عنوان و نام پديدآور : الصحیح من سیره النبی الاعظم (ص )/ جعفرمرتضی العاملی
مشخصات نشر : سحرگاهان ، 1419ق . = 1377.
مشخصات ظاهری : ج 35
شابک : 130000ریال (دوره کامل ) ؛ 130000ریال (دوره کامل ) ؛ 130000ریال (دوره کامل ) ؛ 130000ریال (دوره کامل ) ؛ 130000ریال (دوره کامل ) ؛ 130000ریال (دوره کامل )
وضعیت فهرست نویسی : فیپا
يادداشت : عربی .
يادداشت : کتاب حاضر در سالهای مختلف توسط ناشرین مختلف منتشر گردیده است .
يادداشت : افست از روی چاپ بیروت : دار السیره
يادداشت : جلد دهم : الفهارس
یادداشت : کتابنامه
موضوع : محمد (ص) ، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق. -- سرگذشتنامه
موضوع : اسلام -- تاریخ -- از آغاز تا 41ق.
رده بندی کنگره : BP22/9 /ع 2ص 3 1377
رده بندی دیویی : 297/93
شماره کتابشناسی ملی : م 77-15929
محرر الرقمي: میثم حیدری
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
الصحيح من سيرة النبي الأعظم
تألیف: جعفر مرتضی عامری
الجزء الثاني
ص: 3
الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ط _ جدید)
تألیف: جعفر مرتضی عامری
الناشر: موسسه علمی فرهنگی دار الحديث، سازمان چاپ و نشر
سال انتشار: 1426 ق/1385 ه.ش
ص: 4
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ* اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ* مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ* إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ* اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ .
و الصلاة و السلام على محمد المصطفى، خاتم الأنبياء و المرسلين، و آله الكرام البررة الطيبين الطاهرين، و اللعنة على أعدائهم أجمعين، من الأولين و الآخرين، إلى يوم الدين.
و بعد. .
فإنني إذ أقدم إلى القراء الكرام هذا الكتاب: «الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله» أرى لزاما عليّ أن أشير-باختصار-إلى الأمور التالية:
1-لقد اعتمدت-بالدرجة الأولى-فيما كتبته هنا على مؤلفات القدماء، أما مراجعتي لمؤلفات المعاصرين، فلا تكاد تذكر؛ لأن ما راجعته منها رأيت أنه-عموما-يكرر ما كتبه أولئك، إلا في كيفية التنسيق و التبويب و الإخراج، ثم التبرير و التوجيه له، بزيادة:
أنهم يظهرون براعتهم و تفوقهم في ترصيف الكلمات البراقة، و صياغة الجمل و العبارات الرنانة في تأييده و تأكيده، من دون أي تحقيق له،
ص: 5
أو تدقيق فيه، صحة و فسادا؛ حتى ليخيل إليك أن تلك النصوص جزء من الوحي الإلهي، الذي لا يتطرق إليه الشك، و لا يرقى إليه الريب، مهما كانت متناقضة و متنافرة؛ إذ لا بد من الجمع بينها، و تمحل الوجوه لها، و لو كانت مما يأباه كل عقل، و لا يقره وجدان، و لا يرضاه ضمير، حتى إذا لم يمكن ذلك فلا بد من السكوت عنها، و الاعتراف بالعجز عن فهم حقيقة الحال فيها، و ذلك هو أضعف الإيمان.
2-لقد انصب اهتمامي في هذا الكتاب على الناحية التحقيقية حول صحة و عدم صحة الكثير مما يدعى أنه سيرة نبوية، أو تاريخ إسلامي، و لكن بالمقدار الذي يتناسب مع كتاب كهذا، يريد أن يعطي صورة متقاربة الملامح قدر الامكان عن فترة زمنية ثرية بالأحداث و المواقف الحساسة، و قد كانت و لا تزال محط النظر-بشكل رئيسي-لأهل المطامح و الأهواء السياسية، و المذهبية، و غيرها.
بل هي أخطر و أهم مرحلة تاريخية على الإطلاق؛ لأنها غيرت جذريا، و ليس فقط أصلحت كل الأسس و المنطلقات الخاطئة لكل قضايا و شؤون الإنسان و الإنسانية جمعاء.
و قد كانت المهمة في الحقيقة شاقة و صعبة للغاية، و لكنني رضيت بتحمل ذلك، لأنني أدركت مدى حاجة المكتبة الإسلامية إلى جهد كهذا، مهما كان ناقصا و محدودا؛ ليكون النواة و الخطوة الأولى على طريق اعتماد المنهج التحقيقي العلمي في التعرف على قضايا التراث، بصورة شمولية، و مستوعبة.
3-و قد يلاحظ القارئ لهذا الكتاب بعض الفجوات فيه، أو مدا و جزرا في الشمولية و الاستقصاء.
ص: 6
و له أن يرجع ذلك إلى أن هذا الكتاب قد أعد في فترات زمينة متباعدة، فرضها واقع الظروف التي تمنع الإنسان من الاستفادة من عنصر الوقت على النحو الأفضل و الأمثل.
كما أنه لا يمكن استبعاد حالات النشاط و الخمود الفكري التي تعتري الإنسان تبعا لتفاوت حالات الهدوء و الاستقرار، الأمر الذي يؤثر بشكل واضح على طبيعة ما يكتب، و يظهر فيه شيئا من التفاوت و الاختلاف في مستوى التعرض لبحوثه و قضاياه.
4-حيث إن التاريخ الإسلامي-كما سنرى-قد تعرض لمحاولات جادة للتلاعب فيه من قبل أصحاب الأهواء السياسية و المذهبية و غيرها، و تسربت إليه بعض الترهات و الأباطيل من قبل أهل الكتاب و غيرهم، ثم حاولت الأيدي الأثيمة و الحاقدة أن تعبث به تحريفا، أو تزييفا. فقد أصبح البحث، و الوصول إلى الحقائق فيه على درجة كبيرة من الصعوبة، إن لم يصل إلى حد التعذر أحيانا، فقد كان لا بد لنا من أخذ الأمور التالية بنظر الاعتبار:
ألف: إن الاعتماد على نوع معين من المؤلّفات و المؤلفين ربما يتسبب في حرمان القارئ من الاطلاع على نصوص تناثرت هنا و هناك، و استطاعت أن تخترق الحجب، و تقفز فوق الحواجز الثقيلة، و تصل إلينا سليمة-إلى حد ما-من التحريف، حين لم ير فيها السياسيون المحترفون خطرا، و لا رأى فيها المتمذهبون المتعصبون ضررا؛ فتركها هؤلاء و أولئك، ليتلقفها عشاق الحقيقة القليلون جدا؛ بعيدا عن غوغائية المتعصبين، و في مأمن و منأى من جبروت و تعنت الأشرار المحترفين.
ب: إننا رأينا-و الحالة هذه-أن البحث في الأسانيد، و الاعتماد عليها
ص: 7
كمقياس و معيار نهائي في الرد و القبول، إنما يعني: أن علينا أن نقتنع بنصوص قليلة جدا، لا تكاد تفي حتى بالتصور العام، و بالفهرسة الإجمالية للسيرة النبوية المباركة، فضلا عن تفصيل أحداث تاريخ صدر الإسلام.
و لسوف نخسر كثيرا من النصوص الصحيحة، التي لم توفق لسند تتوفر فيه أدنى شرائط القبول.
هذا بالإضافة إلى أن الباحث سوف يفقد حرية الحركة، و الربط و الاستنتاج، و لسوف لن يكون لفهمه العميق للأجواء و الظروف و للاتجاهات السياسية و الفكرية و غيرها الذي اكتسبه من الممارسة الطويلة، أية فعالية تذكر في استخلاص الحقائق، التي أريد لها-لسبب أو لآخر-أن تبقى طي الكتمان، و رهن الإبهام و الغموض.
هذا عدا عن المشكلات الكبيرة التي تواجه الباحث، و لا بد له من التغلب عليها، ليمكن للبحث السندي أن يكون مقبولا و معقولا لدى أرباب الفكر، و أساطين العلم و المعرفة.
و أهم هذه المشكلات هي مشكلة المعايير و المنطلقات و الضوابط للبحث السندي، و موازين القبول و الرد فيه، و التي يرتكز بعضها على أسس عقائدية أولية، يتطلب البحث فيها وقتا طويلا، وجهدا عظيما، إن لم ينته إلى الطريق المسدود، و يعود ممجوجا و عقيما في أكثر الأحيان؛ حيث يصر البعض على اتخاذ منحى لا يتسم بالنزاهة و لا بالموضوعية، خصوصا في النواحي العقائدية، و لا نملك إزاء هذا النوع من الناس إلا أن نقول:
قاتل اللّه الأهواء، و العصبيات، و المصالح الشخصية و الفئوية.
و على هذا الأساس نقول: إننا إذا كنا قد بحثنا-أحيانا-في الأسانيد،
ص: 8
فقد اعتمدنا في ذلك الطريقة المعقولة و المقبولة، المبنية على قاعدة: ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم، ثم الطرق التي يتوافق عليها إن لم يكن كل فأكثر أهل الفرق، و تؤدي إلى نتيجة مقبولة لدى الجميع، و إن كان منشأ هذا القبول يختلف بين هؤلاء و أولئك في أحيان كثيرة.
ج: لقد حتم علينا ذلك المنهج، بالإضافة إلى ما تقدم: أن نتخذ من المبادئ الإسلامية، و من القرآن، و من شخصية و خصائص و أخلاق الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» أساسا لتقييم كثير من النصوص المعروضة، و الحكم عليها بالرد أو القبول من خلال انسجامها مع ذلك كله، أو عدم انسجامها معه.
و ذلك ينسحب على كل شخصية استطعنا الحصول على فهم عام لسيرتها، و لخصائصها و أخلاقها، و مواقفها، و اتجاهاتها.
د: هذا بالإضافة إلى الكثير من أدوات البحث، التي توفرها الممارسة الطويلة في هذا الاتجاه، كتناقض النصوص، و الإمكانية التاريخية، من خلال المحاسبات التاريخية الدقيقة، و غير ذلك من وسائل استفدنا منها في بحوثنا هذه، مما سوف يقف عليه القارئ الكريم لهذا الكتاب.
5-و بعد، فإن الكل يعلم: أن المسلمين قد اهتموا بتدوين تاريخ الإسلام، بشكل لا نظير له لدى أي من الأمم الأخرى، فهو بحق و برغم كل المحاولات أثرى تاريخ أمة و أغناه على الإطلاق.
و حيث إن البحث في جميع جوانبه أمر متعسر، بل متعذر علينا، فقد آثرنا الاكتفاء بالبحث في جانب يستطيع أن يهيئ لنا تصورا عاما، و هيكلية متقاربة الملامح و السمات، عن حياة نبينا الأكرم محمد «صلى اللّه عليه و آله» .
ص: 9
6-لسوف يجد القارئ لهذا الكتاب أنني حاولت الاقتصار على أقل قدر ممكن من الشواهد و الدلائل و مصادرها المأخوذة منها، مع علمي بأن بالإمكان حشد أضعاف ذلك في تأييد و تأكيد الحقائق التي أوردتها بشكل عام.
7-إنني قد نسبت كل شيء استفدته أو استشهدت به إلى قائله، أو كاتبه و ناقله، و أما الأفكار التي لا مصدر لها، فهي جهد شخصي، لم أعتمد فيه على أحد.
8-و أخيرا، فقد كانت الفرصة تسنح أحيانا، في فترات الإحساس بشيء من النشاط الفكري لتسجيل بعض الملاحظات أو الالتفاتات أو التفسيرات لبعض المواقف أو القضايا و الأحداث.
و هي و إن كانت لا تصل في الأكثر إلى مستوى البحث الكامل و الشامل؛ لأنها جاءت على الأكثر بصورة عفوية، و مرتجلة، لم يسبقها إعداد، و لا مراجعة، و لا مطالعة، إلا أنها تعتبر-على الأقل-بمثابة استراحات للقارئ الكريم، كما كانت استراحات للكاتب نفسه من قبل.
و للقارئ الخيار بعد هذا في أن يحكم لها أو عليها، و إذا كان حكمه لها فهو بالخيار أيضا في أن يتلمس فيها شيئا من العمق، أو بعضا من الجمال.
و في الختام، فإنني أرجو من القارئ الكريم أن يتحفني بآرائه، و مؤاخذاته و لسوف أكون له من الشاكرين.
و الحمد للّه، و الصلاة و السلام على محمد و آله الطيبين الطاهرين.
إيران-قم المشرفة 16/12/1400 ه. ق.
جعفر مرتضى الحسيني العاملي
ص: 10
الباب الأول: البداية الطبيعية للسيرة الباب الثاني: من الميلاد إلى البعثة
ص: 11
ص: 12
الفصل الأول: ما قبل ميلاد النبي صلّى اللّه عليه و آله الفصل الثاني: بحوث تسبق السيرة
ص: 13
ص: 14
ص: 15
ص: 16
إن من البديهي: أن البداية الطبيعية و المعقولة لتاريخ الإسلام، و أعظم ما فيه و هو سيرة النبي الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» تحتم علينا إعطاء لمحة خاطفة عن تاريخ ما قبل البعثة، و ما اتصل بها من أحداث سبقتها، لنتعرف على الأجواء و المناخات التي انطلقت فيها دعوة الدين الحق، و هو دين الإسلام فنقول:
هي شبه جزيرة مستطيلة يحدها شمالا: الفرات، و آخر قطعاتها بادية الشام و السماوة، و فلسطين، و شرقا خليج فارس، و جنوبا خليج عدن، و المحيط الهندي، و غربا: البحر الأحمر (1).
الأولى: إنه لم يكن في جزيرة العرب حتى نهر واحد، بالمعنى الصحيح للكلمة (2)، و أكثرها جبال، و أودية، و سهول جرداء، لا تصلح للزراعة
ص: 17
و العمل. و من ثم فهي لا تساعد على الاستقرار، و تنظيم الحياة.
و من هنا فقد كان أكثر سكانها، بل قيل خمسة أسداسهم من البدو الرحل، الذين يمسون في مكان، و يصبحون في آخر.
الثانية: إن هذا الوضع قد جعل هذه المنطقة في مأمن من فرض السيطرة عليها من قبل الدولتين العظميين آنئذ: الرومان، و الفرس، و غيرهما؛ فلم تتأثر المنطقة بمفاهيمهم و أديانهم كثيرا، بل لقد هرب اليهود من حكامهم الرومان إلى جزيرة العرب، و احتموا فيها في يثرب (المدينة) و غيرها.
و قد نشأت عن هذا الوضع للجزيرة العربية، ظاهرة الدويلات القبلية، فلكل قبيلة حاكم، و كل ذي قوة له سلطان.
الثالثة: إن هذه الحياة الصعبة، و هذا الحكم القبلي، و عدم وجود روادع دينية، أو وجدانية قوية، قد دفع بهذه القبائل إلى ممارسة الإغارة و السلب ضد بعضها البعض، كوسيلة من وسائل العيش أحيانا، و أحيانا لفرض السيطرة و السلطان، و أحيانا أخرى للثأر و إدراك الأوتار، إلى آخر ما هنالك، فتغير هذه القبيلة على تلك؛ فتستولي على أموالها، و تسبي نساءها و أطفالها، و تقتل أو تأسر من تقدر عليه من رجالها، ثم تعود القبيلة المنكوبة لتتربص بهذه الغالبة الفرصة لمثل ذلك، و هكذا.
و من هنا، فإن من الطبيعي أن يكون شعور أفراد كل قبيلة بالنسبة لأبناء قبيلتهم قويا جدا، بدافع من شعورهم بالحاجة إلى بعضهم البعض للدفاع عن الحياة، و الكفاح من أجلها، مما كان سببا قويا لزيادة حدة التعصب القبلي، الذي لا يرثي، و لا يرحم، و لا يلين، حيث لا بد من الوقوف إلى جانب ابن القبيلة، سواء أكان الحق له، أو عليه، حتى لقد قال
ص: 18
شاعرهم يتمدحهم بذلك:
لا يسألون أخاهم حين يندبهمفي النائبات على ما قال برهانا (1)
و من الجهة الأخرى، فإن القبيلة تتحمل كل جناية أو جريمة يرتكبها أحد أبنائها، و تحميه من كل من أراده بسوء، بل يكون أخذ الثأر من غير الجاني إذا كان من قبيلته كافيا و شافيا للموتورين، الذين يريدون شفاء ما في نفوسهم، و إدراك أوتارهم.
أما الحضر في جزيرة العرب، و هم الذين يسكنون المدن، و يستقرون فيها، فإنهم و إن كانوا في حياتهم أرقى من العرب الرحل، إلا أن رقيهم هذا لم يكن بحيث يجعل الفارق بينهما كبيرا.
و من هنا، فإننا نلاحظ تشابها كبيرا فيما بينهما في العقلية، و في المفاهيم، و في العادات و التقاليد، و أساليب الحياة، و بدائيتها، هذا إن لم نقل:
إن العرب الرحل كانوا أصح أبدانا، و أفصح لسانا، و أقوى جنانا، و أصفى نفسا، و فكرا و قريحة.
و لكن امتياز هؤلاء و أولئك في بعض الأمور لم يكن إلى الحد الذي يحتم على الباحث فصل الحديث عنهما، و لا سيما بالنسبة إلى أولئك الحضريين الذي يسكنون الحجاز.
ص: 19
و الخلاصة: إننا إذا كنا لم نجد في تاريخ ما قبل الإسلام ما يبرر نسبة التفوق إلى أحد الطرفين على الآخر، كما يتضح من كلمات أمير المؤمنين الآتية و غيرها، فليس في فصل الحديث عنهما كبير فائدة، و لا جليل أثر.
و إن من يطالع كتب التاريخ سيرى بوضوح إلى أي حد كانت الحالة الاجتماعية متردية في العصر الجاهلي.
و قد قدمنا: أن السلب و النهب و الإغارة، و التعصب القبلي، و غير ذلك قد كان من مميزات الإنسان العربي، حتى إنه إذا لم تجد القبيلة من تغير عليه من أعدائها أغارت على أصدقائها، و حتى على أبناء عمها، يقول القطامي:
و كن إذا أغرن على قبيلو أعوزهن نهب حيث كانا
أغرن من الضباب على حلال (1)و ضبة إنه من حان حانا
و أحيانا على بكر أخيناإذا ما لم نجد إلا أخانا
و لقد رأينا: أن تلك الظروف الصعبة، و الفقر و الجوع، و الخلافات التي كانوا يعانون منها، و المفاهيم الخاطئة التي كانت تعيش في أذهانهم -و خصوصا عن المرأة-. .
و كذلك ظروف الغزو و الإغارة، التي تعني سبي النساء و الأطفال، قد دفعتهم إلى قتل أو و أد أولادهم، و لا سيما البنات، و كان ذلك في قبائل تميم،
ص: 20
و قيس، و أسد، و هذيل، و بكر بن وائل (1).
بل إننا نستطيع أن نعرف مدى شيوع الوأد بينهم من تعرض القرآن لهذه المسالة، و ردعه لهم عنها، و إدانتها، قال تعالى: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ (2).
و قال أيضا: وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (3).
كما أننا نجده «صلّى اللّه عليه و آله» قد نص على ذلك في بيعة العقبة و قد قال محمد بن إسماعيل التيمي-و غيره-تعليقا على هذا:
خص القتل بالأولاد؛ لأنه قتل و قطيعة رحم؛ فالعناية بالنهي عنه آكد؛ و لأنه كان شائعا فيهم، و هو وأد البنات و قتل البنين، خشية الإملاق الخ. . (4).
و يقول البعض: «كان هذا الوأد-على رأي بعض الباحثين-في عامة قبائل العرب» يستعمله واحد، و يتركه عشرة، أو كان على الأقل معروفا في بعض القبائل كربيعة، و كندة، و تميم (5).
و قد كانت حياة المرأة في الجاهلية أصعب حياة، حيث لم يكن لها عندهم قيمة أبدا، و قد كتب الكثير عن هذا الموضوع، و لذا فلا نرى حاجة كبيرة
ص: 21
للتوسع فيه، و يكفي أن نذكر هنا قوله تعالى: وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ، يَتَوٰارىٰ مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مٰا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرٰابِ أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ (1). و سياق الآية الكريمة يشير إلى كثرة ذلك و شيوعه فيهم، و من ذلك نعرف أن الخضري قد حاول تكذيب القرآن، حينما ادّعى: أن العربي قبل الإسلام كان يحترم المرأة و يجلها (2)، نعوذ باللّه من الخذلان، و من وساوس الشيطان، كما أن فيه تكذيبا للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي يقول: «و اللّه، إن كنّا في الجاهلية ما نعدّ للنساء أمرا حتى أنزل اللّه فيهن ما أنزل، و قسم لهن ما قسم» (3).
و عن حالة العرب في الجاهلية، يكفي أن نذكر بعض ما قاله سيد الخلق بعد الرسول علي أمير المؤمنين، فمن ذلك قوله «عليه السلام» :
«بعثه و الناس ضلاّل في حيرة، و حاطبون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، و استزلتهم الكبرياء، و استخفتهم الجاهلية الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، و بلاء من الجهل» (4).
و قال «عليه السلام» : «و أنتم معشر العرب على شر دين، و في شر دار،
ص: 22
تنيخون (1)بين حجارة خشن، و حيات صم (2)، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب (3)، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الآثام فيكم معصوبة» (4).
و قال «عليه السلام» : «فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرقة، في بلاء أزل، و أطباق جهل، من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة» (5).
و كلمات أمير المؤمنين هنا حجة دامغة على كل مكابر متعصب، و هناك كلمات كثيرة له «عليه السلام» في هذا المجال؛ فمن أرادها فليراجع نهج البلاغة و غيره.
و يقال: إن المغيرة بن شعبة قد قال ليزدجرد:
«. . و أما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالا منا، و أما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس و الجعلان، و الحيات، و نرى ذلك طعامنا، أما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، و لا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل، و أشعار الغنم؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضا، و أن يبغى بعضنا على بعض، و إن كان أحدنا ليدفن ابنته و هي حية، كراهية أن تأكل من طعامه» (6).
ص: 23
و لابن العاص أيضا كلام يشير إلى بعض ذلك؛ فمن أراده فليراجعه في مصادره (1).
لقد أوضح لنا الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» في كلماته المتقدمة حالة العرب، و مستواهم العلمي و الثقافي، و أنهم كانوا يعيشون في ظلمات الجهل، و الحيرة، و الضياع.
و هذا يكذّب كل ما يدعيه الآخرون-كالألوسي و غيره-من أن العرب كانوا قد تميزوا ببعض العلوم، كعلم الطب، و الأنواء، و القيافة، و العيافة، و السماء، و نحو ذلك. .
و قال بعضهم: «خصت العرب بخصال: بالكهانة، و القيافة، و العيافة و النجوم، و الحساب» (2).
فإن ما كان عندهم من ذلك هو مجرد ملاحظات بسيطة ساذجة، مبنية على الحدس و التخمين، متوارثة عن مشايخ الحي و عجائزه.
و هذا هو رأي ابن خلدون أيضا، الذي كان يرى: أن علم الطب عندهم لا يتعدى معلومات أولية، و ملاحظات بسيطة، لا تستحق أن تسمى علما، و لا شبه علم.
و مثل هذا يقال عنهم في علم الأنواء و السماء؛ فضلا عما يسمى بالقيافة،
ص: 24
و العيافة، هذا عدا عن أن بعض هذه الأمور، لا تستحق أن يطلق عليها اسم «علم» .
و يكفي أن نذكر هنا: أنهم كانوا أميين، لا يعرفون القراءة و الكتابة أصلا، إلا من شذ منهم، حتى ليذكرون: أنه «صلى اللّه عليه و آله» أرسل رسالة إلى قبيلة بكر بن وائل؛ فلم يجدوا قارئا لها في القبيلة كلها. و قرأها لهم رجل من بني ضبيعة فهم يسمون: بني الكاتب (1).
و يروي البلاذري: أن الإسلام قد دخل، و في قريش سبعة عشر رجلا فقط، و في الأوس و الخزرج في المدينة اثنا عشر رجلا يعرفون القراءة و الكتابة (2).
و قال ابن عبد ربه: «جاء الإسلام و ليس أحد يكتب بالعربية غير سبعة عشر إنسانا» ، ثم عدهم فذكر عليا «عليه السلام» أولا (3).
و يرى ابن خلدون: أن أكثرهم كان لا يتقنها، بل كان بدائيا، و ضعيفا فيها بشكل ملحوظ.
و يلاحظ من أسمائهم: أن أكثرهم قد تعلمها بعد ظهور الإسلام،
ص: 25
و ذكر اسم علي «عليه السلام» يدل على ذلك.
بل ربما كانوا يعتبرون القراءة و الكتابة عيبا، فقد قال عيسى بن عمر: «قال لي ذو الرمة: إرفع هذا الحرف، فقلت له: أتكتب؟ فقال بيده على فيه، أي أكتم علي؛ فإنه عندنا عيب» (1).
و في حديث أبي هريرة: تعربوا يا بني فروخ، فإن العرب قد أعرضت، أي عن العلم (2).
هذا، مع أن قريشا كانت أعظم قبيلة شأنا و خطرا و نفوذا في الحجاز كله، و مع أن التجارة تتطلب مثل ذلك عادة، و كان الأوس و الخزرج أيضا في المرتبة الثانية بعد قريش، تحضرا و نفوذا في الحجاز.
فإذا كان مستواهم الثقافي هو هذا، فمن الطبيعي ان يصير لليهود عموما و للنصارى-و لو بصورة أضعف-هيمنة فكرية كبيرة، و أن ينظر إليهم العرب نظرة التلميذ إلى معلمه، و لربما نشير إلى ذلك فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى.
هذا، و من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن أمية العرب كانت هي السر في قوة الحافظة عندهم، و لكنها عادت إلى الضعف التدريجي، حسب نسبة اعتمادهم على الكتابة في العصور المتأخرة، إبتداء من عصر التدوين.
و لسوف نشير إن شاء اللّه تعالى في غزوة بدر من هذا الكتاب، إلى مدى الأهمية التي أولاها الإسلام لمحو الأمية، حتى لقد ورد أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد جعل فداء الأسير في غزوة بدر تعليم عشرة من أطفال المسلمين
ص: 26
القراءة و الكتابة كما سيأتي، و قد كانت بدر أدق مرحلة يمر بها الإسلام و المسلمون في دعوتهم إلى اللّه، و حربهم مع المشركين.
و خلاصة القول: إن جهل العرب كان هو الحاكم المطلق، و لا نلاحظ أية ظاهرة للنبوغ فيهم قبل الإسلام، بل على العكس من ذلك، يمكن ملاحظة الكثير مما كان يزيدهم إمعانا في الجهل و الحيرة و الضياع.
لقد امتاز العرب قبل الإسلام ببعض الصفات التي تمدحهم الناس بها و أثنوا عليهم لأجلها، و هي صفات قليلة بالنسبة إلى ما يقابلها من صفات و عادات ذميمة.
و لكننا إذا دققنا النظر فيها فإننا لا نجد فيها ما يوجب مدحا بل ربما كانت في كثير من الأحيان موجبة لعكس ذلك تماما؛ لأن ما يعطي للشيء قيمته الحقيقية من أي نوع كانت هو دوافعه و منطلقاته، و أهدافه، و نحن لا نجد في تلك الأمور المنسوبة إلى العرب ما يبرر تمدحهم من أجلها؛ لا من حيث المنطلقات و الدوافع، و لا من حيث الأهداف و الغايات، كما سنرى.
و لكن حين جاء الإسلام، و تغيرت تلك الدوافع و الأهداف، أصبحت تلك الصفات ذات قيمة، و صاروا يستحقون عليها التكريم و التقدير.
لقد امتاز العرب بالصفات التالية:
1-بالكرم و حسن الضيافة-و هذا هو الأمر الوحيد الذي احتج به أبو سفيان على صحة دينه! ! حيث قال لكعب بن الأشرف: «أديننا أحب إلى
ص: 27
اللّه أم دين محمد و أصحابه؟ و أينا أهدى في رأيك، و أقرب إلى الحق؟ إنا نطعم الجزور الكوماء (1)، و نسقي اللبن على الماء، و نطعم ما هبت الشمال، فقال له ابن الأشرف: أنتم أهدى منهم سبيلا (! !) (2).
و لكن ذلك في الحقيقة و إن كان في نفسه حسنا، و لكنه لا يعبر عن حسن فاعلي، بحيث يعد فضيلة للعرب، إلا إذا كان بذلهم للمال نابعا من إيمانهم بمثل أعلى، يدفعهم إلى البذل و العطاء، و هو رضى اللّه سبحانه و تعالى، أو كان نابعا من عاطفة إنسانية، مصدرها رؤية حاجة الآخرين، و التفاعل معها، بحيث يندفع إلى العطاء و البذل من دون سؤال أو تحريك.
و قد يكون الدافع أيضا إبعاد العار، و التحرز من هجاء الشعراء، و حتى لا يسير ذكرهم في البلاد في اللؤم و الخسة، و لا تتعرض أعراضهم و كراماتهم للمساس بها، أو أملا بحسن الذكر، و طيب الأحدوثة؛ أو طمعا بزعامة قبيلة أو منافسة قرين.
و قد قلنا: إن بعض ذلك و إن كان حسنا في نفسه، و لكنه لكي يعبر عن حسن فاعلي لدى من صدر عنه، يحتاج إلى الربط بمثل أعلى، أو بمعنى إنساني، أو إيماني يوصل إلى رضا اللّه سبحانه.
بل إنك قد تجد في بعض الموارد ما يجعل من الدافع للممارسة في مستوى الجريمة بحق الإنسانية، فإن التاريخ يروي لنا:
ص: 28
أن زيد الخيل حين يطلب منه البعض عطاء، قد وعده بالعطاء بعد أن يشن الغارة، فلما شن الغارة على بني نمير بالملح و أصاب مائة بعير، أعطاه إياها (1).
مع أن شن الغارة معناه التسبب بقتل الرجال و حتى الأطفال و النساء و الشيوخ الذين قد تسحقهم حوافر الخيل، ثم سبي من يبقى منهم على قيد الحياة، و الاستيلاء على أموالهم، و هدر كراماتهم.
و زيد الخيل هو من رجال العرب المعروفين، و يضارع حاتم الطائي في الشهرة و السؤدد.
هذا، و لا بد من الإشارة أخيرا إلى أن عجز البدوي تجاه قوى الطبيعة القاسية، التي تستولي على الصحراء، من شأنه أن يولد فيه الشعور بضرورة الالتزام بأمر الضيافة، و ضرورة البذل، إذ لا يمكنه حمل قوته في أسفاره الشاقة و الطويلة التي قد تمتد عشرات الأيام، و هو مضطر إلى السفر بين حين و آخر بحثا عن الماء و الكلأ، و لغير ذلك من أمور.
2-عصبيتهم للقبيلة و للعشيرة، و هذه في الحقيقة صفة ذميمة، إذ إنهم يرون أن النصر لا بد أن يكون لذوي قرابتهم، و لابن قبيلتهم، و أن العون لا بد أن يمحض له، ظالما كان أو مظلوما.
و قد نعى القرآن عليهم ذلك، و عبر عنها ب حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ (2)، لأنها مبنية على الجهل، و عدم التثبت.
و قد تقدم ما يشير إلى سر نشوء ذلك فيهم، فلا نعيد.
ص: 29
3-الشجاعة: و هي و إن كانت صفة حسنة في نفسها، و لكنها إنما تفيد في اعتبارها فضيلة في الشخص بملاحظة الأهداف و الموارد التي يستعملها فيها، فإذا استعملت في مورد حسن كالذب عن الحرمات، و الجهاد في سبيل اللّه، و المستضعفين؛ فإن صاحبها يستحق لأجلها مدحا، و إلا فذما، و لهذا فليس هناك أشجع من الأسد، و لكن ذلك لا يعتبر فضيلة له.
و لعل مما يساعد على نشوء الشجاعة لدى الإنسان العربي هو بيئته و حياته في الصحراء، بلا حواجز و موانع طبيعية أو غيرها، و مواجهتهم الخطر المستمر من الحيوان، و من بني الإنسان على حد سواء، يشعر كل فرد منهم: أنه مسؤول عن حماية نفسه، و الدفاع عنها بنفسه، و لا يرد عنه إلا يده و سيفه، ما دام أنه في كل حين عرضة للغزو، و النهب، و السلب، و أخذ الثارات منه.
هذا بالإضافة إلى أنه لا يأكل في كثير من الأحيان إلا من سيفه و يده، و إلا فإنه هو نفسه يكون عرضة لأن يؤكل، فمن لم يكن شجاعا فاتكا أكل، أو على الأقل لم يستطع أن يأكل، فكأنهم يتعاملون بمنطق: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب.
و بعد فهل يمدح الذئب على فتكه بفريسته، و تمزيقه لها؟ ! إلا إذا كان هذا الفتك من منطلق الدفاع عن المثل أو القيم، أو عن الضعيف الذي يحتاج إلى الناصر، أو ما إلى ذلك.
4-النجدة و الإقدام: و لا يختلف الكلام في ذلك عن الكلام في الشجاعة، إلا أننا نشير هنا إلى أن ما يشجع على ذلك هو اطمئنان العربي إلى أنه غير مسؤول عما يعمل، بل هو منصور من قبل قبيلته على كل حال، ظالما
ص: 30
كان أو مظلوما.
يضاف إلى ذلك: أن حياة البادية و الغزو المفاجئ، و عمليات الاغتيال ثأرا، و غير ذلك من أخطار كانت تتهددهم باستمرار، كل ذلك يستدعي سرعة الإقدام، و مباشرة العمل فورا، و كل ذلك يشير إلى أن الإقدام بلا تروّ و لا تريث؛ لا بد أن يصبح هو الصفة المميزة لهم، و الطاغية على تصرفاتهم.
على أن قدرتهم على الانتقام فورا من شأنها أن تجعل فيهم حساسية متناهية و انفعالا سريعا؛ و لذا قل أن تجد فيهم حليما، إلا من بعض المسنين، أو أصحاب الهمم العالية، أو الجبناء، الذين يتخذون الحلم وسيلة لتغطية انهزاميتهم.
5-الأنفة و العزة، و الاعتداد بالنفس، و النزوع إلى الحرية، و قوة الإرادة و الفصاحة، و قوة البيان؛ و الجوار.
و هي أمور حسنة في نفسها، و لعل منشأها بالإضافة إلى ما تقدم، هو عدم تعرضهم لهيمنة سلطة مركزية، و عدم خضوعهم للنظام و القانون، و لا للإذلال و القهر، مما من شأنه أن يعطيهم حرية في التصرف، و الحركة، و القول، و ما إلى ذلك.
6-و أخيرا، فإن من صفاتهم الوفاء بالعهد: و هو أمر حسن في نفسه، إلا أن يكون عهدا مضرا بالمجتمع.
و هذا الوفاء أيضا مما يلجأ إليه الإنسان العربي، لا لأنه يرى أنه ذا قيمة، بل لأنه يحتاج إليه لمواجهة مشاكل الحياة، ذات الطابع الخاص الذي أشرنا إلى بعض ملامحه. .
ص: 31
و أما حلف الفضول، الذي هو أشرف حلف في العرب، فمصدره في الحقيقة بنو هاشم، و كذا حلف عبد المطلب مع خزاعة، فلا يعبر هذان الحلفان عن خلقيات سائر العرب.
و قد اتضح من كل ما تقدم: أن كل تلك الصفات إنما تكون جديرة بأن تعتبر فضائل أخلاقية، و صفات إنسانية، حينما تصدر عن خلق فاضل، و إنسانية كريمة، أو عن تقوى و شعور ديني، و إلا فقد تكون على العكس من ذلك، إذا عبرت عما يناقض ذلك و ينافيه.
لقد حاول الإسلام أن يضع تلك الصفات في خطها الصحيح، و أن يجعلها تنطلق من قواعد إنسانية، و عواطف صافية و حقيقية، و فضائل أخلاقية، و بالأخص من إحساس ديني صحيح، و ليستفيد منها-من ثم- في بناء الأمة على أسس صحيحة و سليمة.
أما ما كان منها لا يصلح لذلك، فقد كان يهتم بالقضاء عليه، و استئصاله بالحكمة، و الموعظة الحسنة، كلما سنحت له الفرصة، و واتاه الظرف.
فمثلا، نلاحظ: أنه قد حاول أن يجعل المنطلق للكرم، و بذل المال، هو العاطفة الإنسانية، و الشعور بحاجة الآخرين، كما يظهر من كثير من النصوص، هذا بالإضافة إلى طلب الأجر و المغفرة من اللّه تعالى، و ذلك هو صريح قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً، إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً (1)بل لقد تعدى ذلك
ص: 32
و تخطاه إلى تمدح الإيثار على النفس، حتى في موقع الخصاصة و الحاجة الملحة، فقال تعالى: وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ (1).
أما العصبيات القبلية، فقد حاول أن يوجهها وجهة بناءة و يقضي على كل عناصر الشر و الانحراف فيها، فدعا إلى بر الوالدين، و إلى صلة الرحم، و جعل ذلك من الواجبات، حينما يكون سببا في تلاحم و ربط المجتمع بعضه ببعض.
و لكنه أدان كل تعصب لغير الحق، و ندد به، و عاقب عليه، و اعتبر ذلك من دعوات الجاهلية المنتنة، كما هو صريح بعض النصوص التي سنشير إليها في السيرة النبوية، إن شاء اللّه تعالى.
و كذلك فإنه قد حاول أن يوجه الشدة و القسوة إلى حيث تكون في صالح الدين و الإنسان، و مثمرة للحق و الخير، و من سبل الحفاظ عليهما.
و النصوص الدالة على ذلك كثيرة جدا، و يكفي أن نشير إلى قوله تعالى: أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ (2)و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ (3)و قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (4).
و الآيات و الروايات في هذا المجال كثيرة جدا، فهو يريد الشدة في دفع
ص: 33
الظلم و الانحراف، و الحفاظ على الحق، و أن لا تأخذ المؤمن في اللّه لومة لائم، و يريد أن تتحول هذه الشدة إلى رحمة و حنان و سلام فيما بين المؤمنين أنفسهم.
و هكذا يقال بالنسبة إلى سائر الصفات المتقدمة، فإن من يراجع النصوص القرآنية، و الأحاديث الواردة عن النبي «صلى اللّه عليه و آله» و عن آله المعصومين «عليهم السلام» ، لا يبقى لديه أدنى شبهة فيما ذكرناه من أن الإسلام قد صب كل اهتمامه على توجيه الصفات الحسنة، و التصرف في دوافعها و أهدافها، و جعلها تصب في مصلحة الدين و الأمة، و القضاء على الصفات الذميمة، التي تقضي على سعادة البشر، و تهدم بناء الحق الشامخ.
و لسوف يأتي في الفصل الثالث، حين الكلام عن العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام و انتصاره، أن هذه المميزات و الخصائص قد أدت دورا هاما في ذلك، فإلى هناك.
لا نستطيع أن نحدد بدقة تاريخ بناء مكة، و اتساعها حتى صارت جديرة باسم: «أم القرى» .
و قد يقال: إن بدء بنائها كان قبل بناء إبراهيم «عليه السلام» للبيت، حسبما تشير إليه بعض الروايات، بل و يدل عليه قول اللّه تعالى حكاية عن إبراهيم: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً (1).
و عليه، فما يحاول البعض إثباته، من أن قصيا هو أول من بنى مكة،
ص: 34
و كان البيت وحيدا في الصحراء، و كان الناس يتركونه ليلا، و يعودون إليه نهارا، بدليل أن قصيا سمي «مجمعا» ؛ لأنه جمع القبائل حول البيت: لا يصح، بل هو لا يدل أيضا؛ لأن تاريخ مكة قبل قصي خير شاهد على أنها كانت آهلة بالسكان، معمورة، و معروفة و مشهورة، نعم ربما يكون قصي قد نظم سكن القبائل في مكة بالشكل المناسب.
و مهما يكن من أمر، فإن تحديد ذلك لا يهمنا كثيرا الآن، و ما يهمنا هو التعرف على المكانة الدينية لمكة، و مدى ارتباط قبائل العرب، بل و غيرهم بها، و الحديث عن ذلك لا ينفصل عن الحديث عن البيت العتيق، الذي تختضنه مكة، ثم عن قريش التي كان لها شرف خدمة ذلك البيت، فنقول:
الكعبة هي أول بيت وضع للناس ببكة، مباركا، و هدى للعالمين، كما هو صريح القرآن (1)، و المعروف المشهور هو: أن واضعه هو شيخ الأنبياء إبراهيم «عليه السلام» .
و لكننا نجد في كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» ما يدل على أن البيت قد كان من لدن آدم أبي البشر «عليه السلام» ، أما إبراهيم فهو رافع قواعده و مشيد بنيانه و أركانه.
قال «عليه السلام» : «ألا ترون أن اللّه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم، صلوات اللّه عليه، و إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر و لا تنفع، و لا تبصر و لا تسمع، فجعلها بيته الحرام، (الذي جعله للناس قياما) .
ص: 35
ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقل نتائق الدنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون و شلة، و قرى منقطعة، لا يزكو بها خف و لا حافر، و لا ظلف.
ثم أمر آدم و ولده: أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه الأفئدة من مفاوز سحيقة إلخ. .» (1).
و يدل على ذلك أيضا: روايات وردت من طرق الخاصة و غيرهم؛ فمن أرادها فليراجعها في مظانها (2).
و لعل ظاهر القرآن لا يأبى عن هذا أيضا؛ حيث جاء التعبير فيه عن تجديد بناء إبراهيم للبيت بقوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ (3)و هذا لا ينافي أن تكون الأسس و القواعد قد وضعت قبل ذلك، و إبراهيم هو الذي رفع هذه القواعد، و شيد على تلكم الأسس، و هذا موضوع يحتاج إلى بحث و تحقيق، نسأل اللّه أن يوفقنا لمعالجته في فرصة أخرى إن شاء اللّه تعالى.
و مهما يكن من أمر، فإن إبراهيم «عليه السلام» قد لاحظ: أن البيت الذي اختبر اللّه الناس به قد وضع في بقعة تكون الحياة فيها
ص: 36
صعبة و شاقة، كما يظهر من كلمات الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» المتقدمة؛ و لذلك فقد دعا ربه فقال: رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (1).
و لقد استجيبت دعوة إبراهيم «عليه السلام» ، و أصبحت مكة قبلة الآملين، و مهوى أفئدة الصفوة من العالمين.
لقد كانت الكعبة مقدسة و معظمة عند جميع الأمم، فيذكر العلامة الطباطبائي قدس سره:
أن الهنود يعتقدون: أن روح سيفا، و هو الأقنوم الثالث عندهم قد حلت في الحجر الأسود، حينما زار هو و زوجته بلاد الحجاز.
و الصابئة من الفرس و الكلدانيون يعدون الكعبة أحد البيوت السبعة المعظمة (2)، و ربما قيل: إنها بيت زحل لقدم عهدها، و طول بقائها. .
و اليهود أيضا كانوا يعظمونها، و يدّعون أنهم يعبدون اللّه فيها على دين إبراهيم «عليه السلام» .
و يقولون: إنه كان فيها تماثيل و صور، منها تمثال إبراهيم و إسماعيل،
ص: 37
و بأيديهما الأزلام، و أن فيها صورتا العذراء و المسيح، و يشهد على ذلك تعظيم النصارى لأمرها كاليهود.
و كانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم، و تعدها بيتا للّه تعالى، و كانوا يحجون إليها من كل جهة (1). .
و ستأتي كلمات أبي طالب حول هذا الأمر حين الكلام عن زواج النبي «صلى اللّه عليه و آله» بخديجة أم المؤمنين «عليها السلام» و قد حكى اللّه سبحانه هذا الأمر حينما قال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنٰا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (2).
فالكعبة إذن، كانت مقدسة عند جميع الأمم و الطوائف، و بالأخص عند العرب، و ظلت على ذلك مددا متطاولة في العصر الجاهلي، و يزيد ذلك قوة و رسوخا: أن العربي كان يعتبرها مصدر عزته، و موضع أمله، و كيف لا تكون كذلك، و هو يرى أن الأمم الأخرى تنظر إليه-لأجلها-بعين الحسد و الشنآن، و تعمل على انتزاع هذا الشرف منه، أو على التقليل من خطره و أهميته، حتى لقد:
1-أقام الغساسنة بيتا في الحيرة في مقابلها (3).
2-و في نجران أيضا: أقيمت كعبة أخرى لتضاهي كعبة مكة، يقول
ص: 38
الأعشى: يخاطب ناقته:
و كعبة نجران حتم عليكحتى تناخي بأعتابها
و كعبة نجران هذه يقال: إنها بيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي، على بناء الكعبة، و عظموها مضاهاة للكعبة، و سموها: كعبة نجران (1).
3-و في الشام كانت الكعبة الشامية (2).
4-و في اليمن الكعبة اليمانية (3).
و كان رجل من جهينة قال لقومه: هلم نبني بيتا نضاهي به الكعبة، و نعظمه، حتى نستميل به كثيرا من العرب، فأعظموا ذلك و أبوا عليه (4).
و يكفي أن نذكر: أن أبرهة بن الأشرم أقام في اليمن بيتا، و دعا الناس إلى تعظيمه، و الحج إليه.
و كتب إلى ملك الحبشة: «إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها أحد قط، و لست تاركا العرب حتى أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه» (5).
و رغم أنه زخرفه و فرشه بأفخر ما يقدر عليه، إلا أن ذلك لم ينفع في صرف الناس حتى اليمنيين عن الكعبة إليه، فضلا عن أن يصرف غيرهم
ص: 39
أو أهل مكة عن كعبتهم، و استمر الناس، و أهل اليمن على الحج إلى مكة.
و بعد أن تغوط أحد بني كنانة في كنيسة أبرهة، غضب، و اندفع إلى مكة في عام الفيل و قال لعبد المطلب: إنه لا يقصد إلا هدم البيت.
فأجابه: إن للبيت ربا سيمنعه، و جرى ما جرى لأبرهة و جيشه و أنزل اللّه في ذلك:
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ اَلْفِيلِ، أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبٰابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجٰارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (1) .
5-و يقولون: إن تبع بن حسان كان قبل ذلك قد حاول أن يهدم البيت و يحول حجارته إلى اليمن، فيبني بها بيتا هناك تعظمه العرب، فدفع اللّه عن البيت شره و كيده (2).
و يقولون: إن عمرو بن لحيّ، كبير خزاعة، عندما كان يتولى أمر البيت،
ص: 40
سافر إلى الشام، و حمل معه منها الصنم المسمى ب «هبل» و وضعه على الكعبة، و كان أول صنم وضع عليها، ثم أتبعه بغيره، و في ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي:
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهةشتى بمكة حول البيت أنصابا
و كان للبيت ربا واحدا أبدافقد جعلت له في الناس أربابا
قالوا: «و كان قوله-أي عمرو بن لحي-فيهم كالشرع المتبع؛ لشرفه فيهم، و محلته عندهم، و كرمه عليهم» (1).
فشاعت عبادة الأصنام بين العرب، و أصبحت كل قبيلة تضع لها صنما على الكعبة، تختلف إليه من جميع الأقطار، حتى صار بها أكثر من (300) صنم، أو تنصبه في الموضع المناسب لها، فإذا أرادوا الحج وقفوا عند الصنم، و صلوا عنده، ثم يلبون حتى يصلوا إلى مكة (2).
و اتخذ أهل كل دار صنما يعبدونه في دارهم، فإذا أراد الرجل سفرا تمسح به حين يركب، و إذا قدم تمسح به أول ما يصل قبل أن يصل إلى أهله.
و كان ذلك هو حجة من قال: إن العرب لم تكن تعبد الأصنام قبل عمرو بن لحي (3).
وثمة رأي آخر يقول: إن بني إسماعيل كانوا لا يفارقون مكة حتى
ص: 41
كثروا، و ضاقت بهم مكة، و وقعت بينهم الحروب و العداوات، و أخرج بعضهم بعضا، فاضطروا إلى التفرق في البلاد، و ما من أحد منهم إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم؛ فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به، كطوافهم بالكعبة، حتى أدى بهم ذلك إلى عبادة تلك الحجارة، ثم جاء من بعدهم؛ فنسوا ما كان عليه آباؤهم من دين إسماعيل، فعبدوا الأوثان (1)و فيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم و إسماعيل يتنسكون بها، من تعظيم البيت و الطواف به، و الحج و العمرة، و الوقوف على عرفة و مزدلفة، و إهداء البدن، و الإهلال بالحج و العمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه (2).
و نحن نرجح أن هذا الأخير هو سر عبادتهم للأوثان، و أما عمرو بن لحي، فالظاهر أنه أول من وضع الأصنام على الكعبة، أو حولها، و تبعه غيره، و ربما يشهد لذلك أن مجيئه بالصنم من الشام لا بد أن يسبقه-بحسب العادة-نوع قبول للأصنام، و تعظيم لها.
هذا، إن لم نقل: إنه يعني: أنه كان يعبد الأصنام قبل أن يذهب إلى الشام.
و ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى ما كان للكعبة من مكانة لدى الإنسان العربي، فضلا عن غيره، سواء في الوقت الذي كان يعبد فيه الأوثان و يعظمها، أو في تلك الظروف التي بدأ يشعر فيها بعض الناس بسخافة
ص: 42
عبادة الأوثان، و عدم معقوليتها.
و بالنسبة للمراد من الصنم فإنهم يقولون: «إذا كان معمولا من خشب أو ذهب، أو من فضة صورة إنسان، فهو صنم، و إذا كان من حجارة فهو وثن» (1).
كانت ولاية الكعبة أولا في يد ولد إسماعيل، ثم خرجت من يدهم إلى أخوالهم الجرهميين (2)و يقال: ثم إلى العماليق، ثم عادت إلى جرهم، ثم لما كثر ولد إسماعيل؛ و أصبحوا ذوي قوة و منعة، حاربوا الجرهميين بقيادة كبير خزاعة، و انتزعوا منهم ولاية البيت، و استمرت في الخزاعيين إلى أن أخرجها منهم قصي بن كلاب، الجد الرابع للنبي «صلى اللّه عليه و آله» .
و كانت الولاية بيد حليل الخزاعي أبي زوجة قصي، فجعل الولاية بعد موته لابنته، التي كانت تحت قصي، و لكنه جعل مفتاح البيت مع رجل يقال له أبو غبشان فيقال: إن قصيا إشتراه منه بزق خمر؛ و بذلك يضرب المثل «أخسر من صفقة أبي غبشان» ، و قال في ذلك بعضهم:
أبو غبشان أظلم من قصيو أظلم من بني فهر خزاعة
فلا تلحوا قصيا في شراهو لوموا شيخكم إذ كان باعه (3)
ص: 43
و من أجل ذلك فقد جرت بين قريش و خزاعة حرب كان النصر فيها لقريش، و هم أولاد فهر بن مالك (1)، هكذا يقولون.
و لكن ذلك ليس هو الرأي النهائي هنا؛ إذ أننا نرى البعض الآخر يقول: إن قصيا قد استعاد البيت من خزاعة بعد حروب جرت بينه و بينهم، ثم تحاكموا إلى عمرو بن عوف، فحكم لقصي (2).
و ثمة قول آخر يفيد: أن حليلا أوصى عند موته بولاية البيت لصهره قصي، و هذا ما تزعمه خزاعة (3).
و هناك أقوال أخرى، مثل أن حليلا الخزاعي أوصى بالولاية لابنته زوجة قصي، و هي أعطتها لزوجها.
و إذا كانت خزاعة تزعم ذلك فما هو المبرر لحربها، إلا الحسد له، و البغي عليه؟ ! . و الظاهر أن حليلا قد أوصى إليه به فحاربته خزاعة حسدا و بغيا (4)، ثم تحاكموا إلى يعمر بن عوف، فحكم له.
و حكم يعمر بن عوف له يقرّب وصية حليل بالولاية إليه، و كان يعمر قد اطلع على هذه الوصية، إن لم يكن لقصي حجج أخرى في المقام جعلت
ص: 44
الحكم يكون في صالحه (1).
و على كل حال، فقد جدد قصي بناء البيت في القرن الثاني قبل الهجرة (2)و بنى إلى جانب الكعبة دار الندوة، التي كانت تجتمع فيها قريش للحكومة، و القضاء، و الشورى (3)و هذا من مآثره الجليلة، الدالة على درايته و حكمته، و بعد نظره.
و واضح: أن سدانة قريش للبيت العتيق، و هو الذي يعظمه الكثيرون، ثم اتصال نسبها بإسماعيل و إبراهيم «عليهما السلام» ، و العربي بطبعه يحترم نسبا كهذا، انطلاقا من اهتمامه بالأنساب، و إذعانه لها على أنها مصدر شرف و سؤدد، و لا سيما بملاحظة تعرض العربي للغارات و السبي الأمر الذي يجعل لديه حساسية خاصة تجاه هذا الأمر.
و أيضا، لأن قريشا كانت أقرب إلى الحنيفية من غيرها، و شعائر الحج إنما هي من بقاياها كما هو معلوم، و الحنيفية هي الدين الذي يحترمه العربي و يقدسه و يعنو له، إن كل ذلك، و غيره من أمور قد أكسب قريشا شرفا، و منحها مكانة، و نفوذا و خطرا، و أصبح الناس عامة ينظرون إلى قريش نظرة فيها الكثير من الاحترام و التقديس و الإكبار.
