تقریب القرآن الی الاذهان المجلد 5

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

[تتمة سورة فصلت

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 7

[سورة فصلت (41): الآيات 47 الى 48]

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

[48] و بمناسبة ما تقدم من أوصافه سبحانه، و ذكر المعاد، يأتي السياق يؤكد ذلك، حتى يعرف الناس، أن ما يعملون، إنما هو باطلاعه سبحانه، ثم يجازيهم عنه إِلَيْهِ سبحانه يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ التي هي القيامة، و المعنى أنه، إذا سئل عن وقت القيامة، رد علمه إلى اللّه، و قيل اللّه عالم، إذ لا يعلمه سواه وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي لا تخرج ثمرة من وعائها و غلافها، إلا بعلمه سبحانه، و أكمام جمع كم، و هو الغلاف، يقال تكمم الرجل بثوبه إذا تلفف به وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى إنسانا كان أو حيوانا وَ لا تَضَعُ مولودها إِلَّا بِعِلْمِهِ تعالى، و حيث إن القيامة عبارة عن ظهور عالم جديد، ناسب ذلك الإتيان بظهور الثمرة، و ظهور الحمل، و ظهور الولد،

فعلمه سبحانه عامّ لكل شي ء وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي اللّه سبحانه المشركين، قائلا لهم أَيْنَ شُرَكائِي الذين زعمتم أنهم مشتركون معي في صفة الألوهية؟ و هذا الاستفهام للتقريع قالُوا أي المشركين آذَنَّاكَ أي أعلمناك، و المعنى نعلمك و نعترف لك بأنه ما مِنَّا أي ليس منا جماعة المشركين مِنْ شَهِيدٍ يشهد بأن لك شريكا، يريدون بذلك التبرؤ من أعمالهم الإشراكية.

[49] وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي ضاع عنهم الآلهة، التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 8

[سورة فصلت (41): الآيات 49 الى 50]

لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50)

كانوا يعبدونها قبل يوم القيامة، في دار الدنيا، فلم يجدوها في المحشر وَ ظَنُّوا بأنهم ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي ملجأ و مهرب و إنما قال ظنوا حكاية عنهم، فإن الإنسان لا يقر نفسيا بما يؤلمه، و إن كان في قرارة نفسه يعلم بوصول المكروه إليه، أو إنهم ظنوا حقيقة لاحتمالهم النجاة.

[50] ثم يأتي السياق ليصف حال الكفار في الدنيا، بعد أن أرى جانبا من حالهم في الآخرة، ليبين وجه إصلائهم النار في الآخرة، إنه لانحرافهم في الدنيا، فبالإضافة إلى كفرهم، إنهم منسلخون عن الفضيلة لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ أي لا يمل و لا يكل مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ و يطلبه، فهو يدعو الخير و يطلبه لنفسه دائما أبدا لا قناعة له و لا رضى في نفسه، مما

حصل عليه بقدر الكفاية وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ مجرد إحساس، من فقر و مرض و خوف و ما أشبه فَيَؤُسٌ أي شديد اليأس من الفرج قَنُوطٌ من رحمة اللّه تعالى.

[51] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ أي أعطينا هذا الإنسان المتصف بتلك الصفة رَحْمَةً مِنَّا أي فرجا من كربه، بالصحة و الغنى بعد المرض و الفقر، أو ما أشبه ذلك مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي وصلت إليه لَيَقُولَنَ منكرا فضل اللّه و إحسانه في كشف كربه هذا الخير الذي جاءني لِي فأنا فاعله، و الآتي به، عوض أن يشكر ربه، و يعرف أنه من إحسانه و فضله وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 9

[سورة فصلت (41): آية 51]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)

