز على الثاني.

«فِي يَوْمَيْنِ» (2) . قيل : خُلِق السماوات في يوم الخميس، والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة . انتهى (3).

إذا عرفت هذا، فنقول : مدلول هذا الخبر ينافي ظاهر الآية من جهتين :

الاُولى : أنّ ظاهرها أنّ خلق أقوات الأرض وتقديرها كان في يومين . وهذا الخبر يدلّ على أنّه خلق أقوات الأرض في يوم، وأقوات السماء في يوم .

ص: 418


1- فصّلت (41) : 9 و 10
2- فصّلت (41) : 11 و 12
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 107 - 109 (مع التلخيص)

الثانية : أنّ ظاهر الآية يدلّ على تقدّم يومي خلق الأقوات على يومي خلق السماوات . والخبر يدلّ على تأخّر أحد يومي خلق الأقوات عنهما .

وقال بعض المحقّقين :

يمكن أن يجاب عن الاُولى : بأنّ المراد بخلق أقوات السماء خلق أسباب أقوات أهل الأرض، الكائنة في السماء من المطر والثلج، والألواح التي يقدّر فيها الأقوات، والملائكة الموكّلين بها .

ويؤيّده أن ليس لأهل السماء قوت وطعام وشراب ؛ ففي يوم واحد قدّر الأسباب الأرضيّة لأقوات أهل الأرض ، وفي يوم آخر قدّر الأسباب السماويّة لها .

وفي الآية نسبهما إلى الأرض؛ لكونهما لأهلها . وفي الخبر فصّل ذلك لبيان اختلاف موضع التقديرين .

وعن الثانية بنحو ما ذكره البيضاوي بأن لا تكون لفظة «ثمّ» للترتيب والتراخي في المدّة .

ثمّ قال :

ومن غرائب ما سنح لي أنّي لمّا كتبت شرح هذا الخبر اضطجعت، فرأيت فيما يرى النائم أنّي أتفكّر في هذه الآية، فخطر ببالي في تلك الحالة أنّه يحتمل أن يكون المراد بأربعة أيّام تمامها، لا تتمّتها، ويكون خلق السماوات أيضا من جملة تقرير أرزاق أهل الأرض؛ فإنّها من جملة الأسباب، ومحالّ بعض الأسباب كالملائكة العاملة، والألواح المنقوشة، والشمس والقمر والنجوم المؤثّرة بكيفيّاتها، كالحرارة والبرودة في الثمار والنباتات .

وتكون لفظة «ثمّ» في قوله تعالى : «ثُمَّ اسْتَوى» للترتيب في الإخبار لتفصيل ذلك الإجمال بأنّ يومين من تلك الأيّام الأربعة كانا مصروفين في خلق السماوات، والآخرين في خلق سائر الأسباب .

وبه يندفع الإشكالان . انتهى (1).

ثمّ اعلم أنّه يستفاد من هذا الخبر من الآيات الدالّة على خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام أنّ الزمان ليس مقدار حركة الفلك _ على ما زعمت الفلاسفة _ وإلّا فلا معنى للتقدير بالأيّام قبل وجود الفلك.

ص: 419


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 350 و 351

وما قيل من أنّ مناط تمايز الأيّام إنّما هو حركة الفلك الأعلى دون السماوات السبع، والمخلوق في الأيّام المتمايزة إنّما هو السماوات السبع والأرض، وما بينهما دون ما فوقهما، ولا يلزم من ذلك خللاً لتقدّم الماء الذي خلق منه الجميع على الجميع، ففيه أنّه يخالف اُصول الفلاسفة من وجوهٍ شتّى، وهل هو إلّا كالجمع بين المتناقضين، كما لا يخفى على من له أدنى درية في فنونهم .

متن الحديث الثامن عشر والمائة

اشارة

ابْنُ مَحْبُوبٍ (1).

، عَنْ حَنَانٍ وَعَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ:

قُلْتُ لَهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «لاَ?قْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَاتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» ؟ (2).

قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «يَا زُرَارَةُ، إِنَّهُ إِنَّمَا صَمَدَ (3) لَكَ وَلأصْحَابِكَ، فَأَمَّا الْاخَرُونَ فَقَدْ فَرَغَ مِنْهُمْ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله تعالى في سورة الأعراف : «لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ» .

قال البيضاوي : ترصّدا بهم كما يقعد القطّاع للسابلة . « صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» ؛ هو طريق الإسلام، ونصبه على الظرف .

وقيل : تقديره: على صراطك، كقولهم : ضُرِب زيدٌ الظهر والبطن .

«ثُمَّ لَاتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» ؛ من جميع الجهات الأربع ؛ مثّل قصدَه إيّاهم بالتسويل والإضلال من أيّ وجه يمكنه بإتيان العدوّ من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل: من فوقهم، ومن تحت أرجلهم .

ص: 420


1- السند معلّق كسوابقه
2- الأعراف (7) : 16 و 17
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «عمد»

وقيل : لم يقل: من فوقهم؛ لأنّ الرحمة تنزل منه . ولم يقل: من تحتهم؛ لأنّ الإتيان منه يوحش .

وعن ابن عبّاس : « «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ» ، من قبل الآخرة . «وَمِنْ خَلْفِهِمْ» من قبل الدُّنيا . «وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ» من جهة حسناتهم وسيّئاتهم» .

ويحتمل أن يُقال : من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرّز منه، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسّر لهم أن يعملوا ويتحرّزوا ، ولكن لم يفعلوا لعدم تيقّظهم واحتياطهم، وإنّما عدّى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء؛ لأنّه منهما متوجّه إليهم، وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة؛ فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم، المارّ على عَرْضهم، ونظيره قولهم : «جلست عن يمينه» .

«وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرينَ» مطيعين.

فإنّما قاله ظنّا لقوله : «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ» (1) ؛ لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا، ومبدأ الخير واحدا .

وقيل : سمعه من الملائكة (2).

وقوله : (إنّما صمد) أي قصد بذلك الإضلال .

(لك ولأصحابك) ؛ يعني الشيعة .

(فأمّا الآخرون) ؛ من الكفّار وأهل الخلاف .

(فقد فرغ منهم) أي من إضلالهم؛ لأنّه ذهب أوّلاً بإضاعة الإيمان منهم، فلا يُبالي بأعمالهم كائنا ما كان؛ لعدم انتفاعهم بها مع عدم الإيمان .

متن الحديث التاسع عشر والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ جَمِيعا، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ بَدْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْخَثْعَمِيِّ، قَالَ:دَخَلَ يَحْيَى بْنُ سَابُورَ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام لِيُوَدِّعَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «أَمَا وَاللّهِ، إِنَّكُمْ

ص: 421


1- سبأ (34) : 20
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 9 - 11

لَعَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّ مَنْ خَالَفَكُمْ لَعَلى غَيْرِ الْحَقِّ، وَاللّهِ مَا أَشُكُّ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُقِرَّ اللّهُ بأَعْيُنِكُمْ إلى (1).

قَرِيبٍ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (يقرّ اللّه بأعينكم) .

في القاموس : «قرّت تقرّ _ بالكسر والفتح _ قرّة، ويضمّ، وقُرورا: بردت، وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوّقة إليه . وأقرَّ اللّه عينه وبعينه» (2).

وقوله : (إلى قريب) ؛ يعني عند الموت، أو عند ظهور دولة الحقّ .

متن الحديث العشرين والمائة

اشارة

يَحْيَى الْحَلَبِيُّ (3) ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:

قُلْتُ لَهُ: (4) جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَ رَأَيْتَ الرَّادَّ عَلَيَّ هذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ كَالرَّادِّ عَلَيْكُمْ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ هذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ كَالرَّادِّ عَلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَعَلَى اللّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ الْمَيِّتَ مِنْكُمْ عَلى هذَا الْأَمْرِ شَهِيدٌ».

قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ مَاتَ (5) عَلى فِرَاشِهِ؟

قَالَ: «إِي وَاللّهِ، وَإِنْ مَاتَ عَلى فِرَاشِهِ، حَيٌّ عِنْدَ رَبِّهِ يُرْزَقُ».

شرح الحديث

السند صحيح على المشهور .

ص: 422


1- . في كلتا الطبعتين وبعض النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «لأعينكم عن» بدل «بأعينكم إلى» . وفي شرح المازندراني والوافي : «لأعينكم إلى»
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 115 (قرر)
3- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن الحلبي ، محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد عن النضر بن سويد
4- في كلتا الطبعتين : - «له»
5- في الطبعة الجديدة وجميع النسخ التي قوبلت فيها والوافي وشرح المازندراني : - «وإن مات»

قوله: (الرادّ عليَّ هذا الأمر) ؛ يعني أمر الولاية .

في القاموس : «ردّ عليهم: لم يقبله، وخطّأهُ» (1).

وقوله : (شهيد) .

في القاموس : الشهيد، ويكسر شينه: القتيل في سبيل اللّه ؛ لأنّ ملائكة الرحمة تشهده، أو لأنّ اللّه تعالى وملائكته شهود له بالجنّة ، أو لأنّه ممّن يُستشهد يوم القيامة على الاُمم الخالية ، أو لأنّه حيٌّ عند ربّه حاضر ، أو لأنّه يشهد ملكوت اللّه وملكه . انتهى (2).

ولعلّ المراد هنا من له ثواب الشهيد . وهذا أنسب بقوله : (على فراشه) ؛ وبقوله : (حيٌّ عند ربّه يُرزق) ؛ فإنّه إشارة إلى ثمرة الشهادة في قوله تعالى : «بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (3). ويؤيّده أيضا ما سيأتي من خبر المالك الجهني .

متن الحديث الواحد والعشرين والمائة

اشارة

يَحْيَى الْحَلَبِيُّ (4) ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْكَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «أَمَا وَاللّهِ، مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكُمْ، وَإِنَّ النَّاسَ سَلَكُوا سُبُلاً شَتّى؛ فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِرَأْيِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتَّبَعَ الرِّوَايَةَ، وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ بِأَمْرٍ لَهُ أَصْلٌ، فَعَلَيْكُمْ بِالْوَرَعِ وَالأْتِهَادِ، وَاشْهَدُوا الْجَنَائِزَ، وَعُودُوا الْمَرْضى، وَاحْضُرُوا مَعَ قَوْمِكُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ؛ أَ مَا يَسْتَحْيِي الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَنْ يَعْرِفَ جَارُهُ حَقَّهُ، وَلَا يَعْرِفَ حَقَّ جَارِهِ؟!»

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (أحبّ إليّ) ؛ كأنّ بناء التفضيل على فرض المحبّة في المفضّل عليه .

وقوله : (وإنّ الناس) ؛ يعني أهل الخلاف، أو الكفّار أيضا .

(سلكوا سُبُلاً شتّى) أي متفرّقة خارجة عن سبيل الهدى .

ص: 423


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 294 (ردد)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 305 (شهد)
3- آل عمران (3) : 169
4- السند كسابقه

في القاموس : «الشتت: المُفرَّق المشتّت.

وقومٌ شتّى؛ أي فِرَقا من غير قبيلة» (1) . ويفهم منه أنّ شتّى جمع شتت، كجرحى وجريح، وأسرى وأسير .

(فمنهم من أخذ برأيه) .

الباء للتعدية، أو زائدة . أو المراد من أخذ اُمور دينه برأيه وعقله وتدبيره، لا بما أنزل اللّه .

(ومنهم من اتّبع هواه) .

الهوى، بالقصر: هَوى النفس، وميله. وهَوِي _ بالكسر _ يَهْوي هَوىً: أحبّ . هذا هو الأصل، ثمّ استعمل في ميل النفس إلى مشتهياتها ومخاطرتها .

ولعلّ المراد به هنا ما يجعلونه أهل الخلاف أصلاً لاستنباط الأحكام الشرعيّة، كالقياس ونحوه .

(ومنهم من اتّبع الرواية)؛ كأنّ المراد اتّباع ظاهر الرواية من تحقيق للمراد وتصحيح للمأخذ .

(وإنّكم أخذتم بأمر له أصل) ؛ لعلّ المراد بالأمر الدِّين، وبالأصل حافظه المنصوب من قبل اللّه ، المنصوص من قبل رسوله .

وقيل : يمكن أن يُراد بالأمر ولاية الأئمّة، وبالأصل النصّ بها (2).

(فعليكم بالورع) عن المحرّمات.

(والاجتهاد) في العبادات .

والظاهر أنّ الفاء فصيحة. وفيه إشعار بكون الورع والاجتهاد متمّما لذلك الأمر .

(واشهدَوا الجنائز) مطلقا .

(وعودوا المرضى) كذلك.

العَود: زيارة المريض، كالعياد، والعيادة .

وقوله : (أن يعرف جاره) ؛ موافقا كان، أو مخالفا .

ص: 424


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 151 (شتت)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 146

متن الحديث الثاني والعشرين والمائة

اشارة

عَنْهُ (1) ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ:

قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «يَا مَالِكُ، أَ مَا تَرْضَوْنَ أَنْ تُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَتَكُفُّوا، وَتَدْخُلُوا الْجَنَّةَ؟

يَا مَالِكُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ ائْتَمُّوا بِإِمَامٍ فِي الدُّنْيَا إِلَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْعَنُهُمْ وَيَلْعَنُونَهُ إِلَا أَنْتُمْ، وَمَنْ كَانَ عَلى مِثْلِ حَالِكُمْ.

يَا مَالِكُ، إِنَّ الْمَيِّتَ _ وَاللّهِ _ مِنْكُمْ عَلى هذَا الْأَمْرِ لَشَهِيدٌ بِمَنْزِلَةِ الضَّارِبِ بِسَيْفِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (وتكفّوا) أي عن الناس بالتقيّة، أو ألسنتكم وأنفسكم عمّا لا يليق من الأقوال والأعمال .

متن الحديث الثالث والعشرين والمائة

اشارة

يَحْيَى الْحَلَبِيُّ (2) ، عَنْ بَشِيرٍ الْكُنَاسِيِّ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «وَصَلْتُمْ وَقَطَعَ النَّاسُ، وَأَحْبَبْتُمْ وَأَبْغَضَ النَّاسُ، وَعَرَفْتُمْ وَأَنْكَرَ النَّاسُ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ إِنَّ اللّهَ اتَّخَذَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَبْدا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيّا، وَإِنَّ عَلِيّا عليه السلام كَانَ عَبْدا نَاصِحا لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَنَصَحَهُ، وَأَحَبَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَحَبَّهُ.

إِنَّ حَقَّنَا فِي كِتَابِ اللّهِ بَيِّنٌ، لَنَا صَفْوُ الْأَمْوَالِ، (3) وَلَنَا الْأَنْفَالُ، وَإِنَّا قَوْمٌ فَرَضَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ طَاعَتَنَا، وَإِنَّكُمْ تَأْتَمُّونَ بِمَنْ لَا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِهِ.

وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَنْ مَاتَ، وَلَيْسَ لَهُ (4) إِمَامٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، فَقَدْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَ عَلِيٍّ عليه السلام ».

ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: ادْعُوا لِي خَلِيلِي، فَأَرْسَلَتَا إِلى

ص: 425


1- رجوع الضمير إلى يحيى الحلبي أمر واضح
2- السند معلّق ، كالأسناد الثلاثة المتقدّمة
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «المال»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «عليه»

أَبَوَيْهِمَا، فَلَمَّا جَاءَا أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ(1).

ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي خَلِيلِي، فَقَالَا: قَدْ رَآنَا لَوْ أَرَادَنَا لَكَلَّمَنَا، فَأَرْسَلَتَا إِلى عَلِيٍّ عليه السلام ، فَلَمَّا جَاءَ أَكَبَّ عَلَيْهِ يُحَدِّثُهُ وَيُحَدِّثُهُ حَتّى إِذَا فَرَغَ لَقِيَاهُ، فَقَالَا: مَا حَدَّثَكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي بِأَلْفِ بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ يُفْتَحُ كُلُّ بَابٍ إِلى أَلْفِ بَابٍ».

شرح الحديث

السند مجهول .

وقيل : يمكن أن يعدّ حسنا؛ لدلالة هذا الخبر على مدح بشير (2).

والكناسة، بالضمّ: موضع بالكوفة .

قوله : (وصلتم) ؛ يعني بمن يجب وصلته .

وكذا قوله : (أحببتم) و(عرفتم) .

وقوله : (وهو الحقّ) ؛ كأنّ الضمير راجع إلى متعلّق المعرفة والإنكار، أو متعلّق بالوصل والقطع، والحبّ والبغض أيضا .

وقيل : لعلّ المراد أنّه تعالى هو الحقّ يحكم بينكم وبينهم (3).

(إنّ اللّه اتّخذ محمّدا صلى الله عليه و آله عبدا) موفيا بحقوق العبوديّة .

(قبل أن يتّخذه نبيّا) .

قيل : لعلّ الغرض منه هو التنبيه على أنّ العبوديّة هي الأصل المطلوب من كلّ أحد، ولا يتحقّق مع إنكار شيء من الحقوق، وأعظمها الولاية (4).

وقوله : (فنصحه) .

المستتر فيه راجع إلى اللّه ، والبارز إلى عليّ عليه السلام .

والناصح: الخالص من كلّ شيء .

ورجل ناصح: الحبيب، نقيّ القلب، لا غشّ فيه.

وفعله كمنع، ويعدّى بنفسه وباللّام .

ص: 426


1- قد كرّرت العبارة في النسخة والطبعة الجديدة من «ثمّ قال: ادعوا» إلى هنا
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 355
3- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 146
4- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 146

وقال الجوهري : «تعديته باللام أفصح»(1).

والغرض أنّ هذا الكمال الذي كان حاصلاً لنبيّنا صلى الله عليه و آله قبل بعثته ونبوّته من كمال العبوديّة، قد كان لعليّ عليه السلام ، وأنتم تولّيتم وأقررتم بولاية مَن كان كذلك، فبينكم وبين مخالفيكم بونٌ بعيد .

وقوله : (صفو الأموال) أي صفايا الغنيمة .

وصفو الشيء، بالفتح: خالصه .

والنَّفَل، محرّكة: الغنيمة، والهبة. والجمع: أنفال . وقد مرَّ تفسيرها وتفصيلها في أحاديث باب الفيء والأنفال من أبواب الاُصول .

وقوله : (لا يُعذر) ؛ على بناء المفعول .

وقوله : (ميتة جاهليّة) ؛ بكسر الميم .

قال الفيروزآبادي : «الميتة: ما لم تلحقه الذكاة. وبالكسر للنوع» (2).

وقوله : (عليكم بالطاعة) أي طاعة من يجب طاعته .

(فقد رأيتم) أي علمتم أحوال (أصحاب عليّ عليه السلام ) أي أصحابه المطيعين له ، والغرض الترغيب على الاُسوة بهم . أو أصحابه المخالفين له، فالغرض التحذير عن سلوك سبيلهم. أو الأعمّ منهما ، فالغرض أيضا أعمّ .

وقوله : (ادعوا لي خليلي) .

في القاموس : «الخَلّة: الصداقة المختصّة، لا خلل فيها . والخليل: الصادق، أو من أصفى المودّة» (3).

(فأرسلتا) أي عائشة وحفصة .

وقوله : (أكبّ عليه): أقبل، ولزم .

وقوله : (بألف باب من العلم) أي ألف نوع منه. أو ألف قاعدة [من القواعد] الكلّيّة التي تستنبط من كلّ قاعدة منها ألف قاعدة اُخرى .

ص: 427


1- اُنظر : الصحاح ، ج 1 ، ص 411 (نصح)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 158 (موت)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 370 (خلل)

متن الحديث الرابع والعشرين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُمَرَ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ:

قُلْتُ لِلرِّضَا عليه السلام : إِنَّ النَّاسَ رَوَوْا أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ إِذَا أَخَذَ فِي طَرِيقٍ رَجَعَ فِي غَيْرِهِ، فَهكَذَا كَانَ يَفْعَلُ؟

قَالَ: فَقَالَ: «نَعَمْ، فَأَنَا أَفْعَلُهُ كَثِيرا، فَافْعَلْهُ» ثُمَّ قَالَ لِي: «أَمَا إِنَّهُ أَرْزَقُ لَكَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

والنَّهد، بالفتح: قبيلة باليمن .

وهذا الخبر يدلّ على استحباب الرجوع في غير الطريق الذي ذهب فيه مطلقا، وأنّه أدخل في زيادة الرزق .

قيل : أو لأنّه تعالى جعل الرجوع على هذا النحو سببا لزيادة بالخاصّيّة، أو لأنّه جعل لكلّ قطعة من الأرض بركة وسببا لرزق عباده ، فربّما يكون في طريق آخر بركة لم تكن في الأوّل .

أو لأنّ الأرض تفرح بمشي المؤمن على ظهرها، فيدعو له الطريق الآخر في الخير والبركة، كما دعا له الأوّل، فيوجب ذلك زيادة الرزق له .

أو لأنّ الراجع قد يجد في الآخر من الرزق ما لم يوجد في الأوّل (1).

متن الحديث الخامس والعشرين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (2) ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ عليه السلام ، قَالَ:

ص: 428


1- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 148
2- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن سهل ، عدّة من أصحابنا

قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، الرَّجُلُ مِنْ إِخْوَانِي يَبْلُغُنِي عَنْهُ الشَّيْءُ الَّذِي أَكْرَهُهُ، فَأَسْأَلُهُ عَنْ ذلِكَ، فَيُنْكِرُ ذلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي عَنْهُ قَوْمٌ ثِقَاتٌ؟

فَقَالَ لِي: «يَا مُحَمَّدُ، كَذِّبْ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ عَنْ أَخِيكَ؛ فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ خَمْسُونَ قَسَامَةً، وَقَالَ لَكَ قَوْلاً، فَصَدِّقْهُ، وَكَذِّبْهُمْ، لَا تُذِيعَنَّ عَلَيْهِ شَيْئا تَشِينُهُ بِهِ، وَتَهْدِمُ بِهِ مُرُوءَتَهُ، فَتَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللّهُ فِي كِتَابِهِ: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» »(1).

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (كذّب سمعك وبصرك عن أخيك) .

يُقال : كذّب فلانا، إذا جعله كاذبا. وعن أمرٍ قد أراده: كفّ. وعن فلان: ردّ عنه .

وقوله : (خمسون قَسامة) .

قال الجوهري : «أقسمت: حلفت. وأصله من القسامة، وهي الأيمان ، تقسم على الأولياء في الدم» (2).

وفي القاموس : «القَسامة: الهُدنة بين العدوّ والمسلمين. الجمع: قَسامات، والجماعة يُقسِمون على الشيء ويأخذونه، أو يشهدون» انتهى (3).

والمراد هنا المعنى الأخير .

(وقال لك قولاً) أي قال ذلك الأخ لك قولاً بخلاف قول القَسامة .

(فصدّقه، وكذّبهم) أي اجعل ذلك الأخ صادقا في قوله ، والقَسامة كاذبين فيما ادّعوا عليه .

ولعلّ هذا الحكم مختصّ بالاُمور التي يتعلّق بنفس المخاطب، كالتُّهمة، والغيبة، والشتم، ونحوها، فإذا أنكرها المنسوب إليه، أو لم يعلم إقراره ولا إنكاره وجب عليه أن لا يؤاخذه بما بلغه عنه . وقيل : يحتمل التعميم أيضا؛ فإنّ الثبوت عند الحاكم بعدلين، أو أربعة، وإجراء الحدّ عليه لا ينافي أن يكون غير الحاكم مكلّفا باستتار ما يثبت عنده من أخيه من الفسوق التي

ص: 429


1- النور (24) : 19
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 2010 (قسم)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 165 (قسم)

كان مستترا بها (1).

وقيل : لعلّ المراد بتصديقه تصديقه ظاهرا، والإغماض عنه، وعدم المؤاخذة به، والإذاعة عليه، لا الحكم بأنّه صادق في نفس الأمر؛ لأنّه قد يحصل العلم بخلاف ذلك من الشهود، خصوصا مع أيمانهم، أو بالإبصار، أو بالاستماع منه .

وهذا إن صدرت منه زلّات بالنسبة إليك ، وأمّا إن صدرت منه بالنسبة إلى اللّه تعالى، أو إلى أحدٍ غيرك، فربّما وجب بذلك أداء الشهادة عليه عند الحاكم، وإن لم يجز لك تعييره، وإذاعة عثراته بين الناس (2) (لا تديعنّ (3).

) من الادّعاء .

في القاموس : «ادّعى عليه كذا: زعم له حقّا، أو باطلاً» (4).

وفي بعض النسخ : «لا تذيعنّ» من الإذاعة، وهي الإفشاء .

(عليه شيئا تَشينه به) أي عيبا تعيبه به .

والشين: ضدّ الزين .

(وتَهدم به مروءته) .

قال الجوهري : «المُروءة: الإنسانيّة، ولك أن تشدّد» (5).

وقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ» .

قال البيضاوي : «أي يريدون .

«أَنْ تَشِيعَ» : أن تنتشر «الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» بالحدّ والسعير إلى غير ذلك »(6) وفي القاموس : «الفاحشة: الزنا، وما يشتدّ قبحه من الذنوب، وكلّ ما نهى اللّه _ عزّ وجلّ _ عنه»(7) .

متن الحديث السادس والعشرين والمائة (حديث من ولد في الإسلام)

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (8) ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْحُبَابِ بْنِ مُوسى، عَنْ أَبِي

ص: 430


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 357
2- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 148
3- . في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «لا تُذيعنّ»
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 328 (دعو)
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 72 (مرء)
6- الصحاح ، ج 1 ، ص 72 (مرء)
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 282 (فحش)
8- السند معلّق كسابقه

جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«مَنْ وُلِدَ فِي الْاءِسْلَامِ حُرّا، فَهُوَ عَرَبِيٌّ؛ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ، فَخُفِرَ فِي عَهْدِهِ، فَهُوَ مَوْلًى لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ وَمَنْ دَخَلَ فِي الْاءِسْلَامِ طَوْعا، فَهُوَ مُهَاجِرٌ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (مَن وُلد في الإسلام حُرّا) ؛ المراد به الإيمان .

(فهو عربيّ) .

قال بعض الأفاضل :

المقصود أنّ الأخبار الواردة في مدح العرب تشتمل كلّ من ولد في الإسلام حُرّا، وكان على دين الحقّ، ولو كان من العجم لورود كثير من الأخبار أنّهم يُحشرون بلسان العرب ، وأنّ من كان على غير دين الحقّ يُحشر بلسان العجم وإن كان من العرب (1).

وقيل : لعلّ المراد بالعرب محمّد صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه سيّد العرب ، والنسب صوريّ ومعنويّ .

وبعبارة اُخرى : جسمانيّ وروحانيّ ، والمراد بهذا النسب النسب المعنويّ الروحاني .

وسيجيء أنّ النسب الذي يصلح التفاخر به هو الإسلام (2).

(ومن كان له عهد) أي أمان .

(فخُفر) على بناء المفعول .

(في عهده، فهو مولى لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ) .

في المصباح : «المولى: الحليف، وهو المعاهد. والمولى أيضا: الناصر، من الولاية، بالفتح والكسر» (3).

وقال الجزري : «خفرت الرجل: أجرته، وحفظته . وخفرته، إذا كنت له خفيرا ؛ أي حاميا وكفيلاً . والخفارة، بالكسر والضمّ: الذمام . وأخفرت الرجل، إذا نقضتَ عهده» (4).

ص: 431


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 357
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 149
3- المصباح المنير ، ص 672 (ولي)
4- النهاية ، ج 2 ، ص 52 (خفر)

متن الحديث التاسع والعشرين والمائة

اشارة

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، قَالَ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : مَا خَلَقَ اللّهُ _ جَلَّ وَعَزَّ _ خَلْقا إِلَا وَقَدْ أَمَّرَ عَلَيْهِ آخَرَ يَغْلِبُهُ فِيهِ، وَذلِكَ أَنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَمَّا خَلَقَ الْبِحَارَ السُّفْلى، فَخَرَتْ، وَزَخَرَتْ، وَقَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الْأَرْضَ، فَسَطَحَهَا عَلى ظَهْرِهَا، فَذَلَّتْ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْأَرْضَ فَخَرَتْ، وَقَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الْجِبَالَ، فَأَثْبَتَهَا عَلى ظَهْرِهَا أَوْتَادا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِمَا عَلَيْهَا، فَذَلَّتِ الْأَرْضُ، وَاسْتَقَرَّتْ، ثُمَّ إِنَّ الْجِبَالَ فَخَرَتْ عَلَى الْأَرْضِ، فَشَمَخَتْ، وَاسْتَطَالَتْ، وَقَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الْحَدِيدَ، فَقَطَعَهَا، فَقَرَّتِ الْجِبَالُ، وَذَلَّتْ.

ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيدَ فَخَرَتْ عَلَى الْجِبَالِ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ النَّارَ، فَأَذَابَتِ الْحَدِيدَ، فَذَلَّ الْحَدِيدُ.

ثُمَّ إِنَّ النَّارَ زَفَرَتْ، وَشَهَقَتْ، وَفَخَرَتْ، وَقَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الْمَاءَ، فَأَطْفَأَهَا، فَذَلَّتْ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَاءَ فَخَرَ، وَزَخَرَ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الرِّيحَ، فَحَرَّكَتْ أَمْوَاجَهُ، وَأَثَارَتْ مَا فِي قَعْرِهِ، وَحَبَسَتْهُ عَنْ مَجَارِيهِ، فَذَلَّ الْمَاءُ.

ثُمَّ إِنَّ الرِّيحَ فَخَرَتْ، وَعَصَفَتْ، وَأَرْخَتْ أَذْيَالَهَا، وَقَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ يَغْلِبُنِي؟ فَخَلَقَ الْاءِنْسَانَ، فَبَنى، وَاحْتَالَ، وَاتَّخَذَ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ الرِّيحِ وَغَيْرِهَا، فَذَلَّتِ الرِّيحُ.

ثُمَّ إِنَّ الْاءِنْسَانَ طَغى، وَقَالَ: مَنْ أَشَدُّ مِنِّي قُوَّةً؟ فَخَلَقَ اللّهُ لَهُ الْمَوْتَ، فَقَهَرَهُ، فَذَلَّ الْاءِنْسَانُ.

ثُمَّ إِنَّ الْمَوْتَ فَخَرَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَفْخَرْ؛ فَإِنِّي ذَابِحُكَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ لَا أُحْيِيكَ أَبَدا، فَتُرْجى، أَوْ تُخَافَ، وَقَالَ أَيْضا: وَالْحِلْمُ يَغْلِبُ الْغَضَبَ، وَالرَّحْمَةُ تَغْلِبُ السُّخْطَ، وَالصَّدَقَةُ تَغْلِبُ الْخَطِيئَةَ».

ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «مَا أَشْبَهَ هذَا مِمَّا قَدْ يَغْلِبُ غَيْرَهُ».

شرح الحديث

(من أن تميد بما عليها) .

الباء للتعدية . والميد: التحرّك، والاضطراب، والتمايل .

ص: 432

وهذا إشارة إلى قوله تعالى في مواضع من الكتاب الكريم؛ منها قوله جلّ طَوله : «وَالْجِبَالَ أَوْتَادا» (1) ، ومنها قوله : «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» (2) قال المبرّد : «أي منع الأرض أن تميد» .

وقيل : أي لئلّا تميد . وقيل : كراهة أن تميد (3).

وقال بعض المفسّرين : الميد: الاضطراب بالذهاب في الجهات الثلاث . وقيل : إنّ الأرض كانت تميد وتضطرب، وترجُف رجوفَ السقف بالوطئ، فثقّلها اللّه بالجبال الرواسي؛ ليمتنع من رجوفها .

وروت العامّة عن ابن عبّاس أنّه قال : «إنّ الأرض بسطت على الماء، فكانت تكفأ بأهلها، كما تكفأ السفينة، فأرساها اللّه تعالى بالجبال» (4).

وقال بعض المحقّقين :

المراد بالأرض قطعاتها وبقاعها، لا مجموع كرة الأرض . ويكون الجبال أوتادا لها أنّها حافظة لها عن الميدان والاضطراب بالزلزلة ونحوها ، إمّا لحركة البخارات المحتقنة في داخلها بإذن اللّه تعالى ، أو لغير ذلك من الأسباب التي يعلمها مبدعها ومُنشئها .

وأيّده بما روي في الأخبار: «أنّ ذا القرنين لمّا انتهى إلى السدّ، جاوزه، فدخل الظلمات، فإذا هو بملك قائم على جبل طوله خمسمائة ذراع. فقال له ذو القرنين :

مَن أنت؟ قال : أنا ملك من ملائكة الرحمن، موكّل بهذا الجبل، فليس من جبلٍ خلقه اللّه _ عزّ وجلّ _ إلّا وله عِرق إلى هذا الجبل، فإذا أراد اللّه _ عزّ وجلّ _ أن يزلزل مدينة، أوحى إليَّ، فزلزلتها» (5).

وقوله : (فشمخت، واستطالت) .

شمخ، كمنع: علا، وطال . وشمخ الرجل بأنفه: تكبّر .

ولعلّ المعنى الأخير هنا أنسب، وإن اُريد الأوّلان فالعطف للتفسير، أو من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ؛ فإنّ الفعل مع الطلب أقوى منه بلا طلب .

ص: 433


1- النبأ (78) : 7
2- النحل (16) : 15
3- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 57 ، ص 101
4- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 360
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 250 ؛ و ج 57 ، ص 107

وقوله : (زَفَرَتْ، وشَهَقَتْ) .

في القاموس : «زَفَر يَزفِر زَفْرا وزفيرا: أخرج نفسه بعد مدّه إيّاه . وزفرت النار: سُمِع لتوقّدها صوتٌ» (1).

وقال الجوهري :

شَهَق _ كمنع وضرب وسمع _ يشهق؛ أي ارتفع . وفلان ذو شاهق، إذا كان يشتدّ غضبه . وشهيق الحمار: آخر صوته. وزفيره: أوّله . وقد شهق يشهَق ويشهِق شهيقا . ويُقال : الشهيق: ردّ النَّفَس. والزفير: إخراجه . والشهقة كالصيحة. يُقال : شهق فلان شهقةً، فمات (2).

وقوله : (فخلق الماء، فأطفأها) .

الإطفاء: إذهاب لَهَب النار، وتوقّدها .

ولعلّ المراد بالماء هاهنا المياه التي خلقت على وجه الأرض . ويؤيّده أنّه عليه السلام قيّد الماء في أوّل الخبر بالبحار السفلى، وغلبة الأرض إنّما هي عليها دون المياه الظاهرة، فلا ينافي تأخّر خلق هذا الماء عن كثير من الأشياء تَقدُّم خلق أصل الماء وحقيقته على سائر الأشياء .

كذا اُفيد .

وقوله : (وأثارت) .

في القاموس : «الثور: الهيجان، والوثب، والسطوع. وأثاره غيره»(3).

وتعليق الإثارة بقوله : (ما في قعره) كناية عن التحريك الشديد .

وقوله : (عصفت) .

عصفتِ الريح _ كضرب _ عصفا وعُصُوفا: اشتدّت، فهي عاصفة وعاصِفٌ وعَصوف .

وقوله : (لوّحت (4) أذيالها) .

الذيل: آخر كلّ شيء. ومن الإزار والثوب: ما جرّ. ومن الرّيح: ما تتركهُ في الرمل، كأثر ذيلٍ مجرورٍ. والجمع: أذيال .

وقال الجوهري : «لوّحت الشمس لَونَهُ، إذا غيّرته . ولوّح بثوبه؛ أي لمع به. ولوّحت

ص: 434


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 39 (زفر)
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1505 (شهق)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 383 (ثور)
4- في كلتا الطبعتين : «وأرخت» بدل «لوّحت»

الشيء بالنار: أحميته» (1).

ويمكن هنا إرادة كلّ من هذه المعاني بتكلّف .

وقيل : معناه: رفعتها، وحرّكتها تجبّرا وتكبّرا. وهذا من أحسن الاستعارات . انتهى (2).

وأنت خبير بعدم مطابقته لما ذكرناه من اللّغة . فتأمّل . ولعلّ هذه النسخة تصحيف ، والصحيح: «أرخت» كما في بعض النسخ .

قال الجوهري : «أرخيتُ السِّتر وغيره، إذا أرسلته» (3) وإرخاء الأذيال عبارة عن شدّة هبوبها وحركتها في الآفاق والأطراف، أو عن تكبّرها، كما هو شأن أهل الكبر من العرب .

وقوله : (ما يستتر به من الريح) ؛ كالأبنية .

(وغيرها) أي غير الريح ممّا يؤذي، كالمطر والحرّ والبرد .

وفي بعض النسخ: «وعزلها» بصيغة الفعل؛ أي وعزل الإنسان الريح عنه بما اتّخذ من البناء والسترة .

وقوله : (طغى) .

في القاموس : «طغى _ كرضى _ طَغْيا وطغيانا، بالضمّ والكسر: جاوز القدر، وارتفع، وغَلا في الكفر، وأسرف في المعاصي.

وطغا يطغو طُغْوىً وطُغوانا بضمّهما، كطغِيَ يَطغي» (4).

وقوله : (فإنّي ذابحك بين الفريقين) .

الذبح إمّا محمول على الحقيقة ، أو كناية عن الإعدام والإفناء ، أو على ذبح شيء مسمّى بهذا الاسم؛ ليعرف الفريقان رفع الموت عنهما على المشاهدة والعيان، إن لم نقل بتجسّم الأعراض في تلك النشأة .

وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله ، قال : «يؤتى بالموت، كأنّه كبشٌ أملح، فينادى، فيُقال : يا أهل الجنّة، هل تعرفون الموت؟ فينظرونه، ويعرفونه، فيُذبح بين الجنّة والنار . ثمّ يُقال : يا أهل الجنّة خلود، ويا أهل النار خلود بلا موت، فذلك قوله عزّ وجلّ : «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ

ص: 435


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 402 (لوح)
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 368
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2354 (رخا)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 356 (طغو) مع التلخيص

قُضِىَ الْأَمْرُ» (1) » (2) ويُقال : إنّه يأتي بيحيى عليه السلام ، وبيده الشفرة، فيُضجع الموت، ويذبحه .

وقوله : (أهل الجنّة، وأهل النار) بدل من «الفريقين» . وقوله : (فتُرجى، أو تُخاف) على البناء للمفعول فيهما؛ أي لا اُحييك، فيرجوك أهل النار للتخلّص من العذاب، أو يخاف منك أهلُ الجنّة من زوال الحياة الأبديّة ونعيم الجنّة .

وقوله : (ما أشبه هذا ممّا قد يغلب غيره) .

في بعض النسخ: «وما»، وهو أظهر. والمشار إليه بهذا الاُمور الثلاثة من الحلم والرحمة والصدقة.

و«من» بيان للموصول. والمستتر في «يغلب» راجع إلى الموصول الثاني، و«غيره» مفعوله .

والغرض أنّ الغالب لا ينحصر فيما ذكر، بل كلّ من المتقابلين قد يغلب على الآخر، كالجود والبخل، والإحسان والإساءة .

متن الحديث الثلاثين والمائة

اشارة

عَنْهُ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام [قَالَ]:

«إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَوْصِنِي.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ؟ (3) حَتّى قَالَ لَهُ ذلِكَ ثَلَاثا، وَفِي كُلِّهَا يَقُولُ لَهُ الرَّجُلُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللّهِ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : فَإِنِّي أُوصِيكَ إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ، فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ؛ فَإِنْ يَكُ رُشْدا، فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ (4) غَيّا، فَانْتَهِ عَنْهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف.

ص: 436


1- مريم (19) : 39
2- راجع : السنن الكبرى للنسائي ، ج 6 ، ص 393 ؛ مسند أبي يعلى ، ج 5 ، ص 278 ، ح 2898 ؛ المعجم الكبير ، ج 12 ، ص 277
3- في الحاشية عن بعض النسخ : «وصّيتك»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «يكن»

قوله: (مستوص) أي قابل للوصيّة.

والرشد، بالضمّ والتحريك. والرشاد: الاهتداء، وفعله فرح. والإمضاء: الإنقاذ.

متن الحديث الواحد والثلاثين والمائة

اشارة

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ:

«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله ، قَالَ: ارْحَمُوا عَزِيزا ذَلَّ، وَغَنِيّا افْتَقَرَ، وَعَالِما ضَاعَ فِي زَمَانِ جُهَّالٍ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

والرحمة: الرقّة، والعطف.

والأمر برحمة هؤلاء ترغيب في رعايتهم، وتفقّد أحوالهم؛ لفقدان كلّ منهم نعمة جليلة، وابتلائه بمحنة عظيمة .

متن الحديث الثاني والثلاثين والمائة

اشاره

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ لأصْحَابِهِ يَوْما: «لَا تَطْعُنُوا فِي عُيُوبِ مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ بِمَوَدَّتِهِ، وَلَا تُوَقِّفُوهُ عَلى سَيِّئَةٍ يَخْضَعُ لَهَا؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَلَا مِنْ أَخْلَاقِ أَوْلِيَائِهِ».

قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «إِنَّ خَيْرَ مَا وَرَّثَ الْابَاءُ لأبْنَائِهِمُ الْأَدَبُ، لَا الْمَالُ؛ فَإِنَّ الْمَالَ يَذْهَبُ، وَالْأَدَبَ يَبْقى».

قَالَ مَسْعَدَةُ: يَعْنِي بِالْأَدَبِ الْعِلْمَ.

قَالَ: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «إِنْ أُجِّلْتَ فِي عُمُرِكَ يَوْمَيْنِ، فَاجْعَلْ أَحَدَهُمَا لأدَبِكَ لِتَسْتَعِينَ بِهِ عَلى يَوْمِ مَوْتِكَ».

فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تِلْكَ الأْتِعَانَةُ؟

قَالَ: «تُحْسِنُ تَدْبِيرَ مَا تُخَلِّفُ، وَتُحْكِمُهُ».

قَالَ: وَكَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِلى رَجُلٍ: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَرْغَبُ

ص: 437

فِيمَا قَدْ سَعِدَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَالسَّعِيدُ يَتَّعِظُ بِمَوْعِظَةِ التَّقْوى، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِالْمَوْعِظَةِ غَيْرُهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لا تطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودّته) .

الباء للتعدية، أو للسببيّة، أو للمصاحبة .

قال الجزري: «فيه: لا يكون المؤمن طعّانا؛ أي وقّاعا في أعراض الناس بالذمّ والغيبة ونحوهما. وهو فعّال ، مِن طَعِنَ فيه، وعليه بالقول، يطعُن _ بالضمّ والفتح _ إذا عابه» انتهى (1).

ولعلّ المراد بمن أقبل بالمودّة المؤمن مطلقا . أو المراد: لا تطعنوا في عيوب أحد سيّما من أظهر إليكم مودّته وصداقته .

وقيل : لا فرق في العيوب بين أن تكون خَلقيّة، أو خُلقيّة، أو عمليّة متعلّقة بالأعمال .

نعم ، لابدّ في الأخيرتين من النصح والموعظة الحسنة _ كناية، أو صريحا _ في الخلوة، ولا يجوز التعيير عليها، كما أشار إليه بقوله : (ولا توقّفوه على سيّئة يخضع لها) أي لا تقيموه على خطيئة، ولا تعيّروه عليها.

أو لا تقيموه في مقام الجزاء والعقاب، فيذلّ به عند الناس، بل ادفعوها عنه بالنُّصح والموعظة (2).

هذا إن كان «توقّفوه» من أوقفه، إذا أدامه قائما. وإن كان من أوقفه على كذا، إذا أطلعَه عليه، فمعناه: فلا تُطلعوه على خطيئة اطّلعتم عليها منه، فيعلم اطّلاعكم عليها، فيذلّ عند نفسه .

وكأنّ قوله : (فإنّها ليست ...) تعليل للمذلّة . أو لدفع السيّئة عنه، ومنعه منها .

والضمير راجع إلى السيّئة التي هي الخصلة الذميمة .

والخُلق، بالضمّ وبضمّتين: السجيّة، والطبع، والمروّة، والدِّين .

وقوله : (يعني بالأدب العلم) .

غرضه أنّ الأدب _ بفتحتين _ وإن كان في أصل اللغة : الدرس ، وحسن التناول، والكياسة ، والحذق، إلّا أنّه اُريد به هاهنا العلم باُمور الدِّين ومقدّماته .

ص: 438


1- النهاية ، ج 3 ، ص 127 (طعن)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 154

وقيل : إنّما سمّي أدبا؛ لأنّه يأدب، أي يدعو إلى مفاخر الدارين، ولأنّه نورٌ يَهتدي به كلّ عضو إلى ما هو مطلوبٌ منه من الآداب؛ فإنّ أدب البصر النظر إلى ما يجوز، وصرفه عمّا لا يجوز ، وأدب اللِّسان التكلّم في موضعه المطلوب شرعا، وتركه في غيره . وقس عليهما البواقي (1).

وقوله : (إن اُجّلت) على بناء المفعول من التأجيل؛ أي إن تأخّر موتك يومين، فاجعل أحدهما لأدبك .

قيل : لعلّ المراد لعلمك على ما مرَّ تفسيره؛ أي تتعلّم في أحد اليومين آداب الوصيّة، وتستعملها في اليوم الآخر .

ويحتمل أن يُراد استعمال الآداب الحسنة في اليوم الأوّل، والاشتغال بمقدّمات الموت في اليوم الثاني (2).

وقوله : (تُحسن تدبير ما تُخلّف وتُحكمه) ؛ كأنّ المراد بالموصول الولد، أو ما يعمّه من مصالح الدارين .

قال الفيروزآبادي : «خلّفوا أثقالهم تخليفا: خلوه وراء ظهورهم. وفلانا: جعله خليفته، كاستخلفه» (3)

وقال : «أحكمه، أي أتقنه» (4).

وقوله : (إنّ المنافق لا يرغب فيما قد سَعِدَ به المؤمنون) ؛ لأنّ السعادة ونجاة الآخرة إنّما يحصل بالإيمان الخالص ، والمنافق الذي يظهر الإيمان ويُبطن الكفر بمعزل عن ذلك .

في القاموس : «سَعَد يومنا _ كنفع _ سعدا وسُعودا: يمن. والسعادة : خلاف الشقاوة. وقد سَعِد، كعلم وعني، فهو سعيد ومسعود» (5).

وقوله : (بموعظة التقوى) أي الموعظة التي هي منشأ التقوى، أو تنشأ من التقوى.

فالإضافة لاميّة، من قبيل إضافة السبب إلى المسبّب، أو بالعكس .

ص: 439


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 155
2- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 369 و 370
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 138 (خلف)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 98 (حكم)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 301 (سعد)

والوَعظ والعِظَة والموعظة: تذكير ما يليّن القلب، ويرقّقه من الثواب والعقاب بحيث يصير حاملاً على طاعة اللّه ، زاجرا عن معصيته .

متن الحديث الثالث والثلاثين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «يَا ابْنَ مُسْلِمٍ، النَّاسُ أَهْلُ رِيَاءٍ غَيْرَكُمْ، وَذلِكُمْ (1) أَنَّكُمْ أَخْفَيْتُمْ مَا يُحِبُّ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَظْهَرْتُمْ مَا يُحِبُّ النَّاسُ، وَالنَّاسُ أَظْهَرُوا مَا يُسْخِطُ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْفَوْا مَا يُحِبُّهُ اللّهُ.

يَا ابْنَ مُسْلِمٍ، إِنَّ اللّهَ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ رَأَفَ بِكُمْ، فَجَعَلَ الْمُتْعَةَ عِوَضا لَكُمْ مِنَ (2) الْأَشْرِبَةِ».

شرح الحديث

السند مرسل .

قوله : (الناس أهل رياء) إلى قوله : (وأخفوا ما يحبّه اللّه ) .

قيل : لعلّ مراده عليه السلام بيان ما يفعله الشيعة من إظهار الموافقة مع أهل الباطل تقيّةً، وبين ما يفعله المخالفون من إنكار حقّيّة أئمّة الحقّ مع علمهم بها؛ لطمع الدُّنيا، بأنّ الشيعة اعتقدوا الحقّ، وأظهروا خلافه في مقام التقيّة إطاعةً لأمره تعالى ، فلذا عبّر عنه بما يحبّ الناس ، والمخالفين مع اعتقادهم بالحقّ أنكروه على وجه يوجب سخط اللّه عنادا وكفرا وطمعا في الدُّنيا، ولذا عبّر عنه بما يسخط، فيكون الفرق بينهما في جهة الإظهار وكيفيّته فقط .

ويمكن أن يستنبط من العبارة الفرق بين الإخفائين أيضا، بأن يكون المراد بقوله : «أخفيتم ما يحبّ اللّه » إخفاءه؛ أي إخفاء دين الحقّ في مقام التقيّة . وبقوله : «ما يحبّه اللّه » ثانيا ما يحبّ اللّه إظهاره؛ أي أخفوه في غير مقام التقيّة ، ولهذا غيّر الكلام بإيراد الضمير في الثاني، وعدم إيراده في الأوّل.

وإنّما سمّي فعلهم رياءً؛ لأنّ حقيقة الرياء إيقاع العمل لغير اللّه ، وفعلهم كذلك، بخلاف

ص: 440


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «وذلك»
2- في الطبعة القديمة : «عن»

إظهار الشيعة خلاف ما يضمرون؛ فإنّه للّه تعالى ولإطاعة أمره (1).

وقوله : (رأف بكم) .

في القاموس : «الرأفة: أشدّ الرحمة، أو أرقّها. و رأف اللّه بك، مثلّثة»(2).

(فجعل المتعة عوضا لكم من الأشربة).

كأنّ المراد بالأشربة [الأشربة] المحرّمة التي تستحلّه العامّة، كالنبيذ والفقّاع ونحوهما؛ يعني لما حرّم عليكم تلك الأشربة حلّل لكم المتعة عوضا منها .

وقيل : معناه: كما أنّهم يتلذّذون بالفقّاع والأنبذة التي هم يستحلّونها، وأنتم تحرّمونها ولا تنتفعون بها، كذلك المتعة أنتم تلتذّون بها، وهم لاعتقادهم حرمتها لا ينتفعون ولا يتلذّذون .

انتهى (3).

وهو كما ترى .

وفي بعض النسخ: «الأسرية» بدل «الأشربة» . قيل : كأنّ الياء للنسبة إلى الأسير، والتاء باعتبار تأنيث الموصوف، وهي الأمَة، كالأثيريّة والحنفيّة في النسبة إلى الأثير والحنيف ؛ يعني أنّه تعالى علم أنّ السريّة والأمَة في دولة الباطل في يد أهله، وأن ليس لكم القدرة على شرائها وحفظها وإنفاقها، جعل لكم المتعة عوضا منها، وهي أسهل (4) وقيل : الأسريّة _ بفتحتين _ جمع السريّة، وهي الأمة المستورة، وهذا الجمع وإن لم يثبت لغةً؛ لأنّ الأسريَة جمع السريّ _ كغنيّ _ وهو نهرٌ صغير، يجرى إلى النخل ، لكن كلام المعصوم هو الأصل (5).

متن الحديث الرابع والثلاثين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَادٍ، قَالَ:

ص: 441


1- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 370
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 142 (رأف)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 371
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 156
5- نقله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 156

قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : «قَالَ لِيَ الْمَأْمُونُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، لَوْ كَتَبْتَ إِلى بَعْضِ مَنْ يُطِيعُكَ فِي هذِهِ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ فَسَدَتْ عَلَيْنَا».

قَالَ: «قُلْتُ لَهُ (1) : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ وَفَيْتَ لِي وَفَيْتُ لَكَ، إِنَّمَا دَخَلْتُ فِي هذَا الْأَمْرِ الَّذِي دَخَلْتُ فِيهِ عَلى أَنْ لَا آمُرَ، وَلَا أَنْهى، وَلَا أُوَلِّيَ، وَلَا أَعْزِلَ، وَمَا زَادَنِي هذَا الْأَمْرُ الَّذِي دَخَلْتُ فِيهِ فِي النِّعْمَةِ عِنْدِي شَيْئا، وَلَقَدْ كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ، وَكِتَابِي يَنْفُذُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَرْكَبُ حِمَارِي، وَأَمُرُّ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَمَا بِهَا أَعَزُّ مِنِّي، وَمَا كَانَ بِهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يَسْأَلُنِي حَاجَةً يُمْكِنُنِي قَضَاؤُهَا لَهُ إِلَا قَضَيْتُهَا لَهُ».

قَالَ: «فَقَالَ لِي: أَفِي لَكَ».

شرح الحديث

شرحالسند ضعيف .

قوله : (لو كتبتَ) .

«لو» للتمنّي، أو للشرط، والجزاء محذوف؛ أي لو كتبت كان حسنا ونحوه .

والمراد ببعض من يعطيك العلويّون الذين خرجوا على المأمون . وبهذا الأمر ولاية العهد .