ص: 45
و الشواهد على هذا كثيرة، و يكفي أن نذكر قول قصي لقريش: «قد حضر الحج، و قد سمعت العرب ما صنعتم، و هم لكم معظمون» (1).
و قول أبي طالب حين تزويج خديجة من رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» : «الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم و ذرية إسماعيل و أنزلنا حرما آمنا، و جعلنا الحكام على الناس، و بارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه» (2).
و عليه، فإنه إذا كانت قريش من نسل إسماعيل، و تحترم دين الحنيفية.
و إذا كانت مكة تعتبر حتى من العرب، أهل الحرب و الغارة، حرما يأمن من لجأ إليه، و قد يلتقي العربي فيها بقاتل ولده، أو أبيه؛ فلا يؤذيه، و لا يستطيع أن يثأر منه.
و إذا كان تقديس مكة قد بلغ عندهم هذا الحد؛ فإن من الطبيعي أن يكون لسادة مكة نصيب وافر من هذا التقديس، و أن يتميزوا على سائر الناس باحترام خاص، أضف إلى ذلك سدانتهم للبيت الذي تفد إليه العرب من جميع الأقطار و الانحاء.
و إذا كانت قريش و خصوصا الهاشميون ترى: أن شرفها، و سؤددها، و مجدها، و حتى اقتصادها، مرتبط بالبيت و متصل به اتصالا وثيقا؛ فمن الطبيعي أن تدرك أن انتهاك حرمته ليس من مصلحتها، لأن ذلك يقلل من
ص: 46
تقديس البيت، و من احترام سدنته و يفقدهم-من ثم-أعز و أغلى ما لديهم.
و من هنا فإنه و إن كان في قريش جماعات شريرة، لا ترجع إلى دين، و هم أصحاب حلف الأحلاف «لعقة الدم» ، لكن قد كان في مقابلهم رجال أشراف كرام لا يرضون بما يصدر من أولئك، و يحاولون إرجاع الحق إلى نصابه ما أمكنهم ذلك، و من هنا كانت المبادرة إلى عقد حلف المطيبين، و بعده حلف الفضول، الذي ينص على أن ترد كل مظلمة إلى صاحبها، لا فرق بين قرشي و غيره، و على التأسي بالمعاش (1).
و يذكرون هنا: أنه حين لقي عبد المطلب-و هو يحفر زمزم-من قريش ما لقي: من مخاصمتها إياه في شأن تلك البئر، و شدتها عليه، حلف لئن ولد له عشرة نفر لينحرن أحدهم، فلما ولدوا له دعاهم إلى الوفاء للّه بالنذر؛ فأجابوه، فضرب القداح فخرجت على ولده عبد اللّه أصغر بني أبيه، على حد تعبير ابن هشام.
و نقول:
الصحيح: بني أمه، و إلا، فإن الحمزة و العباس كانا أصغر منه.
إلا أن يقال: إنهما لم يكونا قد ولدا بعد.
و الظاهر: أن المقصود بالعشرة: ما يشمل أولاد أولاده. و قد ذكروا: أنه كان للحرث بن عبد المطلب ولدان؛ هما أبو سفيان و نوفل، بل ذكر
ص: 47
بعضهم: أن أعمامه «صلى اللّه عليه و آله» كانوا اثني عشر، بل قيل: ثلاثة عشر، و أن عبد اللّه ثالث عشرهم، و عليه فلا إشكال، لأن الحمزة و العباس كانا من أم أخرى كما أشرنا إليه (1).
كما إننا نشك في قولهم: إن ضرب القداح كان عند هبل، و أراد التنفيذ عند إساف و نائلة؛ لأن عبد المطلب كان على دين الحنيفية كما سيأتي عن قريب، و لم يكن يحترم الأصنام آنئذ، و مهما يكن من أمر فقد أراد عبد المطلب ذبح ولده عبد اللّه، فأطاعه ولده؛ فمنعوه من ذلك؛ فضربت القداح عليه، و على عشرة من الإبل-مقدار دية رجل-من جديد فخرجت عليه، فزادها عشرة، و ضربت القداح فخرجت عليه، و هكذا إلى أن بلغت مئة؛ فخرجت على الإبل فنحرت.
و لذلك يقال: إن النبي «صلى اللّه عليه و آله» كان يقول: أنا ابن الذبيحين، أي إسماعيل، و عبد اللّه (2).
و يقول البعض: إن المراد بالذبيحين هابيل، و عبد اللّه. . على اعتبار أن المراد بالذبيح هو إسحاق، كما جاء في بعض الروايات (3)، و لإجماع أهل
ص: 48
الكتاب على ذلك (1)على اعتبار أن العرب تجعل العم أبا (2).
أولا: فإنه «صلى اللّه عليه و آله» ليس من ولد هابيل إجماعا، إلا أن يقال: إن العم بمنزلة الأب.
و يرده:
ألف: أن أبوة الذبيح الآخر في قوله: أنا ابن الذبيحين؛ لا بد أن لا تختلف عن أبوة عبد اللّه له، لأنه ذكرهما في كلام واحد، فإرادة هذا المجاز البعيد في أحدهما؛ و الحقيقة في الآخر غير معقول، حتى لو جوزنا استعمال اللفظ المشترك
(3) -و عكرمة، و سعيد بن جبير، و مجاهد، و عطاء، و الشعبي، و مقاتل و عبيد اللّه بن عمر، و أبي ميسرة، و زيد بن أسلم، و عبد اللّه بن شقيق، و الزهري، و القاسم، و ابن أبي بردة، و مكحول، و عثمان، و السدي، و الحسن و قتادة، من السلف و غيره قالوا بذلك. كل ذلك في: البداية و النهاية ج 1 ص 59، و البحار: ج 12 ص 132، و تاريخ الخميس ج 1 ص 95 و راجع ص 139 و مفاتيح الغيب: ج 25 ص 153، و لكنه ذكر معهم عليا «عليه السلام» و ابن عباس، و نحن نجلهما عن الالتزام بأمر يخالف القرآن. بل إنه هو نفسه قد ذكر عنهما أنهما قالا: إسماعيل، و نجد في الكافي: ج 4 ص 206 و 208-209 ط الآخندي، و كذا في ج 1 ص 117 ط الإسلامية، و عنه في البحار: ج 12 ص 135 ما يدل على أن الذبيح هو إسحاق، و لكن في ص 205-209 ج 4 من الكافي ما يدل على التردد في ذلك، حيث ذكر ما معناه: أن إبراهيم قد حج بأهله، فالذي كان مع إبراهيم من أهله كان هو الذبيح، و قد أشارت بعض الأخبار إلى أن إسحاق قد تمنى الذبح أيضا.
ص: 49
في أكثر من معنى، كما هو الصحيح، بدليل وجود التورية في كلام العرب.
ب: إن الذي بمنزلة الأب-لو سلم أنه عرفا كذلك-إنما هو العم القريب، لا العم الذي يأتي بعد عشرات الآباء و الأجداد.
ثانيا: كون الذبيح هو إسحاق لا يصح. و ذلك لما يلي:
ألف: إنه قد ذكر في سورة الصافات قضية الذبح، ثم عقبها بالبشارة بإسحاق فقال: وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (1)مما يشعر بأن إسحاق قد ولد بعد قضية الذبح؛ لأن هذه بشارة بالميلاد بقرينة قوله تعالى في آية أخرى: فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ (2)و لو كان الذبح لإسحاق لم يحسن الإتيان باسمه، بل كان المناسب إيراد ضميره، و تكون البشارة بنبوته مكافأة على صبره على الذبح، و ليست بشارة به نفسه كما هو ظاهر الآية.
و قد روي الاستدلال بالآيات عن الإمام الصادق «عليه السلام» ، و عن محمد بن كعب القرظي أيضا (3).
و يشير إلى هذا أيضا: الترتيب الذي جاء على لسان إبراهيم «عليه السلام» حيث قال: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ (4).
كما أن اللّه قد ذكر إسماعيل و إسحاق في القرآن معا في ست آيات، و في
ص: 50
كلها يقدم ذكر إسماعيل على إسحاق.
و في ذلك إشارة إلى ما ذكرناه:
ب-و لو أغمضنا النظر عن ذلك فإننا نقول:
إن من غير المعقول أن يبشر اللّه تعالى نبيه بغلام سيكبر، و يكون نبيا و يتزوج، و يولد له ولد اسمه يعقوب ثم يأمره بذبح ذلك الولد الكبير و النبي نفسه، فإنه لا يرتاب حينئذ بأن الأمر بالذبح ليس حقيقيا و إنما هو صوري و هذا يفقد قضية الذبح كل قيمتها، فلاحظ قوله تعالى: وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا (1)و قوله: وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ (2).
إلا أن يدعى: أن النبوة و البشارة بيعقوب ليست داخلة في البشارة الأولى.
و لكن ذلك خلاف الظاهر، و الذين يصرون على أن الذبيح هو إسحاق لا يقولون بالبداء ليمكنهم التشبث به في الإجابة هنا.
أو يدعى: أن الذبح قد يكون بعد أن ولد له يعقوب.
و يرده: أنهم يقولون: إن قضية الذبح قد حصلت حينما كان عمره ثلاث عشرة سنة (3).
ج-و قد روي: أن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» قد أوضح أن كونه
ص: 51
ابن الذبيحين إنما هو بنذر عبد المطلب، و بذبح إسماعيل «عليه السلام» (1).
د-و أخيرا. . فقد أنكر أبو عمرو بن العلاء أن يكون إسحاق هو الذبيح، على اعتبار أن الذبح كان بمكة، و إسماعيل هو الذي كان بمكة و بنى البيت مع والده، و كذا قال ابن القيم (2).
و نستخلص مما تقدم: أنه قد كان هناك بشارتان:
إحداهما بولادة إسماعيل «عليه السلام» ، فولد، ثم أمر بذبحه، و جرى ما جرى، ثم جاءت البشارة الأخرى بولادة إسحاق بملاحظة:
أن أمه لم تكن ولدت، رغم أنها كان قد كبر سنها فبشرها اللّه بذلك- كما ذكرته سورة هود-فتعجبت: أن تلد و هي في هذا السن.
و عدم ذكر إسماعيل في سورة الصافات، و الاكتفاء بذكر إسحاق و يعقوب لعله يشير إلى ذلك أيضا على اعتبار أن الأمر بالنسبة لإسماعيل كان قد مضى و انقضى.
و بعد هذا. . فإن السؤال الذي يلح في طلب الإجابة عليه هو:
من أين جاء هذا الأمر الغريب: أن الذبيح هو إسحاق؟
ص: 52
و الجواب: هو ما قاله ابن كثير و غيره:
«إنما أخذوه-و اللّه أعلم-من كعب الأحبار، أو من صحف أهل الكتاب، و ليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم، حتى نترك من أجله ظاهر الكتاب» (1)فاليهود إذن قد أرادوا ترويج عقيدتهم بين المسلمين، و تخصيص هذه الفضيلة بجدهم إسحاق حسب زعمهم.
و لكن اليهود أنفسهم قد فاتهم: أن التوراة المتداولة نفسها متناقضة في هذا الأمر؛ فإنها في حين تقول:
«خذ ابنك، وحيدك، الذي تحبه إسحاق، و اذهب إلى أرض المريا، و أصعده هناك محرقة على إلخ. .» (2).
فقد عبرت هنا بكلمة: «وحيدك» الدالة على أن إسحاق هو أكبر ولد إبراهيم، و لكنها تعود فتكذب نفسها، و تنص على أن إسحاق لم يكن وحيدا و إنما ولد و عمر إسماعيل أربع عشرة سنة (3).
بل لقد ذكر ابن كثير: أنه لا خلاف بين أهل الملل: أن إسماعيل أول
ص: 53
ولد إبراهيم و بكره (1).
و قد اعترف أحد مسلمة أهل الكتاب بأن اليهود يعلمون: أن الذبيح هو إسماعيل، و لكنهم يصرون على خلافه حسدا منهم للعرب (2).
الأولى: أن إبراهيم قد رزق ولده إسماعيل الوحيد في شيخوخته، كما أشار إليه القرآن، و طبيعي أن يكون تعلقه بهذا الولد أشد، و حبه له أعظم.
و نلاحظ أيضا: أن أمر اللّه تعالى له بذبحه قد كان و ولده في أروع أيام حياته، و في السن التي يزداد تعلق والديه به فيه، و حبهما له؛ حيث تمتزج المحبة بالعاطفة، و الرأفة بالإعجاب. .
و أيضا، لقد رزقه اللّه ولدا هو في أعلى درجات الكمال الإنساني، عقلا و دراية و سلوكا، و استقامة، إلى غير ذلك من فضائل و كمالات إنسانية فاضلة، و هذا أيضا أدعى إلى التعلق به، و ازدياد المحبة له.
و بعدما تقدم فإننا نجد: أن اللّه سبحانه يكلف هذا الأب بذبح طفل كهذا بيده، و إذا كان التخلي عن طفل كهذا في ظروف كهذه هو من أصعب الأمور، فكيف إذا كان يجب أن يتم هذا التخلي بيد نفس ذلك الأب؟ ! . .
و يلبي إبراهيم، و يستجيب إلى أمر اللّه، دون أن يسأل عن السبب، و دون أن يبرمه أمر كهذا، و حتى دون أن يتحير في ذلك؛ لأنه واثق بحسن
ص: 54
ما يختاره له ربه، و بصلاح ما يأمره به.
الثانية: يستجيب إبراهيم «عليه السلام» لهذا الأمر، و لكنه لا يندفع إلى تنفيذه بسرعة، لكي يريح أعصابه، لأن هذا الأمر قد يخفي وراءه شيئا من الضعف و الوهن، بل هو يخبر ولده بالأمر، و يطلب منه أن يتخذ هو نفسه أيضا القرار الحاسم في الاستسلام لذلك أو عدمه و ذلك يدل على ثقته بحسن اختيار ولده، رغم صغر سنه، و يدل على أنه كان يحترم فيه كبر عقله، و سداد رأيه، و لا يعتبره طفلا لا يمكن أن توكل إليه أية مسؤولية.
و طبيعي أيضا: أن يكون التفات إسماعيل لذلك، و أن يتخذ هو نفسه القرار منه بقوله: يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ (1). مما يزيد في آلام أبيه.
و إسماعيل. . الذي أراد أبوه أن ينيله أجر الطاعة، و يتذوق حلاوة التسليم، لم يكن منه إلا التسليم لأمر اللّه سبحانه، و الانصياع له بثقة و رضا، و لكنه لا يعتبر هذا التسليم و الرضا شجاعة و بطولة منه، و إنما يعتبره خضوعا لمشيئة اللّه تعالى و يرى: أن صبره مستمد منه، و منته إليه؛ و لذلك عبر اللّه تعالى عن حالتهما هذه بقوله: فَلَمّٰا أَسْلَمٰا ؛ فهما قد أسلما للّه تعالى، و ليس لغيره من الشهوات، و لا للغرائز، و لم تقيدهما القيود المادية، و لا الدنيوية في شيء (2).
و لذلك فإن إبراهيم و ولده هما ممن يكون اللّه أحب إليه من كل شيء مما
ص: 55
نصت عليه الآية الكريمة التي تقول:
قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ (1) .
الثالثة: إن من الواضح: أن ذبح إسماعيل، و إراقة دمه لم يكن هو المقصود النهائي له تعالى؛ و ذلك لقوله تعالى لإبراهيم «عليه السلام» : قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا (2)، و إنما كان المقصود هو البلاء و الامتحان لإبراهيم و ولده «عليهما السلام» ؛ لقوله تعالى: إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْبَلاٰءُ اَلْمُبِينُ (3).
و حكمة هذا البلاء هي: أن يزيد في تزكية و تصفية نفس إسماعيل، في مراحل إعداده لتحمل مسؤولية النبوة، و قيادة الأمة، و كذلك فإن في ذلك تزكية و تصفية و امتحانا لنفس إبراهيم «عليه السلام» و لربما يكون ذلك من الكلمات اللواتي استحق إبراهيم بإتمامهن أن يجعله اللّه للناس إماما.
قال تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (4)، و كانت قضية الذبح هي البلاء المبين كما نصت عليه الآية الكريمة.
ص: 56
و قد رأيت بعد أن كتبت هذا: أن العلامة الطباطبائي يذكر: أن البعض قد تنبه لذلك كالطباطبائي نفسه، و استدل له، بقوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي إذ لا معنى لقوله هذا إن لم يكن له ذرية بالفعل، كما إنه لم يكن يعلم، و لا يظن: أنه سيكون له ولد قبل تبشير الملائكة له بذلك، و إبراهيم لا يتفوه بما لا علم له به، و لا يظنه، و لا يحتمله، و لا يخطر له على بال، و هو بهذه السن المتقدمة، و لو كان ذلك قبل ولادة إسماعيل لكان اللازم أن يقول: «و من ذريتي إن رزقتني ذرية» (1).
و قد أورد البعض على الفقرة الأولى بإمكان أن يكون هذا الطلب من إبراهيم قد حصل بعد تبشير الملائكة له بالذرية، فنزلها في كلامه منزلة الأمر الحاصل و المحقق.
و بعد، فإن حكم هذا البلاء، هو أن يضرب بذلك المثل الأعلى للأجيال، في التضحية في سبيل المبدأ الحق، و لا يكتفى بمجرد رفع الشعارات، و الإعلان عن المواقف كلاميا فقط، فبإبراهيم و إسماعيل ينبغي أن يكونا القدوة لكل مؤمن و مؤمنة.
كما إن في إخراج فضائلهما من عالم القوة إلى عالم الفعل، و إظهارها للناس و التعريف بها تشجيع للفضائل الكامنة في غيرهم، و تحريك لها لتقوم بمحاولة الظهور على الصعيد العملي، أي إن في ذلك هزة عاطفية مؤثرة في كل من يملك عاطفة جياشة؛ تستطيع أن تستثير الفضائل الكامنة في نفس الإنسان؛ لتكون واقعا حيا و ملموسا، و لتقود عملية التغيير الشاملة في حياة
ص: 57
الإنسان، و مستقبله بشكل عام.
هذا و من غير البعيد: أن يكون المجتمع الذي عاش فيه إبراهيم و إسماعيل، قد طغت عليه المادية؛ فأراد اللّه تعالى تحويل هذا الاتجاه بصورة عملية، دون الاقتصار على إسداء النصائح، و التوجيهات.
و لعل المتأمل في هذه القضية يكتشف الكثير، مما لم نذكره، أو لم نشر إليه، و اللّه هو الموفق و المسدد.
الرابعة: و يبقى أن نشير هنا: إلى أن من المقطوع به: أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» لا يريد أن يفتخر بقوله هنا: أنا ابن الذبيحين، و إنما لعله يريد من قوله هذا: أن يوجه الأنظار للاستفادة من هذين الحدثين الهامين جدا.
و أيضا يريد أن يفهم الآخرين: أنه شخصيا ليس غريبا عن هذا الجو، و أنه إذا كان أولئك قد بلغوا هذه المكانة في القرب من اللّه، و التفاني في سبيله و التسليم له، فلا يجب أن يتوقع منه موقف آخر، يختلف عن هذا، أو يقل عنه.
و إذن، فإن آمالهم في أن يقف موقف المساوم-في يوم ما-إنما هي سراب في سراب؛ فإن القضية قضية مبدأ و عقيدة، و ليست قضية مصالح شخصية، كما يتخيلون.
و قد أثبتت الوقائع صحة ذلك؛ حيث كان «صلى اللّه عليه و آله» يقدم أهل بيته في الحروب، و قد ضحى بكل غال و نفيس في سبيل هذا الدين.
الخامسة: إن نذر عبد المطلب هذا ربما يقال فيه: إنه غير جائز؛ إذ كيف جاز له التصرف في شخصية غيره إلى هذا الحد؟ ! و هل يمكن أن يعتقد أحد بوجوب الوفاء بنذر كهذا، يكون الضحية فيه نفس محترمة أخرى، حتى ولو كانت ولدا مثل عبد اللّه بن عبد المطلب؟ ! .
ص: 58
و الجواب: إنه قد يقال: إن عبد المطلب قد سار في إيمانه سيرا تكامليا (1)كما أشار إليه الحلبي حيث قال: و رفض في آخر عمره عبادة الأصنام، و وحد اللّه سبحانه (2).
و قد يقال: إن هذا يعطي التفسير لتسميته في أول أمره أبناءه ب «عبد مناف» و مناف اسم صنم، و «عبد العزى» و العزى كذلك «راجع الهامش ما قبل السابق» ، و لكنه يترقى و يتقدم حتى يبلغ به الأمر حدا من التسليم و الإيمان باللّه، أن أرعب بإيمانه هذا أبرهة صاحب الفيل، كما يذكره المؤرخون.
و قد أشبه في هذا الأمر نبي اللّه إبراهيم «عليه السلام» فإن إبراهيم كان -بلا شك-موحدا لإحساسه الوجداني و الفطري بوجود إله واحد، قادر، عالم، حكيم إلخ. . و لكنه بعد أن بلغ سن الرشد أراد أن يجسد هذا الإيمان الوجداني بالدليل و البرهان؛ على صفحة الوجود، على قاعدة: قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (3)و كانت النتيجة هي ما حكاه اللّه
ص: 59
بقوله: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ* فَلَمّٰا رَأَى اَلْقَمَرَ بٰازِغاً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّٰالِّينَ* فَلَمّٰا رَأَى اَلشَّمْسَ بٰازِغَةً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي هٰذٰا أَكْبَرُ فَلَمّٰا أَفَلَتْ قٰالَ يٰا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ (1).
هذا إن قلنا: إن كلام إبراهيم «عليه السلام» كان على سبيل الحقيقة و ليس على سبيل الاستدراج، مع أن الروايات قد أكدت أنه قد كان على سبيل الاستدراج لقومه ليقيم عليهم الحجة.
بل إن القرآن نفسه قد صرح بذلك، حيث عقب هذه الآيات بقوله: وَ تِلْكَ حُجَّتُنٰا آتَيْنٰاهٰا إِبْرٰاهِيمَ عَلىٰ قَوْمِهِ (2)و لهذا البحث مجال آخر.
و على كل حال، فإن الصحيح هو: أن عبد المطلب كان مؤمنا، معتقدا باللّه الواحد القادر، الحكيم الخ. . استنادا إلى حكم الفطرة و الوجدان، لكنه كان يريد أن يجسد هذا الإيمان، أو يريد أن يستدرج غيره للإيمان بما آمن هو به، بعد إبطال احتمال أن يكون لهذه الأصنام أي شأن أو شفاعة.
بل إن الأحاديث قد دلت على أنه كان هو و آباؤه، من الأنبياء «صلى اللّه عليه و على آبائه و أبنائه الطيبين الطاهرين» ، هذا بالنسبة لإيمانه.
أما بالنسبة لسلوكه و مواقفه، فإنهم يقولون عنه: إنه كان يقطع يد السارق، و يمنع من طواف العراة، و يوفي بالنذر، و يؤمن بالمعاد، و يحرم الزنى، و الخمر، و نكاح المحارم، و كان يأمر ولده بترك الظلم و البغي،
ص: 60
و يحثهم على مكارم الأخلاق، و ينهاهم عن دنيات الأمور، و كان مجاب الدعوة و ترك الأصنام (1).
و قد ذكرت كتب التاريخ: أن بعض الأصنام قد كانت تماثيل لأشخاص من أهل الخير و الصلاح، فراجع كتاب الأصنام لابن الكلبي، و سيرة ابن هشام و غير ذلك.
و عن النبي «صلى اللّه عليه و آله» : يا علي، إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام، و لا يعبد الأصنام، و لا يأكل ما ذبح على النصب، و يقول: أنا على دين إبراهيم «عليه السلام» (2).
و قد بلغ الذروة في إيمانه هذا بعد ولادة حفيده محمد «صلى اللّه عليه و آله» ، حيث سمع و رأى الكثير من العلامات الدالة علي أنه النبي الخاتم، و الأكمل و الأفضل من جميع البشر، و شهد، و عاين الكثير من الكرامات و الدلالات القطعية فيه.
و بعد كل ما تقدم نقول: إنه لا مانع من أن يكون عبد المطلب قد تلقى الأمر بذبح ولده عبد اللّه من اللّه تعالى، و لا أقل من أنه كان يعتقد بأن له الحق في تصرف كهذا، و نذر كهذا و لم يكن ذلك مستهجنا لدى العرف آنئذ.
أضف إلى ذلك: أنه لم يثبت عدم جواز نذر كهذا في الشرايع السابقة.
ص: 61
فقد نذرت امرأة عمران ما في بطنها محررا لخدمة بيوت اللّه، و أمر اللّه تعالى نبيه إبراهيم بذبح ولده إسماعيل.
و أما تسمية أبنائه بما يشير إلى الأصنام، فلعلها تسميات لحقتهم بعد ظهور شركهم، و انحرافهم، و حبهم لتلك الأصنام، و ليس لدينا تاريخ صادق، و صريح، و كاف. . و اللّه العالم بالحقائق.
هذا، و قد ادعى البعض: أن قصة إبراهيم تدل على جواز النسخ قبل حضور وقت العمل، و أجيب عن ذلك:
أولا: إن إبراهيم «عليه السلام» لم يؤمر بالذبح الذي هو فري الأوداج، بل أمر بالمقدمات، فقد جاء بالتنزيل قوله تعالى: يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (1)و لم يقل: إني ذبحتك، ثم جاء قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا (2)؛ ليؤكد على ذلك و لو كان ما فعله بعض المأمور به، لكان مصدقا لبعض الرؤيا (3)فلا يصح قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا .
ثانيا: إن وقت الفعل حاضر؛ فإن إبراهيم قد شرع في التنفيذ فعلا، فالنشخ لو سلم، فإنما هو قبل وقوع الفعل، لا قبل حضور وقت العمل.
و نقول: إن النسخ يمكن أن يكون مع كون الأمر بداعي الامتحان أو
ص: 62
غيره أولا، ثم يصدر أمر عن مصلحة واقعية ثانيا فينسخه.
و يتفرع على مسألة النسخ مسألة البداء؛ التي هي موضع خلاف بين الشيعة و غيرهم، و قد صارت مصدرا للافتراءات الكثيرة على الشيعة، و نحن نشير إلى توضيح هذه المسألة بما يسمح به المجال، فنقول:
قال آية اللّه الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين «رحمه اللّه» :
«حاصل ما تقوله الشيعة هنا: أن اللّه عز و جل قد ينقص من الرزق، و قد يزيد فيه، و كذا الأجل، و الصحة و المرض، و السعادة و الشقاوة، و المحن و المصائب، و الإيمان و الكفر، و سائر الأشياء، كما يقتضيه قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (1).
و هذا مذهب عمر بن الخطاب، و أبي وائل، و قتادة، و قد رواه جابر عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و كان كثير من السلف يدعون، و يتضرعون إلى اللّه أن يجعلهم سعداء لا أشقياء، و قد تواتر ذلك عن أئمتنا في أدعيتهم المأثورة.
و ورد في السنن الكثيرة: أن الصدقة على وجهها، و بر الوالدين، و اصطناع المعروف، يحول الشقاء سعادة، و يزيد في العمر إلخ. .» (2).
ص: 63
نعم، هذا هو البداء الذي تعتقد به الشيعة تبعا لأئمتهم «عليهم السلام» .
و أما البداء بمعنى ظهور رأي جديد له تعالى بعد أن لم يكن يعلم به أولا، أو بمعنى أن يعمل تعالى عملا ثم يندم عليه، حيث ظهر له أن المصلحة كانت في خلاف ذلك، أما البداء بهذا المعنى فهو محال على اللّه، و لم يقل به الشيعة أبدا، كيف؟ ! و هم أتباع أمير المؤمنين علي «عليه السلام» منشئ نهج البلاغة المشحون بالمعاني التي يعجز العقل البشري عن إدراكها؛ علي الذي تعلم الناس منه و من أبنائه المعصومين تنزيه اللّه تعالى عن كل نقص، و أخذوا عنه أدق المعارف حول اللّه و صفاته سبحانه و تعالى. .
و قد نقل عن الصادق «عليه السلام» قوله: من زعم أن اللّه يبدو له في شيء، و لم يعلمه أمس، فابرؤوا منه (1).
و عنه «عليه السلام» : من زعم أن اللّه بدا له في شيء بداء ندامة؛ فهو عندنا كافر باللّه العظيم (2).
و توضيح ذلك: أن اللّه عز و جل يقدر لزيد من الناس مثلا رزقا معينا، أو عمرا معينا، بحسب ما تقتضيه طبيعته و سجيته، و استعداده الذاتي وفقا للسنن التي أودعها في مخلوقاته لتجري بها الأمور، و لكنه يعلم أنه سوف
ص: 64
يتصدق فيكون ذلك سببا في زيادة رزقه المقدر له أولا بقطع النظر عن هذه الصدقة، أو سوف يبر بوالديه فيزيد عمره لذلك كذلك، و اللّه يعلم بذلك كله من أول الأمر.
و قد تقتضي المصلحة أن يطلع اللّه نبيه «صلى اللّه عليه و آله» على المقتضي لوجود شيء، من دون أن يطلعه على ما سوف يجد في المستقبل له من الموانع، أو ما سوف يفقده من شرائط، فيخبر النبي «صلى اللّه عليه و آله» الناس عنه على تلك الصفة.
ثم بعد ذلك يطلع تعالى النبي «صلى اللّه عليه و آله» على أنه يوجد مانع، أو أن المقتضيي يحتاج إلى توفر شرائط و مناخات معينة مفقودة فعلا، مع علم اللّه سبحانه بكل ذلك أولا و آخرا؛ فإن للّه علما اختص به، و علما يطلع عليه نبيه أو يثبته في لوح المحو و الإثبات، و قد أشار إلى هذين العلمين، في قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (1)فمثلا، لو بنينا بيتا، و كان بحسب طبعه صالحا للبقاء مئة سنة مثلا، و لكنه ربما ترد عليه عواصف، أو زلازل، أو سيول، أو نحوها؛ تمنع من بقائه هذه المدة، و يتلاشى في مدة عشر سنوات مثلا.
فلو أخبرنا الناس: أن هذا البيت يبقى مئة سنة، مع علمنا بأنه سيتلاشى بسبب سيل يأتي من الناحية الفلانية، يصل إليه بعد عشرة أيام، ثم أخبرنا ثانيا: بأن البيت سيهدم بعد عشرة أيام، فإن كلا من الخبرين يكون صحيحا. . وقد يترتب على إخبارنا الأول مصلحة هامة لا غنى عن تحققها في موطنها.
ص: 65
و قد يكون من هذا القبيل ما نجده يذكر في علامات الإمام صاحب الزمان «عليه السلام» حيث قد نص الأئمة «عليهم السلام» على أن بعضها: من المحتوم، و سكتوا عن البعض الآخر؛ فلربما يتحقق الجميع، و لربما تفقد بعض الشرائط لبعضها أو توجد بعض الموانع عن تحقق بعضها، و يكون المخبر إنما أخبر عن السير الطبيعي للأمور بغض النظر عن العوارض و الطوارئ، و قد أوضحنا ذلك في كتابنا دراسة في علامات الظهور، فراجع الفصل الثاني منه.
و يمكن أن تكون قضية إبراهيم و إسماعيل الذبيح من هذا القبيل أيضا، حيث إنه تعالى-لمصلحة يراها، كالامتحان و الابتلاء، و غير ذلك مما تقدم-قد أمر نبيه إبراهيم بذبح ولده ثم فدى ذلك الذبيح بذبح عظيم.
و قد أخبر تعالى: إبراهيم بأنه قد صدق الرؤيا.
و لعل قضية إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» ، كانت من هذا القبيل، فقد اقتضت المصلحة أن تتوجه الأنظار نحو إسماعيل هذا، من أجل حفظ نفس الإمام الحق من الأخطار، ثم يموت إسماعيل، و يظهر أن الإمام الحقيقي هو أخوه موسى «عليه السلام» .
الإشكال: أن كلمة «بدا» معناها: ظهر «و ليس أظهر» . و «بدا للّه» لا بد أن يكون معناه ظهر له الأمر و علم به بعد أن كان يجهله، و ذلك محال عليه تعالى كما قلتم، فكيف يمكن توجيه قوله «عليه السلام» : «ما بدا للّه في شيء كما بدا له في إسماعيل» و غير ذلك من كلمات عبرت ب «بدا له» أو «بدا للّه» ؟ ! .
ص: 66
و الجواب: أن قوله تعالى: وَ نٰادَيْنٰاهُ أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا ، ثم اعتبار قضية إسماعيل ابن الإمام الصادق «عليه السلام» و صرف القتل عنه مرتين بسبب دعاء أبيه «عليه السلام» من البداء، حيث روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله: ما بدا للّه في شيء كما بدا له في إسماعيل (1)-إن ذلك يشير إلى أن كلمة بدا لم تستعمل في معنى الإظهار أو الظهور.
و إنما استعملت بمعنى: تحقيق و تجسّد ما علم في عالم الكون و الوجود، نظير كلمة: (علم) في قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصىٰ لِمٰا لَبِثُوا أَمَداً (2).
و قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ (3).
و قوله سبحانه: وَ مٰا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلىٰ عَقِبَيْهِ (4).
و المقصود: ليتحقق معلومنا، و يتجسد في عالم الوجود، هذا بالنسبة للتعبير ب «علم» .
و كلمة بدا، أيضا كذلك، فبدا له، أي تحقق ما علمه في الخارج و على
ص: 67
صفحة الكون، و لعل قوله تعالى: وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا (1)، قد استعمل في هذا المعنى أيضا: أي تحقق ذلك و تجسد في الخارج.
و لعل هذا المعنى أقرب من حمل «بدا» على معنى: أظهر للغير، لأن هذا المعنى لا يناسب التعدية باللام لنفس الذات الإلهية، فلا يصح أن يقال: بدا للّه، و يكون المعنى: أظهر للغير، بل هذا غلط ظاهر.
و بعد، فلو أننا لم نقل بالبداء، لكنا مثل اليهود الذين نعى اللّه عليهم اعتقادهم الفاسد، حيث أنكروا البداء.
و قالوا: إن اللّه قدر الأرزاق و الأشياء منذ الأزل، و لا تغيير و لا تبديل فيما قدر، فقد «جف القلم» .
و قد قال تعالى مقبحا قولهم هذا:
وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ (2) .
و قال الشهرستاني عن اليهود: «و لم يجيزوا النسخ أصلا، قالوا: فلا يكون بعده شريعة أصلا؛ لأن النسخ في الأوامر بداء و لا يجوز البداء على اللّه تعالى» (3).
فالاعتقاد بالبداء: ضرورة إسلامية و عقيدية، و من لوازم و مقتضيات تنزيه
ص: 68
اللّه و توحيده، و هو كذلك منسجم مع مفاد الآيات القرآنية، و الأحاديث الشريفة.
و عن الإمامين الصادق و الباقر «عليهما السلام» ، قال: ما عبد اللّه تعالى بشيء مثل البداء (1).
هذا. . و قد أورد المجلسي «رحمه اللّه» للبداء حكما جليلة، و فوائد جميلة: فليراجعها من أراد (2).
ص: 69
ص: 70
ص: 71
ص: 72
قالوا: إن كلمة الإمامية قد اتفقت على أن آباء النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، من آدم إلى عبد اللّه كلهم مؤمنون موحدون (1)، بل و يضيف المجلسي قوله:
«. . بل كانوا من الصديقين، إما أنبياء مرسلين، أو أوصياء معصومين، و لعل بعضهم لم يظهر الإسلام، لتقية، أو لمصلحة دينية» (2).
و يضيف الصدوق هنا: أن أم النبي «صلى اللّه عليه و آله» آمنة بنت وهب كانت مسلمة أيضا (3).
و معنى ذلك: هو أنه ليس في آباء الرسول «صلى اللّه عليه و آله» إلا الاستقامة على جادة الحق، و الخير و البركة، و هذا هو ما ورثه الرسول
ص: 73
عنهم، و يتأكد بذلك طهارته «صلى اللّه عليه و آله» من الأرجاس، و الرذائل، حتى ما يكون عن طريق الوراثة، و الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة، و هو ما أثبته العلم الحديث أيضا، حيث لم يبق ثمة أية شبهة في تأثير عامل الوراثة في تكوين شخصية الإنسان، و في خصاله و مزاياه.
قال أبو حيان الأندلسي: «ذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي «صلى اللّه عليه و آله» كانوا مؤمنين» (1).
أما غير الإمامية، فذهب أكثرهم إلى كفر والدي النبي و غيرهما من آبائه «صلى اللّه عليه و آله» ، و ذهب بعضهم إلى إيمانهم.
و ممن صرح بإيمان عبد المطلب، و غيره من آبائه «صلى اللّه عليه و آله» ، المسعودي، و اليعقوبي، و هو ظاهر كلام الماوردي، و الرازي في كتابه أسرار التنزيل، و السنوسي، و التلمساني محشي الشفاء، و السيوطي، و قد ألف هذا الأخير عدة رسائل لإثبات ذلك (2).
ص: 74
و في المقابل قد ألف بعضهم رسائل لإثبات كفرهم، مثل إبراهيم الحلبي، و علي القاري الذي فصّل ذلك في شرح الفقه الأكبر، و اتهموا السيوطي بأنه متساهل، لا عبرة بكلامه، ما لم يوافقه كلام الأئمة النقاد.
و سيأتي في آخر هذا البحث إن شاء اللّه تعالى ما يشير إلى السبب في الإصرار على كفر آباء النبي «صلى اللّه عليه و آله» و أعمامه.
و قد قال الإمامية:
إن ثمة روايات كثيرة تدل على إيمان آبائه «صلى اللّه عليه و آله» ، بالإضافة إلى إجماع الطائفة المحقة، و مستند ذلك هو الأخبار، و الإحاطة بجميعها متعسر، إن لم يكن متعذرا (1). و هذا هو الدليل المعتمد.
و قد استدلوا على ذلك أيضا:
1-بقوله «صلى اللّه عليه و آله» : «لم يزل ينقلني اللّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني في عالمكم، و لم يدنسني بدنس الجاهلية» (2).
ص: 75
و لو كان في آبائه، أو أمهاته «صلى اللّه عليه و آله» كافر، لم يصفهم كلهم بالطهارة، مع أن اللّه تعالى يقول: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (1)(2).
إلا أن يكون المقصود هو الطهارة من العهر، أو من الأرجاس و الرذائل، و هو لا يلازم الكفر.
و يرد عليه: أنه تخصيص بلا مخصص، و لا شاهد، بل إن قوله:
«و لم يدنسني بدنس الجاهلية» شامل بإطلاقه لكل دنس، و الكفر من جملة هذه الأدناس.
2-و استدلوا على ذلك أيضا بقوله تعالى: اَلَّذِي يَرٰاكَ حِينَ تَقُومُ، وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّٰاجِدِينَ (3).
لما روي عن ابن عباس، و أبي جعفر، و أبي عبد اللّه «عليهما السلام» : أنه «صلى اللّه عليه و آله» لم يزل ينقل من صلب نبي إلى نبي، و لا يجب أن يكونوا أنبياء مبعوثين فلعل أكثرهم كان نبيا لنفسه أو لبيته. .
و يمكن المناقشة في ذلك أيضا: بأن الآية تقول: إنه تعالى يراه حال عبادته و سجوده؛ فهو «صلى اللّه عليه و آله» في جملة الساجدين الموجودين فعلا، و غيرهم.
لا أنه يراه و هو يتقلب في أصلاب الأنبياء. لكن الرواية بينت المراد، أو
ص: 76
طبقت الآية على المورد، فلا بد من الأخذ بها، و قد يقال:
و لو ثبتت الرواية، فيمكن القول بأنها لا تدل على استغراق ذلك لجميع آبائه؛ فلعله يرى تقلبه في أصلاب الأنبياء من آبائه، كما يرى تقلبه في أصلاب غير الأنبياء.
و يجاب عن هذا: بأن كلمة لم يزل ينقلني ظاهرة في استغراق هذا النقل إلى أصلاب أناس موصوفين بالنبوّة جميعا.
فإن قلت: إن من الصعب جدا إثبات نبوة كل واحد من آبائه «صلى اللّه عليه و آله» إلى آدم «عليه السلام» .
فإننا نقول: إن هذا لا يعني عدم ثبوت ذلك بهذه الروايات و أمثالها. .
و أما أدلة غير الإمامية فقد استقصاها السيوطي في رسائله المشار إليها، و لكن استعراضها و الاستقصاء فيها نقضا و إبراما يحتاج إلى وقت طويل، و تأليف مستقل.
3-و يمكن أن يستدل على إيمان آبائه «صلى اللّه عليه و آله» إلى إبراهيم بقوله تعالى، حكاية لقول إبراهيم و إسماعيل:
وَ اِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا (1) ، مع قوله تعالى: وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ (2).
أي في عقب إبراهيم، فيدل على أنه لا بد أن تبقى كلمة اللّه في ذرية إبراهيم، و لو في واحد واحد، على سبيل التسلسل المستمر فيبقى أناس
ص: 77
منهم على الفطرة، يعبدون اللّه تعالى حتى تقوم الساعة، و لعل ذلك استجابة منه تعالى لدعاء إبراهيم «عليه السلام» الذي قال:
وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ (1) و قوله: رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاٰةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي (2).
و واضح أنه: لو أنه تعالى قد استجاب لإبراهيم في جميع ذريته لما كان أبو لهب من أعظم المشركين، و أشدهم على رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و هذا ما يفسر الإتيان بمن التبعيضية في قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي .
و لا يصح القول: بأنه كما خرج أبو لهب فلعل بعض آباء النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد خرج أيضا.
و ذلك لأن كلمة بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ تفيد الاتصال، و الاستمرار من دون انقطاع، أما خروج أبي لهب فهو لا يقطع هذا الاتصال.
و قد اعترض على القائلين بإيمان جميع آبائه «صلى اللّه عليه و آله» إلى آدم، بأن القرآن الكريم ينص على كفر آزر أبي إبراهيم، قال تعالى: وَ مٰا كٰانَ اِسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَأَوّٰاهٌ حَلِيمٌ (3).
ص: 78
و أجابوا:
أولا: إن ابن حجر يدعي إجماع المؤرخين على أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم، و إنما كان عمه، أو جده لأمه، على اختلاف النقل (1)و إسم أبيه الحقيقي: تارخ (2)، و إنما أطلق عليه لفظ الأب توسعا، و تجوزا. و هذا كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدٰاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قٰالَ لِبَنِيهِ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ (3)، ثم عد فيهم إسماعيل مقدما له على أبيه الحقيقي إسحاق، مع أن إسماعيل ليس من آبائه؛ و لكنه عمه.
و قد ذكر بعض العلماء: أن اسم «آزر» لم يذكر في القرآن إلا مرة واحدة في أول الأمر، ثم لم يتكرر اسمه في غير ذلك المورد، تنبيها على أن المراد بالأب: «آزر» .
ثانيا: إن استغفار إبراهيم لأبيه قد كان في أول عهده و في شبابه، مع أننا نجد أن إبراهيم حين شيخوخته، و بعد أن رزق أولادا، و بلغ من الكبر عتيا يستغفر لوالديه، قال تعالى حكاية عنه: رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ (4).
ص: 79
قال هذا بعد أن وهب اللّه له على الكبر إسماعيل و إسحاق حسب نص الآيات الشريفة (1)، مع أن الآية تفيد: أن الاستغفار الأول قد تبعه التبرّؤ مباشرة.
و لكن من الواضح: أن بين الوالد و الأب فرقا، فإن الأب يطلق على المربي، و على العم و الجد، أما «الوالد» فإنما يخص الوالد بلا واسطة، فالاستغفار الثاني إنما كان للوالد، أما الأول فكان للأب.
ثالثا: إنه يمكن أن يكون ذلك الذي استغفر له، و تبرأ منه، قد عاد إلى الإيمان، فعاد هو إلى الاستغفار له.
هذا، و لكن بعض الأعلام (2)يرى: أن إجماع المؤرخين على أن أبا إبراهيم ليس «آزر» منشؤه التوراة، التي تذكر أن اسم أبي إبراهيم هو: «تارخ» ، ثم ذكر أن من الممكن أن يكون نفس والد إبراهيم قد كان مشركا يجادله في الإيمان باللّه، فوعده بالاستغفار له، و وفى بوعده، ثم عاد فآمن بعد ذلك فكان يدعو له بعد ذلك أيضا حتى في أواخر حياته هو كما أسلفنا.
و هذا الاحتمال و إن كان واردا من حيث لا ملزم لحمل الأب في القرآن و الوالد على المجاز.
إلا أنه ينافي الإجماع و الأخبار؛ فلا محيص عن الالتزام بما ذكرناه آنفا من أن المراد بالأب هو العم و المربي، لا الوالد على الحقيقة، مع عدم قبولنا منه قوله: إن استعمال الأب في العم المربي، يكون مجازا.
ص: 80
روى مسلم و غيره: أن رجلا سأل النبي «صلى اللّه عليه و آله» : أين أبي؟
فقال: في النار، فلما قفا دعاه، و قال له: إن أبي و أباك في النار (1).
و نقول:
إن هذا لا يصح:
أولا: لما تقدم. مما يدل على إيمان جميع آبائه «صلى اللّه عليه و آله» .
ثانيا: لقد روى هذه الرواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
مع أننا نجد: أن معمرا قد روى نفس هذا الحديث عن ثابت عن أنس، و لكن بنحو آخر لا يدل على كفر أبيه «صلى اللّه عليه و آله» ، فقد قال له «صلى اللّه عليه و آله» : «حيثما-أو إذا-مررت بقبر كافر فبشره بالنار» (2).
و قد نص علماء الجرح و التعديل-من أصحاب هؤلاء الرواة-: على أن معمرا أثبت من حماد، و أن الناس قد تكلموا في حفظ حماد، و وقع في أحاديثه مناكير، دسها ربيعة في كتبه، و كان حماد لا يحفظ، فحدث بها، فوهم فيها (3).
ص: 81
ثالثا: لقد رويت هذه الرواية بسند صحيح على شرط الشيخين عن سعد بن أبي وقاص، و جاء فيها:
حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار (1)، و كذا أيضا روي عن الزهري، بسند صحيح أيضا (2).
رابعا: كيف يكون أبواه «صلى اللّه عليه و آله» ، و أبو طالب، و عبد المطلب، و غيرهم في النار حسب إصرار هؤلاء، ثم يكون ورقة بن نوفل، الذي أدرك البعثة، و لم يسلم، في الجنة عليه ثياب السندس (3).
و كذلك فإن زيد بن عمرو بن نفيل-ابن عم عمر بن الخطاب-في الجنة يسحب ذيولا، مع أنه مثل ورقة الآنف الذكر (4)، كما أن أمية بن أبي الصلت كاد يسلم في شعره، و هكذا؟ ! (5).
و كيف تطرح كل تلك الأحاديث و التواريخ المتضافرة، المتواترة الدالة على إيمان أولئك، و يتشبث لإيمان هؤلاء ببيت شعر، أو بكلمة عابرة، لم يتبعها إلا التصميم على النهج الأول؟ ! .
نعم، و كيف لا يكون لهؤلاء نجاة و يكونون في النار (6)، ثم يدخل
ص: 82
المشركون الذين عاشوا في زمن الفترة الجنة؟ !
فقد ذكر الحلبي و دحلان و غيرهما: أن أهل الفترة لا عذاب عليهم إلا على قول ضعيف، مبني على وجوب الإيمان و التوحيد بالعقل، و الذي عليه أكثر أهل السنة و الجماعة: أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل.
و أطبق الأشاعرة في الأصول، و الشافعية في الفقه على أن من مات و لم تبلغه الدعوة مات ناجيا، و يدخل الجنة؛ فعليه:
أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليهم، و إن غيّروا، أو بدلوا، أو عبدوا الأصنام، و الأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر مؤولة (1)، و بهذا، و بالأحاديث المتواترة يرد ما زعموه من أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد منع من الاستغفار لأمه رضوان اللّه تعالى عليها، و إن كنا نحن نعتقد أن أهل الفترة يعذبون إذا قامت عليهم الحجة العقلية أو النقلية إلا القاصرين منهم؛ فإن التوحيد يثبت بالعقل لا بإرسال الرسل، و إلا، لم يمكن إثبات شيء على الإطلاق، لا التوحيد، و لا النبوة، و لا الدين من الأساس.
و من غريب الأمر هنا: أن نجد البعض يوجه رواية: إن أبي و أباك في النار، بأن المقصود هو عمه أبو طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا، و قد كان
ص: 83
«صلى اللّه عليه و آله» ينسب بالبنوة إلى أبي طالب (1).
و لا ندري لماذا ترك عمه أبا لهب لعنه اللّه تعالى، فإن كفره مسلم و مقطوع به، و تمسك بالمدافع عنه، و المناصح له، و الباذل مهجته في سبيل نبيه و دينه.
و سوف يأتي إن شاء اللّه أن إيمان أبي طالب هو المسلم و المقطوع به. بل هو كالنار على المنار، و كالشمس في رابعة النهار.
و يكفي أن نذكر أن العظيم آبادي قد قال هنا: «و هذا أيضا كلام ضعيف باطل» (2).
و يلاحظ هنا: أن في قول الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» : «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» تورية لطيفة؛ حيث إن عبارته هذه قد خففت من تأثر السائل، و هي في نفس الوقت صادقة المضمون، و لا تدل على كفر أبيه «صلى اللّه عليه و آله» ؛ إذ إن من الطبيعي أن الكافر مبشر بالنار، و أما أن أباه «صلى اللّه عليه و آله» كافر أو لا؛ فذلك مسكوت عنه.
و الغريب هنا: أنه قد روي أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد قال ذلك عن أمه «رحمها اللّه» ، فقد قال لرجلين: أمي و أمكما في النار.
و نحن لا نزيد على أن نذكر هنا أن الذهبي قد حلف على عدم صحة
ص: 84
هذا الحديث، يعني حديث كون أمه و أمهما في النار (1).
و أخيرا:
فإننا نكاد نصدق مقولة: أن السبب في تكفير آباء رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» و أعمامه هو مشاركة علي «عليه السلام» له فيهم، أو أنهم يريدون أن لا يكون آباء الخلفاء من بني أمية و من غيرهم، و آباء رجالات الحكم و أعوانه كفارا، و يكون آباء النبي و أهل بيت النبي «صلى اللّه عليه و آله» مؤمنين، فلا بد من سلب هذه الفضيلة عنه «صلى اللّه عليه و آله» ليستوي هو و غيره في هذا الأمر.
ص: 85
ص: 86
إن إيمان النبي «صلى اللّه عليه و آله» و توحيده قبل بعثته يعتبر من المسلمات، و لكن يبقى:
أنهم قد اختلفوا في أنه «صلى اللّه عليه و آله» هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله أو لا، فهل هو متعبد بشرع نوح، أو إبراهيم، أو عيسى، أو بما ثبت أنه شرع، أو لم يكن متعبدا بشرع أحد؟ ذهب إلى كل فريق (1).
و توقف عبد الجبار، و الغزالي، و السيد المرتضى.
و ذهب المجلسي إلى أنه «صلى اللّه عليه و آله» حسبما صرحت به الروايات:
كان قبل البعثة، مذ أكمل اللّه عقله في بدو سنه نبيا، مؤيدا بروح القدس (2)، يكلمه الملك، و يسمع الصوت، و يرى في المنام، ثم بعد أربعين
ص: 87
سنة صار رسولا، و كلمه الملك معاينة، و نزل عليه القرآن، و أمر بالتبليغ.
و قال المجلسي: إن ذلك ظهر له من الآثار المعتبرة، و الأخبار المستفيضة (1). .
و قد استدلوا على نبوّته «صلى اللّه عليه و آله» منذ صغره بأن اللّه تعالى قد قال حكاية عن عيسى:
قٰالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّٰهِ آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا، وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا (2) .
و يقول تعالى عن يحيى «عليه السلام» : وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا (3)فإذا أضفنا إلى ذلك: أنه قد ورد في أخبار كثيرة بعضها صحيح، كما في رواية يزيد الكناسي في الكافي:
إن اللّه لم يعط نبيّا فضيلة، و لا كرامة، و لا معجزة، إلا أعطاها نبينا الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» .
فإن النتيجة تكون: هي أن اللّه تعالى قد أعطى نبينا محمدا «صلى اللّه عليه و آله» الحكم و النبوة منذ صغره، أو فقل منذ ولد (4)؛ ثم أرسله للناس كافة، حينما بلغ الأربعين من عمره. . و قد أيد المجلسي هذا الدليل بوجوه كثيرة (5).
ص: 88
و يمكن المناقشة في ذلك بأن إعطاءه «صلى اللّه عليه و آله» فضائل الأنبياء و معجزاتهم في الرواية لا يستلزم ما يراد إثباته هنا؛ فإن بعض معجزاتهم كمعجزة العصا التي تلقف ما يأفكون، لم يكن ثمة حاجة إليها في زمانه «صلى اللّه عليه و آله» .
نعم، هي واقعة تحت اختياره «صلى اللّه عليه و آله» ، و لو احتاجها لاستفاد منها جميعا.
و أما الفضائل فقد كان «صلى اللّه عليه و آله» هو الجامع لها على النحو الأكمل و الأشمل في جميعها، حتى إنه إذا كان أيوب قد امتاز على غيره من الأنبياء بالصبر، فإن صبر نبينا «صلى اللّه عليه و آله» كان أكمل من صبر أيوب، و هكذا بالنسبة لسائر الأنبياء، و امتيازاتهم في الفضائل، و مكارم الأخلاق.