قائِمَةً أي سوف تكون، فإن الإنسان إذا وجد نعمة بطر و نسي ربه و ميعاده، فلا يشكر، و لا يصرف النعمة في حقها، فيعرض ميعاده، بل يقول إن النعمة لي، و يصرفها في الشر قائلا، لا قيامة، حتى أعمل صالحا بالنعمة، ثم فوق ذلك يظن أنه مكرم عند اللّه- كما هو تمني الجهّال- فيقول وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي بأن صدق قول الناس المؤمنين بوجود الميعاد إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي المنزلة الحسنى، و هي الجنة، فكما أعطاني في الدنيا، يعطيني في الآخرة، و هنا يأتي السياق ليبين مصير هذا الإنسان فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لنخبرن هؤلاء الكفار بِما عَمِلُوا في الدنيا من الكفر و العصيان، و الإخبار إنما هو لأجل التقرير، و إفضاحهم أمام الملأ العام وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ هو النار و النكال، لما عملوا من الأعمال

السيئة.

[52] وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ و المراد به الإنسان المنحرف، كما سبق في الآية السابقة أَعْرَضَ عن اللّه سبحانه وَ نَأى بِجانِبِهِ أي بعد بجانبه عن الاعتراف باللّه و شكره، تشبيه بالإنسان المعرض عن شي ء، حيث يبعد نفسه منه بعدا حسيا وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض و فقر و خوف و ما شابه فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ يكثر الإلحاح و الطلب منا لرفع ضره، و «العريض» أبلغ من «الطويل»، إذ العريض لا يكون إلا طويلا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 10

[سورة فصلت (41): الآيات 52 الى 53]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53)

و إلا لا يسمى عريضا، بخلاف الطويل، فإنه لا يلازم العريض.

[53] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار المنكرين، لكون القرآن من عند اللّه تعالى أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بأن أنزله عليّ لا كما تقولون من أنه افتراء مختلق ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ و جحدتموه مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ؟ أي من يكون- حينذاك- أكثر ضلالا منكم؟ و إنما أتى بهذا الوصف، تقريعا. و رهانا، لكونهم أضل، إذ هم في شقاق بعيد عن الحق، فهم شق و الحق في شق، و بينهما تباعد كثير.

[54] سَنُرِيهِمْ آياتِنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا فِي الْآفاقِ جمع أفق، و هو أطراف الكون، لأن كل طرف أفق، من سماء و أرض، و شمس، و قمر، و نجوم، و جبال، و شجر، و حيوان، و

بحار، و غيرها وَ فِي أَنْفُسِهِمْ و ما فيها من لطائف الصنع، و عجائب التراكيب، التي تدل على وجود اللّه و علمه، و قدرته، و إرادته، و سائر صفاته، و معنى الإرائة، إلفاتهم إلى الآيات، بواسطة التوجيهات في القرآن، و كلمات الرسول و الأئمة، و الإلقاء في قلوبهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي يظهر لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار أَنَّهُ أي اللّه سبحانه، أو الرسول، أو القرآن الْحَقُ فإن الأدلة الكونية ترشد إلى كل ذلك- و إن كان الأول أقرب- أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ يا رسول اللّه، و الباء في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 11

[سورة فصلت (41): آية 54]

أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)

«بربك» زائدة دخلت على الفاعل، إذ الأصل في المعنى «أو لم تكف بربك» أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي حاضر، و هذا برهان على أنه الإله الحق، إذ الإله يحضر و يشهد كل شي ء بخلاف سائر الأشياء، فإنها لا تشهد «اللّه» إذ الإله سابق عليها، و الشاهد يلزم أن يكون حاضرا من البدء إلى الختم، و ليس لأحد أن يقول: من أين نعلم، أن اللّه شاهد على كل شي ء؟ إذ الجواب هل هناك شي ء أول شهد كل شي ء، أم لا؟

فإن قال نعم قلنا ذلك هو اللّه، و ثبت المطلوب، و إن قال لا، قلنا هذا خلاف الضروري، إذ لا يعقل أن لا يكون هناك شي ء أول، و إن قال، بل يمكن أن يكون الأول متعددا، فلا وحدة في الأول قلنا اعترفت بالواحد، فعليك الدليل على الأكثر، ثم لا يمكن تعدد الأول، لما ثبت في علم الكلام، من أن التعدد في الأزلي غير معقول، إذ يلزم

من التعدد التركب، و من التركب، عدم الأولوية- فهو خلف-.