قوله : (ولقد كنت ...) بيان لعدم الزيادة .

والسِّكَك _ بكسر السين، وفتح الكاف _ جمع السِّكّة، بالكسر، وهو الطريق المستوي .

متن الحديث الخامس والثلاثين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ سَفَرا أَنْ يُعْلِمَ إِخْوَانَهُ، وَحَقٌّ عَلى إِخْوَانِهِ إِذَا قَدِمَ أَنْ يَأْتُوهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

ص: 442


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : - «له»

قوله : (حقّ) أي لازم، أو واجب، أو ثابت .

وعلى التقادير محمول على الاستحباب .

وقوله : (إذا قدم) بكسر الدال .

قال الجوهري : «قدم من سفره قُدوما ومَقْدَما _ بفتح الدال _ وقَدَم _ بفتح الدال _ قُدما؛ أي تقدّم» (1).

متن الحديث السادس والثلاثين والمائة

اشارة

وَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، قَالَ:«قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : خَلَّتَانِ (2) كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِيهِمَا مَفْتُونٌ: (3) الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله صلى الله عليه و آله : (خَلّتان كثير من الناس فيهما مفتونٌ) .

في بعض النسخ: «مغبون»، من الغبن، وهو الخسران .

والخلّة، بالفتح: الخَصلة . والفتنة _ بالكسر _ إمّا بمعنى الامتحان والاختبار؛ أي يمتحن اللّه بهما خلقه، ليراهم كيف يشكرونه عليها. أو بمعنى الضلالة، أو الإثم، أو العذاب؛ أي صارا سببا لضلالة كثير من الناس، أو إثمهم، أو عذابهم . والحاصل : أنّ الفتنة فيهما إمّا لترك الشكر عليهما؛ فإنّهما من النعماء العظيمة التي يجب الشكر عليهما . أو طغيان النفس؛ لأنّهما من الأسباب القريبة له .

(الصحّة، والفراغ) .

الصِّحّة، بالكسر: ذهاب المرض، والبراء من العيوب . والفراغ: قلّة الاشتغال، أو فراغ البال ممّا يوجب الملال، كالهموم والأحزان .

ص: 443


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2006 (قدم)
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «خصلتان»
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «مغبون»

متن الحديث السابع والثلاثين والمائة

اشارة

متن الحديث السابع والثلاثين والمائةوَبِهذَا الْاءِسْنَادِ، قَالَ:«قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام : مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ؛ وَمَنْ كَتَمَ سِرَّهُ، كَانَتِ الْحَيَاةُ (1) فِي يَدِهِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (مَن كتم سرّه كانت الحياة في يده) أي مَنْ أخفى سرّ نفسه ودينه من غير أهله، كانت [الحياة] الدنيويّة ورفاهية العيش في يده، ويكون مالكا، بخلاف ما أذاعه؛ فإنّه جعل نفسه في معرض الهلاك .

وتعميم الحياة بحيث تشمل الحياة الاُخرويّة (2) بعيد .

وفي بعض النسخ : «الخيرة» بدل «الحياة» .

في القاموس : خار يخير: صار ذا خير . والرجل على غيره خيرةً وخيرا. وخيّره: فضّله . والشيء: انتقاه. واخترته منهم وعليهم . والاسم: الخيرة، بالكسر، وكعنبة. وخار اللّه لك في الأمر: جعل لك فيه الخير (3).

متن الحديث الثامن والثلاثين والمائة

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ شَاذَانَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ:

«قَالَ لِي أَبِي: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ نَهَرا يُقَالُ لَهُ: جَعْفَرٌ، عَلى شَاطِئِهِ الْأَيْمَنِ دُرَّةٌ بَيْضَاءُ، فِيهَا أَلْفُ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ قَصْرٍ لِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ؛ وَعَلى شَاطِئِهِ الْأَيْسَرِ دُرَّةٌ صَفْرَاءُ، فِيهَا أَلْفُ قَصْرٍ، فِي

ص: 444


1- في الطبعة القديمة والوافي : «الخيرة»
2- كما قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 157
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 25 (خير)

كُلِّ قَصْرٍ أَلْفُ قَصْرٍ لأِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (جعفر) .

في القاموس : «الجعفر: النهر الصغير، والكبير الواسع _ ضدّ _ والنهر الملآن، أو فوق الجدول» (1).

وقوله : (على شاطئه الأيمن) إلى آخره .

شاطئ الوادي، بهمز اللّام: شطّه، وجانبه . قيل : لعلّ المراد بأيمنه ما بأيمنه بالنسبة إلى الداخل في الجنّة ، أو بالنسبة إلى القائم في منبعه، أو بكونه في أعلى مواضع الجنّة وأشرفها ، والأشرف يسمّى أيمنا، وإنّما بني قصر نبيّنا صلى الله عليه و آله أبيض وفي الأيمن؛ لأنّه أشرف الأنبياء، فينبغي أن يكون قصره أحسن الألوان، وفي أشرف المكان (2).

متن الحديث التاسع والثلاثين والمائة

اشارة

متن الحديث التاسع والثلاثين والمائةمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَا الْتَقَتْ فِئَتَانِ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ إِلَا كَانَ النَّصْرُ مَعَ أَحْسَنِهِمَا بَقِيَّةً عَلَى (3) الْاءِسْلَامِ».

شرح الحديث

السند صحيح .

قوله : (ما التقت) أي ما تلاقت .

(فئتان) .

قال الجوهري: «الفِئة: الطائفة. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله: في? _

ص: 445


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 392 (جعفر)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 158
3- في الطبعة القديمة : + «أهل»

مثال فيع _ لأنّه من فاء، ويجمع على فئون، وفِئات» انتهى (1).

والمراد بهما طائفتان من أهل الإسلام تقاتلا لا على الوجه المشروع ، فقوله : (من أهل الباطل) إشارة إليه، فحينئذٍ لا إشكال في قوله : (إلّا كان النصر مع أحسنهما بقيّة على الإسلام) .

نصب «بقيّة» على التمييز . قال الفيروزآبادي :

بَقي يَبقى بقاءً، وبقا بَقْيا: ضدّ فني. والاسم: البقيّة . و «بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ» (2) أي طاعة اللّه ، أو انتظار ثوابه ، أو الحالة الباقية لكم من الخير . و «أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ» (3) أي إبقاءٍ وفهم (4)

وقال الجوهري : «أبقيت على فلان، إذا أرعيت عليه، ورحمته» (5).

ولعلّ المراد هنا أحسنهما بقاءً على الإسلام، أو رعايةً وحفظا لقوانينه وحدوده؛ لتوقّع الثواب المترتّب عليها .

والغرض الأصلي من هذا الكلام أنّ رعاية الدِّين والإسلام موجب للظفر والغلَبَة، كما قيل : «إنّ المُلك والملّة توأمان» ، ولا يبعد أن يُراد بفئتين من أهل الباطل أهل الكفر ، وبأحسنهما بقيّةً على الإسلام أكثرهما رعايةً ورأفةً، وأقلّهما إضرارا لأهله .

متن الحديث الأربعين والمائة

اشارة

متن الحديث الأربعين والمائةعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلى حُبِّ مَنْ يَنْفَعُهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَضَرَّ بِهَا (6).».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (جُبلت القلوب ...) أي خُلقت وطبعت .

والغرض من هذا الحديث الترغيب في إيصال النفع إلى الناس بذكر بعض فوائده، وهو جلب مودّتهم، والتحذير عن الإضرار بهم بذكر بعض مفاسده، وهو بغضهم وعداوتهم .

ص: 446


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 63 (فيأ)
2- هود (11) : 86
3- هود (11) : 116
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 304 (بقي)
5- الصحاح ، ج 6 ، ص 2283 (بقي)
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «أضرّها»

متن الحديث الواحد والأربعين والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، (1) عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ (2). ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ:«أَخَذَ أَبِي بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ أَبِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ عليه السلام أَخَذَ بِيَدِي كَمَا أَخَذْتُ بِيَدِكَ، وَقَالَ: إِنَّ أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام أَخَذَ بِيَدِي، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، افْعَلِ الْخَيْرَ إِلى كُلِّ مَنْ طَلَبَهُ مِنْكَ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، كُنْتَ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ شَتَمَكَ رَجُلٌ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلى يَسَارِكَ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْكَ، فَاقْبَلْ عُذْرَهُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (افعل الخير) ؛ يعمّ المال، والمشي في الحاجة، والقول النافع، وأمثالها .

قيل : هذا من المرغّبات التي لا يتركها أهل الكمال، وإلّا فقد يجوز الترك خصوصا بعد إعطاء الثلاثة، كما دلَّ عليه ما رواه المصنّف بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول في السؤال : «أطعموا ثلاثه؛ إن شئتم أن تزدادوا، وإلّا فقد أدّيتم حقّ يومكم» (3) (4).

وقوله : (كنتَ أنت من أهله) أي يليق بك الخير، وتكون بذلك داخلاً في أهل الخير . والحاصل : أنّك أهلٌ لأن تحسن إلى كلّ أحد، ولا محذور فيه، وإن لم يكن الآخذ في الواقع أهلاً للإحسان .

ص: 447


1- في الحاشية: «كأنّه محمّد بن جعفر بن عون الأسدي الثقة، وصرّح به بعض الأعلام منه». اُنظر : رجال النجاشي ، ص 373 ، الرقم 1020 ؛ رجال ابن داود ، ص 302 ؛ رجال العلّامة ، ص 160
2- هذا ، والظاهر أنّ «بن» الفاصل بين الحسين وعيسى سهو من ناحية النسّاخ ، والصواب: «الحسين ، عن عيسى بن عبداللّه » كما في بعض نسخ الكافي التي رأيناه ؛ لأنّ موسى الذي روى عنه محمّد بن أبي عبداللّه هو ابن عمران النخعي ، وعمّه هو الحسين بن يزيد النوفلي ، وروايات هذا الرجل عن عيسى بن عبداللّه الهاشمي تكرّرت في الكافي وبعض كتب الصدوق رحمه الله . اُنظر : الكافي ، ج 4 ، ص 60 ، ح 8 ؛ و ج 7 ، ص 463 ، ح 20 ؛ ثواب الأعمال ، ص 37 ، ح 2
3- الكافي ، ج 4 ، ص 17 ، ح 2 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 9 ، ص 202 ، ح 11841
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 158 و 159

متن الحديث الثاني والأربعين والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَالْحَجَّالِ، (1) عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : «كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مَاءً، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فَأَمَرَ اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ الْمَاءَ، فَاضْطَرَمَ نَارا، ثُمَّ أَمَرَ النَّارَ، فَخَمَدَتْ، فَارْتَفَعَ مِنْ خُمُودِهَا دُخَانٌ، فَخَلَقَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ السَّمَاوَاتِ مِنْ ذلِكَ الدُّخَانِ، وَخَلَقَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْأَرْضَ مِنَ الرَّمَادِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالرِّيحُ، فَقَالَ الْمَاءُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، وَقَالَتِ النَّارُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، وَقَالَتِ الرِّيحُ: أَنَا جُنْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ، فَأَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَى الرِّيحِ: أَنْتِ جُنْدِيِّ الْأَكْبَرُ».

شرح الحديث

السند صحيح .

وقد مرّ هذا الحديث بعينه سندا ومتنا في الثامن والستّين .

متن الحديث الثالث والأربعين والمائة (حَدِيثُ زَيْنَبَ الْعَطَّارَةِ)

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«جَاءَتْ زَيْنَبُ الْعَطَّارَةُ الْحَوْلَاءُ إِلى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله وَبَنَاتِهِ، وَكَانَتْ تَبِيعُ مِنْهُنَّ الْعِطْرَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله وَهِيَ عِنْدَهُنَّ، فَقَالَ: إِذَا أَتَيْتِنَا طَابَتْ بُيُوتُنَا. فَقَالَتْ: بُيُوتُكَ بِرِيحِكَ أَطْيَبُ يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ: إِذَا بِعْتِ، فَأَحْسِنِي، وَلَا تَغُشِّي؛ فَإِنَّهُ أَتْقى وَأَبْقى لِلْمَالِ.

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَا أَتَيْتُ بِشَيْءٍ مِنْ بَيْعِي، وَإِنَّمَا أَتَيْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ عَظَمَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَقَالَ: جَلَّ جَلَالُ اللّهِ، سَأُحَدِّثُكِ عَنْ بَعْضِ ذَلِكِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هذِهِ الْأَرْضَ بِمَنْ عَلَيْهَا عِنْدَ الَّتِي (2).

ص: 448


1- في الحاشية: «اسمه عبد اللّه بن محمّد، ثقة. منه». وفي السند تحويل بعطف الحجّال عن العلاء عن محمّد بن مسلم ، على ابن محبوب عن العلاء عن محمّد بن مسلم
2- في الطعبة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «الذي»

تَحْتَهَا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهَاتَانِ بِمَنْ فِيهِمَا وَمَنْ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الَّتِي تَحْتَهَا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالثَّالِثَةُ حَتَّى انْتَهى إِلَى السَّابِعَةِ، وَتَلَا هذِهِ الْايَةَ: «خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (1) ، وَالسَّبْعُ الْأَرَضِينَ بِمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ عَلى ظَهْرِ الدِّيكِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالدِّيكُ لَهُ جَنَاحَانِ: جَنَاحٌ فِي الْمَشْرِقِ، وَجَنَاحٌ فِي الْمَغْرِبِ، وَرِجْلَاهُ فِي التُّخُومِ، وَالسَّبْعُ وَالدِّيكُ بِمَنْ فِيهِ وَمَنْ عَلَيْهِ عَلَى الصَّخْرَةِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالصَّخْرَةُ بِمَنْ فِيهَا وَمَنْ عَلَيْهَا عَلى ظَهْرِ الْحُوتِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالسَّبْعُ وَالدِّيكُ وَالصَّخْرَةُ وَالْحُوتُ بِمَنْ فِيهِ وَمَنْ عَلَيْهِ عَلَى الْبَحْرِ الْمُظْلِمِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالسَّبْعُ وَالدِّيكُ وَالصَّخْرَةُ وَالْحُوتُ وَالْبَحْرُ الْمُظْلِمُ عَلَى الْهَوَاءِ الذَّاهِبِ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَالسَّبْعُ وَالدِّيكُ وَالصَّخْرَةُ وَالْحُوتُ وَالْبَحْرُ الْمُظْلِمُ وَالْهَوَاءُ عَلَى الثَّرى كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ.

ثُمَّ تَلَا هذِهِ الْايَةَ: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» (2) ، ثُمَّ انْقَطَعَ الْخَبَرُ عِنْدَ الثَّرى وَالسَّبْعُ وَالدِّيكُ وَالصَّخْرَةُ وَالْحُوتُ وَالْبَحْرُ الْمُظْلِمُ وَالْهَوَاءُ وَالثَّرى وَمَنْ (3) فِيهِ وَمَنْ عَلَيْهِ عِنْدَ السَّمَاءِ الْأُولى كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهذَا كُلُّهُ وَسَمَاءُ الدُّنْيَا بِمَنْ عَلَيْهَا وَمَنْ فِيهَا عِنْدَ الَّتِي فَوْقَهَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهَاتَانِ السَّمَاءَانِ وَمَنْ فِيهِمَا وَمَنْ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الَّتِي فَوْقَهُمَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهذِهِ الثَّلَاثُ بِمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ الرَّابِعَةِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، حَتَّى انْتَهى إِلَى السَّابِعَةِ، وَهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ عِنْدَ الْبَحْرِ الْمَكْفُوفِ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهذِهِ السَّبْعُ وَالْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ عِنْدَ جِبَالِ الْبَرَدِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَتَلَا هذِهِ الْايَةَ: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» (4) ، وَهذِهِ السَّبْعُ وَالْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَجِبَالُ الْبَرَدِ عِنْدَ الْهَوَاءِ الَّذِي تَحَارُ فِيهِ الْقُلُوبُ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهذِهِ السَّبْعُ وَالْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَجِبَالُ الْبَرَدِ وَالْهَوَاءُ عِنْدَ حُجُبِ النُّورِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ، وَهذِهِ السَّبْعُ وَالْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَجِبَالُ الْبَرَدِ وَالْهَوَاءُ وَحُجُبُ النُّورِ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ.

ثُمَّ تَلَا هذِهِ الْايَةَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ

ص: 449


1- الطلاق (65) : 12
2- طه (20) : 6
3- في الطبعة القديمة : «بمن» بدل «ومن»
4- النور (24) : 43

الْعَظِيمُ» (1) ، وَهذِهِ السَّبْعُ وَالْبَحْرُ الْمَكْفُوفُ وَجِبَالُ الْبَرَدِ وَالْهَوَاءُ وَحُجُبُ النُّورِ وَالْكُرْسِيُّ عِنْدَ الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ قِيٍّ. وَتَلَا هذِهِ الْايَةَ: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» (2).

وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: «الْحُجُبُ قَبْلَ الْهَوَاءِ الَّذِي تَحَارُ فِيهِ الْقُلُوبُ».

شرح الحديث

السند مجهول كالحسن .

قوله : (الحَولاء) مؤنّث أحول .

وقوله : (تَبيع منهنّ) أي بهنّ .

(العِطر) بالكسر، وهو الطيب. الجمع: عطور. وبائعه : العطّار .

وقوله : (فأحسني) أي إلى المشتري، بإعطاء الراجح، وعدم التعدّي في الربح عن قدر الحاجة .

(ولا تَغُشّي) .

غشّه، كمدّه: لم يمحضه النصح، أو أظهر خلاف ما أضمر، أو خان . والاسم منه: الغِشّ _ بالكسر _ والشيء مغشوش .

وقوله : (أتقى) أي أقرب إلى التقوى، وأنسب بها .

أو الإسناد مجازيّ ، والمراد أنّ صاحبه أتقى من العقوبة، وأحذر من أسبابها .

(وأبقى للمال) ؛ فإنّ الحلال أكثر بركةً، وأشدّ بقاءً من الحرام .

وقوله : (أسألك عن عظمة اللّه ) .

السؤال إمّا عن حقيقتها، أو قدرها، أو آثارها الدالّة عليها .

وهذا الأخير أنسب بالجواب .

وقوله: (ساُحدّثك عن بعض ذلك) ؛ لأنّه لا يمكن معرفة جميع آثار عظمته تعالى على التفصيل، كما لا يمكن الإحاطة بحقيقتها وكُنهها .

وقوله : (هذه الأرض) أي التي نحن عليها .

ص: 450


1- البقرة (2) : 255
2- طه (20) : 5

وقوله : (كحلقة).

قيل : لعلّ التشبيه بالحلقة إشارة إلى كُرويّتها وإحاطتها ، وبالفلاة إلى سعتها (1).

وقوله : (في فلاة قيّ).

الفلاة، بالفتح: المفازة.

والقيّ، بكسر القاف وتشديد الياء: القَفْر الخالي، وأصله: قِويٌ، على وزن فعلٍ .

وقوله : (وتلا هذه الآية : «خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» ).

الآية في سورة الطلاق هكذا : «اللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (2).

قال البيضاوي : «اللّه » مبتدأ، والموصول خبره . و «وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» أي وخلق من الأرض مثلهنّ في العدد. وقرئ بالرفع على الابتداء ، والخبر «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» أي يجري أمر اللّه وقضاؤه بينهنّ، وينفذ حكمه فيهنّ . انتهى (3).

والاستشهاد بالآية لما ذكره عليه السلام من أنّ الأرض سبع طبقات، ويظهر منه أنّ للأرض طبقات بعضها فوق بعض ؛ فمنهم من جعل الأرضين السبع وطبقاتها وتعدّدها باعتبار الأقاليم، ومنهم من جعلها باعتبار ثلاث طبقات: الأرض الصرفة البسيطة، والطينيّة، والظاهرة التي هي وجه الأرض .

وهي مع كرة الماء كرة واحدة وثلاث كرات الهواء وكرة النار .

ومنهم من جعل الأرض كرتين: البسيطة، وغيرها، والماء كرة . ومنهم من قسّم الهواء بكرتين . ومنهم من قسّمها بأربع كرات .

ومنهم من قال: كلّ ما أحاط به فلك القمر يُطلق عليه اسم الأرض، كما قال تعالى : «خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» وهي سبع طبقات ؛ الاُولى: النار . الثانية: الهواء . الثالثة: الماء . الرابعة: الأرض . وثلاث طبقات ممتزجة؛ أي مختلفة من هذه الأربع ؛ الاُولى: ممتزجة من النار والهواء . الثانية: ممتزجة من الهواء والماء . الثالثة: ممتزجة من الماء والأرض، وهي الكرة الطينيّة .

ص: 451


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 160
2- الطلاق (65) : 12
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 353

واعلم أنّ مبنى هذه الوجوه على أنّ المراد بالأرض غير السماوات . ولا يخفى سخافتها، وبُعد تنزيل الآيات والأخبار عليها .

وهاهنا كلام ذكره بعض الأفاضل، وهو أنّه:

يلزم من هذا الحديث، وعلى تقدير تماسّ هذه السبع بعضها ببعض أحد أمرين : إمّا أن تكون السبع أجساما مسطّحة . أو تكون كرات مماسّة بنقطة؛ وذلك لأنّها إن كانت مسطّحة، فهو الأمر الأوّل ، وإن كانت كرة، فإن كان مجموعها من حيث المجموع كرة واحدة، لزم أن يكون الأعظم القطعة التي فيها المنطقة، وأن يكون ما فوقها وما تحتها من القطاع متساوية، كلّ واحدة لبطؤها . وهذا ينافي كون كلّ تحتانيّة أعظم من الفوقانيّة، وإن كانت كلّ واحدة كرة، فإن كان كلّ تحتانيّة محيطة بالفوقانيّة، لزم أن تكون هذه الأرض محاطة بأرض اُخرى، وليس كذلك .

فينبغي أن تكون غير محيطة، فيلزم أن يكون التماسّ بنقطة، وهو الأمر الثاني. فليتأمّل (1)

وأقول : روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن الرضا عليه السلام ، قال : قلت له : أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» (2). ؟ فقال : «هي محبوكة على الأرض» وشبّك بين أصابعه.

فقلت : كيف تكون محبوكة إلى الأرض، واللّه يقول : «رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» (3). ؟

فقال : «سبحان اللّه ، أليس يقول : «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» »؟ قلت : بلى .

قال : «فثمَّ عمد، ولكن لا ترونها؟» قلت : كيف ذلك جعلني اللّه فداك ؟

قال : فبسط كفّه اليسرى، ثمّ وضع اليُمنى عليها، فقال : «هذه أرض الدُّنيا، وسماء الدُّنيا عليها، فوقها قبّة، والأرض الثانية فوق سماء الدُّنيا وسماء الثانية فوقها قبّة، والأرض الثالثة فوق سماء الثانية وسماء الثالثة فوقها قبّة، والأرض الرابعة فوق سماء الثالثة وسماء الرابعة فوقها قبّة، والأرض الخامسة فوق سماء الرابعة وسماء الخامسة فوقها قبّة، والأرض

ص: 452


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 160
2- الذاريات (51) : 7
3- الرعد (13) : 2

السادسة فوق سماء الخامسة وسماء السادسة فوقها قبّة، والأرض السابعة فوق سماء السادسة وسماء السابعة فوقها قبّة، وعرش الرحمن _ تبارك وتعالى _ فوق السماء السابعة، وهو قول اللّه : «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» ؛ فأمّا صاحب الأمر، فهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والوصيّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله قائم على وجه الأرض، فإنّما يتنزّل الأمر إليه من فوق من بين السماوات والأرضين».

قلت : فما تحتنا إلّا أرض واحدة؟

فقال : «ما تحتنا إلّا أرض واحدة، وإنّ الستّ لهنّ فوقنا» (1)

قال بعض الأفاضل : «يحتمل أن يكون هذا المعنى، والذي ذكر سابقا، داخلين تحت الآية، باعتبار البطون المختلفة» (2) انتهى . فليتأمّل .

وقوله : (على ظهر الديك) .

في القاموس : «الديك _ بالكسر _ معروف. والجمع: ديوك، وأدياك، وديكَة كقِرَدة . وقد يُطلق على الدجاجة» (3).

وقوله : (ورجلاه في التُّخوم) .

قال الجوهري : «التخم: منتهى كلّ أرض، أو قرية. والجمع: تُخُوم، مثل فِلس وفلوس .

وقال الفرّاء : تُخومُها : حدودها . وقال ابن السكّيت : سمعت أبا عمرٍ يقول : هي تخومُ الأرض. والجمع: تخم، مثل صبور وصُبُر» (4).

وفي القاموس : «التُّخوم، بالضمّ: الفَصْل بين الأرضين من المعالم والحدود، مؤنّثة.

والجمع: تخوم أيضا . وتُخُم _ كعُنُق _ أو الواحد: تُخم بالضمّ، وتَخْم، وتَخومة بفتحهما» (5) وقيل : لعلّ المراد بالتخوم هنا منتهى الصخرة (6).

وقوله : (البحر المُظلم) ؛ كأنّ المراد به البحر الأعظم المحيط بالأرض ، سمّي مظلما لغور عمقه، وكلّما كثر الماء وغار العمق سمّي مظلما، أو أسود وأخضر .

ص: 453


1- تفسير القمّي، ج 2 ، ص 328 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 57 ، ص 79 ، ح 4
2- اُنظر : مرآة العقول ، ج 25 ، ص 373
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 303 (ديك)
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1877 (تخم)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 83 (تخم)
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 161

وقوله : (الهواء الذاهب) .

قيل: أي المتحرّك. والوصف للإيضاح، أو للاحتراز عن الهواء الغير المتحرّك، وهو ما سيجيء من الهواء الذي تحار فيه القلوب (1).

أقول : يمكن تعميم الذهاب بحيث يشمل الكون والفساد .

وقوله : (على الثرى) .

قال الجوهري : «الثرى: التراب النديّ» (2).

وقال بعض الشارحين : «لعلّ المراد بالثرى هنا كرة الأثير، بقرينة اقترانه بالسماء الاُولى» (3).

أقول : في ثبوت تلك الكرة مناقشة على أنّ إطلاق الثرى بهذا المعنى لم يثبت لغةً ولا عرفا، فكيف يصحّ حمل الخبر عليه، ولم يقم دليل وبرهان قطعيّ على خلاف ما دلّ عليه ظاهر الخبر؛ فارتكاب مثل هذه التأويلات الواهية متعسّفة، لا يليق بأهل الإيمان .

وقوله : (ثمّ انقطع الخبر عند الثرى) ؛ من تتمّة كلام النبيّ صلى الله عليه و آله .

والخبر محرّكة البناء، وبالضمّ: العلم. وهاهنا يحتملهما؛ أي انقطع علم البشر بالسفليّات، أو خبرها عند الثرى، ولا يتجاوز علمهم عمّا ذكر، أو لم نُؤمَر بالإخبار به .

وقوله : (البحر المكفوف عن أهل الأرض) أي لا ينزل منه ماء إليهم، أو لا يمكنهم النظر إليه. أو لا يحيط عملهم به بالنظر والاستدلال . وقيل : أي الممنوع من الانصباب عليهم بقدرة اللّه تعالى؛ إذ لو انصبّ عليهم دفعةً أهلكهم (4) وقوله تعالى : «وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ» (5).

كذا في سورة النور . وفي بعض نسخ الكتاب: «ننزّل» بالنون .

ص: 454


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 161 و 162
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2291 (ثري)
3- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 162
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 162
5- النور (24) : 43

قال الفيروزآبادي : «البَرَد، بالتحريك: حبّ الغمام» (1).

وقال البيضاوي : المراد بالسماء الغمام، وكلّ ما علاك فهو سماء. «مِنْ جِبَالٍ فِيهَا» من قِطَع عِظام تشبه الجبال في عظمتها، أو جمودها «مِنْ بَرَدٍ» بيان للجبال. والمفعول محذوف ؛ أي ينزّل مبتدئا «مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ» ؛ بردا، ويجوز أن تكون «مَن» الثانية والثالثة للتبعيض، واقعة موقع المفعول .

وقيل : المراد بالسماء المظلِّة، وفيها جبال من برد _ كما في الأرض _ جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه . انتهى (2).

وقوله : (الهواء الذي تَحار فيه القلوب) .

في بعض النسخ: «الهوى» بالقصر، وهو خطأ .

قال الجوهري : «الهواء ممدود: ما بين السماء والأرض. والجمع: الأهوية. وكلّ خال هواء . والهوى مقصور: هوى النفس، والجمع: الأهواء» (3)

وقال في القاموس : «حار يُحار حَيْرة: نظر إلى الشيء فغشي، ولم يهتدِ لسبيله، فهو حَيران، وحائر» (4).

وقال: «العشاء، مقصورة: سوء البصر بالليل والنهار. عَشِي _ كرضي ودَعا _ عشىً» (5).

وقوله : (عند حُجُب النور) .

قيل: لعلّ المراد بها حجاب القدرة، وحجاب العظمة، وحجاب الرفعة، وحجاب الهيبة، وحجاب الرحمة . وهذه الحُجب ذكرها صاحب معارج النبوّة ، وكلّ ذلك نشأ من نور ذاته تعالى، أو نور علمه . والإضافة بيانيّة باعتبار أنّ تلك الحجب نفسها أنوار (6).

وقوله تعالى : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ» .

قال البيضاوي : هذا تصوير لعظمته، وتمثيل مجرّد كقوله : «وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ

ص: 455


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 162
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 276 (برد)
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 194
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2537 (هوي)
5- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 16 (حور)
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 362 (عشو)

جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» (1). ، ولا كرسيّ في الحقيقة، ولا قاعد ولا قعود .

وقيل : «كرسيّه» مجاز عن علمه، أو مُلكه، مأخوذ من كرسيّ العالِم والمَلِك .

وقيل : جسم بين يدي العرش، ولذلك سمّي كرسيّا، محيطا بالسموات السبع؛ لقوله عليه السلام : «والسماوات السبع، والأرضون السبع من الكرسيّ إلّا كحلقةٍ في فلاة» .

وفضل العرش على الكرسيّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ، ولعلّه الفلك المشهور بفلك البروج، وهو في الأصل اسم لما يقعد عليه، ولا يفضل من مقعد القاعد، وكأنّه منسوب إلى الكرسيّ، وهو الملبّد .

«وَلَا يَؤُودُهُ» ولا يثقله، مأخوذ من الأود، وهو الإعوجاج .

«حِفْظُهُمَا» أي حفظه السماوات والأرض . فحذف الفاعل، وأضاف المصدر إلى مفعول .

«وَهُوَ الْعَلِىُّ» المتعالي عن الأنداد والأشباه.

«الْعَظِيمُ» (2) المستحقر بالإضافة إليه كلّ ما سواه (3).

إلى هاهنا كلام البيضاوي .

والظاهر أنّ المراد بالسماوات السبع لا غير؛ لما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام حين سُئِل : الكرسيّ أكبر، أم العرش؟ فقال عليه السلام : «كلّ شيء خلقه اللّه تعالى في الكرسيّ، ما خلا عرشه؛ فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسيّ» (4).

وقوله : (وفي رواية الحسن) ؛ كأنّه ابن محبوب .

متن الحديث الرابع والأربعين والمائة (حَدِيثُ الَّذِي أَضَافَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِالطَّائِفِ)

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ الْكُنَاسِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله كَانَ نَزَلَ عَلى رَجُلٍ بِالطَّائِفِ قَبْلَ الْاءِسْلَامِ، فَأَكْرَمَهُ، فَلَمَّا أَنْ بَعَثَ اللّهُ

ص: 456


1- الزمر (39) : 67
2- البقرة (2) : 255
3- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 555
4- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 351 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 164 ، ح 2

مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله إِلَى النَّاسِ، قِيلَ لِلرَّجُلِ: أَ تَدْرِي مَنِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلَى النَّاسِ؟

قَالَ: لَا.

قَالُوا لَهُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَزَلَ بِكَ بِالطَّائِفِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَأَكْرَمْتَهُ».

قَالَ: «فَقَدِمَ الرَّجُلُ عَلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَ تَعْرِفُنِي يَا رَسُولَ اللّهِ؟

قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبُّ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلْتَ بِهِ بِالطَّائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَأَكْرَمْتُكَ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَرْحَبا بِكَ، سَلْ حَاجَتَكَ.

فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مِائَتَيْ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا.

فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِمَا سَأَلَ، ثُمَّ قَالَ لأصْحَابِهِ: مَا كَانَ عَلى هذَا الرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَنِي سُؤَالَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسى عليه السلام ؟!

فَقَالُوا: وَمَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسى؟

فَقَالَ: إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ أَوْحى إِلى مُوسى أَنِ احْمِلْ عِظَامَ يُوسُفَ مِنْ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِالشَّامِ، فَسَأَلَ مُوسى عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام ، فَجَاءَهُ (1) شَيْخٌ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَعْرِفُ قَبْرَهُ فَفُلَانَةُ.

فَأَرْسَلَ مُوسى عليه السلام إِلَيْهَا، فَلَمَّا جَاءَتْهُ، قَالَ: تَعْلَمِينَ مَوْضِعَ قَبْرِ يُوسُفَ عليه السلام ؟

قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: فَدُلِّينِي عَلَيْهِ، وَلَكِ مَا سَأَلْتِ.

قَالَ (2) : لَا أَدُلُّكَ عَلَيْهِ إِلَا بِحُكْمِي.

قَالَ: فَلَكِ الْجَنَّةُ.

قَالَتْ: لَا إِلَا بِحُكْمِي عَلَيْكَ.

فَأَوْحَى اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلى مُوسى: لَا يَكْبُرُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا حُكْمَهَا.

ص: 457


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «فجاء»
2- في الطعبة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها : «قالت»

فَقَالَ لَهَا مُوسى: فَلَكِ حُكْمُكِ.

قَالَتْ: فَإِنَّ حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : مَا كَانَ عَلى هذَا لَوْ سَأَلَنِي مَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

شرح الحديث

السند حسن .

قال الجوهري : «أضفت الرجل، وضيّفته، إذا أنزلته بك ضيفا، وقَرَيْتَهُ» (1).

قوله : (إلى الأرض المقدّسة) متعلّق بقوله : (احمل) ، أو بقوله : (أن تخرج) ، أو بهما على سبيل التنازع .

وقوله : (بالشام) ؛ حال عن الأرض المقدّسة .

وفي هذا الخبر دلالة على أنّ هذا النقل كان بالوحي.

وقيل: كان بوصيّة يوسف عليه السلام (2) ولا تنافي بينهما .

ولعلّ المراد بالعظام جسده عليه السلام ، إن قلنا: الأنبياء مطلقا لا تُبلى أجسادهم .

وقيل : هذا الخبر بظاهره ينافي ما رواه الصدوق بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال :

«ما من نبيّ ولا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام حتّى يرفع بروحه وعظمه ولحمه إلى السماء، وإنّما يؤتى مواضع آثارهم، ويبلّغونهم من بعيد السلام، ويسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب» (3).

وذكر القائل في وجه الجمع وجوها :

الأوّل : حمل هذا الخبر على أنّ المراد أكثر الأنبياء، أو الذين لم يقدّر اللّه لهم أن ينقلوا من موضع إلى موضع .

الثاني : أن يكون المراد بنقل العظام نقل الصندوق الذي كان فيه جسده عليه السلام في تلك الثلاثة الأيّام، وتشرّف بمجاورة بدنه .

الثالث : أن يُقال : لعلّ اللّه أنزل عظامه عليه السلام بعد رفعه لهذه المصلحة .

ص: 458


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1392 (ضيف)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 164
3- الفقيه ، ج 2 ، ص 577 ، ح 3161

الرابع : أن يكون الرفع في مدّة من الزمان، ثمّ يردّون إلى قبورهم، وإنّما يؤتى مواضع آثارهم في تلك المدّة .

وهذا الوجه أبعد المحتملات، كالثاني (1).

وفي دلالة هذا الخبر على استحباب نقل الموتى إلى المشاهد المشرّفة _ كما هو مذهب الأصحاب _ تأمّل .

وقوله : (ولك ما سألت) .

فيه شائبة مناواة لما يفهم فيما بعد من السياق من امتناعه عليه السلام بحكمها عليه .

ولعلّ المراد ما سألت من الأموال ونحوها من اُمور الدُّنيا، أو من اُمور الآخرة، التي تناسب حالها هذا .

روى الصدوق رحمه الله في كتبه عن أبيه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن الرضا عليه السلام أنّه قال : «احتبس القمر عن بني إسرائيل، فأوحى اللّه _ جلّ جلاله _ إلى موسى أن اخرج عظام يوسف من مصر، ووعده طلوع القمر إذا أخرج عظامه، فسأل موسى عمّن يعلم موضعه ، فقيل له : هاهنا عجوز تعلم علمه .

فبعث إليها، فاُتِي بعجوز مقعدة عمياء، فقال لها : أتعرفين موضع قبر يوسف؟ قالت : نعم .

قال : فأخبريني به . قالت : لاُ ، حتّى تعطيني أربع خصال : تطلق لي رجلي، وتُعيد إليّ من شبابي، وتُعيد إليَّ بصري، وتجعلني معك في الجنّة .

قال : فكبر ذلك على موسى ، فأوحى اللّه _ جلّ جلاله _ إليه : يا موسى، أعطها ما سألت؛ فإنّك إنّما تُعطي عليَّ .

ففعل ، فدلّته عليه، فاستخرجه من شاطئ النيل في صندوق مرمر، فلمّا أخرجه طلع القمر، فحمله إلى الشام ، فلذلك يحمل أهل الكتاب موتاهم إلى الشام» (2).

ص: 459


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 25 ، ص 9 و 10
2- الخصال ، ج 1 ، ص 205 ، ح 21؛ علل الشرائع ، ج 1 ، ص 296 ، ح 1 ؛ عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 259 ، ح 18

متن الحديث الخامس والأربعين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَوَدُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَتُكْثِرُ التَّعَاهُدَ لَنَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقِيَهَا ذَاتَ يَوْمٍ، وَهِيَ تُرِيدُنَا، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ تَذْهَبِينَ يَا عَجُوزَ الْأَنْصَارِ؟

فَقَالَتْ: أَذْهَبُ إِلى آلِ مُحَمَّدٍ أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَأُجَدِّدُ بِهِمْ عَهْدا، وَأَقْضِي حَقَّهُمْ.

فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: وَيْلَكِ، لَيْسَ لَهُمُ الْيَوْمَ حَقٌّ عَلَيْكِ، وَلَا عَلَيْنَا، إِنَّمَا كَانَ لَهُمْ حَقٌّ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ، فَانْصَرِفِي.

فَانْصَرَفَتْ حَتّى أَتَتْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ: مَا ذَا أَبْطَأَ بِكِ عَنَّا؟

فَقَالَتْ: إِنِّي لَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَأَخْبَرَتْهَا بِمَا قَالَتْ لِعُمَرَ، وَمَا قَالَ لَهَا عُمَرُ. فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ: كَذَبَ، لَا يَزَالُ حَقُّ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وَاجِبا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله: (تُكثِر التعاهد لنا) أي للقائنا، ورعاية حقّنا وحرمتنا .

والتعاهد: التحفّظ بالشيء، وتجديد العهد به .

وقوله : (حتّى أتت اُمّ سلمة) أي بعد مدّة طويلة ، أو في هذا الانصراف .

وعلى الثاني لا يكون قولها : (إنّي لقيتُ) عذرا للإبطاء، بل يكون إخبارا بما جرى، أو استفهاما واستعلاما لما سمعت من عمر: هل هو حقّ، أم لا؟ والأوّل أظهر .

روى الحميري في كتاب قرب الإسناد عن السنديّ بن محمّد ، عن صفوان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «كانت امرأة من الأنصار تُدعى حسرة ، تغشى آل محمّد، وتحنّ، وإن زفر وحبتر لقياها ذات يوم، فقالا : أين تذهبين يا حسرة؟ فقالت : أذهب إلى آل محمّد، فأقضي من حقّهم، واُحدِث بهم عهدا .

فقالا : ويلك، إنّه ليس لهم حقّ، إنّما كان هذا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

فانصرفت حَسرة، ولبثت أيّاما، ثمّ جاءت، فقالت اُمّ سلمة زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله : ما أبطأ بك

ص: 460

عنّا يا حسرة؟

فقالت : استقبلني زفر وحبتر، فقالا : أين تذهبين يا حسرة؟ فقلت : أذهب إلى آل محمّد، وأقضي من حقّهم الواجب ، فقالا : إنّه ليس لهم حقّ، إنّما كان هذا على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله .

فقالت اُمّ سلمة : كذبا، لعنة اللّه عليهما، لا يزال حقّهم واجب على المسلمين إلى يوم القيامة» (1).

متن الحديث السادس والأربعين والمائة

اشارة

ابْنُ مَحْبُوبٍ (2) ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ؟ (3).

قَالَ: «هُمْ وَاللّهِ شِيعَتُنَا حِينَ صَارَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَقْبَلُوا الْكَرَامَةَ مِنَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَلِمُوا، وَاسْتَيْقَنُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ، وَعَلى دِينِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَبْشَرُوا بِمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

شرح الحديث

السند كالحسن .

قال اللّه _ عزّ وجلّ _ في سورة آل عمران : «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» (4).

قال الشيخ الطبرسي : أي يُسّروُن بإخوانهم الذين فارقوهم، وهم أحياء في الدُّنيا ، على مناهجهم من الإيمان والجهاد؛ لعلمهم بأنّهم إن استشهدوا لحقوا بهم، وصاروا من كرامة اللّه تعالى إلى مثل ما صاروا إليه ، يقولون : إخواننا يُقتلون كما قُتلنا، فيصيبون من النعيم

ص: 461


1- قرب الإسناد ، ص 29 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 22 ، ص 223 ، ح 3 ؛ و ج 30 ، ص 176 ، ح 36
2- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن ابن محبوب ، عليّ بن إبراهيم عن أبيه
3- آل عمران (3) : 170
4- آل عمران (3) : 169 و 170

مثل ما أصبنا . عن ابن جريح وقتادة .

وقيل : إنّه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من تَقدّم عليه من إخوانه، فيُسرّ بذلك، ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدُّنيا . عن السدي .

وقيل : معناه: لم يلحقوا بهم في الفضل إلّا أنّ لهم فضلاً عظيما بتصديقهم وإيمانهم . عن الزجاج .

«أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» أي يستبشرون بأن لا خوفٌ عليهم، وذلك لأنّه بدل من قوله: «اَلَّذِيْنَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» ؛ لأنّ الذين يلحقون بهم ، مشتملون على عدم الحزن .

والاستبشار هنا إنّما يقع بعدم خوف هؤلاء اللّاحقين ، ومعناه: لا خوفٌ عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيّتهم؛ لأنّ اللّه تعالى يتولّاهم، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم؛ لأنّ اللّه تعالى قد أجزل لهم ما عوّضهم .

وقيل : معناه: لا خوفٌ عليهم فيما يقدّمون عليه؛ لأنّ اللّه تعالى محّص ذنوبهم بالشهادة ، ولا هم يحزنون على مفارقة الدُّنيا فرحا بالآخرة (1).

وقوله عليه السلام : (هم واللّه شيعتنا) .

لعلّ المراد أنّ الآية وإن كان ظاهرها في فضل الشهداء، إلّا أنّ باطنها في فضل الشيعة .

وقيل : أي هم مشاركون مع الشهداء في هذه الكرامة؛ لما مرّ في الأخبار الكثيرة أنّ من يموت من الشيعة بمنزلة الشهيد حيٌّ يُرزق . وهذا الحكم مختصّ بشعداء الشيعة . والأوّل أظهر . انتهى (2).

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه أظهر وألصق بالعبارة .

وقوله : (حين صارت أرواحهم في الجنّة) .

قال الفاضل الإسترآبادي : «الظاهر أنّ المراد بالجنّة الجنّة التي خلقها اللّه في المغرب، وجعلها مكان أرواح السعداء في عالم البرزخ» (3).

وقيل : يحتمل أن يُراد بها الجنّة المعروفة، وهي موجودة، كما هو الحقّ، ودلّت عليه الآيات والروايات ، ولا يمتنع دخول أرواح المؤمنين فيها في البرزخ عقلاً ونقلاً ، وأمّا عدم

ص: 462


1- تفسير مجمع البيان ، ج 2 ، ص 443 و 444
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 13
3- نقل عنه المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 165

خروج من دخلها فلعلّه يكون بعد الحشر وعود الأرواح إلى الأبدان (1).

وقوله : (واستيقنوا ...) أي حصل لهم اليقين عيانا بكونهم على الحقّ من دون المعارضات الوهميّة، كما في هذه النشأة، من قبيل : «بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» (2) .

وقوله : (ألّا خوفٌ عليهم) أي على الذين لم يلحقوا بهم بعدُ من إخوانهم . أو على المستبشرين بأعيانهم. أو على الجميع .

متن الحديث السابع والأربعين والمائة

اشارة

عَنْهُ (3) ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، قَالَ:

سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ» (4). ؟

قَالَ: «هُنَّ صَوَالِحُ الْمُؤْمِنَاتِ الْعَارِفَاتِ».

قَالَ: قُلْتُ: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» (5). ؟

قَالَ: «الْحُورُ هُنَّ الْبِيضُ الْمَضْمُومَاتُ الْمُخَدَّرَاتُ فِي خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالْمَرْجَانِ، لِكُلِّ خَيْمَةٍ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، عَلى كُلِّ بَابٍ سَبْعُونَ كَاعِبا حُجَّابا لَهُنَّ، وَيَأْتِيهِنَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَرَامَةٌ مِنَ اللّهِ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ يُبَشِّرُ (6) اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِهِنَّ الْمُؤْمِنِينَ».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله تعالى : «فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ» .

قال البيضاوي : أي خيّرات، فخفّفت؛ لأنّ خيرا بمعنى أخير لا يجمع. وقد قرئ على الأصل.

«حِسَانٌ» : حسان الخَلق والخُلق .

ص: 463


1- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 165
2- البقرة (2) : 260
3- الضمير راجع إلى عليّ بن إبراهيم المذكور في سند الحديث 145
4- الرحمن (57) : 70
5- الرحمن (57) : 72
6- في كلتا الطبعتين ومعظم النسخ التي قوبلت في الطبعة الجديدة : «ليبشّر»

«حُورٌ مَقْصُورَاتٌ» أي قُصِرن في خدورهنّ . يُقال : امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة؛ أي مخدّرة، أو مقصورات الطرف على أزواجهنّ (1).

وقال الفيروزآبادي : الحُور _ بالضمّ _ جمع أحور، وحَوْراء. وبالتحريك: أن يشتدّ بياضُ بياضِ العين، وسوادُ سوادِها، وتستدير حدقتها، وترقّ جفونها، ويبيض ما حواليها . أو شدّة بياضها وسوادها في شدّة بياض الجسد، أو اسوداد العين كلّها مثل الظباء، ولا يكون في بني آدم، بل يستعار لها (2) وقال : «امرأة مقصورة: محبوسة في البيت، لا تترك أن تخرج» (3).

وقوله : (المضمومات المُخدّرات) .

الضمّ: قبض شيء إلى شيء . ولعلّ المراد أنّهنّ ضممن إلى خِدرهنّ، أو إلى الخيام، أو إلى الأزواج .

والخِدر، بالكسر: الستر . وجارية مُخدّرة: اُلزِمت الستر .

وفي بعض النسخ: «المضمّرات» بدل «المضمومات» . قال الجزري : «تضمير الخيل، هو أن يظاهر عليها بالعلف حتّى تسمن» (4).

وقوله : (سبعون كاعبا حُجّابا لهنّ) .

الكاعب: الجارية حين يبدو ثديها للنهود؛ أي الارتفاع. والجمع: كواعبُ.

والحجّاب، بالضمّ والتشديد: جمع حاجب الأمير .

(وتأتيهنّ كلّ يوم كرامة من اللّه ) .

المستتر في «تأتيهنّ» راجع إلى سبعين كاعبا . والبارز إلى الحور. و«كرامة» منصوب على التميز .

ويحتمل أن يكون «كرامة» فاعل «تأتيهنّ» .

(يبشّر اللّه بهنّ المؤمنين) أي يبشّر بألسنة رسله، وفي كتبه بأنّ لهم صنفين من الأزواج .

وفي بعض النسخ : «ليبشّر اللّه »؛ يعني أنزل هذه الآية ليبشّرهم .

ص: 464


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 281 (مع تلخيص)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 15 (حور)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 118 (حبس)
4- النهاية ، ج 3 ، ص 99 (ضمر)

ويحتمل كونه تعليلاً للخلق المفهوم من السياق؛ أي إنّما خلقهنّ قبل دخول المؤمنين الجنّة ليبشّرهم بهنّ في الدُّنيا .

أو علّة لإتيان الكرامة أيضا .

متن الحديث الثامن والأربعين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ (1) عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، جَمِيعا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ الْكِنَانِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ:

قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام : «إِنَّ لِلشَّمْسِ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ بُرْجا، كُلُّ بُرْجٍ مِنْهَا مِثْلُ جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْعَرَبِ، فَتَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ عَلى بُرْجٍ مِنْهَا، فَإِذَا غَابَتِ انْتَهَتْ إِلى حَدِّ بُطْنَانِ الْعَرْشِ، فَلَمْ تَزَلْ سَاجِدَةً إِلَى الْغَدِ، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى مَوْضِعِ مَطْلَعِهَا، وَمَعَهَا مَلَكَانِ يَهْتِفَانِ مَعَهَا، وَإِنَّ وَجْهَهَا لأهْلِ السَّمَاءِ، وَقَفَاهَا لأهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ وَجْهُهَا لأهْلِ الْأَرْضِ لَاحْتَرَقَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا، وَمَعْنى سُجُودِهَا مَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى: «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ» (2). ».

شرح الحديث

السند حسن على تقدير توثيق محمّد بن عيسى ، وإلّا فضعيف . وأيضا في رواية أبي الصبّاح عن الأصبغ شائبة إرسال.

قوله : (ثلاثمائة وستّين بُرجا) .

في القاموس : «البرج، بالضمّ: الركن، والحِصن، وواحد بُرُوج السماء»(3).

وكأنّ المراد هنا الدرجة المداريّة التي نزل إليها كلّ يوم بحركتها الخاصّة، ويكون هذا العدد مبنيّا على عدّ كلّ شهر من شهور السنة ثلاثين يوما .

وقيل : بناؤه على ما هو الشائع بين الناس من تقدير السنة به، وإن لم يكن مطابقا لشيء من حركتي الشمس والقمر (4).

ص: 465


1- في السند تحويل بعطف العدّة عن سهل ، على عليّ بن إبراهيم ، عطف طبقتين على طبقة واحدة
2- الحجّ (22) : 18
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 178 (برج)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 168

أو المراد الدرجات التي هي مطالع الشمس من أوّل السرطان إلى أوّل الجدي، ذاهبة وجائية بحركتها الخاصّة .

فقوله : (فتنزل كلّ يوم على برج منها) ؛ يكون تغليبا.

والغرض من التشبيه بجزائر العرب بيان سعتها وعظمتها، وسرعة حركة الشمس فيها .

في القاموس : «جزيرة العرب: ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثمّ دجلة وفرات. أو ما بين عدن أبين إلى المدار الشام طولاً، ومن جدّة إلى ريف العراق عرضا» (1).

(فإذا غابت) ؛ يعني غربت في الدرجة المحاذية لمطلعها بالحركة اليوميّة .

(انتهت إلى حدّ بُطنان العرش) .

قال الجوهري : «البطن: خلاف الظهر. والجمع: بطنان، مثل ظَهر وظهران. والبطنان أيضا جمع البَطن، وهو الغامض من الأرض . وبطنان الجنّة: وسطها» (2) وقال في النهاية : «بطنان العرش: وسطه» (3).

وقال الفاضل الإسترآبادي : «المراد دخولها دائرة نصف النهار؛ فإنّها حينئذٍ تحاذي النقطة التي هي وسط العرش» انتهى (4).

وأنت خبير بأنّ دائرة نصف النهار بالنسبة إلى الآفاق مختلفة، وكأنّه أراد نصف نهار الاُفق المستقيم، وفيه شيء .

وقال بعض الأفاضل : «المراد محاذاة أوساط العرش بالنسبة إلى أكثر المعمورة؛ لما ورد في الأخبار الكثيرة: أنّ العرش محاذٍ للكعبة» (5)

وقيل : بطنان العرش: تحته ، والمراد بحدّ بطنان العرش المنزلة التي ترجع منها، وتطلع من المغرب في آخر الزمان عند قيام الساعة ، وقد عدّ ذلك من أشراطها، وإلّا فالشمس دائما تحت العرش (6).