و ما أكرمهم اللّه تعالى به من ألطاف ظهرت بها كرامتهم عند اللّه، غير أن مما لا شك فيه: أن النبوة في الصغر كرامة و معجزة، و فضيلة له «صلى اللّه عليه و آله» . .
فلا بد من أن يكون اللّه تعالى قد أكرمه بها كما أكرم عيسى «عليه السلام» ، حسبما دلت عليه هذه الأخبار، و بذلك يثبت المطلوب.
كما و يثبت أيضا سر روايات كثيرة أخرى تلمح و تصرح بنبوته «صلى اللّه عليه و آله» قبل بعثته، أشار إليها المجلسي كما قلنا، و أشار العلامة الأميني أيضا إلى حديث: إنه «صلى اللّه عليه و آله» كان نبيا و آدم بين الروح و الجسد، و رواه عن العديد من المصادر من غير الشيعة (1).
ص: 89
فإذا ثبتت هذه الروايات بعد التأكد من أسانيدها و دلالتها، فما علينا إذا اعتقدنا بما دلت عليه من حرج.
و في جميع الأحوال نقول: إن مما لا ريب فيه أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان مؤمنا موحدا، يعبد اللّه، و يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى مما هو من دين الحنيفية شريعة إبراهيم «عليه السلام» ، و بما يؤدي إليه عقله الفطري السليم، و أنه كان مؤيدا و مسددا، و أنه كان أفضل الخلق و أكملهم خلقا، و خلقا و عقلا، و كان الملك يعلمه، و يدله على محاسن الأخلاق.
هذا فضلا عن أننا نجدهم ينقلون عنه «صلى اللّه عليه و آله» : أنه كان يلتزم بأمور لا تعرف إلا من قبل الشرع و كان لا يأكل الميتة، و يلتزم بالتسمية و التحميد، إلى غير ذلك مما يجده المتتبع لسيرته «صلى اللّه عليه و آله» .
بل إننا نقول: إن هناك آيات و دلائل تشير إلى أن إبراهيم الخليل «عليه السلام» و نبينا الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» ، هما اللذان كان لديهما شريعة عالمية، و قد بعثا إلى الناس كافة.
أما موسى و عيسى «عليهما السلام» فإنما بعثا إلى بني إسرائيل، و ربما يمكن القول: بأن جميع الأنبياء «عليهم السلام» ، منذ آدم و إلى النبي الخاتم «صلى اللّه عليه و آله» كانوا يعرفون جميع أحكام الشريعة، و يعملون بها في أنفسهم، و إن كانت دعوتهم للناس ليس لها هذا الشمول و السعة.
كما إننا نلاحظ: أن الآيات القرآنية العديدة قد حرصت على ربط هذه الأمة بإبراهيم «عليه السلام» فلاحظ قوله تعالى:
وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ
ص: 90
اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ (1) .
و قال تعالى:
وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً (2) .
و قال سبحانه: قُلْ صَدَقَ اَللّٰهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً (3).
و قال جل و علا: إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا (4).
و قال تعالى: وَ قٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (5).
ثم نجد القرآن يصرح أيضا أن النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» شخصيا كان مأمورا أيضا باتباع ملة إبراهيم «عليه السلام» ، فقد قال سبحانه:
ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (6) .
و قال في موضع آخر:
ص: 91
قُلْ إِنَّنِي هَدٰانِي رَبِّي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1) .
و هذا، و إن كان ظاهره: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد أمر بذلك بعد البعثة و بعد نزول الوحي عليه، لكنه يثبت أيضا:
أنه لا مانع من تعبده «صلى اللّه عليه و آله» قبل بعثته بما ثبت له أنه من دين الحنيفية، و من شرع إبراهيم «عليه السلام» ، و ليس في ذلك أية غضاضة، و لا يلزم من ذلك أن يكون نبي اللّه إبراهيم أفضل من نبينا «صلى اللّه عليه و آله» ، فإن التفاضل إنما هو في ما هو أبعد من ذلك.
هذا كله، لو لم نقتنع بالأدلة الدالة على نبوته «صلى اللّه عليه و آله» منذ صغره.
و بعد ما تقدم نقول: إن قوله تعالى: مٰا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتٰابُ وَ لاَ اَلْإِيمٰانُ (2)و قوله سبحانه: وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ (3)لا يدل على وجود ضلالة فعلية و لا على وجود جهل فعلي قبل النبوة.
بل غاية ما يدل عليه هو أنه «صلى اللّه عليه و آله» لو لا هداية اللّه له لكان ضالا و لو لا تعليم اللّه له لكان جاهلا، أي لو أن اللّه أوكله إلى نفسه، فإنه بما له من قدرات ذاتية، و بغض النظر عن الألطاف الإلهية، و العنايات
ص: 92
الربانية ضال قطعا، و جاهل بلا ريب.
فهو من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» : ما أنا في نفسي بفوق أن أخطئ، إلا أن يكفي اللّه بلطف منه.
و هذا معناه: أنه لا هداية لو لا لطف اللّه و عصمته و توفيقه، لكن بعد أن كان لطف اللّه حاصلا من أول الأمر، فإن العصمة تكون حاصلة بالضرورة من أول الأمر أيضا.
على أن وجدان اللّه محتاجا إلى الهدايات كان من حين خلقه له، وقد جاءت الهدايات فور وجدانه له كذلك. . فلا يوجد فاصل زمني بين هذا و ذاك، و ذلك، و قد شرحنا هذا الأمر في كتابنا مختصر مفيد (1).
و بعد، فقد نجد في قوله تعالى حكاية عن آدم «عليه السلام» : وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (2)، حتى و إن كانت ناظرة إلى نسيان الميثاق الذي أخذه اللّه في عالم الذر، ثم في قوله: فَاصْبِرْ كَمٰا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ (3).
و غير ذلك من شواهد و دلائل ما يشجعنا على القول: بأن المراد من إطلاق هذه الصفة على بعض الأنبياء «عليهم السلام» هو العزم الذي ينتج ذلك الصبر الذي فعله أولئك الرسل الذين أشير إليهم في الآية، فإن جميع الأنبياء معصومون ابتداء من آدم «عليه السلام» ، لكن عزم بعضهم أقوى
ص: 93
من عزم البعض الآخر، الأمر الذي يشير إلى مدى رسوخ قدمهم، و عمق درجة العصمة فيهم، و قدرتهم الكبيرة على التحمل في مواجهة أعظم التحديات مع الطواغيت و الجبارين، و تحمل المسؤوليات الجسام، و المشاق العظام في نطاق الدعوة إلى اللّه سبحانه.
و قد يكون بعض أولي العزم، حتى مثل موسى و عيسى «عليهما السلام» لم يبعث للناس كافة، و إنما لخصوص بني إسرائيل، الذين ربما يحتاجون إلى بعض التشريعات الاستثنائية الخاصة بهم، مع كون العمل في المسار العام إنما هو شريعة إبراهيم «عليه الصلاة و السلام» .
و هذا بحث يحتاج إلى توفر تام، و جهد مستقل، نأمل أن يوفقنا اللّه لهما في فرصة أخرى إن شاء اللّه تعالى.
و بعد كل ما تقدم نعلم: أن كل ما يذكر عنه «صلى اللّه عليه و آله» من أمور تتنافى مع التسديد، و مع شرع اللّه تعالى، لا أساس له من الصحة.
و نذكر هنا على سبيل المثال: ما رواه البخاري و غيره، من أنه قد قدّم لزيد بن عمرو بن نفيل سفرة فيها شاة ذبحت لغير اللّه تعالى، (و عند البخاري أنها قدمت للنبي «صلى اللّه عليه و آله» ؛ فأبى زيد أن يأكل منها، و قال: أنا لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، و لا آكل إلا ما ذكر اسم اللّه عليه) .
و في رواية أحمد: إن زيدا مر على النبي «صلى اللّه عليه و آله» و هو يأكل مع سفيان بن الحرث من سفرة لهما، فدعواه إلى الطعام فرفض، و قال إلخ. .
قال: فما رؤي النبي «صلى اللّه عليه و آله» من يومه ذاك يأكل مما ذبح
ص: 94
على النصب حتى بعث.
و يذكرون أيضا: أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم و يقول إلخ. . (1).
و عليه، فزيد بن عمرو بن نفيل كان أعقل من النبي «صلى اللّه عليه و آله» و أعرف منه-و العياذ باللّه-لأنه أدرك و عرف قبح أكل ما ذبح على النصب، و لم يذكر اسم اللّه عليه، أو بلغه ذلك، و لكن النبي «صلى اللّه عليه و آله» لم يستطع أن يدرك ذلك، و لا كان على قرب من مصادر المعرفة، فكان يأكل منه؛ مع أنه «صلى اللّه عليه و آله» أعقل الكل و فوق الكل، و مع أنه قد تربى في حجر عبد المطلب، الذي ترك الأصنام، و ابتعد عنها حسبما تقدم، ثم في حجر عمه أبي طالب، و بيتهم كان أرفع بيت في العرب، و هم أعرف الناس بتعاليم الحنيفية.
نعم، لقد أدرك زيد ذلك برأيه، حسبما يرجحه العسقلاني (2)، و لم يستطع النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» أن يدركه، لقد كانت النبوة بزيد قريب عمر بن الخطاب (3)أجدر منها بمحمد، نعوذ باللّه من الزلل في القول و العمل.
ص: 95
و احتمال أن يكون زيد قد أخذ ذلك عن بعض النصارى أو اليهود، كما احتمله البعض يحتاج إلى إثبات: أن النصارى كانوا يحرمون أكل ما ذبح على النصب، أو ما لم يذكر اسم اللّه عليه.
أما اليهود فما كانوا يهتمون بدخول غيرهم في دينهم، و إذا كان ذلك شائعا عنهم؛ فلماذا لم يعرف به غير زيد؟
على أن هناك نصا يقول: إن النبي «صلى اللّه عليه و آله» : «كان لم يأكل مما ذبح على النصب» (1).
و مهما يكن من أمر، فقد قال السهيلي: «كيف وفق اللّه زيدا إلى ترك ما ذبح على النصب، و ما لم يذكر اسم اللّه عليه، و رسوله «صلى اللّه عليه و آله» كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية؛ لما ثبت من عصمة اللّه تعالى له» ؟
ثم أجاب عن ذلك: بأنه ليس في الرواية: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد أكل من السفرة، و بأن شرع إبراهيم إنما جاء بتحريم الميتة، لا بتحريم ما ذبح لغير اللّه تعالى، فزيد امتنع عن أكل ما ذبح لغير اللّه برأي رآه لا بشرع متقدم (2).
و لكنه جواب بارد حقا.
فإن إدراك زيد لهذا الأمر الذي وافق فيه نظر الشرع، و عدم إدراكه هو «صلى اللّه عليه و آله» له مما لا يمكن قبوله، أو الالتزام به.
ص: 96
هذا. . و لماذا يسدد اللّه تعالى نبيه حينما كشف عن عورته حين بناء البيت، و يمنعه عن ذلك-حسبما يدعون-ثم تبغض إليه الأصنام، و الشعر، و لا يسدده اللّه، و يحفظه من أكل ما ذبح لغير اللّه تعالى؟ ! الذي يدرك بعض الناس أنه ليس محبوبا للّه تعالى؟ !
و من أساطيرهم أيضا: ما ذكروه من أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان يستلم الأصنام، بل لقد ذكر البعض: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قال: «أهديت للعزى شاة عفراء و أنا على دين قومي» (1).
مع أنهم يذكرون: أن زيدا المتقدم و عمر بن الحويرث، و أبا قيس بن هرمة، و قس بن ساعدة، و أسعد بن كريب، و عبيد اللّه بن جحش، و رباب بن البراء و غيرهم، لم يسجدوا لصنم قط، و حرموا عبادة الأوثان.
فلماذا أدركوا هم ذلك دونه؟ ! .
و أيضا فقد سئل «صلى اللّه عليه و آله» : هل عبدت وثنا قط؟
قال: لا.
و قال ابن حجر: إن الناس قد أنكروا حديث استلامه الأصنام.
و قال أحمد بن حنبل-على ما في الشفاء-: إنه حديث موضوع (2).
و على كل حال؛ فإن هناك تفاهات كثيرة، و أكاذيب عديدة عليه «صلى
ص: 97
اللّه عليه و آله» ، سواء بالنسبة إلى الفترة التي سبقت البعثة، أو التي تلتها.
و سيأتي بعض من ذلك، و لكن لا بد من الاعتراف: بأن استقصاءها متعسر بل متعذر؛ و لذا فلا بد من الاقتصار على ما يسعه المجال، ثم الانصراف إلى ما هو أهم، و أجدر، و أولى.
ص: 98
هناك عدة أمور تعتبر ضرورية و حتمية في بناء الحضارة، و حصول النهضة لأي شعب كان، و أية أمة كانت، و نود أن نشير إلى بعض مقومات و عناصر ذلك عموما.
ثم. . و بمقارنة بسيطة و موجزة، نستطيع أن نتعرف على جانب من عظمة الإسلام و سموّه، و أصالته.
و من أجل تسهيل تصور ما نريد عرضه على القارئ، نقوم بمقارنة محدودة بين واقع و ظروف عرب شمال الجزيرة العربية، و هم أهل الحجاز، و بين واقع و ظروف عرب جنوبها، و هم أهل اليمن.
فنقول:
ألف: لقد عاش اليمنيون في منطقة غنية و ثرية، و تستطيع إذا ما اشتغل أهلها بزراعتها: أن توفر لهم لقمة العيش، و هي بالإضافة إلى ذلك أرض جبلية، صعبة المسالك، فهي إذن تستطيع في كثير من الأحيان أن توفر لهم حماية طبيعية، و قدرة على مقاومة الأعداء.
و إذا كان اليمنيون يشتغلون بزراعة أرضهم، و يستفيدون منها،
ص: 99
و يعتبرونها المصدر الأول و الأساس لحياتهم، و استمرار وجودهم؛ فمن الطبيعي أن يتولد فيهم لذلك شعور مبهم بمحبة هذه الأرض، و التمسك بها، و الحنين إليها.
و هذا بالطبع هو المهم عادة في حب الناس لأوطانهم، و حنينهم إليها، حتى إنهم قد يبذلون كل غال و نفيس حتى دماءهم في سبيل الدفاع عنها، بل و حتى عن شبر واحد منها؛ فمحبة الوطن تنشأ غالبا من محبة الأرض، و محبة الأرض تنشأ (عموما) من الشعور بأنها تعطيه كل مقومات الحياة، و بأنها تحفظ له استمرار بقائه و وجوده، بالشكل المرضي له، و المقبول عنده.
ب: و كان في اليمن أيضا حكومة مركزية مهيمنة تفرض النظام و القانون، و تهتم بإشاعة الطمأنينة، و الأمن و السلام.
و إذا كان الإنسان يشعر بالأمن، و يعيش في ظل القانون، و لا يتخوف من أي عدو يتربص به الغوائل، فإنه يجد الفرصة للتفكير في تغيير الوضع الحياتي الذي يعيشه، إلى وضع أفضل و أكمل.
ج: ثم تتاح الفرصة لآمال و تطلعات هذا الإنسان للتعبير عن نفسها، و فرض وجودها، فتدفعه إلى بذل المحاولة، و التصرف فيما تناله قدراته في توجيهه في هذا السبيل.
د: ثم يأتي دور الأهم و الأقوى تأثيرا في النهضة، ألا و هو النظام الأكمل و الأشمل و الأصلح، الذي يستطيع أن يبني الإنسان من الداخل، و يحافظ عليه من الخارج، و يزيل من طريقه كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل تقدمه؛ و لتنمو و تتكامل في ظل ذلك النظام-من ثم- ملكات هذا الإنسان، و خصائصه، و لتجد طاقاته و إمكاناته الفرصة للتأثير
ص: 100
في عملية التغيير للحاضر الذي يعيشه، و التخطيط الصحيح و السليم للمستقبل الذي يقدم عليه.
فإذا توفرت كل تلك العناصر لأية أمة، فإنها و لا شك سوف تكون قادرة على أن تبني حضارة، و تصنع لنفسها مستقبلا مغريا و زاهرا و مجيدا.
و قد كانت كل تلك العناصر متوفرة في منطقة اليمن، باستثناء العنصر الأخير منها، و كان فقدانها له بالذات هو السبب في أنها لم تستطع أن تفيد شيئا من تلك القدرات و الإمكانات التي توفرت لها، و لا يحدثنا التاريخ عن شيء ذي بال تميزت به اليمن في تاريخها القديم، سواء على الصعيد الفكري، أو الحضاري، أو غير ذلك، و لا كان فيها ما يعبر عن نظرة واعية، أو عقلية متطورة تتلاءم مع حجم إمكاناتها تلك.
كما أن الديانة اليهودية المحرّفة، التي سيطرت عليها حقبة من الزمن، لم تستطع أن تقدم لها شيئا يذكر في مجال النهوض بأهلها، و الخروج بهم من ظلمات جهلهم، و التخفيف من شقائهم و آلامهم، تماما كما لم تستطع المسيحية المحرفة في الرومان، و الزرادشتية في الفرس، أن تؤثرا تأثيرا يذكر في ذلك.
أما في الحجاز: فقد كانت كل تلك العناصر مفقودة؛ و لكن عندما وجد العنصر الأخير منها-فقط-استطاعت هذه الأمة-و ذلك هو الإعجاز حقا-أن تنتقل من أمة متوحشة بدائية، تتصف بكل صفات الذل و المهانة، إلى أمة لا تدانيها، و لن تدانيها أية أمة أخرى على الإطلاق.
فعرب الحجاز لم يكونوا في الأكثر أهل زراعة، لأن أرضهم لم تكن صالحة لذلك؛ بسبب قلة المياه فيها، حيث لم يكن فيها حتى نهر واحد
ص: 101
بالمعنى الصحيح للكلمة (1)، كما أن الأمطار تقل فيها بشكل ملحوظ، و كل ما كان هناك هو بعض الينابيع، التي كانت تظهر في الشتاء، و تجف في الصيف، فيرحلون عنها بحثا عن غيرها، هذا عدا عن أن الأرض نفسها كان فيها القليل مما يصلح للزراعة.
إذن، فلا شيء يشد العربي إلى هذه الأرض، أو يربطه بها، و يجعله يحبها، و يتفانى في سبيلها، بل كان مصدر حياتهم و رزقهم هو: السيف، و الماشية، و الإبل بصورة عامة.
و لهذا نرى: أن أكثر ما يعز عليهم، و يحتل مكانة في نفوسهم هو هذه الأمور بالذات؛ فنرى الشاعر العربي يتغنى بالجمل، و السيف، و الفرس، و يتغزل بالرياح الطيبة، التي تخفف عنه بعض ما يعانيه من آلام؛ نتيجة حر منطقته، ثم هو يناجي القمر و النجوم كثيرا أيضا.
و إذا ما رأيناه يبكي-أحيانا-الديار و الأطلال، فليس ذلك إلا لأنها كانت في وقت ما مصدر أنس له، أو لأنه هو نفسه كان حضريا.
و لأن العربي هذا قد اتخذ الغزو و السلب وسيلة من وسائل العيش؛ فإننا نراه يهتم بالتغني بمواقفه هذه، و يفتخر باستمرار بشنّه الغارات فرسانا و ركبانا.
و من الجهة الأخرى، فإنه دائما يتوقع أن يغزى، و أن تشن عليه الغارات، و لا يشعر بوجود سلطة تستطيع أن تحميه، فهو في خوف دائم، و رعب مستمر.
ص: 102
و إذا كان الأمن غير متوفر له، فكيف يمكن أن تتوفر له الفرصة للتفكير في حياته، و محاولة الخروج من واقعه، و تحسين ظروف عيشه، ثم التخطيط للمستقبل بواقعية، و أناة، ثم العمل بهدوء و اطمئنان على تنفيذ خططه، و تحقيق آماله؟ !
و من الجهة الثالثة: كيف و أنى يمكن لآماله أن تنمو، و لطموحاته أن تتجسد و هو في كل يوم يفقد أملا، و يتحمل ألما
و خلاصة الأمر: أنه لا سلطة مركزية تستطيع أن تفرض هيبتها و هيمنتها بيسر و فعالية، بل إن ذلك قد يتعذر بالنسبة إلى أمة تعيش حياة التنقل و الغارة و تتحول باستمرار من مكان إلى مكان.
و قد كان العرب يتجنبون الالتحام بالجيوش المنظمة-لتفوقها عليهم-فإذا تعقبتهم تلك الجيوش هربوا إلى البادية، و اعتصموا بها، و كذلك يفعلون إذا واجهوا الجيش و وجدوا فيه قوة (1).
و إذن. . فهم كانوا يفقدون كل أسباب النهضة و التقدم، و لا يملكون منها حتى الأمل بالتغيير، فضلا عن إرادته، و العمل من أجله، هذا فضلا عن أن الصفات الذميمة، و العادات السيئة، التي كانت تهيمن عليهم جماعات و أفرادا لم تكن تسمح لهم بأية نهضة، أو أي تقدم نحو الأفضل، إن لم تكن تزيد من بلائهم و شقائهم، و تدفعهم خطوة بل خطوات إلى الوراء.
ص: 103
و لكنهم مع ذلك كله، عندما وجدوا الرسالة السماوية الحقة، استطاعت تلك الرسالة، و ذلك الرسول-و في فترة وجيزة جدا-أن تنقل هذه الأمة من حضيض الذل و المهانة إلى أوج العظمة، و العزة و الكرامة، و أن تغير فيها كل عاداتها و مفاهيمها، و تخفف، بل و تقضي على كل أسباب شقائها، و آلامها، و ذلك هو الإعجاز حقا.
نعم. . لقد استطاع الإسلام في فترة لا تتجاوز سنواتها عدد أصابع اليدين أن يحدث انقلابا حقيقيا و جذريا في عقلية و مواقف و سلوك تلك الأمة، و في مفاهيمها، و أن ينقلها من العدم إلى الوجود، و من الموت إلى الحياة.
و لو أن المسيحية و اليهودية و غيرهما من الأديان و المذاهب كان فيها أدنى صلاح، و مع توفر كل الظروف الملائمة لنجاحها في تغيير الأوضاع السيئة-آنذاك-لعبرت عن نفسها، و لأثبتت وجودها، مع أن المسيحية قد كانت في العرب أيضا قبل الإسلام، و كذلك اليهودية، و لكنها لم تستطع أن تغير من عقلية العربي، و سلوكه، و مفاهيمه عن الحياة و المستقبل شيئا، بل بقي يئد البنات، و يشن الغارات، إلى غير ذلك من أفعال و صفات.
بل إنهم ليذكرون: أن القبيلة العربية الفلانية التي كانت تدين بالمسيحية ما كانت تعرف من المسيحية غير شرب الخمر-كما سيأتي-كما أن اليهود قد عاشوا بينهم، و كان العرب يحترمونهم جدا، و يعتبرونهم وحدهم مصدرا للمعرفة و العلم-كما تقدم في الجزء السابق-و لكنهم لم يكن لهم في سلوكهم، و عقليتهم، أثر يذكر.
ص: 104
و بعد ذلك الموجز الذي قدمناه لا بد أن نشير إلى بعض العوامل و الظروف التي ساعدت على انتصار الإسلام و انتشاره، في منطقة لها تلك الصفات و المميزات المشار إليها في البحث السابق.
و بعض تلك العوامل يرجع إلى شخصية الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، و بعضها يرجع إلى الرسالة نفسها، و بعضها يعود إلى أمور أخرى، خارجة عن هذا و ذاك، و يمكن أن نلخص ما نريد الإشارة إليه في الأمور التالية:
أ-إنه يلاحظ أن الإسلام قد انطلق من أقدس بلد لدى الإنسان العربي، بل ولدى غيره أيضا، و هو المكان الذي تهوي إليه ثمار الأفئدة من كل مكان، و هو ملتقى لكل العواطف، و محل آمال الناس، و غاية رجائهم.
ب-يقول البوطي: «البقعة الجغرافية للجزيرة العربية ترشحها للقيام بعبء مثل هذه الدعوة؛ بسبب أنها تقع-كما قلنا-في نقطة الوسط بين الأمم المختلفة التي من حولها، و هذا مما يجعل إشعاعات الدعوة الإسلامية
ص: 105
تنتشر بين جميع الشعوب و الدول المحيطة بها في سهولة و يسر» (1).
و طبيعي: أن هذا الدين لو كان ظهر في بلاد كسرى؛ فإن أتباع قيصر لا يتبعونه، و كذلك العكس؛ و ذلك بسبب المنافسة القائمة بين الإمبراطوريتين و الحواجز النفسية الحاكمة و المهيمنة على الأمتين.
ج-لقد بدأ «صلى اللّه عليه و آله» دعوته في مكان بعيد عن نفوذ الدولتين العظيمتين: الرومان، و الفرس، و غيرهما من الدول ذات القوة.
إذن، فلا قوة قاهرة تستطيع أن تضرب الضربة الحاسمة، و تقضي على دعوته في مهدها؛ و ذلك لأن المحيط الذي بدأ فيه دعوته، و الحجاز عموما، كانت تسيطر عليه الروح القبلية، و يطغى عليه التعصب القبلي، و القوى فيه متكافئة تقريبا، و كانت القبائل المتعددة كثيرة-فبطون قريش وحدها كانت عشرة أو تزيد-يرقب بعضها بعضا، و يخشى بعضها بأس بعض.
هذا كله، عدا عن أنها كانت تعرف: أنها إذا أرادت أن تنتهك حرمة الحرم، و يحارب بعضها بعضا؛ فإن مكانتها و احترامها-و بالتالي مصالحها الحيوية سوف تتعرض لدى سائر العرب لنكسة قاسية، إن لم تكن قاضية.
أ-لقد كان صاحب هذه الدعوة: محمد «صلى اللّه عليه و آله» من قريش، أعظم قبائل العرب خطرا، و قوة، و نفوذا، و التي كان ينظر إليها -كل أحد-بعين الإجلال و الإكبار، و بالأخص هو من البيت الهاشمي منها، الذي كان يمتاز بالنزاهة و الطهر، و له السيادة و الزعامة، و السؤدد في
ص: 106
مكة، و له الشرف الرفيع الذي لا يدانيه و لا ينازعه فيه أحد.
فمحمد «صلى اللّه عليه و آله» إذن ليس بحاجة إلى الشرف و الزعامة ليجعل من ادّعاء النبوة وسيلة للوصول إليها، و الحصول عليها، و قد كان واضحا-لو قيست الأمور بالمقاييس العادية-أن دعواه تلك لسوف تجر عليه الكثير من المتاعب و المصائب، و يكون بذلك قد فرط بكل ما لديه من رصيد اجتماعي في هذا المجال، فاستمراره في دعوته مع وضوح أخطارها له يعتبر أمرا غير منطقي، لو كان ما يدعيه لا واقعية له.
كما أن كل أحد يكون على استعداد لقبول الدعوة من بني إسماعيل، الذين هم مهبط الوحي، و معدن الطهر، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى في مباحث عرض الرسول «صلى اللّه عليه و آله» دعوته على القبائل، أنه لما عرض دعوته على بني عامر بن صعصعة، و رفضوا إلا أن يجعل الأمر فيهم بعده، و رفض هو، و عادوا إلى بلادهم، و تحدثوا بما كان لشيخ لهم، وضع ذلك الشيخ يده على رأسه، ثم قال:
يا بني عامر، هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ و الذي نفس فلان بيده، ما تقوّلها إسماعيلي قط، و إنها لحق؛ فأين رأيكم كان عنكم؟ (1).
ب-تلك الخصائص و المميزات في الرسول «صلى اللّه عليه و آله» نفسه، و التي أشار إليها جعفر بن أبي طالب بقوله:
«بعث اللّه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه، و صدقه، و أمانته و عفافه» .
حتى لقد لقب ب(الصادق الأمين) فقد كان لذلك أثر كبير في ظهور
ص: 107
دعوته، و انتصار و انتشار رسالته، و قد كان تحليه «صلى اللّه عليه و آله» بهذه المواصفات ضروريا، لأن فقدانها موجب لريبهم، كما قال تعالى: إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (1).
هذا كله، بالإضافة إلى ما قد تمدّحه اللّه عليه من خلقه العظيم، فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (2).
و مع ذلك فإننا نود أن نخص بالذكر هنا ما يلي:
1-إننا نجد البعض يسلم استنادا إلى شهادة الرسول «صلى اللّه عليه و آله» نفسه، فقد ورد أن رجلا دخل على جمل؛ فأناخه في المسجد، و عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ و النبي «صلى اللّه عليه و آله» متكئ بين ظهرانيهم.
فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ.
فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟
فقال له «صلى اللّه عليه و آله» : قد أجبتك.
فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة؛ فلا تجد علي في نفسك.
فقال: سل عما بدا لك.
فقال: أسالك بربك و رب من قبلك، أاللّه أرسلك إلى الناس كلهم؟
ص: 108
فقال: اللهم نعم.
فقال: أنشدك باللّه، أاللّه أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم و الليلة؟ .
قال: اللهم نعم.
قال: أنشدك اللّه. .
إلى أن قال: فقال الرجل: آمنت بما جئت به، و أنا رسول من ورائي من قومي، و أنا ضمام بن ثعلبة الخ. . (1).
فإن عدم قدرة ضمام على تمييزه «صلى اللّه عليه و آله» عن أصحابه، لخير دليل على خلق النبي العظيم، و على أن الإسلام لا يعترف بتلك الفوارق المصطنعة بين الحاكم و رعيته، و لا يعتبر أن الحكم يعطي للحاكم امتيازا، و إنما هو مسؤولية.
كما أن إسلام ضمام استنادا إلى شهادة النبي «صلى اللّه عليه و آله» نفسه ليعتبر الذروة في الثقة به «صلى اللّه عليه و آله» ، و تأثير هذه الثقة في قبول دعوته، و انتشار رسالته.
2-هذا مع ما كانت تعرفه قريش فيه، من وفور العقل، و حسن التدبير، و أصالة الرأي-و قد تقدمت قضية رفع الحجر الأسود إلى موضعه عند بناء البيت، و حلّه «صلى اللّه عليه و آله» المشكلة التي كانت تواجههم.
ص: 109
ثم ما ظهر له من الآيات و البراهين، حين ولادته، و بعدها، و كونه ابن الذبيحين، الأمر الذي جعل له قدسية خاصة في نفوس الناس.
نعم، إن كل ذلك قد وضع قريشا، و سائر الناس أمام الأمر الواقع، فكان كل من يحاول تكذيبه «صلى اللّه عليه و آله» يجد نفسه أمام صراع داخلي، و وجداني؛ لأن وجدانه و ضميره كان يقول له:
أنت الكاذب الحقيقي، و هو الصادق الأمين، و هو محل الثقة المطلقة، و أنت مظنة الخيانة، و هو صاحب الرأي و التدبير، و العقل الكبير، و أنت القاصر المقصر في ذلك، و هكذا الحال في سائر صفاته الغر، و أخلاقه الفضلى.
3-و قد عزز ذلك و قوّاه: أن كل أحد كان يعرف أميته «صلى اللّه عليه و آله» (1)، و أنه لم يتلق العلم و المعرفة من أحد، و ها هو لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يدعي المعرفة بجزء مما جاء به، فضلا عن بيئته المتناهية في الجهل و الضياع، فلم يكن ثمة مجال للارتياب في صدقه، و صحة دعوته، إلا من مكابر، لا يرى إلا نفسه، و لا يفكر إلا فيها.
و حتى لو كان قارئا، فماذا عساه يجد في كتب السابقين، و هل يمكن أن يقاس ذلك بما جاء به «صلى اللّه عليه و آله» من المعارف العالية، و التشريعات المعجزة، بلسان القرآن، الذي يعجز الجن و الإنس عن أن
ص: 110
يأتوا بسورة من مثله؟ !
4-ثم هو لم يسجد لصنم قط، فلا يستطيع أحد أن يعترض عليه بأنك أنت كنت بالأمس تسجد للأصنام، و تعبد الأوثان؛ فلماذا تكفر بها اليوم؟ ! . فإن كانت عبادتها تخالف العقل و الفطرة، فأين كان عنك عقلك، و لماذا شذت بك فطرتك؟ ! .
5-ثم يأتي بعد ذلك أسلوب دعوته المتطور، على وفق الحكمة، و على حسب مقتضيات الأحوال، و في حدود الأهداف الرسالية، التي لا بد من التقيد بها، و في حدودها.
6-ثم هناك إصراره، و صبره، و تحمله لكل المشاق و الآلام، و رفضه لكل المساومات، حتى إنهم لو وضعوا الشمس في يمينه، و القمر في شماله على أن يترك هذا الأمر، ما تركه، بل هو لا يقبل منهم أن يسلموا شرط أن يعطيهم فرصة زمنية للتزود من عبادة أوثانهم، مما أوضح لهم: أن المسألة تتجاوز حدود اختياره، و أن رب السماء هو الذي يرعى هذا الأمر، و يريده منهم.
و يأتي بعد ذلك كله، دور الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، حيث كان الناس يعيشون حياة الشقاء و البلاء، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، كما دلت عليه كلمات الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» المتقدمة في أوائل هذا الجزء عن الحالة الإجتماعية عند العرب-و هي لا تختلف كثيرا عما عند غيرهم-و نضيف إلى ذلك هنا: ما قاله جعفر «رحمه اللّه» لملك الحبشة، حينما ذهب عمرو بن العاص ليخدعه عنهم:
ص: 111
«كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسيء الجوار، و يأكل القوي منا الضعيف» (1).
فهذه الحالة الاجتماعية القاسية التي كانت تهيمن على الأمة، و ذلك الضياع الذي يسيطر عليها قد هيأ الإنسان الجاهلي نفسيا لقبول الحق، و التفاعل معه، و جعله يتطلع للدعوة التي يجد فيها الحق و الخير، و يعرف أنها تستطيع أن تخفف من شقائه و آلامه، و تنقذه من واقعه المزري و المهين ذاك.
و قد عبر جعفر بن أبي طالب «عليه السلام» عن ذلك، لملك الحبشة، بعد عبارته المتقدمة، فقال:
«فكنا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه و أمانته، و عفافه فدعانا إلى اللّه؛ لنوحده، و نعبده، و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه، من الحجارة و الأوثان، و أمرنا بصدق الحديث، و أداء الأمانة، و صلة الرحم، و حسن الجوار، و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش، و قول الزور، و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنة الخ. .» (2).
و قد عبر أهل المدينة على لسان أسعد بن زرارة عن أملهم في أن يحل «صلى اللّه عليه و آله» بدعوته تلك مشاكلهم المستعصية، حيث يذكر المؤرخون:
ص: 112
أن الأوس و الخزرج ما كانوا يضعون السلاح في ليل و لا نهار (1)، فمن الطبيعي إذن أن يشتاقوا إلى الخروج من وضع كهذا إذ نعمتان مجهولتان: الصحة و الأمان.
و سيأتي الحديث عن ذلك حين الكلام على دخول الإسلام إلى المدينة.
هذا، و لا بد من الإشارة هنا إلى أن الاندفاع نحو الإسلام، إنما كان ظاهرا و قويا في جملة الضعفاء و العبيد، و الفقراء، أما أولئك المستغلون و المستكبرون و أصحاب الأموال، و الأطماع، من أمثال:
أبي جهل، و أبي سفيان؛ فقد كانوا هم الذين يهتمون بالقضاء على الدعوة، و منعها من الانتشار، و إن المطالع لتاريخ الإسلام في مكة ليجد الكثير الكثير من الشواهد التي تؤيد ما ذكرناه هنا، مع تأكيدنا على أن ذلك لا يختص بما جرى بالنسبة لنبينا «صلى اللّه عليه و آله» بل هو ينسحب على غيره من الأنبياء السابقين، و قد عبر القرآن عن هؤلاء المخالفين من الطبقة الأرستقراطية ب «الملأ» في أكثر من مورد، و أكثر من مناسبة.
و مما ساعد على انتشار الإسلام و انتصاره نوع المعجزة التي جاء بها «صلى اللّه عليه و آله» فإن هذا القرآن قد حيّر العرب، ليس فقط بما يتضمنه من قوانين عامة و شاملة، و من معان و إخبارات غيبية، و من قصص فيها العبر و العظات، رأى فيها غير المسلمين تصحيحا دقيقا لما جاء منها في كتبهم، و غير ذلك من علوم و معارف، و إنما قهرهم و بهرهم فيما كانوا
ص: 113
يعتبرون أنفسهم، و يعتبرهم العالم بأسره قمة فيه، إكمالا للحجة، و حتى لا يبقى مجال لأي خيار؛ لأن خروجه «صلى اللّه عليه و آله» في بيئة كهذه، بحجة كهذه، لا بد أن يجعلهم يذعنون و ينقادون للحق، و إلا فلسوف يراهم كل أحد، و يرون أنفسهم أيضا معاندين للحق، و مناصرين للباطل.
نعم، لقد بهرم هذا القرآن و حيّرهم، و لم يترك لهم مجالا للخيار فإما الجحود على علم وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (1)، و إما الإيمان و التسليم.
و إذا كنا نعلم: أن من مميزات العربي، و بحكم حياته و طبيعته:
أنه كان يعيش حياة الحرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، و لم تلوث فكره و عقله الأفكار و الشبهات و الآراء المصطنعة-كما كان الحال بالنسبة لسائر الأمم، كالرومان و الفرس و غيرهما، الذين كانوا يحاولون فلسفة أديانهم البعيدة عن الفطرة، و المنافرة لها، و إظهارها بمظاهر معقولة و مقبولة-.
إذا كنا نعلم و نرى ذلك، فإن هذا القرآن قد جاء منسجما مع فطرة العربي، و متلائما مع طبعه و سجيته، و مع صفاء نفسه و قريحته، تماما كما كانت الدعوة نفسها منسجمة مع فطرته و روحه، و يستجيب لها عقله، و ضميره و وجدانه، لأنه كان يعيش على الفطرة، و الإسلام دين الفطرة: فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ (2).
و لذلك نراه سرعان ما صار يبذل ماله، و ولده، و دمه في سبيل هذه
ص: 114
الدعوة، و يقتل حتى أباه و أخاه من أجلها، و لسوف نتحدث إن شاء اللّه تعالى عن سر إعجاز القرآن فيما يأتي من فصول.
و أيضا، فان بشائر أهل الكتاب بقرب ظهور نبي في المنطقة العربية، قد سهل هو الآخر قبول دعوته، و انتشار رسالته.
فقد جاء في التوراة المتداولة: «و هذه هي البركة، التي بارك بها موسى رجل اللّه بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، و أشرق لهم من ساعير، و تلألأ من جبل فاران» (1).
فالمجيء من سيناء كناية عن تكليم اللّه لموسى «عليه السلام» في سيناء، و ساعير هي جبال فلسطين، و هو إشارة لعيسى «عليه السلام» .
و فاران اسم قديم لأرض مكة (2)، التي لم يظهر فيها إلا نبينا الأعظم محمد «صلى اللّه عليه و آله» ، الذي أنزل عليه القرآن.
و النبي محمد «صلى اللّه عليه و آله» هو من نسل إبراهيم «عليه السلام» ، الذي جعلها أرض غربته، تقول التوراة: «و أعطى لك و لنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكا أبديا» (3).
فالمقصود بأرض غربة إبراهيم خصوص مكة، لأنها هي التي أسكن أهله فيها.
ص: 115
و أرض كنعان و إن كانت هي بلاد الشام و لكن المقصود فيها هنا عموم بلاد العرب، بضرب من التجوز، لأن إبراهيم لم يهاجر إلى الشام، و لا أسكن أهله فيها (1).
و جاء في الإنجيل قوله: «و هذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة و لاويين؛ ليسألوه: من أنت؟
فاعترف، و لم ينكر، و أقر: إني لست أنا المسيح.
فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا؟
فقال: لست أنا، النبي أنت؟
فأجاب: لا» (2).
فالمراد بإيليا ليس إلياسا-كما ربما يدعى-و ذلك لأنه قد كان قبل عيسى بقرون، فلا بد أن يكون المقصود به رجلا يأتي بعد عيسى. و كذلك الحال بالنسبة إلى النبي الذي سألوه عنه.
و من المعلوم أنه لم يأت بعد عيسى غير نبينا محمد «صلى اللّه عليه و آله» ، و أوصيائه «عليهم السلام» فلعل المقصود بالنبي هو محمد «صلى اللّه عليه و آله» و بإيليا وصيه علي «عليه السلام» .
هذا، و بشارات العهدين به «صلى اللّه عليه و آله» كثيرة جدا، فمن
ص: 116
أرادها فليراجع الكتب المعدة لذلك (1)مع الأخذ بعين الاعتبار:
أن التوراة و الإنجيل الموجودين فعلا قد نالتهما يد التحريف و التزوير، كما يظهر لمن راجع كتاب: الهدى إلى دين المصطفى، و الرحلة المدرسية، للمرحوم البلاغي و إظهار الحق لرحمة اللّه الهندي، و غير ذلك.
و يكفي أن نذكر هنا: أن القرآن قد قرر: أن أهل الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (2).
و قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ (3).
و لو أن أهل الكتاب كان يمكنهم إثبات خلاف هذا النص القرآني، لبادروا إليه، و لما عرّضوا أنفسهم للحروب و البلايا في سعيهم الدائب لإطفاء نور اللّه، هم و مشركو مكة، الذين كانوا يتعاونون معهم تعاونا وثيقا.
بل إن أهل الكتاب أنفسهم كانوا يتوعدون العرب، و يقولون لهم: «ليخرجنّ نبي، فيكسرنّ أصنامكم، فلما خرج رسول اللّه كفروا به» (4).
ص: 117
و يقول مغلطاي: «إنه لما شاع قبل ولادته: أن نبيا اسمه محمد، هذا إبان ظهوره، سمى جماعة أبناءهم محمدا، رجاء أن يكون هو، منهم محمد بن سفيان بن مجاشع الخ. . ثم عد جماعة من المسمين بهذا الاسم» (1).
و لما دعا رسول الإسلام بعض المدنيين-قبل الهجرة-إلى الإسلام، قال بعضهم لبعض:
يا قوم، إن هذا الذي كانت اليهود يدعوننا به، أن يخرج في آخر الزمان، و كانت اليهود إذا كان بينهم شيء، قالوا: «إننا ننتظر نبيا يبعث الآن يقتلكم قتل عاد و ثمود، فنتبعه، و نظهر عليكم معه إلخ. .» (2).
و بعد، فإن النصارى لم يتوغلوا في قلب الجزيرة العربية، بل كانوا يسكنون على أطرافها: الحيرة، و بلاد الشام، و كانت بعض القبائل العربية تدين بالنصرانية، دون أن يلتزموا بطقوسها الدينية إلا بصورة ضعيفة كما سنرى.
أما اليهود، فقد كانوا أولا هم حكام يثرب، بعد أن قدموها من بلاد فلسطين، فرارا من الاضطهاد الذي حاق بهم، ثم قدمها الأوس و الخزرج القحطانيون من اليمن، و تغلبوا عليها، و حصروا اليهود-و هم ثلاث قبائل: بنو النضير، و قينقاع، و قريظة-في مناطق معينة في المدينة و أطرافها، و كانوا يسكنون فدكا و تيماء أيضا.
ص: 118
و يذكر هيكل: أنه كان يحظر على اليهود و النصارى سكنى مكة، إلا أن يكون أجيرا، لا يتحدث بشيء من أمر دينه و من أمر كتابه، ثم يستثني في موضع آخر: العبيد منهم (1).
و لكننا نجد: أنه كان يسكنها المتنصرة من العرب كورقة بن نوفل و أضرابه، و على كل حال، فإن هذا الأمر لا يهمنا تحقيقه كثيرا.
و ما يهمنا هنا: هو الإشارة إلى أن العرب كانوا ينظرون إلى أهل الكتاب نظر التلميذ إلى معلمه، و يعتبرونهم مصدر الثقافة و المعرفة لهم، حتى إننا لنجد في التاريخ:
أن العربي كان إذا أراد الإسلام يستشير حبرا، أو راهبا في ذلك، بل نجد قبيلة بكاملها تذهب إلى يهود فدك و تسألهم عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، بعد أن عرض دعوته عليهم (2).
كما و يعرض الإسلام على كندة؛ فيأبونه؛ فيستدل بعضهم على صدق هذا النبي بأن اليهود قد قالوا:
إنه سوف يظهر نبي من الحرم قد أظل زمانه (3).
و إسلام أهل المدينة كان في مبدئه مستندا إلى نظير هذه الحجة، كما
ص: 119
أشرنا، و سنشير إليه، إن شاء اللّه تعالى (1).
و عن ابن عباس، قال: «كان هذا الحي من الأنصار-و هم أهل وثن- مع هذا الحي من اليهود، و هم أهل كتاب، فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، و كانوا يقتدون بكثير من فعلهم» (2).
و قد أسلم وفد أهل الحيرة، و كعب بن عدي، فلما توفي «صلى اللّه عليه و آله» ارتابوا؛ فثبت كعب على الإسلام، قال: ثم خرجت أريد المدينة، فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه (3)، إلى آخر كلامه، الذي ذكر فيه حصول اليقين له، بسبب كلام الراهب.
و ليلاحظ بدقة قوله: «كنا لا نقطع أمرا دونه» !
و أيضا، فقد تقدم في الفصل الأول من هذا الجزء و سيأتي (4):
أن أبا سفيان قد سأل كعب بن الأشرف عن: أن أي الدينين أرضى للّه تعالى، دينه أم دين محمد؟ !
و قالت قريش لبعض يهود بني النضير، و هم: سلام بن أبي الحقيق
ص: 120
و حييّ بن أخطب و كنانة بن الربيع، حين ذهبوا إلى مكة ليحرضوا الأحزاب على حرب المسلمين، قالت لهم قريش:
«يا معشر اليهود، إنكم أهل الكتاب الأول، و العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد؛ أفديننا خير أم دينه؟
قالوا: بل دينكم خير من دينه، و أنتم أولى بالحق منه.
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم، و نشطوا لما دعوهم إليه الخ. .» (1).
و نحن و إن كنا نعلم أن زعماء قريش كانوا يعلمون الحق، و لكنهم كانوا يكتمونه عنادا و استكبارا لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (2).
و لكن الذي يلفت نظرنا: هو هذا الاستغلال لنفوذ اليهود، و هيمنتهم العلمية، و اعتبارهم مصدرا للمعارف الدينية.
و بالمناسبة فإن التاريخ يعيد نفسه، فإن نظرة المسلمين إلى الأوروبيين الآن تشبه تماما ما كانت عليه في الجاهلية.
و أخيرا، فقد قال الحلبي و ابن هشام: «لا يخفى: أن كفار قريش بعثوا النضر بن الحرث، و عقبة بن أبي معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، و قالوا لهما:
إسألاهم عن محمد، و صفا لهم صفته، و أخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول» (3)ثم ذكر ما جرى بينهم و بين اليهود، ثم ما جرى لهم مع
ص: 121
النبي «صلى اللّه عليه و آله» في مكة.
و الخلاصة: أن إخبارات أهل الكتاب تلك قد غرست في ذهن العربي أن نبيا سوف يخرج من منطقته، مما سهل عليه قبول دعوته «صلى اللّه عليه و آله» ، و الإذعان للحق الذي جاء به؛ لأن الناس-باستثناء أصحاب المطامح و الأهواء، و الطواغيت منهم-لصفاء و سلامة طباعهم، و كونهم أقرب إلى الفطرة، و عدم تلوث فكرهم بالشبهات و الفلسفات المعقدة كانوا يتقبلون الحق، و يذعنون له، و قبليتهم و عاداتهم إنما كانت تمنع فقط من انقياد بعضهم لبعض، بسبب غلظتهم، و انفتهم، و بعد هممهم، و لكن لم يكن ذلك يمنعهم من قبول الحق، و الإذعان لإرادة السماء (1).
لقد كان العرب يعانون من فراغ عقائدي هائل، عبّر عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله المتقدم: «بعثه، و الناس ضلال في حيرة، و حاطبون في فتنة، حيارى في زلزال من الأمر، و بلاء من الجهل» .
و يكفي أن نذكر: أنهم حتى عبادتهم للأصنام قد كانت ملونة باللون القبلي، فلكل قبيلة بل لكل بيت وثن، و طريقة.
و كثيرا ما كانت دوافعهم إلى عبادة تلك الأصنام عاطفية، بعيدة عن أساليب التبرير العقلي، و المنطقي، فارتباط العربي بهذا الصنم إنما هو لأن هذا الصنم مرتبط بتاريخ أبيه أو جده، فالعربي يعتز بنسبه بحسب طبعه،
ص: 122
و بما ينسب إليه، قال تعالى حكاية لذلك عنهم: بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ (1).
و مما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عن تعقل و قناعة: هو أن الذين كانوا يرجعون إلى فطرتهم، و إلى عقولهم سرعان ما يدركون منافرتها للفطرة، و لأحكام العقل السليم، و يرغبون بالخروج من هذا الجو، و لذلك نجد المؤرخين يذكرون:
أن عبد المطلب قد رفض عبادة الأوثان.
كما و يذكرون: أن ورقة بن نوفل، و عثمان بن الحويرث، و زيد بن عمرو بن نفيل، و عبيد اللّه بن جحش قد تبرموا من عبادة الأوثان، و عبروا عن ضعف ثقتهم فيها، فاجتمعوا و تشاوروا فتنصر الأولان، و بقي الآخران في حيرتهما و شكهما (2).
إن أرض العرب القاحلة، و الجو الحار الذي تتميز به، و حياتهم المتنقلة من مكان إلى مكان، و قدرتهم على تحمل المشاق، قد جعل السيطرة عليهم شبه مستحيلة حسبما قدمنا، بل جعلهم بحسب طبيعة ظروفهم الحياتية قادرين على توجيه الضربات القاصمة لكلّ دخيل، و جعله في رعب دائم، و خوف مستمر، الأمر الذي أسهم بشكل فعال في إبعاد أطماع المستعمرين عن منطقتهم، مع قناعة المستعمر بأنه سوف لا يجني الكثير من النفع في
ص: 123
مقابل الكثير من الضرر الذي سوف يتعرض له، و لا سيما مع علمه بأن حب الانطلاق في البادية بلا رقيب و لا حسيب مغروس في دم العربي، و في روحه، و في أعماق أعماقه، و لا يتنازل عن ذلك بأي ثمن كان.
فكل ذلك قد جعل المنطقة في فراغ سياسي محسوس، بل إن شمالي الجزيرة العربية لم يتعرض لأي حكم أجنبي أصلا. .
نعم، قد تعرض جنوبها و هو اليمن لسلطة الأحباش لفترة قصيرة (1).
و هذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال، و لو بفرض من السلطة الحاكمة، كالنصرانية و الزرادشتية، و حتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم و معهم، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات و الأفكار الغريبة و الدخيلة، و إن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فرارا من الرومان، و لكن لم يكن لهم أي نشاط ديني، أو لعله كان، و لكنه لم يثمر، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسيا و إعلاميا، و لذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر (2)بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك (3).
و ما ذلك إلا لأن النصرانية بعيدة عن عقل و فطرة الإنسان، و لا تستطيع أن تتصل بروحه و وجدانه لتفرض هيمنتها على أفعاله، و سلوكه.
ص: 124
أما الإسلام، دين الفطرة، الذي استطاع بفترة و جيزة أن يصنع أمثال أبي ذر، و عمار، و سلمان، فإنه يتصل أولا بعقل الإنسان، ثم بروحه و وجدانه، حتى يحوله إلى إنسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، و قد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب، و الذين لا يلتزمون بنظام، و لا يحكمهم قانون أكثر الأمم اتباعا للنظم، و أشدها إيمانا و إخلاصا للقانون الإلهي.
كما و يلاحظ: أن من رباهم النبي «صلى اللّه عليه و آله» و الأئمة «عليهم السلام» في فترات وجيزة جدا، مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى، حتى التي تنسب نفسها إلى الإسلام أن تأتي بأمثالهم، رغم توفر كل الإمكانات لها، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد و الحاكم الحق في تربية المجتمع، و في تزكيته.
قال المعتزلي: «و الغالب على أهل الحجاز الجفاء و العجرفية، و خشونة الطبع. و من سكن المدن منهم، كأهل مكة، و المدينة، و الطائف؛ فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة.
و لم يكن فيهم من قبل حكيم و لا فيلسوف، و لا صاحب نظر و جدل، و لا موقع شبهة، و لا مبتدع نحلة الخ. .» (1).
و خلاصة الأمر:
أن صفاء نفوس عرب الحجاز و عدم تلوثها بالأفكار، و الانحرافات و الشبهات الغريبة عن الفطرة، بالإضافة إلى الفراغ العقائدي، و عدم
ص: 125
معقولية شركهم، و عبادتهم للأوثان، ثم الحالة الاجتماعية السيئة التي كانوا يعانون منها، كل ذلك قد أسهم إسهاما كبيرا في نشر الدعوة الإسلامية و قبولها.
و لذلك ترى أن كثيرا منهم كانوا يسلمون بمجرد سماعهم كلامه «صلى اللّه عليه و آله» ، و اطلاعهم على أصول دعوته و أهدافها، أو بمجرد أن يتلو عليهم القرآن.