[55] أَلا إِنَّهُمْ أي الكفار فِي مِرْيَةٍ و شك مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء حسابه و جزائه- على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس- و هذا على سبيل التسفيه لعقيدتهم، فكيف يمكن أن يكون الخلق عبثا، لا حساب لهم و لا جزاء؟ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة، فهو عالم بهم، و لا يخرجون عن قبضته، فسيأتي يوم يحاسبهم بما علم، و يعطيهم جزاء كفرهم و إنكارهم، فلا مفر لهم منه، و لا مجال للإنكار، لما اقترفوه من الكفر و الآثام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 12

42 سورة الشورى مكية- مدنية/ آياتها (54)

و تسمى ب «حمعسق» أيضا لاشتمالها على كلمة «الشورى» و «حمعسق»، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة، قالوا و نزلت بعض آياتها في المدينة، كآية «القربى» و حيث ختمت سورة فصلت، بذكر إنكار الكفار للأصول، ابتدأت هذه السورة، بتقريرها، و تأكيدها، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع في السورة، باسم اللّه، و الإتيان، ب «الاسم» دون أن يقال «باللّه» للتحليل و التصريح، إذ قوله «باللّه» أيضا تؤول إلى «باسم اللّه» و للمعارضة لما يقوله أهل سائر الأديان، و الطرق كقول المسيحي «باسم الأب و الابن و الروح القدس» و التأكيد على صفتي «الرحمن الرحيم» للتوجيه إلى أهم الصفات التي تنفع الناس في دنياهم و آخرتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 13

[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

[2- 3] حم* عسق أي أن هذا

القرآن مؤلف من حروف الهجاء، التي منها «حاء» «ميم» «عين» «سين» «قاف»- على قول- أو رمز بين اللّه و الرسول- على آخر- أو هو إشارة إلى أسامي للّه تعالى،

فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر- على رواية عن الصادق عليه السّلام «1»

- أو غير ذلك من الأقوال الكثيرة، في فواتح السور.

[4] كَذلِكَ أي كهذا الذي ذكرها من «حم عسق» أو كالوحي الذي تقدم من سائر سور القرآن يُوحِي إِلَيْكَ يا رسول اللّه وَ إِلَى الأنبياء الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ فاعل يوحي الْعَزِيزُ في سلطانه، فلا غالب عليه الْحَكِيمُ في تكوينه و تشريعه، فإنه يخلق الأشياء حسب الحكمة و الصلاح، و يأمر و يشرع، حسب الحكمة و الصلاح، فإنزال الوحي عليك، و على الأنبياء السابقين، تابع للحكمة، لا عبث فيه، و لا اعتباط، و لا محاباة.

[5] لَهُ تعالى بالخلق و الملك و التدبير ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ المراد الظرف و المظروف، فإن أحدهما يطلق، و يراد به الآخر- في كثير من الأحيان- إيجاز في الكلام وَ هُوَ الْعَلِيُ أي الرفيع الذي لا أرفع منه، و المراد رفعة المنزلة لا رفعة المكان، فإنه تعالى منزه عن المكان و المكانيات الْعَظِيمُ الذي هو أعظم من كل شي ء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 89 ص 373.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 14

[سورة الشورى (42): آية 5]

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)

علما و قدرة، و من حيث سائر الصفات.

[6] ثم بين سبحانه بعض عظمته في الكون التي أوجبت أن تقترب السماوات إلى الإنفطار و الانشقاق خوفا و روعة، و أوجبت تنزيه الملائكة، و طلب