وأقول : التثبّت والتوقّف في أمثال هذا الخبر طريق الاحتياط؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات

ص: 466


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 168
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 389 (جزر) مع اختلاف يسير
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2079 (بطن)
4- النهاية ، ج 1 ، ص 137 (بطن)
5- لم نعثر على مصدره
6- مرآة العقول ، ج 26 ، ص 16

خيرٌ من الاقتحام في الهلكات (1).

(فلم تزل ساجدة) من حين غروبها .

(إلى الغد)؛ كأنّ المراد بسجودها خضوعها وانقيادها لأمره تعالى فيما اُمِرتْ به .

وقال الفاضل الإسترآبادي : «قد استفدت من كلام الصادق عليه السلام أنّ السجدة والسبحة قسمان : طبيعيّة وإراديّة، ومن قبيل الاُولى سجدة الشمس» (2).

(ثمّ تُردّ إلى موضع مطلعها) أي مشرقها المعروف، وهكذا يفعل بها إلى ما شاء اللّه .

(ومعها مَلكان يهتفان معها) .

في الصحاح : «هَتَفِ الحمامة يَهْتِف هَتْفا، وهَتَف به هتافا؛ أي صاح به» (3).

ولعلّ المراد بالهتف هنا الزجر والسوق حتّى تطلع من مشرقها .

(وإنّ وجهها لأهل السماء) إلى آخره .

الظاهر أنّها كانت كذلك دائما بقرينة التعليق .

وقيل : يحتمل أن يُراد به أنّ وجهها لأهل السماء متوجّه إلى العرش حين كونها ساجدة، ووجه شدّة حرارتها للأرض حينئذٍ ظاهر لتغيّر حالها بمشاهدة جلال اللّه وعظمة كبريائه، كما نقل ذلك من حال نبيّنا صلى الله عليه و آله عند نزول الوحي . وأيّده بما رواه في الفقيه من: «أنّ الشمس إذا بلغت الجوّ، وجازت الكوّ، قلّبها ملك النور ظهرا لبطن، فصار ما يلي الأرض إلى السماء، وبلغ شعاعها تخوم العرش» (4) الحديث (5).

وقوله : (ومعنى سجودها) ؛ إمّا من تتمّة الخبر، أو من كلام أحد الرواة، أو المصنّف .

(قال سبحانه وتعالى) في سورة الحجّ : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» .

ص: 467


1- اقتباس من الحديث المشهور الذي روي عن الإمام الصادق عليه السلام بطرق مختلفة . راجع : الكافي ، ج 1 ، ص 68 ، ح 10 ؛ الفقيه ، ج 3 ، ص 11 ، ح 3233 ؛ التهذيب ، ج 6 ، ص 303 ، ح 845 ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 107 ؛ عوالى اللآلي ، ج 4 ، ص 135
2- حكاه عنه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 16
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1442 (هتف)
4- .الفقيه ، ج 1 ، ص 225 ، ح 675 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 165 ، ح 4808
5- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 168

قال البيضاوي : أي يستخرّ لقدرته، ولا يتأتّى عن تدبيره . أو يدلّ بذلّته على عظمة مدبّره ، ومَن يجوز أن يعمّ اُولي العقل وغيرهم على التغليب، فيكون قوله : «وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» ؛ إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها .

«وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» ؛ عطف عليها إن جوّزنا إعمال اللفظ الواحد في كلّ واحدٍ من مفهوميه، وإسناده باعتبار أحدهما إلى أمر، وباعتبار الآخر إلى آخر؛ فإنّ تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم. أو مبتدأ خبره محذوف دلّ عليه خبر قسيمة نحو: حقّ له الثواب . أو فاعل فعل مضمر؛ أي يسجد له كثير من الناس سجود طاعة . انتهى (1).

وقيل : يحتمل أن يكون المراد بالسجود غاية التذلّل والخضوع والانقياد التي تتأتّى من كلّ شيء بحسب قابليّته ، ويكون المراد بقوله تعالى: «مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» الملائكة المسخّرين في الأوامر التكوينيّة، والمطيعين في الأوامر التكليفيّة، ولمّا لم يتأتَّ من الشمس والقمر وأمثالهما سوى الانقياد في الأوامر التكوينيّة، فتلك أيضا في غاية الانقياد ، وأمّا الناس فلمّا كانوا قابلين للأوامر التكليفيّة، فالعاملون منهم لما لم يحصل منهم غاية ما يمكن فيهم من الانقياد في الأمرين باعتبار عدم الانقياد في الأمر التكليفي، أخرجهم عن ذلك ، وقال : «وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» . واللّه يعلم (2).

متن الحديث التاسع والأربعين والمائة

اشاره

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ:حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام سَبْعِينَ حَدِيثا لَمْ أُحَدِّثْ بِهَا أَحَدا قَطُّ، وَلَا أُحَدِّثُ بِهَا أَحَدا أَبَدا؛ فَلَمَّا مَضى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عليه السلام ثَقُلَتْ عَلى عُنُقِي، وَضَاقَ بِهَا صَدْرِي، فَأَتَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ

ص: 468


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 119
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 16 و 17

فِدَاكَ، إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي سَبْعِينَ حَدِيثا لَمْ يَخْرُجْ مِنِّي شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلى أَحَدٍ، وَأَمَرَنِي بِسَتْرِهَا، وَقَدْ ثَقُلَتْ عَلى عُنُقِي، وَضَاقَ بِهَا صَدْرِي، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، إِذَا ضَاقَ بِكَ مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ، فَاخْرُجْ إِلَى الْجَبَّانَةِ، وَاحْتَفِرْ حَفِيرَةً، ثُمَّ دَلِّ رَأْسَكَ فِيهَا، وَقُلْ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بِكَذَا وَكَذَا، ثُمَّ طُمَّهُ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَسْتُرُ عَلَيْكَ».

قَالَ جَابِرٌ: فَفَعَلْتُ ذلِكَ، فَخَفَّ عَنِّي مَا كُنْتُ أَجِدُهُ.

شرح الحديث

السند ضعيف .

وقوله : (من ذلك) أي كتمان السرّ .

وقوله : (إلى الجَبّانة) بالفتح والتشديد .

قال الجوهري : «الجبّان والجبّانة، بالتشديد: الصحراء» (1) وفي القاموس : «الجبّان والجبّانة، مشدّدتين: المقبرة، أو الأرض المستوية في ارتفاع» (2).

وقوله : (واحتفر حَفيرة) .

الحفر: شقّ الأرض بحديدة ونحوها، وفعله كضرب . والحفيرَة، بالفتح: المُحتفَر، والقبر.

وبالضمّ: مصغّر الحُفرة، بمعنى الحفر .

(ثمّ دَلِّ) أي أرسل .

(رأسَك فيها) .

قال الجوهري : «دَلَوتُ الدلوَ: نزعتها. وأدليتها: أرسلت بها في البئر . ودلّاه بغرور؛ أي أوقعه فيما أراد من تغريره، وهو من إدلاء الدلو» (3).

وفي هذا الحديث دلالة على وجوب كتمان السرّ ، وعلى أنّ للأئمّة عليهم السلام علوما لا يحتملها إلّا الخواصّ من شيعتهم ، وعلى أنّ إظهاره على هذا النحو يدفع ضيق الصدر الحاصل من الكتمان .

وقوله : (ثمّ طُمّه) .

قال الجوهري : «جاء السيل فطمَّ الركيّة؛ أي دفّنها، وسوّاها . وكلّ شيء علا وغلب فقد

ص: 469


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2091 (جبن)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 208 (جبن)
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2339 (دلو)

طَمَّ يطمُّ. ومنه سُمّيت القيامة طامّة» (1).

وقوله : (فإنّ الأرض تستر عليك) .

قيل : فيه دلالة على أنّ للجماد نفسا مدركة(2). وفيه ما فيه ، وهاهنا سؤال، وهو أنّه عليه السلام لِمَ لم يأمره بإظهاره له، والحال أنّه أحفظ من جابر؟!

والجواب : أنّه عليه السلام كان عالما به، لم يكن الإظهار له دافعا للضيق.

أو ليعلم كيفيّة التخلّص من الضيق من لم يتمكّن عن إظهاره لمثله عليه السلام في أيّ وقتٍ من الأوقات .

* عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ مِثْلَهُ.

شرح الحديث

هذا السند كسابقه في الضعف والإرسال .

متن الحديث الخمسين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ:

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «لَاخُذَنَّ الْبَرِيءَ مِنْكُمْ بِذَنْبِ السَّقِيمِ، وَلِمَ لَا أَفْعَلُ وَيَبْلُغُكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مَا يَشِينُكُمْ وَيَشِينُنِي، فَتُجَالِسُونَهُمْ، وَتُحَدِّثُونَهُمْ، فَيَمُرُّ بِكُمُ الْمَارُّ، فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ هذَا، فَلَوْ أَنَّكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ مَا تَكْرَهُونَ زَبَرْتُمُوهُمْ وَنَهَيْتُمُوهُمْ، كَانَ أَبَرَّ بِكُمْ وَبِي».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لآخذنّ البريء منكم) .

المراد بالأخذ إمّا التأديب، أو الحكم بكونه مواخذا في الآخرة بالتعذيب .

لعلّ وجه تسمية تارك النهي عن المنكر بريئا إنّما هو بحسب ظنّه أنّه بريء من الذنب، أو باعتبار برائته عمّا يرتكبه غيره .

ص: 470


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1976 (طمم)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 169

(بذنب السقيم) .

السقيم، بالضمّ وبالتحريك: المرض .

والمراد بالسقيم هنا المذنب .

وقوله : (يَشينكم) .

الشين: القبح، والعيب، وفعله كباع .

والضمير المنصوب في قوله : (فتجالسونهم، وتحدّثونهم) راجع إلى الرجل باعتبار كون اللّام للاستغراق، أو للجنس الشامل للكثرة .

وقوله : (هؤلاء شرّ من هذا) أي هؤلاء الذين يجالسون هذا الفاسق ولا ينهونه شرٌّ منه .

وقيل : الجملة استفهام إنكاريّ، والمشار إليهم بهؤلاء العامّة .

ومنهم من قرأ «مَنْ» بالفتح، وجعل المشار إليهم أيضا العامّة (1).

ولا يخفى بُعدهما ، وكذا جعل المشار إليه بهؤلاء ذلك الرجل ومن يجلس معه، والمشار إليه بهذا أبا عبد اللّه عليه السلام .

وقوله : (زبرتموهم، ونهيتموهم) .

في القاموس : «الزَّبْر: المنع، والنهي، يَزبُر ويزبِر» (2) وفيه: «نهاه ينهاه نهيا، ضدّ أمره» (3).

وقوله : (أبرّ بكم وبي) أي أكثر بِرّا، أو أبعد من الشين والعيب والتهمة .

في القاموس : «البرّ: الاتّساع في الإحسان، وضدّ العقوق.

وأصلح العرب أبرّهم؛ أي أبعدهم» (4).

وفي هذا الخبر دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى حرمة مجالسة الفاسق، ووجوب التحرّز عن مواضع التهمة .

متن الحديث الواحد والخمسين والمائة

اشاره

سهْلِ بْنِ زِيَاد عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبدِاللهِ بْنِ اَلْمغيره عَنْ طلْحه بنِ زَيْد

ص: 471


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 18
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 37 (زبر)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 398 (نهي)
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 370 (برر) مع التلخيص

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالى: «فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ» (1) ، قَالَ:«كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ ائْتَمَرُوا، وَأَمَرُوا، فَنَجَوْا. وَصِنْفٌ ائْتَمَرُوا، وَلَمْ يَأْمُرُوا، فَمُسِخُوا ذَرّا. وَصِنْفٌ لَمْ يَأْتَمِرُوا، وَلَمْ يَأْمُرُوا، فَهَلَكُوا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (ائتمروا، وأمروا) .

الائتمار: قبول الأمر، والامتثال به ؛ يعني أنّهم امتثلوا بفعل الأوامر، وترك النواهي، وأمروا غيرهم أيضا بهما .

وقوله : (فمُسخوا ذَرّا) .

في النهاية : «الذرّ: النمل الصغير الأحمر، واحدتها: ذرّة» (2) إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ هذه الآية وما قبلها وما بعدها في سورة الأعراف هكذا : «وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» (3) .

قال البيضاوي : «فَلَمَّا نَسُوا» أي تركوه ترك الناسي. «مَا ذُكِّرُوا بِهِ» أي ما ذكّر صلحاؤهم . «أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا» بالاعتداء، ومخالفة أمر اللّه تعالى «بِعَذَابٍ بَئِيسٍ» شديد .

ثمّ قال : الظاهر يقتضي أنّ اللّه تعالى عذّبهم أوّلاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك، فمسخهم .

ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلاً للآية الاُولى .

ص: 472


1- الأعراف (7) : 165
2- النهاية ، ج 3 ، ص 157 (ذرر) مع اختلاف يسير في اللفظ
3- الأعراف (7) : 163 - 166

رُوِيَ: أنّ الناهين لمّا أيسوا عن اتّعاظ المعتدين، كرهوا مساكنتهم، فقسّموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوما، ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا: إنّ لهم شأنا، فدخلوا عليهم، فإذا [هم] قِردَةٌ، فلم يعرفوا أنسباءهم، ولكن القُرُود تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم، وتشمّ ثيابهم، وتدور باكيةً حولهم، ثمّ ماتوا بعد ثلاث .

وعن مجاهد : «مسخت قلوبهم، لا أبدانهم» انتهى (1).

وأقول : ظاهر هذا الخبر مناف للآية الأخيرة، فلعلّ وجه الجمع ما ذكره البيضاوي من أنّهم عذّبوا أوّلاً، ثمّ عتوا بعد ذلك، فمُسخوا قردة . فالمراد بالهلاك في هذا الخبر العذاب .

أو نقول : المراد بالهلاك مسخ قلوبهم، كما قال مجاهد .

وقيل : المراد بالهلاك مسخهم قردة ، وأيّده بما ذكر السيّد ابن طاووس في كتاب سعد السعود، قال : رأيت في كتاب أنّهم كانوا ثلاث فرق ؛ فرقة باشرت المنكر ، وفرقة أنكرت عليهم ، وفرقة داهنت أهل المعاصي، فلم تنكر، ولم تباشر المعصية، فنجّى اللّه الذين أنكروا، وجعل الفِرقة المداهِنَة ذرّا، ومسخ الفرقة المباشرة للمنكر قردة .

ثمّ قال ابن طاووس رحمه الله : «ولعلّ مسخ المداهنة ذرّا؛ لتصغيرهم عظمة اللّه ، وتهوينهم بحرمة اللّه ، فصغّرهم اللّه » انتهى (2).

فليتأمّل جدّا .

متن الحديث الثاني والخمسين والمائة

اشاره

عَنْهُ (3) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ:كَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام إِلَى الشِّيعَةِ: «لَيَعْطِفَنَّ ذَوُو السِّنِّ مِنْكُمْ وَالنُّهى عَلى (4) ذَوِي الْجَهْلِ وَطُلَابِ الرِّئَاسَةِ، أَوْ لَتُصِيبَنَّكُمْ لَعْنَتِي أَجْمَعِينَ».

ص: 473


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 68 و 69
2- سعد السعود ، ص 119 (مع اختلاف يسير في اللفظ) . والناقل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 18 و 19
3- رجوع الضمير إلى «سهل» أمر واضح
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «عن»

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (ليعطفنّ) إلى آخره .

العطف: الميل، والشفقة، وإذا عدّي ب «على»، كما في أكثر النسخ، فالغرض الترغيب في رأفة الجهّال، ورحمتهم بالنصيحة والموعظة، والنهي عمّا ارتكبوه من آثار الجهل .

ويحتمل كونه بمعنى الكره والغلبة .

قال في القاموس : «عطف عليه: حمل، وكرّ» (1) . فالمراد زجرهم ومنعهم عمّا هم عليه.

وإذا عدّي ب «عن» كما في بعض النسخ، فالغرض الترغيب في صرف الميل عنهم، ومفارقتهم، وعدم المعاشرة والمجالسة معهم .

قال الجوهري : «النهية، بالضمّ: واحدة النهي، وهي العقول؛ لأنّها تنهى من القبيح» (2).

وفي القاموس : «النهية، بالضمّ: العقل، كالنُّهي. وقد تكون جمع نهيَة أيضا» (3).

متن الحديث الثالث والخمسين والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ جَمِيعا، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ جَعَلَ الدِّينَ دَوْلَتَيْنِ: دَوْلَةً لأَمَ عليه السلام ، وَدَوْلَةً لأِبْلِيسَ، فَدَوْلَةُ آدَمَ هِيَ دَوْلَةُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَنْ يُعْبَدَ عَلَانِيَةً أَظْهَرَ دَوْلَةَ آدَمَ، وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يُعْبَدَ سِرّا كَانَتْ دَوْلَةُ إِبْلِيسَ، فَالْمُذِيعُ لِمَا أَرَادَ اللّهُ سَتْرَهُ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ».

شرح الحديث

السند ضعيف مرسل .

قوله : (جعل الدِّين دَولتين) .

قال الجوهري : الدولة في الحرب: أن تدال إحدى الفئتين على الاُخرى . يُقال : كانت لنا عليهم

ص: 474


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 176 (عطف)
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2517 (نهي)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 398 (نهي)

الدولة. والجمع: الدُّوَل. والدُّولة بالضمّ في المال. يُقال : صار الفيء دولةً بينهم يتداولونه، يكون مرّةً لهذا، ومرّة لهذا، والجمع: دُولات، ودُوَل . قال أبو عبيد : «الدُّولة، بالضمّ: اسم الشيء الذي يُتَداول به بعينه، والدولة بالفتح: الفعل». وقال بعضهم : الدَّولة والدُّولة لغتان بمعنى .

قال محمّد بن سلام الجمحي : سألت يونس عن قول اللّه تعالى : «لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» (1) ، فقال : قال أبو عمرو بن العلاء : «الدُّولة _ بالضمّ _ في المال، والدَّولة _ بالفتح _ في الحرب» .

قال : وقال عيسى بن عمر : «كلتاهما [تكون] في المال والحرب سواء» .

قال يونس : «أمّا أنا فواللّه ما أدري ما فرَقٌ بينهما» (2).

وقال الجوهري : «مرق السهم من الرمية؛ أي خرج من الجانب الآخر. ومنه سمّيت الخوارج مارقة» انتهى (3).

وحاصل الخبر أنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ قد يتعلّق حكمه بإظهار حجّته، وقد يتعلّق بإخفائها.

بيانه: أنّ لكلّ دولة ناصر وحامٍ ؛ فدولة إبليس حماته جنود إبليس من شياطين الجنّ والإنس ، ودولة آدم ناصره ومعينه [من]الأنبياء والأوصياء والصُّلحاء ، فإذا غلب جنود إبليس خفي حجج اللّه ، ولا يمكنهم الاستيلاء على أهل الجور ، فبذلك يصير أهل الحقّ مغلوبا مقهورا، ويستولي أتباع إبليس على أتباع آدم ، و «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (4) ، ويريد اللّه عند ذلك أن يُعبد سرّا من أهل الباطل؛ لقلّة أهل العلم والصّلاح، وضعف قوّتهم، فلو حاولوا المخاصمة معهم هلكوا، وانطمس الدِّين وشعائره بالكلّية ، فلذا وجب عليهم التحمّل والتثبّت إلى ظهور دولة الحقّ؛ فمن أذاع سرّه في ذلك الزمان، وترك التقيّة، فقد أذاع ما أراد اللّه كتمانه ، وأمر بستره، فيكون خارجا عن كمال الدِّين .

متن الحديث الرابع والخمسين والمائة (حديث الناس يوم القيامة)

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي

ص: 475


1- الحشر (59) : 7
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1700 (دول)
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1554 (مرق)
4- الروم (30) : 41

جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:قَالَ: «يَا جَابِرُ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَمَعَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْأَوَّلِينَ وَالْاخِرِينَ لِفَصْلِ الْخِطَابِ، دُعِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، وَدُعِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَيُكْسى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حُلَّةً خَضْرَاءَ تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَيُكْسى عَلِيٌّ عليه السلام مِثْلَهَا، وَيُكْسى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله حُلَّةً وَرْدِيَّةً يُضِيءُ لَهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَيُكْسى عَلِيٌّ عليه السلام مِثْلَهَا، ثُمَّ يَصْعَدَانِ عِنْدَهَا، ثُمَّ يُدْعى بِنَا، فَيُدْفَعُ إِلَيْنَا حِسَابُ النَّاسِ، فَنَحْنُ وَاللّهِ نُدْخِلُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ.

ثُمَّ يُدْعى بِالنَّبِيِّينَ عليهم السلام ، فَيُقَامُونَ صَفَّيْنِ عِنْدَ عَرْشِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتّى نَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، بَعَثَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلِيّا عليه السلام ، فَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَزَوَّجَهُمْ.

فَعَلِيٌّ _ وَاللّهِ _ الَّذِي يُزَوِّجُ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلى أَحَدٍ غَيْرِهِ كَرَامَةً مِنَ اللّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، وَفَضْلاً فَضَّلَهُ اللّهُ بِهِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ. وَهُوَ وَاللّهِ يُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، وَهُوَ الَّذِي يُغْلِقُ عَلى أَهْلِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوا فِيهَا أَبْوَابَهَا؛ لأنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ إِلَيْهِ، وَأَبْوَابَ النَّارِ إِلَيْهِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لفصل الخطاب).

لعلّ المصدر بمعنى اسم الفاعل. والإضافة من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف ؛ أي الخطاب الفاصل بين الحقّ والباطل، أو الذي يفصل بين الناس في الخِصام .

ويحتمل كونه بمعنى المفعول؛ أي الخطاب المفصول، والكلام الملخّص الذي يتبيّنه من يخاطَبْ به، ويتنبّه على المقصود من غير التباس .

وقيل : هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخلّ، ولا إشباع مُمِلّ .

وقوله : (حُلّة خَضراء) .

في القاموس : «الحُلّة، بالضمّ: إزارٌ، ورداءٌ بردٌ، أو غيره. ولا تكون حلّة إلّا من ثوبين، أو ثوب له بطانة» (1).

ص: 476


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 359 (حلل)

(يضيء لها ما بين المشرق والمغرب) .

الإضاءة يتعدّى ولا يتعدّى، وهنا متعدٍّ . والضمير المستتر راجع إلى الحُلّة؛ أي صيّر تلك الحُلّة هذا المقدار من المسافة أو جميع عرصة القيامة مضيئا .

وقوله : (يصعدان)؛ من المجرّد أو المزيد المعلومين .

والمراد صعودهما المنبر، أو موضعا مرتفعا، أو يمضيان ناحية .

في القاموس : «صَعِد في السُّلَّم _ كسمع _ صُعُودا، وصعد في الجبل، وعليه تصعيدا:

رَقِيَ. وأصْعَد في الأرض: مضى . والإصعاد: الصعود» (1).

(عندها) أي عند اكتساء الحلّة بتقدير المضاف، أو عند حالة الاكتساء .

متن الحديث الخامس والخمسين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «خَالِطُوا النَّاسَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ حُبُّ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهماالسلام فِي السِّرِّ، لَمْ يَنْفَعْكُمْ فِي الْعَلَانِيَةِ».

شرح الحديث

السند مجهول . وقيل : ضعيف . وفيه نظر .

قوله : (خالطوا الناس) إلى آخره .

المراد بهم أهل الخلاف، ولمّا كانت مخالطتهم توجب إخفاء محبّة أهل البيت عليهم السلام ، وذلك يُوهم عدم جوازه، أمره عليه السلام أوّلاً بالمخالطة والمعاشرة معهم بالتقيّة والمداراة وكتمان السرّ؛ لدفع ضررهم، ودفع ذلك التوهّم ثانيا بأنّ المحبّة أمرٌ قلبيّ، لا تنافي الإخفاء، وأنّ تلك المحبّة القلبيّة هي الأصل، والفوائد المقصودة من المحبّة مترتّبة عليها، فلو لم تنفع لم تنفع المحبّة اللِّسانيّة؛ إذ هي فرع لها، والفرع لا يتحقّق بدون الأصل .

ص: 477


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 307 (صعد)

متن الحديث السادس والخمسين والمائة

اشارة

جَعْفَرٌ (1) ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«إِيَّاكُمْ وَذِكْرَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهماالسلام؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ عليهماالسلام».

شرح الحديث

السند مثل سابقه .

قوله : (إيّاكم وذكر عليّ وفاطمة عليهماالسلام) ؛ يعني عند النواصب المُبغضين لهما .

متن الحديث السابع والخمسين والمائة

اشارة

جَعْفَرٌ (2) ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ إِذَا أَرَادَ فَنَاءَ دَوْلَةِ قَوْمٍ، أَمَرَ الْفَلَكَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، فَكَانَتْ عَلى مِقْدَارِ مَا يُرِيدُ».

شرح الحديث

السند مثل سابقيه .

قوله عليه السلام : (أمر الفَلَك) إلى آخره .

قيل : لعلّ المراد تسبيب أسباب زوال دولتهم على الاستعارة التمثيليّة، أو يكون لكلّ دولة فلك سوى الأفلاك المعروفة والحركات ، وقد قُدِّرَ لدولتهم عددٌ من الدورات، فإذا أراد اللّه إطالة مدّتهم أمر بإبطائه في الحركة ، وإذا أراد سرعة فنائها أمر بإسراعه (3).

وأقول : في التوجيه الثاني شيء يظهر بالتأمّل فيما سنذكره .

وقال بعض الشارحين : لا حاجة إلى التأويل بأنّه كناية عن زوال دولتهم باعتبار أمر منقطع؛ لأنّ إسراع الفلك وإبطاؤه على القدر المعتاد له ممكن بالنسبة إلى القدرة الكاملة . كيف لا، وحركته إمّا

ص: 478


1- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن جعفر ، عليّ بن إبراهيم عن صالح بن السندي
2- السند كسابقه في التعليق
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 21

إراديّة، أو قسريّة، أو طبيعيّة ؛ وعلى التقادير يمكن السرعة والبطؤ فيها، ويختلف بحسبها الزمان زيادة ونقصانا .

أمّا على الأوّلين فظاهر ، وأمّا على الأخير؛ فلأنّ الحركة الطبيعيّة تشتدّ وتضعف بالقسر (1).

أقول : لا نزاع في إمكان ذلك، وإنّما النزاع في وقوعه كيف، وقد انضبط حركات الأفلاك وسير الكواكب ومواضع الأوجات والجوزهرات في كلّ عصر من الأعصار إلّا أن يدّعى أنّ ذلك لم يقع بعدُ. وفيه ما فيه .

ثمّ قال : ونظير ذلك ما رواه المسلم في حديث الدجّال : أنّه يلبث في الأرض أربعين يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيّامه كأيّامكم (2).

قال القرطبي : «يخرق العادة في تلك الأيّام، ويبطأ بالشمس عند حركتها المعتادة في تلك الأيّام، حتّى يكون الأوّل كسنة، والثاني والثالث كما ذكر . وهذا ممكن» (3).

متن الحديث الثامن والخمسين والمائة

اشارة

جَعْفَرُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي شِبْلٍ، قَالَ:دَخَلْتُ أَنَا وَسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ: إِنَّ الزَّيْدِيَّةَ قَوْمٌ قَدْ عُرِفُوا، وَجُرِّبُوا، وَشَهَرَهُمُ النَّاسُ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مُحَمَّدِيٌّ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْكَ؛ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُدْنِيَهُمْ وَتُقَرِّبَهُمْ مِنْكَ فَافْعَلْ؟ فَقَالَ: «يَا سُلَيْمَانَ بْنَ خَالِدٍ، إِنْ كَانَ هؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ عِلْمِنَا إِلى جَهْلِهِمْ، فَلَا مَرْحَبا بِهِمْ وَلَا أَهْلاً، وَإِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ قَوْلَنَا، وَيَنْتَظِرُونَ أَمْرَنَا، فَلَا بَأْسَ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (عُرفوا) ؛ على بناء الفاعل، أو المفعول .

ص: 479


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 172 و 173
2- اُنظر : شرح مسلم للنووي ، ج 18 ، ص 27 ؛ مجمع الزوائد للهيثمي ، ج 7 ، ص 347 ؛ تفسير القرطبي ، ج 16 ، ص 130
3- القائل والناقل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 173

وكذا قوله : (وجُرّبوا) .

يُقال : جرّبه تجربة؛ أي امتحنه واختبره مرّة بعد اُخرى . ورجلٌ مجرّب، بفتح الراء: بُلِيَ ما عنده. وبكسرها: عَرفَ الاُمور .

(وشهرهم الناس) ؛ بتخفيف الهاء وتشديدها؛ يعني أنّهم عَرَفوا الاُمور المتعلّقة بالجرب، وجرّبوا ذلك لخروجهم مع زيد، أو عرفوا فضلك، وبلغ ذلك منهم إلى حدّ التجربة، أو صاروا معروفين مجرّبين عند الناس بالوفاء بالعهود، وعرفهم الناس بذلك، وشهروهم به . (وما في الأرض محمّديّ) أي من يكون على دين محمّد صلى الله عليه و آله من أولاده وأتباعه (أحبّ إليهم منك) .

ولمّا كانت هذه الاُمور مقتضية لإدنائهم وتقرّبهم، قال : (فإن رأيت أن تُدنيهم وتُقرّبهم منك، فافعل) .

العطف للتفسير .

وقوله : (يريدون أن يصدّونا عن علمنا) ؛ يعني يريدون بالمعاشرة معنا، وبالتقرّب عندنا أن يصرفونا ويمنعونا عن علمنا بمصالح الاُمور ومفاسدها، سيّما مصلحة الخروج بالسيف في أوانه، ومفسدته في غير زمانه .

(إلى جهلهم) بما ذكر .

(فلا مرحبا بهم ولا أهلاً) ؛ كناية عن انقطاع الصداقة والمودّة رأسا .

قال الجوهري : «قولهم: مرحبا وأهلاً؛ أي أتيت سعةً، وأتيت أهلاً، فاستأنس، ولا تستوحش» (1).

وقوله : (وينتظرون أمرنا) أي ظهور دولتنا، أو مطلقا .

(فلا بأس) ؛ يعني بإدنائهم، ومخالطتهم، والصداقة معهم .

متن الحديث التاسع والخمسين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

ص: 480


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 134 (رحب)

انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، وَهُوَ فِي جَنَازَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِسْعِهِ لِيُنَاوِلَهُ، فَقَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ شِسْعَكَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمُصِيبَةِ أَوْلى بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا».

شرح الحديث

السند ضعيف مرسل .

والشِّسْع _ بالكسر _ : أحد سيور النعل التي تشدّ إلى زِمامها، وهو ما يشدّ فيه الشِّسْع .

وقوله : (فإنّ صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها) .

المصيبة: كلّ ما يصيب الإنسان من الشدائد والمِحَن .

وقيل : هذا القول كاد أن يكون مثلاً لكلّ من أراد أن يدفع المكروه عن صاحبه، بحمله على نفسه (1).

متن الحديث الستّين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (2) ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ هِيَ الْمُغِيثَةُ تَنْفَعُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَا السَّامَ» وَشَبَرَ مِنَ الْحَاجِبَيْنِ إِلى حَيْثُ بَلَغَ إِبْهَامُهُ، ثُمَّ قَالَ: «هَاهُنَا».

شرح الحديث

السند مثل سابقه .

قال الجوهري : «الحَجْم: فعل الحاجم. وقد حَجَمه يحجمه، فهو محجوم، والاسم:

الحِجامة . والمِحجَمُ والمحجمة : قارورته . ابن السكّيت. يُقال : ما حجم الصبيّ ثدي اُمّه؛ أي ما مصّه» (3).

قوله : (هي المُغيثة) أي تغيث المحجوم من كلّ داء، وتنفعه، كما أشار إليه بقوله : (تنفع من كلّ داء) .

قيل : إمّا أن يريد به المبالغة في أنّ منافع الحجامة كثيرة تدفع أكثر الأمراض ، أو يُراد

ص: 481


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 174
2- السند معلّق على سابقه ، ويروي عن سهل ، عدّة من أصحابنا
3- الصحاح، ج 5، ص 1894 (حجم)

بالداء الداء الدمويّ، فيكون عامّا مخصوصا ، وإلّا فالأمر مشكل؛ لأنّ كون الحجامة نافعة في جميع الأمراض محلّ تأمّل ، وعلم ذلك على تقدير صحّة السند وإرادة العموم مرفوع عنّا (1).

والسام، بتخفيف الميم: الموت .

وقوله : (شبر من الحاجبين) .

في القاموس : «الشبر، بالكسر: ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخِنصر . وبالفتح: كيل الثوب بالشبر. وشبّر تشبيرا: قدّر» (2).

قيل : معنى «شبَر من الحاجبين» أنّه شبر من منتهاهما من يمين الرأس وشماله حتّى انتهى الشبر إلى النقرة خلف الرأس، أو من بين الحاجبين إلى حيث انتهت من مقدم الرأس، كما رواه الصدوق رحمه الله بإسناده عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : «الحجامة على الرأس على شبر من طرف الأنف، وفتر من بين الحاجبين، وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يسمّيها بالمنقذة» (3)

وفي حديث آخر : «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحتجم على رأسه، ويسمّيه المغيثة والمنقذة» (4).

وروي أيضا بإسناده عن البرقي، رفعه إلى أبي عبداللّه عن أبيه عليهماالسلام ، قال : «احتجم النبيّ صلى الله عليه و آله في رأسه وبين كتفيه وفي قفاه ثلاثا، سمّى واحدة النافعة، والاُخرى المغيثة، والثالثة المنقذة» (5).

متن الحديث الواحد والستّين والمائة

اشارة

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَرْوَكِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:قَالَ: «أَ تَدْرِي يَا رِفَاعَةُ لِمَ سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنا؟»

ص: 482


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 175
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 55 (شبر) ملخّصا
3- معاني الأخبار ، ص 247 ، ح 2 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 59 ، ص 112 ، ح 13
4- المصدر ، ذيل ح 13
5- المصدر ، ص 247 ، ح 1 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 113 ، ح 22120 ؛ وبحار الأنوار ، ج 59 ، ص 112 ، ح 12 . والقائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 22 و 23

قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي.

قَالَ: «لأنَّهُ يُؤْمِنُ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُجِيزُ [اللّهُ ]لَهُ أَمَانَهُ».

شرح الحديث

السند صحيح على الظاهر .

قوله : (لأنّه يؤمن على اللّه ) إلى آخره .

تعدية الإيمان ب «على» لتضمين معنى اللزوم والوجوب .

ولعلّ المراد أنّه يجعل من استحقّ العذاب آمِنا بشفاعته له، فيجز اللّه ذلك، ويقبل شفاعته .

ولعلّ المراد به المؤمن الكامل، أو القُرب بالكمال . أو المراد بيان وجه التسمية، مع قطع النظر عن المسمّى .

متن الحديث الثاني والستّين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ حَنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام [أَنَّهُ] قَالَ:«لَا يُبَالِي النَّاصِبُ صَلّى أَمْ زَنى، وَهذِهِ الْايَةُ نَزَلَتْ فِيهِمْ: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلى نارا حامِيَةً» (1). ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لا يبالي الناصب صلّى أم زنى) .

الظاهر أنّ «لا يبالي» على بناء المفعول ، والجملة التالية قائم مقام فاعله، وكونه على بناء الفاعل محتمل .

ولعلّ المراد أنّ صلاته لا ينفع بحاله، ووجودها كعدمها، أو أنّها غير صحيحة؛ لفقدان أعظم شرائط صحّتها، وهو الولاية، بل هي معصية اُخرى، ويعذّب بها أيضا كمَن صلّى جنبا، أو بغير وضوء .

ص: 483


1- الغاشية (88) : 3 و 4

وقوله تعالى : «عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ» .

قال البيضاوي : أي تعمل ما تتعب فيه، كجرّ السلاسل، وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصُّعود والهبوط في تلالها ووهادها ما عملت ونصبت في أعمال لا تنفعها يومئذٍ .

«تَصْلى نَارا» تدخلها «حَامِيَةً» متناهية في الحرّ . انتهى (1).

وأقول : يحتمل أن يكون غرضه عليه السلام تفسير «ناصبة» بمن نصب العداوة لأهل الولاية ، وتكون «عاملة» خبرا آخر للوجوه، أو تكون مبتدأ، و«ناصبة» صفتها، وجملة «تُصلى» خبرها.

والتأنيث باعتبار الموصوف المقدّر ؛ يعني نفس عاملة .

متن الحديث الثالث والستّين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (2). ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُرَازِمٍ وَيَزِيدَ بْنِ حَمَّادٍ، جَمِيعا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سِنَانٍ، فِيمَا أَظُنُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:«لَوْ أَنَّ غَيْرَ وَلِيِّ عَلِيٍّ عليه السلام أَتَى الْفُرَاتَ، وَقَدْ أَشْرَفَ مَاؤُهُ عَلى جَنْبَيْهِ، وَهُوَ يَزُخُّ زَخِيخا، فَتَنَاوَلَ بِكَفِّهِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللّهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ، كَانَ دَما مَسْفُوحا، أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (قد أشرف ماؤه على جنبيه) ؛ كناية عن كثرة مائه، وكمال وفوره، وعدم احتياج الناس إليه أجمع، وعدم توهّم ضررٍ على أحد في شربه .

وكذا قوله : (وهو يزخّ زَخيخا) .

الضمير للفرات .

والفعل على بناء الفاعل، من باب نصر ؛ أي يدفع ماءه إلى الساحل، ورماه، أو يسير ويجري سريعا؛ لوفوره وقوّته .

ص: 484


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 483
2- السند معلّق كسوابقه

وقيل : أو يَبرُق بريقا؛ لصفائه، أو لوفوره (1).

في القاموس : «زخّه: أوقعه في وَهْدةٍ. وزَيْدٌ: اغتاظ، ووثب. وببوله: رماه . والحادي: سارَ سيرا عنيفا. وزخّ الجمر يَزخُّ زخّا وزخيخا: بَرق» (2) .

وقوله : (كان دما مسفوحا، أو لحم خنزير) .

سَفَحَ الدم، كمنع: أراقه، وأرسله . والغرض أنّ ذلك الماء حرام عليه مثلهما؛ إمّا لأنّ الدُّنيا وما فيها كلّه للإمام ، وأنّه أباحه لشيعته فقط. أو لعقيدته الباطلة، وقد أخرج اللّه تعالى طيّبات الرزق للمؤمنين، وحرّمها على الكافرين .

متن الحديث الرابع والستّين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ ذَكَرَهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ:

قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «كَيْفَ صَنَعْتُمْ بِعَمِّي زَيْدٍ؟»

قُلْتُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَحْرُسُونَهُ، فَلَمَّا شَفَّ النَّاسُ أَخَذْنَا خَشَبَتَهُ، (3) فَدَفَنَّاهُ فِي جُرُفٍ عَلى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَالَتِ الْخَيْلُ يَطْلُبُونَهُ، فَوَجَدُوهُ، فَأَحْرَقُوهُ.

فَقَالَ: «أَ فَلَا أَوْقَرْتُمُوهُ حَدِيدا، وَأَلْقَيْتُمُوهُ فِي الْفُرَاتِ؟ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ، وَلَعَنَ اللّهُ قَاتِلَهُ».

شرح الحديث

السند مرسل .

قوله : (يحرسونه) ؛ يعني بعد أن صلبوه .

والحِراسة: الحفظ، والرُّقُوب، وفعله كنصر .

(فلمّا شفّ الناس) أي نقصوا، وفلّوا، أو رقّوا .

في القاموس: «شَفَّ الثوب يَشِفُّ شَفُوفا وشفيفا: رقّ، فحكى ما تحته . والشفّ، ويكسر: الفضل، والنقصان ضدٌّ. وشَفَّ يشفّ: زاد، ونقص، ويحرّك» (4).

ص: 485


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 24
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 260 (زخخ)
3- في كلتا الطبعتين وأكثر نسخ الكافي : «جُثّته»
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 159 (شفف)

وقوله : (خشيته) .

في بعض النسخ: «جثّته»، والمآل واحد .

وقوله : (في جُرُف) .

قال الجوهري : «الجُرف والجُرفُ، مثل عُسْرٍ وعُسُرٍ: ما تجرّفته السيول، وأكلته من الأرض. وجرفتهُ الطين: كسحتُه» (1).

وقوله : (جالت) من الجولان .

(الخيل): الفُرسان .

وقوله : (أفلا أوقرتموه ...) ؛ أي أثقلتموه.

وفيه دلالة على جواز ترك الدفن ، والتثقيل، والإلقاء في الماء عند الخوف والضرورة، وعلى مدح زيد، وفي معناه أخبار كثيرة، وفي بعضها أنّه لم يكن غرضه من الخروج ادّعاء الإمامة، بل ردّ الحقّ إلى مستحقّه .

متن الحديث الخامس والستّين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ أَذِنَ فِي هَلَاكِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ إِحْرَاقِهِمْ زَيْدا بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ».

شرح الحديث

السند ضعيف مرسل .

قوله : (أذن) إلى آخره .

الباء متعلّق بالإذن.

ولعلّ المراد أنّه تعالى قدّر ابتداء تهيئة أسباب هلاكهم واستئصالهم حينئذٍ .

وقيل : لعلّ هذا العمل كان من متمّمات أسباب نزول النقمة والعذاب عليهم ، وإلّا فهم

ص: 486


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1336 (جرف)

فعلوا أشدّ وأقبح من ذلك، كقتل الحسين عليه السلام . انتهى (1).

وكان قتل في زمن خلافة هشام بن عبد الملك سنة إحدى واثنتين وعشرين ومائة .

وقيل : سنة مائة وعشرين وشهر وخمسة عشر يوما، وهو ابن اثنين، أو ثمان وأربعين سنة .

وكان انقراض مُلك بني اُميّة سنة إحدى وثلاثين ومائة .

متن الحديث السادس والستّين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (2) ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ لَيَحْفَظُ مَنْ يَحْفَظُ صَدِيقَهُ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (من يحفظ صديقه) بإيصال المنافع، ودفع المكاره، وحفظ غيبته، ورعاية حرمته، وعدم قطع محبّته وصداقته .

في القاموس : «الصديق، كأمير: الحبيب، للواحد والجمع والمؤنّث، وهي بهاء»(3).

متن الحديث السابع والستّين والمائة

اشاره

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنْ سَعْدَانَ، عَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ:كُنْتُ قَاعِدا مَعَ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ عليه السلام ، وَالنَّاسُ فِي الطَّوَافِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ [لِي]: «يَا سَمَاعَةُ، إِلَيْنَا إِيَابُ هذَا الْخَلْقِ، وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ؛ فَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ ذَنْبٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَمْنَا عَلَى اللّهِ فِي تَرْكِهِ لَنَا، فَأَجَابَنَا إِلى ذلِكَ، وَمَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ اسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْهُمْ، وَأَجَابُوا إِلى ذلِكَ، وَعَوَّضَهُمُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ».

ص: 487


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 25
2- السند معلّق
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 252 (صدق)

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (إلينا إياب هذا الخلق) أي رجوعهم في القيامة .

ويظهر منه قوله تعالى : «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ» (1) ؛ معناه إلى حججنا وأوليائنا ، وقد شاع نسبة الملوك والسلاطين إلى أنفسهم ما فعل خدمهم . والإتيان بضمير الجمع مؤيّد لهذا التفسير . وقس عليه قوله : (وعلينا حسابهم) ؛ يعني في المحشر.

وتقديم الظرف للحصر .

وقوله عليه السلام : (حَتَمْنا على اللّه ) أي لما وعد اللّه قبول شفاعتنا، وألزم على ذاته المقدّسة أن لا يردّها ، فإذا شفعنا لأحد أوجبنا عليه تعالى قبولها بمقتضى وعده .

ويفهم منه أنّه عليه السلام أراد بهذا الخلق شيعته وأتباعه ومن يجري مجراهم؛ لأنّهم عليهم السلام لا يشفعون لأعدائهم .

متن الحديث الثامن والستّين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْمُسْتَرِقِّ، عَنْ صَالِحٍ الْأَحْوَلِ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «آخى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ، وَاشْتَرَطَ عَلى أَبِي ذَرٍّ أَنْ لَا يَعْصِيَ سَلْمَانَ».

شرح الحديث

السند مجهول ضعيف .

وفي هذا الخبر دلالة على استحباب المؤاخاة بين المتقاربين في الكمال، وعلى أفضليّة سلمان، وعلى لزوم متابعة الأفضل .

وقيل : في الاشتراط تأكيد للتعاون والتناصر والمواساة ورعاية حقوق الإخوة الدينيّة (2).

ص: 488


1- الغاشية (88) : 25
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 176

متن الحديث التاسع والستّين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ خَطَّابِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ:لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا أَ حَارِثٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «أَمَا لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلى عُلَمَائِكُمْ».

ثُمَّ مَضى، فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: لَقِيتَنِي، فَقُلْتَ: «لَأَحْمِلَنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلى عُلَمَائِكُمْ؟» فَدَخَلَنِي مِنْ ذلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

فَقَالَ: «نَعَمْ، مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ الرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهِ الْأَذى أَنْ تَأْتُوهُ، فَتُؤَنِّبُوهُ، وَتَعْذِلُوهُ، وَتَقُولُوا لَهُ قَوْلاً بَلِيغا»؟

فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِذا لَا يُطِيعُونَا، (1) وَلَا يَقْبَلُونَ مِنَّا؟ فَقَالَ: «اهْجُرُوهُمْ، وَاجْتَنِبُوا مَجَالِسَهُمْ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (ما تكرهون) ؛ الظاهر أنّ المراد به الإذاعة، وإفشاء السرّ. والتعميم بحيث يشمل سائر المعاصي، وخلاف الآداب محتمل .

وقوله : (فتؤنّبوه، وتَعذلوه) ؛ بضمّ الذال.

في الصحاح: «أنّبه تأنيبا: عنّفه، ولامه» (2).

وفي القاموس : «العذل: الملامة، كالتعذيل. والاسم: العَذَل، محرّكة» (3).

وقوله : (قولاً بليغا) .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغا» (4) : «أي يبلغ منهم، ويؤثّر فيهم . والقول البليغ في الأصل هو الذي يطابق مدلوله المقصود به» (5).

ص: 489


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «لا يطيعون»
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 89 (أنب)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 14 (عذل)
4- النساء (4) : 63
5- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 209

وقيل : هو القول المترقّي إلى أعلى مراتب النصح والموعظة، من قولهم : بلغت المنزل، إذا وصلته .

أو الكافي في الردع، كما يُقال : هذا بلاغ؛ أي كفاف .

أو الكلام المطابق لمقتضي المقام (1).

وقوله : (اهجروهم ...) يدلّ على وجوب الهجران عن أهل المعاصي ، وعلى وجوب النهي عن المنكر، وترك مجالسة العاصي بعد الموعظة وعدم اتّعاظه .

وقيل : هذا أيضا نوع من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفيه فوائد :

الاُولى : ترك التشابه بهم .

الثانية : التحرّز من غضب اللّه وعقوبته عليهم .

الثالثة : تحقّق لزوم البغض في اللّه .

الرابعة : رفض التعاون في المعصية؛ فإنّ الوصل بالعاصي والمساهلة معه يوجب معاونته في المعصية، وجرأته عليها .

الخامسة : بعثه على ترك المعصية؛ فإنّ العاصي إذا شاهد هجران الناس عنه، ينفعل، وينزجر عن فعله، بل قد يكون أنفع من القول والضرب (2).

متن الحديث السبعين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَيَابَةَ بْنِ أَيُّوبَ وَ (3) مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، يَرْفَعُونَهُ إِلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ: الْعَرَبَ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَالدَّهَاقِينَ بِالْكِبْرِ، وَالْأُمَرَاءَ بِالْجَوْرِ، وَالْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ، وَالتُّجَّارَ بِالْخِيَانَةِ، وَأَهْلَ الرَّسَاتِيقِ بِالْجَهْلِ».

شرح الحديث

السند ضعيف مرسل .

قوله : (يعذّب الستّة بالستّة) أي ستّة أصناف بستّة أوصاف .

ص: 490


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 177
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 177
3- في السند تحويل بعطف محمّد بن الوليد وعليّ بن أسباط ، على إبراهيم بن عقبة ، عن سيّابة بن أيّوب

وقوله : (بالعصبيّة) أي التعصّب في الباطل، وهو رعاية جانب العصبيّة والأقارب، والإغماض من الحقّ .

وقوله : (الدهاقين) .

في القاموس : «الدهقان، بالكسر والضمّ: القوي على التصرّف مع حدّة ، والتاجر ، وزعيم فلّاحي العجم ، ورئيس الإقليم ، معرّب. الجمع: دهاقنة، ودهاقين. والاسم: الدهقنة» (1).

وقوله : (والفقهاء بالحسد) .

الفِقه في الأصل: العلم بالشيء، والفهم له، وغلب على علم الدِّين؛ لشرفه وترفّعه _ ككرم، وفرح _ فهو فقيه، والجمع: فقهاء .

قيل : الحَسَد، وهو تمنّى زوال نعمة الغير بالوصول إليه، أو مطلقا، وإن كان قد يتحقّق في غير الفقهاء أيضا ، إلّا أنّه في الفقهاء أكثر وأقبح ؛ وأمّا إنّه أكثر فلأنّ المحسود به هنا _ وهو الكمال والشرف _ أعظم، وهو أولى بالحسد من المال، فيكون أكثر . وأمّا إنّه أقبح؛ فلأنّ الفقيه أعلم بقبح الحسد من غيره ، فالحسد منه أقبح (2).

وقوله : (والتجّار بالخيانة) ؛ هي أن يؤتَمن الإنسان، فلا ينصح .

ولمّا كانت هذه في التجارة أكثر وأشهر، نسب هلاكهم إليها .

(وأهل الرَّساتيق بالجهل) بأحكام الدِّين .

وهذا فيهم أكثر وأظهر ، وإلّا فالجهل مهلك مطلقا .

قال الفيروزآبادي : «الرُّستاق: الرُّزداق، كالرُّسْداق» (3) . وقال : «الرُّزداق، بالضمّ: السواد، والقرى، معرّب رَستا» (4).

متن الحديث الواحد والسبعين والمائة

اشاره

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«مَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِنْ أَنْ يُظِلَّ خَائِفا جَائِعا فِي اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

ص: 491


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 224 (دهقن)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 178
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 236 (رستق)
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 235 (رزدق)

شرح الحديث

السند حسن ، وقد مرّ متنا وسندا في التاسع والتسعين .

متن الحديث الثاني والسبعين والمائة

اشارة

عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعا، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَحَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ وَسَلَمَةَ بَيَّاعِ السَّابِرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام إِذَا أَخَذَ كِتَابَ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَنَظَرَ فِيهِ، قَالَ: مَنْ يُطِيقُ هذَا؟ مَنْ يُطِيقُ ذَا؟».

قَالَ: «ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِ، وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ حَتّى يُعْرَفَ ذلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ عَلِيٍّ عليه السلام مِنْ وُلْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام ».

شرح الحديث

السند حسن . وقد مرّ مثله في المائة في ذيل حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

متن الحديث الثالث والسبعين والمائة

اشاره

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنِ الْحَسَنِ الصَّيْقَلِ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ وَلِيَّ عَلِيٍّ عليه السلام لَا يَأْكُلُ إِلَا الْحَلَالَ؛ لأنَّ صَاحِبَهُ كَانَ كَذلِكَ. وَإِنَّ وَلِيَّ عُثْمَانَ لَا يُبَالِي أَ حَلَالاً أَكَلَ أَوْ حَرَاما؛ لأنَّ صَاحِبَهُ كَذلِكَ».

قَالَ: ثُمَّ عَادَ إِلى ذِكْرِ عَلِيٍّ عليه السلام ، فَقَالَ: «أَمَا وَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِهِ مَا أَكَلَ مِنَ الدُّنْيَا حَرَاما قَلِيلاً وَلَا كَثِيرا حَتّى فَارَقَهَا، وَلَا عَرَضَ لَهُ أَمْرَانِ كِلَاهُمَا لِلّهِ طَاعَةٌ إِلَا أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلى بَدَنِهِ، وَلَا نَزَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله شَدِيدَةٌ قَطُّ إِلَا وَجَّهَهُ فِيهَا ثِقَةً بِهِ، وَلَا أَطَاقَ أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الْأُمَّةِ عَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله بَعْدَهُ غَيْرُهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ رَجُلٍ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَلَقَدْ أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ، كُلُّ ذلِكَ تَحَفّى فِيهِ يَدَاهُ، وَتَعْرَقُ (1). جَبِينُهُ الْتِمَاسَ وَجْهِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْخَلَاصِ مِنَ النَّارِ، وَمَا

ص: 492


1- في الطبعة الجديدة ومعظم النسخ التي قوبلت فيها والوافي و مرآة العقول : «ويعرق» . وفي بعض نسخ الكافي : + «فيه»

كَانَ قُوتُهُ إِلَا الْخَلَّ وَالزَّيْتَ، وَحَلْوَاهُ التَّمْرُ إِذَا وَجَدَهُ، وَمَلْبُوسُهُ الْكَرَابِيسُ، فَإِذَا فَضَلَ عَنْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ دَعَا بِالْجَلَمِ فَجَزَّهُ».