و إذا ما رأينا ساداتهم و كبراءهم-عموما-كانوا يجحدون بهذه الدعوة الحقة، فليس ذلك لأنهم لم يجدوا فيها ما يقنعهم، بل لأنهم وجدوها تضر بمصالحهم الدنيوية، و تصدهم عن مطامعهم اللاإنسانية؛ فهم مصداق لقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (1).
و لذلك نلاحظ: أن الناس ما كانوا يتطلبون الاستدلال على التعاليم و الأفكار الدينية كثيرا في أول الأمر؛ لأن صفاء نفوسهم، و سلامة فطرتهم، و عدم إرباكها و إرهاقها بالأفكار، و الفلسفات، و الشبهات كان كافيا لإدراك حقانية الدعوة، و سلامة أفكارها. و كانت الآيات إنما تحاول إرجاعهم إلى الفطرة و تدعوهم إلى التفكير، و التعقل.
و لكن بعد أن دخلت الفلسفات و الأفكار الغريبة، و الشبهات المغرضة، إلى فكر و عقل هذا الإنسان، و حجبت فطرته، و أربكت تفكيره و أرهقت عقله، صار الناس يحتاجون أكثر فأكثر إلى الأدلة، و يتطلبونها من الأئمة «عليهم السلام» ، بحسب نسبة تلوث فطرتهم بالشبهات و الأفكار الغريبة.
ص: 126
و كانت بدائية العرب، و حياتهم الصعبة التي يعانون منها، قد جعلتهم أكثر اقداما على التضحية في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها عن قناعة وجدانية راسخة، و يتفاعلون معها تفاعلا روحيا خالصا.
و ذلك لأنهم لم ينعموا بحياة النعيم و الرفاهية، التي لا تعب فيها و لا نصب، و لا آلام؛ ليصبح لهم تعلق شديد بالحياة، و حب، بل و عشق لها، فإن من الملاحظ: أنه كلما كانت الحياة رخية ناعمة مرفهة، كلما ازداد تعلق الإنسان بها، و حبه لها، و كلما كان العكس، سهل عليه تركها، و التخلي عنها.
كما أن الدعوة التي سوف يتعرض أفرادها لمختلف أنواع الضغوط النفسية، و الاقتصادية، و الاجتماعية و أقساها، بحاجة ماسة إلى جماعة قادرين على مواجهة تلك الضغوط، و تحمل تلك الآلام، و الصبر على التعذيب، و الجوع و الاضطهاد، بمختلف أنواعه.
و قد كان العرب-عموما-كذلك؛ لأنهم قد عانوا من مشاق الحياة و الطبيعة ما عانوا، و أصبحت الآلام و المتاعب و المصاعب هي الصفة المميزة لحياتهم بل هي خبزهم اليومي و غير ذلك هو الاستثناء، فهم أقدر من غيرهم على تحمل ما ينتظر أتباع هذه الدعوة؛ لأن المنعمين لا يستطيعون عادة تحمل المشاق، و مواجهة الصعوبات فإن الشجرة البرية أصلب عودا، و أبطأ خمودا؛ و لذلك نجد:
أن بعض المسلمين كانوا يودون لو يجعلون امتيازا لأحدهم، و هو ابن عمير لأنه كان منعما قبل أن يسلم، و حينما أسلم تعرض للمشاق و الآلام، فذلك جعلهم يشعرون بأنه قد تحمل من المصاعب و الآلام ما يوجب الرثاء
ص: 127
و الرحمة له؛ و ما ذلك إلا انطلاقا من الناحية التي أشرنا إليها آنفا.
و بعد، فإن مما ساعد على ذلك أيضا، وجود بقايا الحنيفية-دين إبراهيم كالحج و آدابه-في الجزيرة العربية، و في مكة بالذات؛ لأن العرب، و هم أولاد إسماعيل، قد توارثوا عنه الدين الحق و كانوا يعتزون بذلك، و قد قال اللّه تعالى لهم: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ. . (1).
و لكنهم على مر السنين بدؤوا يخلطون هذا الحق بكثير من الباطل، شأن سائر الأمم، عندما يغشاها الجهل، و تستبد بها الأهواء، و الانحرافات.
ثم تسرب إليهم الشرك، و عبادة الأوثان، حسبما قدمنا، ثم الكثير من الأمور الباطلة، و الأخلاق الذميمة، و الفواحش، حتى أصبحوا في الجاهلية العمياء، و حتى أدى بهم الأمر إلى الحالة التي وصفها لنا أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما تقدم، غير أن بقية منهم-و إن كانت قليلة جدا-قد بقيت متمسكة بعقيدة التوحيد، و ترفض عبادة الأوثان، و تعبد اللّه على حسب ما تراه مناسبا، و قريبا إلى تعاليم دين إبراهيم، مع التزام بعضهم الآخر بدقة بدين الحنيفية، و من هؤلاء عبد المطلب، و أضرابه، من رجالات بني هاشم الأبرار.
و كان من بقايا الحنيفية تعظيم البيت، و الطواف به، و الوقوف بعرفة، و التلبية (2)و هدي البدن، و إن كانوا يطبقون ذلك مشوها و ممسوخا، و يقحمون
ص: 128
فيه ما ليس منه، و كانت هذه المعالم تضعف رويدا رويدا مع الزمن، حتى لم يبق منها إلا الأسماء، و الرسوم الشوهاء.
و قد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» ما مفاده: إن العرب كانوا أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس؛ فإن العرب يغتسلون من الجنابة، و الاغتسال من خالص شرايع الحنيفية، و هم أيضا يختتنون، و هو من سنن الأنبياء، كما أنهم يغسلون موتاهم، و يكفنونهم، و يوارونهم في القبور، و يلحدونهم، و يحرمون نكاح البنات و الأخوات، و كانوا يحجون إلى البيت و يعظمونه، و يقولون: بيت ربنا، و يقرون بالتوراة و الإنجيل، و يسألون أهل الكتب، و يأخذون منهم، و كانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس (1).
إذن، فقد كان ثمة ذكريات بعيدة في ضمير و وجدان الإنسان العربي، تربطه بالحنيفية السهلة السمحاء، دين آبائه و أجداده-و هو الذي يعتز بالأنساب و صفائها، بحكم ما يتعرض له من الغزو و السبي الموجب للتهمة أحيانا-و إذا كان النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد بعث ليتمها؛ فمن الطبيعي أن يكون لهذه الذكريات أثر في نظرة كثير من الناس إليه، و إلى ما جاء به بإيجابية و واقعية.
و لقد كان لبعض الخصائص، و الأخلاق، و العادات العربية، أثر كبير
ص: 129
في نشر دعوة الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، التي هي دعوة الحق و الخير و شمولها، و إن كان الإسلام الذي استفاد من تلك الخصائص و العادات و الأخلاق قد حاول إلى جانب ذلك تركيزها من حيث المنطلقات و الأهداف على أسس صحيحة و مقبولة، و أما إن كانت مرفوضة إسلاميا، فإنه-و إن كانت قد أفادته تلقائيا، و من دون أن يتطلب هو ذلك-كان يحاول القضاء عليها، و استئصالها بالحكمة و الموعظة الحسنة، كلما سنحت له الفرصة، و واتاه الظرف.
فمثلا: لقد استفاد الإسلام كثيرا من شجاعة العربي، و استهانته بالصعاب، في الدفاع عن الإسلام.
و أيضا، فقد كان للتعصب القبلي بعض الفوائد الهامة، حتى ليذكرون أنه بعد الهجرة إلى المدينة؛ كان الأوس و الخزرج: «يتصاولان مع رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» غناء إلا قالت الخزرج: و اللّه، لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» في الإسلام؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، قال: و إذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك» (1).
و أما قبل الهجرة في مكة، فقد كان للقبلية أثر كبير في منع قريش و غيرها مدة طويلة من المضايقات لكثير ممن اعتنقوا الإسلام، ثم من محاولة
ص: 130
الاعتداء على حياته «صلى اللّه عليه و آله» ، أو على حياة أكثر المسلمين آنذاك، و إن كانت تواجههم بالمضايقات أحيانا، و أحيانا بالتعذيب القاسي، إن لم يكن لهم عشيرة يرهب جانبها، حتى أذن اللّه تعالى لهم بالهجرة إلى المدينة.
و لذلك نلاحظ: أن أبا طالب «رحمه اللّه» قد استفاد كثيرا من العامل القبلي، حتى إن بني هاشم مسلمهم و كافرهم قد قبلوا بمحاصرة قريش لهم، و كانوا معه في شعب أبي طالب كما سيأتي.
و تجد في شعر أبي طالب الكثير من التأكيد على عامل القرابة بين بني هاشم و طوائف من قريش، الأمر الذي كان له أثر كبير في حفظ حياته «صلى اللّه عليه و آله» من كيد أعدائه كما قلنا.
بل إننا نجد المشركين حتى في عدائهم له «صلى اللّه عليه و آله» ، و حتى حينما تآمروا عليه ليقتلوه-و كان ذلك هو سبب هجرته «صلى اللّه عليه و آله» -قد أخذوا بعين الاعتبار العلاقات القبلية، و ردّات الفعل التي سوف تنجم عنها فاختاروا عشرة أشخاص، من كل قبيلة رجلا، ليضربوا رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» بسيوفهم في آن واحد و سيأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى.
و في المدينة أيضا كان ثمة أثر كبير لكرم ضيافة العربي، و لوفائه بالعهد و الذمار، و لحسن الجوار، و لحريته، و حميته، و أنفته و عزته، و اعتداده بنفسه، و قوة إرادته، و للشجاعة، و الإقدام، و حتى لصفات القوة و الغلظة، التي ولدتها فيهم حياة الغزو و الحرب، و جعلتهم قادرين على التخلي عن العواطف في سبيل دينهم و عقيدتهم، حتى لقد كانوا يقتلون أبناءهم، و آباءهم، و إخوانهم.
ص: 131
يجب أن لا ننسى الدور الذي اضطلع به الرجل العظيم، أبو طالب شيخ الأبطح «عليه السّلام» ، الذي وفر للنبي «صلى اللّه عليه و آله» حمايته المطلقة من كل أعدائه و مناوئيه.
ثم هنالك العامل الاقتصادي الذي وفرته له زوجته أم المؤمنين خديجة صلوات اللّه و سلامه عليها، و التي كانت تمتلك-حسبما يرى البعض- عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية كلها.
و قد أنفقت كل تلك الأموال على المسلمين، في الظروف الحرجة التي واجهوها، إبان اضطهاد قريش و حصارها الاقتصادي لهم.
و مما يدل على أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» كان يتولى الإنفاق على المسلمين، من أموال خديجة و أبي طالب (1)قول أسماء بنت عميس لعمر (2)حين عيّرها بأنه سبقها بالهجرة، و إنها حبشية حجرية-على ما نقل عن صحيح مسلم و غيره-قالت له:
«كنتم مع النبي «صلى اللّه عليه و آله» يطعم جائعكم، و يعظ
ص: 132
جاهلكم» (1).
و أخيرا، فيجب أن لا ننسى دور وصي و أخي النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، أمير المؤمنين «عليه السّلام» ، حسبما سيظهر إن شاء اللّه-و لو بنحو محدود-في مطاوي هذه السيرة العطرة.
نعم، لقد كان لكل ذلك دور هام في حفظ الدعوة، و انتصارها، و انتشارها، كما لا يخفى على الناقد البصير، و المتتبع الخبير.
وثمة أسباب أخرى قد ساعدت على ظهور الإسلام، و انتشاره، و انتصاره، يمكن استجلاء بعضها من مطاوي التاريخ الإسلامي.
و نحن نكتفي هنا بهذا القدر؛ لنوفر الفرصة لعرض حياة النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» بعد البعثة، و بشكل موجز و واضح قدر الإمكان.
إن كل ما ذكرناه آنفا لا يعني: أن ظهور الإسلام، و انتشاره في الجزيرة العربية قد كان أمرا طبيعيا، بحيث إنه لو توفرت هذه العوامل لأي دعوة أخرى، فإنها تستطيع أن تحقق نفس النتائج التي حققها الإسلام، بل الأمر على العكس من ذلك تماما، فإن ظهور الإسلام، و انتصاره في هذه المنطقة
ص: 133
هو بذاته معجزة له، و دليل على حقانية الإسلام؛ و ذلك لأن اليهودية قد كانت موجودة، و كانت هذه الظروف أيضا موجودة، و لكنها لم تستطع أن تؤثر أثرا يذكر في عقلية العربي، و لا في سلوكه، و تصرفاته (1).
و كذلك الحال بالنسبة للنصرانية، التي كانت تهتم في تنصير كل من تقدر على تنصيره، ثم هناك الزرادشتية و غيرها من الأديان.
و هذا معناه: أن لنفس المبدأ، و الرسالة، و القائد دورا هاما جدا، بل و الدور الأول و الأساس في عملية التغيير و في النجاح و في استمراره، و بدون ذلك، فإن كل نجاح-لو كان-فلسوف يكون محدودا جدا، و لظروف معينة، و لسوف ينتهي بمجرد انتهاء تلك الظروف.
و قد رأينا الإسلام رغم ما عاناه من مصائب و بلايا حتى على أيدي أبنائه، كان و لا يزال يزداد قوة و فعالية على مر الزمن، و في مختلف الظروف و الأحوال، و لم يؤثر فقدان تلك الظروف و العوامل، و لا تحولها و تقلبها لا في الإسلام، و لا في فعاليته، إن لم نقل: إنه قد زاد في ذلك بشكل ظاهر.
و الذي يفسر لنا هذه الظاهرة، هو ما ذكرناه آنفا من أن الإسلام يستطيع أن يستوعب طاقات الإنسان، و يحولها و يطورها في مصلحة الرسالة و الحق، كما إنه يستطيع أن يتلاءم مع الظروف المختلفة، فهو يملك لكل داء دواء، و لكل مشكلة حلا، و لكل ظرف ما يناسبه، على عكس غيره من الدعوات الجامدة، و المحدودة.
و لذلك، فإن الإسلام عندما نجح في الجزيرة العربية، و إن كان قد
ص: 134
استفاد من بعض الظروف، و حوّل و طوّر الأوضاع السائدة في صالحه، إلا أنه كان في نفس الوقت لا يجد في المنطقة التي ظهر فيها الكثير من المميزات الهامة التي من شأنها أن تساعده في مهمته، و لولاها فإن أي دعوة أخرى لا تستطيع أن تنجح، و لكن فقدها لم يؤثر على الإسلام، كما أن امتلاك أعدائه لها لم يؤثر عليه أيضا.
و هذا أحد أسرار عظمة الإسلام و سموّه.
وفقنا اللّه للعمل في سبيله، و الاهتداء بهديه، إنه ولي قدير.
ص: 135
ص: 136
الفصل الأول: عهد الطفولة
الفصل الثاني: خديجة في بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله
الفصل الثالث: البعثة
ص: 137
ص: 138
ص: 139
ص: 140
هو أبو القاسم محمد «صلى اللّه عليه و آله» ، بن عبد اللّه، بن عبد المطلب، شيبة الحمد، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.
قالوا: إن هذا هو المتفق عليه من نسبه الشريف، أما ما فوقه ففيه اختلاف كثير، غير أن مما لا شك فيه هو أن نسب عدنان ينتهي إلى إسماعيل «عليه السلام» .
و قد روي أنه «صلى اللّه عليه و آله» قال: «إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا» (1).
و نحن نمسك هنا امتثالا لأمره «صلى اللّه عليه و آله» .
و أمه «صلى اللّه عليه و آله» : هي آمنة بنت سيد بني زهرة، وهب بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب.
ص: 141
ولد النبي «صلى اللّه عليه و آله» بمكة عام الفيل على المشهور (1)، أي قبل البعثة بأربعين سنة.
و المشهور عند الإمامية و بعض من غيرهم أنه ولد في السابع عشر من شهر ربيع الأول.
و المشهور عند غيرهم و وافقهم الكليني: أنه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت منه (2).
وثمة أقوال أخر لا مجال لذكرها.
و نص الطبرسي، و الكليني على: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد ولد في يوم الجمعة، و عند غير الإمامية: أنه ولد في يوم الإثنين، و ورد: أن أمه قد حملت به في أيام التشريق، و هي الحادي عشر، و الثاني عشر و الثالث عشر من ذي الحجة (3).
و لا يخلو ذلك من إشكال؛ لأنها إن كانت ولدته في تلك السنة، فإن حملها به «صلى اللّه عليه و آله» يكون ثلاثة أشهر، و تزيد قليلا، و إن كانت ولدته في السنة الثانية، فمدة حمله تكون خمسة عشر شهرا، مع أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، و أقصاها سنة عند المشهور من الإمامية.
ص: 142
و أجيب: بأن ذلك مبني على النسيء في الأشهر الحرم عند العرب، فإنهم كانوا يقولون مثلا:
إن الأشهر الحرم توضع بعد أربعة أشهر مثلا، ثم يستحلون القتال في نفس الأشهر التي رفع الاعتبار عنها.
و لكن إن لم نقل بأن الحمل به «صلى اللّه عليه و آله» أربعة أشهر قد كان من خصوصياته «صلى اللّه عليه و آله» فلا يمكننا قبول تلك الرواية حتى ولو صح سندها، و ذلك لأن كون تلك الرواية واردة بناء على أشهر النسيء يحتاج إلى إثبات، إذ لم نعهد في تعبيرات المعصومين بناء كلامهم على النسيء، الذي هو زيادة في الكفر، كما لم نعهد ذلك في كلمات المحدثين و المؤرخين، و لا سيما مع عدم نصب قرينة على ذلك.
لقد قال الإربلي «رحمه اللّه» ، بعد أن أشار إلى الاختلاف في تاريخ ولادته «صلى اللّه عليه و آله» : «إن اختلافهم في يوم ولادته سهل، إذ لم يكونوا عارفين به، و بما يكون منه، و كانوا أميين لا يعرفون ضبط مواليد أبنائهم، فأما اختلافهم في موته، فعجيب، و الأعجب من هذا، اختلافهم في الأذان و الإقامة، بل اختلافهم في موته أعجب؛ فإن الأذان ربما ادعى كل قوم أنهم رووا فيه رواية، فأما موته فيجب أن يكون معينا معلوما» (1).
و كلام الإربلي «رحمه اللّه» ظاهر المأخذ، فهو يقول: إن اختلافهم في تاريخ ولادة النبي «صلى اللّه عليه و آله» ربما تكون له مبرراته، و لكن ما يثير
ص: 143
الدهشة حقا هو اختلافهم في يوم وفاته «صلى اللّه عليه و آله» ، مع أنهم كانوا قد عرفوا فيه «صلى اللّه عليه و آله» المنقذ و المخرج لهم من الظلمات إلى النور، و من الموت إلى الحياة، مع عدم وجود هوى سياسي أو مذهبي يقتضي إبهام ذلك، أو إجماله، أو التلاعب فيه.
و أغرب من ذلك كله، هو اختلافهم في الكثير الكثير من الأمور التي كانوا يمارسونها مع النبي «صلى اللّه عليه و آله» عدة مرات يوميا، طيلة سنين عديدة، حتى إنك لتجدهم يروون المتناقضات عنه «صلى اللّه عليه و آله» في أفعال الوضوء و الصلاة، و هم كانوا يؤدونها معه «صلى اللّه عليه و آله» خمس مرات في كل يوم.
بل قد تجد بعضهم يقول: إنهم إنما كانوا يعرفون أنه «صلى اللّه عليه و آله» يقرأ في صلاة الظهر و العصر من اضطراب لحيته (1).
أما اختلافهم في الأذان الذي كانوا يتربّون على سماعه منذ صغرهم، فذلك ظاهر أيضا، كما أشار إليه الأربلي «رحمه اللّه» .
و إذن. . فما هو مدى معرفتهم بتلك الأحكام التي يقل الابتلاء بها، و التعرض لها عادة يا ترى؟ ! .
ص: 144
و أيضا. . هل يصح اعتبار أقوال هؤلاء و أفعالهم سنة ماضية، و شريعة متبعة؟ -كما هو عند بعض الفرق الإسلامية-بل تجد بعضهم ربما يردّ الحديث الصحيح لقول صحابي، أو لقول حاكم، إن ذلك لعجيب! و أي عجيب! !
و إذا كانوا يختلفون حتى في مثل هذه الأمور؛ فهل يعقل بعد هذا أن يصح قول البعض: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد ترك الأمة هكذا هملا، بلا قائد و لا رائد؟ و لا معلم، و لا مرشد؟ على اعتبار أن الأمة تكون مستغنية عن الهداية و الرعاية؟ ! .
و هذا موضوع هام جدا يحتاج إلى بحث و تمحيص بصورة مفصلة.
و قد روي عن عبد اللّه بن عباس أنه قال: سمعت أبي العباس يحدث، قال: ولد لأبي عبد المطلب عبد اللّه فرأينا في وجهه نورا يظهر كنور الشمس، فقال أبي: إن لهذا الغلام شأنا عظيما.
قال: فرأيت في منامي أنه خرج من منخره طائر أبيض. .
إلى أن قال: فلما انتبهت، سألت كاهنة من بني مخزوم، فقالت: يا عباس، لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق و المغرب تبعا له.
إلى أن قال: فلما مات عبد اللّه، و ولدت آمنة رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» أتيته، و رأيت النور بين عينيه يزهر، فحملته، و تفرست في وجهه. .
ثم تذكر الرواية ما رأته آمنة، ثم تقول: فهذا ما رأيت يا عباس.
ص: 145
قال-يعني العباس-: و أنا يومئذ أقرأ، و كشفت عن ثوبه، فإذا خاتم النبوة بين كتفيه، فلم أزل أكتم شأنه و أنسيت الحديث، فلم أذكره إلى يوم إسلامي، حتى ذكرني رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» (1).
و أقول:
إن هذا الحديث لا يصح، لأن العباس كان أكبر من النبي «صلى اللّه عليه و آله» بسنتين-كما يدّعون- (2)فكيف يكون قد حضر ولادة أبيه عبد اللّه، و رأى ذلك المنام ثم ذهب إلى الكاهنة، ثم حين ولادة الرسول أخذه و حمله الخ. . ؟
هذا بالإضافة إلى: أن نسيانه لهذا الأمر الخطير جدا هو الآخر غير معقول.
و لو سلمنا: أنه نسيه، فكيف لا يذكره حين بعثة الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، و يبادر إلى التصديق به، و إعلان إسلامه، بل يتأخر في ذلك هذه السنين الطويلة، إلى عام الفتح كما يقولون.
و الحقيقة هي: أنهم يريدون من أمثال هذه الحكايات إثبات فضائل للعباس «رحمه اللّه» ، مثل كونه أول من أسلم، بل أسلم قبل ولادة النبي «صلى اللّه عليه و آله» نفسه، و ما إلى ذلك.
و كانت ولادته «صلى اللّه عليه و آله» ، في شعب بني هاشم، أو شعب أبي طالب؛ في الدار التي اشتراها محمد بن يوسف، أخو الحجاج من ورثة
ص: 146
عقيل بن أبي طالب «رحمه اللّه تعالى» بمائة ألف دينار، ثم صيرتها الخيزران أم الرشيد مسجدا، يصلي فيه الناس (1)و يزورونه، و يتبركون به، و بقي على حالته تلك، فلما: «أخذ الوهابيون مكة في عصرنا هذا هدموه، و منعوا من زيارته، على عادتهم في المنع من التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين، و جعلوه مربطا للدواب» (2).
و يقولون: إن أمه «صلى اللّه عليه و آله» قد أرضعته يومين أو ثلاثة، ثم أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياما (3).
ثم قدمت حليمة السعدية «رحمها اللّه» مكة مع رفيقات لها، بحثا عن ولد ترضعه؛ لتستفيد من رعاية أهله، و معوناتهم؛ فعرض «صلى اللّه عليه و آله» عليها، فرفضته-في بادئ الأمر-ليتمه، و لكنها عادت، فقبلته، حيث لم تجد غيره، فرأت فيه كل خير و بركة؛ فأرضعته سنتين، ثم أعادته إلى أهله، و هو ابن خمس سنين و يومين-كما يقولون-ليكون في كفالة جده عبد المطلب، ثم عمه أبي طالب.
ص: 147
و يقول العلامة المحقق السيد مهدي الروحاني: إن قولهم: إنها رفضته في أول الأمر ليتمه إنما يصح بالنسبة ليتيم ضائع، لا أهمية له، و أما بالنسبة لمحمد «صلى اللّه عليه و آله» فإن كافله عبد المطلب سيد هذا الوادي، و أمه آمنة بنت وهب، من أشراف مكة.
بل ثمة من يقول: إنه لم يكن حينئذ يتيما، و إن أباه قد توفي بعد ولادته بعدة أشهر، قيل: ثمانية و عشرين شهرا، و قيل: سبعة أشهر. (1)انتهى كلامه.
و على كل حال فقد كان إرسال الأطفال إلى البادية للرضاع، هو عادة أشراف مكة، حيث يرون أن بذلك ينشأ أطفالهم:
أصح أبدانا، و أفصح لسانا، و أقوى جنانا، و أصفى فكرا و قريحة، و هي نظرة صحيحة و سليمة، و ذلك لما يلي:
أما كونهم:
1-أصحّ ابدانا، فلأنهم يعيشون في الهواء الطلق، و يواجهون مصاعب الطبيعة فتصير لديهم مناعة طبيعية تجاه مختلف المتغيرات، في مختلف الظروف.
2-و كونهم أفصح لسانا، من حيث إنهم يقل اختلاطهم بأهل الأقطار الأخرى، من الأمم الأخرى، على عكس سكان المدن، و لا سيما مكة، التي كانت تقيم علاقات تجارية بينها و بين سائر الأقطار و الأمم، و لها رحلتا الشتاء و الصيف إلى البلاد التي تتاخم البلاد الأجنبية، التي لا يبعد تأثرها
ص: 148
بها-قليلا كان ذلك أو كثيرا-.
3-و كونهم أقوى جنانا، لما قدمناه في مطاوي كلماتنا في الفصل الأول.
4-و أما أنهم أصفى فكرا و قريحة، فهو حيث يبتعد الإنسان حينئذ عن هموم المدينة، و عن علاقاتها المعقدة و المرهقة، حيث لا يواجه في البادية إلا العيش الساذج و البسيط، و الحياة على طبيعتها، و لا يتأثر فكره و عقله بالمفاهيم و الأفكار التي تفرضها تلك الحياة المثقلة بالعلاقات المنحرفة، ثم هو يجد الفرصة للتأمل و التفكر و التعرف على أسرار الطبيعة و الكون، و لو في حدود عالمه الناشئ المحدود، و مداركه الناشئة أيضا. و ليكون من ثم ذا فكر مبدع خلاق، و قريحة صافية و غنية، و لكن بشرط عدم الاستمرار في هذه الحياة طويلا، فإن الاستمرار في حياة البادية من شأنه أن يجعل الإنسان يعاني من الجمود و الانغلاق، ثم هو يكوّن لنفسه مفاهيم و أفكارا؛ يحولها الزمن إلى حقائق لا تقبل الجدل عنده، و يصير من الصعب عليه قبول أي رأي آخر يسير في غير اتجاه قناعاته و أفكاره، فإن تدرب الإنسان على أن يسمع النقد و المخالفة في الرأي يبعده عن الاستبداد الفكري، و يجعله يبحث عن الدليل و المبرر لكل فكرة لديه، و إلا؛ فإنه يصير على استعداد للتخلي عنها إلى غيرها مما يستطيع أن يدافع عنه و يستدل عليه، و هذا أمر طبيعي يعرفه الإنسان بالمشاهدة، و يستدل عليه بالتقصي و التجربة.
غير أننا لا نستطيع تطبيق هذا المنطق على رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، الذي كان مرعيا بعين اللّه، و موضعا لألطافه و عناياته. . و قد كان غنيا باللّه عن ذلك كله. .
ص: 149
و يقال: إن أبا سلمة كان أخا للنبي «صلى اللّه عليه و آله» من الرضاعة، و أخوهما منها أيضا حمزة بن عبد المطلب، أرضعتهم ثويبة، مولاة أبي لهب بلبن ولدها مسروح (1).
و قد تقدم: قولهم: إن ثويبة قد أرضعت النبي «صلى اللّه عليه و آله» أياما، و نحن نشك في ذلك، و لا بد لنا في مجال توضيح ذلك من التوسع في البحث نسبيا فنقول:
ص: 150
إننا نشك في: أن تكون ثويبة قد أرضعت هؤلاء، و لا سيما رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و شكنا في ذلك ناشئ عن الأمور التالية:
أولا: تناقض الروايات، و يكفي أن نذكر:
أ-بالنسبة للمدة التي أرضعتها رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، نجد بعضها يقول: أرضعته أياما (1)من دون تحديد، و بعضها يقول: أربعة أشهر تقريبا (2).
و في حين نجد بعضها يقول: إن أمه أرضعته ثلاثة أيام (3)، و قيل: سبعة (4). و قيل: تسعة (5).
«و لعل أحدهما تصحيف للآخر، بسبب عدم النقط في تلك العصور، و تشابه رسم الكلمتين» .
و قيل: سبعة أشهر (6).
ص: 151
و بعضهم لم يحدد مدة إرضاعها له «صلى اللّه عليه و آله» (1).
نعم، إننا في حين نجدهم يقولون ذلك بالنسبة لإرضاع أمه له، فإننا نجدهم يذكرون: أن حليمة السعدية أرضعته «صلى اللّه عليه و آله» ، بعد سبعة أيام من مولده فقط (2)من دون تحديد من أرضعه مدة الأيام السبعة نفسها، مع العلم: أنه بعد إرضاع حليمة له، لم يرتضع من غيرها، و إذا كانت أمه قد أرضعته فيها، فمتى أرضعته ثويبة يا ترى؟ ! .
و من جهة أخرى: فإن البعض يصرح بأن أول من أرضعته ثويبة (3).
و بعضهم يصرح بأن أمه أول من أرضعته (4).
ب-تناقض الروايات في وقت عتق ثويبة، هل كان ذلك حينما بشرت
ص: 152
أبا لهب بولادته «صلى اللّه عليه و آله» فأعتقها فأرضعته، أو كان بعد حوالي خمسين سنة، قبيل الهجرة، أو بعدها، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى؟ ! .
و ثانيا: لقد ذكرت الرواية: أن ثويبة قد أرضعت النبي «صلى اللّه عليه و آله» و أرضعت معه حمزة، و أبا سلمة بلبن ولدها مسروح، و نقول: إن ذلك لا يكاد يصح، لأن حمزة كان أكبر من النبي «صلى اللّه عليه و آله» بأربع سنين (1)و قيل: كان أكبر منه بسنتين (2).
فإننا حتى لو أخذنا بالسنتين، فإن حمزة يكون قد بلغ الفطام قبل أن يولد رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، كما أنها إذا كانت قد ولدت ولدها قبل فطام حمزة، فلا بد أن يفطم قبل ولادة رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، فكيف تكون قد أرضعت الرسول بلبن ولدها؟ و إن كان قد ولد بعد فطام حمزة فكيف تكون قد أرضعت حمزة بلبن ولدها مسروح؟
و أما إذا أخذنا بالقول الأول، فإن القضية تصبح أكثر إشكالا، و أبعد منالا.
ص: 153
و يلاحظ، أن أبا عمر قد رفض القول الأول، و رجح الثاني، استنادا إلى قضية الإرضاع، ثم استدرك على ذلك، قائلا: «إلا أن يكون أرضعتهما في زمانين» (1).
و لكنه كلام لا يصح، لأن ما ذكره ليس بأولى من العكس، بحيث تكون زيادة عمره أربع سنين دليلا على عدم صحة إرضاع ثويبة له بلبن مسروح.
و أما استدراكه المذكور، فيبعّده: أن الرواية تقول: إنهما معا قد رضعا بلبن مسروح (2)، فلا يصح: أن يكون رضاعهما في زمانين.
و حاول محب الدين أحمد بن عبد اللّه الطبري توجيه ذلك بأنه: يمكن أن تكون أرضعت حمزة في آخر سنيه، في أول رضاع ابنها؛ و أرضعت النبي «صلى اللّه عليه و آله» في أول سنيه، في آخر رضاع ابنها، فيكون أكبر بأربع سنين (3).
ص: 154
و نقول:
أولا: إن ذلك، و إن كان ممكنا في نفسه، و لكنه أمر بعيد الوقوع عادة، لأنه يتوقف على أن تكون قد أرضعت ولدها مسروحا أكثر من سنتين، فكيف إذا كانت قد أرضعته أربعة أشهر، حسبما تقدم عن بعض الروايات؟
و ثانيا: يزيده بعدا: أننا نجد في بعض النصوص ما يفيد: أن حمزة كان حين قضية وفاء أبيه عبد المطلب بنذره بذبح أحد ولده كبيرا، و راشدا.
بيان ذلك:
أن عبد المطلب رضوان اللّه تعالى عليه كان قد نذر: لئن ولد له عشرة نفر، ثم بلغوا معه، حتى يمنعوه، ليذبحنّ أحدهم للّه، عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة، و عرف أنهم سيمنعونه، و هم:
الحارث، و الزبير، و حجل، و ضرار، و المقوم، و أبو لهب، و العباس، و حمزة و أبو طالب، و عبد اللّه، جمعهم، ثم أخبرهم بنذره.
إلى أن تذكر الرواية: أنه أقرع بينهم ف: «خرج القدح على ابنه عبد اللّه، و كان أصغر ولده، و أحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد اللّه، و أخذ الشفرة الخ. .» .
ثم تذكر الرواية: أن العباس هو الذي اجتذب عبد اللّه من تحت رجل أبيه، فراجع (1).
ص: 155
و ناقشوا في هذه الرواية: بأن العباس إنما كان يكبر النبي بثلاث سنوات فقط، فقد روي عن العباس نفسه أنه قال:
أذكر مولد رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و أنا ابن ثلاثة أعوام، أو نحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، فجعلت النسوة يقلن لي: قبّل أخاك (1)، فقبلته (2).
و لكن الإيراد بما ذكر ليس بأولى من العكس؛ فإن من الممكن أن تكون رواية ابن إسحاق هي الصحيحة، و أما رواية أن العباس كان يكبر النبي «صلى اللّه عليه و آله» بثلاث سنين فقط، فلعلها هي الموضوعة لأهداف سياسية من قبل العباسيين في ما بعد.
و يؤكد ذلك: أن ابن إسحاق حجة في السيرة النبوية، غير مدافع (3)، فلا يرد قوله؛ استنادا إلى رواية يحتمل في حقها ما ذكرناه.
و إذن، فقد يكون عمر حمزة و العباس، حين قضية الذبح حوالي ثمان إلى
ص: 156
عشر سنين، يضاف إليها خمس سنوات كانت بين قصة الذبح و بين ولادة رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» (1)، و يصير المجموع حوالي ثلاث عشرة إلى خمس عشرة من السنين تقريبا.
و هذا الذي ذكرناه من الإشكال دفع البعض إلى أن يقول: إنها أرضعت حمزة قبل رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» و أرضعت بعده أبا سلمة (2).
و لكن يرد عليه: أن تصريح الرواية بأنها أرضعتهم جميعا بلبن ابنها مسروح يأبى هذا الجمع التبرعي، الذي لا يستند إلى أي دليل.
إلا أن يكون مراده ما تقدم عن محب الدين أحمد بن عبد اللّه الطبري: بأن تكون قد أرضعت حمزة في أواخر سنيه، في آخر رضاع ابنها.
و لكنه بناء على ما قدمناه من أن من الممكن أن يكون حمزة كان يكبر النبي «صلى اللّه عليه و آله» بحوالي عقد من الزمن لا يصح حتى بناء على
ص: 157
قول الطبري هذا.
بقي علينا أن نشير إلى المناقشة التي تقول: إن أولاد عبد المطلب، كانوا ثلاثة عشر، و أن حمزة و العباس قد ولدا فيما بعد، فإنها مناقشة مردودة، لأن «حجلا» هو في الحقيقة لقب للغيداق، و «المقوم» لقب لعبد الكعبة، أما «قثم» فلا وجود له أصلا، حسبما ذكره البعض (1).
و قد تحدثنا عن هذا الأمر في كتابنا «مختصر مفيد» فيمكن مراجعته.
و أخيرا. .
فإننا نشير إلى أن اليعقوبي ينص على أن عدد أولاد عبد المطلب: عشرة، و لكنه حينما يعد أسماءهم يذكر اسم أحد عشر رجلا (2).
إلا أن يكون: قد ذكر لواحد منهم كلا من اسمه و لقبه، حتى بدا أنهما اثنان، مع أنهما لواحد.
و يبقى أن نشير إلى أنهم يقولون-حسبما تقدم-:
أنه لما ولد رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، جاءت ثويبة إلى مولاها أبي لهب، فبشرته بولادته «صلى اللّه عليه و آله» فأعتقها، فأرضعت النبي «صلى
ص: 158
اللّه عليه و آله» بلبن ولدها مسروح.
ثم رئي أبو لهب بعد موته في النوم-رآه العباس-حسب رواية ذكرها طائفة من المؤلفين، أو رآه النبي «صلى اللّه عليه و آله» -حسب رواية اليعقوبي-بشرّ حال، و أسوئه، فسأله عن حاله، فأخبره:
أنه بشرّ حال غير أنه يخفف عنه العذاب-أو يسقى في نقرة إبهامه-كل يوم إثنين، لعتقه ثويبة؛ حينما بشرته بذلك (1).
قال القسطلاني: «. . قال ابن الجزري: فإن كان هذا أبو لهب، الكافر، الذي نزل القرآن بذمه، جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي «صلى اللّه عليه و آله» به؛ فما حال المسلم الموحد من أمته «صلى اللّه عليه و آله» ، الذي يسر بمولده، و يبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ ! . لعمري، إنما يكون
ص: 159
جزاؤه من الكريم: أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم (1). و رحم اللّه حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر، حيث قال:
إذا كان هذا كافر جاء ذمهو تبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الإثنين دائمايخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمرهبأحمد مسرورا و مات موحدا؟ ! (2)
و نقول:
إن هذا الكلام كله باطل، و لا يصح، و ذلك لأنهم يقولون:
إن عتق ثويبة قد تم بعد مولده «صلى اللّه عليه و آله» بدهر طويل، أي بعد أزيد من خمسين سنة؛ إما قبيل الهجرة أو بعدها. و كانت خديجة رضوان اللّه تعالى عليها تحاول شراءها من أبي لهب لتعتقها، بسبب ما يزعم من إرضاعها له «صلى اللّه عليه و آله» ، فرفض أبو لهب بيعها (3).
ص: 160
و قد حاول الحلبي توجيه ذلك: بأن من الممكن أن يكون أبو لهب قد أعتقها أولا، لكنه لم يذكر ذلك، و لم يظهره، و رفض بيعها لخديجة لكونها كانت معتوقة، ثم عاد فأظهر ذلك (1).
و لكنه توجيه باطل: إذ من غير المعقول و لا المقبول؛ أن لا يظهر للناس، و لا يطلعوا على عتقه لجاريته طيلة ما يزيد على ثلاث و خمسين سنة، و لماذا لم تخبر هي نفسها أحدا بذلك، و ما هو الداعي له و لها للكتمان، و لا سيما قبل النبوة، و ما هو الداعي للإظهار بعد ذلك، و لا سيما بعد الهجرة؟ ! .
و لماذا بقيت هذه الجارية التي أعتقها عنده طيلة هذه المدة المتمادية، و هي خارجة عن ملكه؟
هذا كله؛ عدا عن أنه لا حجية في المنامات، و لا اعتبار بها.
وعدا عن أن الرواية مرسلة أيضا.
و أما بالنسبة لتخفيف العذاب عن أبي لهب، فنقول: إن فرحه إذا كان استجابة لحاجة نفسية طبيعية، و لم يكن للّه سبحانه و تعالى، فلماذا يثاب عليه، و لماذا يخفف عنه العذاب لأجله، و الافعال الحسنة إنما يلقى الكفار جزاءها في الدنيا لا في الآخرة، فإنه ليس لهم في الآخرة من خلاق، و لا لهم فيها نصيب، و قد قال تعالى: وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنٰاهُ هَبٰاءً مَنْثُوراً (2).
ص: 161
إن المعلوم: أن أبا لهب قد بقي على شركه، و كان من أعدى أعداء اللّه، و الإسلام، و رسول الإسلام، فلا يعقل أن يجعل اللّه له يدا على النبي «صلى اللّه عليه و آله» يستحق المكافأة عليها، و لأجل ذلك لم يكن «صلى اللّه عليه و آله» يقبل هدية مشرك، بل كان يردها (1).
و قد قال «صلى اللّه عليه و آله» : «اللهم لا تجعل لفاجر، و لا لفاسق عندي نعمة» (2)فكيف إذا كان هذا الفاسق و الفاجر هو أبو لهب لعنه اللّه بالذات؟ ! .
هذا كله، عدا عن أن نفس ثويبة لم يعلم لها إسلام، حتى لقد قال أبو نعيم:
لا أعلم أحدا أثبت إسلامها غير ابن مندة، مع أنها قد توفيت سنة سبع من الهجرة (3).
ص: 162
و أي نعمة أعظم من إرضاعها له «صلى اللّه عليه و آله» ؟ ! .
و بعض من تأخر قد نقل: أنها أسلمت (1). و لعله استند في ذلك إلى قول ابن مندة، أو استفاد ذلك مما ينقل عن برّ النبي الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» بها (2).
و قال العسقلاني: «. . و في باب من أرضع النبي «صلى اللّه عليه و آله» ما يدل على أنها لم تسلم» (3).
و على كل حال؛ فإن كل ما تقدم، و سواه، يجعلنا نشك كثيرا في أن تكون ثويبة قد أرضعت رسول اللّه، و حمزة، و أبا سلمة، بلبن ولدها مسروح ليكونوا جميعا أخوة من الرضاعة.
و روى مجاهد، قال: قلت لابن عباس: و قد تنازعت الظئر في رضاع محمد؟ ! .
قال: أي و اللّه، و كل نساء الجن. .
إلى أن قال: فخص بذلك حليمة (4).
و روى أبو الحسن البكري في كتابه الأنوار، قال: حدثنا أشياخنا، و أسلافنا الرواة: أنه كان من عادة أهل مكة، إذا تم للمولود سبعة أيام،
ص: 163
التمسوا له مرضعة ترضعه. .
إلى أن قال: فتطاولت النساء لرضاعته و تربيته. .
ثم يذكر: أن الهاتف أخبر آمنة: بأن مرضعته في بني سعد، و اسمها حليمة؛ فظلت تتوقع مجيئها، حتى جاءت؛ فأعطتها إياه (1).
و ذلك واضح الدلالة على عدم صحة ما يقال: من أن النساء المرضعات قد زهدن فيه ليتمه، و أن حليمة إنما قبلت به لأنها لم تجد سواه، و لم تحب أن ترجع رفيقاتها برضيع، و ترجع هي خالية.
و مما يدل على عدم صحة ذلك أيضا: أن عبد المطلب قد قال لحليمة: «أنا جده، أقوم مقام أبيه، فإن أردت أن ترضعيه دفعته إليك، و أعطيتك كفايتك» (2).
و ثمة رواية أخرى تدل على عدم صحة ذلك أيضا رواها المجلسي، عن الواقدي، فلتراجع (3).
و ما دمنا في الحديث عن رضاعه «صلى اللّه عليه و آله» في بني سعد، فإننا لا نرى مناصا من إعطاء رأينا في رواية وردت في هذه المناسبة، و هي التالية:
أخرج مسلم بن الحجاج: «عن أنس بن مالك: أن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» أتاه جبرئيل، و هو يلعب مع الغلمان، فأخذه و صرعه، فشق عن
ص: 164
قلبه، فاستخرج القلب، و استخرج منه علقة؛ فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه.
و جاء الغلمان يسعون إلى أمه-يعني ظئره-فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه، و هو منتقع اللون.
قال أنس: و قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (1).
و كان ذلك هو سبب إرجاعه «صلى اللّه عليه و آله» إلى أمه» (2).
و كتب الحديث و السيرة عند غير الإمامية لا تخلو عن هذه الرواية غالبا، بل قد ذكروا أنه قد شقّ صدره «صلى اللّه عليه و آله» خمس مرات، أربع منها ثابتة: مرة في الثالثة من عمره، و أخرى في العاشرة، و ثالثة عند مبعثه، و رابعة عند الإسراء، و الخامسة فيها خلاف.
و يقولون: إن تكرار شق صدره إنما هو زيادة في تشريفه «صلى اللّه عليه و آله» ، و قد نظم بعضهم ذلك شعرا فقال:
أيا طالبا نظم الفرائد في عقدمواطن فيها شق صدر لذي رشد
لقد شق صدر للنبي محمدمرارا لتشريف، و ذا غاية المجد
فأولى له التشريف فيها مؤثللتطهيره من مضغة في بني سعد
ص: 165
و ثانية كانت له و هو يافعو ثالثة للمبعث الطيب الند
و رابعة عند العروج لربهو ذا باتفاق فاستمع يا أخا الرشد
و خامسة فيها خلاف تركتهالفقدان تصحيح لها عند ذي النقد (1)
كما أننا في نفس الوقت الذي نرى فيه البعض يعتبر هذه الرواية من إرهاصات النبوة كما صرح به ناظم الأبيات السابقة و غيره (2)، و مثار إعجاب و تقدير.
فإننا نرى: أنها عند غير المسلمين، إما مبعث تهكم و سخرية، و إما دليل لإثبات بعض عقائدهم الباطلة، و الطعن في بعض عقائد المسلمين.
و نرى فريقا ثالثا: «يعتبر الرواية موضوعة، من قبل من أراد أن يضع التفسير الحرفي لقوله تعالى: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَ وَضَعْنٰا عَنْكَ وِزْرَكَ (3)» (4).
و اعتبرها صاحب مجمع البيان أيضا: «مما لا يصح ظاهره، و لا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد؛ لأنه كان طاهرا مطهرا من كل سوء و عيب، و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء» ؟ (5).
ص: 166
و نجد آخر (1)يحاول أن يناقش في سند الرواية، و نظره فقط إلى رواية ابن هشام، عن بعض أهل العلم، و لكنه لم يعلم أنها واردة في صحيح مسلم بأربعة طرق، و لو أنه اطلع على ذلك لرأينا له موقفا متحمسا آخر؟ لأنها تكون حينئذ كالوحي المنزل، على النبي المرسل.
و لعل خير من ناقش هذه الرواية نقاشا موضوعيا سليما هو العلامة الشيخ محمود أبو رية في كتابه القيّم: «أضواء على السنة المحمدية» ؛ فليراجعه من أراد. .
و نحن هنا نشير إلى ما يلي:
1-إن ابن هشام و غيره يذكرون: أن سبب إرجاع الرسول «صلى اللّه عليه و آله» إلى أمه، هو أن نفرا من الحبشة نصارى، رأوه مع مرضعته، فسألوا عنه، و قلبوه، و قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا و بلدنا إلخ (2).
و بذلك تصير الرواية المتقدمة التي تذكر أن سبب إرجاعه إلى أمه هو قضية شق الصدر محل شك و شبهة.
2-كيف يكون شق صدره «صلى اللّه عليه و آله» هو سبب إرجاعه إلى أمه؛ مع أنهم يذكرون:
أن هذه الحادثة قد وقعت له «صلى اللّه عليه و آله» و عمره ثلاث سنين،
ص: 167
أو سنتان و أشهر، مع أنه إنما أعيد إلى أمه بعد أن أتم الخمس سنين.
3-هل صحيح أن مصدر الشر هو غدة، أو علقة في القلب، يحتاج التخلص منها إلى عملية جراحية؟ ! .
و هل يعني ذلك أن باستطاعة كل أحد-فيما لو أجريت له عملية جراحية لاستئصال تلك الغدة-أن يصبح تقيا ورعا، خيّرا؟ ! .
أم أن هذه الغدة أو العلقة قد اختص اللّه بها الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ، و ابتلاه بها دون غيره من بني الإنسان؟ ! . و لماذا دون غيره؟ ! .
4-لماذا تكررت هذه العملية أربع، أو خمس مرات، في أوقات متباعدة؟ حتى بعد بعثته «صلى اللّه عليه و آله» بعدة سنين، و حين الإسراء و المعراج بالذات؟ !
فهل كانت تلك العلقة السوداء، و حظ الشيطان تستأصل، ثم تعود إلى النمو من جديد؟ ! و هل هي من نوع مرض السرطان الذي لا تنفع معه العمليات الجراحية، و الذي لا يلبث أن يختفي حتى يعود إلى الظهور بقوة أشد، و أثر أبعد؟ ! .
و لماذا لم تعد هذه العلقة إلى الظهور بعد العملية الرابعة أو الخامسة، بحيث يحتاج إلى السادسة، فالتي بعدها؟ ! .
و لماذا يعذب اللّه نبيه هذا العذاب، و يتعرض لهذه الآلام بلا ذنب جناه؟ ! ألم يكن بالإمكان أن يخلقه بدونها من أول الأمر؟ ! .
5-و هل إذا كان اللّه يريد أن لا يكون عبده شريرا يحتاج لإعمال قدرته إلى عمليات جراحية كهذه، على مرأى من الناس و مسمع؟ ! .
ص: 168
و تعجبني هذه البراعة النادرة لجبرئيل في إجراء العمليات الجراحية لخصوص نبينا الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» .
و ألا تعني هذه الرواية: أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان مجبرا على عمل الخير، و ليس لإرادته فيه أي أثر أو فعالية، أو دور؟ ! لأن حظ الشيطان قد أبعد عنه بشكل قطعي و قهري، و بعملية جراحية، كان أنس بن مالك يرى أثر المخيط في صدره الشريف! ! .
6-لماذا اختص نبينا بعملية كهذه و لم تحصل لأي من الأنبياء السابقين عليهم الصلاة و السلام (1)؟
أم يعقل أن محمدا «صلى اللّه عليه و آله» ، أفضل الأنبياء و أكملهم، كان فقط بحاجة إلى هذه العملية؟ ! الجراحية؟ ! و إذن، فكيف يكون أفضل و أكمل منهم؟
أم أنه قد كان فيهم أيضا للشيطان حظ و نصيب لم يخرج منهم بعملية جراحية؛ لأن الملائكة لم يكونوا قد تعلموا الجراحة بعد؟ ! .
7-و أخيرا، أفلا ينافي ذلك ما ورد في الآيات القرآنية، مما يدل على أن الشيطان لا سبيل له على عباد اللّه المخلصين: قٰالَ رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ (2).
و قال تعالى: إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ (3).
ص: 169
و قال: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (1).
و من الواضح: أن الأنبياء هم خير عباد اللّه المخلصين، و المؤمنين، و المتوكلين. فكيف استمر سلطان الشيطان على الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» إلى حين الإسراء و المعراج؟ ! .
هذا كله، عدا عن تناقض الروايات الشديد، و قد أشار إليه الحسني باختصار، فراجع (2)و قارن.
و قد روي عن النبي «صلى اللّه عليه و آله» قوله: «ما من أحد من الناس إلا و قد أخطأ، أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا» (3).
و يذكر أبو رية «رحمه اللّه» : أن حديث شق الصدر يأتي مؤيدا للحديث الآخر، الذي ورد في البخاري، و مسلم و فتح الباري و غيرها، و هو -و النص للبخاري-: «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب» (4).
و في رواية: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد؛ فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم و ابنها» (5). . و لهذا الحديث
ص: 170
ألفاظ أخرى لا مجال لذكرها.
و قد استدل المسيحيون بهذا الحديث على أن البشر كلهم-حتى النبي- مجردون عن العصمة، معرضون للخطايا إلا عيسى بن مريم، فإنه مصون عن مس الشيطان، مما يؤيد ارتفاع المسيح عن طبقة البشر، و بالتالي يؤكد لاهوته الممجد (1).
و أضاف أبو رية إلى ذلك قوله: «و لئن قال المسلمون لإخوانهم المسيحيين:
و لم لا يغفر اللّه لآدم خطيئته بغير هذه الوسيلة القاسية، التي أزهقت فيها روح طاهرة بريئة، هي روح عيسى «عليه السلام» بغير ذنب؟ ! .
قيل لهم: و لم لم يخلق اللّه قلب رسوله الذي اصطفاه، كما خلق قلوب إخوانه من الأنبياء و المرسلين-و اللّه أعلم حيث يجعل رسالته-نقيا من العلقة السوداء و حظ الشيطان، بغير هذه العملية الجراحية، التي تمزق فيها قلبه و صدره مرارا عديدة! . .» (2).
و الحقيقة هي: أن هذه الرواية مأخوذة عن أهل الجاهلية، فقد جاء في الأغاني أسطورة مفادها:
أن أمية بن أبي الصلت كان نائما، فجاء طائران، فوقع أحدهما على باب
ص: 171
البيت؛ و دخل الآخر فشق عن قلب أمية ثم رده الطائر، فقال له الطائر الآخر: أوعى
قال: نعم.
قال: زكا؟
قال: أبى.
و على حسب رواية أخرى: أنه دخل على أخته، فنام على سرير في ناحية البيت، قال: فانشق جانب من السقف في البيت، و إذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره، و وقف الآخر مكانه، فشق الواقع على صدره، فأخرج قلبه، فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره: أوعى؟
قال: وعى.
قال: أقبل؟
قال: أبى.
قال: فردّ قلبه في موضعه إلخ. .