شرح الحديث

السند مجهول كالحسن .

وقوله : (لا يأكل إلّا الحلال) .

يفهم منه أنّ آكِل الحرام ليس من أوليائه، ولا من شيعته .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ اللائق بحاله ذلك، لا أنّه بمجرّد أكل الحرام خرج عن ولايته. واللّه تعالى يعلم .

وقوله : (تَحَفّى)؛ إمّا من المجرّد، أو المزيد .

والحَفا: رقّة القدم، والخفّ، والحافر، أو هو المشي بغير خفّ ولا نعل، وفعله كرضي، وهو حَفّ وحافّ . والإحفاء والتحفّي المبالغة في العمل، والاستقصاء فيه . وتحفّى: اجتهد .

وقوله : (وما كان قوته) أي إدامُهُ.

وأصل القُوت: المسكة من الرزق .

وقوله : (الكرابيس) ؛ جمع كرباس، وهو نوع من الثوب الخشن .

في القاموس: «الكرباس، بالكسر: ثوب من القطن الأبيض، معرّب فارسيّة بالفتح» (1) .

والجَلَم بالتحريك: ما يجذبه الصوف والشعر ونحوهما .

متن الحديث الرابع والسبعين والمائة

اشاره

أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَامِلٍ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ:حَضَرْتُ عَشَاءَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام فِي الصَّيْفِ، فَأُتِيَ بِخِوَانٍ عَلَيْهِ خُبْزٌ، وَأُتِيَ بِجَفْنَةٍ فِيهَا ثَرِيدٌ، وَلَحْمٌ تَفُورُ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهَا، فَوَجَدَهَا حَارَّةً، ثُمَّ رَفَعَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: «نَسْتَجِيرُ بِاللّهِ مِنَ النَّارِ، نَعُوذُ بِاللّهِ مِنَ النَّارِ، نَحْنُ لَا نَقْوى عَلى هذَا، فَكَيْفَ النَّارُ؟!» وَجَعَلَ يُكَرِّرُ هذَا الْكَلَامَ حَتّى أَمْكَنَتِ الْقَصْعَةُ،

ص: 493


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 245 (كربس)

فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهَا، وَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا حِينَ أَمْكَنَتْنَا، فَأَكَلَ، وَأَكَلْنَا مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْخِوَانَ رُفِعَ، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، ائْتِنَا بِشَيْءٍ» فَأُتِيَ بِتَمْرٍ فِي طَبَقٍ، فَمَدَدْتُ يَدِي، فَإِذَا هُوَ تَمْرٌ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللّهُ، هذَا زَمَانُ الْأَعْنَابِ وَالْفَاكِهَةِ، قَالَ: «إِنَّهُ تَمْرٌ» ثُمَّ قَالَ: «ارْفَعْ هذَا، وَائْتِنَا بِشَيْءٍ» فَأُتِيَ بِتَمْرٍ، فَمَدَدْتُ يَدِي، فَقُلْتُ: هذَا تَمْرٌ، فَقَالَ: «إِنَّهُ طَيِّبٌ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (عَشاء) بالفتح، طعام العشيّ، ويجمع على أعشية، وعشًى .

(والخوان) بالكسر والضمّ: ما يؤكل عليه الطعام .

والجَفنة، بالفتح: القَصْعة، أو نحوها .

قال الجوهري : «ثَرَدْت الخُبْزَ ثَرْدَا: كسرته، فهو ثريد، ومثرود» (1)

وقال : «فارَتِ القِدر تفور فَوْرا وفَوَرانا: جاشت» (2).

وقوله : (أمكنت القَصعة) ؛ يعني سكنت شدّة حرّها، وصارت بحيث أمكن وضع اليد فيها .

قال الجوهري : «مكّنه اللّه من الشيء، وأمكنه منه بمعنى . وفلان لا يمكنه النهوض؛ أي لا يقدر عليه» انتهى (3).

وقوله : (فاُتي بتمر) ؛ على البناء للفاعل، أو للمفعول. والأوّل أظهر .

وقوله عليه السلام : (إنّه تمر) ؛ إمّا إخبار بأنّه أطيب من غيره، أو استفهام للتقرير، أو لإنكار ما ظنّ أنّ غيره أطيب .

وقوله : (ارفع هذا) .

قيل : أمر بالرفع؛ لرعاية جانب الضيف وشهوته (4).

وقوله : (فاُتي بتمر) ؛ لعلّ الآتي الثاني غير الأوّل .

(فاُتي بالتمر) ؛ لعدم علمه بأنّ الأوّل اُتي به مع احتمال أن يكون الأوّل، واُتي به ثانيا لعدم

ص: 494


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 451 (ثرد)
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 783 (فور)
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2205 (مكن)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 181

وجود غيره من الأعناب والفواكه ، فيدلّ على أنّه ينبغي إظهار ما حضر في البيت للضيف من غير تكلّف . انتهى كلامه (1).

وقوله عليه السلام : (إنّه طيّب) .

يحتمل أن يكون المراد أنّه جيّد بعد الطعام، وأحسن من الفواكه، وأنّ التمر الذي اُتي به ثانيا أطيب من الأوّل ، وعلى هذا لا يحتاج إلى ما ذكر من التوجيه . وكذا إلى ما قيل : لعلّه عليه السلام دعى بشيء آخر، فلمّا لم يكن حاضرا أتوا بالتمر أيضا، فمدح عليه السلام بالتمر بأنّه أطيب لا ينبغي أن يستصغر (2).

متن الحديث الخامس والسبعين والمائة

اشاره

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«مَا أَكَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله مُتَّكِئا مُنْذُ بَعَثَهُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِلى أَنْ قَبَضَهُ تَوَاضُعا لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا زَوى (3).

رُكْبَتَيْهِ أَمَامَ جَلِيسِهِ فِي مَجْلِسٍ قَطُّ، وَلَا صَافَحَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله رَجُلاً قَطُّ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ، وَلَا كَافَأَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله بِسَيِّئَةٍ (4).

قَطُّ، قَالَ اللّهُ تَعَالى لَهُ: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» (5). فَفَعَلَ.

وَمَا مَنَعَ سَائِلاً قَطُّ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَعْطى، وَإِلَا قَالَ: يَأْتِي اللّهُ بِهِ، وَلَا أَعْطى عَلَى اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ شَيْئا قَطُّ إِلَا أَجَازَهُ اللّهُ، إِنْ كَانَ لَيُعْطِي الْجَنَّةَ، فَيُجِيزُ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَهُ ذلِكَ».

قَالَ: «وَكَانَ أَخُوهُ مِنْ بَعْدِهِ وَالَّذِي ذَهَبَ بِنَفْسِهِ مَا أَكَلَ مِنَ الدُّنْيَا حَرَاما قَطُّ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا، وَاللّهِ إِنْ كَانَ لَيَعْرِضُ لَهُ الْأَمْرَانِ كِلَاهُمَا لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ طَاعَةٌ، فَيَأْخُذُ بِأَشَدِّهِمَا عَلى بَدَنِهِ، وَاللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ لِوَجْهِ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ دَبِرَتْ فِيهِمْ يَدَاهُ، وَاللّهِ مَا أَطَاقَ عَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله مِنْ بَعْدِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ.

وَاللّهِ، مَا نَزَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله نَازِلَةٌ قَطُّ إِلَا قَدَّمَهُ فِيهَا ثِقَةً مِنْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله لَيَبْعَثُهُ

ص: 495


1- شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 181
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 29
3- في كلتا الطبعتين : «وما رأى»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «لسيّئة»
5- المؤمنون (24) : 96

بِرَايَتِهِ، فَيُقَاتِلُ جَبْرَئِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ مَا يَرْجِعُ حَتّى يَفْتَحَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَهُ».

شرح الحديث

السند صحيح على الظاهر .

قوله : (ما زَوى ركبتيه أمام جليسه) ؛ لعلّ المراد أنّه صلى الله عليه و آله لم يكن ليتقدّم صاحبه وجليسه في الجلوس، بأن يجلس مقدّما عليه، أو قبله تعظيما لجليسه، وتبعيدَ نفسه عن التكبّر عليه .

في القاموس : «زواه زَيّا وزَوْيا: نحّاه. وسرّه عنه: طواه. والشيء: جمعه، وقبضه» (1).

وفي بعض النسخ : «ما رأى» على بناء الفاعل . ولعلّ المراد أنّه صلى الله عليه و آله لم يكن ليكشف ركبتيه عند جليسه ليراهما، وإن احتاج إلى الكشف لعلّة، وذلك لكمال حيائه وتستّره .

وفي بعضها: «ما أرى»، والمآل واحد .

ويحتمل أن يكون مآل تينك النسختين مع نسخة الأصل واحد .

وقوله : (ولا كافأ) .

قال الفيروزآبادي في باب المهموز: «كافأه مكافأة وكِفاءً: جازاه. وفلانا: راقبه»(2).

(قال اللّه له) أي لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ادْفَعْ بِالَّتِي» أي بالخصلة، أو بالطريقة التي «هِيَ أَحْسَنُ» الخصال والطرائق . أو أحسن من المقابلة بالمثل، وإن كانت المقابلة حسنا لقوله تعالى : «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ» (3) .

«السَّيِّئَةَ» نصب على المفعوليّة .

قال البيضاوي : «التي هي أحسن»: الصفح عن السيّئة، والإحسان في مقابلتها، لكن بحيث لم يؤدّ إلى وَهْن في الدِّين .

وقيل : هي كلمة التوحيد . والسيّئة: الشرك .

وقيل : هي الأمر بالمعروف. والسيّئة: المنكر، وهي أبلغ من قوله : «بالحسنة السيّئة»؛ لما فيه من التنصيص على التفضيل (4).

(ففعل) أي فعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما أمره اللّه به من مقابلة السيّئة التي وقعت بالنسبة إليه

ص: 496


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 339 (زوي)
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 26 (كفأ) مع التلخيص
3- الشورى (42) : 40
4- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 166 و 167

بالصفح والإحسان .

وقوله : (أخوه من بعده) ؛ يعني أمير المؤمنين عليه السلام .

(والذي ذهب بنفسه) ؛ الظاهر أنّ الواو للقسم، وأنّ الضمير عائد إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنّ المقسم به قوله : (ما أكل من الدُّنيا حراما) .

وقوله : (دَبِرت فيهم يداه) بكسر الباء .

قال في النهاية : «الدَّبَر، بالتحريك: الجرح الذي يكون في ظهر البعير . يُقال : دَبَر يَدْبَر دَبَرا . وقيل : هو أن يقرح خفّ البعير» انتهى (1).

وكلمة «في» للتعليل؛ أي لأجل تحصيل تلك المماليك وتملّكهم .

وقوله : (وإن كان) .

كلمة «إن» مخفّفة من المثقّلة.

والباء في قوله : (برايته) للمصاحبة، أو للتلبّس . والراية: العَلَم .

متن الحديث السادس والسبعين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام أَشْبَهَ النَّاسِ طِعْمَةً وَسِيرَةً بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، كَانَ (2) يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ، وَيُطْعِمُ النَّاسَ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ».

قَالَ: «وَكَانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَسْتَقِي، وَيَحْتَطِبُ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ عليه السلام تَطْحَنُ، وَتَعْجِنُ، وَتَخْبِزُ، وَتَرْقَعُ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْها، كَأَنَّ وَجْنَتَيْهَا وَرْدَتَانِ، صَلَّى اللّهُ عَلَيْهَا وَعَلى أَبِيهَا وَبَعْلِهَا وَوُلْدِهَا الطَّاهِرِينَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله عليه السلام : (طِعمة وسيرة) .

ص: 497


1- النهاية ، ج 2 ، ص 97 (دبر)
2- في الطبعة القديمة: «وكان»

في القاموس : «الطعمة، بالضمّ: المأكلة، والدعوة إلى الطعام، ووجه المكسب. وبالكسر: السيرة في الأكل»(1) .

وفيه: «السيرة، بالكسر: السنّة، والطريقة، والهيئة» (2).

وقوله : (يحتطب) .

في القاموس : «حطب _ كضرب _ جمع الحَطَب . وفلانا: جمعه له، أو أتاه به» (3).

وقوله : (تَطحن) من المجرّد، أو المزيد . يُقال : طحن البرّ _ كمنع _ وطحّنه تطحينا، إذا جعله دقيقا.

وعجنه، كضرب ونصر : اعتمد عليه بجمع كفّه يغمزه، فهو معجون وعجين .

والخبز، بالضمّ: معروف. وخبزه كضربه: صنعه .

والرقعة، بالضمّ: ما يرقع به الثوب. ورقع الثوب _ كمنع _ ورقّعه ترقيعا: أصلحه بالرقاع .

وفي القاموس : «الوجنة، مثلّثة، وككلمة، ومحرّكة: ما ارتفع من الخَدّين» (4).

متن الحديث السابع والسبعين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (5) ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ يُونُسَ، رَفَعَهُ قَالَ:

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّا قَطُّ إِلَا صَاحِبَ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ صَافِيَةٍ، وَمَا بَعَثَ اللّهُ نَبِيّا قَطُّ حَتّى يُقِرَّ لَهُ بِالْبَدَاءِ».

شرح الحديث

السند ضعيف مرسل .

قوله : (صاحب مِرّة سَوداء صافية) .

قال الجوهري : «المِرّة: إحدى الطبائع الأربع، والقوّة، وشدّة العقل أيضا» (6).

قيل : لعلّ مرّة السوداء كناية عن شدّة غضبهم فيما يسخط اللّه ، وحدّة ذهنهم وفهمهم،

ص: 498


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 144 (أكل)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 54 (سير)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 56 (حطب)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 274 (وجن)
5- السند معلّق على سابقه كما لا يخفى
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 814 (مرر)

وتوصيفا بالصفاء؛ لبيان خلوصها عمّا يلزم تلك المرّة غالبا من الأخلاق الذميمة والتخيّلات الفاسدة (1).

وقيل : يمكن أن يُراد بها الخلط الأسود الصافي . وقال: إنّه أصلح وأنفع بحال الإنسان في حدّة الطبع ودقّة النظر، وأن يكون كناية عن القوّة الغضبيّة الصافية عن رذيلتي الإفراط والتفريط ، ويعبّر عنه بالشجاعة (2).

وقوله : (حتّى يقرّ له بالبَداء) .

قال الجوهري في باب الناقص : «بدا له في هذا الأمر بداء _ ممدود _ أي نشأ له فيه رأي» (3).

وأقول : هذا بحسب اللغة، ومتى نسب البداء إلى المخلوق اُريد هذا المعنى ، وإذا نسب إلى الخالق اُريد لازمه، وغايته المترتّبة عليه، كما في سائر صفاته تعالى .

وتحقيق القول فيه: أنّ الاُمور كلّها _ عامّها وخاصّها، ومطلقها ومقيّدها، ومنسوخها وناسخها، مفرداتها ومركّباتها، إخباراتها وإنشآءاتها _ بحيث لا يشذّ عنها شيء منتقشة في اللوح، والفائض منه على الملائكة والأنبياء قد يكون الأمر العامّ أو المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة من الفيضان في ذلك الوقت، ويتأخّر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، ويعبّر عن كلّ هذا اللوح بكتاب المحو والإثبات . والبداء عبارة عن هذا التغيير في ذلك الكتاب من إثبات ما لم يكن مثبتا، ومحو ما اُثبت فيه .

وما قيل من أنّه عبارة عن إيجاد الأشياء كلًا في وقته بتقدير وتدبير وإرادة حادثة لمصلحة لا يعلمها إلّا هو (4) ، فبعيد عن التحقيق، وعمّا يفهم من فحاوي الأخبار .

وبالجملة : الإقرار بالبداء إقرار بأصول الإيمان وأركانه من الإقرار بما في كتاب اللّه وتصديقه وتصديق أنبيائه ورسله وحججه فيما أخبروا به من غير ما أمروا بتبليغه من الشرائع، إن خصّص البداء بما دون النسخ في الأوامر والنواهي، وفيما جاؤوا به مطلقا إن عمّم .

وفيه أيضا ردّ على اليهود حيث قالوا : إنّ اللّه تعالى فرغ من الأمر بحيث لا يريد، ولا يقدّر، ولا يدبّر بعده شيئا .

ص: 499


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 31
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 183
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2278 (بدا)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 183

متن الحديث الثامن والسبعين والمائة

اشارة

سَهْلٌ (1) ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«لَمَّا نَفَّرُوا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله نَاقَتَهُ، قَالَتْ لَهُ النَّاقَةُ: وَاللّهِ لَا أَزَلْتُ خُفّا عَنْ خُفٍّ، وَلَوْ قُطِّعْتُ إِرْبا إِرْبا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (لمّا نفّروا برسول اللّه صلى الله عليه و آله ناقته) .

يحتمل كون «نفروا» على صيغة المجرّد، والباء للتعدية. وكونه من المزيد، والباء للتقوية، أو للمصاحبة . يُقال : نفّرت الدابّة، ينفر _ بالضمّ والكسر _ نفورا ونفارا، إذا جزعت، وتباعدت، وشردت .

والتنفير: التشريد . وفي القاموس : «الإرب، بالكسر: العضو» (2).

أقول : هذا إشارة إلى ما فعله جماعة من المنافقين ليلة العقبة .

روى عليّ بن إبراهيم: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا قال في مسجد الخيف في أمير المؤمنين ما قال، ونصبه يوم الغدير ، قال أصحابه الذين ارتدّوا بعده : قد قال محمّد في مسجد الخيف ما قال، وقال هاهنا ما قال، وإن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له ، فاجتمعوا أربعة عشر نفرا وتآمروا على قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وقعدوا في العقبة، وهي عقبة بين الجحفة والأبواء ، فقعد سبعة عن يمين العقبة، وسبعة عن يسارها، لينفّروا ناقة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فلمّا جنّ اللّيل تقدّم رسول اللّه صلى الله عليه و آله في تلك الليلة العسكر، فأقبل ينعس على ناقته ، فلمّا دنى من العقبة، ناداه جبرئيل : يا محمّد، إنّ فلانا وفلانا وفلانا قد قعدوا لك، فنفر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فقال : مَن هذا خلفي؟

فقال حذيفة بن اليماني: أنا حذيفة بن اليمان يا رسول اللّه .

قال : سمعتَ ما سمعتُ؟

ص: 500


1- السند معلّق كسابقه
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 41 (أرب)

قال : بلى .

قال : فاكتم .

ثمّ دنى رسول اللّه صلى الله عليه و آله منهم، فناداهم بأسمائهم ، فلمّا سمعوا نداء رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فرّوا، ودخلوا في غمار الناس، وقد كانوا عقلوا رواحلهم، فتركوها، ولحق الناس برسول اللّه صلى الله عليه و آله وطلبوهم، وانتهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى رواحلهم فعرفهم .

فلمّا نزل، قال : ما بالَ أقوام تحالفوا في الكعبة: إن أمات اللّه محمّدا، أو قتله، أن لا يردّوا هذا الأمر في أهل بيته أبدا .

فجاؤوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فحلفوا أنّهم لم يقولوا من ذلك شيئا، ولم يريدوه، ولم يهمّوا بشيء من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فأنزل اللّه : «يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا _ من قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله _ وَمَا نَقَمُوا إِلَا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» (1). الآية» (2) .

ونقل عن تفسير الإمام أبي محمّد العسكري عليه السلام : أنّ الترصّد عند العقبة كان في غزوة تبوك، وأنّهم دحرجوا الدباب، ولم يتضرّر النبيّ صلى الله عليه و آله شيئا ولا راحلته ، كما يدلّ عليه هذا الخبر أيضا (3).

ولا تنافي بينهما ؛ لإمكان وقوعهما معا .

وروى الصدوق رحمه الله في كتاب الخصال بإسناده عن حذيفة بن اليماني أنّه قال : «الذين نفروا برسول اللّه صلى الله عليه و آله ناقته في منصرفه من تبوك أربعة عشر : أبو الشرور، وأبو الدواهي، وأبو المعازف، وأبوه، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو عبيدة، وأبو الأعور، والمغيرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، وعبد الرحمان بن عوف؛ وهم الذين أنزل اللّه _ عزّ وجلّ _ فيهم : «وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا» (4). » انتهى .

ص: 501


1- التوبة (9) : 74
2- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 174 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 37 ، ص 113 ، ح 6
3- اُنظر: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام ، ص 389
4- الخصال ، ج 2 ، ص 499 ، ح 6 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 222 ، ح 5

والظاهر أنّ المراد بالثلاثة الأوّل الثلاثة المعلومة، كما يشعر به كناهم .

وأيضا هذه القصّة مذكورة في كتاب الاحتجاج مفصّلاً . وفيه أنّ عليّا عليه السلام كان حينئذٍ بمكّة بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله ، وكان بعض المنافقين معه، وحفروا بئرا في طريقه، وطمّوا رأسها، فلمّا بلغ فرسه قريبا منها لوي عنقه، وأخبره بالبئر (1).

وكانت هذه القضيّة مقارنة لقضيّة تنفير الناقة ، فنزل جبرئيل عليه السلام ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه و آله بما فعلوا بعليّ عليه السلام .

متن الحديث التاسع والسبعين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ وَ (2) عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، جَمِيعا عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:«يَا لَيْتَنَا سَيَّارَةٌ مِثْلُ آلِ يَعْقُوبَ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَلْقِهِ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (ياليتنا سيّارة مثل آل يعقوب) .

في الصحاح: «السيّارة: القافلة» (3).

ولعلّ المراد بآل يعقوب يوسف عليه السلام ؛ أي يا ليتنا كنّا نسير في الأرض، ونذهب إلى بلاد الغربة، بحيث لا يعرفنا أحدٌ من المخالفين مثل يوسف عليه السلام .

وقال بعض الفضلاء : أي ياليت لنا على الحذف والإيصال. أو يا ليتنا صادفتنا سيّارة. أو يا ليتنا نُسيَّر في البلد كما سُيِّر يوسف عليه السلام من بلدٍ إلى بلد، فكان فَرَجَهُ فيها .

ويحتمل أن يكون تمنّيا لمثل حال القائم عليه السلام من السير في الأرض من غير أن يعرفه

ص: 502


1- الاحتجاج ، ج 1 ، ص 57
2- في السند تحويل بعطف العدّة عن سهل بن يعقوب ، على عليّ بن إبراهيم عن أبيه
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 692 (سير)

الخلق، وفي ذلك يشبه يوسف عليه السلام . انتهى (1).

والكلّ تعسّف .

(حتّى يحكم اللّه بيننا وبين خلقه) بظهور القائم عليه السلام ، كما حكم بين آل يعقوب بإظهار يوسف عليه السلام في كمال الحشمة والقدرة والاستيلاء .

وقيل : لعلّ المراد بالسيّارة من دخل على يوسف عليه السلام من إخوته حتّى عرفوه، وأخبروا بحاله وموضعه يعقوب عليه السلام ، وقد تمنّى عليه السلام ظهور المهديّ المنتظر في وقته، وإخبار المخبرين به؛ ليستولي على أعدائه، ويظهر دين آبائه على الأديان الباطلة كلّها (2). انتهى، فليتأمّل .

متن الحديث الثمانين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«إِنَّ اللّهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحِكْمَةِ (3) أَتَقَبَّلُ إِنَّمَا أَتَقَبَّلُ هَوَاهُ وَهَمَّهُ؛ فَإِنْ كَانَ هَوَاهُ وَهَمُّهُ فِي رِضَايَ، جَعَلْتُ هَمَّهُ تَقْدِيسا وَتَسْبِيحا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

والمراد بهمّه وهواه ما يعزم عليه من الحسنات، وما يحبّه من القربات .

والضمير في الموضعين راجع إلى من يتكلّم بلا كلام الحكمة .

والحاصل : أنّ اللّه تعالى لا يقبل من حكيم التكلّم بكلام الحكمة والقواعد الدينيّة ما لم يعقد قلبه على نيّة صادقة في العمل بما يتكلّم به، ولم يكن هواه فيه؛ فإنّه تعالى لا يعبأ بالصورة الظاهرة، بل ينظر بالسيرة الباطنة، ويجزي عليها ، كما قال : (فإن كان هواه وهمّه ...)؛ يعني مع النيّة الحسنة، واليقين الخالصة، يكتب له ثواب التسبيح والتقديس بمجرّد النيّة

ص: 503


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 33 و 34
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 184
3- في الطبعة القديمة : «الحكيم»

والإرادة، وجعل الظاهر موافقا للباطن ، ثمّ التكلّم بكلام الحكمة، وإلّا فلا يُثاب به، بل يُعاقب على النفاق .

متن الحديث الواحد والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ الطَّيَّارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْافاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (1) ؟

قَالَ:«خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ».

قَالَ: قُلْتُ: «حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ» ؟

قَالَ: «دَعْ ذَا، ذَاكَ قِيَامُ الْقَائِمِ عليه السلام ».

شرح الحديث

السند ضعيف. والطيّار اسمه محمّد ، ويحتمل أن يُراد ابنه حمزة بن محمّد .

قوله تعالى : «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْافَاقِ» ؛ قال البيضاوي :

يعني ما أخبرهم النبيّ صلى الله عليه و آله من الحوادث الآتية، وآثار النوازل الماضية، وما يسّر اللّهُ له ولخلفائه من الفتوح والظهور على ممالك الشرق والغرب على وجهٍ خارق للعادة .

«وَفِي أَنْفُسِهِمْ» ما ظهر فيما بين أهل مكّة، وما حلَّ بهم، أو ما في بدن الإنسان من عجائب الصُّنع الدالّة على كمال القدرة .

«حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» ؛ الضمير للقرآن، أو الرسول، أو التوحيد، أو اللّه . انتهى كلامه (2).

وقوله عليه السلام : (خسف ومسخ وقذف) .

في القاموس: خسف المكان يخسِف خسوفا: ذهب في الأرض . والقمر: كَسَف. والشيء خَسْفا: نقص. واللّه بفلان الأرض: غيّبه فيها . والخسف: الإذلال، وأن يحملك الإنسان ما

ص: 504


1- فصّلت (41) : 53
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 120

تكره. يُقال : سامه خَسْفا، ويضمّ، إذا أولاه ذلّاً، وبات فلان بالخسف؛ أي جائعا (1).

وقال الجوهري : «المسخ: تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها . يُقال : مسخه اللّه قِردا» (2) .

وقال : «القَذْف بالحجارة: الرمي بها» (3).

وأقول : يحتمل أن يكون الخسف والقذف تفسيرا لآيات الآفاق ، والمسخ لآيات الأنفس على سبيل التمثيل لا الحصر .

وقوله : (ذاك قيام القائم عليه السلام )؛ تفسير لما يتبيّن حقّيّته، وهو بعينه مرجع ضمير «أنّه» .

وقيل : الظاهر أنّ هذه الثلاثة بيان للآيات في الأنفس ، وأمّا الآيات في آفاق الأرض ونواحيها فيحتمل أن يكون الفتوحات التي يقع على يد الصاحب عليه السلام ، والضمير في «أنّه» راجع إلى القائم، أو إلى قيامه، أو إلى دينه، كما أشار إليه بقوله : «ذاك قيام القائم عليه السلام » (4).

وقيل : يظهر منه أنّ المراد بالآيات التي تظهر في أنفسهم هي ما يصيب المخالفين عند ظهور القائم عليه السلام من العذاب بالخسف في الأرض، والمسخ، وقذف الأحجار، وغيرها عليهم من السماء، حتّى يتبيّن للناس حقّيّته عليه السلام .

قال : ويحتمل أن يكون القذف تفسيرا للآيات التي تظهر في الآفاق . والأوّل أظهر ، فيكون آيات الآفاق ما يظهر في السماء عند خروجه عليه السلام من النداء، ونزول عيسى، وظهور الملائكة، وغيرها (5).

متن الحديث الثاني والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلٌ، (6) عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ وَابْنِ سِنَانٍ وَسَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : طَاعَةُ عَلِيٍّ ذُلٌّ، وَمَعْصِيَتُهُ كُفْرٌ بِاللّهِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، كَيْفَ تَكُونُ طَاعَةُ

ص: 505


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 132 (خسف) مع التلخيص
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 431 (مسخ)
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1414 (قذف)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 184
5- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 34
6- في الحاشية عن بعض النسخ: «عنه»

عَلِيٍّ ذُلًا، وَمَعْصِيَتُهُ كُفْرا بِاللّهِ؟!

فَقَالَ: إِنَّ عَلِيّا يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؛ فَإِنْ أَطَعْتُمُوهُ ذَلَلْتُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُ كَفَرْتُمْ بِاللّهِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

والذلّ، بالضمّ: الهوان.

والكسر: ضدّ الصعوبة .

والمراد أنّ طاعته عليه السلام ذلّ عند الناس ؛ أي سبب لفقدان ما يحسبونه عزّا من جمع المال بأيّ وجهٍ اتّفق ، والقهر، والاستيلاء على الغير، والظلم، والاستطالة عليه، أو سهولة قبوله الحقّ والإطاعة والانقياد له .

وقيل : المراد أنّ من يطيعه ذليل عند الناس بحيث يقتلونه، ويعدّون ذلك موجبا للأجر والثواب (1).

متن الحديث الثالث والثمانين والمائة

اشارة

عَنْهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَبَلَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ:

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ، وَشِيعَتُنَا الْعَرَبُ، وَسَائِرُ النَّاسِ الْأَعْرَابُ».

شرح الحديث

السند مجهول ضعيف .

ولعلّ المراد بهذا الحديث أنّ ما ورد في مدح بني هاشم وشرفهم ولزوم متابعتهم فهو فينا أهل البيت ، واحتمال إرادة الأعمّ بحيث يشمل سائر بني هاشم سوى من خرج عن الحقّ منهم _ كبني عبّاس وأضرابهم _ بعيد جدّا، بقرينة مقابلة بني هاشم بالشيعة .

وما ورد في مدح العرب فهو في شيعتنا، وإن كانوا من العجم ؛ لأنّهم يحشرون بلسان العرب ، وما ورد في ذمّ الأعراب، فهو سائر الناس من أهل الخلاف وأهل الكفر والنفاق، حيث قال اللّه عزّ وجلّ : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا» (2).

ص: 506


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 185
2- التوبة (9) : 97

والأعراب: سكّان البادية، وإنّما ذمّهم اللّه تعالى؛ لبُعدهم عن تحصيل شرائع الدِّين، وتركهم الهجرة إلى أمصار المسلمين، وإعراضهم عن نصرة سيّد المرسلين، والمخالفون مشاركون معهم في ذلك كلّه، بل هم أشدّ كفرا ونفاقا، حيث يعاندون الحقّ وأهله، ويسعون في تضييع حدود ما أنزل اللّه على رسوله .

متن الحديث الرابع والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَنَانٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ:قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «نَحْنُ قُرَيْشٌ، وَشِيعَتُنَا الْعَرَبُ، وَسَائِرُ النَّاسِ عُلُوجُ الرُّومِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

العلج، بالكسر: الرجل من كفّار العجم ، وجمعه: الأعلاج، والعُلوج بالضمّ.

وقيل: [بعض] العرب يُطلق العِلج على مطلق الكفّار (1).

متن الحديث الخامس والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:

«كَأَنِّي بِالْقَائِمِ عليه السلام عَلى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ، عَلَيْهِ قَبَاءٌ، فَيُخْرِجُ مِنْ وَرَيَانِ قَبَائِهِ كِتَابا مَخْتُوما بِخَاتَمٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَيَفُكُّهُ، فَيَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَيُجْفِلُونَ عَنْهُ إِجْفَالَ الْغَنَمِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَا النُّقَبَاءُ، فَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ، فَلَا يَلْحَقُونَ مَلْجَأً حَتّى يَرْجِعُوا إِلَيْهِ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ الْكَلَامَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (كأنّي بالقائم عليه السلام ) إلى آخره .

قيل : للتشبيه. وخبر «أنّ» محذوف، والباء بمعنى «مع»؛ أي كأنّي مع القائم، وناظرٌ إليه.

ص: 507


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 185

وأقول: فيه بحث.

ثمّ قال : فقد شبّه حالته العلميّة بحالته البصريّة في تحقّق وقوعها وتيقّنه .

ويحتمل إرادة المماثلة بين الحالتين من غير تشبيه إحداهما بالاُخرى (1).

وقوله : (على منبر الكوفة) ؛ حال عن القائم .

وقوله : (عليه قَباء) ؛ حال بعد حال .

والقَباء، بالفتح والمدّ: الذي يلبس.

وكأنّ «وَرَيان» معرّب «گريبان» .

قال المطرزي : «الوريان، بالكسر: الجيب» .

وفي القاموس : «فكّه: فصله.

ويَده: فتحها عمّا فيها»(2).

وفيه: «جفل الظليم جُفولاً: أسرع، وذهب في الأرض، كأجفل. وأجفَلته أنا، وانجفل القوم؛ أي انقلعوا، فمضوا، كأجفلوا» (3).

وقال الجوهري : «النقيب: العريف، وهو شاهد القوم وضمينهم. والجمع: النقباء. وقد نَقَب على قومه ينقب نقابة، مثل كتب يكتب كتابة» (4) انتهى .

وقيل : لعلّ الكتاب مشتمل على لعن أئمّة المخالفين، أو على الأحكام التي تخالف ما عليه عامّة الناس (5).

متن الحديث السادس والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، (6) قَالَ:

«الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا».

ص: 508


1- إلى هاهنا كلام القائل، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 186
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 315 (فكك)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 349 (جفل) مع التلخيص
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 227 (نقب)
5- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 36
6- في الطبعة القديمة : «أبي عبد اللّه عليه السلام » ، وهو سهو ، ولم نجد من النسخ ما يؤيّده ، ورواية عمرو بن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام تكرّرت في الأسناد كثيرة

شرح الحديث

السند ضعيف .

وهذا الخبر وردت من طرق الخاصّة والعامّة بعبارات مختلفة ، واختلف في تفسير الحكمة وبيان المراد ؛ أمّا الأوّل فقد قيل : الحكمة هي القرآن والشريعة، أو معالم الدِّين من المنقول والمعقول .

وقيل : هي العلم بالمعارف الإلهيّة التي تفيد البصيرة التامّة في أمر الدِّين .

وقيل : هي نفس تلك البصيرة، ومن ثمّ قيل : «الحكمة نورٌ يهدي اللّه به من يشاء» (1)

وأمّا الثاني، فقال ابن الأثير : «المراد أنّ المؤمن لا يزال يتطلّب الحكمة، كما يتطلّب الرجل ضالّته» (2).

وقيل : المراد أنّ المؤمن يأخذ الحكمة من كلّ من وجدها عنده، وإن كان كافرا أو فاسقا ، كما أنّ صاحب الضالّة يأخذها حيث وجدها .

وقيل : المراد من كان عنده حكمة لا يفهمها، ولا يستحقّها، يجب أن يطلب مَن يأخذها بحقّها، كما يجب تعريف الضالّة ، وإذا وجد من يستحقّها، وجب أن لا يبخل في البذل، كالضالّة (3).

وقيل : المراد أنّ الحكمة ضالّة المؤمن ومطلوبه، فإذا وصل إليها ووجدها، استقرّ قلبه وأخذها، وهو أولى بها كالضالّة إذا وجدها صاحبها؛ فإنّه يأخذها، وهو أولى بها من غيره .

وهذا الوجه يرجع إلى الوجه الأوّل .

وقيل : المراد أنّ الناس متفاوتون في فهم المعاني، واستنباط الحقائق المحتجبة، واستكشاف الاُمور المرموزة ، فينبغي أن لا ينكر من قصر فهمه عن إدراك حقائق الآيات ودقائق الروايات على من رُزق فهما، واُلهِمَ تحقيقا، وإن لم يكن أهلاً لها ، كما أنّ صاحب الضالّة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده، كذلك المؤمن الحكيم لا ينظر إلى خساسة من يتكلّم بالحكمة بالنظر إليه، بل يأخذها منه أخذ الضالّة (4).

ص: 509


1- اُنظر : مرآة العقول ، ج 26 ، ص 37
2- النهاية ، ج 3 ، ص 97 (ضلل)
3- اُنظر الأقوال في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 37
4- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 186

وهذا يرجع إلى الوجه الثاني ، ويؤيّده ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : «الحكمة ضالّة المؤمن، فخُذ الحكمة ولو من أهل النفاق» (1).

وروي عنه عليه السلام أيضا : «خُذ الحكمة أنّى كانت؛ فإنّ الحكمة تكون في صدر المنافق، تضطرب (2) في صدره حتّى تخرج، وتسكن إلى صاحبها (3) في صدر المؤمن» (4)

وقيل : المراد كما أنّ صاحب ضالّة أخذ ضالّته ممّن يجدها، ولا يحلّ له منعها عن مالكها؛ فإنّه أحقّ بها، كذلك العالم إذا سُئل عن مسألة، ورأى في السائل فطانة واستعدادا لذلك العلم، فعليه أن يعلّمه إيّاه، ولا يحلّ له منعه منه (5).

متن الحديث السابع والثمانين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ كَاتِبِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ شَرِكَ فِي دَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، وَابْنَتُهُ جَعْدَةُ سَمَّتِ الْحَسَنَ عليه السلام ، وَمُحَمَّدٌ ابْنُهُ شَرِكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ عليه السلام ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قال العلّامة رحمه الله في الخلاصة نقلاً عن الشيخ : الأشعث بن قيس الكندي أبو محمّد، سكن الكوفة، ارتدّ بعد النبيّ صلى الله عليه و آله في ردة أهل ياسر، زوّجه أبو بكر اُخته اُمّ فروة، وكانت عوراء، فولدت له محمّدا، وكان من أصحاب عليّ عليه السلام ، ثمّ صار خارجيّا ملعونا . انتهى (6).

وقيل : إنّ الأشعث هو الذي أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم ليحثّ عساكر أمير

ص: 510


1- نهج البلاغة ، ص 481 ، الكلام 80 ؛ خصائص الأئمّة ، ص 94 ؛ بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 99 ، ح 57
2- في المصدر : «فتلجلج»
3- في المصدر : «صواحبها»
4- نهج البلاغة ، ص 481 ، الكلام 79 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 99، ح 56
5- نقله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12، ص 187
6- خلاصة الأقوال ، ص 325

المؤمنين عليه السلام على الرضا بالتحكيم، فأغراهم عليه حتّى فعلوا ما فعلوا (1).

وقد روي : «أنّه بايع مع هذا الخارجي جماعة من الخوارج خارج الكوفة، وسمّوه أمير المؤمنين كفرا واستهزاءً بأمير المؤمنين عليه السلام » .

وكيفيّة إعانته على قتل أمير المؤمنين عليه السلام ما ذكر الشيخ المفيد في إرشاده : أنّ ابن ملجم وشبيب بن بحيرة ووردان بن مجالد كَمَنوا لقتله عليه السلام ، وجلسوا مقابل السدّة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين عليه السلام إلى الصلاة، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الأشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين عليه السلام ، وواطأهم على ذلك، وحضر الأشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه، وكان حجر بن عديّ رحمه الله في تلك الليلة بائتا في المسجد ، فسمع الأشعث يقول : يا ابن ملجم، النجاء النجاء لحاجتك، فقد ضحك الصبح، فأحسَّ حجر بما أراد الأشعث، فقال له : قتلته يا أعور .

وخرج مبادرا ليمضي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليخبره الخبر، ويحذّره من القوم .

وخالفه أمير المؤمنين عليه السلام في الطريق، فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم، فضربه بالسيف ، وأقبل حجر، والناس يقولون: قُتل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، ولعنة اللّه على من قتله ومن شرك في دمه .

وأمّا ابنه محمّد فقد حارب مسلم بن عقيل _ رضي اللّه عنه _ حتّى أخذه (2) وروي في الأمالي عن الصادق عليه السلام : «أنّ ابن زياد بعثه إلى حرب الحسين عليه السلام في ألف فارس، وأنّه نادى الحسين عليه السلام في صبيحة يوم شهادته: يا حسين بن فاطمة، أيّةُ حرمة لك من رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليست لغيرك؟

فتلا الحسين عليه السلام هذه الآية : «إِنَّ اللّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» (3) ، ثمّ قال : واللّه إنّ محمّدا لمن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمّد ، مَن الرجُل؟

فقيل : محمّد بن أشعث بن قيس الكندي .

ص: 511


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 187
2- الإرشاد ، ج 1 ، ص 18 - 20 (مع اختلاف يسير في اللفظ)
3- آل عمران (3) : 33 و 34

فرفع الحسين عليه السلام رأسه إلى السماء، فقال : اللّهمَّ أرِ محمّد بن أشعث ذُلّاً في هذا اليوم، لا تعزّه بعد هذا اليوم أبدا .

فعرض له عارض، فخرج من العسكرين، فسلّط اللّه عليه عقربا، فلدغته، فمات بادي العورة» (1). انتهى .

وأمّا ابنه الآخر قيس بن الأشعث، فإعانته على الحسين عليه السلام مشهور، وفي كتب السِّير مسطور ، وكان من رؤساء العسكر، وكان مع رؤوس الشهداء حين حملوها إلى ابن زياد .

وأمّا ابنته جعدة، فهي من المشهورات، وكانت زوجة حسن بن عليّ عليهماالسلام، فسمّته بإغواء معاوية ومروان بن الحكم، عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين .

متن الحديث الثامن والثمانين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ السِّنْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ صَبَّاحٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ:زَامَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ: فَقَالَ لِيَ: «اقْرَأْ».

قَالَ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَرَأْتُهَا، فَرَقَّ وَبَكى، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا أُسَامَةَ، ارْعَوْا قُلُوبَكُمْ بِذِكْرِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاحْذَرُوا النَّكْتَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْقَلْبِ تَارَاتٌ، أَوْ سَاعَاتٌ الشَّكُّ مِنْ صَبَّاحٍ لَيْسَ فِيهِ إِيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ شِبْهَ الْخِرْقَةِ الْبَالِيَةِ، أَوِالْعَظْمِ النَّخِرِ.

يَا أَبَا أُسَامَةَ، أَ لَيْسَ رُبَّمَا تَفَقَّدْتَ قَلْبَكَ، فَلاَ تَذْكُرُ بِهِ خَيْرا وَلَا شَرّا، وَلَا تَدْرِي أَيْنَ هُوَ؟» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: بَلى إِنَّهُ لَيُصِيبُنِي، وَأَرَاهُ يُصِيبُ النَّاسَ.

قَالَ: «أَجَلْ، لَيْسَ يَعْرى مِنْهُ أَحَدٌ» قَالَ: «فَإِذَا كَانَ ذلِكَ، فَاذْكُرُوا اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَاحْذَرُوا النَّكْتَ؛ فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا نَكَتَ إِيمَانا، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذلِكَ نَكَتَ غَيْرَ ذلِكَ».

قَالَ: قُلْتُ: مَا غَيْرُ ذلِكَ جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ كُفْرا، نَكَتَ كُفْرا».

ص: 512


1- الأمالي للصدوق ، ص 221 و 222 ، المجلس 30 ، ذيل ح 1

شرح الحديث

السند مجهول كالحسن .

قوله : (فرقّ) .

في الصحاح: «الرقيق: نقيض الغليظ والثخين . وقد رقّ الشيء يرقّ رِقّة. وترقّقت له، إذا رقَّ له قلبك» (1).

وقوله : (إرعَوا) ؛ من الرِّعاية، وهي بالكسر: الحفظ، وفعله كمنع؛ أي احفظوا قلوبكم .

(بذكر اللّه عزّ وجلّ) عن الغفلة، والعِزّة، والوساوس الشيطانيّة وخطراته، كما أشار إليه بقوله : (واحذروا النكت) .

قال الجوهري : «النَّكت: أن تنكتُ في الأرض بقضيب؛ أي تضرب، فتؤثّر فيها، ويقال أيضا: طعنه، فنَكَتَهُ؛ أي ألقاه على رأسه . والنُّكتة كالنُّقطة» (2). انتهى .

ولعلّ المراد هنا تأثّر القلب بما يخطر فيه من المفاسد، وتوسّخه بها، أو انقلابه وتغيّره واعوجاجه .

وقوله : (تارات) .

في القاموس : «التارة: الحين، والمرّة. الجمع: تارات، وتِيَر» (3).

وقوله : (ليس فيه إيمان ولا كفر) ؛ يدلّ على أنّ النسبة بين الإيمان [والكفر] التضادّ، لا العدم والملكة، كما توهّمه بعض من المتكلّمين، وإلّا لما انتفيا معا .

قوله : (النَّخر) .

في القاموس : «النخر، ككتف. والناخر: البالي المتفتّت. وقد نَخِر كفرح» (4).

وقوله : (أجل) .

في الصحاح : «قولهم: أجل، إنّما هو جواب، مثل نَعَمْ . قال الأخفش : إلّا أنّه أحسن من نَعَم في التصديق ، ونَعَم أحسن منه في الاستفهام» (5).

ص: 513


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1483 (رقق)
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 269 (نكت)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 381 (تور)
4- القاموس المحيط ، ج 2، ص 139 (نخر)
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1622 (أجل)

وقوله : (إذا أراد بعبدٍ خيرا) ؛ يعني لطفا وتوفيقا لحسن استعداده، وخلوص نيّته. ومنه يُعرف حال قرينه .

وقوله : (نكت كفرا) .

قيل: إسناد النكت إليه تعالى إسناد إلى السبب مجازا؛ لأنّ منع لطفه تعالى صار سببا لذلك (1)

وقال بعض الشارحين :

إن قلت : هل فيه دلالة على أنّ الإيمان والكفر من فعله تعالى، كما هو مذهب الأشاعرة، أم لا؟

قلت : لا ؛ لأنّ هذا القلب الغافل لا محالة إمّا أن يعود إلى الإيمان باختياره، أو إلى الكفر باختياره، فإن عاد إلى الأوّل كان في علمه السابق الأزلي إيمانه ، وإن عاد إلى الثاني كان فيه كفره ، فأراد _ عزّ وجلّ _ إيمانه أو كفره بالعرض، ليطابق علمه بمعلومه، إلّا أنّ بين الإيمان الكفر فرقا، وهو أنّه تعالى أراد إيمانه بالذات أيضا دون كفره ، ولمّا كان صدورهما من هذا الغافل بإرادته تعالى بالعرض نسب نكتهما إليه بهذا الاعتبار، وهو لا يستلزم صدورهما منه تعالى ، وهذا هو المراد من قول أبي عبد اللّه عليه السلام في آخر حديث طويل : «علم أنّهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم» وليست إرادة حتم، إنّما هي إرادة اختيار (2).

متن الحديث التاسع والثمانين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ:

قُلْتُ لأبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : إِنِّي لَا أَكَادُ أَلْقَاكَ إِلَا فِي السِّنِينَ (3) ، فَأَوْصِنِي بِشَيْءٍ آخُذُ بِهِ.

قَالَ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيث،ِ وَالْوَرَعِ، وَالأْتِهَادِ؛ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ اجْتِهَادٌ لَا وَرَعَ مَعَهُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُطْمِحَ (4) نَفْسَكَ إِلى مَنْ فَوْقَكَ، وَكَفَى بِمَا قَالَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه و آله : «فَلا

ص: 514


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 39
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 188
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «السنتين»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «أن تطمع»

تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ» (1) ، وَقَالَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لِرَسُولِهِ: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» (2) ، فَإِنْ خِفْتَ شَيْئا مِنْ ذلِكَ، فَاذْكُرْ عَيْشَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ، فَإِنَّمَا كَانَ قُوتُهُ الشَّعِيرَ، وَحَلْوَاهُ التَّمْرَ، وَوَقُودُهُ السَّعَفَ إِذَا وَجَدَهُ؛ وَإِذَا أُصِبْتَ بِمُصِيبَةٍ ، فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و آله ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ (3) لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهِ صلى الله عليه و آله قَطُّ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (لا ينفع اجتهاد لا ورع معه) .

في القاموس: «ورع كورث ووجل ووضع وكرم، وراعة وورعا _ ويحرّك _ ووروُعا، ويضمّ: تحرّج» (4). انتهى .

وقيل : الورع ملَكَة التحرّز عن المشتهيات ولذّات الدُّنيا، وإن كانت مباحة (5).

وأقول : توقّف الورع على الاجتناب عن المباحات غير لازم، لا لغةً، ولا اصطلاحا، بل يتحقّق بالاجتناب عن المنهيّات المحرّمة فقط، وإن تحرّز معه عن المكروهات والمباحات أيضا فهو أكمل وأتمّ .

ووجه عدم الانتفاع بالاجتهاد بدون الورع ظاهر ؛ لأنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ إنّما يتقبّل من المتّقين .

وقد يوجّه بأنّ الخبر المختلط بالشرّ شرّ إن تساويا، أو زاد الشرّ، ومشوبٌ مختلط إن زاد الخير، واللّه سبحانه لا يتقبّل إلّا الخالص ، وبأنّ الاجتهاد ميلٌ إلى الدُّنيا والآخرة، وترك الورع ميلٌ إلى الدُّنيا، فيذهب هذا بذاك. ومن ثمّ قيل : الميل إلى الدُّنيا والآخرة لا يجتمعا .

وقوله : (وإيّاك أن تطمح نفسك) ؛ إمّا من المجرّد المعلوم، و«نفسك» فاعله. أو من المزيد على صيغة المخاطب المعلوم، و«نفسك» مفعوله .

في القاموس : «طمح بصره إليه، كمنع: ارتفع. وكلّ مرتفع : طامح. وأطمح بصره: رفعه»(6).

ص: 515


1- التوبة (9) : 55
2- طه (20) : 131
3- في الحاشية عن بعض النسخ: «الناس»
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 93 (ورع)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 189
6- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 238 (طمح)

والمقصود التحذير من النظر إلى حال من هو أعلى مرتبة بحسب الدُّنيا، وتمنّى مثل حاله .

وقوله تعالى في سورة التوبة : «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ» .

في القاموس: «أعجبه: حمله على العجب منه» (1) ؛ أي لا تملِكُ، ولا تزعجك كثرة أموال هؤلاء المنافقين، وكثرة أولادهم إلى العجب منهما، ولا تأخذ بقلبك ما تراه منهم، ولا تنظر إليهم بعين الإعجاب؛ فإنّ ذلك استدراج ووبال لهم، كما قال : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ» (2) .

وقوله تعالى في سورة طه : «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» .

قال البيضاوي : أي نظر عينيك . «إِلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ» استحسانا وتمنّيا أن يكون لك مثله. «أَزْوَاجا مِنْهُمْ» أصنافا من الكفرة . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «به»، والمفعول منهم؛ أي إلى الذي متّعنا به ، وهو أصنافٌ بعضهم أو ناسا منهم .

«زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا» منصوب بمحذوف دلّ عليه «متّعنا»، أو «به» على تضمينه معنى أعطينا . أو بالبدل من محلّ «به»، أو من «أزواجا» بتقدير مضاف ودونه، وهي الزينة والبهجة (3).

وقوله : (من ذلك) أي من طموح البصر والنظر إلى عزّ الدُّنيا وفخرها نظر راغبٍ فيها .

قال الجوهري : «الوَقود: الحطب» (4).

وقال: «السعفة، بالتحريك: غصن النخل. والجمع: السَّعْف أيضا» (5).

وقوله : (فاذكر مُصابك برسول اللّه صلى الله عليه و آله ) ؛ أمر به لأنّ ذكر المصائب العِظام يوجب الرِّضا بما دونها .

قال الجوهري : «أصابته مصيبةٌ، فهو مُصاب» (6).

وفي القاموس : «الإصابة: التفجيع، كالمصابة.

والصّابة: المصيبة، كالمصابة» انتهى (7).

ويحتمل أن يُراد هنا بالمصاب مكان الإصابة، أونفس المصيبة ، أو يجعل الإضافة بيانيّة .

أو نقول: أصله المصابة، فحذفت التاء في الإضافة تخفيفا، كما في أقام الصلاة .

ص: 516


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 101 (عجب)
2- التوبة (9) : 55
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 78
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 81 (وقد)
5- الصحاح ، ج 4 ، ص 1374 (سعف)
6- الصحاح، ج 1، ص 165 (صوب)
7- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 94 (صوب)

متن الحديث التسعين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ، (1) عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله مَرَّ بِنَا ذَاتَ يَوْمٍ، وَنَحْنُ فِي نَادِينَا، وَهُوَ عَلى نَاقَتِهِ، وَذلِكَ حِينَ رَجَعَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: «مَا لِي أَرى حُبَّ الدُّنْيَا قَدْ غَلَبَ عَلى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتّى كَأَنَّ الْمَوْتَ فِي هذِهِ الدُّنْيَا عَلى غَيْرِهِمْ كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِي هذِهِ الدُّنْيَا عَلى غَيْرِهِمْ وَجَبَ، وَحَتّى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا وَيَرَوْا مِنْ خَبَرِ الْأَمْوَاتِ قَبْلَهُمْ، سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ قَوْمٍ سَفْرٍ، عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْهِمْ رَاجِعُونَ، بُيُوتُهُمْ أَجْدَاثُهُمْ، وَيَأْكُلُونَ تُرَاثَهُمْ، فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ؟! هَيْهَاتَ، هَيْهَاتَ أَ مَا يَتَّعِظُ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ؟ لَقَدْ جَهِلُوا، وَنَسُوا كُلَّ وَاعِظٍ فِي كِتَابِ اللّهِ، وَآمَنُوا شَرَّ كُلِّ عَاقِبَةِ سُوءٍ، وَلَمْ يَخَافُوا نُزُولَ فَادِحَةٍ وَبَوَائِقَ حَادِثَةٍ، طُوبى لِمَنْ شَغَلَهُ خَوْفُ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَنْ خَوْفِ النَّاسِ، طُوبى لِمَنْ مَنَعَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْوَانِهِ، طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ، وَزَهِدَ فِيمَا أَحَلَّ اللّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ عَنْ سِيرَتِي، (2) وَرَفَضَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ تَحَوُّلٍ عَنْ سُنَّتِي، وَاتَّبَعَ الْأَخْيَارَ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ بَعْدِي، وَجَانَبَ أَهْلَ الْخُيَلَاءِ وَالتَّفَاخُرِ وَالرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، الْمُبْتَدِعِينَ خِلَافَ سُنَّتِي، الْعَامِلِينَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، (3) طُوبى لِمَنِ اكْتَسَبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَالاً مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَعَادَ بِهِ عَلى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، طُوبى لِمَنْ حَسُنَ مَعَ النَّاسِ خُلُقُهُ، وَبَذَلَ لَهُمْ مَعُونَتَهُ، وَعَدَلَ عَنْهُمْ شَرَّهُ، طُوبى لِمَنْ أَنْفَقَ الْقَصْدَ، وَبَذَلَ الْفَضْلَ، وَأَمْسَكَ قَوْلَهُ عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْفِعْلِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (في نادينا) أي مجلسنا، ومتحدّثنا .

ص: 517


1- في الحاشية: «الأنصاري، ثقة، واسمه عبد الغفار بن القاسم». اُنظر : رجال النّجاشي ، ص 246 ، الرقم 649 ؛ رجال الطوسي ، ص 140 ، الرقم 1490
2- .في الحاشية عن بعض النسخ: «سيَري»
3- في كلتا الطبعتين : «سيرتي»

وقوله : (كأنّ الموت في هذه الدُّنيا على غيرهم كُتب) ؛ لكون أفعالهم وأحوالهم شبيهة بمن يظنّ ذلك .

قال الجوهري : «الكتاب معروف. وقد كتبت كتبا وكتابا وكتابة . والكتاب: الفرض، والحكم، والقَدَر» (1).

وقوله : (وكأنّ الحقّ) ؛ أعمّ من حقوق اللّه وحقوق الناس، وتخصيصه بالموت أيضا احتمال .

وقوله : (كأن لم يسمعوا ويروا) أي لم يروا، وكأنّ السماع بالنسبة إلى الغائبين من الأموات، والرؤية بالنسبة إلى الحاضرين منهم . أو برؤية آثارهم وقبورهم .

(من خبر الأموات قبلهم) .

في القاموس : «قبل: نقيض بعد . والقُبُل _ بالضمّ وبضمّتين _ نقيض الدبر . ومن الزمن: أوّله . ورأيته قَبَلاً _ محرّكة، وبضمّتين، وكصرد وعنَب _ : عيانا ومقابلةً. ولي قِبَلَهُ حقّ، بكسر القاف ؛ أي عنده»(2).

ولك تطبيق عبارة الخبر بكلّ من تلك المعاني، وإن كان الأوّل أظهر .

(سبيلهم سبيل قوم سَفْر) .

قال صاحب النهاية : «السفر: جمع سافر، كصاحب، وصَحب» (3).

وقال الجوهري : «إنّ السَّفْر قطع المسافة.

سَفَرَ يسفر: خرج إلى السفر، فهو مسافر، وهم سَفْر وسفار» انتهى (4).

ويفهم من كلام الجوهري أنّ السَفْر اسم جمع للمسافر ، والظاهر ضمير «سبيلهم» راجع إلى الأحياء، وضمير «إليهم» في قوله : (عمّا قليل إليهم راجعون) إلى الأموات ؛ يعني أنّ هؤلاء الأحياء يشبه حالهم في منازل أعمارهم من الشهور والسنين بمن يسافر من بلد إلى بلد، حتّى يلحقوا بمن قبلهم من الأموات .

وقيل : يحتمل العكس في إرجاع الضميرين ، فالمراد أنّ سبيل هؤلاء الأموات عند

ص: 518


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 208 (كتب)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 33 و 34 (قبل) مع التلخيص
3- النهاية ، ج 2 ، ص 371 (سفر)
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 685 (سفر)

هؤلاء الأحياء لعدم اتّعاظهم بموتهم وعدم مبالاتهم ، كأنّهم ذهبوا إلى سَفَرٍ، وعن قريب يرجعون إليهم .

قال : ويؤيّده ما في النهج وتفسير عليّ بن إبراهيم: «وكأنّ الذي نرى من الأموات سَفْر عمّا قليل إلينا راجعون» (1) (2).

(بيوتهم أجداثهم) ؛ جمع الجدث _ محرّكة _ وهو القبر .

(ويأكلون تُراثهم)

التُّراث، بالضمّ: الميراث، وهو ما يخلفه الإنسان لورثته ، وأصله: وُراث، قُلبت الواو تاءً؛ أي يرون هؤلاء الأحياء أنّ الأموات بيوتهم قبورهم، ومع ذلك يأكلون تراثهم، ولا يتّعظون بحالهم .

(فيظنّون [أنّهم] مخلّدون بعدهم) في الدُّنيا .

وفي بعض النسخ : «يبوّؤونهم» بدل «بيوتهم»، وهو أظهر .

وقال بعض الأفاضل : «الظاهر أنّه وقع في نسخ الكتاب تصحيف . والأظهر ما في النهج: نبوّءهُم أجداثهم، ونأكل تُراثَهم»(3).

وأقول : في وجه الأظهريّة خفاء .

وقوله : (عاقبة سوء) ؛ بضمّ السين والإضافة .

وقوله : (فادحة) بالفاء؛ أي بليّة يثقل حملها . يُقال : فدحه الدين _ كمنع _ أي أثقله .

وفوادح الدهر: خطوبه . والفادح: المثقل الصعب . والفادحة: النازلة .

(وبوائقَ حادثة) ؛ عطف على «نزول»، أو «فادحة».

وما قيل من أنّ الظاهر الأوّل؛ لأنّ ذكر الحادثة يتأبّى عن الثاني، ففيه ما فيه .

والبائقة: الداهية، وهي الأمر العظيم الشديد .

وقوله : (زهد فيما أحلّ اللّه له) .

في القاموس : «زهد فيه _ كمنع وسمع وكرم _ ضدّ رغب» (4). ؛ يعني أنّه لم يرغب في

ص: 519


1- نهج البلاغة ، ص 490 ، الكلام 122 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 70
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 42
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 42
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 298 (زهد)

الحلال الزائد عن قدر الحاجة؛ لعلمه بأنّه شاغل له عن الآخرة .

(من غير رغبة عن سيرتي) .

في كثير من النسخ: «سيري».

السيرة، بالكسر: السنّة، والطريقة، والهيئة. وجمعها: سِيَر، كعنب .

والرغبة عنها إمّا بإنكارها، أو عدم المبالاة، وترك العمل بها .

وقوله : (من غير تحوّل عن سنّتي) .

في بعض النسخ: «عن نفسي» .

وحاصل الفقرتين أنّ الزُّهد والرفض ينبغي أن يكون من غير إفراط في ترك الطيّبات من المأكول والملبوس والنساء والطيب ونحوها، كما هو شأن المبتدعة من الصوفيّة، بل يزهد في الشبهات، وبترك زوائد المحلّلات التي تشغل القلب عن الطاعات؛ إذ لا رهبانيّة في الإسلام .

ويفسّرهما قوله صلى الله عليه و آله : (واتّبع الأخيار من عترتي) .

في الصحاح: «العترة: نسل الرجل، ورهطه الأدنون» (1).

والمراد هنا أهل العصمة عليهم السلام .

وقوله : (الخُيَلاء ) وزان السُّفهاء: التكبّر .

(والتفاخر) أي أهل التمدّح بالخصال من الشرف والحسب والنسب وأمثالها .

(والرغبة في الدُّنيا) عطف على الخيلاء .

(المبتدعين خلاف سنّتي) من أصحاب الرأي والقياس والأهواء النفسانيّة .

(العاملين بغير سنّتي) .

في بعض النسخ: «سيرتي»؛ يعني الذين يعملون على وفق ما يبتدعون .

وقيل : المراد بهم أتباع المبتدعين (2).

وقوله : (عاد به) ؛ من العائدة، وهي العطف، والمنفعة، والمعروف، والصِّلة . يُقال : عاد معروفه عودا؛ أي أفضل، وأعطى .

ص: 520


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 735 (عتر)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 192

وقوله : (معونته) .

في الصحاح : «المعونة: الإعانة . يُقال : ما عندك مَعُونة ولا مَعانة ولا عَون» (1).

وفي القاموس : «استعنته، فأعانني، وعوّنني. والاسم العَون والمعانة والمَعْوَنةُ والمَعْون» (2).

وقوله : (القصد) أي الاقتصاد، وهو العدل، والتوسّط بين الإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير، وهو منصوب على المصدر .

وفي بعض النسخ : «وأنفق الفضل» ، ولعلّ المراد الفاضل عن المعونة .

وقوله : (عن الفضول) أي الاُمور الغير النافعة، سواء كان مضرّا، أم لا ، قولاً كان أو فعلاً .

والمراد هنا الأوّل؛ أي القول بقرينة التقييد وتخصيصه بالمباح خلاف الظاهر .

في القاموس : «الفضل : ضد النقص. الجمع فُضُول . والفضولي، بالضمّ: المشتغل بما لا يعنيه» (3).

(وقبيح الفعل)؛ هو ما يذمّ به عقلاً وشرعا، وكأنّه معطوف على «الفضول» بتقدير مضاف؛ أي أمسك قوله عن ذكر قبيح الفعل، بأن يجريه على لسانه، أو يرخّص، ويفتي فيه .

ويحتمل عدم اعتبار القول في المعطوف؛ فإنّ الغرض في العطف التشريك في العامل، لا في متعلّقاته .

وقيل : كأنّه عطف على «أمسك» بتقدير فعل يدلّ عليه المذكور ؛ أي أمسك عن فعل القبيح .

قال : وعطفه على «الفضول» بحمل الفعل على فعل اللّسان يأباه ظهور عموم الفعل، ولزوم التكرار (4) انتهى، فليتأمّل .

متن الحديث الواحد والتسعين والمائة

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، رَفَعَهُ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ، قَالَ:

إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَتَمَنَّى الْغِنى لِلنَّاسِ أَهْلُ الْبُخْلِ؛ لأنَّ النَّاسَ إِذَا اسْتَغْنَوْا كَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ

ص: 521


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2168 (عون)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 250 (عون)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 31 (فضل) مع التلخيص
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 193

أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَتَمَنّى صَلاَحَ النَّاسِ أَهْلُ الْعُيُوبِ؛ لأنَّ النَّاسَ إِذَا صَلَحُوا كَفُّوا عَنْ تَتَبُّعِ عُيُوبِهِمْ، وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَتَمَنّى حِلْمَ النَّاسِ أَهْلُ السَّفَهِ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ أَنْ يُعْفى عَنْ سَفَهِهِمْ، فَأَصْبَحَ أَهْلُ الْبُخْلِ يَتَمَنَّوْنَ فَقْرَ النَّاسِ، وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْعُيُوبِ يَتَمَنَّوْنَ فِسْقَهُمْ، وَأَصْبَحَ أَهْلُ الذُّنُوبِ يَتَمَنَّوْنَ سَفَهَهُمْ، وَفِي الْفَقْرِ الْحَاجَةُ إِلَى الْبَخِيلِ، (1).

وَفِي الْفَسَادِ طَلَبُ عَوْرَةِ أَهْلِ الْعُيُوبِ، وَفِي السَّفَهِ الْمُكَافَأَةُ بِالذُّنُوبِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (عن بعض الحكماء) .

قيل : أي الأئمّة عليهم السلام ؛ إذ قد روى الصدوق رحمه الله في الأمالي هذا الخبر بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، مع أنّه ليس من دأبهم الرواية عن غير المعصوم (2) انتهى (3).

وفيه بحث .

وقوله : (يتمنّون فقر الناس) .

قيل : الحامل لهم على ذلك وجوه :

الأوّل : أنّ صفة البخل يقتضي الحرص في جمع المال وضبطه، فيحبّ البخيل جمعه لنفسه .

الثاني : أنّها تقتضي الحسد، وهو يقتضي حبّ زوال النعمة عن الغير، وبقائه على الفقر .

الثالث : أنّها تابعة لطلب العزّة بكثرة المال، فيحبّ أن يكون سبب العزّة، وهو المال كلّه له .

الرابع : أنّها صفة مستحسنة عند البخيل، فيجب أن تكون تلك الصفة للجواد أيضا (4).

(وأصبح أهل العيوب يتمنّون فسقهم) ؛ لما مرّ في الوجه الرابع . أو ليحصل بينهم المشاركة في نوع من العيب ، ويمكن لهم المقابلة بالتعيير متى شاؤوا .

(وأصبح أهل الذنوب يتمنّون سفههم) ؛ لما مرّ.

ص: 522


1- في الحاشية عن بعض النسخ: «البخل»
2- اُنظر : الأمالي للصدوق ، ص 387 ، المجلس 61 ، ح 8
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 43
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 193

قال الجوهري : «السَّفَه: ضدّ الحلم. وأصله: الخفّة، والحركة» (1) . ولعلّ المراد بالذنوب السَّفَه تسميةً للسبب باسم المسبّب . أو اُريد بالسفه فيما سبق الذنوب تسمية للمسبّب باسم السبب .

والفساد: ضدّ الصلاح .

والعورة: سَوءة الإنسان، وكلّ ما يستحي منه .

متن الحديث الثاني والتسعين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيى، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، قَالَ:

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «يَا حَسَنُ، إِذَا نَزَلَتْ بِكَ نَازِلَةٌ، فَلَا تَشْكُهَا إِلى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ، وَلكِنِ اذْكُرْهَا لِبَعْضِ إِخْوَانِكَ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تُعْدَمَ خَصْلَةً مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ؛ إِمَّا كِفَايَةً بِمَالٍ، وَإِمَّا مَعُونَةً بِجَاهٍ، أَوْ دَعْوَةً فَتُسْتَجَابُ، أَوْ مَشُورَةً بِرَأْيٍ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله عليه السلام : (فلا تَشْكها) ؛ من الشكاية. والفعل كدعا .

(إلى أحد من أهل [الخلاف]) ؛ كأنّه لتضمّنها الشماتة غالبا، وشكاية الربّ إلى عدوّه؛ إذ الشكاية عن الفعل شكاية عن فاعله، كما يدلّ عليه قول أمير المؤمنين عليه السلام : «من أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فإنّما يشكو ربّه» (2).

(ولكن اذكرها لبعض إخوانك) .

فيه دلالة على جواز ذكر المصيبة والحاجة للإخوان في الدِّين ، بل على رجحانه . قال أمير المؤمنين عليه السلام : «من شكا الحاجة إلى مؤمن، فكأنّما شكا إلى اللّه » (3).

ص: 523


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2234 (سفه)
2- نهج البلاغة ، ص 508 ، الكلام 228 ؛ الاختصاص ، ص 226 ؛ تحف العقول ، ص 6 و 217
3- نهج البلاغة ، ص 551 ، الكلام 427

(فإنّك لن تُعدم) إلى آخره .

فيه إيماء إلى أنّ المشكو إليه ينبغي أن يكون ممّن يُرجى به الإتيان بإحدى تلك الخصال .

في القاموس : «العُدم، بالضمّ، وبضمّتين، وبالتحريك: الفقدان . عَدِمه _ كعلمه _ وأعدمه اللّه ، وأعدمني الشيء: لم أجده» (1).

وفي الصحاح: «يُقال : ما يعدمني هذا الأمرُ؛ أي ما يعدوني» (2).

وقوله : (بجاه) أي قدر ومنزلة .

وقوله : (أو دعوة تُستجاب) أي دَعا لك، فيستجيب اللّه دعاءه، وقضى حاجتك .

(أو مَشُورةٍ برأي) أي تنتفع برأيه حتّى شاورته .

متن الحديث الثالث والتسعين والمائة (خُطْبَةٌ لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام )

اشارة

عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُؤَدِّبُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ:

الْحَمْدُ لِلّهِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ، الضَّارِّ النَّافِعِ، الْجَوَادِ الْوَاسِعِ، الْجَلِيلِ ثَنَاؤُهُ، الصَّادِقَةِ أَسْمَاؤُهُ، الْمُحِيطِ بِالْغُيُوبِ، وَمَا يَخْطُرُ عَلَى الْقُلُوبِ، الَّذِي جَعَلَ الْمَوْتَ بَيْنَ خَلْقِهِ عَدْلاً، وَأَنْعَمَ بِالْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فَضْلاً، فَأَحْيَا، وَأَمَاتَ، وَقَدَّرَ الْأَقْوَاتَ أَحْكَمَهَا بِعِلْمِهِ تَقْدِيرا، فَأَتْقَنَهَا (3). بِحِكْمَتِهِ تَدْبِيرا، (4) إِنَّهُ كَانَ خَبِيرا بَصِيرا.

هُوَ الدَّائِمُ بِلَا فَنَاءٍ، وَالْبَاقِي إِلى غَيْرِ مُنْتَهًى، يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا فِي السَّمَاءِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرى، أَحْمَدُهُ بِخَالِصِ حَمْدِهِ الْمَخْزُونِ بِمَا حَمِدَهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ، حَمْدا لَا يُحْصَى لَهُ عَدَدٌ، وَلَا يَتَقَدَّمُهُ أَمَدٌ، وَلَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ أَحَدٌ، أُومِنُ بِهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأَسْتَكْفِيهِ، وَأَسْتَقْضِيهِ بِخَيْرٍ، وَأَسْتَرْضِيهِ.

ص: 524


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 148 (عدم)
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1983 (عدم)
3- في الطبعة القديمة : «وأتقنها»
4- في الحاشية عن بعض النسخ: «تقديرا»

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ «بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (1) ، صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَكُمْ بِدَارٍ وَلَا قَرَارٍ؛ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِيهَا كَرَكْبٍ عَرَّسُوا، فَأَنَاخُوا، ثُمَّ اسْتَقَلُّوا، فَغَدَوْا، وَرَاحُوا؛ دَخَلُوا خِفَافا، وَرَاحُوا خِفَافا، لَمْ يَجِدُوا عَنْ مُضِيٍّ نُزُوعا، وَلَا إِلَى مَا تَرَكُوا رُجُوعا، جُدَّ بِهِمْ، فَجَدُّوا، وَرَكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا، فَمَا اسْتَعَدُّوا حَتّى إِذَا أُخِذَ بِكَظَمِهِمْ، وَخَلَصُوا إِلى دَارِ قَوْمٍ جَفَّتْ أَقْلَامُهُمْ، لَمْ يَبْقَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ خَبَرٌ، وَلَا أَثَرٌ.

قَلَّ فِي الدُّنْيَا لَبْثُهُمْ، وَعُجِّلَ إِلَى الْاخِرَةِ بَعْثُهُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ حُلُولاً فِي دِيَارِهِمْ، ظَاعِنِينَ عَلى آثَارِهِمْ وَالْمَطَايَا بِكُمْ، تَسِيرُ سَيْرا مَا فِيهِ أَيْنٌ وَلَا تَفْتِيرٌ ، نَهَارُكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ دَؤُوبٌ، وَلَيْلُكُمْ بِأَرْوَاحِكُمْ ذَهُوبٌ، فَأَصْبَحْتُمْ تَحْكُونَ مِنْ حَالِهِمْ حَالاً، وَتَحْتَذُونَ مِنْ مَسْلَكِهِمْ مِثَالاً.

فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ فِيهَا سَفْرٌ حُلُولٌ ، الْمَوْتُ بِكُمْ نُزُولٌ ، تَنْتَضِلُ فِيكُمْ مَنَايَاهُ، وَتَمْضِي بِأَخْبَارِكُمْ مَطَايَاهُ إِلى دَارِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ، فَرَحِمَ اللّهُ امْرَأً رَاقَبَ رَبَّهُ، وَتَنَكَّبَ ذَنْبَهُ، (2) وَكَابَرَ هَوَاهُ، وَكَذَّبَ مُنَاهُ، امْرَأً زَمَّ نَفْسَهُ مِنَ التَّقْوى بِزِمَامٍ، وَأَلْجَمَهَا مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهَا بِلِجَامٍ، فَقَادَهَا إِلَى الطَّاعَةِ بِزِمَامِهَا، وَقَدَعَهَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِلِجَامِهَا، رَافِعا إِلَى الْمَعَادِ طَرْفَهُ، مُتَوَقِّعا فِي كُلِّ أَوَانٍ حَتْفَهُ؛ دَائِمَ الْفِكْرِ، طَوِيلَ السَّهَرِ، عَزُوفا عَنِ الدُّنْيَا، سَأَما كَدُوحا لآِخِرَتِهِ مُتَحَافِظا؛ امْرَأً جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ، وَالتَّقْوى عُدَّةَ وَفَاتِهِ، وَدَوَاءَ أَجْوَائِهِ، فَاعْتَبَرَ، وَقَاسَ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَالنَّاسَ، يَتَعَلَّمُ لِلتَّفَقُّهِ وَالسَّدَادِ، وَقَدْ وَقَّرَ قَلْبَهُ ذِكْرُ الْمَعَادِ، وَطَوى مِهَادَهُ، وَهَجَرَ وِسَادَهُ، مُنْتَصِبٌ عَلى أَطْرَافِهِ، دَاخِلٌ فِي أَعْطَافِهِ، خَاشِعا لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُرَاوِحُ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، خَشُوعٌ فِي السِّرِّ لِرَبِّهِ؛ لَدَمْعُهُ صَبِيبٌ، وَلَقَلْبُهُ وَجِيبٌ؛ شَدِيدَةٌ أَسْبَالُهُ، تَرْتَعِدُ مِنْ خَوْفِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْصَالُهُ ، قَدْ عَظُمَتْ فِيمَا عِنْدَ اللّهِ رَغْبَتُهُ، وَاشْتَدَّتْ مِنْهُ رَهْبَتُهُ ، رَاضِيا بِالْكَفَافِ مِنْ أَمْرِهِ، يُظْهِرُ دُونَ مَا يَكْتُمُ، وَيَكْتَفِي بِأَقَلَّ مِمَّا يَعْلَمُ ؛ أُولئِكَ وَدَائِعُ اللّهِ فِي بِلَادِهِ، الْمَدْفُوعُ بِهِمْ عَنْ عِبَادِهِ، لَوْ أَقْسَمَ أَحَدُهُمْ عَلَى اللّهِ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ لَأَبَرَّهُ، أَوْ دَعَا عَلى أَحَدٍ نَصَرَهُ اللّهُ، يَسْمَعُ إِذَا نَاجَاهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُ إِذَا دَعَاهُ، جَعَلَ اللّهُ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوى، وَالْجَنَّةَ لأهْلِهَا مَأْوًى، دُعَاؤُهُمْ فِيهَا أَحْسَنُ الدُّعَاءِ: «سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ»، دَعَاهُمُ الْمَوْلى عَلى مَا آتَاهُمْ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

ص: 525


1- التوبة (9) : 33 ؛ الصفّ (61) : 9
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «دينه»

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله عليه السلام : (الخافض الرافع) .

الخفض: ضدّ الرفع؛ أي يخفض الجبّارين، ويضعهم، ويهينهم، ويخفض كلّ شيء يريد خفضه أو إذلاله .

وهو الرافع يرفع أنبياءه وحججه على درجات القُرب والكمال، ويرفع المؤمنين بالتوفيق والإسعاد، والأولياء بالتقرّب والإمداد ، ورفع السماوات بغير عَمَد ترونها ، فكلّ رفعة وغلبة وعزّة منه تعالى .

(الضارّ النافع) أي يضرّ بالعقوبة والخذلان من استحقّ ذلك، وبالبلاء والمحن غضبا أو تكفيرا لسيّئاته، أو رافعا لدرجاته .

وإطلاق الضرر على بعض منها بحسب الظاهر، وإن كان في الواقع عائدا إلى النفع ، وأمّا إيصال نفعه تعالى من يشاء من عباده فغنيٌّ عن البيان؛ إذ لا خفاء في كونه تعالى مبدأ لكلّ رحمة، ومنشأ لكلّ نعمة وإحسان .

(الجواد الواسع) .

قال صاحب العُدّة :

الجواد، هو المُنعم المحسن، الكثير الإنعام والإحسان . والفرق بينه وبين الكريم أنّ الكريم الذي يعطي مع السؤال، والجواد الذي يعطي من غير السؤال . وقيل بالعكس (1) والواسع هو الذي وسِعَ غناه مفاقِرَ عباده، ووسع رزقه جميع خلقه . وقيل : الواسع: الغنيّ . والسعة: الغنى . وفلان يُعطي من سعته؛ أي من غنائه . انتهى (2).

وقيل : الواسع: مشتقّ من السعة، وهي تستعمل في المكان . وبهذا الاعتبار لا يمكن إطلاقه على اللّه تعالى ، وتستعمل مجازا في العلم والإنعام والمكنة والغنى . قال اللّه تعالى : «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما» (3) وقال : «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» (4) ولذلك فسّر الواسع بالعالم المحيط بجميع المعلومات، كلّيّها وجزئيّها، موجودها ومعدومها . وبالجواد الذي

ص: 526


1- عدّة الداعي ، ص 312
2- عدّة الداعي ، ص 311
3- غافر (40) : 7
4- الطلاق (65) : 7

عمّت نعمته، وشملت رحمته لكلّ برٍّ وفاجر ، [و] مؤمن وكافر . وبالغنيّ التامّ الغنيّ المتمكِّن فيما يشاء .

وقيل : الواسع الذي لا نهاية لبرهانه، ولا غاية لسلطانه، ولا حدّ لإحسانه (1).

(الجليل ثناؤه) .

الجليل: العظيم؛ أي لا يصل إلى أقصى ثنائه اللّائق بذاته المقدّسة عقول العارفين، ولا يحيط بمدحته وصف الواصفين .

(الصادقة أسماؤه) .

قيل : كلّ اسم من أسمائه تعالى مدحة دالّة على صفة في غاية الكمال، وصدقها عبارة عن ثبوت مدلولها في الواقع (2).

(المحيط بالغيوب) أي بحسب العلم والقدرة .

والمراد بالغيب الذي لا يدركه الحسّ، ولا يقتضيه بديهيّة العقل، وهو قسمان : قسمٌ لا دليل عليه _ قيل : منه قوله تعالى : «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَا هُوَ» (3) _ وقسم نصب عليه دليل، كالصانع وصفاته، واليوم الآخر وأحواله .

(وما يخطُر على القلوب) .

في القاموس : «خَطَرَ بباله وعليه يَخطُر ويخطِر خطورا: ذكره بعد نسيان . وأخطره اللّه تعالى» (4).

(الذي جعل الموت بين خلقه عدلاً) .

قيل: في وصفه تعالى بتقدير الموت ترغيب في طاعته، والانزجار عن معصيته ، وذكر المعاد إليه ووعدِه ووعيده، والإعراض عن الدُّنيا، وبذل الفضل، وتكميل جميع الأخلاق، فهو محض عدل، حتّى لو لم يكن موت وقع الهرج، وفسد نظام الخلق، وبطل رفاهية العيش (5).

ص: 527


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 45
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 195
3- الأنعام (6) : 59
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 22 (خطر)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 195

(وأنعم بالحياة عليهم فضلاً) أي بلا سبق استحقاق .

(وقدّر الأقوات أحكمها بعلمه تقديرا) ؛ لعلّ المراد ما أفاده بعض الأفاضل أنّه كانت الأقوات مقدّرة محدودة في علمه، أو قدّر الأقوات قبل خلق الخلائق، وأحكمها لعلمه بمصالحهم قبل إيجادهم (1).

وقوله : «تقديرا» نصب على التميز .

(فأتقنها بحكمه) .

في بعض النسخ: «بحكمته» .

(تدبيرا) .

في بعض النسخ: «تقديرا» . وتدبير الأمر فعله عن فكر وتأمّل ونظر إلى عاقبته . والمراد هنا ما يترتّب عليه من تعلّق العلم بصلاح آخره، كتعلّقه بصلاح أوّله من دون تردّد وتفكّر؛ يعني أتقن تدبير الأقوات بعد إيجاد الأشياء المحتاجة إليها على وفق حكمته، أو لعلمه بالحِكَم والمصالح .

وقيل : معنى تقدير الأقوات وإحكامه بعلمه وإتقانها أنّه تعالى جعل لكلّ نوع وصنف من أنواع المرزوقين وأصنافها رزقا معلوما على قدر معلوم لحكمة ومصلحة، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يمكن أن يُقال: لو كان الأمر على خلاف ذلك، كان أحسن .

وهذا معنى الإحكام والإتقان، وهما بمعنى واحد (2).

(إنّه خبيرا بصيرا) .

الخبير، بالضمّ: العليم . والخبير: العالم بدقائق [الاُمور ]وغوامضها، والمطّلع على حقيقتها وكُنهها .

وقيل : هو من خبرت الأرض: شققتها للزراعة (3).

والبصير: المبصر ، والمراد هنا العالم بالخفيّات، أو العالم بالمبصرات بنفس الذات .

ص: 528


1- أفاده العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 46
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 195
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 195

وقيل: في ذكر البصير بعد الخبير _ الذي هو العالم المطلق _ ردّ على من زعم أنّه ليس عالما بالجزئيّات؛ لأنّ المبصرات كلّها جزئيّات (1).

(هو الدائم بلا فناء) .

في تقييد الدوام بعدم الفناء إشارة إلى دفع توهّم حمل دوامه تعالى على المعنى المتعارف، وهو الزمان الطويل مطلقا .

(والباقي إلى غير منتهى) .

الظاهر أنّ المراد نفي الانتهاء عن استمرار وجوده؛ لكونه واجب الوجود، فيستحيل عليه العدم مطلقا .

وقيل : أي من غير انتهاء لذاته، فلا يتّصف بحدّ ونهاية؛ لأنّهما من لوازم المقدار، وهو منزّه عنه(2) .

2 قوله : (أحمده بخالص حمده) أي بحمده الخالص عن الشوب والنقص .

(المخزون) أي المكتوم والمستور عن غير أهله، لا يطّلع عليه ولا يأتي بحقّه إلّا المقرّبون .

أو المذخور لأهله ليوم فاقتهم . يُقال : خزنت الشيء أخْزنته _ بالضمّ _ إذا كتمته، وحفظته .

وقوله : (بما حمده ...) بيان لسابقه .

وقوله : (لا يُحصى) على البناء للمفعول . يُقال : أحصيت الشيء؛ أي عَدَّدْتُهُ .

وقوله : (ولا يتقدّمه أمد) .

الأمد، بالتحريك: الغاية ؛ أي لا يكون مسبوقا بغاية ونهاية من جانب الأزل، أو من جانب الأبد أيضا . فتدبّر .

وفي بعض النسخ: «ولا يتقدّمه أحد» ، والأوّل أظهر وأنسب .

وقيل : معناه حينئذٍ أنّه لا يتقدّمه أحد بالتقدّم المعنوي بأن يحمد أفضل منه .

أو بالتقدّم

ص: 529


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 196
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 196

الزماني بأن يكون «حمده أحد» قبل ذلك (1)

(ولا يأتي بمثله) كمّا ولا كيفا .

(أحد) .

قيل في شرح هذا الكلام :

إنّه عليه السلام طلب لكونه كاملاً أن يكون حمده كاملاً من وجوه : الأوّل ، وهو الأصل في جميع العبادات : أن يكون خالصا من النقص والسمعة والرِّياء .

الثاني : أن يكون مخزونا لا يعلم قدره ولا وصفه ولا كماله إلّا اللّه .

الثالث : أن يكون كاملاً بكمال المحمود به وتعدّده، وهو ما حمد به الملائكة والنبيّون .

الرابع : أن يكون متكثّرا غير محصور ولا معدود، ولا يبلغه الأوهام .

الخامس : أن يكون في كمال ذاته وخصوص صفاته بحيث لا يتقدّمه أحد، ولا يأتي بمثله أحد .

واختلفوا في أنّ الحامد بالحمد الإجمالي على هذا الوجه هل يثاب بثواب ما تمنّاه، أو بثواب ما فوق الواحد، أو بثواب حمد واحد؟

فذهب إلى كلٍّ فريقٍ ، والأخير بعيد؛ لظهور الفرق بينه وبين الواحد ، والثاني قويّ؛ للفرق بين الإجمال والتفصيل . والأوّل أقوى؛ إذ لا نقص في كرمه تعالى .(2).

وقوله : (وأستقضيه بخير) .

استقضى فلان، أي صيّر قاضيا. واستقضى فلانا دَينه: طلب إليه أن يقضيه .

وقيل : استقضيته حقّي، أي أخذته ؛ يعني أطلب أن يكون قاضيا حاكما لي بخير، أو أطلب أخذ الخير منه(3).

في بعض النسخ: «استقصيه» بالصاد المهملة . يُقال : استقصى فلان في المسألة، إذا بلغ الغاية .

ص: 530


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 46
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 196
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 196

والباء في «بخير» إمّا زائدة، أو بمعنى «في»، أو للسببيّة . والتنوين للتعظيم، أو للتكثير .

وقوله : (أرسله بالهدى) .

قال البيضاوي : أي ملتبسا به، أو بسببه، أو لأجله .

«وَدِينِ الْحَقِّ » : دين الإسلام .

«لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّيْنِ كُلِّه» (1) ؛ ليغلبه على جنس الدِّين كلّه، بنسخ ما كان حقّا، وإظهار فساد ما كان باطلاً، أو بتسليط المؤمنين (2). على أهله؛ إذ ما من أهل دين إلّا وقد قهرهم المسلمون . وفيه تأكيد لما وعده من الفتح (3).

انتهى كلامه في سورة الفتح . وقال في سورة التوبة : «الضمير في «ليظهره» للدين الحقّ، أو للرسول . واللّام في الدِّين للجنس ؛ أي على سائر الأديان، فينسخها . أو على أهلها، فيخذلهم» (4). انتهى .

ويظهر من أخبار الأئمّة الأطهار عليهم السلام أنّ الإظهار على الأديان كلّها إنّما يكون في زمن القائم عليه السلام كما قال تعالى : «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّهِِ» (5) .

والهدى، بالضمّ: الرشاد، والدلالة، ويُطلق على القرآن والإيمان .

وقوله : (إنّ الدُّنيا ليست لكم بدار ولا قرار) ؛ تنفير عن الركون إليها، وتنبيه على سرعة زوالها ولزوم فراقها .

قال الجوهري : «القرار: المستقرّ من الأرض» (6).

وفي القاموس : «القرار والقرارة: ما قرّ فيه، والمطمئنّ من الأرض . وقرّ بالمكان يَقرّ _ بالفتح والكسر _ قرارا: ثبت، وسكن» (7) .

(إنّما أنتم فيها كركب) إلى قوله : (راحوا) .

الرَّكْب: اسم جمع لرُكبان الإبل. والتعريس: نزول المسافر في آخر الليل للاستراحة .

ص: 531


1- التوبة (9) : 33 ؛ الصفّ (61) : 9
2- في المصدر : «المسلمين»
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 208
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 142
5- الأنفال (8) : 39
6- الصحاح، ج 2 ، ص 788 (قرر)
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 115 (قرر) مع التلخيص

وأنخت البعير فاستناخ؛ أي أبركته، فبرك. واستقلّ القوم: مضوا، وارتحلوا. واستقلّوا: حملوا، ورفعوا .

والغُدوّ: الدخول في الغداة، وهي ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والذهاب فيها.

والرواح: الدخول في الرَّواح، وهو من زوال الشمس إلى الليل، والمسير فيه .

قيل : ثمّ كثر استعمالهما في الذهاب والمسير؛ أي وقت كان من ليل أو نهار (1).

وقال بعض الشارحين :

إنّه عليه السلام شبّههم بجماعة الفرسان المسافرين، وأشار إلى وجه الشّبه بقوله : «عرسوا ...» ، وهو متحقّق في المشبّه به حسّا، وفي المشبّه عقلاً، أو شبّههم بالذين ماتوا على أن يكون المراد بالركب الجماعة الماضين بقرينة ما بعده . والوجه وهو ما ذكر متحقّق في الطرفين عقلاً .

توضيح ذلك: أنّ الإنسان _ وهو النفس حقيقة _ بعد نزوله في هذا المنزل وهو الدنيا في مدّة قليلة سائر إلى دار الآخرة سريعا، ومركبه البدن والقوى النفسانيّة، وطريق مسيره العالم المحسوس والمعقول، وسيره هو تصرّفه في العالمين لتحصيل السعادة أو الشقاوة في الآخرة.

وفيه ترغيب في الأوّل، وتحذير عن الثاني (2).

(دخلوا خفافا، وراحوا خفافا) .

الخفاف، بالكسر: جمع الخفيف، وهو ضدّ الثقيل . وضمير الجمع للركب؛ أي دخلوا في الدنيا عند ولادتهم خفافا من أمتعتها، بلا زاد ولا مال، وراحوا، وخرجوا منها عند الموت إلى الآخرة خفافا منه .

ويحتمل كون الخفاف دخولاً وخروجا كناية عن الإسراع.

وفيه على الأوّل تنفير عن الدُّنيا ومتاعها، وعلى الثاني عن الركون إليها بأنّ مدّة إقامتهم فيها ليس لها قدر محسوس .

(لم يجدوا عن مُضيّ نُزوعا) .

الظرف متعلّق بالنزوع؛ أي لم يقدروا على الإباء والامتناع عن المضيّ والذهاب .

ص: 532


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 197
2- شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 197

قال الجوهري : «نزع عن الاُمور نزوعا: انتهى عنها» (1)

وفي القاموس : «نزع الشيء نزوعا: كفّ، وأقلع عنه» (2).

(ولا إلى ما تركوا رجوعا) أي لم يجدوا سبيلاً للرجوع إلى ما تركوا من المساكن والأموال والأهل والأولاد .

أو المراد أنّ رحيلهم من الدُّنيا إلى الآخرة، وقطع عقبات الموت وما بعده أمرٌ اضطراري، وليس لهم قدرة على الرجوع إلى الدُّنيا بعد الخروج منها، وتدارك ما فات منهم من الأعمال الصالحة .

(جُدّ بهم فجدّوا) .

الباء للتعدية. والفعل الأوّل على بناء المفعول، والثاني على بناء الفاعل .

قال الجوهري : «الجدّ: نقيض الهزل. تقول منه: جَدّ في الأمر يجدّ _ بالكسر _ جدّا. والجِدّ : الاجتهاد في الاُمور. تقول منه: جدّ في الأمر يَجِدّ جدّا» (3). انتهى.

أي حُثّ بهم، ودعوا على المضيّ والإسراع في السير، فاجتهدوا فيهما اضطرارا .

قال بعض الفضلاء : فيه استعارة تمثيليّة، شبّه سرعة زوال القوى وتسبّب أسباب الموت وكثرة ورود ما يوجب الزوال من الأسباب الخارجة والداخلة برجال يحثّون المراكب، والأجساد بتلك المراكب، والعمر بالمسافة التي يقطعها المسافر، والأجل بالمنزل يحلّ فيه (4).

وقيل : قوله عليه السلام : «أنتم فيها كركب» إلى قوله : «وركنوا إلى الدُّنيا» شبّههم أوّلاً في نفسه بمن مضى من أمثالهم، ثمّ شبّه من مضى من أمثالهم بالركب الذين وصفهم بما وصفهم، إلى قوله : «فجدوا».

ثمّ انتقل من وصف الركب إلى وصف من مضى؛ أعني من وصف المشبّه به إلى وصف المشبّه ، فقال : (وركنوا إلى الدُّنيا) ؛ تنبيها على التشبيه الأوّل الذي كان في نفسه . انتهى (5).

ص: 533


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1289 (نزع) مع اختلاف يسير في اللفظ
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 88 (نزع)
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 454 (جدد)
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 48
5- حكاه العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 48

وقال الجوهري : ركن إليه يركُن بالضمّ .

وحكى أبو زيد: رَكَنَ إليه _ بالكسر _ يَركن ركونا فيهما؛ أي مالَ إليه، وسكن . وأمّا ما حكى أبو عمرو: ركن يركن _ بالفتح فيهما _ فإنّما هو على الجمع بين اللغتين (1).

(فما استعدّوا) أي لتهيئة أسباب الآخرة .

وقوله : (أُخِذَ بكظمهم) ؛ كناية عن موتهم .

في القاموس : «الكظم، محرّكة: الحلق، أو الفم، أو مخرج النفس» (2)

وقال في النهاية : «جمعه: كِظام» (3).

(وخلصوا) أي وصلوا .

(إلى دار قوم جفّت أقلامهم) .

هذا الكلام كاد أن يجري مجرى الأمثال في إتمام الأمر وانقضائه، والأمر الماضي المحتوم الذي لا يغيّر ولا يبدّل .

وقيل : هو كناية عن امتناع التلاقي .

وقيل : «جفّت أقلامهم» أي سكنت قواهم عن الحركات، كالكتابة حين جفّت أقلامهم التي كانوا يكتبون بها، أو جفّت أقلام الناس من كتابة آثارهم؛ لبُعد عهدهم ومحو ذكرهم . أو جفّت أقلام أهل السماوات من تقدير اُمورهم المتعلّقة بحياتهم (4).

وقيل : المراد بالأقلام أقلام كرام الكاتبين، والإضافة لأدنى ملابسة . وجفافها كناية عن انقطاع عملهم .

قال : ويحتمل أن يكون كناية عن جريان ما كتب في اللوح المحفوظ من مقادير أحوالهم، تمثيلاً لفراغ الكاتب من كتابته، ويُبس قلمه (5).

(لم يبق من أكثرهم خبر ولا أثر) .

الخبر، محرّكة: البناء . والأثر، محرّكة أيضا: بقيّة الشيء، والخَبَر .

ص: 534


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 48
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 2126 (ركن) مع التلخيص
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 9 (كظم)
4- النهاية ، ج 4 ، ص 178 (كظم)
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 198

وقد يفرّق بينهما بأنّ المراد بالأوّل خبر أسمائهم وصفاتهم وأفعالهم ، وبالثاني أثر مساكنهم وأموالهم وقبورهم .

ولعلّ المراد بالأكثر الجميع، كما هو الشائع .

وقيل : التقييد بالأكثر؛ لبقاء خبر بعضهم وأثره بعدُ في الجملة (1).

وقوله : (بعثهم) أي إرسالهم وانتقالهم إلى الآخرة بسبب الموت .

(فأصبحتم حلولاً في ديارهم، ظاعنين على آثارهم) .

أصبح الرجل؛ أي دخل في الصباح. وأصبح فلان عالما؛ أي صار .

والحلول _ بالضمّ _ جمع الحالّ، كشهود وشاهد .

والدِّيار جمع الدار . والمراد هنا ما يعمّ مساكنهم ومقابرهم .

والظعن، بالسكون والتحريك: السير، وفعله كمنع .

وقيل: في جعل «ظاعنين» حالاً من «أصبحتم» دلالة على اتّحاد زمان الحلول والارتحال مبالغة، وفيه تحريك للنفوس العاقلة إلى الاستعداد للارتحال، وتجهيز سفر الآخرة . انتهى (2).

أقول : بناء هذا التوجيه على أنّ المراد بالظعن الارتحال من الدُّنيا إلى الآخرة، وبالأثر العقب، وهو خلاف الظاهر ، بل الظاهر المتبادر سائرين في مساكنهم ومواضع آثارهم .

(والمَطايا بكم تسير سيرا) .

قال الجوهري : «سارت الدابّة، وسارها صاحبها، يتعدّى ولا يتعدّى» (3).

والظرف متعلّق بالسير . والباء للتعدية، أو للتقوية .

والمطايا: جمع المطيّة، وهي دابّة تمطو وتجدّ في سيرها . ولعلّ المراد بها الليل والنهار، بقرينة ما سيأتي من قوله : (نهاركم بأنفسكم دؤوب) إلى آخره .

أو الأعمار على سبيل الاستعارة. وتأكيد الفعل بالمصدر؛ للدلالة على سرعته وشدّته ، كما أشار إليه بقوله : (ما فيه أين، ولا تفتير) .

كلمة «ما» نافية .

ص: 535


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 198
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 198 و 199
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 691 (سير)

قال الجوهري : «الأين: الإعياء . قال أبو زيد : لا يُبنى منه فعل» (1).

وفي القاموس : «فَتَر يَفترُ فُتُورا وفَتارا: سكن بعد حدّةٍ، ولانَ بعد شدّةٍ. وفتره تفتيرا» انتهى (2).

والظاهر أنّ الضمير المجرور راجع إلى السير . والمعنى: ليس في ذلك السير إعياء ولا تفتير لتلك المطايا، فتسكن عن السير، وتضعف زمانا. أو تقول: إرجاع الضمير إلى السير مجاز عن المطايا، والمراد: ليس في تلك المطايا إعياء ولا تفتير .

قال بعض الشارحين :

فيه تنبيه للغافلين النازلين في الدُّنيا على لزوم خروجهم منها سريعا ؛ لأنّ قلّة المسافة وسرعة المركوب في السير، مع انتفاء الإعياء والتفتير، يستلزم قطع تلك المسافة في أقرب أوقات الإمكان، ولا تظنّ أيّها الغافل أنّك مقيمٌ ؛ فإنّ من كانت مطيّته الليل والنهار، فهو سائر وإن كان واقفا، وقاطع للمسافة وإن كان مقيما، كما يجد ذلك راكب السفينة .

وقد أشار عليه السلام إلى توضيح ذلك بقوله : (نهاركم بأنفسكم دؤوب، وليلكم بأرواحكم ذَهوب) (3).

في القاموس : «دأب في علمه _ كمنع _ دَأبا _ ويحرّك _ ودؤوبا، بالضمّ: جدّ، وتعب.

وأدأبَهُ. والدَّأبُ أيضا، ويحرّك: السوق الشديد، والطَّرْد» انتهى (4).

والظرف في الموضعين متعلّق بما بعده، والتقديم لرعاية السجع ، والباء فيهما للتعدية ؛ أي نهاركم يتعبكم، ويجدّ بكم في حركاتكم وأفعالكم، وليلكم يُذهب أرواحكم بسبب النوم، وذلك كلّه لفناء أجسادكم .

ويحتمل كونها للسببيّة؛ أي نهاركم يجدّ ويسرع ويتعب بسبب أنفسكم، ولأجل إذهابها وإفنائها، ويسعى ليلكم في إذهاب أرواحكم .

وفي الجمع بين النهار ودؤوب الأنفس، وبين الليل وإذهاب الأرواح من اللطف ما لا يخفى .

ص: 536


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2076 (أين)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 107 (فتر)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 199
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 64 (دأب) مع تلخيص

(فأصبحتم تَحكون من حالهم حالاً) أي صرتم بحيث تماثل حالكم وصفاتكم حالَهم وصفاتِهم، وتُخبر أوضاعكم وأطواركم عن أوضاعهم وأطوارهم؛ لموافقتها لها.

وضمير «حالهم» راجع إلى قوم جفّت أقلامهم .

قال الفيروزآبادي : «الحال : كنية الإنسان، وما هو عليه _ كالحالة _ والوقت الذي أنت فيه، ويُذكّر . وحالات الدهر وأحواله: صُروفه» (1).

وقال : «حكوت الحديث أحكوه _ كحكيته _ أحكيه. وحكيت فلانا وحاكيته: شابهته، وفعلت مثل فعله أو قوله سواء. وعنه الكلام حكايةً: نقلته» (2).

(وتحتذون من مسلكهم مثالاً) .

في القاموس : «المِثال: المقدار، والصفة»(3).

ونصبه على المفعوليّة؛ أي تقتدون بهم في سلوكهم .

في القاموس : «احتذي مثاله؛ أي اقتدي به» (4).

في بعض النسخ : «تحتدون» بالدال المهملة، والمآل واحد . قال في القاموس : «حَدَى الليلُ النهارَ: تبعه، كاحتداه» (5).

والسلك _ بالفتح _ مصدر بمعنى الذهاب، والسير، كالسلوك، وفعله كنصر . ويحتمل أن يقرأ: «السِّلك» بالكسر، أو كعنب .

في الصحاح : «السِّلكُ: الخيط» (6).

وفي القاموس : «السِّلْكة، بالكسر: الخيط يُخاط بها. الجمع: سِلَك» (7).

ويحتمل أيضا كون السَّلك _ بالفتح _ بمعنى إدخال الشيء في الشيء .

وفي بعض النسخ: «من مسلكهم» أي طريقهم .

وقوله : (سَفْر حلول) أي مسافرون، سافرتم من منازل عالم الأرواح، وحللتم فيها .

(الموت بكم نزول) بفتح النون؛ أي نازل، أو بضمّها .

ص: 537


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 364 (حول)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 319 (حكي)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 49 (مثل)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 316 (حذو)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 315 (حدو)
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1591 (سلك)
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 307 (سلك)

والحمل على المبالغة .

(تنتضل فيكم مناياه) .

يُقال : انتضل القوم، وتناضلوا؛ أي راموا للسبق .

والمنايا: جمع المنيّة، وهي الموت . والظاهر أنّ ضمير «مناياه» راجع إلى الموت، بأن يُراد بالمنايا أسبابه من الأمراض والبلايا، اُطلق عليها مجازا تسميةً للسبب باسم المسبّب .

وقيل : لعلّ الضمير راجع إلى الدُّنيا، بتأويل الدهر، أو لتشبيهها بالرجل الرامي؛ أي ترمى إليكم المنايا في الدّنيا سهامها فتهلككم ، وسهامها هي الأمراض والبلايا الموجبة للموت .

قال : ويحتمل أن يكون فاعل «تنتضل» الضمير الراجع إلى الدُّنيا، ويكون المرمي المنايا (1).

وفي بعض النسخ: «تنتصل» بالصاد المهملة .

في القاموس : «نصل فيه السهم: ثبت. ونَصَلته أنا، وانتصل: خرج نصلُه» (2)

وفي نهج البلاغة في كلام له عليه السلام : «إنّما أنتم في هذه الدُّنيا غرض تنتضل فيه المنايا» (3).

وعلى أيّ تقدير في المنيّة تشبيه بالرامي مكنيّة، وإثبات الانتضال تخييليّة، وجعل الإنسان غرضا مكنيّة اُخرى، وإثبات الانتضال والمنتضل له ترشيح .

(وتَمضي بأخباركم) إلى قوله : (والحساب) .

قيل : الأخبار: الأعمال . ويمكن توجيهه بوجوه :

الأوّل : أن يكون المراد بالمطايا الأشخاص التي ماتوا قبلهم ومضيّهم بأخبار هؤلاء؛ لأنّهم إن أحسنوا إليهم أو أساؤوا، يذكرون عند محاسبة هؤلاء الموتى ومجازاتهم إمّا بالخير أو بالشرّ .

والثاني : أن يكون المراد بالمطايا عين تلك الأشخاص المخاطبين ومن بحكمهم؛ أي أنتم مطايا الدُّنيا، قد حملت عليكم أعمالكم، وتسيّركم إلى دار الثواب والعقاب .

والثالث : أن يكون المراد بالمطايا حفظة الأعمال، ونسبتهم إلى الدنيا لكون أعمالهم

ص: 538


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 49 و 50
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 57 (نصل) مع اختلاف يسير في الألفاظ
3- نهج البلاغة ، ص 202 ، الكلام 145

فيها، وحفظهم لأعمال أهلها.

والرابع: أن يكون المراد بالمطايا الأعمار ؛ أي تمضي بكم مطاياه مع أعمالكم (1).