ثم تذكر الرواية تكرر الشق له أربع مرات (1).
و هكذا يتضح: أن هذه الرواية مفتعلة و مختلقة، و أن سر اختلاقها ليس إلا تأييد بعض العقائد الفاسدة، و الطعن بصدق القرآن، و عصمة النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» .
و لنعد الآن إلى متابعة الحديث عن السيرة العطرة؛ فنقول:
ص: 172
لقد شاءت الإرادة الإلهية: أن يفقد النبي «صلى اللّه عليه و آله» أباه و هو لا يزال جنينا، أو طفلا صغيرا.
و ربما يقال: إن الأصح هو الأول؛ لأن يتمه هذا كان هو الموجب لتردد حليمة السعدية في قبوله رضيعا (1)، و لكن قد تقدم بعض المناقشة في ذلك.
ثم فقد أمه بعد عودته من بني سعد، و هو في الرابعة من عمره، أو في السادسة، أو أكثر حسب الروايات.
و لعل ما تقدم من إرجاع حليمة له إلى أمه، و هو في الخامسة من عمره، يؤيد أن أمه قد توفيت و هو في السادسة، إلا أن يقال: إنه يمكن أن يكون المراد: أنه قد أرجع إلى أهله، و لكنه احتمال بعيد عن مساق الكلام.
هذا. . و قد استأذن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ربه في زيارة قبر أمه، فأذن له.
فقد روى مسلم في صحيحه، أنه «صلى اللّه عليه و آله» قال: «إستأذنت
ص: 173
ربي في زيارة أمي، فأذن لي، فزوروا القبور تذكّركم الموت» (1).
و هذا الحديث حجة دامغة على من يمنع من زيارة القبور، و له مؤيدات كثيرة؛ كزيارة فاطمة «عليها السلام» لقبر حمزة «عليه السلام» ، و غير ذلك.
و قد ألف العلامة المتتبع البحاثة الشيخ علي الأحمدي كتابا في التبرك بآثار الأنبياء و الصالحين، و تعرض فيه إلى هذا الموضوع، و بحثه أيضا العلامة الأميني في الغدير، و السبكي في كتابه: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، و غيرهم كثير.
و لقد عاش «صلى اللّه عليه و آله» في كنف جده عبد المطلب، الذي كان يرعاه خير رعاية، و لا يأكل طعاما إلا إذا حضر، و كان عارفا بنبوته حتى لقد روي: أنه قال عنه لمن أراد أن ينحيه عنه، و هو طفل يدرج: دع ابني فإن الملك قد أتاه (2). و الرواية معتبرة على الظاهر.
أضف إلى ذلك: ما رووه من إخبار سيف بن ذي يزن لعبد المطلب بذلك، عندما زاره في اليمن، إلى غير ذلك من دلائل و إشارات، رسخت هذا الاعتقاد في نفس عبد المطلب «رحمه اللّه» ، و جعلت له «صلى اللّه عليه
ص: 174
و آله» مكانة خاصة عنده (1).
و في السنة الثامنة من عمره «صلى اللّه عليه و آله» توفي جده عبد المطلب، بعد أن اختار له أبا طالب «رحمه اللّه» ليكفله، و يقوم بشؤونه، و يحرص على حياته، رغم أن أبا طالب لم يكن أكبر ولد عبد المطلب سنا، و لا أكثرهم مالا؛ لأن الأسنّ فيهم كان هو الحارث، و الأكثر مالا هو العباس.
و لكن عذر العباس هو أنه كان حينئذ صغيرا أيضا، لأنه كان أسنّ من النبي «صلى اللّه عليه و آله» بسنتين فقط، كما يقولون (2)و إن كنا قد قلنا: إنه كان يكبره بأكثر من ذلك.
كما أن أبا طالب قد كان شقيق عبد اللّه والد النبي «صلى اللّه عليه و آله» لأبيه و أمه، فإن أمهما هي فاطمة المخزومية، و طبيعي أن يكون لأجل ذلك أكثر حنانا و عطفا عليه و حبا له.
ثم إن أبا طالب الذي كان هو و زوجته أم أمير المؤمنين «عليه السلام» يحملان نور الولاية، قد كانا يحملان من المكارم و الفضائل النفسية و المعنوية و من الطهارة ما يؤهلهما لأن يكونا كفيلين لرسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله»
ص: 175
و أبوين لوصيه، و للأئمة من ذريته. .
و على كل حال، فقد عهد عبد المطلب إلى أبي طالب «عليه السلام» بمهمة كفالته «صلى اللّه عليه و آله» ؛ لأنه كان بالإضافة إلى ما تقدم أنبل أخوته، و أكرمهم، و أعظمهم مكانة في قريش، و أجلهم قدرا، و لقد قام أبو طالب «عليه السلام» برعايته «صلى اللّه عليه و آله» خير قيام، و لم يزل يكرمه و يحبه غاية الحب، و ينصره بيده و لسانه طول حياته، كما سنشير إليه إن شاء اللّه تعالى في فصل خاص به رضوان اللّه تعالى عليه.
و يقولون: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد سافر إلى الشام بصحبة عمه أبي طالب، و رآه بحيرا راهب بصرى، و أخبر عمه أنه نبي هذه الأمة، و أصر عليه بأن يرجعه إلى مكة، حتى لا يغتاله اليهود، الذين يرون العلامات التي في كتبهم متحققة فيه، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة.
و لكن جاء في رواية لأبي موسى الأشعري: أن بحيرا «لم يزل يناشده حتى رده، و بعث معه أبو بكر بلالا، و زوده الراهب من الكعك و الزيت» (1).
ص: 176
و في رواية: أن سبعة كانوا قد عزموا على قتله «صلى اللّه عليه و آله» ، فمنعهم بحيرا، و بايعوا الرسول، و أقاموا معه.
و لكن ذلك لا يمكن أن يصح:
أولا: لأن عمر النبي «صلى اللّه عليه و آله» كان حينئذ اثني عشر سنة، بل قيل: إن عمره كان حينئذ تسع سنين (1).
و أبو بكر كان أصغر من النبي «صلى اللّه عليه و آله» بأكثر من سنتين، و بلال كان أصغر من أبي بكر بعدة سنين، تتراوح ما بين خمس إلى عشر (2)، حسب اختلاف الأقوال.
فهل يمكن لأبي بكر، و هو بهذه السن أن يسافر إلى الشام، ثم يصدر الأوامر و النواهي في مهمات كهذه؟ ! .
و هل يمكن لبلال الذي كان طفلا، لا يقدر على المشي، أو لم يكن قد ولد بعد: أن يكون مع أبي بكر في ذلك السفر الطويل؟
ثم أن يتحمل مسؤولية إرجاع النبي «صلى اللّه عليه و آله» من بصرى إلى مكة؟ مع كون النبي «صلى اللّه عليه و آله» أكبر منه بسنوات عديدة؟ ! .
و ثانيا: ما هو الربط بين أبي بكر و بلال حتى يأمره أبو بكر بهذا الأمر؟
ص: 177
فإن أبا بكر لم يكن يملك بلالا، و إنما كان يملكه أمية بن خلف، و إنما اشتراه أبو بكر كما يقولون بعد ثلاثين عاما من حينئذ (1).
هذا إن لم نقل: إن النبي «صلى اللّه عليه و آله» هو الذي اشترى بلالا، و أعتقه، و لم يملكه أبو بكر أصلا (2).
و ثالثا: إن راوي هذه الرواية، و هو أبو موسى، لم يكن قد ولد أصلا، لأنه إنما ولد قبل البعثة بثمان أو بعشر سنين، على ما يقولون؛ كما أنه إنما قدم إلى المدينة في سنة سبع من الهجرة، سنة خيبر، و هذه القضية قد كانت قبل البعثة بحوالي ثلاثين عاما.
و رابعا: سيأتي عن مغلطاي و الدمياطي: أن أبا بكر لم يكن في ذلك السفر أصلا.
و لعل لأجل بعض ما تقدم أو كله حكم الترمذي على هذا الحديث بالغرابة، و شك فيه ابن كثير أيضا. فراجع.
و بعد كل ما تقدم فقد حكم الذهبي على هذا الحديث بقوله: «أظنه موضوعا بعضه باطل» (3).
ص: 178
و أما سر وضع تلك الرواية فهو إثبات: أن إيمان أبي بكر بنبوّة النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد كان قبل البعثة؛ ليسبق الناس كلهم، حتى عليا عليه الصلاة و السلام و خديجة، و حتى النبي «صلى اللّه عليه و آله» نفسه في ذلك.
قال النووي: «كان أبو بكر أسبق الناس إسلاما، أسلم و هو ابن عشرين سنة، و قيل: خمس عشرة سنة» (1).
و قال الصفوري الشافعي: «و كان إسلامه قبل أن يولد علي بن أبي طالب» (2).
و ذكر الديار بكري رواية عن ابن عباس، عن قضية بحيرا جاء في آخرها: فوقع في قلب أبي بكر اليقين و التصديق قبل ما نبّئ «صلى اللّه عليه و آله» (3).
و لكن، لماذا لم يعدوا بحيرا و بلالا و الحارث و غيرهم ممن حضر، من السابقين إلى الإسلام أيضا؟ ! . و من الذي أخبرهم بوقوع الإسلام في قلب أبي بكر قبل هؤلاء؟ ! أو دونهم؟ ! .
بل من أين علموا: أن الإسلام و التصديق قد وقعا في قلب أبي بكر؟ ! هذا كله لو سلمنا بالقضية من أساسها.
ص: 179
و قد بقي في قصة بحيرا نقاط كثيرة، جديرة بالمناقشة، لا مجال لنا للحديث عنها هنا، و بعضها قد يكون له كبير فائدة.
و مما تقدم يظهر مدى صحة قول بعض الروايات: إن أبا بكر، أو الحارث عم النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد ذهب إليه «صلى اللّه عليه و آله» فاحتضنه، و جاء به، و أجلسه مع القوم على مائدة طعام بحيرا، و رجح ابن المحدث: أن الذي جاء به هو أبو بكر (1).
و لم يدر ابن المحدث أن أبا بكر لم يكن في ذلك السفر أصلا، كما صرح به الدمياطي و مغلطاي (2)، و لو كان؛ فإنه كان أصغر سنا من النبي «صلى اللّه عليه و آله» كما قلنا.
بقي أن نشير إلى أن بعض الروايات قد ذكرت: أن راويها قد شك في أن يكون سفره «صلى اللّه عليه و آله» إلى الشام كان بصحبة أبي طالب أو جده عبد المطلب (3).
و بذلك تصبح الرواية الآنفة له مع أبي بكر و بلال أكثر إشكالا و تعقيدا؛ لأن عبد المطلب قد توفي و عمر النبي «صلى اللّه عليه و آله» ثمان سنين كما تقدم.
ص: 180
و الصحيح هو أن عمه أبا طالب هو الذي رجع معه «صلى اللّه عليه و آله» إلى مكة (1)كما قدمنا، و ليس أبا بكر و لا غيره.
هذا، و للنبي «صلى اللّه عليه و آله» سفرة أخرى إلى الشام للتجارة، ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى في موضعها.
و يذكر المؤرخون: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد رعى الغنم في بني سعد، و أنه رعاها لأهله، بل و يقولون: رعاها لأهل مكة أيضا، حتى ليذكرون و البخاري منهم في كتاب الإجارة و غيره أنه «صلى اللّه عليه و آله» قال: «ما بعث اللّه نبيا إلا رعى الغنم!
فقال أصحابه: و أنت؟ .
قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (2).
و فسرت القراريط بأنها: أجزاء الدراهم و الدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة (3).
و لكننا نشك كثيرا: في أن يكون «صلى اللّه عليه و آله» قد رعى لغير أهله بأجر كهذا، تزهد به حتى العجائز، و لا يصح مقابلته بذلك الوقت و الجهد الذي يبذله في رعي الغنم، نعم، نشك في ذلك، لأننا نجد:
ص: 181
أولا: أن اليعقوبي-و هو المؤرخ الثبت-قد نص على أنه «صلى اللّه عليه و آله» لم يكن أجيرا لأحد قط. (1)
و ثانيا: تناقض الروايات؛ فبعضها يقول: لأهلي، و بعضها يقول: لأهل مكة، و بعضها يقول: بالقراريط، و أخرى قد أبدلت ذلك بكلمة بأجياد، و إذا كان الراوي واحدا لم يقبل منه مثل هذا الاختلاف، إلا إذا فرض أنه قد نسي في إحدى المرتين.
نعم، قد ذكر البعض: أن العرب ما كانت تعرف القراريط، و إنما هي اسم لمكان في مكة (2)و لنفترض أنه اسم جبل في مكة، و لأجل ذلك جاء بكلمة «على» و لم يقل في، و لنفترض أيضا أنه كان يرعى الغنم في خصوص ذلك المكان؟ و لا يتجاوزه إلى غيره؟
و نفترض ثالثا: أنه ربما يكون هذا الاختلاف بين الرواية التي تقول: بأجياد، و التي تقول بالقراريط، بسبب أن القراريط و أجيادا اسم لمكان واحد، أو لمكانين متقاربين جدا.
و لكن يعكر على هذا: أن رواية البخاري تقول: «على قراريط» ؛ فالظاهر من كلمة على هو: الأجر.
ص: 182
و يمكن أن يدفع هذا: بأن من المحتمل أن يكون قراريط اسم جبل في مكة و قد رعى «صلى اللّه عليه و آله» الغنم عليه.
و كل ذلك و سواه من الاحتمالات لا شاهد له، و إنما يلجأ إليه لو كانت الرواية صحيحة السند عن معصوم، و ليست كذلك، بل هي عن أبي هريرة، و غيره ممن لا يمكن الاعتماد عليهم.
ملاحظة:
لقد حاول البعض التفلسف هنا، فذكر: أن رعي الغنم صعب؛ لأنها أصعب البهائم و هو يوجب أن يستشعر القلب رأفة و لطفا، فإذا انتقل إلى رعاية البشر كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية، و الظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال (1).
و لكن، حتى لو لم نقل: إنه «صلى اللّه عليه و آله» كان نبيا منذ صغره، كما هو الصحيح حسبما سيأتي، فإننا نطرح الأسئلة التالية:
هل يمكن أن يصدق أحد: أن النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» كان يحتاج إلى التهذيب من الحدة الطبيعية، و الظلم الغريزي؟ ! .
و هل في النبي «صلى اللّه عليه و آله» ظلم وحدة غريزيتان يحتاجان إلى التهذيب و الحد منهما حقا؟ ! و لو سلم ذلك، ألا يوجد مدرسة أفضل من هذه المدرسة؟ ! ثم أفلا ينافي ذلك قضية شق الصدر (2)-المكذوبة-المقبولة
ص: 183
لدى هؤلاء؟ !
أ و ليس ذلك الظلم و تلك الحدة هما من حظ الشيطان، الذي استأصله جبرئيل في عملياته الجراحية المتعددة، المزعومة لدى هؤلاء؟ .
ثم أ و ليس كان له ملك يسدده، و يرشده منذ صغره، حسبما نطقت به الروايات (1)؟ ! .
إلا أن يدعي هؤلاء: أن التسديد لا ينافي الظلم الغريزي.
و حينئذ نقول: ألم يحاول الملك الموكل به ليسدده و يرشده إلى محاسن الأخلاق، أن يرشده إلى قبح الظلم، و حسن العدل؟ !
و لماذا قصّر في أداء مهمته تجاهه؟
و أيضا ألا يمكن للّه تعالى أن يهذب نبيه، و يخفف من حدته بغير هذه الطريقة؟ !
و هل صحيح: أن رعاية الغنم أصعب من رعاية غيرها، كما يدعي هؤلاء؟ ! .
و هل صحيح: أن الظلم غريزة في الإنسان؟ !
و إذا كان غريزة فهل يمكن القضاء عليه بواسطة رعاية الغنم؟ ! .
و هل كل راعي غنم لا يكون فيه ظلم غريزي، و لا حدة طبيعية. . أم أن ظلمه و حدته، أقل من ظلم غيره وحدته؟ ! .
ص: 184
ثم، ألا يمكن أن يكون الرعي عملا عاديا، كان «صلى اللّه عليه و آله» يقوم به كغيره من أبناء مجتمعه، الذين كانت الماشية و رعيها عندهم من الوسائل العادية للعيش، و كسب الرزق؟ ! . و ليكون النبي إنسانا يعيش كما يعيش الآخرون من الناس الذين ما عاشوا حياة الترف، و لا شعروا بزهو السلطان؟ ! .
إلى غير ذلك من الأسئلة التي لن تجد عند هؤلاء جوابا مقنعا و مفيدا.
و علل ذلك البعض: بأن رعي الغنم يعطي فرصة للابتعاد عن الناس، و الانصراف للتفكير السليم، بعيدا عن مشاكل الناس، و همومهم، و يؤيد ذلك: أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان يذهب إلى غار حراء طلبا للانفراد عن الناس، من أجل التفكير و التأمل في ملكوت اللّه، و العبادة و تزكية النفس. .
و بعض آخر يرى: أن الرعي فيه تحمل مسؤولية أحاد متفرقة، و هو يناسب المهمة التي سوف توكل إليه «صلى اللّه عليه و آله» الأمر الذي من شأنه أن يروض النفس، و يزيدها اندفاعا نحو طلب الخير للآخرين من رعيته لهم، و الحرص على ما ينفعهم، و قد كان اللّه تعالى يهتم برفع مستوى تحمل و ملكات و قدرات نبيه، ليواجه المسؤولية العظمى، و لكن بالطرق العادية و الطبيعية، كما هو معلوم من إرساله الرسل، و تزويدهم بالمعجزات و غيرها.
غير أننا نقول: هل يمكن تحقيق هذا الغرض برعي الأغنام؟ ! .
و هل كل راع للغنم يصير كذلك؟ ! .
و هل المطلوب هو مجرد التدريب على تحمل مسؤولية الآحاد المتفرقين.
و لماذا لا يكون رعي الغنم هو المهنة التي يمارسها جميع الرسل؟ ! .
ص: 185
ص: 186
ص: 187
ص: 188
و يقولون: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد سافر سفره الثاني إلى الشام، و هو في الخامسة و العشرين من عمره (1).
و يقولون: إن سفره هذا كان في تجارة لخديجة، و إن أبا طالب هو الذي اقترح عليه ذلك، حينما اشتد الزمان، و ألحت عليهم سنون منكرة، فلم يقبل «صلى اللّه عليه و آله» أن يعرض نفسه على خديجة، فبلغ خديجة ما جرى بينه «صلى اللّه عليه و آله» و بين أبي طالب؛ فبادرت هي، و بذلت للرسول «صلى اللّه عليه و آله» ضعف ما كانت تبذله لغيره؛ لما تعرفه من صدق حديثه، و عظيم أمانته، و كرم أخلاقه.
و يروي بعضهم: أن أبا طالب نفسه قد كلم خديجة في ذلك، فأظهرت سرورها و رغبتها، و بذلت له ما شاء من الأجر.
فسافر «صلى اللّه عليه و آله» إلى الشام، و ربح في تجارته أضعاف ما كان يربحه غيره، و ظهرت له في سفره بعض الكرامات الباهرة، فلما عادت القافلة إلى مكة أخبر ميسرة غلام خديجة، سيدته بذلك، فذكرت ذلك
ص: 189
بالإضافة إلى ما ظهر لها هي منه «صلى اللّه عليه و آله» لورقة بن نوفل، ابن عمها كما يقولون! و إن كنا نحن نشك في ذلك (1)فقال لها: إن كان ذلك حقا، فهو نبي هذه الأمة (2).
ثم اهتمت خديجة بالعمل على الاقتران به «صلى اللّه عليه و آله» ، كما سنرى.
هكذا يقولون، و لكننا نشك في بعض ما تقدم، لا سيما و أن ورقة لم يسلم حتى بعد أن بعث رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» .
كما أن قولهم: إن خديجة قد استأجرته في تجارتها، لا يمكن المساعدة عليه، و ذلك لأننا نجد المؤرخ الأقدم، الثبت ابن واضح، المعروف باليعقوبي يقول: «و إنه ما كان مما يقول الناس: إنها استأجرته بشيء، و لا كان أجيرا لأحد قط» (3).
و لعل في عزة نفس النبي «صلى اللّه عليه و آله» و إبائها، و أيضا في تسديد اللّه تعالى له، و أيضا في شرف أبي طالب و سؤدده، ما يبعد كثيرا أن يكون قد صدر شيء مما نسب إلى أبي طالب منه.
و على هذا، فقد يكون سفره «صلى اللّه عليه و آله» إلى الشام، لا لكونه
ص: 190
كان أجيرا لخديجة، و إنما لأنه كان يضارب بأموالها، أو شريكا لها. و يدل على ذلك تصريح رواية الجنابذي بالمضاربة (1)فراجع.
و يؤيده، ما رواه المجلسي من أن أبا طالب قد ذكر له «صلى اللّه عليه و آله» اتجار الناس بأموال خديجة، و حثه على أن يبادر إلى ذلك، ففعل، و سافر إلى الشام (2).
و قد خطبها عظماء قريش، و بذلوا لها الأموال.
و ممن خطبها عقبة بن أبي معيط، و الصلت بن أبي يهاب، و أبو جهل، و أبو سفيان (1)فرفضتهم جميعا، و اختارت النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، لما عرفته فيه من كرم الأخلاق، و شرف النفس، و السجايا الكريمة العالية. و نكاد نقطع-بسبب تضافر النصوص-بأنها هي التي قد أبدت أولا رغبتها في الاقتران به «صلى اللّه عليه و آله» .
فذهب أبو طالب في أهل بيته، و نفر من قريش إلى وليها، و هو عمها عمرو بن أسد؛ لأن أباها كان قد قتل قبل ذلك في حرب الفجار أو قبلها (2).
و أما أنه خطبها إلى ورقة بن نوفل، و عمها معا، أو إلى ورقة وحده (3)فمردود، بأنه: قد ادعي الإجماع على الأول (4).
ص: 192
و أما أنا فلا أدري ما أقول في ورقة هذا. و في كل واد أثر من ثعلبة، فهو يحشر في كل كبيرة و صغيرة، فيما يتعلق بالرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ، و إن ذلك ليدعوني إلى الشك في كونه شخصية حقيقية، أو أسطورية.
و يلاحظ: أن نفس الدور الذي يعطى لأبيها تارة، و لعمها أخرى، يعطى لورقة بن نوفل ثالثة حتى الجمل و الكلمات، فضلا عن المواقف و الحركات، فلتراجع الروايات التي تحكي هذه القضية، و ليقارن بينها (1)، و سيأتي إن شاء اللّه مزيد من الكلام حول ورقة هذا.
نعود إلى القول: إن أبا طالب قد ذهب لخطبة خديجة، و ليس حمزة الذي اقتصر عليه ابن هشام في سيرته (2)لأن ذلك لا ينسجم مع ما كان لأبي طالب من المكانة و السؤدد في قريش، من جهة، و لأن حمزة كان يكبر النبي «صلى اللّه عليه و آله» بسنتين أو بأربع (3)كما قيل من جهة أخرى.
هذا بالإضافة إلى مخالفة ذلك لما يذكره عامة المؤرخين في المقام.
و قد اعتذر البعض عن ذلك: بأن من الممكن أن يكون حمزة قد حضر مع أبي طالب؛ فنسب ذلك إليه (4).
و هو اعتذار واه؛ إذ لماذا لم ينسب ذلك إلى غير حمزة، ممن حضر مع أبي
ص: 193
طالب من بني هاشم و غيرهم من القرشيين؟ ! .
و يظهر: أن ثمة من يهتم بسلب هذه المكرمة عن أبي طالب «عليه السلام» ، و إعطائها لأي كان من الناس سواه، سواء لحمزة، أو لغيره، و لا ضير في ذلك عنده ما دام أنه قد استشهد في وقت مبكر.
و على كل حال فقد خطبها أبو طالب له «صلى اللّه عليه و آله» قبل بعثته «صلى اللّه عليه و آله» بخمس عشرة سنة، على المشهور.
و قال في خطبته-كما يروي المؤرخون-: «الحمد لرب هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، و ذرية إسماعيل، و أنزلنا حرما آمنا، و جعلنا الحكام على الناس، و بارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه.
ثم إن ابن أخي هذا-يعني رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» -ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، و لا يقاس به رجل إلا عظم عنه، و لا عدل له في الخلق، و إن كان مقلا في المال؛ فإن المال رفد جار، و ظل زائل، و له في خديجة رغبة، و قد جئناك لنخطبها إليك، برضاها و أمرها، و المهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله و آجله.
و له-و رب هذا البيت-حظ عظيم، و دين شائع، و رأي كامل» (1).
ص: 194
و خطبة أبي طالب المتقدمة تظهر مكانة الرسول الفضلى في قلوب الناس، و هي صريحة في أن الناس كانوا يجدون في الرسول علامات النبوّة و نور الهداية، و يتوقعون أن يكون هو الذي بشر به عيسى و موسى «عليهما السلام» ، و أنه كان لا يوزن به أحد إلا رجح به، و لا يقاس به رجل إلا عظم عنه.
ثم إن كلمات أبي طالب تدل دلالة واضحة على ما كان يتمتع به بنو هاشم، من شرف و سؤدد، حتى ليقول «رحمه اللّه» : و جعلنا الحكام على الناس.
و تدل أيضا: على أن العرب كانت تعتبر الحرم موضع أمن للقاصي و الداني، و قد تقدم ما يدل على ذلك أيضا.
ثم إن حديثه عن فقر النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و إعطاء الضابطة للتفضيل بين الرجال، يدل على واقعية أبي طالب، و أنه ينظر إلى الإنسان بمنظار سام و نبيل، كما أنه يتعامل مع الواقع بحنكة و وعي و أناة.
و بعد، فإن كلماته تلك تدل أيضا: على أن قريشا كانت تعتبر انتسابها إلى إبراهيم و إسماعيل، و سدانتها للبيت، كل شيء بالنسبة لها، و قد أشرنا إلى هذا الأمر في الفصل الأول.
ص: 195
و لتراجع خطبة أبي طالب «رحمه اللّه» حين موته، و التي يخاطب بها قريشا، فإنها خطبة جليلة، لا تبتعد عن هذه الخطبة في مراميها و أهدافها.
و يتساءل بعض المحققين هنا: أنه كيف يمكن الجمع بين قوله: «و دين شائع» ، و بين قوله تعالى: مٰا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتٰابُ وَ لاَ اَلْإِيمٰانُ (1)، و قوله: وَ مٰا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقىٰ إِلَيْكَ اَلْكِتٰابُ (2).
و جوابه:
أولا: قد يقال: إن الآيات ربما تكون ناظرة إلى المراحل الأولى من حياة النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» فهو لم يكن يعلم، ثم علم، و أما متى علم؛ فالآيات لا تحدد لنا ذلك؛ فلربما يكون قد علم حينما كان في سن العشرين مثلا، أو قبل ذلك أو بعده.
بل لعله علمه منذ صغره، فقد دلت الروايات على أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان نبيا منذ ذلك الحين. .
بل في الروايات: «كنت نبيّا و آدم بين الروح و الجسد» أو نحو ذلك.
و ثانيا: إن السيد الطباطبائي يقول: إن الآيات ناظرة إلى نفي العلم التفصيلي، أما العلم الإجمالي فقد كان موجودا، لأن عبد المطلب و أبا طالب و غيرهما كانوا مؤمنين باللّه، و كتبه إجمالا، و النبي أيضا كذلك (3)، لا سيما إذا
ص: 196
قوّينا أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان نبيّا منذ صغره-كما ذهب إليه البعض- و لسوف يأتي ذلك إن شاء اللّه تعالى في فصل بحوث تسبق السيرة.
و ثالثا: إن من معاني الدين: «السيرة، و التدبير، و الورع، و العادة، و الشأن» ؛ فلعل القصد في هذه العبارة كان إلى أحد هذه المعاني.
و رابعا: إن هذه الآيات بمثابة قضية شرطية مفادها: أنه «صلى اللّه عليه و آله» لو لا لطف اللّه به لم يكن يدري ما الكتاب و لا الإيمان، لأنك أنت بنفسك و بما لديك من قدرات ذاتية لست قادرا على شيء و كذلك هو «صلى اللّه عليه و آله» لم يكن يرجو ذلك لو لا اللّه سبحانه.
و خامسا: لماذا لا يكون المقصود بالدين الشائع هو دين إبراهيم «عليه السلام» ؟ !
و سادسا: قد يكون المقصود هو التنبؤ بما سيكون له في المستقبل من حيث إن أبا طالب أدرك مما يراه له من معجزات أنه نبي، و أنه سيكون خاتم الرسل و الأنبياء.
و على كل حال، فإن أبا طالب قد ضمن المهر في ماله، كما هو صريح خطبته، و لكن خديجة رضوان اللّه تعالى عليها عادت فضمنت المهر في مالها، فقال البعض: يا عجبا! المهر على النساء للرجال؟ !
فغضب أبو طالب، و قال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان، و أعظم المهر، و إن كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي.
و لكن يبقى: أن بعض الروايات تفيد: أن رسول اللّه «صلى اللّه عليه
ص: 197
و آله» نفسه قد أمهرها عشرين بكرة (1)و ذلك ينافي أن يكون أبو طالب قد ضمن المهر، أو هي ضمنته دونه، أو هي لأبي طالب.
إلا أن يكون المراد: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد أمهرها بواسطة أبي طالب.
و قيل: إن عليا «عليه السلام» هو الذي ضمن المهر، قالوا: «و هو غلط، لأن عليا «عليه السلام» لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره» (2).
و يرد عليه: أن ثمة أقوالا-و إن كنا نقطع بعدم صحتها-تفيد: أنه «عليه السلام» قد ولد قبل البعثة بعشرين، أو بثلاث و عشرين سنة، و لذا قال مغلطاي: «و هو غلط، كان علي إذ ذاك صغيرا لم يبلغ سبع سنين» (3).
و نحن نغلط هذه الأقوال، و نستغربها، إذ إن ذلك معناه: أنه «عليه السلام» قد استشهد و عمره ست و سبعون سنة، و هو ما لم يقل به أحد.
فنحن لا نقبل قول مغلطاي، و لا نقبل قول أولئك الذين يزعمون أنه قد ضمن المهر، و ذلك لما سيأتي في تاريخ ميلاده «عليه الصلاة و السلام» .
ثم نقول: إن أبا هلال العسكري ذكر أنه لما قيل: من يضمن المهر؟
ص: 198
قال علي و هو صغير: «أبي فلما بلغ الخبر أبا طالب جعل يقول: بأبي أنت و أمي» (1).
و لربما يمكن تقريب هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يقال: من أن عليا «عليه السلام» قد ولد قبل البعثة بعشر أو بخمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة، بل بثلاث و عشرين سنة، حسب بعض الأقوال النادرة، ثم قارنا بينها و بين الأقوال التي تقرر: أنه «صلى اللّه عليه و آله» قد تزوج خديجة و هو ابن ثلاثين سنة، أي قبل البعثة بعشر سنوات، سنة ولادة علي «عليه السلام» ، أو و هو ابن سبع و ثلاثين سنة، كما عن ابن جريج (2)أي قبل البعثة بثلاث سنوات، و قيل: تزوجها قبل البعثة بخمس سنين (3).
فلعله «عليه السلام» قد قال ذلك و هو طفل صغير فاستحسن ذلك منه أبوه أبو طالب.
و عن مقدار المهر، قيل: إنه عشرون بكرة، و قيل: إثنا عشر أوقية و نش، أي ما يعادل خمس مئة درهم، و قيل غير ذلك (4).
ص: 199
د-35 سنة (1).
ه-40 سنة (2).
و-44 سنة (3).
ز-45 سنة (4).
ح-46 سنة (5).
و قد تقدم: أن الكثيرين قد رجحوا القول الثاني، كما ذكره ابن العماد، أما البيهقي فقد صحح القول الأول، حيث قال: «بلغت خديجة خمسا
ص: 201
و ستين سنة، و يقال: خمسين سنة، و هو أصح» (1).
فإذا كانت «رحمها اللّه» قد تزوجت برسول اللّه قبل البعثة بخمس عشرة سنة كما جزم به البيهقي نفسه (2).
فإن ذلك معناه: أن عمرها حين زواجها كان خمسا و عشرين سنة، و رجح هذا القول غير البيهقي أيضا (3).
أما الحاكم، الذي روى لنا القول الثاني المتقدم عن ابن إسحاق، فإنه لم يوضح لنا حقيقة ما يذهب إليه، غير أنه حين روى عن هشام بن عروة قوله: إن خديجة قد توفيت و عمرها خمس و ستون سنة، قال: «هذا قول شاذ، فإن الذي عندي: أنها لم تبلغ ستين سنة» (4).
فكلامه هذا يدل على أنه يعتبر القول بأنها قد تزوجت بالنبي و عمرها أربعون سنة، شاذ.
و يرى: أن عمرها كان أقل من خمس و ثلاثين حينئذ، و لكنه لم يبين القول الذي يذهب إليه، هل هو ثلاثون؟ .
أو ثمان و عشرون؟ .
أو خمس و عشرون؟ .
ص: 202
و عن ابن إسحاق: أن خديجة قالت له «صلى اللّه عليه و آله» : يا محمد، ألا تتزوج؟
قال: و من؟
قالت: أنا.
قال: و من لي بك؟ أنت أيّم قريش، و أنا يتيم قريش؟ .
قالت: إخطب إلخ. . (1).
بل يذكر البعض: أن أبا طالب قال للنبي «صلى اللّه عليه و آله» : أخاف ألا يفعلوا، أيّم قريش، و أنت يتيم قريش، ثم إن أبا طالب أرسل بدلا عنه حمزة؛ لأنه خاف إن ذهب بنفسه أن يردوه فتكون الفضيحة (2).
و في نص آخر: أن خديجة حين طلبت من أبي طالب أن يخطبها لمحمد من عمها، قال أبو طالب لها: «يا خديجة، لا تستهزئي» (3).
و نحن لا نشك في كذب كل ذلك؛ إذ كيف يمكن أن يصدر ذلك من رجل يزيد عمره على الخمس و عشرين عاما: أن يصف نفسه بأنه: يتيم، هذا مع العلم بأنه قد نشأ و تربى في أعرق بيت في العرب؛ فكيف لم يكن يعرف أن اليتيم لا يطلق في لغة العرب إلا على غير البالغ؟ ! .
و أيضا؛ فإن صدور ذلك من رجل هو في عقل و إدراك، و شخصية
ص: 203
النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و الذي هو من أعرق عائلة عربية، و أشرفها، و الذي كان في إبائه و سمو نفسه يفوق كل وصف، و يتجاوز كل حد-إن صدور ذلك منه-يكاد يلحق بالمستحيلات و الممتنعات.
ثم إنه لماذا اتصف محمد «صلى اللّه عليه و آله» فقط باليتم؟ مع أن عبد المطلب قد مات و ابناه العباس و حمزة صغيران لم يبلغا الحلم؟ ! (1).
و الظاهر هو: أن هذا من مجعولات أعداء الدين، أو من أهل الكتاب، أو من أذناب بني أمية، الذين كانوا يحاولون الحط من شأن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» كما قدمناه في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و هكذا يقال تماما بالنسبة لما ينسب لأبي طالب «عليه السلام» ، لا سيما و أنه هو نفسه يقرّض النبي بذلك التقريض العظيم المتقدم.
و لعل الأصح هو: أن القائل لذلك هو نساء قريش، كما سيأتي حين الحديث عن عدم صحة ما يقال من زواجها من رجلين قبله «صلى اللّه عليه و آله» .
و هكذا يقال تماما بالنسبة لما يقال: من أن عمها كان يأنف من أن يزوجها من محمد، يتيم أبي طالب (2)؛ فاحتالت هي عليه حتى سقته الخمر، فزوجها في حال سكره؛ فلما أفاق، و وجد نفسه أمام الأمر الواقع لم يجد بدا من القبول.
ص: 204
و كذا قولهم: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد دخل على خديجة قبل التزويج، فأخذت بيده فضمتها إلى صدرها (1)، إلى غير ذلك من كلام عجيب و غريب، يتناقض تماما مع كل أخلاق و سجايا النبي «صلى اللّه عليه و آله» و سيرته، فإن كل ذلك كذب، ليس الهدف منه إلا الحط من كرامة النبي «صلى اللّه عليه و آله» و تنقصه من قبل أعداء الإسلام، و مصائد الشيطان، نعوذ باللّه من الخذلان.
هذا، و قد جاء في كلمات بعض المتهمين على الإسلام كلام باطل، تكذبه كل الشواهد التاريخية، و هو أنه «صلى اللّه عليه و آله» إنما تزوج خديجة طمعا في مالها (2).
و لسنا نريد الإسهاب في الإجابة على هذا الهذيان، فإن حياة النبي «صلى اللّه عليه و آله» من بدايتها إلى نهايتها لخير شاهد على أنه «صلى اللّه عليه و آله» ما كان يقيم للمال وزنا.
و قد أنفقت خديجة سلام اللّه عليها كل أموالها طائعة راغبة، ليس على النبي «صلى اللّه عليه و آله» و ملذاته، و إنما على الدعوة إلى الإسلام، و في سبيل هذا الدين.
و أيضا، فإن خديجة هي التي عرضت نفسها على النبي «صلى اللّه عليه
ص: 205
و آله» (1)و لم يتقدم هو «صلى اللّه عليه و آله» بطلب يدها، ليقال: إنه إنما فعل ذلك طمعا في مالها.
و يرى الشيخ محمد حسن آل ياسين أن حبه «صلى اللّه عليه و آله» و تقديره لها في أيام حياتها بل و بعد مماتها، حتى لقد كان ذلك منه يثير بعض زوجاته اللواتي ما رأين و لا عشن مع خديجة، دليل واضح على بطلان هذا الزعم (2).
و بالنسبة لعرض خديجة نفسها عليه «صلى اللّه عليه و آله» نقول: هكذا تفعل الحرة العاقلة اللبيبة، فلا تغرها زبارج الدنيا و بهارجها، و لا تبحث عن اللذة لأجل اللذة، و لا عن المال و الشهرة، و إنما تبحث عما يخدم هدفها الأسمى في الحياة، فتفعل كما فعلت خديجة: ترد زعماء قريش، أصحاب المال و الجاه، و القدرة، و السلطان، و تبحث عن رجل فقير لا مال له، تبادر هي لعرض نفسها عليه؛ لأن كل ذلك لا يملأ عينها، لأنه كله ربما يكون سببا في تدمير الحياة و الإنسان، و حتى الإنسانية جمعاء، و إنما هي تنظر فقط إلى الأخلاق الفاضلة، و السجايا الكريمة، و إلى الواقعية في التعامل، و السمو في الهدف.
لأن كل ذلك هو الذي يسخر المال، و الجاه، و القوة، و كل شيء لخدمة الإنسان و الإنسانية، و تكاملها في الدرجات العلى.
ص: 206
و تجدر الإشارة هنا إلى أن عامة المؤرخين على اختلاف أذواقهم، و مشاربهم، و نحلهم، يقولون: إن خديجة كانت أجمل نساء قريش، كما أنه لا ريب في أنها أفضل نسائه صلوات اللّه و سلامه عليها.
و لعل ذلك يفسر لنا السبب في غيرة بعض نساء النبي «صلى اللّه عليه و آله» منها، حتى بعد وفاتها؛ بحيث كن يحاولن تنقصها، و الإزراء عليها باستمرار، مع أنهن لم يدركنها في بيت الزوجية أصلا.
هذا، و لعل أم سلمة تأتي في المرتبة الثانية بين أزواجه «صلى اللّه عليه و آله» بعد خديجة، فضلا و اخلاصا، و ولاء، و حتى جمالا، كما يظهر من كلام للإمام الباقر «عليه السلام» .
و على كل حال: فقد كانت ذوات الجمال و الإخلاص من أزواجه «صلى اللّه عليه و آله» يواجهن الغيرة القاتلة، و التآمر المستمر من قبل البعض الآخر من نسائه «صلى اللّه عليه و آله» ، ممن لم يكن لهن نصيب من جمال، و لا من التزام تام بالأدب النبوي الكريم، بل كن يؤذينه «صلى اللّه عليه و آله» بمواقفهن و تصرفاتهن (1).
ثم إنه قد قيل: أنه «صلى اللّه عليه و آله» لم يتزوج بكرا غير عائشة، و أما خديجة، فيقولون: إنها قد تزوجت قبله «صلى اللّه عليه و آله» برجلين، و لها منهما بعض الأولاد، و هما: عتيق بن عائذ بن عبد اللّه المخزومي، و أبو هالة التميمي.
ص: 207
أما نحن فنقول: إننا نشك في دعواهم تلك، و نحتمل جدا أن يكون كثير مما يقال في هذا الموضوع قد صنعته يد السياسة، و لا نريد أن نسهب في الكلام عن اختلافهم في اسم أبي هالة، هل هو النباش بن زرارة أو عكسه، أو هند، أو مالك، و هل هو صحابي أو لا، و هل تزوجته قبل عتيق، أو تزوجت عتيقا قبله (1)؟
و لا في كون هند الذي ولدته خديجة هو ابن هذا الزوج أو ذاك، فإن كان ابن عتيق، فهو أنثى (2)و إلا فهو ذكر، و أنه هل قتل مع علي في حرب الجمل، أو مات بالطاعون بالبصرة (3).
لا، لا نريد أن نطيل بذلك، و إنما نكتفي بتسجيل الملاحظات التالية:
أولا: قال ابن شهر آشوب: «و روى أحمد البلاذري، و أبو القاسم الكوفي في كتابيهما، و المرتضى في الشافي، و أبو جعفر في التلخيص: أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» تزوج بها، و كانت عذراء.
يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار و البدع: «أن رقية و زينب كانتا ابنتي
ص: 208
هالة أخت خديجة» (1).
ثانيا: قال أبو القاسم الكوفي: «إن الإجماع من الخاص و العام، من أهل الأنال (الآثار ظ)و نقلة الأخبار، على أنه لم يبق من أشراف قريش، و من ساداتهم و ذوي النجدة منهم، إلا من خطب خديجة، و رام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك؛ فلما تزوجها رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» غضب عليها نساء قريش و هجرنها، و قلن لها:
خطبك أشراف قريش و أمراؤهم فلم تتزوجي أحدا منهم، و تزوجت محمدا يتيم أبي طالب، فقيرا، لا مال له؟ !
فكيف يجوز في نظر أهل الفهم: أن تكون خديجة، يتزوجها أعرابي من تميم، و تمتنع من سادات قريش، و أشرافها على ما وصفناه؟ !
ألا يعلم ذوو التمييز و النظر: أنه من أبين المحال، و أفظع المقال» ؟ ! (2).
و أما الرد على ذلك بأنه لا يمكن أن تبقى امرأة شريفة و جميلة هذه المدة الطويلة بلا زواج.
فليس على ما يرام: لأن ذلك لا يبرر رفضها لعظماء قريش و قبولها بأعرابي من بني تميم.
و أما كيف يتركها أبوها أو وليها بلا تزويج؟ !
فقد قلنا: إن أباها قد قتل في حرب الفجار، و أما وليها، فلم يكن له
ص: 209
سلطة الأب ليجبرها على الزواج ممن أراد.
و بقاء المرأة الشريفة و الجميلة مدة بلا زواج ليس بعزيز، إذا كانت تصبر إلى أن تجد الرجل الفاضل الكامل، الذي كان يعز وجوده في تلك الفترة.
نعم، قد يكون من المستغرب أن لا يتقدم لخطبتها أحد، خصوصا من هي مثل خديجة، في موقعها، و في ميزاتها. . و لكن الأمر بالنسبة لخديجة ليس كذلك، فقد خطبها عظماء قريش كما هو معلوم.
ثالثا: كيف لم يعيّرها زعماء قريش الذين خطبوها فردتهم، بزواجها من أعرابي بوّال على عقبيه كعتيق أو غيره؟ !
رابعا: قد ذكروا: أن أول شهيد في الإسلام ابن لخديجة «رحمها اللّه» ، اسمه الحارث بن أبي هالة، استشهد حينما جهر رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» بالدعوة (1).
و نقول:
إن ذلك لا يمكن قبوله، حيث قد روي بسند صحيح عندهم، عن قتادة: أن أول شهيد في الإسلام هو سمية والدة عمار (2)، و كذا روي عن مجاهد (3).
ص: 210
و عن ابن عباس: «قتل أبو عمار و أم عمار، و هما أول قتيلين قتلا من المسلمين» (1).
إلا أن يدّعى: أن سمية كانت أول من استشهد من النساء، و الحارث كان أول من استشهد من الرجال.
و لكنه احتمال بعيد، و مخالف لظاهر كلماتهم، لا سيما و أن كلمة شهيد تطلق على الذكر و الأنثى بلفظ واحد، مثل قتيل و جريح.
فإن معنى كلمة «شهيد» : شخص، أو ذات ثبتت لها صفة الشهادة، لأن المشتقات تدل على ذات ثبت لها وصف ما؛ فكلمة تقي معناها: شخص له التقوى، و قائم أيضا كذلك.
و كلمة شخص أو ذات أو نحوها تصدق على الرجل على حدة، و على المرأة كذلك، و على كليهما معا.
و على هذا الأساس نفسر كلمة: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ، بحيث يشمل الرجل و المرأة معا.
أما إذا كان المشتق فيه «أل» الموصولية، مثل القائم و المتقي، فإن الأمر يصبح أوضح و أجلى، و ذلك لأن «أل» بمنزلة «الذي» فالقائم معناه الشخص الذي له القيام، فيصح أن يراد بها الرجل، و المرأة، و هما معا أيضا.
و على هذا الأساس جرت التعابير القرآنية، مثل: المتقين، المؤمنين الشاكرين إلخ. . فإنها تشمل الرجل و المرأة على حد سواء.
و لكن قد يحتاج إلى التنصيص على كلا الجنسين، فيصرح بما يدل على
ص: 211
مراده، فيقول:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ (1) و وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ (2)و نحو ذلك، و ذلك واضح لا يخفى.
فتلخص مما تقدم: أن هذا النص لا يدل على وجود ابن لخديجة، ما دام أنه قد ثبت حصول الكذب في جزء منه.
و لعل هذا الكذب قد جاء لأجل الإيحاء بطريق غير مباشر بأن لخديجة ولدا من النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و أن ذلك غير قابل للنقاش، و لكن قد قيل: لا حافظة لكذوب.
خامسا: لقد روي أنه كانت لخديجة أخت اسمها هالة (3)، تزوجها رجل مخزومي، فولدت له بنتا اسمها هالة، ثم خلف عليها-أي على هالة الأولى-رجل تميمي يقال له: أبو هند؛ فأولدها ولدا اسمه هند.
و كان لهذا التميمي امرأة أخرى قد ولدت له زينب و رقية، فماتت، و مات التميمي، فلحق ولده هند بقومه، و بقيت هالة أخت خديجة، و الطفلتان اللتان من التميمي و زوجته الأخرى؛ فضمتهم خديجة إليها، و بعد أن تزوجت بالرسول «صلى اللّه عليه و آله» ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في حجر خديجة و الرسول «صلى اللّه عليه و آله» .
ص: 212
و كان العرب يزعمون: أن الربيبة بنت، و لأجل ذلك نسبتا إليه «صلى اللّه عليه و آله» ، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج أختها و كذلك كان الحال بالنسبة لهند نفسه (1).
و لربما يمكن تأييد هذه الروايات بما ورد من الاختلاف في اسم والد هند، فلتراجع المصادر التي ذكرناها ثمة.
إننا بالإضافة إلى ما قدمناه آنفا عن الاستغاثة نذكر:
أولا: أن مما يدل على عدم كون زوجتي عثمان ابنتين له «صلى اللّه عليه و آله» -عدا عن كون بعض الأقوال تنافي ذلك-ما ذكره المقدسي، عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة، قال:
ولدت خديجة لرسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» : عبد مناف في الجاهلية، و ولدت له في الإسلام غلامين، و أربع بنات: القاسم، و به كان يكنى: أبا القاسم؛ فعاش حتى مشى، ثم مات، و عبد اللّه، مات صغيرا، و أم كلثوم، و زينب، و رقية، و فاطمة (2).
و قال القسطلاني بعد كلام له: «و قيل: ولد له ولد قبل المبعث، يقال له: عبد مناف، فيكونون على هذا اثني عشر، و كلهم سوى هذا ولد في الإسلام
ص: 213
بعد المبعث» (1).
كما أن بعضهم ينص على أنه قد صح عنده: أن رقية كانت أصغر من الكل حتى من فاطمة «عليها السلام» (2).
و بعد هذا، فكيف نصدق قول من يقول: إنهما تزوجتا في الجاهلية من ابني أبي لهب، ثم جاء الإسلام ففارقاهما؟
يقول المقدسي: «فزوج رسول اللّه رقية عثمان بن عفان، و هاجرت معه في الهجرتين إلى الحبشة، و أسقطت في الهجرة الأولى علقة في السفينة» (3).
نعم، كيف نصدق هذا، و نحن نعلم: أن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت بعد البعثة بخمس سنين، فكيف تكون رقية قد تزوجت قبل البعثة بابن أبي لهب، ثم فارقها ليتزوجها عثمان، ثم تحمل منه قبل الهجرة إلى الحبشة، و هي إنما ولدت بعد البعثة؟ !
إن ذلك لعجيب! ! و عجيب حقا! ! .
ثانيا: لقد ذكرت بعض الروايات: «أن أبا لهب قد أمر ولديه بطلاق
ص: 214
رقية و أم كلثوم بعد نزول سورة: تَبَّتْ يَدٰا أَبِي لَهَبٍ (1)» (2).
مع أنهم يقولون: إن هذه السورة قد نزلت حينما كان النبي و المسلمون محصورين في الشعب (3)، و قد كان ذلك بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة.
ثالثا: لقد روي: «أن خديجة ولدت للنبي «صلى اللّه عليه و آله» عبد اللّه، ثم أبطأ عليها الولد، فبينما رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» يكلم رجلا، و العاص بن وائل ينظر إليه، إذ مر رجل فسأل العاص عن النبي «صلى اللّه عليه و آله» و قال: من هذا؟
قال: هذا الأبتر.
فأنزل اللّه: إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ (4)» (5).
فظاهر الرواية: أنها حين ولدت عبد اللّه لم تكن قد ولدت غيره، أو أن من ولدتهم ماتوا جميعا حتى لم يعد للنبي «صلى اللّه عليه و آله» أولاد أصلا، مع أن رقية كانت عند عثمان قبل ولادة فاطمة «عليها السلام» ، فلا يصح وصف العاص للنبي «صلى اللّه عليه و آله» بالأبتر فتنزل الآية.
إلا أن يقال: إن العرب لم تكن تهتم بالبنات، بل الميزان عندهم هو
ص: 215
خصوص الذكور، و لأجل ذلك وصفه العاص بالأبتر.
رابعا: قد تقدم أن هناك من يقول: إن خديجة إنما تزوجت رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» قبل البعثة بعشر أو بثلاث، أو بخمس سنوات، فكيف تكون رقية و زينب قد ولدتا من خديجة، و تزوجتا قبل البعثة؟ ! .
و خامسا: أن الدولابي يقول: إن عثمان كان قد تزوج رقية في الجاهلية (1).
و ذلك كله يؤكد و يؤيد: أن رقية التي تزوجها عثمان هي غير رقية التي يدعى أنها بنت الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، و التي يقال: إنها ولدت بعد البعثة، و أن التي تزوجها عثمان هي ربيبة النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، لا ابنته.
و قد كانت العرب تطلق على ربيبة الرجل أنها ابنته كما قلنا.
و كذلك يقال بالنسبة لأم كلثوم، لأن الفرض أنها قد ولدت بعد البعثة أيضا.
و أما عن زينب فلا نستطيع أن نطمئن إلى أنها كانت بنت رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» أيضا، لأننا بالإضافة إلى أن ما قدمناه آنفا حول زوجتي عثمان كله بعينه جار هنا-إذا كان أبو العاص بن الربيع قد تزوجها قبل البعثة-نشير إلى ما يلي:
1-قال مغلطاي عن خديجة: «ثم خلف عليها أبو هالة النباش بن زرارة فولدت له هندا، و الحرث، و زينب، و كانت تكنى أم هند، و تدعى الطاهرة» (2).
ص: 216
2-و عن عمرو بن دينار: أن حسن بن محمد بن علي أخبره: أن أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، و كان زوجا لبنت خديجة فجيء به للنبي «صلى اللّه عليه و آله» في قدّ، فحلّته زينب بنت النبي «صلى اللّه عليه و آله» الخ. . (1).
فالتعبير أولا ببنت خديجة يشير أنها لم تكن ابنته «صلى اللّه عليه و آله» و إن كان عاد فذكر أنها بنت النبي «صلى اللّه عليه و آله» ؛ فلا يبعد أنه يريد بنوتها له بالتربية، و إلا فلماذا خصها أولا بأنها بنت خديجة؟ !
فنسبتها إلى خديجة أولا تكون قرينة على إرادة بنوتها للنبي «صلى اللّه عليه و آله» بالتربية.
3-و يذكر الشيخ محمد حسن آل ياسين عن زينب: أن بعض المصادر تقول: إنها ولدت و عمره «صلى اللّه عليه و آله» ثلاثون سنة (2)، و تزوجها أبو العاص بن الربيع قبل البعثة، و ولدت له عليا مات صغيرا، و أمامة، أسلمت حين أسلمت أمها أول البعثة النبوية (3).