ولا يخفى بُعد تلك التوجيهات وضعفها . والأظهر ما [قيل] من أنّ إضافة مطايا إلى ضمير الموت من قبيل «لجين الماء»، أو فيه مكنيّة وتخييليّة بتشبيه الموت بالرسول الذي يبلغ خبر الغائب ، وإثبات المطايا له، وإمضاء الإخبار ترشيح، وإسناده إلى المطايا مجاز من باب إسناد فعل الحال إلى المحلّ، كأنّ الموت يخبر أهل الثواب وأهل العقاب بخبره ووصوله .

والمراد بدار الثواب ودار العقاب إمّا القيامة الكبرى، أو الصغرى، وهي البرزخ؛ فإنّ كلّ من كان فيه يعلم بعد موته أنّه من أهل الثواب، أو من أهل العقاب (2).

وقوله : (راقب ربّه) .

قال الجوهري : «الرقيب: الحافظ . والرقيب: المنتظر. وراقب اللّه في أمره؛ أي خافه» انتهى (3)

وقيل : مراقبته تعالى بأن يخلّي الظاهر والباطن عن الرذائل، ويحلّيهما بالفضائل، وينظر إلى جميع حركاته وسكناته ولحظاته، فإن كانت إلهيّة بادر إليها، وإن كانت شيطانيّة تعجّل إلى دفعها ، وسبب تلك المراقبة هو العلم بأنّه تعالى مطّلع على السرائر والضمائر (4).

(وتنكّب ذنبه) .

في الصحاح : «تنكّبه؛ أي تجنّبه» (5).

(وكابر هواه) أي قاتلها، وعاندها، وخالفها .

وفي بعض النسخ: «كابد هواه». المكابدة: الممارسة، والمقاساة . والمراد هنا تحمّل المشاقّ على ترك الهوى .

(وكذّب مناه) ؛ بفتح الميم، وهو القدر، والقصد؛ أي يكذّب ما يقدّره في نفسه، أو يقصده من الأباطيل.

ص: 539


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 50
2- القائل هو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 200
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 137 (رقب) مع تلخيص
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 200
5- الصحاح ، ج 1 ، ص 228 (نكب)

أو بضمّها، وهو جمع مُنية _ بالضمّ والكسر _ بمعنى المراد، والمتمنّى، وشاع استعمالها في الأماني الكاذبة؛ أي قابل بالتكذيب والإنكار والدفع، وما يلقى إليه النفس والشيطان من الغرور وطول الأمل وتحصيل الاُمور الدنيويّة الباطلة ومنافعها الزائلة .

(امرأ) .

النصب على أنّه بدل من قوله : «امرأ» أوّلاً .

وفي بعض النسخ: «امرءٌ» بالرفع، على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي الإمرء المذكور سابقا .

(أزمّ (1) نفسه من التقوى بزمام) .

في بعض النسخ: «زمّ» بدون الهمزة، وهو أظهر .

قال الجوهري : «زممت البعير: خَطَمته»(2) وقال: «الخطام: الزمام»(3) وقال : «الزِّمام: الخيط الذي يشدّ في البرّة، ثمّ يشدّ في طرفه المِقوَد، وقد يسمّى المقود زماما» (4).

وقوله : (بلجام) .

اللجام _ بالكسر _ معرّب «لِگام» .

وقوله : (فقادها) إلى قوله : (أوان حَتفه) .

القود: نقيض السوق، فهو من أمام، وذاك من خلف .

ويُقال : قدعت دابّتي _ بالقاف _ كمنعت، قدعا، إذا جذبتها إليك باللجام لتقف . والقَدَعْ أيضا: الكفّ .

وفي بعض النسخ: «قرعها» بالقاف والراء، من القرع كالمنع، وهو القهر، والدقّ، والضرب .

وقد شبّه عليه السلام النفس بالدابّة الحَرون، والتقوى بالزمام، والخشية باللجام، ثمّ فرّع على كلٍّ ما يناسبه .

والطَّرف: العين. وطرف بصره، كضرب: أطبق أحد جفنيه على الآخر . والمراد هنا النظر القلبي، وتوجّهه إلى الآخرة والأسباب المؤدّية إلى النجاة فيها .

ص: 540


1- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «زمّ» بدون الهمزة
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1944 (زمم)
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1915 (خطم)
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1944 (زمم)

والحتف: الموت. وكونه متوقّعا له أنّه لمّا علم وروده جزما، ولم يعلم زمان وقوعه، انتظر كونه وحصوله في كلّ آنٍ، ويلزم منه عدم ركونه إلى الدُّنيا وزخارفها، والسعي في تحصيل أسباب السعادة الاُخرويّة ونعيمها .

(دائم الفكر) ؛ فيما يتعلّق بأحوال المبدأ والمعاد .

والفكر، بالكسر، ويفتح: إعمال النظر في الشيء. وكعنب: جمع الفِكرة، بمعنى الفكر .

(طويل السهر) ؛ كناية عن القيام بوظائف الطاعات في الليل.

والسهر _ بالتحريك _ مصدر قولك: سهر فلان _ كفرح _ إذا لم ينم ليلاً .

(عَزوفا عن الدُّنيا) بفتح العين (سَأما كدوحا لآخرته) .

قال الجوهري : «عَزفت نفسي عن الشيء تَعزُف وتَعزِف عُزُوفا ؛ أي زهدت فيه، وانصرفت عنه» (1).

وقال : «سئمتُ من الشيء أسأمُ سَأما وسَأمَةً، إذا مللته . ورجلٌ سَؤومٌ» (2).

وقال : «الكَدْح: العمل، والسعي، والكسب . يُقال : هو يكدح في كذا، أي يكدّ» (3).

(متحافظا) أي متحرّزا عن المحارم، ذابّا نفسه عنها، غير غافل عن مخاطرات النفس ووساوس الشيطان .

وأصل الحفظ : الحراسة، وقلّة الغفلة .

(امرء اجعل الصبر مَطيّة نجاته) ؛ استعار المطيّة للصبر؛ لكونه سببا للنجاة مثلها .

والمراد بالصبر حمل النفس على الطاعة، وترك المعصية، وعدم الجزع عند المصيبة .

وقوله : (عُدّة وفاته) .

قال الجوهري : «العدّة، بالضمّ: الاستعداد . والعُدّة أيضا: ما أعددته لحوادث الدهر من المال والسِّلاح» (4) .

وقال : «الوفاة: الموت» (5).

ص: 541


1- الصحاح : ج 4 ، ص 1403 (عزف)
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1947 (سأم)
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 398 (كدح)
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 506 (عدد)
5- الصحاح ، ج 6 ، ص 2526 (وفي)

(ودواء أجوائه) .

في القاموس : «الدواء، مثلّثة: ما داويت به، وبالقصر: المرض» (1) وفيه: «الجوى: الحُزن، والحُرقة، وشدّة الوَجْد، وتطاول المرض، وداء في الصدر» انتهى (2).

والظاهر أنّ المراد بالدواء هنا المعنى الأوّل، وكونه بالنصب عطفا على العدّة، واحتمالُ إرادة المعنى الثاني منه، وجعل الإضافة بيانيّة، وعطفه على الوفاة بعيد .

وظاهر أنّ التقوى دواء الأمراض القلبيّة والبدنيّة، وميلهما عن طريق الرشاد والسداد .

(فاعتبر) ؛ عطف على قوله : (جعل) ؛ يعني تدبّر، وتفكّر في كيفيّة أحوال السابقين، وأنّهم كيف انتقلوا سريعا من هذه الدار، وارتحلوا عن المال والعيال، ونزلوا قبورهم، ولم يبق معهم سوى الأعمال . (وقاس) أحواله بأحوالهم، وقدّر نفسه على مثالهم، حتّى كأنّه كأحدهم .

(وترك الدُّنيا والناس) .

المراد بالناس أهل الدُّنيا الراغبين إليها، المائلين بزخارفها .

الواو للعطف؛ أي ترك الدُّنيا بالزهد فيها، وترك الناس مع ما هم فيه، ولم يرغب بمثل أفعالهم، ولا بمعاشرتهم ومخالطتهم؛ لعلمه بأنّها مُفسِدةٌ لدينه ودنياه .

ويحتمل أن يكون الواو بمعنى «مع» .

(يتعلّم للتفقّه والسَّداد) .

قال الجوهري : «الفقه: الفهم . تقول منه: فقِه الرجل _ بالكسر _ ثمّ سمّي به علم الشريعة. وتفقّه: إذا تعاطى ذلك» (3) وقال : «السَّداد: الصواب، والقصد من القول والعمل» (4) انتهى .

يعني غرضه من التعلّم تحصيل الفقه والسّداد، لا الرّياء والسمعة، وصرف وجوه الناس إليه، وأمثالها ممّا ينافي الغرض المطلوب من التفقّه شرعا .

ص: 542


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دوي)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 314 (جوي) مع تلخيص
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2243 (فقه)
4- .الصحاح ، ج 2 ، ص 485 (سدد)

(وقد وقّر قلبه ذكرُ المعاد) .

يحتمل كون «وقر» على صيغة الماضي المجرّد، وفاعله ذكر المعاد ، و«قلبه» مفعوله، من الوقر _ بالفتح _ وهو تثقيل الاُذن، أو إذهاب السمع كلّه؛ أي ثقل اُذن قلبه ذكر المعاد عن سماع غيره، أو أذهب سمع قلبه عن سماع غير المعاد بالكلّيّة، بحيث لا يصغي إلى ذكر غيره .

في القاموس : «الوَقْر: ثقل في الاُذن، أو ذهاب السمع كلّه. وقد وقر _ كوعد ووجِل _ ومصدره : وقر، بالفتح، والقياس بالتحريك. ووُقِر _ كعُني _ ووقرها اللّه يقرها» انتهى (1).

وهذا صريح في أنّ الوَقْر يستعمل لازما ومتعدّيا، والمراد هنا الثاني، وإرادة الأوّل بناءً على الحذف والإيصال محتمل .

وما قيل من أنّه من الوِقر _ بالكسر _ وهو الحمل الثقيل، ففيه أنّ المناسب حينئذٍ: «أوقر» بالألف، ولا يستعمل منه الفعل إلّا من باب الإفعال، كما يفهم من كلام أهل اللغة .

وقرأ بعضهم: «وقّر» بتشديد القاف، وقال : التوقير هنا إمّا بمعنى التعظيم والتبجيل ، أو بمعنى الترزين والتسكين. و«قلبه» على الأوّل فاعل، وذكر المعاد مفعول . وعلى الثاني بالعكس .

قال :

والمراد بتعظيم ذكر المعاد هو التوجّه إلى الاستعداد له، وتحصيل ما ينفع فيه، وترك ما ينافيه من أغراض الدُّنيا، وبتسكين القلب وترزينه تسكينه عن الاضطراب من فوات الدُّنيا، وترزينه عن الميل إلى زهراتها (2).

وقال بعض الأفاضل : «معناه أنّه حمل على قلبه ذكر المعاد» . قال : «ويحتمل أن يكون ذكر المعاد فاعلاً للتوقير؛ أي جعل ذكر المعاد قلبه ذا وقار لا يتّبع الشهوات والأهواء» (3). انتهى . فليتأمّل .

(وطَوى مِهاده، وهجر وَساده) .

في القاموس : «المِهاد، ككتاب: الفِراش»(4).

ص: 543


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 155 (وقر)
2- قال المحقّق المازندراني رحمه الله فى شرحه ، ج 12 ، ص 202
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله فى مرآة العقول ، ج 26 ، ص 52
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 339 (مهد)

وفيه: «الوَساد: المتّكأ، والمخدّة، كالوسادة، ويثلّث» (1).

والظاهر طيّ المِهاد كناية عن ترك النوم والاستراحة في الأوقات التي يجب، أو يستحبّ فيها الاشتغال بالعبادة لا مطلقا، كما يفهم من الأخبار الكثيرة ، وكذا هجر الوساد .

(منتصب على أطرافه) أي على رجليه، أو بأعضائه كلّها، بأن يستعمل كلّاً منها فيما هو مطلوب منه .

في القاموس : «الطَّرَف، محرّكة: الناحية، والطائفة من الشيء . والأطراف الجمع . ومن البدن: اليدان والرجلان والرأس» (2).

(داخل في أعطافه) ؛ كأنّه جمع عِطاف، وهو الرداء ؛ يعني مرتديا .

وقيل : كأنّه جمع عطف الشيء _ بالكسر _ وهو جانبه، ويكون إشارة إلى أنّ غلبة النوم المحرّك له إلى جانبه لا تمنعه من القيام بوظائف الطاعات (3).

في القاموس : «عطف يعطف: مال . والوسادة: ثناها. وككتاب وكمنبر: الرداء. وعِطفا كلّ شيء _ بالكسر _ جانباه. وهو ينظر من عطفيه؛ أي مُعجب. وجاء ثاني عِطفه؛ أي لاويا عنقه» (4)

وفي النهاية: «عِطفا الرجل: ناحيتا عنقه» (5).

(يُراوح بين الوجه والكفّين) .

المراوحة بين العملين : أن يعمل هذا مرّة وهذا مرّة. وبين الرجلين : أن يقوم على كلّ مرّة. وبين جنبيه : أن ينقلب من جانب إلى جانب .

ولعلّ المراد بمراوحة الوجه والكفّين أن يعمل بالتناوب ما يتعلّق بكلّ منهما من العبادات، بحيث يريح إحداهما الاُخرى، بأن يضع جبهته وخدّه تارةً على التراب للسجود، ويرفع كفّيه تارة إلى السماء للدعاء والقنوت، أو يرفع تارة وجهه إلى السماء، واُخرى كفّيه إليها، ونحو ذلك ممّا يناسب كلّاً منها .

(خَشوع) بالفتح .

ص: 544


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 345 (وسد)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 168 (طرف)
3- قاله المحقّق المازندرانى رحمه الله فى شرحه ، ج 12 ، ص 202
4- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 176 (عطف) مع التلخيص
5- النهاية ، ج 3 ، ص 257 (عطف)

(في السرّ لربّه) .

السرّ، بالكسر: ما يكتم . وجوف كلّ شيء : ربّه . والمراد به هنا خلاف العلانية، أو القلب، وخشوعه: اطمئنانهُ بذكر اللّه ، وفراغه عمّا سواه .

(لدمعه صَبيب) .

صبّ _ كعزّ _ صبيبا، إذا سكب، وهوى قليلاً قليلاً . الصبيب هنا صفة مشبّهة، ومعناه أنّ ذلك المرء صابّ كثير الصبّ لدمعه .

وأقول : كونه مصدرا أنسب بالفقرات الآتية .

(ولقلبه وَجيب) .

وجب القلب، إذا اضطرب .

(شديدة أسباله) .

أسبل المطر والدمع إسبالاً، أي تتابعا وهطلا . والاسم: السَّبَل، محرّكة، ويجمع على أسبال، كبطل وأبطال .

والظاهر هنا فتح الهمزة؛ ليناسب تأنيث المسند .

وقوله : (ترتعد) من الارتعاد، وهو الاضطراب .

وقوله : (أوصاله) .

في القاموس : «المَوصِل: معقد الحَبل في الحَبْل. والأوصال: المفاصل، أو مجتمع العظام. وجمع وصلٍ _ بالكسر والضمّ _ كلّ عظم لا يكسر ولا يخلط بغيره» (1).

(قد عظمت فيما عند اللّه ) من الكرامة والنعيم .

(رغبته) أي أراد به وسيلة، وعلامة تلك الرغبة الاشتغال بأسباب الوصول إلى ما عند اللّه .

(واشتدّت منه) أي من عقوبة اللّه .

(رهبته) أي خوفه.

وعلامة تلك الرهبة التحرّز عمّا يؤدّي إليها .

(راضيا بالكفاف من أمره) أي أمر معاشه، أو مطلقا .

ص: 545


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 64 (وصل)

والكفاف، بالفتح: ما كفّ عن الناس وأغنى، رزقا كان أو غيره .

(يُظهر دون ما يكتم) .

الكتمان والكتم: إخفاء السرّ، وفعله كنصر .

ولعلّ المراد أنّه يظهر قليلاً من علمه، فيكون مفاده مفاد الفقرة الآتية .

وقيل : أي يظهر للناس من كمالاته وعباداته ونيّاته أقلّ ممّا يكتم .

قال : ويحتمل أن يكون المراد ما يطّلع عليه من عيوب الناس (1).

وقيل : أي يظهر ما ينبغي إظهاره ممّا فيه صلاحه وصلاح الخلق، دون ما ينبغي كتمانه من كمالاته وعباداته وأسراره، وغيرها ممّا في إظهاره فساده، أو فساد غيره .

وفيه ترغيب في الاقتصار على الإظهار قبل البلوغ إلى [حدّ] ما يكتم (2).

(ويكتفي بأقلّ ممّا يعلم) .

قيل : أي يكتفي من إظهار أعماله وأحواله بأقلّ ممّا يعلم، أو يكتفي في التنبيه باُمور المبدأ والمعاد، وما يحثّه على العمل بأقلّ ممّا يعلم منها .

والغرض أنّه يتّعظ بكلّ واعظ، وينزجر بكلّ زاجر، أو يكتفي من اُمور الدُّنيا بأقلّ شيء؛ لما يعلم من مفاسدها، وفوت بغية الآخرة بها (3) وقيل : أي يكتفي في إفاداته بأقلّ معلوماته اكتفاءً بقدر الحاجة، وحذرا من الفخر والعجب من إظهار الحال على وجه الكمال (4).

(اُولئك ودائع اللّه في بلاده) أي أودعهم اللّه أهل بلاده من خلقه؛ ليحفظوهم، ولا يضيّعوهم، كما يجب حفظ الوديعة .

أو يُراد بالودائع العهود والمواثيق، كأنّه تعالى أخذ على أهل البلاد عهدا بإكرامهم وحفظهم، وهم أخذوا على اللّه تعالى عهدا بأن يدفع البلاء والعقوبة عنهم ما أقاموا على الوفاء بعهدهم .

ص: 546


1- القائل هو العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 53
2- قاله المحقّق المازندرانى رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 202 و 203
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 53
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 203

قال الفيروزآبادي : «الوديعة: واحدة الودائع. والوديع: العهد، الجمع: ودائع» (1).

وقال الجزري : «توادع الفريقان، إذا أعطى كلّ واحد منهما الآخر عهدا، واسم ذلك العهد: الوديع . يُقال : أعطيته وديعا؛ أي عهدا» انتهى (2).

وهذا المعنى الأخير أنسب بقوله : (المدفوع بهم عن عباده) .

روى المصنّف رحمه الله بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : «لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين» (3).

وعنه عليه السلام ، قال : «إنّ اللّه ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء» (4).

(لو أقسم أحدهم على اللّه ) .

قال الجوهري : «أقسمتُ ؛ أي حلفتُ» (5).

وأقول : الإقسام لازم، وتعديته بالباء . يُقال : أقسمت باللّه ، وإذا اُريد إقسام الغير عُدِّي ب «على»، فيُقال : أقسمت عليك؛ أي قلت لك: واللّه لتفعلنّ كذا، أو أحلفتك باللّه لتفعلنّه .

وقيل : تعديته ب «على»؛ لتضمين معنى الإيجاب، ومعناه كما صرّح في الفائق: «لحقّك ياربّ أفعل كذا» (6) (7).

وقوله : (لأبرّه) جواب «لو» .

في القاموس : «البرّ، بالفتح: الصدق في اليمين. وأبرَّها: أمضاها على الصدق» (8).

(أو دعا على أحد نصره اللّه ) بالإجابة .

(جعل اللّه العاقبة للتقوى) .

في الصحاح : «عاقبة كلّ شيء: آخره» (9) ؛ أي جعل العاقبة المحمودة لذوي التقوى، كما قال عزّ وجلّ : «وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوى» (10). ، وقال : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (11). ، والجنّة عطف على

ص: 547


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 203
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 92 (ودع)
3- النهاية ، ج 5 ، ص 167 (ودع)
4- الكافي ، ج 2 ، ص 247 ، ح 2 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 64 ، ص 143 ، ح 2
5- الكافي ، ج 2 ، ص 247 ، ح 1 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 64 ، ص 143 ، ح 1
6- الصحاح ، ج 5 ، ص 2010 (قسم)
7- الفائق في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 538
8- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 370 (برر)
9- الصحاح ، ج 1 ، ص 184 (عقب)
10- طه (20) : 132
11- الأعراف (7) : 128 ؛ القصص (28) : 83

العاقبة . ويحتمل الرفع على الابتدائيّة .

(لأهلها مأوى) .

الضمير للتقوى، وكونه للجنّة محتمل .

ويؤيّد الأوّل قوله تعالى : «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّا» (1) . في القاموس : «أويت منزِلي وإليه: نزلته بنفسي، وسكنته . والمأوى والمأوي والمأواة: المكان» (2).

(دعاؤهم فيها) أي في الجنّة .

(أحسن الدعاء) ؛ خبر المبتدأ، وكونه منصوبا على الحاليّة بعيد .

وقوله عليه السلام : (سبحانك اللّهمّ) ؛ خبر بعد خبر، أو بدل من الخبر الأوّل، أو خبر مبتدأ محذوف .

وقد مرّ أنّهم يقولون ذلك عند إرادتهم الطعام والشراب . ومعنى «سبحانك اللّهمّ»: إنّا نسبّحك تسبيحا .

وقيل : وجه كونه أحسن الدعاء أنّه تعالى دالّ على ذاته المتّصف بجميع الكمالات، وتوحيده المطلق، وتنزيهه عن جميع النقائص (3) .

وقال بعض الفضلاء في شرح هذا الكلام : «أي إذا أرادوا طلب شيء، طلبوه بأحسن طلب، بأن يقولوا : سبحانك اللّهمّ» انتهى (4).

أقول : مبنى هذا التوجيه على إرادة معنى الطلب من الدعاء. وفيه تأمّل .

قال الجوهري : «دعوت فلانا؛ أي صحتُ به، واستدعيته. ودعوت اللّه له وعليه دُعاء.

والدعاء واحدة الأدعية» (5).

وفي القاموس : «الدعاء: الرغبة إلى اللّه تعالى. دَعا دُعاءً ودَعوًى» (6).

(دعاهم المولى إلى ما آتاهم) .

المولى: المالك. واحتمال كونه بصيغة اسم الفاعل من الإيلاء، وهو الإعطاء والإيتاء بعيد .

قال الجوهري : «أتاه إيتاء؛ أي أعطاه. وآتاه أيضا؛ أي أتى به. ومنه قوله تعالى : «آتِنَا

ص: 548


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 53
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 203
3- مريم (19) : 63
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 301 (أوي)
5- الصحاح ، ج 6 ، ص 2337 (دعو)
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 327 (دعو)

غَدَاءَنَا» (1). ؛ أي ائتنا [به]» (2).

قيل : قطع هذا الكلام عن سابقه على الاستئناف، كأنّه يسأل سائل: لمَ يطلبون هكذا ؟ فأجاب بأنّه: لما دعاهم مولاهم إلى نعيم الجنّة، فلا يكلّفهم في طلبهم أزيد من أن ينزّههوه ويسبّحوه .

أو هذا النداء جواب لدعوة ربّهم، وإجابة لها (3).

وأقول : لعلّه عليه السلام أراد بهذا الكلام بيان جلالة نِعَم الجنّة وعظمها؛ لأنّ الداعي إليها مولاهم الحقّ، ومالكهم المطلق، فعطاؤه يناسب كرمه وعظمه .

(وآخر دعواهم) أي آخر دعائهم .

(أن الحمد للّه ربّ العالمين) .

وقد مرّ في حديث الجنان والنوق أنّهم يقولون ذلك إذا فرغوا من الطعام والشراب وأمثالهما .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» : (4).

لعلّ المعنى أنّهم إذا دخلوا الجنّة، وعاينوا عظمة اللّه وكبرياءه، مَجَدوه ونعتوه بعنوت الجلال، ثمّ حيّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات، والفوز بأصناف الكرامات . أو اللّه تعالى، فحمدوه، وأثنوا عليه بصفات الإكرام ، و «أَنْ» هي المخفّفة من الثقيلة . وقد قرئ بها ونصب الحمد (5).

متن الحديث الرابع والتسعين والمائة (خُطْبَةٌ لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام )

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَوْ غَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : أَنَّهُ ذَكَرَ هذِهِ الْخُطْبَةَ لأمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَوْمَ الْجُمُعَةِ:

ص: 549


1- الكهف (18) : 62
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2262 (أتا)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 54
4- يونس (10): 10
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 187

«الْحَمْدُ لِلّهِ أَهْلِ الْحَمْدِ وَوَلِيِّهِ، وَمُنْتَهَى الْحَمْدِ وَمَحَلِّهِ ، الْبَدِيءِ الْبَدِيعِ، الْأَجَلِّ الْأَعْظَمِ، الْأَعَزِّ الْأَكْرَمِ، الْمُتَوَحِّدِ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَالْمُتَفَرِّدِ بِالْالَاءِ، الْقَاهِرِ بِعِزِّهِ، وَالْمُتَسَلِّطِ (1) بِقَهْرِهِ، الْمُمْتَنِعِ بِقُوَّتِهِ، الْمُهَيْمِنِ بِقُدْرَتِهِ، وَالْمُتَعَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِجَبَرُوتِهِ، الْمَحْمُودِ بِامْتِنَانِهِ وَبِإِحْسَانِهِ، الْمُتَفَضِّلِ بِعَطَائِهِ وَجَزِيلِ فَوَائِدِهِ، الْمُوَسِّعِ بِرِزْقِهِ، الْمُسْبِغِ بِنِعْمَتِهِ(2).

نَحْمَدُهُ عَلى آلَائِهِ، وَتَظَاهُرِ نَعْمَائِهِ، حَمْدا يَزِنُ عَظَمَةَ جَلَالِهِ، وَيَمْلَأُ قَدْرَ آلَائِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَا اللّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي كَانَ فِي أَوَّلِيَّتِهِ مُتَقَادِما، وَفِي دَيْمُومِيَّتِهِ مُتَسَيْطِرا، خَضَعَ الْخَلَائِقُ لِوَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَقَدِيمِ أَزَلِيَّتِهِ، وَدَانُوا لِدَوَامِ أَبَدِيَّتِهِ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخِيَرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، اخْتَارَهُ بِعِلْمِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِوَحْيِهِ، وَائْتَمَنَهُ عَلى سِرِّهِ، وَارْتَضَاهُ لِخَلْقِهِ، وَانْتَدَبَهُ لِعَظِيمِ أَمْرِهِ، وَلِضِيَاءِ مَعَالِمِ دِينِهِ وَمَنَاهِجِ سَبِيلِهِ وَمِفْتَاحِ وَحْيِهِ، وَسَبَبا لِبَابِ رَحْمَتِهِ، ابْتَعَثَهُ عَلى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَهَدْأَةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَاخْتِلَافٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَضَلَالٍ عَنِ الْحَقِّ، وَجَهَالَةٍ بِالرَّبِّ، وَكُفْرٍ بِالْبَعْثِ وَالْوَعْدِ، أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِكِتَابٍ كَرِيمٍ، قَدْ فَضَّلَهُ، وَفَصَّلَهُ، وَبَيَّنَهُ، وَأَوْضَحَهُ، وَأَعَزَّهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٍ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، ضَرَبَ لِلنَّاسِ فِيهِ الْأَمْثَالَ، وَصَرَّفَ فِيهِ الْايَاتِ لَعَلَّهُمْ يَعْقِلُونَ، أَحَلَّ فِيهِ الْحَلَالَ، وَحَرَّمَ فِيهِ الْحَرَامَ، وَشَرَعَ فِيهِ الدِّينَ لِعِبَادِهِ، عُذْرا وَنُذْرا، لِئَلَا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَيَكُونَ بَلَاغا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ.

فَبَلَّغَ رِسَالَتَهُ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَعَبَدَهُ حَتّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، صَلَّى اللّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيما كَثِيرا.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللّهِ وَأُوصِي نَفْسِي بِتَقْوَى اللّهِ، الَّذِي ابْتَدَأَ [بَدْأَ] (3) الْأُمُورَ بِعِلْمِهِ، وَإِلَيْهِ يَصِيرُ غَدا مِيعَادُهَا، وَبِيَدِهِ فَنَاؤُهَا وَفَنَاؤُكُمْ، وَتَصَرُّمُ أَيَّامِكُمْ، وَفَنَاءُ آجَالِكُمْ، وَانْقِطَاعِ مُدَّتِكُمْ، فَكَأَنْ قَدْ زَالَتْ عَنْ قَلِيلٍ عَنَّا وَعَنْكُمْ، كَمَا زَالَتْ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَاجْعَلُوا عِبَادَ اللّهِ اجْتِهَادَكُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا التَّزَوُّدَ مِنْ يَوْمِهَا الْقَصِيرِ لِيَوْمِ الْاخِرَةِ الطَّوِيلِ؛ فَإِنَّهَا دَارُ عَمَلٍ، وَالْاخِرَةَ دَارُ الْقَرَارِ وَالْجَزَاءِ.

فَتَجَافَوْا عَنْهَا؛ فَإِنَّ الْمُغْتَرَّ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا، لَنْ تَعْدُوَالدُّنْيَا إِذَا تَنَاهَتْ إِلَيْهَا أُمْنِيَّةُ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا،

ص: 550


1- في الطبعة القديمة : «والمسلّط»
2- في الطبعة القديمة : «بنعمه»
3- في الطبعة القديمة : - «[بدأ]»

الْمُحِبِّينَ لَهَا، الْمُطْمَئِنِّينَ إِلَيْهَا، الْمَفْتُونِينَ بِهَا، أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ» (1) الْايَةَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبِ امْرُؤٌ مِنْكُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَبْرَةً (2) إِلَا أَوْرَثَتْهُ عَبْرَةً، وَلَا يُصْبِحُ فِيهَا فِي جَنَاحٍ آمِنٍ إِلَا وَهُوَ يَخَافُ فِيهَا نُزُولَ جَائِحَةٍ، أَوْ تَغَيُّرَ نِعْمَةٍ، أَوْ زَوَالَ عَافِيَةٍ، مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ وَرَاءِ ذلِكَ، وَهَوْلَ الْمُطَّلَعِ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ، تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا عَمِلَتْ، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُوا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنى.

فَاتَّقُوا اللّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ، وَسَارِعُوا إِلى رِضْوَانِ اللّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا فِيهِ الرِّضَا؛ فَإِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، جَعَلَنَا اللّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِمَحَابِّهِ، وَيَجْتَنِبُ سَخَطَهُ.

ثُمَّ إِنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَأَبْلَغَ الْمَوْعِظَةِ، وَأَنْفَعَ التَّذَكُّرِ كِتَابُ اللّهِ جَلَّ وَعَزَّ؛ قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (3) ، أَسْتَعِيذُ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْاءِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (4) ، «إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما» (5) ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَبَارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَتَحَنَّنْ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَسَلِّمْ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ وَتَرَحَّمْتَ وَتَحَنَّنْتَ وَسَلَّمْتَ عَلى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللّهُمَّ أَعْطِ مُحَمَّدا الْوَسِيلَةَ وَالشَّرَفَ وَالْفَضِيلَةَ وَالْمَنْزِلَةَ الْكَرِيمَةَ، اللّهُمَّ اجْعَلْ مُحَمَّدا وَآلَ مُحَمَّدٍ أَعْظَمَ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ، شَرَفا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْكَ مَقْعَدا، وَأَوْجَهَهُمْ عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاها، وَأَفْضَلَهُمْ عِنْدَكَ مَنْزِلَةً وَنَصِيبا.

اللّهُمَّ أَعْطِ مُحَمَّدا أَشْرَفَ الْمَقَامِ، وَحِبَاءَ السَّلَامُ، وَشَفَاعَةَ الْاءِسْلَامِ. اللّهُمَّ وَأَلْحِقْنَا بِهِ غَيْرَ خَزَايَا، وَلَا نَاكِبِينَ، وَلَا نَادِمِينَ، وَلَا مُبَدِّلِينَ، إِلهَ الْحَقِّ آمِينَ.

ثُمَّ جَلَسَ قَلِيلاً، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ أَحَقَّ مَنْ خُشِيَ وَحُمِدَ، وَأَفْضَلَ مَنِ اتُّقِيَ وَعُبِدَ، وَأَوْلى مَنْ

ص: 551


1- يونس (10) : 24
2- في الحاشية عن بعض النسخ: «خيرة»
3- الأعراف (7) : 204
4- العصر (103) : 1 _ 4
5- الأحزاب (33) : 56

عُظِّمَ وَمُجِّدَ، نَحْمَدُهُ لِعَظِيمِ غَنَائِهِ، وَجَزِيلِ عَطَائِهِ، وَتَظَاهُرِ نَعْمَائِهِ، وَحُسْنِ بَلَائِهِ، وَنُؤْمِنُ بِهُدَاهُ الَّذِي لَا يَخْبُو ضِيَاؤُهُ، وَلَا يَتَمَهَّدُ سَنَاؤُهُ، وَلَا يُوهَنُ عُرَاهُ، وَنَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ سُوءِ كُلِّ الرَّيْبِ، وَظُلَمِ الْفِتَنِ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِنْ مَكَاسِبِ الذُّنُوبِ، وَنَسْتَعْصِمُهُ مِنْ مَسَاوِي الْأَعْمَالِ، وَمَكَارِهِ الْامَالِ، وَالْهُجُومِ فِي الْأَهْوَالِ، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الرَّيْبِ، وَالرِّضَا بِمَا يَعْمَلُ الْفُجَّارُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

اللّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، الَّذِينَ تَوَفَّيْتَهُمْ عَلى دِينِكَ، وَمِلَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله .

اللّهُمَّ تَقَبَّلْ حَسَنَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَأَدْخِلْ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالرِّضْوَانَ، وَاغْفِرْ لِلْأَحْيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الَّذِينَ وَحَّدُوكَ، وَصَدَّقُوا رَسُولَكَ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكَ، وَعَمِلُوا بِفَرَائِضِكَ، وَاقْتَدَوْا بِنَبِيِّكَ، وَسَنُّوا سُنَّتَكَ، وَأَحَلُّوا حَلَالَكَ، وَحَرَّمُوا حَرَامَكَ، وَخَافُوا عِقَابَكَ، وَرَجَوْا ثَوَابَكَ، وَوَالَوْا أَوْلِيَاءَكَ، وَعَادَوْا أَعْدَاءَكَ.

اللّهُمَّ اقْبَلْ حَسَنَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَأَدْخِلْهُمْ بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، إِلهَ الْحَقِّ آمِينَ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (الحمد للّه أهل الحمد ووليّه) .

قيل : علّق الحمد باسم الذات، وحكم بأنّه أهله وأولى به؛ للتنبيه على أنّه مستحقّ لذاته، وما اشتهر من أنّ الحمد متعلّق بالفضائل، أو بالفواضل، فهو باعتبار الأكثر والأغلب، دون الاختصاص . ويؤيّده أنّ الحمد عبادة، وهو سبحانه مستحقّ لها بالذات (1).

قال بعض الأفاضل : معنى كونه تعالى وليّ الحمد أنّه الأولى به من كلّ أحد؛ إذ هو تعالى مولى جميع النِّعم، والموصوف بجميع الكمالات الحقيقيّة، وكلّ نعمة وإحسان وكمال لغيره فهو راجعٌ إليه، ومأخوذٌ منه تعالى، أو المتولّي للحمد [أي] هو الموفّق لحمد كلّ من يحمده . انتهى (2).

ص: 552


1- قال المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 204
2- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 54

أقول : اُولويّته تعالى للحمد يفيد انحصار المحموديّة عليه تعالى، وكونه متولّيا للحمد يفيد انحصار الحامديّة به، كما أشار عليه السلام إليه بقوله : (ومنتهى الحمد ومحلّه) ؛ فالحمد كلّه ينتهي إليه.

ومن ثمّ قيل باختصاص جنس الحمد وجميع أفراده به، وبين الاختصاصين تلازم .

(البدئ البديع) .

قال الجوهري : «البدئ: الأوّل. ومنه قولهم : افعله بادئ بَدْءٍ _ على فعل _ وبادئ بَديء _ على فعيل _ أي أوّل شيء» (1).

وقال : «أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، واللّه سبحانه بديع السماوات والأرض .

والبديع: المبتدِع. والبديع: المبتدَع أيضا» (2).

وقال صاحب العدّة : البديع : هو الذي فطر الخلق مبتدِعا لها، لا على مثال سَبق، وهو فعيل بمعنى مُفعِل، كالأليم بمعنى مؤلِم. والبدع الذي يكون أوّلاً في كلّ شيء .

«قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعا مِنْ الرُّسُلِ» (3) ؛ أي لست بأوّل مُرسَل . انتهى (4).

وقيل : البديع: هو الذي لم يُعْهَد مثله، ولا نظير له .

وقيل : البَديء أيضا يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى مُفعل؛ أي مُبدئ الأشياء ومُنشئها (5).

ولعلّ ذكر البديع بعده للدلالة على أنّه تعالى خلقهم لا عن مادّة، ولا عن مثال سابق .

(الأجلّ الأعظم، الأعزّ الأكرم) .

قال صاحب العدّة : الجليل: هو من الجلال والعظمة، ومعناه منصرف إلى جلال القدرة وعظم الشأن، وهو الجليل الذي يصغر دونه كلّ جليل(6).

والعظيم: ذو العظمة والجلال، وهو منصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر .

والعزيز: هو المنيع الذي لا يُغلب، وهو أيضا الذي لا يعادله شيء، وأنّه لا مثل له ولا

ص: 553


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 54
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 35 (بدأ)
3- الصحاح، ج 3 ، ص 1183 (بدع) مع اختلاف يسير في اللفظ
4- الأحقاف (46) : 9
5- عدّة الداعي ، ص 301
6- لم نعثر عليه في عدّة الداعي ، لكن انظر : شرح المازندراني ، ج 3 ، ص 291 (في شرح حديث حدوث الأسماء)

نظير له . ويقال : «من عزَّ بزّ» ؛ أي من غلب سلب . وقوله تعالى حكايةً عن الخصم :

«وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» (1) ؛ أي غلبني في مجاوبة الكلام . وقد يُقال للملِك، كما قال اُخوة يوسف : «يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ» (2) ؛ أي يا أيّها الملك .

والأكرم، معناه الكريم، وقد يجيء «أفعل» بمعنى «فعيل»، كقوله تعالى : «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» (3) ؛ أي هيّن عليه . و «لَا يَصْلَاهَا إِلَا الْأَشْقى . . . وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقى» (4). ؛ يعني الشقيّ والتّقي . واُنشد في هذا المعنى:

«إنّ الذي سمك السماء بنا***لها بيتا دعائمه أعزّ وأطول» (5).

إلى هاهنا كلام صاحب العدّة .

وقيل : الأجلّ؛ أي من أن يبلغ إلى كنه ذاته. الأعظم؛ أي من أن يدرك أحد كنه صفاته. الأعزّ، من أن يغلبه شيء . الأكرم، من أن تحصى نعمه وآلاؤه .

ويحتمل أن يكون مشتقّا من الكرم بمعنى الشرف والمنزلة؛ أي أكرم من كلّ ذي كرامة (6).

(المتوحّد بالكبرياء) أي المتفرّد بالعظمة والشرف والرفعة المطلقة، لا يشركه فيها أحد؛ لأنّها إمّا بحسب شرف الذات، أو الصفات الذاتيّة، أو الفعليّة، وهذه بأسره مختصّة به تعالى، وما سواه حقير ذليل وضيع بالنسبة إليه، متضرّع بين يديه .

في القاموس : «الكبر: معظم الشيء، والشرف، والرفعة في الشرف، والعظمة، والتجبّر، كالكبرياء» (7).

(والمتفرّد بالآلاء) أي لم يشركه أحد في النِّعم، والإنعام بها، بل هو المُنعم الحقيقي، وكلّ من له نعمة أخذها منه .

والآلاء: النِّعم. واحدها: إليٌ، بالفتح والكسر. وألوٌ، وألًى، وإلًى .

(القاهر بعزّه) أي الغالب على جميع الأشياء، ووضعها في مواضعها، وتقدير ذواتها وكمالاتها اللاحقة بها، وذلك سبب كمال قوّته وقدرته عليها، فلا موجود إلّا وهو مغلوب

ص: 554


1- ص (38) : 23
2- يوسف (12) : 78 و 88
3- الروم (30) : 27
4- الليل (92) : 15 - 17
5- اُنظر : بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 192 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 7 ، ص 300 (ونسبه في الأخير للفرزدق)
6- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 55
7- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 124 (كبر)

تحت قدرته، مسخّر لإرادته، ناصيته بيده .

أو المراد أنّه تعالى مذلّ الجبّارين، وقاصم ظهورهم بالإهلاك والإفناء والتعذيب، أو أنّه تعالى قهر على العدم، فأوجد الأشياء، وقهر على الوجود، فأفناها .

(المتسلّط بقهره) ؛ كأنّ العطف للتفسير، أو يحمل على أحد المتعاطفين على أحد من المعاني السابقة ، والآخر على آخر منها .

والسلاطة: القهر. والتسليط: التغليب، وإطلاق القهر والقدرة. يُقال: سلّطه، فتسلّط عليه .

(الممتنع بقوّته) .

الممتنع: العزيز القويّ في نفسه. وأصل الامتناع: الكفّ عن الشيء .

وقيل : المراد بالممتنع هنا من يمتنع من أن يصل إليه سوء، أو يغلبه أحد (1).

وقيل : هو المتقوّي بقوّته، فلا يحتاج في التقوّي إلى أحد، ولا يقدر عليه من يريده . أو الممتنع بها عن الشريك والنظير، والاستعانة من أحد، من امتنع من الأمر، إذا كفّ عنه، وأبى منه (2).

(المهيمن بقدرته) .

قيل : هو مُفَيْعل من الأمانة؛ أي المؤتَمن .

وقيل : هو الذي يُؤمِن غيره من الخوف، وأصله: مُأَءْمِن، قلبت الهمزة الثانية ياء، والأولى هاء .

وقيل : هو الشهيد؛ لأنّه تعالى شاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل أو غيرهما؛ إذ لا يغيّب عنه تعالى مثقال ذرّة في الأرض، ولا في السماء . ومنه قوله تعالى : «مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ» (3).

وقيل : هو الرقيب على الممكنات، الحافظ لها .

وقيل : هو اسم من أسمائه تعالى في الكتب .

وقيل : هو القائم باُمور الخلق (4).

ص: 555


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 55
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 205
3- المائدة (5) : 48
4- اُنظر الأقوال في : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 205 ؛ مرآة العقول ، ج 26 ، ص 55

(والمتعالي فوق كلّ شيء بجبروته) .

التعالي: الارتفاع، وهو مبالغة في العلوّ .

قيل : أي المتعالي عن مشابهة الأعراض والأجسام، وعن إدراك العقول والأوهام، وهو فوق كلّ شيء بجبروته . والجبروت من الجبر، بمعنى الإفناء والإصلاح؛ لأنّه تعالى يفني ما يشاء، ويبقي ما يشاء، ويصلح ما يشاء من الممكنات بإفاضة الوجود، وما يتبعه من الكمالات . أو بمعنى الإلزام؛ لأنّه الجبّار الذي ألزم خلقه، وجبرهم على قبول أمره التكويني والتكليفي . أو بمعنى التكبّر؛ لأنّه العظيم المتكبّر الذي له حقّ على كلّ شيء، وليس لشيء حقٌّ عليه .

وعلى التقادير فيه إيماء إلى أنّ المراد بالفوقيّة الفوقيّة بالاستيلاء والشرف والعلّيّة والحكم ، ويمكن أن يُراد به علوّه على كلّ شيء، والتعبير بالمتعالي للمبالغة فيه، وما بعده حينئذٍ تفسيرٌ له (1).

(المحمود بامتنانه وبإحسانه) .

الامتنان: الإنعام. وإضافته إلى الفاعل ، وكذا الإحسان، والمفعول فيهما محذوف؛ إمّا لإجرائهما مجرى اللازم ليفيد استحقاقه للحمد بأصل الامتنان والإحسان، أو للدلالة على التعميم، وليقدّر السامع كلّ ما يذهب إليه ذهنه .

ولعلّ المراد بالامتنان إفاضة أصل الوجود، وبالإحسان إعطاء الكمالات اللّاحقة به .

(المتفضّل بعطائه) .

التفضّل: التطوّل، وإظهار الفضل . والعطاء : اسم من الإعطاء .

(وجزيل فوائده) .

الجزيل: الكثير من الشيء . والفوائد: جمع الفائدة، وهي ما استُفيد من علمٍ أو مالٍ .

(الموسّع برزقه) .

قال الجوهري :

وسع الشيء _ بالكسر _ يَسَعه سعةً. والوُسْع والسّعة: الجِدَة، والطاقة . يُقال : فلينفق

ص: 556


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 205

ذو سَعَةٍ من سَعَته، وعلى قدر سعتهِ . وأوسع الرجل؛ أي صار ذا سَعَةٍ، وغنًى، ومنه قوله تعالى : «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (1). أي أغنياء قادرون . ويُقال : أوسع اللّه عليك؛ أي أغناك . والتوسيع: خلاف التضييق . يُقال : وسّعت الشيء، فاتّسع . انتهى (2).

والباء على بعض الاحتمالات للتعدية، أو للسببيّة، وعلى بعضها للتقوية .

(المسبغ بنعمته) .

قال الجوهري : «أسبغ اللّه عليه النعمة؛ أي أتمّها »(3) فالباء زائدة. أو المعنى : المُسبغ حجّته بنعمته، ولمّا حمده على وجه يدلّ على الدوام والثبات أراد أن يحمده على وجه يدلّ على الاستمرار التجدّدي؛ لمقابلته بأسماء الآلاء المتجدّدة والنعماء المتظاهرة المتتابعة .

فقال : (نحمده على آلائه، وتظاهر نَعمائه) أي تتابعها وتعاونها، ومجيء بعضها عقيب بعض .

والنعماء والآلاء واحد . والعطف للتفسير. أو يُراد بالاُولى الباطنة، وبالثانية الظاهرة، أو بالعكس .

(حمدا يزن عظمة جلاله) .

يُقال : وزنتُ الشيء وَزنا وَزِنَةً ووزانة، أي عادلته، وقابلته ؛ يعني أنّه تعالى يستحقّ حمدا بلغ في العظمة والكمال إلى حيث بلغ عظمة جلاله ، فكما لا يصل إلى الثاني عقول العارفين، لا يصل إلى الأوّل أفهام الحامدين .

وقيل : طلب عليه السلام أن جعل اللّه حمده تفضّلاً كذلك (4).

(ويملاء قدرَ آلائه وكبريائه) .

هذا كناية عن التساوي في الكثرة والعظمة؛ فإنّ الملأ يستلزم المساواة بين الظرف والمظروف .

في القاموس: «مَلأهُ _ كمنع _ مَلْاً ومَلْأةً _ بالفتح والكسر _ وملأه تملئةً، فامتلأ، وتملّأ،

ص: 557


1- الذاريات (51) : 47
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1298 (وسع) مع اختلاف يسير في الألفاظ
3- الصحاح ، ج 4 ، ص 1312 (سبغ)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 206

ومَلِئ، كسمع» انتهى (1).

ويفهم منه أنّ «يَمْلا»?يتعدّى ولا يتعدّى . فعلى الأوّل يكون ما بعده منصوبا على المفعوليّة ، وعلى الثاني نصبه على المصدر، أو على الحذف والإيصال .

وقوله : (الذي كان في أوّليّته متقادما) أي كان في سبق وجوده متقادما على جميع الأشياء، وليست أوّليّته وسبقه إضافيّا .

قال الجوهري : «قَدُم الشيء _ بالضمّ _ قَدِما، فهو قديم. وتقادم مثله» (2)

وقال بعض الشارحين : أشار بلفظ التقادم إلى أن ليس المراد بالقدم طول الزمان، بناءً على أنّ زيادة المباني يدلّ على زيادة المعاني، وأنّ [الفعل] بين الاثنين على وجه الغلبة، وإن لم يكن هنا بين اثنين يوجب وقوعه على وجه الكمال، وتلك الزيادة والكمال يدلّان على أنّ المراد هو الأوّليّة المنافية للحدوث (3).

(وفي ديموميّته متسيطرا) .

يُقال : دام الشيء يدوم ويدام دَوْما ودَواما وديمومةً، وأدامه غيره. والمتسيطر : الرقيب الحافظ، والمتسلّط؛ يعني أنّه تعالى في دوامه ووجوب وجوده وامتناع طريان العدم والزوال إليه كان متسلّطا على جميع ما سواه، وإلّا كان محدثا ممكن الزوال ، وهذا خلف. أو كان حافظا رقيبا عالما بذواتهم وصفاتهم قبل إيجادهم وبعده .

(خضع الخلائق لوحدانيّته وربوبيّته وقديم أزليّته) .

الخضوع: التطامن، والتواضع. وفعله كمنع.

وإضافة القديم من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف؛ يعني أنّ تلك الأوصاف الثلاثة صارت سببا لخضوع الخلق لديه، واستكانتهم بين يديه ؛ أمّا الوحدانيّة والأزليّة فلأنّ نقيضاهما _ أعني الشركة والحدوث _ لا يقتضيان خضوع الجميع له تعالى، وهو ظاهر، بل يستلزمان خضوعه لغيره .

وأمّا الربوبيّة؛ فلأنّ مالكيّة كلّ شيء وإيجاده وتربيته من حدّ النقص إلى حدّ الكمال

ص: 558


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 206
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 28 (ملأ)
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2006 (قدم)

اللائق به يقتضي خضوع الأشياء له بأسرها .

(ودانُوا لدوام أبديّته) .

الدين، بالكسر: العادة، والشأن. ودان؛ أي أطاع، واعتاد خيرا أو شرّا، وذلّ، وعبد، وأقرّ، واعتقد ؛ يعني أنّهم دانوا لكونه تعالى دائم الأبديّة، الباعث للعبادة والطاعة، الموجب لاستحقاقه لهما؛ فإنّ المحدَث الغير الدائم لا يستحقّ المعبوديّة، ولا يمكنه الوفاء بما وعد به، وأوعد عليه من الجزاء بعد الفناء .

(اختاره بعلمه) .

قيل : أي بأن أعطاه علمه، أو بسبب كونه عالما بأنّه يستحقّ ذلك (1).

(واصطفاه) أي آثرَهُ واختاره.

(لوحيه) .

قال الجوهري : «الوَحي: الكتاب. والوحي أيضا: الإشارة، والكناية، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفيّ، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك» (2).

(وائتمنه) أي اتّخذه أمينا .

(على سرّه) .

السِّرّ، بالكسر: الذي يكتم .

(وارتضاه لخلقه) أي هدايتهم وإرشادهم .

قال الجوهري : «رضيتُ الشيء، وارتضيته، فهو مرضيّ» (3).

(وانتدبه لعظيم أمره) .

لعلّ المراد بذلك الأمر تبليغ الرسالة، أو تحمّل المشاقّ، والصبر على الواردات مطلقا.

قال الجوهري : «ندبه لأمرٍ، فانتدب له؛ أي دعاه له، فأجاب» (4).

وفي القاموس : ندبه إلى الأمر، كنصره: دعاه، وحثّه، ووجّهه . وانتدب اللّه لمن خرج في سبيله:

ص: 559


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 56
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2520 (وحي)
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2357 (رضي)
4- الصحاح ، ج 1 ، ص 223 (ندب)

أجابه إلى غفرانه، أو ضَمِنَ وتكفّل، أو سارع بثوابه وحُسن جزائه، أو أوجب تفضّلاً؛ أي حقّق وأحكم أن ينجز له ذلك (1) وبهذا ظهر فساد ما قيل : الظاهر أنّ اللّام بمعنى «إلى» ، تقول : ندبته إلى الأمر، من باب قتل، وانتدبته إليه، إذا دعوته(2). فتدبّر .

(ولضياء معالم دينه) أي لأن ينوّر به أحكام دينه، وقوانين شريعته، ومواضع علومه التي بها يعلم شرائع الدِّين .

(ومناهج سبيله) .

المناهج: جمع المنهج، وهو الطريق الواضح، وكأنّ الإضافة بيانيّة ، أو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف .

(ومفتاح وحيه) .

الظاهر أنّه عطف على مفعول «انتدب»، من قبيل : «علفتها تبنا وماء بارد»؛ أي جعلته مفتاح وحيه .

وقال بعض الأفاضل : «يحتمل عطفه على قوله: «لخلقه» _ قال : _ ولعلّه سقط منه شيء» (3). ولا يخفى عليك بعد هذا التوجيه، وكذا ما ارتكبه بعض الشارحين من أنّ التركيب من قبيل «لجين الماء»؛ أي دعاه إلى وحيه الذي كالمفتاح في فتح أبواب العلوم الربّانيّة .