و ذلك غير معقول، فإنه لا يمكن لبنت في العاشرة أن تتزوج، و يولد لها بنت، و تكبر تلك البنت حتى تسلم مع أمها في أول البعثة؛ و هذا حيث
ص: 217
لا تزال أمها في العاشرة من عمرها (1).
و لكن كلام هذا الباحث غير متين، لأن المقصود بالتي أسلمت هي و أمها هو: زينب و خديجة، و ليس المقصود هو أمامة و زينب و ذلك ظاهر لا يخفى.
و بالنسبة لأم كلثوم فإن الروايات تذكر: أن عليا حين هاجر اصطحب معه خصوص الفواطم، و أم أيمن، و جماعة من ضعفاء المؤمنين (2)، و ليست أم كلثوم بينهم؛ فهل هاجرت قبل ذلك، أو بعده وحدها؟ و كيف لم يصطحبها علي «عليه السلام» معه ليحميها من كيد قريش؟ و لماذا؟ و لماذا؟ ! .
و بعدما تقدم نستطيع أن نقول: إننا لا يمكن أن نطمئن بشكل نهائي إلى ما يقال: من أن عثمان قد تزوج ابنتي رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» للاحتمال القوي بأن تكونا ربيبتيه، و كذا بالنسبة لزينب زوجة أبي العاص.
و على هذا فيصح أن يقال لمن تزوج ربيبة لشخص: أن ذلك الشخص قد صاهره، و نال درجة من القرب منه، و على هذا فلا منافاة بين ما ذكرنا، و بين قول أمير المؤمنين «عليه السلام» لعثمان: «و قد نلت من صهره ما لم ينالا» (3).
ص: 218
لكن يبقى: أن ذلك الصهر هل قام بواجباته تجاه ذلك الذي أكرمه بتزويج ربيبتيه له؟ ! فهذا بحث آخر، و له مجال آخر، و ستأتي بعض الإشارات لما كان من عثمان في حق زوجتيه ربيبتي النبي الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» .
و مهما يكن من أمر: فقد صدر لنا كتاب باسم «بنات النبي أم ربائبه» ، و كتاب «القول الصائب في إثبات الربائب» فليرجع إليهما من أراد التفصيل.
و لعل إصرار الآخرين على بنوتهن له «صلى اللّه عليه و آله» ، و إرسالهم له إرسال المسلمات، يهدف إلى إيجاد منافسين لعلي في فضائله الخارجية، و لذلك أطلقوا على عثمان لقب «ذي النورين» ! ! هذا، مع العلم بأن سيرته لم تكن مع هاتين البنتين على ما يرام، كما سوف نشير إليه حين الحديث عن وفاتهما في الجزء الرابع من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
و يلاحظ أيضا: روايتهم الموضوعة حول زواج علي ببنت أبي جهل، و التي مدح فيها رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» مصاهرة أبي العاص له «صلى اللّه عليه و آله» ؛ تعريضا بعلي «عليه السلام» حيث كان في مقام تحذيره، و الإزراء عليه.
و سيأتي أيضا في الجزء السادس، صفحة 269 من هذا الكتاب بعض الكلام عن هذا الموضوع إن شاء اللّه تعالى.
و قبل أن نترك الحديث حول هذا الموضوع إلى غيره، نسجل هنا تحفظا على ما يقال من أن الإمام الحسن «عليه السلام» قال:
ص: 219
«سألت خالي هندا بن أبي هالة عن حلية رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و كان وصافا، و أنا أرجو أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، قال:
كان رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» فخما مفخما إلخ. .» .
قال الحسن فكتمها (فكتمتها. صح)الحسين بن علي زمانا، ثم حدثته، فوجدته قد سبقني إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» و مخرجه، و مجلسه، و شكله، فلم يدع منه شيئا، قال الحسين سألت أبي إلخ. . (1).
أقول:
أولا: سند هذا الحديث هو جميع العجلي، عن رجل من بني تميم، من ولد أبي هالة، زوج خديجة أم المؤمنين رضي اللّه عنها، يكنى أبا عبد اللّه، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي الخ (2).
و نحن في غنى عن التكلم حول هذا السند، فإن الأمر فيه بيّن.
ثانيا: قد تقدم الاختلاف في كون هند المتولد من خديجة، هل هو ذكر أم أنثى، و أشرنا إلى اختلافهم في أبيه من هو فيما تقدم! .
ثالثا: إن الإمام الحسن «عليه السلام» نفسه قد رأى النبي «صلى اللّه عليه و آله» بنفسه، و عاش معه عدة سنوات، و قد بايعه و شهد له على بعض عهوده، و خرج معه إلى مباهلة النجرانيين و. . و. . إلخ. .
فلماذا يشتهي أن يصف هند من رسول اللّه شيئا يتعلق به، فهل هو قد
ص: 220
نسي جده يا ترى؟ . و إذا كان قد نسي حقا، فلماذا لا يسأل أباه و هو أفصح العرب، و أعلم الأمة، الذي رباه النبي «صلى اللّه عليه و آله» في حجره، و كان يعرف عنه كل شيء مما دق و جلّ؟
أم يعقل أن يكون هند مطلعا على أحوال النبي «صلى اللّه عليه و آله» أكثر من علي أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام؟ ! .
على أننا لم نجد فيما بين أيدينا من نصوص-حتى المكذوب منها-ما يشير إلى أن هندا كان يعيش مع رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، أو بالقرب منه، أو أنه كان يحضر مجالسه، أو نحو ذلك، رغم أننا نسمع الكثير عن غيره ممن كانوا يأتون إلى مجلس النبي «صلى اللّه عليه و آله» بين حين و آخر.
رابعا: لا ندري لماذا كتم الحسن «عليه السلام» أخاه هذا الأمر، مع أننا لا نعرف عنه أنه كان يستأثر لنفسه على أخيه في أمور كهذه.
خامسا: إن ما تقدم كله يدفع هذا الحديث و يلقي عليه ظلالا من الريبة و الشك.
و سادسا: لا ندري من هو ابن أبي هالة الراوي عن الإمام الحسن «عليه السلام» ؛ فهل هو من أبناء خديجة أيضا؟ ! فإن كان الجواب بالإيجاب، فلماذا لم يحدثنا عنه التاريخ؟
و إن كان هو ابن لأبي هالة من امرأة أخرى غير خديجة، فهذا ما لم يذكره التاريخ لنا أيضا، و لا أشارت إليه كتب الأنساب، و لا ذكر في عداد الرواة، و لا في كتب الرجال! !
ص: 221
ص: 222
ص: 223
ص: 224
و يذكر المؤرخون: أن حربا قد هاجت بين قيس من جهة، و قريش و كنانة من جهة أخرى، في الأشهر الحرم-و هي أشهر الحج، و رجب معها- و لذلك سميت حرب الفجار.
و يقال: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد حضر بعض أيامها، و شارك فيها فعلا، بنحو من المشاركة.
و لكننا بدورنا لا نستطيع أن نؤكد صحة ذلك، بل و نشك كثيرا فيه و ذلك لأمور:
الأول: لقد وقعت حرب الفجار في الأشهر الحرم، في رجب، و لا نرى مبررا لأن ينتهك أبو طالب و معه الرسول «صلى اللّه عليه و آله» حرمة الأشهر الحرم، كما يظهر لمن راجع سيرتهما و حياتهما، و مدى تقيدهما بمثل هذه الأمور؛ فإنهما كانا مسلمين (1)، بل لقد كان أبو طالب مستودعا للوصايا (2)، كما ورد في بعض الأخبار في الكافي، بالإضافة إلى نصوص
ص: 225
أخرى تدل على عظمته و ثبات قدمه في الدين، فراجع ما ذكر في الغدير، و غيره من الكتب المعدة للحديث عن أبي طالب «عليه السلام» .
إلا إذا وجّهت المشاركة: بأن حرب الفجار قد وقعت في أشهر النسيء، أو في شعبان أو شوال، و كان سببها في الأشهر الحرم (1).
و لكنه توجيه لا يعتمد على أي سند تاريخي؛ فلا مجال للتعويل عليه. بالإضافة إلى ما سيأتي. .
الثاني: قال ابن واضح المعروف باليعقوبي:
«و قد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها (أي في حرب الفجار) أحد من بني هاشم، و قال: هذا ظلم، و عدوان، و قطيعة رحم، و استحلال للشهر الحرام، و لا أحضره، و لا أحد من أهلي؛ فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها، و قال عبد اللّه بن جدعان التيمي، و حرب بن أمية:
لا نحضر أمرا تغيب عنه بنو هاشم» (2).
الثالث: إختلاف الروايات حول الدور الذي أداه النبي «صلى اللّه عليه و آله» في هذه الحرب؛ فبعضهم يروي:
أن عمله «صلى اللّه عليه و آله» قد اقتصر على مناولة أعمامه النبل، و ردّ
ص: 226
نبل عدوهم عليهم، و حفظ متاعهم (1).
و آخر يروي: أنه قد رمى فيها برميات، ما يحب أنه لم يكن قد رماها (2).
و ثالث يروي: أنه طعن أبا براء ملاعب الأسنة فصرعه (3)مع أنهم يقولون: إن عمره حينئذ كان أربع عشرة سنة! (4)، أو أنه كان حينئذ غلاما (5).
و لا ندري إن كانت العرب تسمح للغلام بخوض المعارك و الحروب، أو لا، و لا سيما بالنسبة إلى محمد «صلى اللّه عليه و آله» ، الولد المتميز و العزيز جدا على عمه أبي طالب.
بل نجد البعض يناقض نفسه، فيقول: إن النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد ولد عام الفيل، و أنه حضر الفجار و عمره أربع عشرة سنة، ثم يقول في آخر كلامه: إن حرب الفجار كانت بعد عام الفيل بعشرين سنة (6).
و نشير إلى تناقض آخر هنا، و هو: أن الكلام الذي نقلناه في الأمر الثاني، عن اليعقوبي ينص على أن حرب بن أمية قد تغيب عن هذه الحرب، بينما نجد الروايات الأخرى تنص على أنه كان قد حضرها، و كان هو قائد قريش و كنانة.
ص: 227
و قد لفت نظرنا: هذا التناقض الأخير، إذ لو كان الاختلاف في رجل عادي من سائر أفراد الجيش.
هذا يقول: حضر، و ذاك يقول: لم يحضر؛ لكان يمكن أن تلتمس بعض المبررات لاختلاف كهذا! ! و أنه ربما يقال لا تعمد في المقام! ! .
و لكن إذا كان هذا يقول: كان فلان على رأس الجيش، و ذاك يقول: لم يحضر أصلا؛ فلا يمكن إلا أن يكون ثمة تعمد للكذب في قضية كهذه.
و لعل الهدف هو إبعاد حرب بني أمية عن حرب فيها ظلم، و عدوان، و قطيعة رحم، و في الأشهر الحرم، و لو بالمخالفة لكل المؤرخين، لأن حرب بن أمية هو من تهتم الدولة برفعة شأنه، و تنزيه مقامه، و لو عن طريق الدجل و التزوير! ! .
أما النبي «صلى اللّه عليه و آله» ؛ فقد تقدم أن الخطة الملعونة كانت تهدف إلى عكس ذلك؛ و لذلك يلاحظ هنا: تعمد جعل النبي «صلى اللّه عليه و آله» حتى بعد نبوته يظهر على أنه منسجم مع مشاركته في حرب الفجار في الأشهر الحرم، و التي فيها ظلم و عدوان، و قطيعة رحم، و استحلال للشهر الحرام، حتى ليقول: إنه رمى فيها برميات، ما يحب أنه لم يكن قد رماها! ! .
إلى حلف الفضول، و عقد الاجتماع في دار عبد اللّه بن جدعان، و غمسوا أيديهم في ماء زمزم، و تحالفوا و تعاقدوا على نصرة المظلوم، و التأسي بالمعاش، و النهي عن المنكر، و كان أشرف حلف.
و المتحالفون على ذلك هم: بنو هاشم، و بنو المطلب، و بنو أسد بن عبد العزى، و زهرة، و تيم (1).
و أنكر البعض أن يكون بنو أسد بن عبد العزى في حلف الفضول (2)، و قالوا: إن عبد اللّه بن الزبير قد ادعى ذلك لهم في الإسلام (3).
و قد حضر هذا الحلف نبينا الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ، و أثنى عليه بعد نبوته، و أمضاه؛ فقد روي أنه «صلى اللّه عليه و آله» قال: ما أحبّ أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم، و لو دعيت به لأجبت (4)، أو ما هو قريب من هذا.
ص: 229
و سبب هذا الحلف: أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل؛ فحبس عنه حقه؛ فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، الذين كانوا يسمون: لعقة الدم، لأنهم حين تحالفوا غمسوا أيديهم بالدم على خلاف المطيبين المشار إليهم آنفا، الذين هم أصحاب حلف الفضول أيضا.
و الأحلاف هم: عبد الدار، و مخزوم، و جمح، و سهم، و عدي بن كعب.
فأبى الأحلاف معونة الزبيدي على العاص بن وائل، و انتهروه، و ذلك لما كان يتمتع به العاص هذا من نفوذ، و سيأتي أنه قد أنقذ عمر من براثن أهل مكة.
فلما رأى الزبيدي الشر، صعد على أبي قبيس، و استغاث، فقام الزبير بن عبد المطلب، و دعا إلى الحلف المذكور؛ فعقد؛ ثم مشوا إلى العاص، و انتزعوا منه سلعة الزبيدي؛ فدفعوها إليه (1).
و أما ما ذكره أبو هريرة من أن بني أمية قد كانوا في حلف الفضول؛ فهو ما لم يتابعه عليه أحد، و أنكره غير واحد من المؤرخين (2).
و كذا قول البعض: إن أبا سفيان، و العباس بن عبد المطلب، هما اللذان
ص: 230
دعيا إلى هذا الحلف (1).
لكن رواية الأغاني ليست صريحة في العباس بن عبد المطلب، فلعل المراد: العباس بن مرداس السلمي، حيث إنه كان يتحدث عنه أولا، ثم جاء بهذه الرواية بعده. .
و لكن يرد عليه: أن العباس بن مرداس لا شأن له في هذا الأمر، و أما إرادة العباس بن عبد المطلب و أبي سفيان فلا يمكن قبولها، و ذلك لأمور:
أولا: إن هذا الحلف إنما كان ضد الأمويين، و كان سببه العاص بن وائل السهمي، حليف الأمويين، و والد عمرو بن العاص، فكيف يشارك أبو سفيان فيه، فضلا عن أن يكون هو الداعي له؟ ! .
لا سيما و أنه قد تقدم: أن الأحلاف و منهم بنو أمية قد طردوا الزبيدي حينما استجار بهم، و تاريخ أبي سفيان و أخلاقياته لا تساعد على موقف كهذا منه.
أضف إلى ذلك: أن أبا سفيان و العباس لم يكونا مؤهلين من حيث السن و النفوذ و الاعتبار للقيام بأمر كهذا، كما أشير إليه في الهامش.
ثانيا: ورد أن محمد بن جبير بن مطعم، قدم على عبد الملك، حين قتل ابن الزبير، فقال له عبد الملك:
يا أبا سعيد، ألم نكن نحن و أنتم-يعني عبد شمس بن عبد مناف و بني نوفل بن عبد مناف-في حلف الفضول؟ !
ص: 231
قال: أنت أعلم.
قال: لتخبرنّي يا أبا سعيد بالحق من ذلك.
فقال: لا و اللّه، لقد خرجنا نحن و أنتم منه، قال: صدقت، و زاد البعض «و هو المعتزلي في جواب ابن جبير: و ما كانت يدنا و يدكم إلا جميعا في الجاهلية و الإسلام» (1).
ثالثا: كان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول، و ليس عبد شمس في حلف الفضول (2).
و رابعا: مجموعة قضايا تدل على أن الأمويين ما كانوا في حلف الفضول، و على أن الإسلام قد اعترف بهذا الحلف و أمضاه، و نذكر منها:
ألف: إنه كان بين الحسين «عليه السلام» ، و الوليد بن عتبة الأموي أمير المدينة من قبل عمه معاوية منازعة في مال متعلق بالحسين، فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال الحسين: أحلف باللّه، لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فاستجاب للحسين جماعة، منهم: عبد اللّه بن الزبير، و هو من أسد بن
ص: 232
عبد العزى، و المسور بن مخرمة الزهري، و عبد الرحمن بن عثمان التيمي؛ فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من حقه حتى رضي (1).
ب: و حسب نص أبي هلال العسكري: «كان بين الحسين «عليه السلام» و بين معاوية كلام في أرض للحسين، فقال الحسين لابن الزبير: خيّره في ثلاثة، و الرابعة الصيلم (2): أن يجعلك أو ابن عمر بيني و بينه، أو يقر بحقي، ثم يسألني أن أهبه له، أو يشتريه مني؛ فإن أبى-فو الذي نفسي بيده-لأهتفن بحلف الفضول إلخ» (3).
ج: و عند أبي الفرج رواية جاء في آخرها: أنه حينما أظهر معاوية انزعاجه من عدم زيارة الإمام الحسن المجتبى «عليه السلام» له، و هو في المدينة، أغراه به ابن الزبير، فلم يستجب له معاوية.
فقال له ابن الزبير: «أما و اللّه إني و إياه ليد عليك بحلف الفضول، فقال معاوية: من أنت؟ ! لا أعرض لك، و حلف الفضول و اللّه إما. . إلخ» (4).
فهذه النصوص تدل على قبول الأئمة «عليهم السلام» بحلف الفضول و إمضائهم له، تبعا لرسول اللّه في إمضائه له حسبما تقدم.
ص: 233
كما و تدل، و لا سيما النص الأخير منها، على أن معاوية و قومه ما كانوا في حلف الفضول، الذي يعرّض له به ابن الزبير، كما أن مناداة الحسين «عليه السلام» بهذا الحلف، و استجابة الزبيريين و غيرهم له ضد الأمويين، يشير إلى ذلك أيضا.
و بعد كل ما تقدم: فإن ما يريد أبو هريرة، و من هم على شاكلته، إثباته، تزلفا، و تقربا لأسيادهم من الحكام الظالمين، مما يكذبه كل أقوال المؤرخين، و كل الوقائع التاريخية.
و لكن حرص أبي هريرة على أن لا تفوت بني أمية فضيلة كهذه، هو الذي دفعه إلى إدخال الأمويين في أشرف حلف في العرب، و الذي يوافق مبادئ الإسلام و شرائعه، و ينسجم مع الفطرة السليمة و العقل القويم.
و يلاحظ أخيرا: أننا نجدهم يروون عن النبي «صلى اللّه عليه و آله» ما يدل على لزوم التمسك بأحلاف الجاهلية (1).
و هي دعوة مغرضة و خبيثة، إلا إذا أريد منها خصوص حلف الفضول، الذي أمضاه الإسلام، أو أي حلف آخر تنسجم أهدافه مع الإسلام، كالحلف الذي عقده عبد المطلب مع جماعة خزاعة، فلما قتلت قريش جماعة من خزاعة، استنصروا النبي «صلى اللّه عليه و آله» استنادا إلى
ص: 234
ذلك الحلف، و كان فتح مكة لذلك (1).
1-إن دعوة الحسين «عليه السلام» بحلف الفضول، إنما كانت منه «عليه السلام» لأنه لم يكن لينقض الهدنة التي عقدها الإمام الحسن «عليه السلام» . . كما أنه كان يعلم من خلال دراسته للأوضاع و للنفسيات أن هذه الدعوة سوف لن تنتهي إلى حد الخطر الأقصى، و قد كان يهدف منها إلى تعريف الناس على واقع و حقيقة بني أمية، و أنهم ظالمون عتاة، لا يهمهم إلا الدنيا و حطامها و أن الهاشميين، و أهل البيت هم الذين يهتمون بالحفاظ على العهود و المواثيق التي تهدف إلى نصرة المظلوم، و الدفاع عن الحق.
و قد خاف معاوية من هذا الأمر بالذات، فاستسلم للحسين «عليه السلام» ، و أرجع الحق إلى أصحابه.
كما أن هذه الدعوة قد كانت في ظرف حرج، لا يمكن اللجوء فيه إلى أية وسيلة أخرى غيرها، حتى و لا وسيلة الثورة العامة ضد تلك الطغمة الفاسدة.
إذ إن إعلانه «عليه السلام» للثورة العامة حينئذ، و في مناسبة كهذه، لسوف يفسر على أنه لدوافع شخصية، و لا علاقة له بالدفاع عن الدين و الأمة، لا من قريب و لا من بعيد.
و عليه فلو استشهد الإمام الحسين «عليه السلام» و الحالة هذه، فسوف لا يكون لقتله أية فائدة تعود على الدين و الأمة، بل ربما يكون ضرر ذلك
ص: 235
أكثر من نفعه؛ و ذلك عندما يلاحق ذلك معاوية الداهية بحملة دعائية مغرضة، يقضي فيها على الأمل الوحيد للأمة، و يفصل المجتمع المسلم نفسيا و فكريا عن أهل البيت «عليهم السلام» بشكل عام، و عن أئمتهم بصورة خاصة.
و ذلك لأن الظروف التي أوصلت معاوية إلى الحكم، و إن كانت واضحة لدى كثيرين من أهل العراق و الحجاز، إلا أن أهل الشام، الذين لم يعرفوا إلا الإسلام السفياني، إسلام المصالح و الأهواء، الإسلام الذي يستحل كل شيء في سبيل الوصول إلى الأهداف الشخصية، و اللذات الفردية.
نعم، إن أهل الشام الذين لم يتربوا تربية إسلامية صحيحة، و لا عرفوا عليا و أهل البيت على حقيقتهم، و لا عرفوا إسلام علي، و لا مبادئ علي، و لا أهداف علي «عليه السلام» ، بل كان الأمويون يظهرون لهم: أنهم هم قرابة النبي «صلى اللّه عليه و آله» و هم أهل بيته، حتى ليدعي عشرة من أمرائهم و قوادهم: أنهم ما كانوا يعرفون للنبي «صلى اللّه عليه و آله» أهل بيت غير بني أمية (1).
ص: 236
بل إن معاوية ليتجرأ و يقول لأهل الشام: إن عليا «عليه السلام» لا يصلي! ! (1).
إن أهل الشام و الحالة هذه لا يمكنهم أن يدركوا واقع ما يجري و ما يحدث، بل إن باستطاعة معاوية أن يموّه و يشبه الأمر على غير أهل الشام أيضا؛ لمكره و شيطنته؛ فإنه قد تأمّر على الشام من قبل عمر بن الخطاب، الذي أحبه العرب، و أخلصوا له، لأنه أرضى غرورهم، و رفع معنوياتهم، بتفضيلهم على غيرهم من أهل الأمم الأخرى في العطاء، و في مختلف الشؤون، مع أنهم الذين كانوا إلى الأمس القريب لا قيمة لهم، يتيهون في صحرائهم القاحلة، يأكلون الجشب، و يشربون الكدر، إلى آخر ما تقدم في أوائل الفصل الأول؛ ثم جاء الإسلام، فساواهم بغيرهم، و رفع من شأنهم، و قرر: أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
و لكن سياسة عمر بن الخطاب قد اقتضت إعطاء كل الامتيازات، و في مختلف الشؤون لخصوص العرب، و حرمان غيرهم من كل الامتيازات، و من كل شيء (2).
فأحب العرب عمر بن الخطاب أعظم الحب، و قدروه أجل تقدير، و صارت أفعاله و أقواله عندهم قانونا متبعا، لا يمكن مخالفته، و لا الخروج
ص: 237
عليه، و يكفي أن نذكر:
أن مجرد توليته لأحدهم قد أوجبت لذلك الرجل عظمة و منزلة خاصة (1).
بل إن عليا الذي لم يكن يرى لبني إسماعيل فضلا على بني إسحاق (2)لم يستطع أن يعزل شريحا عن القضاء، و قد أبى ذلك عليه أهل الكوفة، و قالوا له: لا تعزله؛ لأنه منصوب من قبل عمر، و بايعناك على أن لا تغير شيئا مما قرره أبو بكر و عمر (3).
كما أنه لم يستطع أن يمنع جيشه من صلاة التراويح؛ لأن عمر هو الذي شرعها، و صاحوا وا سنّة عمراه (4)، و لعل أول من صاح في هذه المناسبة ب «وا عمراه» هو قاضيه شريح (5).
ص: 238
بل لقد نادوا بعلي «عليه السلام» في حرب الجمل: «أعطنا سنة العمرين» (1).
و سمع رجل النبي «صلى اللّه عليه و آله» يقول عن معاوية: من أدرك هذا أميرا فليبقرن خاصرته بالسيف؛ فرآه يخطب في الشام؛ فأراد تنفيذ أمر رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، فقالوا له: أتدري من استعمله؟ .
قال: و من؟
قالوا: أمير المؤمنين عمر.
قال: سمعا و طاعة لأمير المؤمنين (2).
و قد صرح أمير المؤمنين في خطبة له بأعمال كثيرة لمن سبقوه، لم يستطع تغييرها، و لو أنه حاول ذلك لتفرق عنه جنده، حتى يبقى وحده، و قليل من شيعته، و هي أمور كثيرة فلتراجع (3)، و لتراجع أيضا الشواهد الكثيرة التي تؤيد ذلك في مصادرها.
ثم جاءت الدولة الأموية، فاستنت بسنة عمر، و سارت بسيرته، و انتهجت نهجه.
ص: 239
و إذا كان معاوية قد تولى الشام من قبل عمر، و إذا كان قد موّه على الناس في قضية قتل عثمان، و ألقى في الناس الشبهات الكثيرة حولها، حتى استطاع أن يقود جيشا ليحارب في صفين أعظم رجل بعد الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» .
و إذا كان قد استغل قضية التحكيم، و أضفى على خلافته نوعا من الشرعية المزورة، التي يمكن تضليل العوام و السذج بواستطها، -إذا كان كل ذلك-فإن من الطبيعي أن يستطيع معاوية الذي وصل إلى الحكم في مثل تلك الظروف الغامضة، أن يصوّر الحسين بن علي «عليه السلام» بعد قتله على أنه باغ و طاغ و طامع، تحركه المصالح الشخصية، بل و حتى خارج عن الإسلام، و العياذ باللّه.
و لسوف يتمكن عن طريق الأخطبوط الأموي المتغلغل في مختلف البلاد، و الذي استطاع أن يضع العراقيل في طريق علي «عليه السلام» ، و غيره من الأئمة الطاهرين، لسوف يتمكن من استغلال تلك الظروف الخاصة، في الحجاز، و العراق، و في الشام، أبشع استغلال، و لا سيما بالنسبة لأهل الشام، الذين ما كان يمكنهم إدراك واقع ما يجري و ما يحدث إلا عن طريق الجهاز الأموي نفسه.
أنه قد كان ثمة في عهد الخلفاء قبل علي «عليه السلام» ، و لأهداف سياسية معينة، حصار مضروب على كبار الصحابة، فلم تتح لهم الفرصة ليتفرقوا في البلاد، و ينشروا تعاليم النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» على حقيقتها، بل حصروهم في المدينة مدة طويلة، و من استطاع منهم الإفلات
ص: 240
منها قليل، و من كان يصر على الجهر بالحقيقة، فإنه يتعرض لمختلف أنواع القهر و الاضطهاد، كما كان الحال بالنسبة لأبي ذر «رحمه اللّه» (1).
و هكذا. . فإن الصحابة لم يتمكنوا من الجهر بما تجيش، أو بكل ما تجيش به صدورهم، حتى أشرف هذا الجيل على الفناء و الزوال، مما كان من شأنه أن يفسح المجال أمام الجهاز الحاكم لكل افتراء ضد أهل البيت «عليهم السلام» ، و ضد النبي «صلى اللّه عليه و آله» نفسه، ثم ضد الإسلام بشكل عام.
و خلاصة الأمر: أن قتل الحسين «عليه السلام» في زمن معاوية ليس فقط لا يجدي و لا ينفع، و إنما يكون فيه قضاء تام على الأمل الوحيد للدين، و الأمة، و للحق، و في هذا خيانة حقيقية ظاهرة لكل ذلك، بمقدار ما كان استشهاد الحسين «عليه السلام» بعد ذلك وفاء للدين، و للأمة و للحق، عندما لم يعد انحراف الحكم و لا دينيته، بل و عداؤه للدين خافيا على أحد، و لم يمكن بعد للدهاء و المكر، و للسياسات المنحرفة أن تتستر عليه، و لا أن تقلل من وضوحه، و أصبح السكوت عليه في تلك الظروف هو الخيانة للدين، و للأمة، و للحق.
و إلا فإن الحسين «عليه السلام» قد عاش في حكم معاوية بعد استشهاد أخيه الحسن «عليه السلام» عشر سنوات، و لم يقم بالثورة ضده، مع أن الحسين «عليه السلام» الذي سكت في زمن معاوية هو نفسه الحسين الذي ثار في زمان يزيد، كما أن الانحراف و الظلم الذي كان في زمان هذا قد كان في زمان ذاك، و ما ذكرناه هو المبرر لسكوته هناك، و ثورته هنا.
ص: 241
هذا، و قد تمدح الإمام الحسين «عليه السلام» أخاه الإمام الحسن «عليه السلام» على صلحه مع معاوية، و اعتبره إيثارا للّه عند مداحض الباطل، في مكان التقية بحسن الروية، كما قاله «عليه السلام» و هو يؤبن أخاه الإمام الحسن «عليه السلام» حينما استشهد بسم معاوية (1).
و كتب أهل الكوفة أكثر من مرة إلى الإمام الحسين «عليه السلام» يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، و في كل ذلك يأبى عليهم (2)، و قد أمرهم بلزوم بيوتهم ما دام معاوية حيا (3).
فالقول بأن سبب عدم ثورته على معاوية إنما هو عدم بيعة الناس له في زمنه، لا يصح.
كما أن الناس كانوا قد بايعوا الإمام الحسن «عليه السلام» ، فلماذا سكت؟ و لماذا لم يطالبه الحسين بالقيام؟ ! و لماذا يمدحه على صلحه لمعاوية؟
هذا ما أردنا الإشارة إليه هنا، و لهذا البحث مجال آخر.
2-و يلاحظ أيضا: أنه حين دعا الحسين «عليه السلام» بحلف الفضول قد استجاب له حتى أعداؤه، كابن الزبير، الذي لم يكن ليخفى على أحد كيف كان موقفه من الهاشميين أيام خلافته حتى لقد كان يريد أن يحرقهم بالنار في مكة، لو لا وصول النجدة لهم من العراق.
كما أنه قد قرت عينه-على حد تعبير ابن عباس-حين توجه الحسين
ص: 242
«عليه السلام» إلى العراق.
أضف إلى ذلك: أنه قد قطع الصلاة على النبي «صلى اللّه عليه و آله» في خطبه، و لما عوتب على ذلك ادعى: أن هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره «صلى اللّه عليه و آله» اشرأبت أعناقهم، و أبغض الأشياء إليه ما يسرهم، و في رواية: إن له أهيل سوء إلخ (1).
نعم، لقد استجاب للإمام الحسين صلوات اللّه و سلامه عليه حتى أعداؤه حين دعاهم بحلف الفضول، و لكنهم لا يستجيبون لداعي اللّه و الرسول الذي يأمرهم بقبول إمامة الحسنين «عليهما السلام» قاما أو قعدا و لا يدافعون عن إمامهم الذي خرج في طلب الأصلاح في أمة جده، بل و ينصبون العداء له و لأهل بيته عموما كما أشرنا إليه.
فما هو سر استجابتهم للنداء بحلف الفضول؟
ثم عدم استجابتهم للحسين، حين دعاهم للجهاد ضد أعداء الدين، فلم يخرج منهم أحد إلى كربلاء لمحاربة الظلم و الطغيان، و الانحراف عن الدين و الحق؟ ! .
مع أن القضية الأولى و إن كانت تمثل مكافحة للظلم و التجبر، إلا أنها في الحقيقة تنتهي إلى مسألة خاصة، محدودة الزمان و المكان، و الأشخاص، كما سوف تفسرها أبواق الدعاية الأموية المغرضة.
ص: 243
أما في قضية كربلاء، فقد كان واضحا لدى كل أحد حقيقة أهداف الثورة، و قد أوضحها الإمام الحسين «عليه السلام» أكثر من مرة، و لم يبق مجالا للشك في أنها ذات أهداف إسلامية جامعة، بعيدة كل البعد عن المكاسب الشخصية و النفعية المحدودة.
فلماذا السكوت؟ و ربما السرور من بعضهم بالمصير الذي لاقاه الإمام الحسين «عليه السلام» هنا؟
ثم هم يهبون لنصرته، و القيام دونه، أو على الأقل يظهرون استعدادهم لذلك هناك؟ ! مع أن الأهداف إن لم تكن في المآل واحدة؛ فإنها في قضية كربلاء أهم و أكثر مساسا بهم و بدينهم و كرامتهم. . فهل كانوا يهدفون إلى إضعاف عدوهم الأقوى أولا؟ !
أم أنهم أمنوا معاوية، و خافوا يزيد الخمور؟ ربما يكون ذلك، و ربما لأن حلف الفضول كان جاهليا، و هم إلى الجاهلية في حقها و في باطلها أقرب منهم إلى الإسلام، حتى حينما تكون القضية مصيرية، و حتى و لو كانت مصيرية بالنسبة للأمة بأسرها، و بالنسبة للدين نفسه.
و لو أنهم التفتوا إلى أن حلف الفضول قد أمضاه الإسلام، و صار إسلاميا فلربما يكون لهم حينئذ موقف آخر، إن ذلك لعجيب حقا! و أي عجيب! ! .
3-إن موقف الحسين هذا، و كذلك إمضاء النبي «صلى اللّه عليه و آله» لهذا الحلف في كلامه المتقدم، ليدل على أن الإسلام قد أمضى هذا الحلف؛ لأنه قائم على أساس الحق و العدل و الخير، و هل الإسلام إلا ذلك؟ إنه يمضيه مع أن الذين قاموا به كانوا وقتها على الشرك و الكفر، و لكنه يهدم
ص: 244
مسجد الضرار، مع أن الذين بنوه كانوا يتظاهرون بالإسلام، و يتعاملون على أساسه، بحسب الظاهر.
و هذا ما يؤكد واقعية الإسلام، و أنه إنما ينظر إلى عمل يدي الصياد لا إلى دموع عينيه، و أنه لا يغتر بالمظاهر، و لا تخدعه الشعارات مهما كانت براقة، إذا كانت تخفي وراءها الوصولية، و الخيانة و التآمر، فالحق حق، و مقبول، و لا بد من الالتزام به، و التعامل على أساسه، و لو صدر من مشرك، و الباطل باطل و مرفوض، و لا يجوز الالتزام به، و لا التعامل على أساسه، مهما كانت الشعارات براقة و مغرية.
و لهذا نفسه نجد أمير المؤمنين أيضا يرفض خدعة رفع المصاحف على الرماح في صفين و يحذر منها، و لقد كان هو المصيب في رفضه، و غيره ممن كان يتظاهر بالتقى و العبادة كان هو المخطئ.
وفقنا اللّه للسير على هدى أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ، و تأثر خطاه، و العمل بمنهاجه، الذي هو نهج الإيمان و الإسلام، إنه ولي قدير.
4-إن اهتمام النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و الأئمة «عليهم السلام» بحلف الفضول إنما يدل على أن الإسلام ليس منغلقا على نفسه، و إنما هو يستجيب لكل عمل إيجابي فيه خير الإنسان، و يشارك فيه على أعلى المستويات، انطلاقا من الشعور بالمسؤولية، و انسجاما مع أهدافه العليا، و مع المقتضيات الفطرية، و أحكام العقل السليم.
5-أما استجابة الذين استجابوا للزبير بن عبد المطلب حينما دعا لعقد هذا الحلف، فلعل لهم دوافع مختلفة باختلاف الأشخاص، و البيوتات، و القبائل، و نذكر من هذه الدوافع:
ص: 245
ألف: الدافع الفطري الإنساني؛ لأن هذا هو ما تحكم به الفطرة، و العقل السليم، ثم هو ينسجم مع الشعور الإنساني، و الأخلاقي.
ب: الدافع المصلحي، و ذلك لأن عدم الأمن في مكة لسوف يقلل من رغبة التجار في الوفود عليها، و التعامل مع أهلها.
ج: و ثمة دوافع أخرى ربما تكون لدى بعضهم، كالحفاظ على قدسية مكة و أهلها في نفوس العرب؛ و غير ذلك، و قد تقدم في الفصل الأول ما يفيد هنا؛ فراجع إن شئت.
أما عن تاريخ ولادة أمير المؤمنين «عليه السلام» ففيه اثنا عشر قولا على وجه التقريب، تبدأ من سبع، حتى ست عشرة سنة قبل البعثة، و قال آخرون: ولد قبل البعثة بعشرين، و غيرهم بثلاث و عشرين سنة (1).
ص: 246
و يمكن أن تقل الأقوال عن ذلك، إذا قلنا:
إنه لا منافاة بين القول: بأنه ولد قبل البعثة باثني عشرة سنة، و بين القول بأنه ولد قبلها بخمس عشرة سنة، إذا كان القائل بالثاني لا يسقط السنوات الثلاث الأولى من بعثته «صلى اللّه عليه و آله» من الحساب، لأن النبي «صلى اللّه عليه و آله» لم يكن يجهر فيها بالدعوة.
و لعل اختلافهم في مدة نبوته «صلى اللّه عليه و آله» في مكة على قولين: عشر سنوات، و ثلاث عشرة سنة سببه ذلك أيضا.
بل نجد البعض يقول: إن سرّية الدعوة قد استمرت خمس سنوات، فيمكن بملاحظة هذا و ما تقدم في سائر الأقوال: أن تقل الأقوال عن ذلك
ص: 247
كثيرا، و لكن هذا على أي حال يبقى مجرد احتمال.
و على كل حال، فإن القول بالاثني عشرة، و إن كان مرويا عن أهل البيت، إلا أن القول الآخر، و هو أن ولادته كانت قبل البعثة بعشر سنوات مروي أيضا، و هو المشهور عند علمائنا، و عند غيرهم، كما يظهر من ملاحظة المصادر المتقدمة.
و لذا نقول: إن هذا القول المعتضد بالشهرة هو الأولى بالاعتماد و الاعتبار، لا سيما و أنه مروي عن أهل البيت الذين هم أدرى من كل أحد بما فيه.
و أما محاولات البعض الاستفادة من ذلك، و استنتاج نتيجة معينة لتأكيد فكرة معينة، من قبيل ادعاء أن عليا هو أول من أسلم من الصبيان؛ ليكون أبو بكر أول من أسلم من الرجال، فسيأتي عند الحديث عن إسلام أمير المؤمنين «عليه السلام» : أن هذا لا يمكن أن يصح بأي وجه.
لقد ولد أمير المؤمنين «عليه السلام» و هو الشخصية الأولى بعد الرسول، و الذي تربى في حجر الوحي، و ارتضع لبان النبوة من أبوين قرشيين هاشميين، هما: أبو طالب، شيخ الأبطح، و فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
و قال الكليني و غيره: (و هو أول هاشمي ولده هاشم مرتين) و قريب منه غيره (1).
ص: 248
و علق المجلسي: بأن أخوته طالبا، و عقيلا، و جعفر قد ولدوا قبله من هذين الهاشميين، و قول التهذيب و غيره: (في الإسلام) لا يصحح ذلك؛ إذ لو كان مرادهم أنه ولد بعد البعثة فهو لا يصح، للاتفاق على أنه قد ولد قبلها.
و لو كان المراد: أنه الوحيد الذي ولد بعد ولادة الرسول، فهو كذلك لا يصح، لأن أكثر إخوته قد ولدوا بعد ولادة النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، مع أنه اصطلاح غريب غير معهود (1).
و الصحيح: أن يقال كما قال المعتزلي، و الشهيد، و غيرهما: «و أمه أول هاشمية ولدت لهاشمي» (2).
لقد ورد أنه عليه الصلاة و السلام قد ولد في جوف الكعبة أعزها اللّه، في يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب، و أن هذه فضيلة اختصه اللّه بها، لم تكن لأحد قبله، و لا بعده، و قد صرح بذلك عدد كبير من العلماء، و رواة الأثر، و نظمها الشعراء و الأدباء، و ذلك مستفيض عند شيعة أهل البيت «عليهم السلام» ، كما أنه كذلك في كتب غيرهم، حتى لقد قال الحاكم و غيره:
ص: 249
«تواترت الأخبار: أن فاطمة بنت أسد، ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه في جوف الكعبة. .» .
و صرح بأنه لم يولد فيها أحد سواه عدد من العلماء و المؤرخين (1).
و يقول السيد الحميري، المتوفى في سنة 173 ه:
ولدته في حرم الإله و أمنهو البيت حيث فناؤه و المسجد
ص: 250
بيضاء طاهرة الثياب كريمةطابت و طاب وليدها و المولد
في ليلة غابت نحوس نجومهاو بدا مع القمر المنير الأسعد
ما لف في خرق القوابل مثلهإلا ابن آمنة النبي محمد
و يقول عبد الباقي العمري:
أنت العلي الذى فوق العلى رفعاببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
و لكن نفوس شانئي علي «عليه السلام» قد نفست عليه هذه الفضيلة التي اختصه اللّه بها، فحاولت تجاهل كل أقوال العلماء و المؤرخين، و رواة الحديث و الأثر، و الضرب بها عرض الجدار، حيث نجدهم-و بكل جرأة و لا مبالاة-يثبتون ذلك لرجل آخر غير علي «عليه السلام» ، بل و يحاولون التشكيك في ما ثبت لعلي أيضا، حتى لقد قال في كتاب النور:
«حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، و لا يعرف ذلك لغيره، و أما ما روي من أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء» (1).
و قال المعتزلي: «كثير من الشيعة يزعمون: أنه ولد في الكعبة، و المحدّثون لا يعترفون بذلك، و يزعمون: أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام» (2).
ثم حاول الحلبي و الديار بكري الجمع و الصلح بين الفريقين، باحتمال
ص: 251
ولادة كليهما فيها (1).
و لكن كيف يصح هذا الجمع، و نحن نجد عددا ممن قدمنا أسماءهم، و غيرهم ممن ذكرهم العلامة الأميني في كتاب الغدير، و غيره، يصرون على أنه لم يولد في جوف الكعبة سوى علي، لا قبله و لا بعده؟ ! و أن تلك فضيلة اختصه اللّه بها دون غيره من العالمين؟ !
و كيف يقبل ذلك الجمع، و نحن نجد الحاكم يصرح بتواتر الأخبار في ولادة أمير المؤمنين «عليه السلام» في جوف الكعبة؟ ! .
فهل الحاكم بنظر المعتزلي جاهل بالحديث؟ !
و من أين لحديث ولادة حكيم بن حزام حتى خصوصية صحة سنده، فضلا عن أن يكون متواترا و مقطوعا به؟ ! .
و إنما أثبتت هذه الفضيلة لحكيم بن حزام؛ لأنه كان للزبيريين فيه هوى، فإنه ابن عم الزبير، و ابن عم أولاده؛ فهو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، و الزبيريون ينتهون أيضا إلى أسد بن عبد العزى.
و لم يسلم حكيم إلا عام الفتح، و هو من المؤلفة قلوبهم (2)، و كان يحتكر الطعام على عهد رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» (3).
ص: 252
و عن المامقاني: نقل الطبري: أنه كان عثمانيا متصلبا تلكأ عن علي (1)، و لم يشهد شيئا من حروبه (2).
و إذن فمن الطبيعي أن يروي الزبير بن بكار، و مصعب بن عبد اللّه، (3)و هما لا شك في كونهما زبيريي الهوى:
أنه لم يولد في جوف الكعبة سواه، و ذلك على خلاف جميع الأخبار المتواترة، و مخالفة لكل من نص على أنه لم يولد فيها سوى أمير المؤمنين «عليه السلام» لا قبله و لا بعده؟ ! .
إننا قبل أن ندخل في الإجابة على السؤال المذكور، نحب التذكير بأن بين النبوة و الإمامة، و النبي و الإمام فرقا، فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من يؤمن بذلك و ينكر، و من يتيقن و يشك، و من يحب و يبغض. .
فأما بالنسبة للنبوة و النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، فإن أدنى شك أو شبهة بها، و كذلك أدنى ريب في الرسول «صلى اللّه عليه و آله» يوجب الكفر، كما أن بغض الرسول «صلى اللّه عليه و آله» بأي مرتبة كان، يخرج الإنسان من الإسلام واقعا، و تلحقه و تترتب عليه أحكام الكفر، في مرحلة الظاهر أيضا، فيحكم عليه بالنجاسة، و بأنه لا يرث من المسلم و غير ذلك. .
ص: 253
و أما الإمامة و الإمام «عليه السلام» ، فإن الحكمة و الرحمة الإلهية، و حب اللّه تعالى للناس، و رفقه بهم، قد اقتضى:
أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة، أو شك فيها، أو في الإمام «عليه السلام» ، أو قصر في حبه. . و لكن بشرطين:
أحدهما: أن يكون ذلك الإنكار، أو الشك، أو التقصير ناشئا عن شبهة، إذ مع عدم الشبهة في ثبوت النص أو في دلالته، يكون المنكر أو الشاك مكذبا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، رادا على اللّه سبحانه، و من كان كذلك فهو كافر جزما. .
الثاني: أن لا يكون معلنا ببغض الإمام، ناصبا العداء له، لأن الناصب حكمه حكم الكافر أيضا. .
و بعد ما تقدم نقول:
إذا كان قيام الإسلام و حفظه يحتاج إلى جهاد و تضحيات، ثم إذا كان في الجهاد قتل و يتم، و مصائب و مصاعب.
و لم يكن يمكن لرسول اللّه أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك، و قتل فراعنته و صناديده. . لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه، و أن تمتلئ نفوس ذوي القتلى و محبيهم، و من يرون أنفسهم في موقع المهزوم بغضا له، و حنقا عليه. .
و هذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام، و سيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم، و سائر ذويهم و محبيهم من ذلك أيضا. .
ص: 254
فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، الذي يحب اللّه و رسوله، و يحبه اللّه و رسوله، ألا و هو أمير المؤمنين «عليه السلام» . .
و اقتضت هذه الرحمة أيضا رفع بعض الأحكام الظاهرية-دون الواقعية-المرتبطة بحبه و بغضه، و بأمر إمامته «عليه السلام» ، تسهيلا من اللّه على الناس، و رفقا بهم-رفعها عن منكر إمامته «عليه السلام» ، و عن المقصر في حبه، و لكن بالشرطين المتقدمين و هما:
وجود الشبهة و عدم النصب، لأنه مع عدم الشبهة و مع نصب العداء للإمام «عليه السلام» يكون من قبيل تعمد تكذيب الرسول «صلى اللّه عليه و آله» ، و التمرد و الرد على اللّه سبحانه، كما قلنا. .
و في سياق آخر نقول أيضا: إن معالجة قضايا الحب و البغض، و الرضا و الغضب، و الإنفعالات النفسية، تحتاج إلى اتصال بالروح، و بالوجدان، و إلى إيقاظ الضمير، و إثارة العاطفة، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين، و ترسيخ اليقين بحقائقه. .
و هذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية، في معالجة الأحقاد التي علم اللّه سبحانه أنها سوف تنشأ، و قد نشأت بالفعل كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه السلام» ، في سبيل هذا الدين. .
و نحن نعتقد: أن قضية ولادة الإمام علي «عليه السلام» في جوف الكعبة، واحدة من مفردات هذه السياسة الربانية، الحكيمة، و الرائعة. .
ص: 255
و يمكن توضيح ذلك بأن نقول:
إن ولادته «عليه السلام» ، في الكعبة المشرفة، إنما هي أمر صنعه اللّه تعالى له، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة، و سببا من أسباب هدايتها. . و ليست أمرا صنعه الإمام علي «عليه السلام» لنفسه، و لا هي مما سعى إليه الآخرون، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به، أو التأييد لمفهوم اعتقادي، أو لواقع سياسي، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه، في صراع ديني، أو اجتماعي، أو غيره. .
و يلاحظ: أن اللّه تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه السلام» حين دخلت، و حين خرجت، بعد أن وضعته في جوف الكعبة، و قد جرى هذا الصنع الإلهي له حيث كان «عليه السلام» لا يزال في طور الخلق و النشوء في هذا العالم الجديد. . ليدل دلالة واضحة على اصطفائه له، و على عنايته به. .
و ذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر، و ليكون الإنسان في إمامته أبصر. .
و يتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذي سوف تترك لمسات ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في المستكبرين و الطغاة من إخوانهم، و آبائهم، و عشائرهم، أو من لهم بهم أية صلة أو رابطة. .
إن هذا الرصيد الوجداني الذي هيأ اللّه لهم أن يختزنوه في قلوبهم و عقولهم من خلال النصوص القرآنية و النبوية التي تؤكد فضله و إمامته،
ص: 256
ثم يأتي الواقع العلمي ليعطيها المزيد من الرسوخ و التجذر في قلوبهم و عقولهم من خلال مشاهداتهم، و معرفتهم بتلك الألطاف الإلهية به «عليه السلام» ، و إحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك، و بأنه من صفوة خلق اللّه و من عباده المخلصين، سيجعلهم يدركون:
أنه «عليه السلام» ، لا يريد بما بذله من جهد و جهاد في مسيرة الإسلام، إلا رضا اللّه سبحانه، و إلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية، على حالة السلامة، و في خط الاعتدال. . لأنها مسيرة سيكون جميع الناس-بدون استثناء- عناصر فاعلة و مؤثرة فيها، و متأثرة بها. .
و بذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له «عليه السلام» ، أو المؤلب عليه، أمام صراع مع النفس و مع الوجدان، و مع الضمير، و سيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون اللّه و رسوله. . و يسعون في هدم ما شيده للدين من أركان، و ما أقامه من أجل سعادتهم، و سلامة حياتهم، من بنيان. .
فولادة الإمام علي «عليه السلام» في الكعبة المشرفة، هي لطف بالأمة بأسرها، حتى أولئك الذين و ترهم الإسلام منها، و سبيل هداية لهم و لها، و هو سبب انضباط وجداني، و معدن خير و صلاح، ينتج الإيمان، و العمل الصالح، و يكف من يستجيب لنداء الوجدان عن الامعان في الطغيان، و العدوان، و عن الانسياق وراء الأهواء، و العواطف، من دون تأمل و تدبر. .
و غني عن البيان، أن مقام الإمام علي «عليه السلام» و فضله، أعظم و أجل من أن تكون ولادته «عليه السلام» في الكعبة سببا أو منشأ لإعطاء
ص: 257
المقام و الشرف له. . بل الكعبة هي التي تتشرف به و تعتز، و تزيد قداستها، و تتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات اللّه و سلامه عليه. .
و أما رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، فإن معجزته الظاهرة-التي تهدي الناس إلى اللّه تعالى، و صفاته، و إلى النبوة و النبي، و تدلهم عليه، و تؤكد صدقه، و لزوم الإيمان به، و تأخذ بيدهم إلى الإيمان باليوم الآخر-.
إن هذه المعجزة هي هذا القرآن العظيم، الذي يهدي إلى الرشد من أراده، و الذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب و العقول أولا، من باب الاستدلال، و الانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق. . من دون تأثر بالعاطفة، و بعيدا عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى مهما كانت. .
إذ إن القضية هي قضية إيمان و كفر، و حق و باطل، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء و النقاء، و تفريغ القلب من أي داع آخر، قد يكون سببا في التساهل في رصد الحقيقة، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها، و الوصول إليها. .
فاللّه لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة سببا في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق، و في تحديد حدوده، و تلمّس دقائقه، و حقائقه و التبيّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس، و أبين من الأمس. .
و لذلك فإن اللّه تعالى لم يصنع لرسوله ما يدعوهم إلى تقديسه كشخص، و لا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه لا بد لهم من الخضوع و البخوع له، و تمجيد مقامه، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل، و لا الطريقة الفضلى في سياسة الهداية إلى الأمور الإعتقادية، التي هي أساس الدين، و التي تحتاج إلى تفريغ النفس و إعطاء الدور، كل الدور،
ص: 258
للدليل و للبرهان، و للآيات و البينات، و إلى أن يكون التعاطي مع الآيات و الدلائل بسلامة تامة، و بوعي كامل، و تأمل عميق، و ملاحظة دقيقة. .
و هذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى، خصوصا تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة، فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة، رائعة في دلالاتها و بياناتها، التي تضع العقل و الفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه إلا بتعطيل دورهما، و إسقاط سلطانهما، لمصلحة سلطان الهوى، و نزوات الشهوات، و الغرائز. .
و هذا الذي قلناه لا ينسحب و لا يشمل إظهار المعجزات و الآيات الدالة على الرسولية، و على النبوة، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل و أدوات ترشده إلى الحق، و توصله إليه. . و تضع يده عليه. . و ليست هي فوق العقل، و لا هي من موجبات تعطيله، أو إضعافه.
و يقولون: إن الكعبة قد جاءها سيل جارف تجاوز الردم الذي كان قد وضع ليمنع من مثل ذلك؛ فدخلها، و صدع جدرانها.
و يقال أيضا: إنها كانت قد احترقت حينما أرادت إحدى النساء تبخيرها فطارت شرارة إلى ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها (1)، ثم جاء السيل بعد ذلك فزاد في تصدعها حتى خاف الناس عليها.