(وسببا لباب رحمته) ؛ عطف على «مفتاح وحيه» ؛ أي جعله سببا للوصول إلى رحمته .

في القاموس : «السبب: الحبل، وما يتوصّل به إلى غيره» (4).

(ابتعثه على حين فَترةٍ من الرُّسل) ؛ الظاهر أنّه استئناف، أو حال .

ويحتمل كونه خبرا بعد خبرٍ؛ لأنّ في القاموس: «بعثه، كمنعه: أرسله، كابتعثه» (5) ولعلّ تعديته ب «على» بتضمين مثل معنى الاستيلاء ؛ أي مستوليا على حين الفترة، ومزيلاً لآثار الجهل منه .

ص: 560


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 131 (ندب) مع التلخيص
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12، ص 207
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 57
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 81 (سبب)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 162 (بعث)

وقوله : «من الرسل» صفة للفترة، و«من» للابتداء .

والفَترة، بالفتح: الانكسار، والضعف، ويطلق على بين عيسى ومحمّد صلى الله عليه و آله ، وعلى ما بين الرسولين من رسل اللّه تعالى من الزمان الذي انقطع فيه الوحي والرسالة، واختلّ أمر الدِّين، وظهر الجهل والقساوة .

(وهَدأةٍ من العلم) أي العلم الديني .

وهدأته كناية عن كساد سوقه، وإعراض الخلق عنه . في القاموس : «هَدأ _ كمنع _ هَدءا وهُدُوءا: سكن . وأتانا بعد هدء من الليل وهَدءٍ وهدءَةٍ؛ أي حين هَدأ الليل» (1).

(واختلاف من الملل) ؛ جمع الملّة _ بالكسر _ وهي الشريعة والدِّين .

(وكفر بالبعث والوعد) أي إنكار أصلهما، كعَبَدة الأصنام والملاحدة. أو إنكار خصوصيّاتهما، كاليهود والنصارى .

وقوله : (رحمةً للعالمين) .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (2) : «لأنّ ما بُعثت به سبب لإسعادهم، وموجبٌ لصلاح معاشهم ومعادهم . وقيل : كونه رحمةً للكفّار أمنُهم به من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال» انتهى (3).

ومنهم من ذكر في تفسيره وجوها :

الأوّل : أنّه الهادي إلى اللّه ، والقائد إلى رضوانه .

الثاني : أنّ تكاليفه أسهل من تكاليف سائر الأنبياء .

الثالث : أنّه تعالى يعفو عن اُمّته بشفاعته .

الرابع : أنّه رحم كثيرا من أعدائه ببذل الأمان لهم، وقبول الجزية منهم، ولم يكن ذلك قبله .

الخامس : أنّه سأل اللّه أن يرفع عن اُمّته بعده عذاب الاستئصال، فأجابه رحمةً .

(بكتابٍ كريم) .

الباء للإلصاق، أو للمصاحبة . والكرم: ضدّ اللؤم . ولعلّ المراد هاهنا بالكريم العزيم

ص: 561


1- القاموس المحيط ، ج 1، ص 33 (هدأ)
2- الأنبياء (21) : 107
3- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 111

النفيس، ووصف الكتاب به لشرف مضمونه أو مُرسِله .

ويحتمل أن يكون وصفه به مجازا عن المرسِل أو المرسَل إليه ، وحينئذٍ يحتمل أن يُراد بالكريم الجواد، والصفوح أيضا .

(قد فضّله) على غيره من الكتب، باشتماله على الفصاحة والبلاغة والدقائق والأسرار، وسائر المزايا والخواصّ التي ليست فيها .

(وفصّله) .

التفصيل: التبيين .

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ» (1) : «أي بيّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصّلة» (2).

(وبيّنه، وأوضحه) ؛ بحيث لا يلتبس على سامعه، ولا يشتبه شيء منه بالآخر .

(وأعزّه) أي جعله عزيزا لا يكاد يوجد مثله، أو قويّا منيعا لا يغلبه حجّة .

(وحفظه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه) ؛ إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (3) ، وقوله عزّ وجلّ : «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» (4) ، وإيماء إلى أنّ المراد بالحفظ في الآية الاُولى عدم تطرّق الباطل إليه، وإلى أنّ المراد بالذِّكر المنزل الكتاب الكريم .

وذكر المفسّرون في تفسير الآية الثانية وجوها ؛ منها : أنّ معنى كونه عزيزا أنّه لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، أو منيع من الباطل؛ لما فيه من حسن البيان ووضوح البرهان ، أو عزيز محفوظ من أن يغيّر أو يبدّل، لا يأتيه الباطل؛ أي الشيطان .

وقيل : التبديل . وقيل : التناقض . وقيل : الكذب من بين يديه، ولا من خلفه . قيل : أي في إخباره عمّا تقدّم، ولا عمّا تأخّر . وقيل : لا يأتيه الباطل بوجهٍ من الوجوه . واكتفى بذكر الجهتين عن البواقي؛ لأنّ الإتيان إلى الشيء غالبا من هاتين الجهتين .

وقيل : بين يديه لفظه، ومن خلفه تأويله (5).

ص: 562


1- الأعراف (7) : 52
2- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 24
3- الحجر (15) : 9
4- فصّلت (41) : 42
5- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 208

(تنزيلٌ من حكيم) أي من عند حكيم، لا يفعل إلّا ما هو على وفق الحِكَم والمصالح .

(حميد) ؛ يحمده كلّ مخلوق بما ظهر عليه من نعمه .

(ضرب للناس فيه الأمثال) .

يُقال : ضرب اللّه مثلاً؛ أي وصف، وبيّن . والمَثَل، محرّكة: الحجّة، والحديث، والصِّفة .

واشتهر إطلاقه بكلام يُقصد به إلحاق خفيّ بجليّ، محسوس أو مشهور .

(وصرّف فيه الآيات) .

تصريف الآيات: تبيينها ؛ يعني بيّن في ذلك الكتاب الآيات الدالّة على ما يتعلّق بأحوال المبدأ والمعاد، وكيفيّة الإيجاد ، والأحكام الشرعيّة من الحلال والحرام، والنصائح والمواعظ، وأمثالها .

(لعلّهم يعقلون) أي يفهمون الغرض منها .

(أحلَّ فيه الحلال، وحرّم فيه الحرام) ؛ لعلّ المراد بالحرام ما لا رخصة في فعله، وبالحلال ما يجوز فعله ولو ببعض الوجوه، فيندرج فيهما الأحكام الخمسة المشهورة .

(شرع فيه الدِّين لعباده) .

قال الفيروزآبادي : «شرع لهم، كمنع: سنّ» (1).

وقال : «سنّ الأمر: بيّنه. والشيء: صوّره» (2).

(عُذرا ونُذرا) .

قيل : هما _ بالضمّ وضمّتين _ مصدران لِعَذر، إذا محا الإساءة، ورفع اللؤم، وأنذر، إذا خوّف بعد الإعلام . أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة، ونذير بمعنى الإنذار . أو بمعنى العاذر والمُنذِر .

ونصبهما على الأوّلين بالعلّيّة؛ أي عذرا للمحقّين لاشتماله على الأخبار بمحو إساءتهم، ورفع منزلتهم، ونذرا للمبطلين؛ لتضمّنه ذكر عقوباته، وغَور دركاتهم. أو بالبدليّة من الدين . وعلى الثالث بالحاليّة عن فاعل «شرع»، أو عن ضمير «الكتاب» (3).

ص: 563


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 44 (شرع)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 237 (سنن)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 57 و 58 . وانظر أيضا : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 209

(لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل) .

اللّام متعلّقة بالإرسال، و«حجّة» اسم «يكون»، وخبره «للناس» ، أو «على اللّه »، والآخر حال، و«بعد» ظرف للحجّة، أو صفة لها .

قال بعض المفسّرين :

حجّتهم لو لم يرسل إليهم رسولاً وكتابا، أن يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً، فينبّهنا ويعلّمنا ما لم نكن نعلم . وفيه تنبيه على أنّ بعثة الأنبياء إلى الناس ضرورة؛ لقصور الكلّ عن إدراك جزئيّات المصالح، والأكثر عن إدراك كلّيّاتها (1)

(ويكون بلاغا لقومٍ عابدين) ؛ إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّ فِي هذَا لَبَلَاغا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ» (2). ، والمشار إليه بهذا ما ذكر قبل هذه الآية من الأخبار والمواعظ والمواعيد .

والبلاغ، بالفتح: الكفاية، واسم من التبليغ والإبلاغ، وهما للإيصال .

ويمكن أن يُراد هنا سبب البلوغ إلى البُغية . والمراد بالعابدين المستعدّين للعبادة .

إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ الظاهر أن تكون الجملة عطفا على «لئلّا يكون»، والمستتر في «يكون» عائد إلى الكتاب. وعوده إلى الرسول، أو إلى الدِّين احتمال .

إن قلت : يلزم على هذا اشتمال المعطوف على ضمير دون المعطوف عليه .

قلت : قد حكم بعض الأفاضل بعدم امتناع مثل هذا العطف، وربّما نقل أنّ هذا ممّا جوّزه جماعة من النحاة في مثل قولهم: «الذي يطير، فيغضب زيد الذباب»، وعندي في صحّة هذا الحكم وثبوت النقل عنهم إشكال . والمشهور فيما بينهم الحكم بامتناعه، وجعل الفاء في المثال المذكور للسببيّة، ومنهم من جعله للعطف، بتقدير العائد في المعطوف؛ أي فيغضب بسببه .

ومنهم من جعله للعطف من دون تقدير العائد، وخصّ هذا الحكم بالفاء دون غيره . قال ابن مالك :

«واخصص بفاء عطف ما ليس صلة***على الذي استقرّ أنّه الصلة»(3).

وفيما نحن فيه يمكن أن يكون العائد الإظهار في موضع الإضمار، بأن يكون أصله:

ص: 564


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 58
2- الأنبياء (21): 106
3- اُنظر: شرح ابن عقيل، ج 2، ص 228

ويكون بلاغا لهم، فعدل إلى الاسم الظاهر؛ للتصريح باختصاص كونه بلاغا للذين تكون غاية هممهم العبادة دون العادة، وأنّهم هم المنتفعون به.

ولك أن تجعل الواو للحال بتقدير مبتدأ .

وقوله : (حتّى أتاه اليقين) ؛ يعني الموت، سمّي به لكونه متيقّن اللحوق بكلّ ذي حياة .

وقوله : (اُوصيكم) .

في المصباح : «أوصاه؛ أي أمَرَه، وذكّره» (1)

وفي القاموس : «أوصاه ووصّاه توصية: عَهِدَ إليه» (2).

وقوله : (بتقوى اللّه ) ؛ متعلّق بالفعلين على سبيل التنازع .

(الذي ابتدأ بدأ الاُمور بعلمه) .

في القاموس : «بدأ به _ كمنع _ ابتداء. والشيء: فعله ابتداء، كأبدأه وابتدأه. واللّه الخلق: خلقهم. وأفعله بَدْءً؛ أي أوّل شيء» (3).

وفي كثير من النسخ: «ابتدأ بَدْؤ الاُمور»، وكأنّه بناء على جعل الابتداء لازما، أو كونه بصيغة المجهول، لكن لا يساعده رسم الخطّ .

ويحتمل أن يقرأ هذه النسخة: «بُدُوّ الأمر» بالواو المشدّدة؛ أي ظهورها .

وحاصل المعنى على النسختين أنّه تعالى ابتدأ خلق الاُمور وإيجادها، وأخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود بعلمه المحيط المقتضي لإعطاء كلّ شيءٍ ما أراده من الحقائق ولوازمها وآثارها بقدرته واختياره، ففيه نفي إيجاب الصانع تعالى، وإثبات حدوث العالم .

(وإليه) أي إلى اللّه تعالى .

(يصير غدا ميعادها) أي ميعاد تلك الاُمور .

وأراد بالغد يوم القيامة .

(وبيده) أي بقدرته .

(فناؤها وفناؤكم) .

تقديم الخبر للحصر .

ص: 565


1- المصباح المنير، ص 239 (وصي)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 400 (وصي)
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 8 (بدأ)

(وتصرّم أيّامكم) ؛ عطف على الفناء. والتصرّم: التقطّع .

(وفناء آجالكم) .

الأجل، محرّكة: غاية الوقت في الموت، ومدّة الشيء . والأنسب هنا المعنى الثاني .

(وانقطاع مدّتكم) .

المدّة، بالضمّ: الغاية من الزمان ، والمكان الطويل من الدقّة، أو أعمّ .

(فكأن قد زالت عن قليل عنّا وعنكم) .

«كان» على صيغة الفعل. والمستتر في «زالت» راجع إلى الأيّام والآجال والمدّة . وكلمة «عن» الأولى بمعنى بعد، كما قيل في قوله تعالى : «عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ» (1) .

وقوله : (فتجافوا عنها) أي تنحّوا عن الدُّنيا، واتركوها، ولا تطمئنّوا فيها .

في القاموس : «جفا الشيء جَفاء، وتجافى: لم يلزم مكانه» (2) ؛ فإنّ المغترّ مَن اغترّ بها .

في القاموس : «غرّه غرّا وغرورا وغِرّة، فهو مغرور وغرير: خدعه، وأطمعه بالباطل. فاغترّ هو. والغارّ: الغافل. واغترّ: غفل» (3). انتهى .

وكأنّ تعريف المسند إليه للحصر؛ أي المخترع أو الغافل إنّما هو من اختدع بالدُّنيا، وغفل عن مكرها وحيلها، وركن إليها، واشتغل بزخارفها الفانية، وأعرض عن الصالحات الباقية .

(لن تعدو الدُّنيا) إلى قوله: (الآية) .

قد مرّ تفسير الآية بتمامها في كلام عليّ بن الحسين عليهماالسلام . ويحتمل أن يكون قوله: «الآية» من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، أو من كلام أبي عبد اللّه عليه السلام . فتدبّر .

وقوله : «أن تكون» مفعول «لن تَعدُو». يقال : عداه يعدوه، إذا جاوزه .

والاُمنيّة، بالضمّ: التمنّي، وهو المراد والمقصود؛ أي لن نتجاوز الدُّنيا إذا انتهت ووصلت إلينا متمنّيات الراغبين فيها، أو بلغت اُمنيّتهم فيها إلى الغاية والنهاية عن تلك الحالة ، وهي كونها مشابهة لما تضمّنته الآية الكريمة .

ص: 566


1- المؤمنون (23) : 40
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 313 (جفو)
3- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 101 (غرر)

والحاصل : أنّ حال أهل الدُّنيا والراغبين إليها في سرعة زوالهم وانقطاع نعيم الدُّنيا عنهم بعد تنعّمهم بها، وإقبالهم بالكلّيّة عليها، واغترارهم بزخارفها شبيهة بحال الأرض في سرعة تعقّب فناء زخرفها وزينتها بالنبات بعد كمال نضرتها وخضرتها، وحُسنها وبهجتها .

وقوله عليه السلام : (مع أنّه لم يُصب ...) ؛ إشارة إلى شوب نعماء الدُّنيا ببلائها، وخلط زهراتها بآفاتها، تحذيرا عن الركون إليها، والميل إلى تحصيلها .

قال الجوهري : «الخَيرة: الفاضلة من كلّ شيء. الخيرات جمع» (1).

وفي القاموس : الخير: المال، والخيل، والكثير الخير، كخيّر _ ككيّس _ وهي بهاء. الجمع: أخيار. وبالكسر: الكرم، والشرف . وخار تخيّر: صار ذا خَيْر. والرجل على غيره خَيرَةً وخيّرا وخيرةً: فضّله. واخترته الرجال، واخترته منهم وعليهم. والاسم: الخيرة، بالكسر، وكعِنبة (2).

وفي النهاية: «خار اللّه لك ؛ أي أعطاك ما هو [خير] لك . والخير بسكون الياء الاسم منه» (3).

وفي بعض النسخ: «حَبْرَةً» بالحاء المهملة المفتوحة، والباء الموحّدة، وهي السرور.

والنعمة : خير. والحسنة: وسعة العيش . والعَبرة، بالفتح: الدمعة قبل أن تفيض ، أو الحزن بلا بكاء، أو تردّد البكاء في الصدر. كذا في القاموس(4)

وفي الصحاح: «العَبرة: تحلّب الدمع» (5).

وقوله : (في جَناح آمن) .

قيل : أي في ظلّ جناحٍ آمن، أو تحت جناحه كبيض الطير أو فرخه. وفيه مكنيّة وتخييليّة (6). انتهى .

قال الفيروزآبادي : «الجناح: اليد، والعضد، والابط، والجانب، ونَفْسُ الشيء، والكتف،

ص: 567


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 651 (خير)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 25 (خير) مع التلخيص
3- النهاية ، ج 2 ، ص 91 (خير)
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 83 (عبر)
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 732 (عبر)
6- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 211

والناحية، والطائفة من الشيء _ ويضمّ _ والرَّوشن، والمنظر . ونحن في جناح سفر ؛ أي نريده» (1).

أقول : جميع هذه المعاني محتملة هنا، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وارتكاب استعارة عند إرادة أكثرها .

وقوله : (جائحة) .

قال الجوهري : «الجَوْح: الاستئصال. ومنه الجائحة، وهي الشدّة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة»(2).

وقوله : (وهولَ المطّلَع) ؛ بفتح اللّام، أي الموت .

وقيل : المراد به رؤية ملك الموت (3)

وقال الجوهري : «هو موضع الاطّلاع من إشراف إلى انحدار» (4).

وقال الجزري : «يريد به الموقف يوم القيامة، أو ما يُشرف عليه من أمر الآخرة عقيب الموت، فشبّهه بالمطّلع الذي يشرف عليه من موضع عال» (5).

(والوقوفَ بين يدي الحكم العدل) .

في القاموس : «الحكم، بالضمّ: القضاء. والحاكم : مُنفِذ الحكم، كالحَكَم محرّكة» (6).

وقد أشار عليه السلام بذكر الوقوف إلى ذلّ الخلائق حينئذٍ، وبذكر الحكم إلى نفاذ حكمه تعالى عليهم، وبذكر العدل إلى أنّه يثيب المطيع، ويعاقب العاصي، ولا يجور في حكمه .

وقوله : (تُجزى) على بناء المجهول . و(كلّ نفس) قائم مقام فاعله .

ولعلّ الجملة حاليّة، وذو الحال النفس الواقفة التي تفهم من الوقوف. وذكر كلّ نفس من قبيل وضع المظهر موضع المضمر .

وقيل : كأنّ الجملة استئنافيّة، جوابا عن سبب الوقوف، أو غَرَضه (7).

وقوله : (ليجزي الذين أساؤؤا ...) تفصيل للسابق .

ص: 568


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 211
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 219 (جنح)
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 360 (جوح)
4- الصحاح ، ج 3 ، ص 1254 (طلع)
5- النهاية ، ج 3 ، ص 133 (طلع)
6- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 98 (حكم)
7- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 212

قال اللّه _ عزّ وجلّ _ في سورة النجم : «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدى * وَللّهِِ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا» (1).

قال البيضاوي : بعقاب ما عملوا من السوء، أو بمثله، أو بسبب ما عملوا من السوء، وهو بمثله دلّ عليه ما قبله؛ أي خلق العالَم، وسوّاه للجزاء. أو ميّز الضالّ عن المهتدي، وحَفِظ أحوالهم لذلك ، «وَيَجْزِي الَّذِيْنَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنى» : بالمثوبة الحسنى، وهي الجنّة، أو بأحسن من أعمالهم، أو بسبب الأعمال الحسنى (2). انتهى .

والظاهر أنّ اللّام في الحديث تعليل للوقوف .

(وسارعوا إلى رضوان اللّه ) .

الرضوان، بالكسر والضمّ: الرضا . والمراد هاهنا سببه .

وقوله : (بمَحابّه) ؛ يحتمل أن يكون بفتح الميم وتشديد الباء، جمع محبوبة؛ أي الأعمال المحبوبة للّه . أو جمع محبّ، أو محبّة، اسم مكان من الحبّ، كمصادر ومدارس في جمع مصدر ومدرسة .

وقيل: المُحابّ اسم مفعول، بمعنى المحبوب في لغة هذيل (3).

(ويجتنب سخطه) أي موجبات سخطه وعقوبته .

(ثمّ إنّ أحسن القصص) .

في القاموس : «قصّ أثره قصّا وقصيصا: تتبّعه. والخبر: أعلمه . والقصّة، بالكسر: الأمر، والذي يكتب، الجمع كعنب» (4)

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» (5) : أي أحسن الاقتصاص؛ لأنّه اقتصّ على أبدع الأساليب. أو أحسن ما يقصّ؛ لاشتماله على العجائب والحِكم والآيات والعِبَر ، فعل بمعنى مفعول، كالنقص

ص: 569


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 212
2- النجم (53) : 30 و 31
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 258
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 313 (قصص) مع التلخيص
5- .يوسف (12) : 3

والسلب، واشتقاقه من قصّ أثره، إذا تَبِعَهُ (1).

(وأبلغ الموعظة) أي أتمّها وأكملها . أو البالغ غاية الفصاحة والبلاغة .

(وأنفع التذكّر) .

يفهم من كلام أرباب اللّغة أنّ التذكّر يتعدّى ولا يتعدّى . والمراد تذكّر اُمور الدُّنيا والآخرة، وتذكير ممّا له مدخل في الكمال .

(كتاب اللّه ) ؛ لاشتماله على جميع ذلك .

«وَإِذَا قُرِءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا» (2). الآية .

قال الجوهري : «الإنصات: السكوت، والاستماع للحديث . تقول : أنصتوا، وأنصتوا له» (3).

وقال بعض الأفاضل : «أمر بالاستماع؛ لينتقل إلى المقصود . وبالإنصات لئلّا يشتغل القلب بغيره . وجعل الغاية رجاء نيل الرحمة التي هي غاية اُمنيّة العابدين» (4).

وقوله تعالى : «وَالْعَصْرِ» .

قال البيضاوي : أقسم سبحانه بصلاة العصر؛ لفضله. أو بعصر النبوّة. أو بالدهر؛ لاشتماله على الأعاجيب، والتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران .

«إِنَّ الْاءِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ» ؛ إنّ الإنسان لفي خسران في مساعهيم وصرف أعمارهم في مطالبهم . والتعريف للجنس . والتذكير للتعظيم .

«إِلَا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» ؛ فإنّهم اشتروا الآخرة بالدُّنيا، ففازوا بالحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة .

«وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ» بالثابت الذي لا يصحّ إنكاره من اعتقاد أو عمل .

«وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (5) عن المعاصي، أو على الحقّ، أو ما يبلو اللّه [به] عباده . وهذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة . انتهى (6).

والمشهور أنّ اللّام «في الإنسان» للاستغراق بقرينة الاستثناء .

ص: 570


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 272
2- الأعراف (7) : 204
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 268 (نصت)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 213
5- العصر (103) : 1 - 4
6- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 526

واعلم أنّه يستفاد من هذا الخبر عدم وجوب القراءة في الخطبة الثانية؛ لأنّه عليه السلام يقرأ فيها شيئا من القرآن .

ويؤيّده موثّقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ؛ فإنّ فيها أيضا دلالة على اختصاص القراءة، والوعظ بالاُولى في الصلاة على النبيّ وآله، والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات بالثانية .

وبه أفتى المحقّق رحمه الله في النافع والمعتبر (1) . وهو منقول عن السيّد المرتضى (2)

ويظهر من عبارة الشيخ في النهاية والاقتصاد أنّ القراءة بين الخطبتين (3).

وذهب في الخلاف (4) إلى وجوب القراءة في الخطبتين جميعا ، لكنّه اكتفى بالآية التامّة الفائدة فيهما، وهو مختار أكثر المتأخّرين .

وقال في المبسوط (5) بوجوب سورة خفيفة فيهما، وهو مختار ابن حمزة، وابن إدريس، وجماعة . ولعلّه أحوط.

ولم يتعرّض أبو الصلاح بوجوب القراءة في شيء من الخطبتين أصلاً (6).

وقوله : (وبارك على محمّد وآل محمّد) .

في القاموس : «البركة، محرّكة: النّماء، والزيادة، والسعادة. وبارك اللّه لك ، وفيك ، وعليك، وباركك. وبارك على محمّد وآل محمّد: أدِم له ما أعطيته من التشريف والكرامة» (7). انتهى .

وقيل : «بارك» إمّا من بروك البعير، إذا استناخ، ولزم مكانا واحدا لا يخرج منه . أو من البركة . والمعنى على الأوّل: أدِمْ عليهم الكرامة والتشريف ، وعلى الثاني: زدهم تشريفا بعد تشريف، وكرامةً بعد كرامة (8). فليتأمّل .

وقوله : (وتحنّن) .

قال الجوهري : «الحَنان: الرحمة . وتحنّن عليه: ترحّم» (9).

ص: 571


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 213
2- المختصر النافع ، ص 35 و 36 ؛ المعتبر، ج 2 ، ص 280 - 284
3- حكاه عنه في المعتبر ، ج 2 ، ص 282
4- اُنظر : النهاية ، ص 103 - 104 ؛ الاقتصاد ، ص 267
5- الخلاف ، ج 1 ، ص 244
6- المبسوط ، ج 1 ، ص 151 و 152
7- اُنظر : الكافي في الفقه ، ص 151
8- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 293 (برك)
9- الصحاح ، ج 5 ، ص 2104 (حنن)

وقوله : (وسلِّم) .

قيل : أي خلّصهم من الآفات الدنيويّة والاُخرويّة، وطهّرهم من الأرجاس البدنيّة والروحانيّة، وهم طاهرون منها . والطلب للتمنّي، والتبرّك، والتقرّب بهم (1).

في القاموس : «سلِم من الآفة _ بالكسر _ سَلامة. وسلّمه اللّه منها تسليما. وسلّمته إليه تسليما، فتسلّمه: أعطيته، فتناوله . والتسليم: الرضا» (2).

وقوله : (كأفضل ما صلّيت) إلى قوله : (إنّك حميدٌ مجيد) .

لعلّ الكاف زائدة، كما قيل في قوله تعالى : «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ» في وجه . وقيل : أراد أن يكون كلّ فرد من أفراد الصلاة على محمّد وآل محمّد ، وكذا كلّ فرد من أفراد ما عطف عليها، كأفضل أفراد الصلاة على إبراهيم، وأفضل أفراد ما عطف عليها في كونه في غاية الكمال .

وبالجملة للصلاة على إبراهيم أفراد متقاربة بعضها في غاية الكمال دون بعض ، وأراد بالتشبيه أن يكون كلّ فرد من أفراد الصلاة على محمّد وآله كأفضل أفراد الصلاة على إبراهيم في بلوغه إلى حدّ الكمال ، فلا يلزم منه إلحاق الناقص بالكامل، بل اُلحِق كلّ فرد من طرف المشبّه بأفضل الأفراد من طرف المشبّه به ، بل يفهم منه تفضيله صلى الله عليه و آله على إبراهيم وتفضيل صلاته على صلاته .

وعليه فقس . فليتأمّل (3). انتهى .

وقال صاحب العدّة : الحميد هو المحمود الذي استحقّ الحمد بفعاله ؛ أي يستحقّ الحمد في السرّاء والضرّاء ، وفي الشدّة والرخاء (4). والمجيد هو الواسع الكريم ؛ يُقال: رجلٌ ماجد، إذا كان سخيّا واسع العطايا .

وقيل : معناه الكريم العزيز، ومنه قوله عزّ وجلّ : «قُرْآنٌ مَجِيدٌ» (5) ؛ أي كريمٌ عزيز .

والمَجْد في اللغة: نيل الشرف، وقد يكون بمعنى ممجّد؛ أي مجّده خلقه، وعظّموه (6).

ص: 572


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 213
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 130 (سلم)
3- إلى هاهنا كلام القائل ، وهو المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 213 و 214
4- عدّة الداعي ، ص 303
5- البروج (85) : 21
6- عدّة الداعي ، ص 309

(اللّهُمَّ أعطِ محمّدا الوسيلة) إلى آخره .

قد مرّ أنّ الوسيلة منبر يوضع يوم القيامة له ألف مرقاة .

وقال في القاموس : «الوسيلة: المنزلة عند الملك، والدرجة، والقربة» (1).

وقال : «الشرف، محرّكة: العلوّ، والمكان العالي، والمجد، أو لا يكون إلّا بالآباء أو علوّ الحسب» (2).

وقال: «الفضل: ضدّ النقص. والفضيلة: الدرجة الرفيعة في الفضل» (3) و

قال : «المنزلة: موضع النزول، والدرجة» (4).

وقوله : (وأوجههم عندك يوم القيامة جاها) .

قال الجوهري : «وَجُهَ الرّجل _ بالضمّ _ أي صار وجيها؛ أي ذا جاه وقدر . ووجوه البلد: أشرافه» (5)

وقال في معتلّ العين: «الجاه: القدر، والمنزلة» (6).

وفي القاموس : «الوجه: سيّد القوم. الجمع: وجوه، كالوجيه، الجمعُ: وُجَهاء. والوجيه: ذو الجاه» (7).

وقوله : (وحباء السلام) .

الحباء، ككتاب: العطاء بلا مَنّ ولا جزاء، كالحبوة مثلّثة . ولعلّ المراد: أعطه عطيّة سلامتك، بأن يكون سالما عن جميع ما يوجب نقصا، أو اجعله متمكّنا من أن يحبو ويعطى السلامة من أنواع البلاء والعذاب لمن أراد ، وأعطه واُمّته تحيّة السلام من عندك، بأن يسلّم عليهم الملائكة في الجنان رسلاً من عندك .

وقوله : (غير خَزايا) .

قال الجوهري: «خَزِي _ بالكسر _ يَخْزي خزايَة؛ أي استحياء، فهو خَزْيان، وقومٌ خزايا» (8).

ص: 573


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 64 (وسل)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 157 (شرف)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 31 (فضل)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 56 (نزل)
5- الصحاح ، ج 6 ، ص 2255 (وجه) مع تلخيص
6- الصحاح ، ج 6 ، ص 2231 (جوه)
7- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 295 (وجه)
8- الصحاح ، ج 6 ، ص 2326 (خزي)

(ولا ناكبين) .

نكث العهد والجبل ، إذا نقضه . وفي بعض النسخ: «ناكبين» بالباء الموحّدة؛ أي متنكّبين عادلين عن دينه واتّباعه .

(ولا نادمين) عن قبائح أعمالنا .

(ولا متبدّلين (1) ) .

في بعض النسخ : «ولا مبدّلين» .

بدل الشيء، بالتحريك وبالكسر: الخلف منه. وتبدّله، وبه : اتّخذه منه بدلاً . كبدّله . والمراد تبديله صلى الله عليه و آله بغيره، أو تبديل دينه وشرائعه .

وقوله : (ثمّ جلس قليلاً) ؛ يدلّ على اشتراط الجلوس الخفيف بين الخطبتين للتأسّي .

ويؤيّده روايات اُخر، وهو المشهور بين الأصحاب .

وقوله عليه السلام : (الحمد للّه أحقّ من خُشي) ؛ على بناء المفعول .

وكذا قوله : (وحُمِدَ) .

وجه كونه تعالى أحقّ لها بأنّ استحقاق أحد للخشية والخوف منه، وللحمد والثناء له إنّما هو على قدر عظمته وقدرته، وكثرة إحسانه وإنعامه، وقد عجزت عن معرفة عظمته وقدرته عقول العارفين، وعن إحصاء آلائه ونعمائه ألسِنَة الواصفين .

(وأفضل مَن اتُّقي) على بناء المجهول؛ أي اُجتُنِبَ عن مخالفته وعقوبته.

(وعُبِد) أي يتذلّل له غاية التذلّل .

(وأولى مَن عُظّم ومُجّد) .

التعظيم: التفخيم، والتكبير . ويُقال : مجّده تمجيدا ؛ أي عظّمه ، وأثنى عليه .

ووَجهُ كونه سبحانه أولى بهما لأنّهما إنّما يكونان إمّا لشرف الذات، أو لكمال الأفعال والصفات ، وكلّ ذلك له تعالى على وجه الكمال .

(نحمده لعظيم غَنائه) .

قد عرفت سابقا وجه تعقيب ما يدلّ على التجرّد بما يدلّ على الدوام والاستمرار .

ص: 574


1- في المتن الذي ضبطه الشارح رحمه الله سابقا : «مبدّلين»

قال الجوهري : «الغَناء، بالفتح: النفع» (1).

(وحُسْن بلائهِ) . يُقال : بلوته بَلْوا وبَلاءً، إذا اختبرته، وامتحنته، وجرّبته . وحُسن بلائه تعالى خير الصنيع الذي يختبر به عباده، بحيث يوجب تذكّر أمر الآخرة، وتهيئة أسبابها . وقد يُطلق البلاء على النعمة والعطيّة .

(ونؤمن بهُداه الذي لا يَخْبو ضياؤه) .

خبت النار والحرب والحدة تخبو خَبْوا وخُبُوّا: سكنت، وطُفِئَت . وأخْبيتها: أطفأتها .

وقيل : المراد بالهدى القرآن، أو الرسول، أو القوانين الشرعيّة. وعلى التقادير تشبيهه بالنار مكنيّة، وإثبات الضياء له تخييل، وذكر الخبو ترشيح (2).

(ولا يتمهّد سَناؤه) .

قال الجوهري والفيروزآبادي : «التمهّد: التمكّن» (3).

والسنا، بالقصر: ضوء البرق. وبالمدّ: الرفعة. وكان الفعل على بناء المفعول ، والمعنى: لا يتمكّن أحد من بلوغ سنائه، ونيل رفعته وعلوّه .

وربّما قيل : التمهّد من المهد: للموضع الذي يهيّأ للصبيّ، أو من المهاد، وهو الفراش الذي يوضع ويُبسط ويوطأ، وأيّا ما كان فهو كناية عن الوضع والخفض. والسنا على الأوّل بالقصر، وعلى الثاني بالمدّ. فليتأمّل جدّا؛ فإنّه من زال الأقدام .

وفي بعض النسخ: «لا يَهْمُدُ». وفي بعضها: «لا يتهمّد»، وهما من الهمود بمعنى الموت، وطفؤ النار، أو ذهاب حرارتها .

(ولا يوهن عُراه) .

في القاموس : «الوَهْن: الضعف في العمل، ويحرّك، والفعل كوعد وورث وكرم. وأوهنه: أضعفه»(4).

وفيه: «العروة من الدلو والكوز: المقبض. ومن الثوب: اُخت زره، كالعرى، ويكسر» (5). انتهى .

ص: 575


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2449 (غني)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 215
3- الصحاح ، ج 2 ، ص 541 (مهد)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 276 (وهن)
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 361 (عرو)

ولعلّ المراد بالعرى هنا الأنبياء والأوصياء والأحكام الشرعيّة وقوانينها .

(ونعوذ باللّه من سوء كلّ الرّيب) أي من شرّ كلّ شكّ وشبهة يوجب الفساد في أمر الدِّين، أو ما يعمّ أمر الدُّنيا أيضا، والاستعاذة منه يجب على كلّ مكلّف، وإن كان من أهل التصديق والإيقان؛ لأنّه لا يأمن المزلّة والطغيان .

وقيل : هذا الكلام منه عليه السلام على سبيل التعظيم، أو التعبّد، أو إظهار العجز ، وإلّا فساحة عصمته وكماله وعلمه منزّهة من دخول الريب اللازم للجهل (1).

(وظُلَم الفتن) .

الظلم، كصُرَد: جمع الظلمة .

والفِتن، كعنب: جمع الفتنة _ بالكسر _ وهي الامتحان والاختبار، والحيرة في الأمر، واختلاف الناس في الآراء، والفضيحة، والعذاب، والمال، والأولاد، والمحنة، والضلال، والإضلال .

والإضافة من قبيل «لجين الماء»، أو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف مبالغة في وصف الفتن بالظلم .

وقيل : تشبيه الفتن بالشيء المظلم في عدم اهتداء من وقع فيه مكنيّة، وإثبات الظلمة لها تخييليّة (2).

(ونستغفره من مكاسب الذنوب) .

قيل : هي مواضع كسبها من الأفعال القبيحة، والأخلاق الذميمة، والعقائد الفاسدة (3).

وأقول : الظاهر أنّها جمع المكسب بمعنى الكسب .

قال الفيروزآبادي : «كسبه يكسبه كَسْبا وكسبا: طلب الرزق. أو كسب: أصاب. وكسبه: جمعه. وفلان طيّب المَكسب والمَكسِب والمكسبة _ كالمغفرة _ والمِكسبة بالكسر؛ أي طيّب الكسب» (4).

ص: 576


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 215
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 216
3- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 124 (كسب)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 216

وقال الجوهري : «كسبت أهلي خيرا، وكسبت الرجل مالاً فكسبه . وهذا ممّا جاء على فَعَلتُه ففعل» (1).

(نستعصمه من مساوي الأعمال) ؛ كأنّها جمع سوء _ بالفتح، أو بالضمّ _ على غير قياس، كالمحامد جمع حمد، أو جمع مَسأة .

قال الجوهري : «سأه يسوؤه سَوءا _ بالفتح _ ومساءة وسائية: نقيض سرّه. والاسم: السُوء بالضمّ. وقرئ : «عليهم دائرة السوء»؛ يعني الهزيمة والشرّ . ومن فتح، فهو من المساءة» (2).

وفي المصباح: «المساءة: نقيض المسرّة. وأصله: مَسوءة، على مَفْعلة بفتح الميم والعين ويكسر الواو في الجمع، فيقال: المساوي ، لكن استعملوا الجمع مخفّفا» (3). انتهى .

يعني أنّ أصله المساوئ بالهمزة، التي هي لام الفعل، فخفّفت بقلبها ياء .

(ومكاره الآمال) .

في القاموس : «الكرُه، ويضمّ: الإباء، والمشقّة. أو بالضمّ: ما أكرهت نفسك عليه، وبالفتح: ما أكرهك غيرك عليه. كرهه _ كسمعه _ كَرْها، ويضمّ، وكراهةً وكراهية ومَكرَهة، وتضمّ راؤه، وشيء كَرْهٌ بالفتح، وكخجل، وأمير : مكروه، وما كان كريها فكره ، ككرم»(4).

وفيه: «الأمل، كحبل ونجم وشبر: الرجاء. والجمع: آمال» (5).

والمراد هنا الطمع والرجاء في الاُمور الدنيويّة زائدا على قدر الكفاف .

(والهجوم في الأهوال) .

هجم عليه _ كنصر _ هجوما: انتهى إليه بغتةً، أو دخل فلانا أدخله. وهاله هولاً: أفزعه.

والهَوْل: المخافة من الأمر لا يُدرى ما يهجمُ عليه منه، وجمعه: أهوال .

(ومشاركة أهل الريب) .

لعلّ المراد بهم الذين يرتاب الناس فيهم بالخيانة والسرقة ونحوهما من الفسوق والمعاصي ، أو الذين يوقعون الناس في الشكّ والارتياب في اُمور الدِّين اُصولاً وفروعا، وبمشاركتهم مجالستهم، أو معاملتهم أو معاونتهم ومظاهرتهم في دينهم .

ص: 577


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 212 (كسب)
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 55 (سوأ)
3- المصباح المنير، ص 121(سوأ)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 291 (كره)
5- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 330 (أمل)

والظاهر أنّ قوله : (بغير الحقّ) تأكيدا لعمل الفجّار. والتقييد محتمل بعيد .

وقوله : (وسَنّوا سنّتك) أي ساروا على سيرتك، أو أحسنوا القيام عليها، أو امتثلوا بها .

في القاموس : «سنّ السكّين: أحدَّه، وصقّله. وسنّ المال: أرسله في الرعي، أو أحسن القيام عليه حتّى كأنّه صقّله. والشيء: صوّره. والطريقة: سارَ فيها. والسنّة، بالضمّ: السيرة» (1).

متن الحديث الخامس والتسعين والمائة

اشارة

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ:

سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: «لِكُلِّ مُؤْمِنٍ حَافِظٌ وَسَائِبٌ».

قُلْتُ: وَمَا الْحَافِظُ، وَمَا السَّائِبُ يَا أَبَا جَعْفَرٍ؟

قَالَ: «الْحَافِظُ مِنَ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى، حَافِظٌ مِنَ الْوَلَايَةِ يَحْفَظُ بِهِ الْمُؤْمِنَ أَيْنَمَا كَانَ، وَأَمَّا السَّائِبُ فَبِشَارَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله يُبَشِّرُ اللّهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ بِهَا الْمُؤْمِنَ أَيْنَمَا كَانَ، وَحَيْثُمَا كَانَ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (وما الحافظ) .

في بعض النسخ: «وأمّا الحافظ»، وكأنّه من طغيان القلم، وعلى تقدير صحّته جواب «أمّا» محذوف؛ أي أمّا الحافظ فقد عرفته، أو ظاهر، أو نحوهما .

وقوله : (الحافظ من اللّه _ عزّ وجلّ _ حافظ من الولاية) .

«من» الاُولى ابتدائيّة على الظاهر . ويحتمل كونها بيانيّة . وأمّا الثانية، فقد قيل: إنّها تعليليّة؛ أي لا حافظ من البلايا بسبب الولاية، أي ولاية أئمّة الحقّ، أو له حافظ بسبب الولاية ليحرس ولايته، لئلّا تضيع وتذهب بتشكيكات أهل الباطل. أو صلة للحفظ؛ إمّا بتقدير مضاف، أي يحفظ من ضياع الولاية وذهابها، أو بأن يكون المراد ولاية غير أئمّة الحقّ . أو

ص: 578


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 237 (سنن) مع التلخيص

بيانيّة؛ أي الحافظ هي الولاية تحفظه عن البلايا والفتن (1).

(يحفظ به المؤمن).

المستتر في «يحفظ» عائد إلى اللّه ، والضمير المجرور إلى ذلك الحافظ؛ أي يحفظ به من الخروج عن الولاية والشكّ فيها .

(أينما كان) من الشرق والغرب، والبرّ والبحر، والعمران والخراب .

(وأمّا السائب) ؛ كأنّه من السيب .

في القاموس: «السيب: العطاء، مصدر ساب: جَرى ومشى مُسرِعا» (2)

وقيل : يحتمل كونه من السائبة التي لا مالك لها بخصوصه ؛ أي سيّب لجميع المؤمنين(3).

ولا يخفى بُعده ، على أنّ المعروف من إطلاقات العرف وتصريحات أهل اللّغة عدم استعمال السائبة بهذا المعنى مجرّدا عن التاء . فليتأمّل .

(فبشارة محمّد) ؛ إضافة المصدر إلى الفاعل، أو لأدنى ملابسة ، والمراد بها القرآن، أو عند حضور الموت بالسعادة والكرامة .

وقيل : يحتمل بعيدا أن يكون المراد بها الرؤيا الحسنة . قال الجوهري : «بشره يَبشرُهُ من البشرى ، وكذا أبشر وبشر، والاسم: البشارة» (4).

وفي القاموس : «البشارة: الاسم، كالبُشرى، وما يُعطاه المُبشّر، ويضمّ فيهما» (5).

متن الحديث السادس والتسعين والمائة

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«خَالِطِ النَّاسَ تَخْبُرْهُمْ، وَمَتى تَخْبُرْهُمْ تَقْلِهِمْ».

ص: 579


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 63
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 84 (سيب)
3- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 63
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 590 (بشر)
5- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 373 (بشر)

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (خالط الناس تخبرهم) .

المخالطة: الممازجة . والمراد هنا المعاشرة والمصاحبة .

و«تَخبرهم» يحتمل كونه من التخبّر، وهو الاستخبار. أو من الخُبر _ بالضمّ _ وهو العلم بالشيء، وفعله كعلم. أو من الخبرة _ بالكسر _ بمعنى الامتحان والاختبار، وفعله كنصر .

وعلى التقادير يكون مجزوما لوقوعه جوابا للأمر .

وكذا قوله : (متى تَخبرهم) .

وقوله : (تَقْلهم) ؛ بكسر اللام وفتحها .

وهذا الكلام أمر في اللفظ، وخبر في المعنى ؛ يعني إن خالطت الناس، وجرّبتهم، تعرف حالهم في الحرص على جمع الدُّنيا، وصرف همّتهم بالكلّيّة على تحصيل زخارفها، وغفلتهم عن اللّه عزّ وجلّ وعن العمل للآخرة، وغيرها من أخلاقهم الذميمة وعقائدهم الخبيثة ، ومتى تعرفهم بتلك الحالة تعلمهم وتبغضهم أشدّ البغض، وتكرههم غاية الكراهة .

والغرض منه النهي عن المخالطة والمعاشرة الكثيرة بحيث تكون موجبة للاطّلاع على ما ذكره، وسببا للبغض والكراهة منهم .

قال الفيروزآبادي : «قلاه _ كرماه _ وقليه _ كرضيه _ قَلًى وقَلاءً ومَقْلِية: أبغضه، وكرهه غاية الكراهة، فتركه. أو قلاه في الهجر، وقَليه : في البغض» (1).

وقال : «لاُخبرنَّ خُبرك: لاُعلمنّ عِلمكَ . وَوَجدتُ الناس اُخبر تَقله؛ أي وجدتُهم مقولاً فيهم هذا؛ أي ما أحدٌ إلّا وهو مسخوط الفعل عند الخبرة» (2).

وقال الجزري: في حديث أبي الدرداء : وَجَدتُ الناس اُخبُرْ تقلِهْ. القلى: البغض. يُقال: قلاه يقليه قلًى وقِلًى، إذا أبغضه .

وقال الجوهري : «إذا فتحت مددت، ويقلاه لغة طيّ».

ص: 580


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 380 (قلي)
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 17 (خبر)

يقول : جرّب الناس؛ فإنّك إذا جرّبتهم قليتهم وتركتهم لما يظهر لك من بواطن سرائرهم . لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر؛ أي من جرَّبهم وخَبّرهم، أبغضهم وتركهم. والهاء في تَقله للسكت، ومعنى نظم الحديث: وجدت الناس مقولاً فيهم هذا القول . انتهى (1).

متن الحديث السابع والتسعين والمائة

اشارة

سَهْلٌ (2) ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، رَفَعَهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:

«النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَصْلٌ، فَلَهُ فِي الْاءِسْلَامِ أَصْلٌ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (الناس معادن) إلى آخره .

روت العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقّهوا» (3).

قال الجوهري : «عدنتُ البلد: توطّنته. وعدنت الإبل بمكان كذا: لَزِمَته، فلم تبرح . ومنه سمّي المعدِن _ بكسر الدال _ لأنّ الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء . ومركز كلّ شيء: معدنه» انتهى (4).

وأصل الشيء: أسفله . ونقل عن الكسائي في قولهم : «لا أصل له، ولا فَصْل» : «الأصل: الحسب. والفصل: اللسان» .

وقيل : أصل كلّ شيء ما يستند إليه ذلك الشيء، كالأب للولد، والعِرق للشجر، والنهر للجدول (5).

ص: 581


1- النهاية ، ج 4 ، ص 105 (خبر) . وانظر أيضا : الصحاح ، ج 6 ، ص 2467 (قلو)
2- السند معلّق على سابقه
3- م مسند الشهاب ، ج 1 ، ص 145 ، ح 196 ؛ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ ، ج 1 ، ص 19 ؛ رياض الصالحين للنووي ، ص 220 ؛ كنزل العمّال ، ج 10 ، ص 149 ، ح 28761
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2162 (عدن) مع تلخيص
5- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 218

إذا عرفت هذا فنقول : لعلّ المراد أنّ الناس مختلفون في الاستعدادات والقابليّات، والعقول والأخلاق، كاختلاف المعادن؛ فإنّ بعضها ذهب، وبعضها فضّة، وبعضها غير ذلك، فمن كان يظهر منه في الجاهليّة آثار العقل والإنصاف والمروّة والأخلاق المرضيّة، فهو يسرع إلى قبول الحقّ في الإسلام، ويتّصف بمعالي الأخلاق، ويجتنب عن الأوصاف الرذيلة والأعمال الدنيّة بعد المعرفة بها .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الناس متفاوتون في شرافة النسب والحسب كاختلاف المعادن ؛ فمن كان في الجاهليّة من أهل بيت شرف ورفعة، فهو في الإسلام أيضا يكون من أهل الرفعة والشرف بقبول الدِّين وانقياد الحقّ والتخلّق بكرائم الأخلاق ، فشبّههم عليه السلام باعتبار قابليّتهم واستعدادهم في الجاهليّة بما يكون في المعدن قبل استخراجه، وبعد دخولهم في الإسلام بما يظهر من كمال المعدنيّات، ونقصها بعد العمل فيها .

وقيل : المراد أنّ فيهم مبدأ الإيمان والكفر، وأصل الطاعة والمعصية، وغير ذلك من الخواصّ والآثار، والخيرات والشرور، وهي فيه كالنخلة في النواة، والنار في الحجر ، كما أنّ في المعادن ذهبا وفضّة، وجيّدا ورديئا ، كلّ ذلك يظهر بالتمحيص والتجربة والامتحان . وهذا الوجه قريب بما ذكرناه أوّلاً .

وقيل : لعلّ المراد أنّ من له في علم اللّه أصل الإيمان، ومادّته في الجاهليّة، فله ذلك بعد الإسلام، وهو يؤمن به ، ومن له مادّة الكفر فيها، فله ذلك بعده، وهو يكفر به . والغرض إظهار البُعد بين حال المؤمن وحال الكافر .

قال : ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى تقدّم بني هاشم على غيرهم في الشرف والمنزلة في الجاهليّة والإسلام؛ فإنّ شرفهم في الجاهليّة أيضا مشهور، فمكارم أخلاقهم لا يدفعها دافع (1).

متن الحديث الثامن والتسعين والمائة

اشارة

سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ (2) ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ:

ص: 582


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 218
2- السند معلّق كسابقه

تَمَثَّلَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام بِبَيْتِ شِعْرٍ لأْنِ أَبِي عَقِبٍ:

«وَيُنْحَرُ بِالزَّوْرَاءِ مِنْهُمْ لَدَى الضُّحى***ثَمَانُونَ أَلْفا مِثْلُ مَا تُنْحَرُ الْبُدْنُ».

وَرَوى غَيْرُهُ: «الْبُزَّلُ».

ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعْرِفُ الزَّوْرَاءَ؟» قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَقُولُونَ: إِنَّهَا بَغْدَادُ؟

قَالَ: «لَا»، ثُمَّ قَالَ عليه السلام : «دَخَلْتَ الرَّيَّ؟» قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «أَتَيْتَ سُوقَ الدَّوَابِّ؟» قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «رَأَيْتَ الْجَبَلَ الْأَسْوَدَ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ تِلْكَ الزَّوْرَاءُ، يُقْتَلُ فِيهَا ثَمَانُونَ أَلْفا (1) مِنْ وُلْدِ فُلَانٍ، كُلُّهُمْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ؟» قُلْتُ: وَمَنْ يَقْتُلُهُمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ؟

قَالَ: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَادُ الْعَجَمِ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (تمثّل أبو عبد اللّه عليه السلام ) .

في القاموس : «تمثّل بالشيء: ضربه مَثَلاً. وتمثّل: أنشد بيتا، ثمّ آخر ثمّ آخر» (2)

(ببيت شعر لابن أبي عَقِب) (3) ؛ بسكون القاف أو كسرها، وكأنّه سمع مضمونه من المعصوم، وأدرجه في سلك النظم.

وفيه دلالة على جواز التمثيل بالشعر وإنشاده إذا لم يتضمّن كذبا أو باطلاً .

(ويُنحر) ؛ على بناء المجهول، من النحر، وهو في الإبل بمنزلة الذبح في الشاة، وفعله كمنع . والمراد هنا القتل .

(بالزَّوراء) .

ص: 583


1- في كلتا الطبعتين وبعض نسخ الكافي : + «منهم ثمانون رجلاً»
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 49 (مثل)
3- .عبد اللّه بن أبي عقب الشاعر، الراوي عن الرسول وأمير المؤمنين عليه السلام ، وله كتاب أخبار وكتاب شعر ذكرهما النجاشي في رجاله، وهو الذي كتب عليّ عليه السلام على يده إلى الخوارج. وقيل: هو من جند إبراهيم بن الأشتر الذين بعثهم المختار لأخذ ابن زياد، ونقل لهم حديثا دالاًّ على غلبتهم. اُنظر: رجال النجاشي، ص 66؛ مستدركات علم رجال الحديث، ج 4، ص 471، الرقم 8022؛ و ص 490، الرقم 8113؛ معجم رجال الحديث، ج 7، ص 84

الباء بمعنى «في» . قال الفيروزآبادي :

الزوراء مال كان لاُحيحة، والبئر البعيدة، ودِجلة، وبغداد؛ لأنّ أبوابها الداخلة جُعلت مُزوّرة عن الخارجة، وموضع بالمدينة قرب المسجد، واسم لسوق المدينة، ودار كانت بالحيرة، والبعيدة من الأراضي، وأرض عند ذي خيم (1).

(منهم) أي من ولد فلان، كما سيجيء .

(لدى الضحى) .

ضَحوة النهار : بعد طلوع الشمس، ثمّ بعده الضُّحى، وهي حين تشرق .

وقوله : (ثمانون ألفا) قائم مقام فاعل «ينحر» .

(مثل ما تُنحر البُدْن) .

في القاموس: «البدنة، محرّكة: من الإبل والبقر، كالأضحية من الغنم، تُهدى إلى مكّة، للذكر والاُنثى. الجمع ككتب» (2).

وقال الجوهري : «جمعها بُدن _ بالضمّ وبضمّتين _ مثل عُسر وعُسُر» (3).

(وروى غيره) أي غير معاوية .

(البُزَّل) بدل «البدن».

وهذا كلام المصنّف، أو واحد من الرواة . والبازل من الإبل: ما طلع نابه، وذلك حين دخل في السنة التاسعة ، والذكر والاُنثى سواء. الجمع: بوازل، وبزل، كركع وكتب .

وقوله : (قال: لا) ؛ لعلّ المراد أنّ المقصود بالزوراء في هذا المقام ليس بغداد، إلّا أنّه لا يطلق عليها .

(ثمّ قال : دخلت الريّ) .

قيل : بين شطّ الفرات ودجلة موضع يُقال له: الريّ . وفي القاموس : «الريّ: بلدٌ معروف، والنسبة رازي» (4).

وقوله : (يُقتل فيها ثمانون ألفا من ولد فلان كلّهم يَصلح للخلافة) .

كلامه إشارة إلى واقعة تقع في عصر الصاحب عليه السلام ، أو قريب منه . ولعلّ «فلان» كناية عن

ص: 584


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 42 (زور)
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 200 (بدن)
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2077 (بدن)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 328 (ريي)

عبّاس؛ لما روي من استئصالهم في آخر الزمان، وصلاحيّتهم للخلافة؛ لكونهم من أولاد الخُلفاء، أو لرفعة شأنهم بحسب الدُّنيا .

وقيل : كأنّه أشار بذلك إلى قتال أمين مع المأمون؛ فإنّه وقع في الريّ ، وقتل عسكر أمين هناك، وكان عسكر مأمون من أهل خراسان وحواليها.

ويمكن أن يكون إشارة إلى قضيّة هلاكو (1).

انتهى .

متن الحديث التاسع والتسعين والمائة

اشارة

عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْيانا» (2). ؟

قَالَ: «مُسْتَبْصِرِينَ لَيْسُوا بِشُكَّاكٍ».

شرح الحديث

السند ضعيف، أو مجهول .

قوله تعالى : «لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّا وَعُمْيَانا» .

قال صاحب الكشّاف : ليس بنفي للخرور، وإنّما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، كما تقول : لا يلقاني زيد مُسِلما، هو نفي للسلام، لا للّقاء .

والمعنى: أنّهم إذا ذكّروا بها أكبّوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكِّر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها، فتراهم مكبّين عليها، مقبلين على من يذكّر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصممم العميان، حيث لا يعونها ولا يتبصّرون ما فيها، كالمنافقين وأشباههم . انتهى (3).

ص: 585


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 219
2- الفرقان (25) : 73
3- الكشّاف ، ج 3 ، ص 102

وقال البيضاوي : «قيل : الهاء للمعاصي المدلول عليها باللغو» (1).

قال : (مستبصرين) أي أكبّوا، وأقبلوا عليها مستبصرين .

(ليسوا بشُكّاك)؛ يعني في تلك الآيات بإنكارها، أو بعدم معرفة حقّها .

ويحتمل تعميم الآيات بحيث يشمل الأئمّة عليهم السلام .

متن الحديث المائتين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، (2) عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ فِي قَوْلِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (3) ، فَقَالَ: «اللّهُ أَجَلُّ وَأَعْدَلُ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِعَبْدِهِ عُذْرٌ لَا يَدَعُهُ يَعْتَذِرُ بِهِ، وَلكِنَّهُ فُلِجَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ».

شرح الحديث

السند مجهول .

وفي بعض النسخ: «عن إسماعيل بن مهران»، وهو الظاهر ، وحينئذٍ يكون كالسند السابق .

قوله تعالى : «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» (4) .

قال البيضاوي : عطف «فيعتذرون» على «يؤذن» ليدلّ على نفي الإذن والاعتذار عقيبه مطلقا، ولو جعله جوابا لدلّ على أنّ عدم اعتذارهم لعدم الإذن، فأوهَم ذلك أنّ لهم عذرا، لكن لم يؤذن لهم فيه (5).

وقوله عليه السلام : (ولكنّه فُلج) بالجيم، على بناء المجهول من الفلج، وهو الفوز، والظفر، والغلبة . يُقال : فلج الرّجل على خصمه _ كنصر _ إذا ظفر به، وغلب عليه. والاسم:

ص: 586


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 229
2- في النسخة وبعض نسخ الكافي: «عن عليّ بن إسماعيل بن مهران». والظاهر أنّه سهو ؛ لأنّا لم نجد رواية هذا الرجل بهذا العنوان في الأسناد والكتب الرجاليّة ، ورواية إسماعيل عن حمّاد تكرّرت في الكافي
3- .المرسلات (77) : 36
4- المرسلات (77) : 36
5- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 436

الفلج، بالضمّ .

وفي بعض النسخ بالحاء المهملة، وكأنّه من الفلاح بمعنى الفوز . والمآل واحد .

وقيل : هو من الفَلح، بمعنى الشقّ والقطع؛ أي قطع وكسر، فلم يكن له عذر في ترك الحقّ (1).

متن الحديث الواحد والمائتين

اشارة

متن الحديث الواحد والمائتينعَلِيٌّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدٍ الْكُنَاسِيِّ، قَالَ:

حَدَّثَنَا مَنْ رَفَعَهُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: «وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» (2) ، قَالَ: «هؤُلَاءِ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِنَا ضُعَفَاءُ، لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَتَحَمَّلُونَ بِهِ إِلَيْنَا، فَيَسْمَعُونَ حَدِيثَنَا، وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ عِلْمِنَا، فَيَرْحَلُ قَوْمٌ فَوْقَهُمْ، وَيُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيُتْعِبُونَ أَبْدَانَهُمْ، حَتّى يَدْخُلُوا عَلَيْنَا، فَيَسْمَعُوا حَدِيثَنَا، فَيَنْقُلُوهُ (3). إِلَيْهِمْ، فَيَعِيهِ هؤُلَاءِ، وَيُضَيِّعُهُ (4) هؤُلَاءِ، فَأُولئِكَ الَّذِينَ يَجْعَلُ اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ لَهُمْ مَخْرَجا، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ».

وَفِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» (5) ، قَالَ: «الَّذِينَ يَغْشَوْنَ الْاءِمَامَ» إِلى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» (6). ، قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُمْ، وَلَا يُغْنِيهِمْ، لَا يَنْفَعُهُمُ الدُّخُولُ، وَلَا يُغْنِيهِمُ الْقُعُودُ».

شرح الحديث

السند مرسل .

قوله تعالى في سورة الطلاق : «وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ» ؛ يعني بعدم إهمال حدوده، واجتناب ما نهى عنه .

«يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا» ؛ من المضائق والهموم .

ص: 587


1- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 220
2- الطلاق (65) : 2 و 3
3- في الطبعة القديمة : «فينقلونه»
4- في الطبعة القديمة : «وتضيّعه»
5- الغاشية (88) : 1
6- الغاشية (88) : 7

«وَيَرْزُقْهُ» فرجا «مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» من وجه لا يخطر بباله، ولم يتوقّع له، ولم يعتدّ به .

وقوله عليه السلام : (هؤلاء) إشارة إلى مَنْ الموصولة في الآية . والجمع باعتبار المعنى .

وقوله : (ضعفاء) ؛ يعني فقراء لا مال لهم، كما يدلّ عليه قوله : (ليس عندهم ما يتحمّلون به إلينا) ؛ يعني ليس عندهم شيء يتمكّنون به من الارتحال إلينا من الزاد والراحلة وسائر أسباب السفر .

قال الجوهري : «تحمّلوا واحتملوا بمعنى؛ أي ارتحلوا» (1).

وقوله : (فيسمعون حديثنا) ؛ متفرّع على المنفي .

(ويقتبسون من علمنا) .

اقتبس منه نارا وعلما؛ أي استفاده .

وقوله : (قوم فوقَهم) ؛ يعني بحسب المال والغناء .

وقيل : لعلّ المراد بالقوم أهل الخلاف كالزيديّة والإسماعيليّة ، ولو اُريد بهم الإماميّة فقط، أو الإماميّة أيضا، ينبغي حمل التضييع على تضييع العمل بالمروي، أو على الأعمّ منه ومن إنكاره إلّا أنّه يرد أنّ الإماميّة الناقلين إن عملوا به كانوا مندرجين تحت الآية كالضعفاء، بل هم أولى بالدخول، والضعفاء إن لم يعملوا كانوا خارجين عنها ، فالفرق بينهما بأنّ الناقلين خارجون، والمنقول إليهم داخلون غير واضح . فلتأمّل (2).

(وينفقون أموالهم) ؛ بتجهيز أسباب السفر .

(ويُتعبون أبدانهم) .

تَعِبَ تَعَبا ؛ أي أعيا، وأتعبه غيره .

وقوله : (فينقلوه) أي حديثنا .

(إليهم) أي إلى الضعفاء من الشيعة .

(فيَعيه هؤلاء) أي فيحفظه تلك الضعفاء . يُقال : وَعَيْت الحديثَ أعِيهِ وَعْيا، إذا حفظته .

(ويضيّعه هؤلاء) أي الأغنياء الناقلين .

ص: 588


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1677 (رحل)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 220

وقوله : (فأولئك) إلى قوله : (لا يحتسبون) ؛ يدلّ على أنّ المراد بالرزق في الآية الرزق الروحاني، وهو العلم بالشريعة والعمل به، وإن كان ظاهره الرزق الجسماني .

وبالجملة كما يتقوّى البدن بالرزق الجسماني، وتبقى حياته به، كذلك الروح يتقوّى وتبقى حياته بالأغذية الروحانيّة التي هي العلم والحكمة والإيمان والهداية ، وبدونها ميّت في صورة الأحياء، كما روي من أنّ فقد العلم فقد الحياة، ولا يقاس إلّا بالأموات .

فمراده عليه السلام كما دلّت الآية على أنّ التقوى سبب للرزق الجسمانيّة، وحصوله وتيسّره من غير احتساب، كذلك تدلّ على أنّها تصير سببا لحصول الرزق الروحاني وتيسّره، وهو العلم، وحكمة أهل العصمة من غير احتساب .

قوله تعالى : «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ» (1) .

قال البيضاوي : «الغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها؛ يعني يوم القيامة، أو النار، من قوله : «وَتَغْشى وُجُوهَهُمْ النَّارُ» (2) » (3).

وقال الجوهري : «الغاشية: القيامة؛ لأنّها تغشى بإفزاعها . الأصمعي : يقال: رماه اللّه بغاشية، وهي داء يأخذ في الجوف» (4).

وقوله عليه السلام : (الذين يَغشون الإمام) ؛ يحتمل أن يكون من الغشيان، أو الإغشاء، أو التغشية . قال الجوهري : «تقول : غشّيت الشيء تغشية، إذا غطّيته . وغَشيتَهُ غشيانا؛ أي جاءه. وأغشاه إيّاه غيره» (5). انتهى ؛ أي الذين يجيئون الإمام المنصوب من اللّه ورسوله بالسوء؛ أي يصيرون سببا لمجيء الناس إيّاهم به، أو الذين يسترون ويخفون فضله عليه السلام ، فالآية لبيان عقوباتهم الاُخرويّة .

وهنا احتمال آخر أدقّ، وهو أن يراد بالغاشية على هذا البطن الشيعة الخلّص الذين يغشون الإمام؛ أي يأتونه لتأدية حقّه، والاقتباس من علمه ، فقوله تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ» إلى قوله : «لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» (6) استئناف كلام لبيان حال مخالفيهم ومعانديهم، وعقوباتهم في الدُّنيا والآخرة .

ص: 589


1- الغاشية (88) : 1
2- إبراهيم (14) : 50
3- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 483
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2446 (غشا)
5- المصدر ، ص 2447
6- الغاشية (88) : 2 - 7

وقوله : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ» (1) إلى قوله : «وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ» (2) ؛ رجوع إلى بيان حال الشيعة ومثوباتهم الاُخرويّة، واللّه يعلم .

وبالجملة هذا التأويل غير ما ذكر من أنّ الغاشية القائم المنتظر عليه السلام يغشاهم بالسيف إذا ظهر ، والتاء على بعض تلك الاحتمالات للمبالغة .

وقوله : «لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» ؛ يفهم من كلام المفسّرين أنّه صفة ضريع، أو استئناف، كأنّه قيل : هل في أكل الضريع نفع مقصود من الطعام، وهو السمن، وإزالة الجوع ؟ فاُجيب بعدم النفع أصلاً .

في القاموس :

الضريع، كأمير: الشبرق، أو يبيسه، أو نبات رطبه يسمّى شِبرقا، ويابسه ضريعا، لا تقربه دابّة لخبثه، أو نبات في الماء الآجن له عروق لا تصل إلى الأرض، أو شيء في جهنّم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأحرّ من النار ونبات منتن يرمى به في البحر (3) انتهى .

والسمين: خلاف المهزول، وقد يكنّى به عن النفع . وأسمنه: جعله سمينا، أو أعطاه .

والجوع: ضدّ الشبع . وقيل : يُطلق على العطش، وعلى الاشتياق إلى الشيء أيضا (4).

(قال : لا ينفعهم، ولا يُغنيهم؛ لا ينفعهم الدخول، ولا يغنيهم القعود) .

الدخول: ضدّ الخروج، ويُقال : الدخول في الأمر: الأخذ فيه. والقعود: ضدّ القيام . ويُقال :

قعد عن الأمر، إذا تأخّر، وتباعد عنه. وقعد للأمر، إذا اهتمّ فيه .

إذا تمهّد هذا ، فنقول : يحتمل على تفسيره عليه السلام أن لا يكون قوله : «لا يسمن، ولا يُغني من جوع» صفة للضريع ، بل هو استئناف جواب سؤال ، والمستتر فيه راجع إلى الغشيان، كأنّه قيل : هل ينفع الغاشية ما قصدوه من إيصال الضرر إلى الإمام، وإطفاء نوره؟ فاُجيب بأنّه لا ينفعهم الدخول في أسباب الإضرار إليه، ولا ينفعهم القعود والاهتمام في ذلك .

هذا على بعض الاحتمالات التي ذكرناه في شرح قوله عليه السلام : «الذين يغشون الإمام»،

ص: 590


1- الغاشية (88) : 8
2- الغاشية (88) : 16
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 55 (ضرع)
4- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 221

وأمّا على الاحتمال الأدقّ فجملة «لا يسمن» وما عطف عليها صفة ضريع، أو استئناف، كما نقلناه عن المفسّرين .

وعلى التقديرين الضمير المستتر راجع إلى الضريع .

وقال بعض الأفاضل :

فسّر عليه السلام الغاشية بالجماعة الغاشية الذين يغشون الإمام؛ أي يدخلون عليه من المخالفين، فلا ينفعهم الدخول عليه، ولا يُغنيهم القعود عنده؛ لعدم إيمانهم وجحودهم ، فالمراد بالطعام على هذا البطن الطعام الروحاني؛ أي ليس غذاؤهم الروحاني إلّا الشكوك والشُّبهات والآراء الفاسدة التي هي كالضريع في عدم النفع والإضرار بالروح .

فقوله تعالى : «لَا يُسْمِنُ» لا يكون صفة للضريع ، بل يكون الضمير راجعا إلى الغشيان، وتكون الجملة مقطوعة على الاستئناف .

ويحتمل أن يكون صفة للضريع أيضا، ويكون المراد أنّه لا يعلمهم الإمام لكفرهم وجحودهم، وعدم قابليّتهم إلّا ما هو كالضريع، ممّا يوافق آراءهم تقيّةً منهم ، كما أنّه تعالى يطعم أجسادهم الضريع في جهنّم؛ لعدم استحقاقهم غير ذلك .

ويحتمل أن يكون المراد: الذين يغشون؛ أي يحيطون بالقائم عليه السلام من المخالفين والمنافقين ، فالإمام يحكم فيهم بعلمه ويقتلهم، ويوصلهم إلى طعامهم المهيّأ لهم في النار من الضريع ، ولا ينفعهم الدخول في عسكر الإمام؛ لعلمه بحالهم، ولا القعود في بيوتهم؛ لعدم تمكينهم إيّاهم (1). انتهى كلامه .

متن الحديث الثاني والمائتين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (2) ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3) ، قَالَ:

«نَزَلَتْ هذِهِ الْايَةُ فِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ الْجَرَّاحِ، وَعَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَالِمٍ مَوْلى

ص: 591


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 67 و 68
2- في الطبعة الجديدة وبعض نسخ الكافي : «الحسن»
3- المجادلة (58) : 7

أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، حَيْثُ كَتَبُوا الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ، وَتَعَاهَدُوا، وَتَوَافَقُوا لَئِنْ مَضى مُحَمَّدٌ، لَا تَكُونُ الْخِلَافَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَلَا النُّبُوَّةُ أَبَدا، فَأَنْزَلَ اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيهِمْ هذِهِ الْايَةَ».

قَالَ: قُلْتُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرا فَإِنّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» (1) ؟ قَالَ: «وَهَاتَانِ الْايَتَانِ نَزَلَتَا فِيهِمْ ذلِكَ الْيَوْمَ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : «لَعَلَّكَ تَرى أَنَّهُ كَانَ يَوْمٌ يُشْبِهُ يَوْمَ كُتِبَ الْكِتَابُ، إِلَا يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام ، وَهكَذَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الَّذِي أَعْلَمَهُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه و آله أَنْ إِذَا كُتِبَ الْكِتَابُ قُتِلَ الْحُسَيْنُ عليه السلام ، وَخَرَجَ الْمُلْكُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَقَدْ كَانَ ذلِكَ كُلُّهُ».

قُلْتُ: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ» (2) ؟ قَالَ: «الْفِئَتَانِ إِنَّمَا جَاءَ تَأْوِيلُ هذِهِ الْايَةِ يَوْمَ الْبَصْرَةِ، وَهُمْ أَهْلُ هذِهِ الْايَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ بَغَوْا عَلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَكَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ، حَتّى يَفِيئُوا إِلى أَمْرِ اللّهِ، وَلَوْ لَمْ يَفِيئُوا لَكَانَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْزَلَ اللّهُ أَنْ لَا يَرْفَعَ السَّيْفَ عَنْهُمْ حَتّى يَفِيئُوا، وَيَرْجِعُوا عَنْ رَأْيِهِمْ؛ لأنَّهُمْ بَايَعُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ، وَهِيَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالى، فَكَانَ الْوَاجِبَ عَلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنْ يَعْدِلَ فِيهِمْ حَيْثُ كَانَ ظَفِرَ بِهِمْ، كَمَا عَدَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله فِي أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ، وَعَفَا، وَكَذلِكَ صَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، حَيْثُ ظَفِرَ بِهِمْ مِثْلَ مَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِأَهْلِ مَكَّةَ حَذْوَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ».

قَالَ: قُلْتُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» (3). ؟

قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، هِيَ الْمُؤْتَفِكَةُ».

قُلْتُ: «وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» (4). ؟

قَالَ: «أُولئِكَ قَوْمُ لُوطٍ ائْتَفَكَتْ عَلَيْهِمُ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ».

شرح الحدیث

السند ضعيف .

ص: 592


1- الزخرف (43) : 79 و 80
2- الحجرات (49) : 9
3- النجم (53) : 53
4- التوبة (9) : 70

قوله تعالى : «مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلَاثَةٍ» .

قال البيضاوي :

ما يقع من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يقدّر مضاف، أو يؤوّل «نجوى» بمتناجين، ويجعل «ثلاثة» صفة لها، واشتقاقها من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ فإنّ السرّ أمرٌ مرفوع إلى الذهن، لا يتيسّر لكلّ أحد أن يطّلع عليه .

«إِلَا هُوَ رَابِعُهُمْ» ؛ إلّا اللّه ، يجعلهم أربعة من حيث إنّه يشاركهم في الاطّلاع عليها، والاستثناء من أعمّ الأحوال .

«وَلَا خَمْسَةٍ» ؛ ولا نجوى خمسة .

«إِلَا هُوَ سَادِسُهُمْ» ؛ وتخصيص العددين إمّا لخصوص الواقعة؛ فإنّ الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأنّه وترٌ يحبّ الوتر ، والثلاثة أوّل الأوتار ، أو لأنّ التشاور لابدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يتوسّط بينهما .

«وَلَا أَدْنى مِنْ ذَلِكَ» ؛ ولا أقلّ ممّا ذكر كالواحد والاثنين .

«وَلَا أَكْثَرَ إِلَا هُوَ مَعَهُمْ» ؛ يعلم ما يجري بينهم .

«أَيْنَ مَا كَانُوا» ؛ فإنّ علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتّى يتفاوت باختلاف الأمكنة .

«ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ تفضيحا لهم، وتقريرا لما يستحقّونه من الجزاء .

«إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ؛ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكلّ على السواء (1).

وقوله : (فلان وفلان) ؛ يعني الأوّلين .

وقوله : (لا تكون الخلافة في بني هاشم ولا النبوّة) أي تعاقدوا في الكتاب على منع اجتماعهما في بني هاشم .

(فأنزل اللّه فيهم هذه الآية) المذكورة توبيخا لهم، ووعيدا على سوء صنيعهم .

وقوله تعالى : «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرا» .

قال البيضاوي :

يعني أبرموا أمرا في تكذيب الحقّ وردّه، ولم يقتصروا على كراهته .

ص: 593


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ء ص 310 و 311 ملخّصا

«فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» (1) أمرا في مجازاتهم، أو أم أحكم المشركون أمرا من كيدهم بالرسول، فإنّا مبرمون كيدنا .

ويؤيّده قوله : «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ» حديث أنفسهم بذلك.

«وَنَجْوَاهُمْ» وتناجيهم .

«بَلى» نسمعها.

«وَرُسُلُنَا» والحَفَظة مع ذلك.

«لَدَيْهِمْ» تلازم لهم.

«يَكْتُبُونَ» (2) ذلك (3). انتهى .

وعلى تفسيره عليه السلام يكون المراد أنّهم أبرموا أمر التعاهد والتعاقد في ردّ الخلافة ومنعها عن بني هاشم، وأحكموا ذلك الأمر بزعمهم ، وهو سبحانه أبرَمَ في مجازاتهم، وأحكم أمر الخلافة في أهلها .

وقوله : (يُشبه) من الإشباه، أو التشبيه على بناء المفعول . يُقال : أشبهه؛ أي ماثله. وشبّهه إيّاه، وبه تشبيها: مثّله، وجعله مثله .

(يوم) ؛ منصوب على التقديرين.

وقوله : (كُتب الكتاب) يحتمل كونه على صيغة الفعل المجهول، أو المصدر .

(إلّا يوم قُتل الحسين عليه السلام ) .

التشبيه باعتبار كونهما مصيبة عظيمة وبليّة شديدة لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم؛ لكون الأوّل أصلاً وسببا للثاني .

وقوله : (فقد كان ذلك كلّه).

كلمة «كان» تامّة؛ أي فقد تحقّق ووقع كلّ من كتب الكتاب في قتل الحسين عليه السلام ، وخروج المُلك من بني هاشم، كما أخبر اللّه نبيّه .

وقيل : ناقصة، وخبرها محذوف ؛ أي في علم اللّه تعالى (4).

ص: 594


1- الزخرف (43) : 79
2- الزخرف (43) : 80
3- تفسير البيضاوي، ج 5، ص 154
4- احتمله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 222

وقوله تعالى : «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» أي تقاتلوا .

قال الجوهري : «تقاتل القوم واقتتلوا بمعنى، ولم يدغم؛ لأنّ التاء غير لازمة»(1) والجمع باعتبار المعنى؛ فإنّ كلّ طائفة جمع، والتركيب من قبيل : «وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ» (2) .

«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا» بالنصح، والدعاء إلى حكم اللّه .

«فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا» ؛ فإن تعدّت إحدى الطائفتين .

«عَلَى الْأُخْرى» ؛ فطلبت ما ليست بمستحقّة له .

«فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» أي تتعدّى في القتال، أو بالعدول عن الصلح .

«حَتّى تَفِى ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ» ؛ ترجع إلى حكمه، أو إلى ما اُمرت به من ترك القتال والبغي .

وقيل: إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيّه . والمآل واحد .

«فَإِنْ فَاءَتْ» أي رجعت بعد القتال إلى أمر اللّه .

«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ» (3) .

قال البيضاوي : «بفصل ما بينهما على ما حكم اللّه ، وتقييد الإصلاح بالعدل هاهنا لأنّه مظنّة الحيف من حيث إنّه بعد المقاتلة» (4). انتهى .

وقال بعض المفسّرين :

الآية تدلّ على جواز قتال الباغي بالسلاح ، وعلى أنّه إذا قَبَض عن الحرب تُرِك، كما جاء في الحديث؛ لأنّه فاء إلى أمر اللّه ، وأنّه يجب معاونة من يُبغى عليه بعد تقديم النصح والسعي في المصالحة، وأنّ الباغي مؤمن .

وروي عن عليّ عليه السلام : «إخوانُنا بَغَوا علينا» (5) والصحيح أنّ الباغية في حال بغيها ليست بمؤمنة، فسمّاهم المؤمنين باعتبار كونهم مؤمنين قبل البغي، ونظيره قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ» (6). ، وليس بمؤمن حالة الارتداد (7).

ص: 595


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1799 (قتل)
2- التوبة (9) : 6
3- الحجرات (49) : 9
4- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 216
5- .قرب الإسناد ، ص 94 ، ح 318 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 83 ، ح 20033
6- المائدة (5) : 54
7- اُنظر: تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 216

وقوله عليه السلام : (الفئتان) ؛ كأنّه تفسير للطائفتين في الآية، كأنّ سائلاً سأل عن الطائفتين، فقال : الفئتان .

واللّام للعهد؛ أي هما الفئتان اللتان تعرفهما؛ يعني أصحاب عليّ عليه السلام ، وأصحاب الجمل، كما صرّح به في قوله عليه السلام : (إنّما جاء تأويل هذه الآية) أي تفسيرها، وبيان موردها.

والتأويل: تفسير ما يؤول إليه الشيء .

(يوم البصرة) أي يوم بغى أهلها على أمير المؤمنين عليه السلام ، وقتالهم معه .

وقوله : (لأنّهم بايعوا) ؛ يعني أمير المؤمنين عليه السلام .

(طائعين) أي منقادين .

(غير كارهين) ؛ قيل : هذا بيان لكفرهم وبغيهم على جميع المذاهب؛ فإنّ مذهب المخالفين أنّ مدار وجوب الطاعة على البيعة ، فهم بايعوا غير مكرَهين، فإذا نكثوا فهم على مذهبهم أيضا من الباغين (1).

(وهي) أي الطائفة المذكورة؛ يعني أهل البصرة .

(الفئة الباغية) أي المسمّاة بهذا الاسم في عرف الشرع .

(كما قال اللّه عزّ وجلّ) ؛ يعني بيّنهم وبيّن حكمهم في الآية السابقة .

(فكان الواجب) أي بحكم الآية .

وقوله : (حيث كان) ؛ كلمة تدلّ على المكان ؛ لأنّها ظرف في الأمكنة بمنزلة حين في الأزمنة .

وقيل : يجوز إطلاقها على الزمان مجازا .

وقوله : (إنّما منَّ عليهم وعفا) أي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله على أهل مكّة بعد الظفر عليهم، وعفا عنهم ما صنعوا به من الإيذاء والإهانة والتكذيب .

وقوله : (حَذْو النعل بالنعل) أي صنع أمير المؤمنين عليه السلام بأهل البصرة مثل ما صنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بأهل مكّة، كما تقطع إحدى النعلين على قدر الاُخرى . يُقال : حذوت النعل بالنعل، إذا قرّبت كلّ واحدةٍ على صاحبتها وقطعتها بقدرها .

ص: 596


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 70

وأنت خبير بأنّ ظاهر التشبيه لا يدلّ على المماثلة من جميع الوجوه، حتّى يجوز سَبْي ذراري البُغاة، ونهب أموالهم كالمشركين، بل التشبيه في أصل المنّ والعفو .

وقوله تعالى في سورة النجم : «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادا الْأُولى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» (1)

قال البيضاوي : «أي والقُرى التي ائتفكت بأهلها؛ أي انقلبت، وهي قرى قوم لوط، أهوى بعد أن رفعها ، فقلبها» (2) انتهى .

وأقول : الإهواء: الإسقاط من علوّ إلى سفل . ويحتمل أن تكون «المؤتفكة» معطوفة على «عادا الاُولى» ، أو جملة حاليّة، والعائد إلى ذي الحال محذوفا؛ أي أهواها .

ويحتمل كون «المؤتفكة» مفعول «أهوى»، والجملة معطوفة على «أهلك» . قال الفيروزآبادي : «أفكه ، وعنه، يأفكه إفكا: صرفه، وقلبه. والمؤتفكات : مدائن قلبت على قوم لوط عليه السلام ، وائتفكت البلدة: انقلبت» (3).

وقال : «هَوَى الشيء: سقط، كأهوى، وانهوى. وفلان: مات، وهويّا، بالفتح والضمّ [وهويانا]: سقط من علوّ إلى سفل» (4).

وقوله : (هم أهل البصرة) ؛ كأنّ المراد أهل المؤتكفة أهل البصرة، بأن يقدر في الآية مضاف، أو يُراد بالمؤتفكة أهلها مجازا .

(هي المؤتفكة) .

اللّام للعهد، وفسّر عليه السلام المؤتفكة في هذه الآية بالبصرة ، ويؤيّده ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «أنّها ائتفكت بأهلها مرّتين، وعلى اللّه تمام الثالثة، وتمام الثالثة في الرجعة» (5) وعن أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه في ذمّ أهل البصرة : «يا أهل المؤتفكة، ائتفكت بأهلها انقلبت بهم ثلاثا، وعلى اللّه تمام الرابعة» (6).

ومثله طرق العامّة . قال ابن الأثير: «في حديث أنس : البصرة إحدى المؤتفكات؛ يعني

ص: 597


1- النجم (53) 50 - 53
2- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 261
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 292 (أفك)
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 404 (هوي)
5- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 339 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 11 ، ص 28 ، ح 17
6- تأويل الآيات ، ص 689

أنّها غرقت مرّتين، فشبّه غرقها بانقلابها» (1) انتهى .

وأنت خبير بأنّه يمكن حمله ائتكافها على الحقيقة، كما هو ظاهر الأخبار .

(قلت : والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبيّنات) .

قال اللّه _ عزّ وجلّ _ في سورة التوبة : «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (2) .

قال البيضاوي :

المؤتفكات: قُريات قوم لوط ائتفكت بهم؛ أي انقلبت بهم، فصارَ عاليها سافلها، واُمطروا حجارةً من سجّيل .

وقيل : قُرَيات المكذّبين المتمرّدين، وائتفاكهنّ انقلاب أحوالهنّ من الخير إلى الشرّ (3). انتهى .

متن الحديث الثالث والمائتين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ حَنَانٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبِي يَرْوِي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«كَانَ سَلْمَانُ جَالِسا مَعَ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلُوا يَنْتَسِبُونَ وَيَرْفَعُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ حَتّى بَلَغُوا سَلْمَانَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَخْبِرْنِي مَنْ أَنْتَ، وَمَنْ أَبُوكَ، وَمَا أَصْلُكَ؟

فَقَالَ: أَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، كُنْتُ ضَالًا، فَهَدَانِي اللّهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله وَكُنْتُ عَائِلاً، فَأَغْنَانِي اللّهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَكُنْتُ مَمْلُوكا، فَأَعْتَقَنِي اللّهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ؛ هذَا نَسَبِي، وَهذَا حَسَبِي».

قَالَ: «فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله وَسَلْمَانُ _ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ _ يُكَلِّمُهُمْ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَا لَقِيتُ مِنْ هؤُلَاءِ جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَأَخَذُوا يَنْتَسِبُونَ وَيَرْفَعُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ حَتّى إِذَا بَلَغُوا إِلَيَّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ أَنْتَ، وَمَا أَصْلُكَ، وَمَا حَسَبُكَ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : فَمَا قُلْتَ لَهُ يَا سَلْمَانُ؟

ص: 598


1- النهاية ، ج 1 ، ص 56 (أفك)
2- التوبة (9) : 70
3- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 157

قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، كُنْتُ ضَالاًّ، فَهَدَانِي اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَكُنْتُ عَائِلاً، فَأَغْنَانِي اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ، وَكُنْتُ مَمْلُوكا، فَأَعْتَقَنِي اللّهُ _ عَزَّ ذِكْرُهُ _ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ؛ هذَا نَسَبِي، وَهذَا حَسَبِي.

فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ حَسَبَ الرَّجُلِ دِينُهُ، وَمُرُوءَتَهُ خُلُقُهُ، وَأَصْلَهُ عَقْلُهُ، وَقَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ» (1) .

ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله لِسَلْمَانَ: لَيْسَ لأحَدٍ مِنْ هؤُلَاءِ عَلَيْكَ فَضْلٌ إِلَا بِتَقْوَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ التَّقْوى لَكَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْتَ أَفْضَلُ».

شرح الحديث

السند مجهول .

قوله : (كنتُ مملوكا، فأعتقني اللّه ). روي: أنّه كان مملوكا ليهوديّة، فاشتراه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأعتقه .

وإرادة العتق من قيد النفس الأمّارة بعيد .

وقوله : (حسب الرجل دينه) .

قال الفيروزآبادي : الحَسَب: ما تعدّه من مفاخر آبائك، أوالمال، أوالدِّين، أو الكرم، أو الشرف في الفعل، أو الفعال الصالح، أو الشرف الثابت في الآباء. والحَسَب والكرم قد يكونان لمن لا آباء له شُرفاء، والشرف والمجد لا يكونان إلّا بهم. وقد حَسب حسابة _ كخطُب خطابة _ وحَسَبا، محرّكة، فهو حسيب من حُسَباء (2)

وقال : «الدِّين، بالكسر: الإسلام، والعادة، والعبادة، والطاعة، والذلّ، والسيرة، والتوحيد، واسم لجميع ما يُتعَبّد اللّه به، والمللة، والورع» (3).

(ومروّته في خلقه) .

في المصباح: «المروّة: آداب نفسانيّة يحمل الإنسان مراعاتها على الوقوف عند محاسن

ص: 599


1- الحجرات (49) : 13
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 54 (حسب)
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 225 (دين)

الأخلاق وجميل العادات .

يُقال : مَرُءَ الإنسان، فهو مَرِيءٌ، مثل قرب، فهو قريب؛ أي ذو مُروءة» (1)

وقال الجوهري : «المروءة: الإنسانيّة، ولك أن تشدّد» (2).

وفي القاموس : «الخلق، بالضمّ وبضمّتين: السجيّة، والطبع، والمروّة، والدِّين» (3).

(وأصله عقله) .

الأصل معروف، ويُطلق على جودة الرأي، وعلى الثبوت والرسوخ، وعلى الحسب .

ولعلّ الحمل هنا من قبيل حمل السبب على المسبّب؛ لكمال مدخليّته في السببيّة ، وقد أشار عليه السلام إلى أنّ هذه الثلاثة منشأ مزيّة الإنسان، لا شرف الآباء والنسب، واستشهد بقوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثى» من آدم وحوّاء ؛ أي جميعكم بنو أب واحد، واُمّ واحدة .

أو المراد بهما الأب والاُمّ لكلّ واحد؛ أي خلقنا كلّ واحدٍ منكم من أب واُمّ، فالكلّ سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب .

«وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ» .

قيل : الشعب، بالفتح: الجمع العظيم المنسوبون إلى أصل واحد. والجمع: شُعوب، من شعبت القوم _ كمنعت _ شَعْبا، إذا جمعهم، وفرّقهم، ضدّ، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة معا _ بالفتح والكسر _ تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفَخْذ يجمع الفضائل ، فأنساب العرب لها ستّ مراتب، فالشعب هو النسب الأوّل _ كخزيمة وعدنان _ وهو بمنزلة الجنس يندرج فيه سائر المراتب (4).

والقبيلة ما انقسم فيه أنساب الشعب، مثل كنانة . والعمارة ما انقسم فيه أنساب القبيلة، كقريش . والبطن ما انقسم فيه أنساب العمارة، كقُصيّ . والفخذ ما انقسم فيه أنساب بطن، كهاشم . والفصيلة ما انقسم فيه أنساب الفخذ، كعبّاس .

وقيل : الشعوب: عَرَب اليمن بن قحطان، والقبائل ربيعة ومُضرّ وسائر عدنان .

وقيل : الشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب .

ص: 600


1- المصباح المنير، ص 569 (مرء)
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 72 (مرأ)
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 229 (خلق)
4- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 72

وقيل : الشعوب بالمدينة والبلد، مثل مكّيّ ومدنيّ . والقبائل باعتبار الآباء، كالهاشمي مثلاً (1).

«لِتَعَارَفُوا» أي ليعرف بعضكم بعضا ؛ فإنّ بني آدم مع كثرتهم لو كانوا نوعا واحدا، ولم يختلفوا بأصناف القبائل ، والسودان والبيضان ، والعرب والعجم ، لم يحصل كمال التعارف والتمييز بينهم ، فهذا الاختلاف لتحقّق التعارف والتميّز، لا للتفاخر بالآباء والقبائل .

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ» (2). ؛ فإنّ التقوى بها تكمل النفوس، ويتفاضل الأشخاص، فمن أراد شرفا وفضلاً فليلتمس منها .

وقيل : المراد بالأتقى هنا من يكون دينه ومروّته وعقله على حدّ الكمال (3).

متن الحديث الرابع والمائتين

اشارة

عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام ، قَالَ:«لَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ عليه السلام ، صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللّهَ، وَأَثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:

إِنِّي وَاللّهِ لَا أَرْزَؤُكُمْ مِنْ فَيْئِكُمْ دِرْهَما، مَا قَامَ لِي عِذْقٌ بِيَثْرِبَ، فَلْيَصْدُقْكُمْ أَنْفُسُكُمْ، أَ فَتَرَوْنِي مَانِعا نَفْسِي وَمُعْطِيَكُمْ».

قَالَ: «فَقَامَ إِلَيْهِ عَقِيلٌ، فَقَالَ لَهُ: وَاللّهِ لَتَجْعَلَنِّي وَأَسْوَدَ بِالْمَدِينَةِ سَوَاءً؟

فَقَالَ: اجْلِسْ، أَ مَا كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ غَيْرُكَ، وَمَا فَضْلُكَ عَلَيْهِ إِلَا بِسَابِقَةٍ أَوْ بِتَقْوى».

شرح الحديث

السند حسن .

قوله : (لا أرزؤكم) إلى قوله : (بيثرب) .

في القاموس : «رَزَأهُ ماله _ كجعله وعلمه _ رَزْءً بالضمّ: أصاب منه شيئا . ورزأه رزءً ورَزئةً: أصاب منه خيرا.

والشيء: نقصه»(4).

ص: 601


1- اُنظر : شرح المازندراني ، ج 12 ، ص 226
2- الحجرات (49) : 13
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 226
4- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 16 (رزأ)

وفيه: «الفيء: الغنيمة، والخراج»(1).

وفيه: «العَذْق: النخلة بحملها. وبالكسر: القِنو منها ، والعنقود من العنب، أو إذا أكل ما عليه» (2). انتهى .

ويثرب مدينة الرسول صلى الله عليه و آله ، والظاهر أنّ تعليق عدم النقص من خرائجهم ونخيلهم ببقاء عذق له بيثرب كناية عن الدوام، أو عن تملّك شيءٍ، وإن قلّ . ولعلّ الثاني أظهر .

(فليصدقكم أنفسكم) ؛ يُقال : صدق في الحديث، وصَدّقه الحديث _ من باب قصر _ أي قال له صِدقا.

ولعلّ معناه: ارجعوا إلى أنفسكم، وأنصفوا، وليقل أنفسكم لكم صدقا في ذلك .

ويحتمل أن يكون من التصديق؛ أي فلتكن قلوبكم موافقة ألسنتكم في الجواب، ولا تقولوا بأفواهكم ما ليس في قلوبكم .

(أفتروني) . يحتمل كونه بسكون الواو وتخفيف النون، أو بضمّ الواو وتشديد النون، من الرؤية، أو من الرأي .

ويحتمل كونه من الإراءة على البناء للمفعول، بمعنى الظنّ؛ أي تظنّونني .

(مانعا نفسي ومعطيكم) ؛ كأنّ المراد مانعا نفسي من أخذ الغنيمة والخراج، زائدا عن النصيب، أو مطلقا، ومعطيكم أنصباءكم منهما؛ يعني ما زلتُ كذلك ، فالاستفهام للتقرير. أو مانعا نفسي من إحقاق الحقّ، وقانون الشرع، ومعطيكم على ما تشتهون من الجور والتفاضل في القسمة؛ أي لستُ كذلك ، فالاستفهام للإنكار والتوبيخ .

وفيه قطع لطمعهم عن الجور في القسمة .

وقوله : (لتجعلنّي وأسود) .

قيل : أراد به من أعتقه عمّار، فأعطاه أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة دنانير، كما أعطى سائر المسلمين (3).

وقوله ؛ (وما فضلك عليه) أي على الأسود.

ص: 602


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 24 (فيأ)
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 262 (عذق)
3- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 227

(إلّا بسابقة) من الأعمال، أو الإيمان أيضا .

(أو بتقوى) ؛ كأنّ المراد إثبات السابقة التقوى له، ونفي كونهما صالحين بسببيّة الافتخار، وتوفير الفيء والقسمة أو نفيهما عنه رأسا .

والحاصل أنّه لمّا افتخر عقيل رضى الله عنه بشرف النسب وكرم الأصل، زجره عليه السلام عن ذلك، وأشار إلى التفاضل والافتخار إنّما هو بالسابقة في الإيمان والصالحات، أو بتقوى اللّه الذي يحصل في ترك الدُّنيا، والإعراض عن الأهواء النفسانيّة .

متن الحديث الخامس والمائتين

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:

«قَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و آله عَلَى الصَّفَا، فَقَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ، وَإِنِّي شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّ لِي عَمَلِي، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَمَلَهُ، لَا تَقُولُوا: إِنَّ مُحَمَّدا مِنَّا، وَسَنَدْخُلُ مَدْخَلَهُ، فَلَا وَاللّهِ، مَا أَوْلِيَائِي مِنْكُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَا الْمُتَّقُونَ.

أَلَا فَلَا أَعْرِفُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَأْتُونَ تَحْمِلُونَ الدُّنْيَا عَلى ظُهُورِكُمْ، وَيَأْتُونِيَ (1). النَّاسُ يَحْمِلُونَ الْاخِرَةَ.

أَلَا إِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَفِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ فِيكُمْ».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (ألا فلا أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الدُّنيا على ظهوركم) .

الغرض منه النهي عن كونهم من أهل الدُّنيا والراغبين إليها ؛ أي لا تكونوا كذلك حتّى أعرفكم يوم القيامة، أو في الدُّنيا بهذه الصفة .

ويوم القيامة ظرف للمعرفة، أو للإتيان .

وجملة «تحملون» حال عن ضمير الجمع . والمراد

ص: 603


1- في الطبعة القديمة : «ويأتون»

بحمل الدُّنيا على الظهور الرغبة بزخارفها، والاشتغال بجمعها وتحصيلها، والتزيّن بزينتها .

وفي بعض النسخ: «أفلا أعرفكم» ؛ لعلّ المراد: تكونون كذلك، وأنّي لا أعرفكم .

وقيل : الهمزة حينئذٍ للاستفهام الإنكاري؛ أي بلى أعرفكم . فتأمّل (1).

(ويأتوني الناس) ؛ من قبيل «أكلوني البراغيث» .

وفي بعض النسخ: «ويأتيني الناس»، وهو أظهر . والمراد بالناس غير بني عبد المطّلب .

(يحملون الآخرة) على ظهورهم ؛ أي يتزيّنون بزينتها، وحبّ أعمالها، ويُعدَّون من أهلها .

وبالجملة نهاهم عن كونهم من أهل الدُّنيا، وغيرهم من أهل الآخرة .

وقوله : (قد أعذرت إليكم ...) ؛ لعلّ المراد إنّي قد أبديت عذرا، وبالغت فيه بحيث انتفى عنّي اللّوم .

(فيما بيني وبينكم) ؛ بإتمام الحجّة عليكم، وأنّ القرابة لا تنفعكم بدون العمل .

(وفيما بيني وبين اللّه ) من تبيلغ أحكامه إليكم، وأمركم بالتقوى والعمل للآخرة .

متن الحديث السادس والمائتين

اشارة

عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ:«رَأَيْتُ كَأَنِّي عَلى رَأْسِ جَبَلٍ، وَالنَّاسُ يَصْعَدُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتّى إِذَا كَثُرُوا عَلَيْهِ، تَطَاوَلَ بِهِمْ فِي السَّمَاءِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَتَسَاقَطُونَ عَنْهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَا عِصَابَةٌ يَسِيرَةٌ، فَفُعِلَ ذلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فِي كُلِّ ذلِكَ يَتَسَاقَطُ عَنْهُ النَّاسُ، وَيَبْقَى تِلْكَ الْعِصَابَةُ؛ أَمَا إِنَّ قَيْسَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَجْلَانَ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ».

قَالَ: «فَمَا مَكَثَ بَعْدَ ذلِكَ إِلَا نَحْوا مِنْ خَمْسٍ حَتّى هَلَكَ».

شرح الحديث

السند صحيح على تقدير توثيق محمّد بن خالد، وإلّا فضعيف .

قوله : (رأيتُ) ؛ من الرؤيا .

ص: 604


1- قاله العلّامة المجلسي رحمه الله في مرآة العقول ، ج 26 ، ص 73

قال الجوهري : «رأى في منامه رؤيا _ على فعلى _ بلا تنوين» (1).

وقوله : (تطاول بهم في السماء) .

الضمير المستتر راجع إلى «ذلك الجبل». والتطاول: الامتداد، والارتفاع. والباء للتعدية، و«في» بمعنى «إلى» .

(وجعل الناس يتساقطون عنه) أي عن ذلك الجبل .

وقيل : كأنّه عليه السلام أخبر بخروج كثير ممّن توسّل به عن الدين بعد موته عليه السلام (2).

قوله : (أما إنّ قيس بن عبداللّه بن عَجلان في تلك العصابة) .

في الصحاح : «العصابة من الرجال: ما بين العشرة إلى الأربعين» (3).

وقيس بن عبداللّه بن عجلان غير مذكور في كتب الرجال . روى الكشّي بإسناده عن ميسّر بن عبد العزيز، قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : «رأيت كأنّي على جبل، فيجيء الناس فيركبونه، فإذا ركبوا عليه تصاعد بهم الجبل (4). ، فيسقطون، فلم يبق معي إلّا عصابة يسيرة أنت منهم، وصاحبك الأحمر؛ يعني عبداللّه بن عجلان» (5) وروى أيضا عن حمدويه، عن محمّد بن عيسى، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن ابن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام : أنّه رأى نحو ذلك (6). ، وميسّر وابن عجلان فيمن يبقى .

وروى أيضا عن حمدويه بن نصر، عن محمّد بن عيسى، عن النضر مثله، وفيه: «أمّا إنّ ميسّر بن عبد العزيز وعبد اللّه بن عجلان في تلك العصابة، فما مكث بعد ذلك إلّا نحوا من سنتين حتّى هلك صلوات اللّه عليه» (7) انتهى .

ويفهم منه أنّ المستتر في قوله : (فما مكث) راجع إلى أبي جعفر عليه السلام ؛ أي فما عاش.

(بعد ذلك) أي بعد أن يرى تلك الرؤيا .

(إلّا نحو) .

ص: 605


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2349 (رأى)
2- قاله المحقّق المازندراني رحمه الله في شرحه ، ج 12 ، ص 228
3- الصحاح ، ج 1 ، ص 182 (عصب)
4- في المصدر : + «فينتثرون عنه»
5- رجال الكشّي ، ج 2 ، ص 512 ، ح 443
6- المصدر ، ح 444
7- المصدر

كذا في النسخ ، والظاهر «نحوا» بالنصب، كما في الكشّي (1).

(من خمس) أي خمس سنين .

(حتّى هلك) أي مات صلوات اللّه عليه .

متن الحديث السابع والمائتين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَصِيرٍ، قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عليه السلام يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلاً كَانَ عَلى أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَرَأى فِي مَنَامِهِ، فَقِيلَ لَهُ: انْطَلِقْ، فَصَلِّ عَلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ فِي الْبَقِيعِ، فَجَاءَ الرَّجُلُ، فَوَجَدَ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام قَدْ تُوُفِّيَ».

شرح الحديث

السند صحيح .

وضمير «عنه» راجع إلى أحمد بن محمّد بن خالد .

متن الحديث الثامن والمائتين

اشارة

عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام فِي قَوْلُهُ تَعَالى: «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (2) (بِمُحَمَّدٍ)» :«هكَذَا وَاللّهِ نَزَلَ بِهَا جَبْرَئِيلُ عليه السلام عَلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ».

شرح الحديث

السند مرسل ؛ لأنّ محمّد بن خالد ليس من رجال الصادق ، ويدلّ عليه أيضا ما وقع في بعض النسخ بعد قوله : «عن أبيه»: «عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام » ، ورواه العيّاشي أيضا هكذا (3).

ص: 606


1- المصدر ، ح 443
2- آل عمران (3) : 103
3- تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 194 ، ح 124

قوله تعالى : «وَكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ» .

شفا كلّ شيء: طرفه؛ أي كنتم على طرفها، ومشرفا على السقوط فيها بسبب الكفر والمعاصي .

متن الحديث التاسع والمائتين

اشارة

عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ عليه السلام : « «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا (ما) تُحِبُّونَ» (1). ،هكَذَا فَاقْرَأْهَا».

شرح الحديث

السند ضعيف .

قوله : (ما تحبّون) .

كذا في كثير من نسخ الكتاب، وهو الصحيح. وما وقع في بعضها: «ممّا تحبّون» لا يناسب قوله عليه السلام : «هكذا فاقرأها» ، وإن كان مطابقا للفظ القرآن .

قال البيضاوي :

«لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ» أي لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا برّ اللّه الذي هو الرحمة والرضا والجنّة. «حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» أي من المال، أو ما يعمّه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس ، والبدن في طاعة اللّه ، والمهجة في سبيله (2).

وقال: «الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحبّ . وقرأ بعض : «ما تحبّون»، وهو يدلّ على أنّ «من» للتبعيض . ويحتمل التبيين» (3). انتهى .

وأقول : في هذا الخبر دلالة على جواز القراءة والتلاوة على غير القراءات المشهورة، لكنّه ضعيف السند . فالأحوط عدم التعدّي عنها؛ لما ورد في الأخبار الكثيرة من تقرير أصحاب العصمة عليهم السلام أصحابهم على القراءات المشهورة، وترغيبهم بها حتّى يظهر القائم عليه السلام .

ص: 607


1- آل عمران (3) : 92 . وفيه : «ممّا» بدل «ما»
2- تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 64
3- المصدر ، ص 65

وقيل : المراد بقوله: «هكذا فاقرأها» أنّها هكذا في المعنى والإرادة دون اللفظ والقراءة.

وهو كما ترى (1).

ص: 608


1- تنبيه: نلفت أنظار القرّاء الأعزّاء إلى أنّنا عثرنا على نسخة كاملة لهذا الأثر القيّم بعد إتمام العمل في المجلّدين الأوّلين معتمدين على نسخة ناقصة، ونأسف لعدم الاستعانة بهذه النسخة الكاملة في تصحيح المجلّدين الأوّلين، إلّا أنّنا سنعتمدها _ إن شاء اللّه _ في تصحيح باقي هذا الشرح، ونعد المشتاقين بأنّنا سننشر بقيّة مجلّداتها عن قريبٍ إن شاء اللّه تعالى

الفهرس

الصورة

ص: 609

الصورة

ص: 610

الصورة

ص: 611

الصورة

ص: 612

الصورة

ص: 613

الصورة

ص: 614

الصورة

ص: 615

الصورة

ص: 616

الصورة

ص: 617

الصورة

ص: 618

الصورة

ص: 619

الصورة

ص: 620

الصورة

ص: 621

الصورة

ص: 622

الصورة

ص: 623

الصورة

ص: 624

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.