و يرى البعض: أن هذا الحريق كان في زمان ابن الزبير.
ص: 259
و رفع الحلبي التنافي باحتمال حصول الحريق مرتين (1).
و نحن نقول: إنه يبدو أن دعوى احتراقها على هذا النحو الاتفاقي، إنما صيغت للتخفيف من الامتعاض الناشئ من جرأة الأمويين على بيت اللّه الحرام، حيث إنها قد تصدعت حينما ضربت بالمنجنيق و بالنار من قبلهم، و تركها ابن الزبير ليراها الناس محترقة، يحرضهم على أهل الشام (2).
و مهما يكن من أمر: فقد اتفقت قريش قبل بعثة النبي «صلى اللّه عليه و آله» على هدمها، و إعادة بنائها، و أن يرفع بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا، و أعدوا لذلك نفقة طيبة، ليس فيها مهر بغي، و لا بيع ربا، و لا مظلمة مما أخذوه غصبا، أو قطعوا فيه رحما، أو انتهكوا فيه حرمة، أو ذمة (3).
و بدأت كل قبيلة تجمع الحجارة على حدة، و يقولون: إنه «صلى اللّه عليه و آله» قد شارك في جمع الحجارة، و كان أول من جرأهم على هدمها هو الوليد بن المغيرة.
و تجزأت قريش الهدم و البناء، لكل قبيلة شق، و جهة معينة، و قد
ص: 260
اختلف المؤرخون في اختصاصات هذه القبائل بتلك الجهات و الأجزاء (1)، و لا مجال لتأكيد أو نفي أي من الأقوال في ذلك، و لا سيما في موارد كهذه، يجهد فيها كل فريق أن ينيل من يميل إليهم بعض الشرف، و مواقف الكرامة.
و أما عن تاريخ بناء البيت فقد اختلفت كلمات المؤرخين فيه، فهذا يقول: إن بناءه كان حين بلوغه «صلى اللّه عليه و آله» الحلم، أي بعد الفيل ب 15 سنة (2).
و آخر يقول: إنه بني بعد الفيل بخمس و عشرين سنة (3).
و ثالث يقول: إنه كان بعد الفيل بخمس و ثلاثين سنة، أي قبل البعثة بخمس سنين (4).
و لعل هذا الأخير هو الأشهر.
و لما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا: كل قبيلة تريد هي أن تنال شرف رفعه إلى موضعه، و كاد أن يؤدي الأمر بهم إلى السيف، حتى
ص: 261
جاء بنو عبد الدار، و بنو عدي بإناء فيه دم؛ فوضعوا أيديهم فيه، و معهم بنو سهم، و بنو مخزوم (1)، و تحالفوا على الموت-فسموا: «لعقة الدم» (2)، حتى أشار أبو أمية بن المغيرة-والد أم سلمة، أم المؤمنين، و أحد أجواد قريش، و يقول البلاذري: «أبو مهشم بن المغيرة» -بأن يحكموا أول داخل عليهم من باب السلام، و هو باب بني شيبة، أو من باب الصفا على الاختلاف.
فكان الرسول «صلى اللّه عليه و آله» أول داخل، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد.
و يقول البعض: إنهم كانوا يتحاكمون إلى النبي «صلى اللّه عليه و آله» في الجاهلية؛ لأنه كان لا يداري، و لا يماري (3).
فلما أخبروه بالأمر طلب ثوبا، أو بسط إزاره-على الاختلاف-ثم أخذ الحجر؛ فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، فلما حاذوا موضعه أخذه رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» بيده الشريفة، فوضعه مكانه.
1-إن بني عبد الدار، و معهم بنو سهم، و مخزوم و عدي قد جاؤوا بالدم، فوضعوا أيديهم فيه، و تحالفوا على الموت، و نجد في مقابل ذلك: أن بني عبد مناف قد جاؤوا بالغالية-و هي نوع من الطيب-فوضعوا أيديهم
ص: 262
فيها، حينما تحالفوا زمن قصي في مقابل بني عبد الدار؛ فسموا حلف المطيبين.
و لبني عبد مناف حلف آخر هو أكرم و أشرف حلف سمع به في العرب (1)، و هو حلف الفضول الذي أمضاه الإسلام، حسبما تقدم، و كان في مقابلهم حلف الأحلاف، من قبل بني عبد الدار، و سهم، و جمح، و مخزوم، و عدي، و لا يقصد في حلفهم إلا الشرف الدنيوي، و لو أريقت الدماء، و أزهقت النفوس.
و لعل هذا يعكس بوضوح الفرق بين الاتجاهين، و نوعية التفكير، و مستوى الوعي، و النظرة للحياة لدى كل من الفريقين.
و لا نبالغ إذا قلنا: إن من الممكن أن نفهم من مراجعة كتب التاريخ و الأنساب: أن بني عبد مناف، و لا سيما آل أبي طالب كانوا هم رجالات الإسلام، و الهداة إلى الحق، و المجاهدين في سبيل الدين.
بينما نجد بني عبد الدار، و المتحالفين معهم أقل تحمسا للدين، و تضحية في سبيله، بل و يكثر فيهم المناوئون له، و الحاقدون عليه.
2-إن اشتراط قريش: أن تكون نفقة الكعبة طيبة، لا ربا فيها، و لا مظلمة لأحد إلخ. . إن دل على شيء فإنما يدل و لا شك على شعور حقيقي بقبح هذه الأمور، و عدم رضا اللّه و الوجدان بها.
و قد يفسر ذلك أيضا باقتضاء الفطرة لذلك، و حكم العقل بقبحه.
و نحن، و إن كنا نعترف بأن ذلك كذلك، بل إن كل أحكام الدين
ص: 263
موافقة للفطرة، و لأحكام العقل، إلا أننا لا بد أن نضيف هنا:
أنه يدل أيضا على بقاء شيء من تعاليم الحنيفية فيهم، خصوصا عند قريش، و بني عبد مناف، و لذلك يلاحظ كثرة الإشارات إلى دين إبراهيم، و ما يدل على إيمانهم باللّه في كلمات عبد المطلب، و أبي طالب «عليهما السلام» كثير، و ما الخطبة التي ألقاها أبو طالب حينما طلب يد خديجة للنبي «صلى اللّه عليه و آله» عنا ببعيدة.
3-إن ما تقدم يدل على أن أهل مكة كانوا يتعاملون بالمنطق القبلي حتى في تعاونهم على بناء البيت، و حمل الحجارة له، و هو أقدس مقدساتهم، و رمز عزهم و مجدهم و كرامتهم، بل و عليه تقوم حياتهم، و إن تحالف لعقة الدم حين الاختصام فيمن يرفع الحجر إلى موضعه، ليعتبر الذروة في هذا الأمر، الذي يمجه الذوق، و تنبو عنه الفطرة، و يرفضه العقل السليم.
4-و بعد هذا، فإن ما يلفت نظرنا: هو فرح قريش حينما رأوا النبي «صلى اللّه عليه و آله» أول داخل عليهم، ثم وصفهم له بأنه «الأمين» ، مما يعني أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان يحتل مكانة خاصة في نفوس الناس في مكة، حيث تسكن قريش سيدة القبائل العربية كلها، حتى إنهم كانوا يحكّمونه في كثير مما كان يشجر بينهم، و يضعون كل ثقتهم فيه، حتى لقبوه ب «الأمين» .
بل إننا نجد: في كلمات أبي طالب المتقدمة، خير شاهد على مكانته «صلى اللّه عليه و آله» ، و علو منزلته، و شرفه، و سؤدده.
و في موقف أمية بن خلف في غزوة بدر دلالة على ذلك أيضا (1)فراجع.
ص: 264
هذا، و بعد كل ما تقدم، فإننا نواجه هنا أكذوبة مفضوحة، ليس الهدف منها إلا الحط من كرامة النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و الإساءة لمقامه الأقدس، من أولئك الذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، و لم يسلموا و إنما استسلموا، و أقسموا على العمل على دفن ذكر محمد، و طمس اسمه و دينه، و لكن اللّه سبحانه و تعالى يأبى إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون.
و تلك الأكذوبة التي هي واحدة من مئات أمثالها، مما تقشعر له الا بدان، و يشتد له غضب الرحمن، هي التالية: روى الشيخان، و غيرهما من المؤلفين في التاريخ و الحديث، ممن تجمعهم معهما رابطة الدين، و السياسة، و الصنعة-و النص للبخاري-: «أن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، و عليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة؟ . .
قال: فحلّه، فجعله على منكبيه؛ فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد ذلك عريانا» (1).
و في رواية أخرى للبخاري في كتاب الحج: «فخر إلى الأرض، فطمحت
ص: 265
عيناه، فقال: أرني إزاري، فشده عليه» .
و نحن لا نشك أن ذلك مختلق و مفتعل، و نكتفي بالإشارة هنا إلى ما يلي:
أولا: إن ثمة تناقضا ظاهرا بين هذه الروايات، الأمر الذي يذكرنا بالمثل المشهور: «لا حافظة لكذوب» ، و كمثال على ذلك نذكر:
أن رواية تقول: إن تعريه «صلى اللّه عليه و آله» كان و هو صغير، حينما كان يلعب مع الصغار، و كلهم قد تعرى، و هم أيضا ينقلون الحجارة للعب، فلكمه لاكم لا يراه، و قال: شد عليك إزارك (1).
و في أخرى: أن ذلك كان حينما كان عمه أبو طالب يصلح زمزم، فأمر بالستر، من قبل متكلم لا يراه (2).
و ثالثة تذكر: أن ذلك كان حين بناء البيت، و هي المتقدمة، و معنى ذلك أن عمره كان 35 سنة.
و نوع آخر من الاختلاف، و هو: أن النمرة (3)قد ضاقت عليه، فذهب يضعها على عاتقه، فبدت عورته، لصغر النمرة؛ فنودي: يا محمد، خمر (4)عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك (5).
ص: 266
و أخرى تقول: إن العباس طلب منه أن يضع إزاره عن عاتقه (1).
و رواية تقول: صرع.
و أخرى: لكم.
و ثالثة: أغمي عليه.
إلى آخر ما هنا لك من وجوه الاختلاف.
و قد حاول العسقلاني و الحلبي الجمع بين الروايات:
فقال العسقلاني: إن النهي السابق لم يكن يفهم منه الشمول لصورة الاضطرار العادي، و حين بناء البيت اضطر إلى ذلك، فرأى أن لا مانع من التعري حينئذ (2).
و هكذا يبذل هؤلاء المحاولات لإثبات هذا الأمر الشنيع على الرسول الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» ، لأن ذلك قد ورد في صحيح البخاري، و هو الكتاب المقدس عندهم، بل هو أصح شيء بعد القرآن، بل إن القرآن فيه تحريف و نسخ للتلاوة و غيرها عندهم، أما البخاري فيجل عن ذلك! !
مع أنه قد فات العسقلاني هنا: أنه قد جاء في رواية أبي الطفيل: «فما رؤيت له عورة قبل و لا بعد» (3).
ص: 267
هذا كله عدا عن أنه هو نفسه يذكر: أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان مصونا عما يستقبح قبل البعثة و بعدها (1)
ثم جاء الحلبي، و قال: إن من الممكن أن تكون عورته «صلى اللّه عليه و آله» قد انكشفت، لكن لم يرها أحد حتى العباس (2).
و لكن ما يصنع الحلبي بعبارة البخاري و غيره، و التي تنص على أنه: ما رؤي بعد ذلك عريانا.
و عبارة أبي الطفيل: ما رئيت له عورة قبل و لا بعد.
ثانيا: و مما يكذب ذلك:
ما ورد عنه «صلى اللّه عليه و آله» -و كأنه تنبأ عما سوف يقال زورا و بهتانا عنه-: من كرامتي على ربي: أن أحدا لم ير عورتي، أو ما هو قريب من هذا (3).
ثالثا: لقد قال عنه أبو طالب «عليه السلام» ، قبل بناء البيت بعشر سنوات: إنه «صلى اللّه عليه و آله» لا يوزن برجل إلا رجح به، و لا يقاس به أحد إلا و عظم عنه إلخ، فكيف إذا يقدم هذا الرجل العظيم على التعري أمام الناس حين حمله الحجارة للكعبة؟ ! . خصوصا في ذلك المكان المقدس
ص: 268
عند قريش و العرب.
رابعا: إن ثمة روايات تفيد: أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان مصونا من رؤية عورته حتى بالنسبة لأزواجه؛ فعن عائشة: ما رأيت عورة رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» قط، أو نحو ذلك (1).
و إن كانت قد عادت فذكرت: أن زيد بن حارثة قرع الباب، فقام إليه رسول اللّه يجر ثوبه عريانا، قالت: «و اللّه ما رأيته عريانا قبله و لا بعده، فاعتنقه، و قبّله» (2).
لكن نصا آخر يقول: «فما رأيت جسمه قبلها» (3)، و هذا هو الأقرب إلى الصواب، بملاحظة ما قدمناه و ما سيأتي.
خامسا: في حديث الغار: أن رجلا كشف عن فرجه، و جلس يبول، فقال أبو بكر: قد رآنا يا رسول اللّه، قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه (4).
و هذا يدل على أن المشركين كانوا يستقبحون أمرا كهذا، و لا يقدمون عليه، فكيف فعله الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ؟ !
ص: 269
سادسا: لقد روي أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان أشد حياء من العذراء في خدرها (1)، فهل العذراء الخجول تستسيغ لنفسها التعري أمام الناس؟
سابعا: عن ابن عباس: كان رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» يغتسل وراء الحجرات، و ما رأى أحد عورته قط (2).
ثامنا: و قد عد من خصائصه «صلى اللّه عليه و آله» : أنه لم تر عورته قط، و لو رآها أحد لطمست عيناه (3).
فلماذا لم تطمس عينا العباس، الذي كان حاضرا و ناظرا، و شد عليه إزاره، و كذا أعين سائر من رآه حين بناء البيت؟ ! و كذلك لماذا لم تطمس أعين رفقائه الصغار، الذين رأوا منه ذلك و هم يلعبون؟ ! فإن كانوا قد رأوا، فاللازم هو طمس أعينهم، و إن لم يكونوا قد رأوا، فلماذا هذا الكذب و الافتراء، و سوء الأدب، و الجرأة على مقام النبي الأقدس «صلى اللّه عليه و آله» ، و التفوّه بما يتنافى مع شرفه، و علو منزلته و كرامته، و سؤوده، و تسديد اللّه له؟ نعوذ باللّه من الخذلان، و من وساوس الشيطان.
تاسعا: لقد روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» قوله: ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذه، و يجلس بين قوم (4).
ص: 270
فكيف إذن يكشف النبي الأعظم عورته أمام الناس يا ترى؟
و أخيرا، فإن ثمة نصوصا أكثر شناعة و قباحة من ذلك، نجلّ مقام النبي «صلى اللّه عليه و آله» الأقدس عن ذكرها.
و بالمناسبة، فإن أمثال هذه الافتراءات قد تعدت نبينا الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» إلى نبي اللّه موسى «عليه السلام» و لكن بنحو أكثر شناعة، و أشد قباحة، حيث نسبت ذلك إلى فعل اللّه سبحانه به.
فلقد روى البخاري و غيره: «أن بني إسرائيل اتهموا موسى بأنه آدر (أي مصاب بانتفاخ في خصيته بسبب الفتق) فنزع ثوبه؛ و وضعه على حجر و اغتسل، فلما أراد أن يأخذ ثوبه عدا الحجر بثوبه، فأخذ موسى عصاه، و طلب الحجر، فجعل يقول:
ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: و اللّه ما بموسى من بأس، و أخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا.
قال أبو هريرة: فو اللّه، إن بالحجر لندبا: ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا، فذلك قوله تعالى: لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً (1)» (2).
ص: 271
و نقول: لا ندري كيف لم يلتفت موسى إلى نفسه، حتى بلغ مجالس بني إسرائيل؟ ! و ما هو الذي أفقده صوابه حتى خرج عن حيائه و سجيته التي ذكرتها الرواية: أنه كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه؟ ! .
و لا ندري ما هي حقيقة هذا الحجر العبقري! الذي يهرب من موسى، و يتركه يعدو خلفه؟ ! و لا ندري كذلك كيف التفت موسى إلى عصاه قبل أن يلحق بالحجر، و ما الذي خطر في باله آنئذ؟ ! .
و إذا لم يكن الحجر مأمورا، فما الذي جعله يقوم بهذه العملية، و يخرجه عن وضعه الطبيعي؟ ! و إذا كان مامورا، فلماذا لم يدرك موسى ذلك بمجرد تحرك الحجر بثوبه الذي هو أمر خارق للعادة؟ . هذا مع كونه يناديه و يخاطبه، حتى كأنه عاقل مدرك لما يقول! !
و أخيرا، فإنني لا أدري ما هو ذنب هذا الحجر، حتى استحق هذا الضرب الوجيع الذي أثر فيه و جعل فيه ندبا؟ ! و لماذا لم يعين لنا عدد تلك الندب، فذكرت على نحو الترديد: ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا؟ ! .
و في بعض الروايات: ستا، و سبعا؟ ! .
و إذا كان أبو هريرة قد بلغ به النسيان هذا الحد، فكيف استطاع أن
(2) -و البزار، و الحاكم و صححه، و ابن أبي شيبة، عن أبي هريرة، و أنس، و ابن عباس، و تفسير الميزان ج 16 ص 353، و تفسير القمي ج 2 ص 19 بسند حسن و لكن نسبة التفسير إلى القمي مشكوك فيها و مشكل الآثار ج 1 ص 11 و تفسير نور الثقلين ج 4 ص 309 و تفسير البرهان ج 3 ص 339، و كشف الأستار ج 3 ص 66 و مجمع الزوائد ج 7 ص 93.
ص: 272
يحفظ تلك التفاصيل الدقيقة للقصة نفسها؟ ! .
ثم كيف استطاع أن يحفظ هذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث عن رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ؟ ! .
هذا، و تحسن الإشارة هنا إلى أنه لا يرد كثير مما ذكرنا على رواية القمي التي لم تذكر عصاه و مناداته، و ضربه للحجر، و لعلها أقرب إلى الاعتبار من تلك الرواية البخارية.
و قد جاء أن آية إيذاء موسى قد نزلت في طعن بني إسرائيل على موسى بسبب هارون: لأنه توجه معه إلى زيارة، فمات هارون؛ فدفنه موسى؛ فاتهمه بعض بني إسرائيل بقتله، فبرأه اللّه تعالى بأن أخبرهم جسد هارون بأنه مات و لم يقتل (1).
هذا. . و قد أشرنا في موضوع آخر إلى ما ورد في كتب أهل الكتاب حول تعري الأنبياء «عليهم السلام» ، و أنها هي الأصل في أمثال هذه الترهات.
هذا، و لا بأس بالمقارنة بين ما يذكر هنا عن نبينا الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» و بين ما يذكر عن حياء عثمان، حتى إن أبا بكر و عمر ليدخلان على النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و فخذه مكشوفة، فلا يسترها، حتى إذا دخل عليه عثمان جلس، و ستر فخذه، و سوّى عليه ثيابه؛ فتسأله عائشة؛ فيجيبها بأنه: ألا يستحي
ص: 273
من رجل تستحي منه الملائكة؟ أو ما هو قريب من هذا (1).
هذا، مع أن هذا النبي «صلى اللّه عليه و آله» نفسه يأمر و يؤكد باستمرار بالحياء، و يحث عليه، فيقول: إذا لم تستح، فاصنع ما شئت.
و يقول: الحياء من الإيمان، و الإيمان في الجنة، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة عنه «صلى اللّه عليه و آله» و لا مجال لتتبعها.
كما أن أبا سعيد الخدري قد وصف النبي «صلى اللّه عليه و آله» بأنه: أشد حياء من العذراء في خدرها (2).
ص: 274
و أيضا، فإنهم ينقلون عنه «صلى اللّه عليه و آله» : أنه أمر رجلا بستر فخذه؛ فإنها من العورة (1).
و أما ما يدل على أن ما بين السرة و الركبة عورة، فكثير أيضا (2).
و عن حياء أبي موسى و أبي بكر، و الخدري (3)هناك نصوص لا مجال لإيرادها فعلا.
و قد قال العلامة الأميني: «هب أن النهي عن كشف الأفخاذ تنزيهي، إلا أنه لا شك في أن سترها أدب من آداب الشريعة، و من لوازم الوقار، و مقارنات الأبهة، و رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» أولى برعاية هذا الأدب
ص: 275
الذي صدع به هو الخ. .» (1).
و لا بد أن نشير أخيرا: إلى أننا نجد لهذا الأمر أصلا عند أهل الكتاب، فلعل الخطة الأموية الملعونة قد استفادت أصل هذا الموضوع من أهل الكتاب! ! .
فقد جاء في أخريات العشرين من أشعيا: أن اللّه أمر نبيه أشعيا: أن يمشي عريانا و حافيا بين الناس ثلاث سنين، ليبلغ الناس، و يقول لهم: هكذا يسوق ملك آشور سبي مصر، و جلاء كوش الفتيان و الشيوخ عراة و حفاة، و مكشوفي الأستاه، خزيا لمصر.
و جاء في تاسع التكوين الفقرة (21) : و شرب نوح من الخمر فسكر، و تعرى داخل جنانه.
و في صموئيل الأولى، الإصحاح التاسع عشر، الفقرة 23/24: «فكان يذهب و يتنبأ، حتى جاء نايوت في الرامة، فخلع هو أيضا ثيابه، و تنبأ هو أيضا أمام صموئيل، و انطرح عريانا ذلك النهار كله، و كل الليل، لذلك يقولون: أشاول أيضا بين الأنبياء» .
يذكر البعض: أن فاطمة الزهراء «عليها السلام» ، بنت الرسول الأكرم «صلى اللّه عليه و آله» ، قد ولدت قبل البعثة، ثم يختلفون-أولئك البعض-
ص: 276
فيما بينهم في تحديد سنة ولادتها، فبعضهم يقول: إنها ولدت سنة بناء الكعبة، أي قبل البعثة بخمس سنين (1).
و بعضهم يقول: إنها ولدت قبل البعثة بسبع سنين (2)؛ و قيل (3): باثنتي عشرة سنة (4).
و القائلون بأنها ولدت بعد البعثة اختلفوا أيضا، بين قائل: إنها ولدت سنة البعثة (5).
و قيل: في الثانية (6).
ص: 277
و قيل: سنة إحدى و أربعين من عمره الشريف (1).
و القول الحق هو ما عليه شيعة أهل البيت تبعا لأئمتهم «عليهم السلام» ، و أهل البيت أدرى بما فيه، و تابعهم عليه جماعة من غيرهم، و هو أنها قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة، و توفيت و عمرها ثمانية عشر عاما (2).
و يدل على ذلك و يؤيده، ما يلي:
1-قول أمير المؤمنين «عليه السلام» ، و هو يتحدث عن بعثة النبي «صلى اللّه عليه و آله» : «و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه و لا يراه
ص: 278
غيري. و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» ، و خديجة، و أنا ثالثهما.
أرى نور الوحي و الرسالة، و أشم ريح النبوة، و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه «صلى اللّه عليه و آله» ، فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنة؟
فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلا أنك لست بنبي. و لكنك وزير، و إنك لعلى خير» (1).
أولا: أن الوحي قد نزل على النبي، و أصبح «صلى اللّه عليه و آله» رسولا، و بزغ فجر الإسلام في حضور علي «عليه السلام» ، و كان أول بيت تكوّن في الإسلام يضم رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» و خديجة، و عليا «عليه السلام» فقط، فلو كانت فاطمة «عليها السلام» قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، و كذلك لو كان أحد من أولاد النبي «صلى اللّه عليه و آله» غيرها قد ولد آنئذ، لم يصح حصره «عليه السلام» أهل ذلك البيت بالنبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و بخديجة، بالإضافة إليه «عليه السلام» .
ثانيا: إن هذا النص يدل على عدم صحة ما يدّعونه: من أنه «صلى اللّه عليه و آله» كان وحده في غار حراء، و أنه قد خاف، و عاد إلى خديجة يرجف فؤاده، و أنها عرضت أمره على ورقة بن نوفل، فأخبرها أن الذي يأتيه هو
ص: 279
الناموس الأكبر. .
فإن عليا «عليه السلام» كان حاضرا، و قد سمع رنة الشيطان، و سأل النبي «صلى اللّه عليه و آله» عنها، فأجابه بما تقدم.
هذا. . و تقدم حين الحديث عن ولادة فاطمة «عليها السلام» : أن عليا «عليه السلام» كان حاضرا حين نزول الوحي، و أنه سمع رنة الشيطان، فسأل النبي «صلى اللّه عليه و آله» عنها، فأخبره بأنه يئس من أن يعبد، فراجع.
2-ما تقدم في البحث عن أولاد خديجة، من أن البعض قد ذكر أنهم كلهم قد ولدوا بعد الإسلام باستثناء عبد مناف (1)، مع العلم بأن فاطمة «عليها السلام» كانت أصغر أولاده «صلى اللّه عليه و آله» .
و يدل على ذلك: أنه قد ذكر في الإستيعاب في ترجمة خديجة: أن الطيّب قد ولد بعد النبوة، و ولدت بعده أم كلثوم، ثم فاطمة «عليها السلام» .
3-و يدل على أنها قد ولدت بعد البعثة روايات كثيرة، أوردها جماعة من العلماء، على اختلاف نحلهم و مشاربهم، تدل على أن نطفتها قد انعقدت من ثمر جاء به جبرئيل «عليه السلام» إلى النبي «صلى اللّه عليه و آله» من الجنة، حين الإسراء و المعراج، و ذلك مروي عن عدد من الصحابة، منهم: عائشة، و عمر بن الخطاب، و سعد بن مالك، و ابن عباس، و غيرهم (2).
ص: 280
و إذا أمكنت المناقشة في بعض تلك الروايات، فإن البعض الآخر لا مجال للنقاش فيه.
و يؤيد ذلك أيضا: أن النسائي قد روى: أنه لما خطب أبو بكر و عمر فاطمة «عليها السلام» ردهما «صلى اللّه عليه و آله» ، و قال لهما: إنها صغيرة (1)، فلو كان عمرها سبع عشرة سنة أو أكثر، فلا يقال: إنها صغيرة.
و يؤيده أيضا: ما روي من أن خديجة «رحمها اللّه» كانت قد هجرتها نساء قريش، فلما حملت بفاطمة «عليها السلام» كانت تحدثها من بطنها، و تصبّرها (2).
بقي أن نشير إلى: أن استبعاد حمل خديجة بفاطمة في السنة الخامسة من
(2) -و الإحتجاج و غير ذلك، و الأنوار النعمانية ج 1 ص 80، و في كتب غيرهم مثل: المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 156، و تلخيصه للذهبي (مطبوع بهامشه) ، و نزل الأبرار ص 88، و الدر المنثور ج 4 ص 153، و تاريخ بغداد ج 5 ص 87، و المناقب لابن المغازلي ص 357، و تاريخ الخميس ج 1 ص 277، و ذخائر العقبى ص 36 و لسان الميزان ج 1 ص 134 و اللآلي المصنوعة ج 1 ص 392-394، و نقله النجفي في ملحقات إحقاق الحق ج 10 ص 1-10 عن بعض من تقدم، و عن ميزان الإعتدال و الروض الفائق، و نزهة المجالس، و مجمع الزوائد، و كنز العمال، و منتخبه، و محاضرة الأوائل، و مقتل الحسين للخوارزمي، و مفتاح النجاة، و المناقب لعبد اللّه الشافعي، و إعراب ثلاثين سورة، و أخبار الدول، و ستأتي بقية المصادر حين الكلام حول تاريخ الإسراء و المعراج.
ص: 281
البعثة؛ لأن سن خديجة كان حينئذ عاليا-هذا الاستبعاد-في غير محله؛ لما تقدم: من أن سن خديجة حينئذ كان ما بين 45 حتى 50 سنة بناء على عدد من الأقوال في مقدار عمرها، و لعل من بينها ما هو الأقوى، و إن كان المشهور خلافه.
و حتى على هذا المشهور؛ فإن عمر خديجة حينئذ كان لا يأبى عن الحمل، فإن القرشية يستمر حيضها إلى الستين، كما هو مقرر في الفقه، و هذا يعني: أن قابلية الحمل موجودة أيضا، كما هو ظاهر.
و مما ذكرناه، و من قول المصباح: «و العامة تروي: أن مولدها كان قبل المبعث بخمس سنين» (1)، نعرف: أن المسعودي قد اشتبه في نسبة القول بالتسع و العشرين إلى أكثر أهل البيت و شيعتهم (2)، و لعله سهو من قلمه، أو عمد أو سهو من النساخ، بحيث كان في الأصل تسع عشرة، فبدل إلى تسع و عشرين.
و بعد كل ما تقدم؛ فإنه إذا كانت فاطمة قد ولدت في السنة الخامسة من البعثة؛ فإنها تكون قد توفيت و عمرها ثمانية عشر عاما فقط، كما هو ظاهر.
ص: 282
الباب الأول: من البعثة إلى الإعلان بالدعوة
الباب الثاني: حتى وفاة أبي طالب
الباب الثالث: من وفاة أبي طالب حتى الهجرة إلى المدينة
الباب الرابع: من مكة إلى المدينة
ص: 283
ص: 284
الفصل الأول: البعثة و المعجزة
الفصل الثاني: روايات بدء الوحي
الفصل الثالث: الدعوة في مراحلها الأولي
ص: 285
ص: 286
ص: 287
ص: 288
لقد بعث اللّه تعالى محمدا «صلى اللّه عليه و آله» رسولا للناس أجمعين بعد عام الفيل بأربعين عاما، أي حينما بلغ الأربعين من عمره الشريف، على قول أكثر أهل السير، و العلم بالأثر، و كان قبل ذلك يسمع الصوت و لا يرى الشخص حتى تراءى له جبرائيل و هو في سن الأربعين.
و قيل: بل كان عمره «صلى اللّه عليه و آله» حين بعثته اثنين، و قيل: ثلاثا، و قيل: خمسا و أربعين سنة (1).
و ربما لا يكون بين هذه الأقوال منافاة إذا كان القائلون بها يأخذ بعضهم، و بعضهم الآخر لا يأخذ السنوات الأولى، و هي فترة الدعوة الاختيارية، أو فقل: السرية بنظر الاعتبار و التي قد اختلف في مقدارها من ثلاث إلى خمس سنوات (2).
ص: 289
أو لعل بعضهم لم يكن يرى أن النبي «صلى اللّه عليه و آله» مرسل في تلك الفترة إلى الناس كافة، أو أنه كان مكلفا بدعوة الأقربين فقط.
كما أن ذلك لعله هو سبب الاختلاف الظاهري في مدة بقاء النبي «صلى اللّه عليه و آله» في مكة داعيا إلى اللّه فيها قبل الهجرة، حيث قال بعضهم إنه: «صلى اللّه عليه و آله» بقي عشر سنين، و قال آخرون: ثلاث عشرة سنة.
و المروي عن أهل البيت «عليهم السلام» -و أهل البيت أدرى بما فيه و أقرب إلى معرفة شؤون النبي «صلى اللّه عليه و آله» الخاصة-: أن بعثة النبي «صلى اللّه عليه و آله» كانت في السابع و العشرين من شهر رجب و هذا هو المشهور، بل ادعى المجلسي الإجماع عليه عند الشيعة، و روي عن غيرهم أيضا (1).
و قيل: إنه «صلى اللّه عليه و آله» بعث في شهر رمضان المبارك، و اختلفوا في أي يوم منه (2)و قيل في شهر ربيع الأول، و اختلف أيضا في أي يوم منه (3).
(2) -القرآن ج 1 ص 81-82 و راجع: تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 19 و سيرة ابن هشام ج 1 ص 280، و المناقب لابن شهر آشوب ج 1 ص 43.
ص: 290
و استدل القائلون: بأنه «صلى اللّه عليه و آله» قد بعث في شهر رمضان المبارك، و ليس في رجب بأن النبي «صلى اللّه عليه و آله» إنما بعث بالقرآن، و القرآن قد أنزل في شهر رمضان، قال تعالى: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ (1)، و قال: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ (2).
ثم إن هنا إشكالا آخر لا بد من الإشارة إليه، و حاصله:
أن الآيتين المتقدمتين، و إن كانتا تدلان على نزول القرآن دفعة واحدة على أحد الاحتمالين في معنى الآيتين، إلا أن قوله تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّٰاسِ عَلىٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلاً (3)يدل على نزول القرآن متفرقا، لأنه عبّر فيها ب(نزل) ، الدال على النزول التدريجي، و فيما تقدم عبر بأنزل، الدال على النزول الدفعي ثم هو يقول فيها: فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّٰاسِ عَلىٰ مُكْثٍ (4).
يضاف إلى ذلك قوله تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً (5)حيث دلت الآية على نزول القرآن تدريجا.
و أيضا، يجب أن لا ننسى هنا: أن بعض الآيات مرتبط بحوادث آنية، مقيدة بالزمان، كقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا (6)
ص: 291
و كاعتراض الكفار الآنف على رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» و غير ذلك.
هذا كله عدا عن أن التاريخ المتواتر يشهد بأن نزول القرآن كان تدريجا، في مدة ثلاث و عشرين سنة، و هي مدة الدعوة.
و قد أجيب عن إشكال التنافي بين ما دل على النزول الدفعي و النزول التدريجي؛ بأن النزول الدفعي كان إلى البيت المعمور؛ حسبما نطقت به الروايات الكثيرة، ثم صار ينزل تدريجا على الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» (1).
و إذن، فليكن نزوله الدفعي كان في ليلة القدر و نزوله التدريجي قد بدأ في السابع و العشرين من شهر رجب، و يرتفع الإشكال بذلك.
و جواب آخر، يعتمد على القول بأن القرآن قد نزل أولا دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ، لكنه لم يؤمر بتبليغه، ثم صار ينزل تدريجا بحسب المناسبات.
و ربما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد التي لا مجال لها (2).
و رأي ثالث يقول: إن بدء نزول القرآن كان بعد البعثة بثلاث سنوات، أي بعد انتهاء الفترة السرية للدعوة، كما ورد في عدد من الروايات، و نص عليه بعضهم (3)، و على هذا فلا يبقى تناف بين بعثته «صلى اللّه عليه و آله» في
ص: 292
شهر رجب، و بين نزول القرآن في شهر رمضان المبارك (1).
أما نحن فنقول:
أولا: قال اللّه تعالى: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً (2)فاستعمل التنزيل و أريد به النزول جملة واحدة؛ فقولهم: «تستعمل نزل في خصوص التدريجي» لا يصح.
إلا أن يقال: إن المراد التنزيل التدريجي للقرآن كله، من سماء إلى سماء، أو من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصل إلى رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» .
و لكن هذا خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل.
و قد يقال: إن الدليل موجود، و هو الروايات التي تقول:
نزل إلى البيت المعمور، ثم إلى السماء الدنيا، ثم على قلب رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» كما في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ، عَلىٰ قَلْبِكَ (3).
ثانيا: إن تتبع الآيات القرآنية يعطي عدم ثبوت الفرق المذكور بين: «الإنزال» و «التنزيل» مثلا قد ورد في القرآن قوله تعالى: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
(3) -و مستدرك الحاكم ج 2 ص 610 و الإتقان ج 1 ص 39 و تفسير شبر ص 350، و البداية و النهاية ج 3 ص 4 و تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 34.
ص: 293
حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً نَقْرَؤُهُ (1) مع أن الكتاب المقروء إنما ينزل دفعة واحدة، و يمكن أن يجاب عنه بما قدمناه آنفا.
كما و يلاحظ: أنه يستعمل كلمة «نزّل» تارة، و كلمة «أنزل» مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً (2).
و مثل ذلك كثير، لا مجال لنا لتتبعه فعلا، و كله يدل على عدم صحة هذا الفرق بين هاتين الصيغتين و قد أشار إلى هذا الجواب بعض المحققين أيضا (3).
غير أننا نقول في جوابه: إن هناك حيثيتين لنزول الماء من السماء.
فإذا لوحظت حيثية نزوله متفرقا على شكل مطر فإنه يعبر بكلمة نزل، الدالة على التدرج.
و إذا لوحظ مجموع ما نزل من ماء طاهر عبر بأنزل، حيث لا يريد الإلماح إلى طريقة النزول، بل المراد الحديث عن النازل. .
ثالثا: قولهم: إن النبي «صلى اللّه عليه و آله» قد بعث بالقرآن غير مسلم، و لتكن الروايات الواردة عن أهل البيت، و القائلة بأنه «صلى اللّه عليه و آله» قد بعث في شهر رجب موجبة لوهن قولهم هذا.
فإن البعثة تتحقق بنزول جبرئيل ببلاغ عن اللّه تعالى، سواء أكان البلاغ آية، أم كان أوامر من أي نوع كانت.
ص: 294
رابعا: يقول الشيخ المفيد «رحمه اللّه» : إن روايات نزول القرآن إلى البيت المعمور لا مجال لإثباتها من طريق أهل البيت «عليهم السلام» ، و لا إلى الاطمينان إلى صحتها (1).
و أما نزول القرآن أولا دفعة واحدة على قلبه «صلى اللّه عليه و آله» ، فإن إثباته مشكل، و لا يمكن المصير إليه إلا بحجة.
و لكن عدم القدرة على إثبات ذلك بصورة قاطعة لا يعني أنه غير واقع أصلا، و هذا كاف في زوال الإشكال، و لزوم القبول بما ورد عن أهل البيت «عليهم السلام» من أن البعثة كانت في شهر رجب، فلعل للقرآن نزولات متعددة، باختلاف ما يقتضي ذلك.
خامسا: حديث نزول القرآن بعد البعثة بثلاث سنوات، استنادا إلى ما ورد من أن القرآن قد نزل خلال عشرين سنة، لا يمكن الاطمينان إليه، إذ يمكن أن يكون ذلك قد جاء على نحو التقريب و التسامح، و لم يرد في مقام التحديد الدقيق-و من عادة الناس:
أن يسقطوا الزائد القليل، أو أن يضيفوه في إخباراتهم، و ليس في ذلك أخبار بخلاف الواقع؛ لأن المقصود هو الإخبار بما هو قريب من الحد، لا بالحد نفسه، مع إدراك السامع لذلك، و التفاته إليه.
نعم، يمكن أن تكون معاني القرآن و حقائقه قد نزلت على قلبه الشريف لكي يستفيد منها الرسول «صلى اللّه عليه و آله» في نيل مقامات القرب منه تعالى.
ص: 295
و النتيجة هي: أنه لا مانع من أن يكون «صلى اللّه عليه و آله» قد بعث و صار رسولا في شهر رجب، كما أخبر به أهل البيت «عليهم السلام» و هيئ ليتلقى الوحي القرآني.
إِنّٰا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (1) ، ثم بدأ نزول القرآن عليه تدريجا في شهر رمضان المبارك.
كما أنه لا مانع من أن تكون حقائق القرآن و معانيه قد نزلت عليه «صلى اللّه عليه و آله» دفعة واحدة، ثم صار ينزل عليه تدريجا.
و يؤيد هذا الاحتمال الأخير رواية رواها المفضل عن الإمام الصادق «عليه السلام» تفيد ذلك فلتراجع (2)و يؤيده أيضا:
ما ورد من أنه كان له ملك يسدده، و يأمره بمحاسن الأخلاق، و أن الملك كان يتراءى له، قبل أن ينزل عليه القرآن (3)و أن جبرئيل قد لقيه إلخ. .
و يرى بعض المحققين (4): أنه يمكن الجمع بين الآيات، بأن يقال:
إن شروع نزول القرآن كان في ليلة مباركة، هي ليلة القدر من شهر
ص: 296
رمضان، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ (1)، شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ (2). و كان أول ما نزل حسب روايات أهل البيت «عليهم السلام» ، بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ (3).
لا يصح الاستدلال بهذه الآيات: على أن القرآن نزل أولا دفعة إلى البيت المعمور أو على قلب النبي، ثم صار ينزل تدريجا طيلة أيام البعثة، و ذلك إعتمادا على قرينة الحال، و هي رؤية الناس نزوله تدريجا.
نعم، لا يصح هذا الاستدلال، لإمكان أن يكون المراد بالإنزال و التنزيل واحد، و هو بدء النزول، فإنه إذا شرع نزول المطر في اليوم الفلاني، و استمر لعدة أيام، فيصح أن يقال مثلا:
سافرت يوم أمطرت السماء، أي في اليوم الأول من بدء نزوله، و كذلك الحال بالنسبة للقرآن، فإنه إذا بدأ نزوله في شهر رمضان، في ليلة القدر، فيصح أن يقال مجازا مع وجود القرينة، و هي النزول التدريجي: نزل القرآن في شهر رمضان، و يكون المراد أنه قد بدأ نزوله التدريجي فيه.
و قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ محتف بقرينة حالية؛ يعلمها كل أحد، و هي نزول خصوص أول سورة «إقرأ» ، و استمر ينزل تدريجا بعد ذلك، و كل حادث خطير له امتداد زمني إنما يسجل يوم شروعه.
ص: 297
و أما حديث البخاري في بدء الوحي و الدال على اقتران نزول القرآن بالنبوة فسيأتي أنه باطل لا يصح.
ثم إنه يمكن تقريب كلام هذا المحقق بأن يقال: إن قوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ إنما هو حكاية عن أمر سابق، و لا يشمل هذا الكلام الحاكي له إلا بضرب من العناية و التجوز، و لا الذي يأتي بعده، و إلا لجاء التعبير بصيغة المضارع، أو الوصف فإنه يكون حينئذ هو الأوفق (1).
و لعل ابن شهر آشوب كان ينظر إلى هذا حين قال في متشابهات القرآن:
«و الصحيح: أن القرآن في هذا الوضع لا يفيد العموم، و إنما يفيد الجنس، فأي شيء نزل فيه؛ فقد طابق الظاهر» (2).
هذا. . و لكن ما قدمناه يوضح: أن الالتزام بهذا التوجيه ليس ضروريا، و نعود فنذكر القارئ الكريم بأنه قد ورد ما يؤيد نزول القرآن دفعة واحدة أولا، ثم صار ينزل تدريجا بعد ذلك؛ فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله: «يا مفضل، إن القرآن نزل في ثلاث و عشرين سنة، و اللّه يقول: شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ .
و قال: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ، فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ (3).
ص: 298
و قال: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ (1).
قال المفضل: يا مولاي فهذا تنزيله الذي ذكره اللّه في كتابه، و كيف ظهر الوحي في ثلاث و عشرين سنة؟
قال: نعم يا مفضل، أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان و كان لا يبلغه إلا في وقت استحقاق الخطاب، و لا يؤديه إلا في وقت أمر و نهي، فيهبط جبرائيل بالوحي، فيبلغ ما يؤمر به و قوله: لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (2)» (3).
و قد قلنا فيما سبق: إن للقرآن عدة نزولات، نزول إلى البيت المعمور، و نزول إلى السماء الدنيا، ثم نزول على قلب رسول اللّه «صلى اللّه عليه و آله» في رمضان. . ثم صار ينزل سورة سورة، ثم صارت تنزل الآيات في المناسبات المختلفة، و قد أوضحنا ذلك في كتابنا مختصر مفيد حين الكلام حول نزول آية بلغ ما أنزل إليك من ربك، و آية اليوم أكملت (4). .
لقد كان بدء الوحي في غار حراء، و هو جبل على ثلاثة أميال من مكة و يقال:
ص: 299
هو جبل فاران، الذي ورد ذكره في التوراة إلا إن الظاهر هو أن فاران اسم لجبال مكة، كما صرح به ياقوت الحموي، حسبما تقدم، لا لخصوص حراء.
و كان «صلى اللّه عليه و آله» يتعبد في حراء هذا، على النحو الذي ثبتت له مشروعيته، و كان قبل ذلك يتعبد فيه عبد المطلب.
و أول ما نزل عليه «صلى اللّه عليه و آله» هو قوله تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ (1).
و هذا هو المروي عن أهل البيت «عليهم السلام» (2)، و روي أيضا عن غيرهم بكثرة، و يدل عليه أيضا سياق الآيات المذكورة. (3)
و ربما يقال: إن أول ما نزل عليه «صلى اللّه عليه و آله» هو فاتحة الكتاب (4)، و لا سيما بملاحظة:
أنه قد صلى في اليوم الثاني هو «صلى اللّه عليه و آله» و علي «عليه السلام» ، و خديجة «عليها السلام» ، حسبما ورد في الروايات.
و لكن من الواضح: أن ذلك لا يثبت شيئا؛ إذ يمكن أن تنزل الفاتحة بعد سورة إقرأ، بلا فصل، ثم يصلي و يقرؤها في صلاته، كما أن من الممكن أن تكون صلاتهم آنئذ غير مشتملة على فاتحة الكتاب، ثم وجبت بعد ذلك و إن كان لم يذكر أحد ذلك.
ص: 300
أما قوله: عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب: لا صلاة له (1)و قوله «صلى اللّه عليه و آله» : كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج (2).
فهو لا ينافي ذلك إذ يمكن أن يكون ذلك تشريعا حادثا بعد ذلك.
هذا كله عدا عن أنهم يروون: أن سورة الفاتحة قد نزلت بعد المدثر (3)أي بعد عدة سنوات من البعثة.
هذا، وثمة قول آخر، و هو أن أول ما نزل عليه «صلى اللّه عليه و آله» هو سورة المدثر (4)، و ستأتي الإشارة إلى أنها قد نزلت بعد المرحلة الاختيارية أو فقل: السرية، كما أنهم يروون روايات عديدة تنافي قولهم هذا (5).
و على كل حال، فإن تحقيق هذا الأمر لا يهمنا كثيرا، فلا بد من توفير الفرصة للحديث عن الأهم فالأهم.
و لا بأس بأن نعطف الكلام هنا إلى الحديث عن معجزته «صلى اللّه عليه و آله» ، و هي:
القرآن، و سر إعجازه، فإن ذلك ربما تكون له أهميته البالغة لمن يريد أن يقرأ سيرة النبي «صلى اللّه عليه و آله» ، و يستفيد منها: عقيدة، و شريعة،
ص: 301
و أدبا، و سلوكا.
مع العلم بأن كثيرا من الأحداث قد جاءت مرتبطة بالقرآن، و كانت سببا في نزول طائفة من آياته و لا بد من الاستدلال به عليها، فنقول:
لقد تحدى اللّه أعداء الإسلام بأن يأتوا بمثل القرآن، فلما عجزوا تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن، فعجزوا عن ذلك أيضا، ثم صعّد تحديه لهم، و طلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فلو أنهم استطاعوا أن يأتوا و لو بقدر سورة الكوثر، التي هي سطر واحد، لثبت بطلان هذا الدين الجديد من أساسه، ما دام أنه هو قد قبل بهذا التحدي مسبقا، و لكانوا قد وفروا على أنفسهم الكثير من الويلات، التي أقدموا عليها بإعلانهم الحرب على النبي الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» ، و التي أدت إلى إزهاق النفوس الكثيرة، و هدر الطاقات العظيمة، و غير ذلك من مصائب و كوارث، انتهت بهزيمتهم، و انتصار الإسلام و قائده الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» .
فما هي تلك الخصيصة التي في القرآن، و التي جعلتهم يعجزون عن مجاراته، و حتى عن أن يأتوا ب بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ؟ ! (1).
بل ما هي تلك الخصيصة التي سوغت التحدي بالقرآن للإنس و الجن معا دون اختصاص بزمان دون زمان، قال تعالى:
قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ
ص: 302
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1) .
ربما يقال: إنها إخباراته الغيبية الصادقة، سواء بالنسبة إلى الماضين كقوله تعالى:
تِلْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهٰا إِلَيْكَ مٰا كُنْتَ تَعْلَمُهٰا أَنْتَ وَ لاٰ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا (2) .
أو بالنسبة لتنبؤاته المستقبلية، كقوله تعالى:
الم، غُلِبَتِ اَلرُّومُ، فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) . و كإخباره بنتائج حرب بدر العظمى، و غير ذلك (4).
و ربما يقال: إنه لتضمن القرآن للمعارف العلمية، التي تنسجم مع العقل و البرهان، و إخباراته عن سنن الكون و أسرار الخليقة، و أحوال النظام الكوني، و غير ذلك من أمور لا يمكن الوصول إليها إلا بالعلم و المعرفة الشاملة و الواسعة، الأمر الذي لم يكن متوفرا في البيئة التي عاش فيها النبي «صلى اللّه عليه و آله» كقوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ (5)و غير ذلك من الآيات التي تشير إلى دقائق و حقائق علمية في مختلف
ص: 303
العلوم و الفنون.
و ربما يقال: إن إعجازه إنما هو في نظامه التشريعي الذي جاء به، و الذي لا يمكن لرجل عاش في بيئة كالبيئة التي عاش فيها الرسول الأعظم «صلى اللّه عليه و آله» و عانى من الظروف و الأحوال الاجتماعية، و مستوى الثقافة في ذلك العصر، أن يأتي بمثل ذلك مهما كان عظيما في فكره، و ذكائه، و سعة أفقه.
و لربما نجد الإشارة إلى هذين الرأيين في قوله تعالى:
قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (1) .
و أخيرا، فلربما يقال: إن إعجاز القرآن هو في عدم وجود الاختلاف فيه، و لذلك ترى أنه قد تحداهم بذلك فقال:
أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً (2) .
و ثمة إشارات أخرى لجزئيات ربما يدخل أكثرها فيما قدمناه. . و لعل فيما ذكرناه كفاية.
و ثمة قول آخر، أكثر شيوعا و معروفية و لا سيما بين القدماء، و هو إعجاز القرآن في الفصاحة و البلاغة، و قد كتبوا في هذا الموضوع الشيء الكثير قديما و حديثا.
ص: 304
أما نحن فنقول: إن هذا الأخير هو السر الأعظم في إعجاز القرآن الكريم حقا، و هو يستبطن سائر الجوانب الإعجازية المذكورة آنفا و غيرها مما لم نذكره (1).
و أما لماذا هذا الأخير فقط دون سواه؟ ! فإن ذلك واضح، حيث إننا نقصد ب «البلاغة» معنى أوسع مما يقصده علماء المعاني و البيان، و هذا المعنى يستبطن جميع وجوه الإعجاز و ينطبق عليها، و بيان ذلك يحتاج إلى شيء من البسط في البيان فنقول:
إنه إذا كان الرسول «صلى اللّه عليه و آله» قد أرسل للناس كافة فلا بد أن تكون معجزته بحيث يستطيع كل من واجهها:
أن يدرك إعجازها، و أنها أمر خارق للعادة و أنها صادرة عن قدرة عليا، و قوة قاهرة، تهيمن على النواميس الطبيعية، و تقهرها، و إلا فإنه إذا جاء شخص مثلا إلى بلد، و ادّعى أنه يعرف اللغة الفلانية، و لم يكن أحد في البلد يعرف شيئا من تلك اللغة، و لا سمع بها، فإنهم لا يستطيعون أن
ص: 305
يحكموا بصدقه و لا بكذبه، إذ ليس لهم طريق لإثبات هذا الصدق أو الكذب.
و أما إذا ادّعى أمرا لهم خبرة فيه، و استطاعوا أن يتلمسوا فيه مواقع خرقه للنواميس الطبيعية فلا بد لهم من التسليم له و القبول بدعوته؛ لأن ذلك يكون قاطعا لعذرهم، و موجبا لخضوع عقولهم لما يأتي به.
و بكلمة موجزة نقول: لا بد أن تكون معجزة النبي في كل عصر متناسبة مع خبرات ذلك العصر، و لكل من أرسل إليهم؛ ليمكن إثبات إعجازها لهم، و إقامة الحجة عليهم.
و إذا كان القرآن قد تحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فلا بد أن يكون وجه الإعجاز فيه ساريا ليصل حتى إلى أصغر سورة فيه.
و إذا نظرنا إلى ما ذكروه آنفا، فإننا نجد أن بعض السور لا تشتمل على شيء مما ذكروه، مع أن التحدي به وارد.
أضف إلى ذلك: أن الإخبار بالغيب مثلا لا يمكن أن يكون قاطعا لعذر من ألقي إليهم إلا بعد تحقق المخبر عنه، و قد يطول ذلك إلى سنوات عديدة، أما من يأتون بعد ذلك فلربما يصعب عليهم الجزم بتحقق ما أخبر به.
أما القضايا العلمية، فلربما لا يكون من بينهم من له الخبرات اللازمة في تلك العلوم؛ ليمكن إدراك الإعجاز فيها؛ فإن ذلك رهن بتقدم العلم، و تمكن العلماء من استجلاء تلك الحقائق من القرآن.
و حتى لو أدرك ذلك بعضهم، فلربما يحمله اللجاج، أو غير ذلك من مصالحه الشخصية (بنظره) على إنكار ذلك و إخفائه.
كما كان الحال بالنسبة إلى أهل الكتاب، الذين كانوا يعرفون النبي «صلى اللّه
ص: 306
عليه و آله» كما يعرفون أبناءهم، و يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل، و لكن الأحبار و الرهبان أخفوا ذلك و أنكروه لمصالح شخصية، أو لغير ذلك، مما وجدوا فيه مبررا للإقدام على خداع أنفسهم، و خداع غيرهم، و هكذا يقال بالنسبة للإعجاز التشريعي، و غير ذلك من أمور.
و يبقى سؤال:
ما هو وجه الإعجاز في القرآن إذا؟
و في مقام الإجابة على هذا السؤال نقول:
قبل كل شيء ينبغي التذكير بأن ما ذكرناه آنفا، لا يعني أن الإخبار بالغيب، و غير ذلك مما ذكرناه، و مما لم نذكره، غير موجود في القرآن، بل هو موجود فيه بأجلى مظاهره و أعظمها، و هي معجزات أيضا لكل أحد، و لكننا نقول:
إن ذلك ليس هو الملاك الأول و الأخير لإعجاز القرآن، و إنما ملاك الإعجاز فيه هو أمر يستطيع كل أحد أن يدركه، و أن يفهمه، و هو أمر تشتمل عليه حتى السورة التي لا تزيد على السطر الواحد، كسورة الكوثر مثلا. و هو أيضا أمر يجده كل أحد، مهما كان تخصصه، و مهما كان مستواه الفكري، و أيا كان نوع ثقافته، و في أي عصر، و في أي ظرف، و هو كذلك أمر يشمل كل ما تقدم و سواه مما لم نذكره، و يضمه تحت جناحيه؛ و ذلك الأمر هو:
فأما أن ما تقدم يرجع: إلى البلاغة؛ فلأن حقيقة البلاغة-كما عرفوها-
ص: 307
هي: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو للاعتبار المناسب، و القرآن مطابق لمقتضى الحال دائما و في كل زمان، و إلى الا بد و مع كل شخص؛ لأنه خطاب لهم جميعا، و معجز لهم جميعا؛ فحين يخبر عن الغيب، فإنما اقتضى الحال ذلك. و كذلك حين يكشف عن أسرار الكون، و خفايا الطبيعة، و يشير إلى بعض الحقائق العلمية، و كذلك أيضا حين يضع أعظم تشريع، و أروع نظام عرفته الإنسانية، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره و ما لم نذكره.
بل أن تكون ظروف نشأة الرسول الأعظم هي تلك، فإن ذلك له أهمية كبرى في قبول الدعوة، و الإذعان لها، و كذلك فإن الكلام الذي يختلف صدره و ذيله، أو يختلف من وقت لآخر، مع كون الهدف واحدا، و المخاطب و المتكلم واحدا، لا يمكن أن يكون بليغا، و لا مطابقا لمقتضى الحال، كما يقولون.
و أما كيف عجزت الإنس و الجن عن مجاراة هذا القرآن؟ و كيف أمكن اعتبار البلاغة القرآنية هي سر الإعجاز فيه؟ فإن ذلك يحتاج إلى توسع في القول، و بسط في البيان، فنقول:
إن لدلالة الكلام على المعنى في مقام التفهم و التفهيم شروطا:
منها: أن يكون اللفظ الذي يلقيه المتكلم قادرا على تحمل المعنى المطلوب، بأي نحو من أنحاء التحمل، سواء من حيث مفردات الجملة، أو من حيث نوعية تركيبها، أو من جهة المقايسة بينها و بين غيرها.
و منها: أن يكون المستوى الفكري و الثقافي للمتكلم بحيث يستطيع أن يقصد تلك المعاني التي يقدر اللفظ على تحملها.
ص: 308
و منها: أن يكون ذلك المعنى منسجما أيضا مع نوعية اختصاص ذلك المتكلم، و مع مراميه و أهدافه.
و منها: قدرة المخاطب أو المخاطبين على استيعاب مقصود المتكلم، و لو على امتداد الزمن.
هذه هي الشروط التي لا بد أن تتوفر في عملية التفهم و التفهيم بين كل متكلم و مخاطب.
و لكن ذلك يحتاج إلى توضيح و تطبيق بالنسبة لما نحن بصدده، فنقول:
و في مجال التوضيح و التطبيق نقول:
إن اللغة العربية بما لها من خصائص و مميزات أقدر اللغات إطلاقا على تحمل المعاني، فنجد أنهم يذكرون للجملة المؤلفة من كلمتين فقط عشرات الخصائص و المميزات التي تشير كل منها إلى العديد من الآثار المحتملة، التي يمكن للفظ أن يتحملها بالنسبة للمعنى المدلول، فالمسند إليه مثلا تارة يكون اسما جامدا و أخرى مشتقا، و تارة يكون ظاهرا، و أخرى مضمرا، مقدما أو مؤخرا، محذوفا أو مذكورا، منكرا أو معرفا، و التعريف لكل واحد منها له أنحاء، لكل منها آثار و إشارات لخصوصيات في المعنى.
و كذا الحال في جانب المسند، الذي تارة يكون فعلا-بأقسامه الثلاثة- و أخرى اسما، جامدا، أو مشتقا، معرفا أو منكرا، مقدما أو مؤخرا، مذكورا أو محذوفا، إلى آخر ما هنالك، و كل واحدة من هذه لها آثار مختلفة و متعددة يحتمل إرادتها أيضا.
ص: 309
فمثلا قد يكون ذكره للتحقير أو عكسه، أو للتبرك به، أو إيهام استلذاذه، أو للتنبيه على غباوة السامع، أو للتقرير، أو للإيضاح، إلى غير ذلك.
و قد يحذف للتعظيم، أو للتحقير، أو للاستغناء عنه، أو لإيقاع السامع في حيرة، إلى غير ذلك مما هو مذكور في محله.
و كذا سائر الخصوصيات التي ذكرناها، و ما لم نذكره أكثر بكثير.
هذا بالإضافة: إلى الاستعارات، و الكنايات، و التعريضات، و الإشارات، و غير ذلك مما تكفل لبيانه علم المعاني و البيان و البديع.
حتى إنهم ليذكرون العديد من الامتيازات لقوله تعالى: فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ (1)على ما كان أبلغ كلام عند العرب، و هو قولهم: «القتل أنفى للقتل» .
و يكفي أن نشير: إلى أن جملة زيد قائم، إذا لوحظ المسند إليه فيها فإنه ظاهر، و مقدم، و معرف بالعلمية، و كل من هذه الثلاثة يقع على حالات كثيرة، و كذا الحال بالنسبة للمسند و هو كلمة: قائم.
ثم لا بد من ملاحظة الهيئة التركيبية، و موقعها من غيرها، و مع ما لها من متعلقات.
و هكذا يتضح: أن الجملة الواحدة ربما تفيد معنى له العديد من الخصوصيات الهامة، فكيف إذا لوحظت تلك الجملة مع غيرها من الهيئات التركيبية الأخرى، ثم أريد استخلاص المعاني من المجموع؟
ص: 310
هذا كله، بالإضافة إلى لزوم معرفة أساليب العرب، و طرائق استعمالاتهم للكلام و مقاماتها، فإن ذلك يفيد كثيرا في الوقوف على معاني القرآن، و فهم مراميه.
و قد روي: أن بعضهم كان في مجلس الإمام السجاد «عليه السلام» ؛ فقال له: يا ابن رسول اللّه، كيف يعاتب اللّه، و يوبخ هؤلاء الأخلاف على قبائح أتاها أسلافهم، و هو يقول: لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ؟ ! (1).
فقال زين العابدين «عليه السلام» : «إن القرآن نزل بلغة العرب، فهو يخاطب فيه أهل اللسان بلغتهم؛ يقول الرجل التميمي، قد أغار قومه على بلد، و قتلوا من فيه: أغرتم على بلد كذا، و فعلتم كذا؟ !
و يقول العربي: نحن فعلنا ببني فلان، و نحن سبينا آل فلان، و نحن خربنا بلد كذا، لا يريد أنهم باشروا ذلك، و لكن يريد هؤلاء بالعذل، و أولئك بالافتخار: أن قومهم فعلوا كذا.
و قول اللّه عز و جل هذه الآيات إنما هو توبيخ لأسلافهم، و توبيخ العذل على هؤلاء الموجودين؛ لأن ذلك هو اللغة التي نزل بها القرآن؛ و لأن هؤلاء الأخلاف أيضا راضون بما فعل أسلافهم، مصوبون لهم؛ فجاز أن يقال: أنتم فعلتم؛ إذ رضيتم قبح فعلهم» (2).
و لا بد أيضا من معرفة خصوصيات الألفاظ و أسرار اختياراتها لمواقعها، و قد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ
ص: 311
جَهَنَّمَ (1) .
قال ابن الزبعرى: فنحن نعبد الملائكة و اليهود تعبد عزيرا، و النصارى تعبد عيسى «عليه السلام» فأخبر النبي «صلى اللّه عليه و آله» فقال: يا ويل أمه، أما علم إن «ما» لما لا يعقل و «من» لمن يعقل إلخ (2).
هذا، و لقدرة اللغة العربية على تحمل المعاني الدقيقة و العميقة، نجد أن اللّه تعالى قد اختارها لتكون لغة القرآن، و قد نوه بذلك، و وجه إليه الأنظار و الأفكار، و دعا إلى استخلاص المعاني الدقيقة من كتابه الكريم فقال: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)و قال: كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (4)و قال: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ، عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ، بِلِسٰانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (5)إلى غير ذلك من الآيات، فلننظر بدقة إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و إلى قوله: مُبِينٍ فإنه كله يشير إلى ما ذكرنا.
و بالنسبة للمستوى الفكري، و هو الشرط الثاني نقول:
لو قال شخص عادي لا اطلاع له على شيء من العلوم: «كل شيء يحتاج إلى علة» ، فإننا لا نفكر في مقصوده كثيرا، بل ينتقل ذهننا مباشرة إلى
ص: 312
أن مراده هو المؤثر الظاهري في وجود الشيء؛ فإذا أراد شخص أن يقول:
لعله أراد العلة الغائية أو المادية، أو الصورية، أو قصد بالعلة السبب، أو العلة التامة و نحو ذلك.
فإننا نقول له فورا: لا، إن كلامه لا يدل على ذلك و لا ينظر إليه، و لكن لو قال نفس هذه الكلمة ابن سينا مثلا؛ فإننا لا بد أن نفكر لنعرف: هل أراد بالعلة واحدا مما تقدم أم لا؟ .
و هل أراد بالشيء البسيط أم المركب؟ !
و هل؟ و هل؟ إلى آخر ما هنالك من احتمالات يمكن لابن سينا أن يقصدها من كلمة كهذه.
و إذا كان القائل طبيبا مثلا فإننا لا بد أن نفتش عن معان تتناسب مع اختصاصه و نوع ثقافته، و حتى أهدافه، فإن كل ذلك يؤثر تأثيرا كبيرا في تفهيم المعنى، و معرفة نوعه و مستواه، حيث لا بد أن ينسجم مع تلك الأهداف، و يتلاءم مع المستوى الثقافي و الفكري للمتكلم.
و أما إذا كان القائل يمتاز بسعة الأفق و الشمولية، كأمير المؤمنين «عليه السلام» ؛ فإننا لا بد أن نعد أنفسنا لطرح أي احتمال يتناسب مع شخصية و مستوى و ثقافة و أهداف أمير المؤمنين «عليه السلام» ، و لا بد أن نبحث الأعوام و السنين لنتمكن من التقرب-و لو بشكل محدود-إلى مراميه و أهدافه؛ لأن فهم جميع الخصوصيات التي يرمي إليها المتكلم لا يمكن إلا من قبل من يداني ذلك المتكلم في سعة الأفق، و الشمولية، و عمق الفكر، و الغوص في لجج الحقائق، و أين يمكن أن يوجد من هو مثل علي «عليه السلام» في مستواه العلمي الشامخ، سوى معلمه و أستاذه، النبي الأعظم
ص: 313
«صلى اللّه عليه و آله» ، ثم الأئمة «عليهم السلام» من ولده؟
و لعل إلى هذا يشير ما روي عنه «صلى اللّه عليه و آله» : يا علي، ما عرف اللّه إلا أنا و أنت، و لا عرفني إلا اللّه و أنت، و لا عرفك إلا اللّه و أنا (1).
و بعد هذا فقد أصبح من الواضح: أن اللّه سبحانه و تعالى، و هو محيط بالكائنات، و مهيمن على كل الموجودات، و ليس لعلمه حد محدود، و لا لصفته نعت موجود، إذا اختار اللغة العربية ليحملها بعض مراميه و أهدافه-و هي اللغة القادرة على التحمل بشكل مذهل و هائل، و لا تضارعها في ذلك أية لغة أخرى-فإن هذا الإنسان المحدود في ملكاته، و قدراته، و طاقاته النفسية، و الفكرية، و غيرها، لا يمكنه حتى و لو بقي أبد الدهر، و حتى لو استعان بكل مخلوق و موجود، و سخر كل ما لديه من طاقات و إمكانات-لا يمكنه-أن يكتشف إلا القليل القليل من المعارف القرآنية، و لن يكون بإمكانه أن يأتي هو و كل من معه بمثل هذا القرآن، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
إذن، فلا بد أن نبقى ننتظر-باستمرار-أن يكتشف الإنسان كل جديد في هذا القرآن، تبعا لتقدم معارفه، و نمو قدراته الفكرية و الثقافية.
و هذا تاريخ القرآن عبر القرون و الأجيال، خير شاهد و دليل على ما نقول؛ حيث إننا نلاحظ:
أن كل عصر يمتاز بتقدم علم أو علوم، و يتألق فيه نجمها، و يقوى
ص: 314
سلطانها، ثم تعود تدريجا لتتراجع أمام زحف علم أو علوم أخرى لتحتل هي بدورها أيضا مكان الصدارة في البحث و العمق و التحقيق و هكذا، و لكن هذا القرآن العظيم يبقى هو المهيمن في العصور كلها على العلوم و العلماء جميعا، و يدرك الكل أنه فوق مستواهم، و لا تبلغه عقولهم، و لا تناله قدراتهم، و يجدون فيه ما يوجب خضوعهم لعظمته، و يدركون أنه لا يزال فيه ما يعجزون عن إدراكه، و الإحاطة به، فضلا عن مجاراته.
كما أنه مع اختلاف الثقافات، و الاتجاهات، و المستويات على مر العصور؛ فإن الكل يجدون هذا القرآن مطابقا لمقتضى الحال دائما و منسجما معه، و هذا هو الإعجاز حقا! !
و خلاصة الأمر: هذه المئات من السنين تمر، و الأجيال تأتي و تذهب، و الإنسان لا يزال يكتشف المزيد من معارف القرآن، و أسراره، و مراميه، و كلما توصل إلى شيء، فإنه يجد أن هذا القرآن ليس فقط قد جاء بمعارف و مرام لا تتناسب مع عقلية و ثقافة عصر نزوله-الأمر الذي يؤكد على أنه من عند اللّه تعالى-و إنما يتجاوز ذلك كله، ليثبت لكل أحد: أن أغواره لا تزال تحتضن المزيد من المعاني و الأسرار، التي يرى هذا الإنسان نفسه عاجزا عن الوصول إليها و الحصول عليها.
و أكثر من ذلك، فلقد أصبح معروفا: أن الإنسان كلما أعاد قراءة هذا القرآن؛ فإنه يجده جديدا عليه في معانيه و مراميه، و ذلك بسبب اختلاف حالات و توجهات الإنسان، و نوعية الصور الحاضرة آنيا لديه، و الأجواء و الحالات النفسية المهيمنة عليه.
و هذه خصوصية ثابتة في القرآن لا تتغير و لا تتبدل على مر الدهور
ص: 315
و العصور، و سيأتي أنه كلما ذهب قرن يأتي قرن آخر؛ فيطلعون على معنى جديد للآيات القرآنية و لا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة، على اعتبار أنه كلما ترقت البشرية في مداركها و معارفها، كلما كانت أقدر على اكتشاف معارف القرآن، و استكناه أسراره.
و عن أمير المؤمنين «عليه السلام» حول القرآن: «فيه علم ما مضى، و علم ما يأتي إلى يوم القيامة، و حكم ما بينكم، و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون» (1).
و عنه «عليه السلام» : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب» (2).
و عنهم «عليهم السلام» : «ظاهره أنيق، و باطنه عميق» .
و عنهم «عليهم السلام» : «ظاهره حكم، و باطنه علم» (3)، و ما يشير إلى هذا المعنى كثير جدا لا مجال لاستقصائه.
و لعل إلى جميع ذلك يشير ما ورد عن الإمام الصادق و عن الإمام الحسين «عليهما السلام» :
«كتاب اللّه على أربعة أشياء، على العبارة، و الإشارة، و اللطائف، و الحقائق؛ فالعبارة للعوام، و الإشارة للخواص، و اللطائف للأولياء، و الحقائق للأنبياء» (4).
ص: 316
و مما تقدم نعرف: أن ترجمة القرآن و تفسيره غير ممكنين لهذا الإنسان المحدود بحدود الزمان و المكان، و غير المحيط بكل العلاقات الكونية، و لا المطّلع على النواميس الطبيعية، في مختلف المجالات.
نعم، يمكن لمن يتصدى لترجمة القرآن أو لتفسيره أن يقول: هذا ما فهمته من القرآن، بحسب ما توفر لدي من أدوات تساعد على اكتشاف المعاني، من المفردات و الهيئات التركيبية، و بحسب مستوى ثقافتي و معارفي و قدراتي المحدودة بالنسبة إلى اللّه الذي ليس لعلمه حد.
قد تقدم آنفا عن أمير المؤمنين «عليه السلام» : لو أردت أن أوقر على الفاتحة سبعين بعيرا لفعلت أو بما معناه، و يظهر صدق قوله هذا مما ذكرناه.
و يمكن بعد هذا: أن نفهم معنى قولهم «عليهم السلام» : إن للقرآن ظهرا و بطنا، أو أكثر، و قد روي هذا المعنى من طرق غير الشيعة أيضا، و فسر بما يشير إلى ما ذكرناه.
ففي خطبة منسوبة له «صلى اللّه عليه و آله» : «له ظهر و بطن، فظاهره حكم، و باطنه علم، لا تحصى عجائبه، و لا يشبع منه علماؤه» (1).
و عنه «صلى اللّه عليه و آله» : «ما في كتاب اللّه آية إلا و لها ظهر و بطن،
ص: 317
و لكل حد مطلع» (1).
قال ابن المبارك: «سمعت غير واحد في هذا الحديث:
ما في كتاب اللّه آية إلا و لها ظهر و بطن، يقول: لها تفسير ظاهر، و تفسير خفي، و لكل حد مطلع، يقول:
يطلع عليه قوم فيستعملونه على تلك المعاني، ثم يذهب ذلك القرن، فيجيء قرن آخر، فيطلعون منها على معنى آخر، فيذهب عليه ما كان عليه من كان قبلهم؛ فلا يزال الناس على ذلك إلى يوم القيامة» (2).
و عن ابن عباس قال: «إن القرآن ذو شجون، و فنون، و بطون، و محكم، و متشابه، و ظهر و بطن، فظهره التلاوة، و بطنه التأويل» (3).
و عن الحسن البصري: ما أنزل اللّه عز و جل آية إلا و لها ظهر و بطن، و لكل حرف حد، و كل حد مطلع (4).
و عن ابن مسعود: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا
ص: 318
و له ظهر و بطن و إن علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر و الباطن» (1).
و أوضح من ذلك في الدلالة على ما ذكرناه، ما نقل عن أبي الدرداء: «لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة» (2).
و قال علي «عليه السلام» لابن عباس، حينما أرسله لحجاج الخوارج: «القرآن حمال ذو وجوه» (3). و راجع ما يروى عن الإمام أبي جعفر «عليه السلام» حول أن للقرآن ظهرا و بطنا في المصادر المعدة لذلك (4).
ص: 319
بل قال بعضهم: إن الأخبار تدل على أن «للقرآن بطونا سبعة أو سبعين» (1).
و قد ألفوا كتبا فيما تضمنه القرآن من علم الباطن (2).
و إذن فلماذا ينسب القول بأن للقرآن بطنا و ظهرا إلى الشيعة فقط؟ !
و لماذا أيضا يشنعون على الشيعة إذا تفوهوا بهذا الأمر، أو كتبوه، إذا كانت الروايات الدالة عليه موجودة عند غيرهم، كما هي موجودة عندهم؟ !
و إذا كان معنى الظهر و البطن: هو أن يكون ذلك المعنى الذي يزاح عنه الستار مما يمكن للفظ أن يتحمله، و للمتكلم أن يقصده ليكون بالنسبة للبعض بمنزلة البطن لهذا المعنى المكشوف؛ فأي محذور عقلي أو شرعي يحصل من الالتزام بهذا؟ !
و ليكن للقرآن بطون سبعة أو سبعون، أو أكثر، يكتشفها هذا الإنسان كلما ترقى في مدارج المعرفة، أو يكشفها له الأئمة الراسخون في العلم، الذين أشار إليهم القرآن الكريم.
و بعد، فإن من الواضح: أن الطهارة من الذنوب تعين على فهم القرآن، ففي دعاء ختم القرآن عن زين العابدين «عليه السلام» قال: «و اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنسا، و من نزغات الشيطان، و خطرات
ص: 320
الوساوس حارسا، و لأقدامنا عن نقلها إلى المعاصي حابسا، و لألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرسا، و لجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجرا، و لما طوت الغفلة عنا من تصفح الاعتبار ناشرا، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه، و زواجر أمثاله إلخ» (1).
هذا و قد أشير إلى وجود المحكم و المتشابه في القرآن في قوله تعالى: مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ (2).
هذا، مع العلم بأن اللّه تعالى لا يريد أن ينزل لعباده كتابا فيه الألغاز و الأحاجي، بل هو كما قال تعالى: كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ (3). و قال: إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (4).
إذن، فلا بد أن يراد بالمتشابه معنى ينسجم مع واقع القرآن و أهدافه، و لعل التأمل فيما قدمناه يسهل علينا فهم المراد منه، و لأجل إيضاح ذلك نقول:
إن المتشابه هو الكلام الذي لا ينبئ ظاهره عن المراد، بل يحتمل من لم يكن راسخا في العلم فيه وجوها من المعاني، التي لا يكون بعضها منسجما
ص: 321
مع أهداف و مبادئ المتكلم، و لكن لو دقق في اللفظ و في خصوصياته، و جمع بين بعضها البعض لأمكنه إدراك عدم إمكان تحملها لذلك المعنى الفاسد.
و لأجل ذلك، نجد الذين في قلوبهم زيغ يحاولون انتهاز الفرصة للتشبث بهذا النوع من الآيات ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله، و عطف اتجاهه؛ ليلائم أهواءهم، و من أجل الطعن في القرآن و الإسلام وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلىٰ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ (1)، لأنهم يردون المتشابه إلى المحكم الذي يبين أهداف و مرامي اللّه تعالى، و يوجه التعبير في المتشابهات ليفيد المعنى المقصود، و يبين بعض ما خفي من وجوهه و خصوصياته.
و ينقل الرازي: أن من الملاحدة من طعن في القرآن لاشتماله على المتشابه، إذ كيف يكون مرجعا للناس في كل عصر، مع وفرة دواعي الاختلاف فيه؛ حيث يجد كل صاحب مذهب فيه مأربه؛ فإن هذا لا يصدر عن الحكيم (2).
و لعل ما ذكرناه فيما تقدم يكفي في الإجابة عن هذه الترهات. و نزيد هنا ما ذكره العلامة الطباطبائي، فإنه قال ما حاصله:
إنه كان لا محيص عن وقوع التشابه في القرآن، لأنه كان يجري في تعابيره الرقيقة مع أساليب القوم، مع سمو معناه، و عمق مغزاه، في مقابل
ص: 322
انحطاطهم في المستوى الفكري و الثقافي.
و قد جاء القرآن بمفاهيم جديدة، كانت غريبة عن نوعية أفكار و مفاهيم المجتمع البشري آنذاك، و لا سيما في جزيرة العرب، البعيدة عن الثقافة و المعرفة، في حين التزامه في التعبير عن تلك المقاصد العالية بنفس الأساليب التي كانت معروفة في ذلك العهد، الأمر الذي ضاق بتلك الألفاظ التي كانت موضوعة للتعبير عن معان محسوسة، أو قريبة من الحس، و محدودة في نطاق ضيق، تتناسب مع ذهنية العربي و ثقافته و التعبير عن معان مبتذلة-لقد ضاق الأمر بتلك الألفاظ-عن أن تحيط بتلك المفاهيم الرحبة الآفاق، البعيدة الأغوار، و جاء استعمال تلك الألفاظ للتعبير عن هذه المقاصد العالية غريبا عن المألوف العام، و عن ذهنية الإنسان العادي.
و من ثم، فقد قصرت أفهامهم عن إدراك حقائقها و دقائقها، و لا سيما حين رأوا:
أن القرآن يستعمل في التعبير عن مقاصده صنوف المجاز، و الاستعارات، و التشبيهات، و الكنايات، و دقائق الإشارات، و استعمل مختلف خصائص اللغة العربية، سواء منها ما يتعلق بالمفردات، أو بالهيئات التركيبية؛ ليمكن إخضاع تلك المعاني السامية للقوالب اللفظية المحدودة و المألوفة.
و كان ذلك سببا في تقريب تلك المعاني إلى أفهام العامة، من حيث أنه أخضعها للقوالب اللفظية، المأنوسة و المألوفة لديهم، و سببا في بعدها، من حيث عدم قدرة تلك القوالب اللفظية على استيعاب معان لم تكن هي
ص: 323
مستعدة للتعبير عن مثلها (1)، إلا بالتوسل بلطائف الإشارات و الكنايات، و دقائق الخصائص اللفظية للتعبير عنها، حسبما أشرنا إليه من قبل، فصعب على الإنسان العادي إدراك تلك المقاصد العالية، و اشتبه عليه الأمر؛ فكان لا بد له من الاستعانة بالراسخين في العلم، الذين اختصهم اللّه بفضله و كرمه لإيضاح مقاصده و أهدافه و مراميه، ممن كانوا على مستوى رفيع من عمق الفهم، و سلامة التفكير، و نفذت بصيرتهم إلى الحقائق الراهنة، فنالوها، و هم أئمة أهل البيت الأطهار «عليهم السلام» .
لقد أشير إلى التأويل في القرآن الكريم، و أن ثمة من يعرف هذا التأويل، و هم الراسخون في العلم، و إن كانوا يعترفون بعجزهم عن إدراك كل الملابسات التي يمكن أن تكتنف هذا المعنى المقصود، إلا إذا أوقفهم اللّه تعالى على ذلك.
قال تعالى: وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا (2).
و قد رأينا: أن بعض الفئات الضالة تحاول الاستفادة من موضوع التأويل بما يخدم أهدافها الهدامة، و مذاهبها الضالة، فجاؤوا بالتأويلات
ص: 324
التي تضحك الثكلى، حتى إنك لتجد بعض الأحزاب المنحرفة من الذين يعتنقون الماركسية، و يتظاهرون بالإسلام، يحاولون تفسير الإسلام و القرآن بحيث ينسجم مع الماركسية التي تناقضه أساسا، فيقولون-مثلا-في قوله تعالى: قُلْ لِعِبٰادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاٰ خِلاٰلٌ (1).
-يقولون-: إن المراد بهذا اليوم ليس هو يوم القيامة، و إنما المراد به اليوم الذي تتحقق فيه الاشتراكية، و يزول النظام الطبقي، و تنتفي فيه الملكية الشخصية (2).
بل قالوا: إن المقصود بالمعاد في الإسلام و القرآن، هو القضاء على النظام الطبقي في المجتمع ليس إلا، إلى غير ذلك من ترهات بعيدة عن روح الإسلام و القرآن، جاء بها هؤلاء و غيرهم من الفئات الضالة.
و الحقيقة هي: أن هذا ليس هو التأويل الذي أشار إليه القرآن، و إنما هو التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه بشدة من قبل المعصومين «عليهم السلام» ، و هذا بعينه هو اتباع ما تشابه من القرآن، ابتغاء الفتنة، و ابتغاء تأويله.
أما التأويل الذي لا يعلمه إلا اللّه و الراسخون في العلم، الذين هم أهل البيت «عليهم السلام» ، حسب نص الروايات (3)، فهو معرفة ما يؤول
ص: 325
إليه الأمر، بحسب ما تضمنه الكلام من إشارات و دلالات؛ كقوله: هٰذٰا تَأْوِيلُ رُءْيٰايَ (1).
و بعبارة أخرى: التأويل هو الكشف عن المرامي و المعاني التي يشير إليها اللفظ، بما له من خصوصيات في مفرداته، و هيئاته التركيبية، و بعد مقايسته بغيره و ملاحظة مدى انسجام ذلك المعنى مع مبادئ و أهداف المتكلم نفسه.
و إذا ما أريد الوصول إلى واقع المعنى من الآيات القرآنية بما له من خصوصيات و أحوال؛ فلا بد من الرجوع إلى من يتمكن بما أوتي من معارف و علوم، حتى أصبح من الراسخين في العلم، للكشف عن المعاني القرآنية الدقيقة، التي يخفى على غير الراسخين كيفية تحمل اللفظ لها، و إن كان بالنسبة إليهم ربما يكون من البديهات، فيرجعون ذلك المتشابه إلى ذلك المحكم.
و من هنا تبرز الحاجة المستمرة إلى هؤلاء الراسخين في العلم، الذين ورد في الروايات أنهم-بالذات-أئمة أهل البيت صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين، فالتأويل هو الكشف عما تؤول إليه المعاني، بواسطة معرفة سائر خصوصياتها و مراميها.
و قد كثر الحديث عن الحروف المقطعة الواردة في فواتح السور القرآنية، و تعددت و تشعبت الأقوال في ذلك، حتى عد المفسرون ما يقرب
ص: 326
من عشرين قولا حول المراد منها، نذكر منها ما يلي:
1-هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه سبحانه.
2-هي أسماء للسور التي وقعت في أوائلها.
3-إنها أسماء لمجموع القرآن.
4-إنها أسماء للّه سبحانه ف «ألم» معناها: أنا اللّه العالم و «ألمر» معناها: أنا اللّه أعلم و أرى. و هكذا.
5-إنها أسماء للّه مقطعة لو أحسن تأليفها لعلم اسم اللّه الأعظم، ف(ألر، و حم، و ن) . تصير: الرحمن. و هكذا.
6-إن هذه الحروف شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة و أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و أصول لغات الأمم. . و قد أقسم اللّه تعالى بهذه الحروف.
7-إنها إشارات إلى آلائه، سبحانه، و بلائه، و مدة الأقوام و أعمارهم و آجالهم! (1).
8-إنها إشارة إلى بقاء هذه الأمة بحسب حساب الجمل.
9-إنها تسكيت للكفار الذين تواصوا فيما بينهم أن: لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ (2)؛ فكانوا إذا سمعوا هذه الحروف استغربوها، و تفكروا فيها، فيقرع القرآن مسامعهم.
10-إنها للإشارة إلى معان في السورة؛ فكلمة «ن» إشارة إلى ما تشتمل
ص: 327
عليه السورة من النصر الموعود و كلمة «ق» إشارة إلى القرآن، أو إلى القهر (1).
إلى غير ذلك من أقوال لا مجال لتتبعها.
و لعل آخر ما يمكن أن يعتبر رأيا في هذا المجال. . هو ما ذكره بعض المتأخرين، و اعتبر بمثابة «إعجاز مدهش جديد للقرآن الكريم يكتشفه عالم مصري» ، و هو: أن هذه الحروف المقطعة تدخل كعنصر هام و حاسم في موضوع الإعجاز العددي للقرآن. .
و نحن لا نريد أن نسيء الظن فيما يتعلق بهذا الرأي، على اعتبار أنه يعتمد الرقم (19) ، و يتخذه محورا في مجمل استنتاجاته، و هو الرقم المقدس عند طائفة البهائية الضالة. .
كما أننا لا نريد المبالغة في التشاؤم إلى حد أن نعتبر أن ذلك يهدف إلى صرف الأنظار عن دقائق المعاني القرآنية الباهرة إلى الاهتمام بالظواهر و القوالب اللفظية.
لا. . لا نريد ذلك. . فإننا نأمل أن يكون ثمة قدر كبير من حسن النية، و سمو الهدف.
و إنما نريد أن نؤكد على أن بعض الباحثين (2)قد تتبع هذه النظرية بالبحث و التمحيص، حتى خرج بنتيجة حاسمة، مفادها: الجزم بخطأ هذه النظرية، و ذلك لعدم صحة الأرقام التي قدمتها، و اعتبرتها أساسا صالحا
ص: 328
للتدليل على قيمتها العلمية، فقد قال هذا المحقق الذي رمز لنفسه ب «أبو محمد» : قولهم: كلمة «اسم» تتكرر 19 مرة بالضبط.
أقول: ذكر في المعجم المفهرس عدد 19 تحت كلمة اسم و ذكر أن كلمة «بسم» تكررت ثلاث مرات في قوله تعالى: بِسْمِ اَللّٰهِ مَجْرٰاهٰا (1)، بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ (2). و إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللّٰهِ (3).
و ذكر كلمة «اسمه» .
و قال: إنها تكررت خمس مرات.
و قولهم: إن كلمة «الرحيم» تتكرر 114 مرة نقول: بل تتكرر 115 مرة بالضبط.
و قالوا: إن حرف «ن» قد تكرر في سورة القلم 133 أي أنه حاصل 19 ضرب 7.
و نقول: بل يتكرر 129 مرة فقط، و لو كررنا المشددات مثل أن فإن المجموع يصير أكثر من ذلك بكثير.
و قالوا: إن حرف «ص» يتكرر في كل من: سورة الأعراف التي أولها «ألمص» و سورة «ص» ، و سورة «مريم» التي أولها «كهيعص»153 أي أنه حاصل 19 ضرب 8.
و نقول: إن عدد الصادات في سورة الأعراف هو 90 صادا، و لعله قد
ص: 329
اشتبه علي واحد أو اثنان، و في سورة «مريم»24 «كذلك» و في سورة «ص» 27 مرة فليس المجموع 153 و لا في كل واحدة منها 153 أيضا (1).
أما العلامة الطباطبائي قدس سره، فقد أورد على الأقوال التي سلفت باستثناء هذا الأخير، حيث لم يذكره «قدس سره» . . بأن:
دعوى كون الحروف المقطعة من المتشابهات لا يصح، و ذلك لأن التشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها، و ليست الحروف المقطعة من هذا القبيل.
و أما سائر الأقوال، فإنما هي تصويرات لا تتعدى الاحتمال، و لا دليل يدل على شيء منها، و أما الروايات التي ربما يستظهر منها بعض التأييد لبعض تلك الأقوال، فقد ردها «رحمه اللّه» بضعف السند تارة و لضعف الدلالة أخرى، حيث لا يوجد فيها تقرير من النبي «صلى اللّه عليه و آله» لما فهمه الآخرون منها أو لأن مفاد الرواية أن هذه الحروف من قبيل الرمز لمعان تكرر بيانها، و لا حاجة لاستعمال الرمز في التعبير عنها.
ثم استظهر «رحمه اللّه» : أن هذه الحروف هي رمز بين اللّه سبحانه و بين رسوله، خفي عنا، لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها و بين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا، حيث وجد «رحمه اللّه» تشابها في سياق و في مضامين السور التي اشتركت حروف معينة في فواتحها، كالطواسين و الحواميم، و الميمات و الراءات و نحو ذلك.
ص: 330
و نقول:
إننا لا نستطيع الموافقة على ما ذكره رحمه اللّه تعالى، فإن القرآن ليس كتاب ألغاز، أو أحاج، و إنما أنزله اللّه تعالى:
هُدىً لِلنّٰاسِ (1) .
لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ (2) .
بِلِسٰانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (3) .
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (4) .
كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) .
و قد لاحظ بعض المحققين: أن تعقيب هذه الأحرف بأن هذا الكتاب «مبين» و واضح، و «أنه قرآن عربي لقوم يعلمون» ، أو «لعلكم تعقلون» لا يناسب كون تلك الألفاظ رموزا، أو من قبيل الألغاز و الأحاجي، قال تعالى في سورة يوسف:
الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (6) .
و مهما يكن من أمر، فإن لدينا من الشواهد و الدلائل ما يكفي لإعطاء
ص: 331
فكرة عن المراد من هذه الحروف، و نستطيع بيان ذلك في ضمن النقاط التالية:
1-إننا في نفس الوقت الذي نعتبر فيه أن ما سنذهب إليه ليس هو المقصود النهائي من هذه الأحرف، فإننا نؤكد على أننا لا نستبعد إرادة سائر المعاني، مما ذكر أو لم يذكر منها، إذا دلّ الدليل على إرادتها أيضا، فإن للقرآن ظهرا و بطنا، و لعل لاختلاف الأزمنة، و تقدم الفكر و العلم، تأثيرا في فهم الكثير من المعاني الأخرى، التي يمكن أن تكون هذه الأحرف مشيرة إليها، أو دالة عليها، بنحو من أنحاء الإشارة و الدلالة.
2-إننا نلاحظ: أننا لم نجد في التاريخ ما يشير إلى أن أيا من الصحابة أو من غيرهم من المشركين أو من أعداء الإسلام قد تصدى للسؤال أو الاستفهام عن معاني هذه الأحرف، و عما ترمي إليه. .
و لو سلمنا جدلا أن سكوت الصحابة يمكن أن يكون ناشئا عن إيمانهم العميق، و عن وصولهم إلى درجة التسليم و الخضوع لكل ما يأتي به النبي «صلى اللّه عليه و آله» نتيجة لما رأوه من الآيات الباهرة، و المعجزات القاهرة-رغم أن ذلك لا ينطبق على كثيرين غيرهم. . و رغم عدم منافاة ذلك للسؤال الاستفهامي عن أمر كهذا-فإننا لا نستطيع أن نفسر سكوت المشركين و غيرهم من أعداء الإسلام عن أمر كهذا، و هم في موقع التحدي و المجابهة، و يحاولون التشبث و لو بالطحلب للطعن في الإسلام و النبوة و القرآن، فسكوتهم هذا-و الحالة هذه-لا يعني إلا أنهم قد فهموا منها معنى قريبا إلى أذهانهم، و أن ذلك المعنى الذي فهموه كان يكفي للإجابة عما يمكن أن يراود أذهانهم من تساؤلات. .
ص: 332
3-إننا نجد: أن هذه الحروف قد وردت في تسع و عشرين سورة، ستة و عشرون منها نزلت في مكة، و ثلاث منها نزلت في المدينة.
و حتى هذه السور التي نزلت في المدينة يلاحظ: أن اثنتين منها قد نزلتا في أوائل الهجرة، حيث كان الوضع الديني و الإيماني فيها لا يختلف كثيرا عنه في مكة، و لا سيما مع وجود اليهود و شبهاتهم و مؤامراتهم إلى جانب المشركين فيها.
و واحدة منها و هي سورة الرعد قد نزلت بعد أن كثر الداخلون في الإسلام رغبا أو رهبا، و كثر المنافقون حتى ليرجع ابن أبي بثلث الجيش في غزوة أحد. .
و أصبح اليهود و غيرهم ممن و ترهم الإسلام يهتمون بالكيد للإسلام من الداخل، بعد أن عجزوا عن مقاومته عسكريا و فكريا، و عقائديا بشكل سافر. .
فجاءت سورة الرعد لتكرر التحدي بهذه المعجزة: القرآن، كأسلوب أمثل لبعث عمق عقيدي و إيماني جديد في المسلمين، و مواجهة غيرهم بالواقع الذي لا يجدون لمواجهته سبيلا إلا بالتسليم و البخوع و الانقياد له.
و هذا ما يفسر لنا السر في أننا نجد أسلوب و أجواء سورة الرعد لا تختلف كثيرا عن أجواء و أسلوب غيرها من السور المكية، و أن هنالك توافقا فيما بينها في إدانة و ضرب كل أساليب التضليل أو التزوير، و الصدود عن الحق. .
و نستطيع بعد كل ما تقدم أن نصل إلى النتيجة التالية، و هي:
أن ورود هذه الحروف في خصوص السور المكية، و في ثلاث سور
ص: 333
نزلت في أجواء لا تختلف كثيرا عن أجواء مكة ليدل دلالة قاطعة على أنها إنما جاءت في مقام التحدي للمشركين، و لأعداء الإسلام. . و أن عدم اعتراض هؤلاء، أو حتى عدم سؤالهم، و كذلك عدم سؤال أي من الصحابة المؤمنين عن معاني هذه الحروف إنما يشير إلى أنهم إنما فهموا منها معاني قريبة إلى أذهانهم، كافية للإجابة على ما ربما يختلج في نفوسهم من أسئلة حولها.
و ليس ذلك إلا ما ذكرنا من التحدي بهذا القرآن، المركب من أمثال هذه الحروف التي هي تحت اختيار الجميع، مع أنه يعجز عن مجاراته و الإتيان بمثله و حتى بسورة من مثله.
4-إننا إذا راجعنا الآيات التي وقعت بعد هذه الحروف، فإننا نجد:
ألف: أن جميع السور التي وقعت الحروف المقطعة في فواتحها باستثناء سورتين أو ثلاث نجد الآيات التي وقعت بعد هذه الحروف تتحدث عن الكتاب و آياته، أو القلم أو القرآن، و نحو ذلك كقوله تعالى:
المص، كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ (الأعراف).
الر كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّٰاسَ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ (إبراهيم).
حم، وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ، إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف).
الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود).
حم، وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ (الدخان).
ص: 334
ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ (ص).
ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مٰا يَسْطُرُونَ (القلم).
و حتى تلك السور الاثنتان أو الثلاث فإنه يمكن أن يكون في تلك القصة، أو الإخبارات الغيبية أو الحكم التي تذكر بعد هذه الحروف، من الإعجاز ما يكفي لأن يجعل تركيبها من أمثال تلك الحروف المذكورة، و عجز الجن و الإنس عن الإتيان بمثلها كافيا عن التصريح في ذلك. .
ب: إننا نجد أن الآيات التي وقعت بعد الأحرف المقطعة قد صدّرت باسم الإشارة ليكون خبرا عن الحروف المقطعة، لأنه إشارة لما قبله.
و لا يصح أن يكون إشارة لما بعده لأن ما بعده ليس الألف ليكون بدلا أو عطف بيان له. . و ذلك مثل قوله تعالى:
الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ، إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف).
الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (الحجر).
الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ (يونس).
و كذلك الحال بالنسبة لسورة الرعد، و الحجر و غيرهما من السور.
أما مثل قوله تعالى: الم ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ (البقرة)فالكتاب بدل أو عطف بيان.
ج: ما هو من قبيل قوله تعالى:
حم، تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ، كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (فصلت). فإن قوله تنزيل خبر لقوله: حم كما قاله الفراء،
ص: 335
و كما هو الظاهر. .
و جعل كتاب خبرا لتنزيل، لا يستسيغه الذوق السليم، و لا ينسجم مع المعنى المقصود، و لا سيما مع تنوين كلمة تنزيل و تنكيرها، و كذلك الحال في قوله تعالى:
الم، تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (السجدة).
حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ (المؤمن/غافر).
و كذا الحال فيما ورد في أول سورة الجاثية و الأحقاف. .
و قد أعرب المفسرون و غيرهم هذه الموارد على أن كلمة «تنزيل» خبر لمبتدأ محذوف، أو نحو ذلك مع أن إعرابها على النحو الذي ذكرناه هو الأنسب و الأظهر، و إن كان إعرابهم لا ينافي ما ذكرناه أيضا، فإن تقدير كلمة «هو» ، أو كلمة: «هذا» المقدرة مبتدأ ظاهرها الإشارة إلى ما قبلها أيضا. .
د: قوله تعالى:
حم، عسق، كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (الشورى).
فإن قوله: «كذلك» يشار بها في القرآن عادة إلى ما قبلها، أي كتلك الحروف التي سبقت يوحي إليك اللّه تعالى، أي إن آيات اللّه هي من جنس هذه الأحرف.
ه: و بعد، فلقد جاء في رواية عن الإمام العسكري صلوات اللّه و سلامه عليه، أنه قال: كذبت قريش و اليهود بالقرآن، و قالوا: سحر مبين تقوّله.
ص: 336
فقال اللّه: الم ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها «ألف، لام، ميم» و هو بلغتكم و حروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم.
ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله:
قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (1) » (2).
و ضعف هذه الرواية لا يضر ما دامت مؤيدة بما قدمناه من الشواهد و الدلائل. .
هذا على الرغم من أننا نجد في كلام المجلسي ما يشير إلى إمكان الاعتماد على روايات تفسير العسكري. . مع أننا لا نجد ما يبرر الوضع و الجعل في أمر كهذا. .
و أخيرا. . فإنه يمكن أن تكون في القصة التي تذكر بعد هذه الحروف المقطعة، أو في الحكم، أو التنبؤات من الإعجاز ما يكفي لأن يجعل تركبها من الحروف المذكورة في بداية السورة، و عجز الغير عن الإتيان بمثلها كافيا في ذلك.
ص: 337
و مع كل ما قدمناه، فإننا نعود و نؤكد على أن ما ذكرناه ليس هو كل المراد من هذه الحروف، فقد تكون لها إشارات و مرام أخرى تضاف إلى ما ذكرناه، و لا مانع من صحة كثير من الاحتمالات التي ذكرت في معانيها، و لربما يكون لاختلاف الأزمنة تأثير في فهم هذه المعاني، كما أشرنا إليه حين الكلام حول أن للقرآن ظهرا و بطنا.
ص: 338
1-الفهرس الإجمالي
2-الفهرس التفصيلي
ص: 339
ص: 340
القسم الثاني: ما قبل البعثة الباب الأول: البداية الطبيعية
الفصل الأول: ما قبل ميلاد النبي صلّى اللّه عليه و آله 15-70
الفصل الثاني: بحوث تسبق السيرة 71-136
الباب الثاني: من الميلاد إلى البعثة
الفصل الأول: عهد الطفولة 139-186
الفصل الثاني: خديجة في بيت النبي 187-222
الفصل الثالث: البعثة 223-282
القسم الثالث: من البعثة حتى الهجرة
الباب الأول: من البعثة إلى الإعلان بالدعوة
الفصل الأول: البعثة و المعجزة 287-338
الفهارس 339-351
ص: 341
ص: 342
إيضاحات ضرورية:5
القسم الثاني: ما قبل البعثة
الباب الأول: البداية الطبيعية للسيرة
الفصل الأول: ما قبل ميلاد النبي صلّى اللّه عليه و آله البداية الطبيعية:17
الوضع الجغرافي لشبه جزيرة العرب:17
الحضر في شبه جزيرة العرب:19
الحالة الاجتماعية عند العرب:20
المرأة في الجاهلية:21
شواهد عن حالة العرب في الجاهلية:22
علوم العرب:24
ميزات و خصائص:27
من امتيازات العرب:27
الإسلام و تلك الصفات:32
متى كان بناء مكة؟ !34
ص: 343
ألف: بناء الكعبة:35
ب: دعاء إبراهيم عليه السّلام:36
ج: تقديس الكعبة:37
الأصنام، و الكعبة:40
ولاية الكعبة:43
مكانة قريش:45
أنا ابن الذبيحين:47
من هو الذبيح:48
خلاصة و بيان:52
أهل الكتاب هم الداء الدوي:52
ملاحظات هامة:54
النسخ في قصة إبراهيم عليه السّلام:62
البداء عند الشيعة:63
التوضيح و التطبيق:64
إشكال. . و جوابه:66
اليهود، و البداء:68
الفصل الثاني: بحوث تسبق السيرة
البحث الأول:
إيمان آباء النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى آدم عليه السّلام:73
ص: 344
بعض الأدلة على إيمانهم:75
إستغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه:78
إن أبي و أباك في النار:81
غريبة:83
ملاحظة:84
البحث الثاني:
بماذا كان يدين النبي صلّى اللّه عليه و آله قبل البعثة:87
ملة أبيكم إبراهيم:90
و وجدك ضالا فهدى:92
أولو العزم:93
من الأساطير:94
إستلام الأصنام:97
البحث الثالث:
شروط النهضة:99
البحث الرابع:
العوامل المساعدة على انتصار الإسلام و انتشاره:105
1-منطلق الدعوة: مكة:105
2-خصائص شخصية الرسول صلّى اللّه عليه و آله:106
3-الحالة الاجتماعية:111
ص: 345
4-نوع معجزته صلّى اللّه عليه و آله:113
5-بشائر اليهود و النصاري به صلّى اللّه عليه و آله:115
مناطق سكنى أهل الكتاب:118
أهل الكتاب و هيمنتهم العلمية على العرب:119
6-الفراغ العقائدي و السياسي:122
أ-الفراغ العقائدي:122
ب-الفراغ السياسي:123
7-الحياة الصعبة، و التضحية بالنفس:127
8-بقايا الحنيفية في العرب:128
9-الخصائص و العادات العربية:129
10-دور أبي طالب:132
11-أموال خديجة عليها السّلام:132
12-جهاد علي عليه السّلام:133
تنبيه هام و ضروري:133
الباب الثاني: من الميلاد إلى البعثة
الفصل الأول: عهد الطفولة نسب النبي صلّى اللّه عليه و آله:141
مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله:142
تعقيب هام و ضروري:143
ص: 346
قصة كاذبة:145
مصير الدار التي ولد فيها صلّى اللّه عليه و آله:146
رضاعه صلّى اللّه عليه و آله:147
لماذا الرضاع في البادية؟ ! :148
أخوا النبي صلّى اللّه عليه و آله من الرضاعة:150
إرضاع ثويبة للرسول صلّى اللّه عليه و آله لا يصح:151
مع أبي عمر في ترجيحه للقول الثاني:154
توجيه غير وجيه:154
مناقشة غير موفقة:156
عدد أولاد عبد المطلب:158
أبو لهب و عتق ثويبة:158
شرك أبي لهب:162
تنازع الظئر في رضاعه:163
حديث شق الصدر:164
توجيه غير وجيه:165
رأينا في الرواية:167
المسيحيون و حديث شق الصدر:170
أصل الرواية جاهلي:171
فقد النبي صلّى اللّه عليه و آله لأبويه:173
ص: 347
كفيل النبي صلّى اللّه عليه و آله:174
الرحلة الأولى إلى الشام، و بحيرا:176
رواية مكذوبة:176
سر الوضع و الاختلاق:179
إشارات خاطفة في قصة بحيرا:180
رعيه صلّى اللّه عليه و آله الغنم:181
الفصل الثاني: خديجة في بيت النبي صلّى اللّه عليه و آله
السفر الثاني إلى الشام:189
زواجه صلّى اللّه عليه و آله بخديجة:191
خطبة أبي طالب رحمه اللّه:194
نظرة في كلمات أبي طالب رحمه اللّه:195
و دين شائع:196
مهر خديجة:197
عمر خديجة حين الزواج:200
يتيم قريش، أكذوبة مفضوحة:203
هل تزوج صلّى اللّه عليه و آله خديجة طمعا في مالها؟ !205
خديجة مثل أعلى:206
خديجة بين نساء قريش:207
هل تزوجت خديجة بأحد قبل النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ !207
ص: 348
زوجتا عثمان، هل هما ابنتا النبي صلّى اللّه عليه و آله؟ !213
هل زينب بنت الرسول صلّى اللّه عليه و آله أم ربيبته؟216
منافسون لعلي عليه السّلام:219
خؤولة هند بن أبي هالة للإمام الحسن عليه السّلام:219
الفصل الثالث: حتى البعثة
حضور النبي صلّى اللّه عليه و آله حرب الفجار:225
سر التلاعب في الروايات هنا:228
حلف الفضول:228
سبب هذا الحلف:230
بنو أمية و حلف الفضول:230
ملاحظة:234
ملاحظات هامة على حلف الفضول:235
تاريخ ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام:246
أول هاشمي ولد من هاشميين:248
ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام في الكعبة:249
لماذا حكيم بن حزام؟ !252
سر ولادة علي عليه السّلام في الكعبة:253
النبي صلّى اللّه عليه و آله لا يقتل أحدا؛ لماذا؟254
معالجة قضايا الروح و النفس:255
ص: 349
ولادة علي عليه السّلام في الكعبة صنع اللّه:256
الرصيد الوجداني آثار و سمات:256
ولادة علي عليه السّلام في الكعبة لطف بالأمة:257
تجديد بناء الكعبة أعزها اللّه تعالى:259
وضع الحجر الأسود:261
ملاحظات هامة:262
خرافة انحلال الإزار:265
طريق جمع فاشل:267
ثوبي حجر! !271
حياء عثمان:273
أهل الكتاب، و تعري الأنبياء عليهم السّلام:276
ولادة الزهراء عليها السّلام:276
القول الحق:278
القسم الثالث: من البعثة حتى الهجرة
الباب الأول: من البعثة إلى الإعلان بالدعوة
الفصل الأول: البعثة و المعجزة
عمر النبي صلّى اللّه عليه و آله حين البعثة:289
تاريخ البعثة، و كيفية نزول القرآن:290
بدء الوحي و أول ما أنزل:299
ص: 350
إعجاز القرآن 302
لماذا الأخير فقط؟ ! 305
بلاغة القرآن 307
البلاغة 307
الإعجاز بالبلاغة كيف؟ و لماذا؟ ! 308
التوضيح و التطبيق 309
ترجمة القرآن و تفسيره 317
للقرآن ظهر و بطن 317
التقوى تعين على فهم القرآن 320
المحكم و المتشابه 321
لابد من وجود المتشابه في القرآن 322
التأويل 324
الحروف المقطعة في القرآن 326
آخر ما نقوله حول الحروف المقطعة 337
الفهارس 339
1-الفهرس الإجمالي 341
2-الفهرس التفصيلي 343
ص: 351