غفرانهم لأهل الأرض العصاة، كما نرى من اعتذار الوزير من الملك، عمّن عصاه، لما يرى شدة بطشه، و لما يخاف من أن تحل نقمته- تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَ أي جهة أعلاهن، لأن الأعلى، أقرب إلى ما ارتكز في الذهن من علوه سبحانه، و إن كان العلوان مختلفان، فعلوه سبحانه معنوي و علوها حسي، و المعنى أن عظمته سبحانه، بحيث تؤثر في السماوات، حتى أنها تقترب من الانشقاق، و هذا كقوله سبحانه وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» و قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ) «2» وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه بذكر محامده، فإن من قال فلان شجاع، كان حمدا و تنزيها عن الجبن، بخلاف ما لو قال إنه ليس بجبان، فإنه لا يلزم أن يكون شجاعا وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ بأن يغفر اللّه لهم، أما مؤمنهم، فيغفر له عصيانه، و أما كافرهم فبأن يهيئ سبحانه مغفرته بالإيمان، حتى لا يحل بهم العذاب مما يرهب منه، حتى الملائكة، و إن كان تعذيبا لغيرهم، فإن الشخص يرهب العذاب، حتى إذا نزل بغيره أَلا فيتنبه البشر إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ

______________________________

(1) الرعد: 32.

(2) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 15

[سورة الشورى (42): الآيات 6 الى 7]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)

لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم بالإحسان فوق الغفران.

[7] وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه أَوْلِياءَ أي الأصنام بأن عبدوها اللَّهُ

حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي أنه يحفظهم، فالأصنام موهومات، لا حقيقة لألوهيتها، و إنما اللّه هو الحافظ لهم، و هكذا كما يقول الرئيس: إن فلانا الذي يحاربني، يأكل رزقي و عطائي، وَ ما أَنْتَ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فإنك غير مسئول عن كفرهم، و إنما أنت مسئول عن تبليغهم، و قد فعلت ذلك.

[8] وَ كَذلِكَ أي كما أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو المعنى، «هكذا أوحينا إليك» و إنما جي ء ب «ذلك» لتنزيل رفعة القرآن معنى، منزلة بعده حسا- كما ذكروا في علم البلاغة- قُرْآناً عَرَبِيًّا فإنه بلغة العرب ليفقهوا ما فيه لِتُنْذِرَ يا رسول اللّه أُمَّ الْقُرى و هي مكة، و المراد أهلها وَ مَنْ حَوْلَها أي حول مكة من سائر القرى في العالم، فإنها حيث صارت أمّا صارت كل قرية حولها، فإن البنات حول الأم، و إنما سميت أم القرى، لأن الأرض دحيت من تحتها، كالأولاد الذين يخرجون من الأم بالولادة، و كأن هذا الإنذار، بالنسبة إلى الأمور الدنيوية، فإن من أعرض عن ذكره تكون معيشته ضنكا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ هو يوم القيامة، الذي يجمع فيه الخلائق، بأن من كفر أو عصى، عذب بالنار و النكال لا رَيْبَ فِيهِ و إن ارتاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 16

[سورة الشورى (42): الآيات 8 الى 9]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9)

فيه كثيرون، إذ المعنى، إنه ليس محلّا للريب، كما قال سبحانه، بالنسبة إلى القرآن (لا

رَيْبَ فِيهِ) «1» و كما تقول «لا ريب في نور الشمس» و إن أنكره السوفسطائيون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ و هم المؤمنون المطيعون وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي النار المستعرة الملتهبة، و هم الكفار و العصاة، فتنذرهم، بأن لا يتمادوا في الكفر و العصيان، حتى يكونوا من أصحاب السعير.

[9] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يجبر الناس على دين واحد لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً و لكن هذا نقض للغرض، فإن الغرض من الخلقة التكليف، حتى يترتب عليه الثواب و العقاب، و لو كان الناس مجبورين، لكانوا كالأحجار و النبات في الفعل وَ لكِنْ خيّرهم، و أعطى الزمام بأيديهم، ل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ ممن آمن و عمل صالحا فِي رَحْمَتِهِ بالسعادة في الدنيا، و الجنة في الآخرة وَ الظَّالِمُونَ الذين اختاروا الكفر و العصيان ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ يواليهم و يلي أمورهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم.

[10] أَمِ منقطعة، بمعنى «بل» أي أن الكفار ضربوا عن عبادة اللّه و ولايته، و اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ هي الأصنام التي والاها الكفار فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ و إنما الأصنام أحجار لا تضر و لا تنفع، فهي

______________________________

(1) البقرة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 17

[سورة الشورى (42): الآيات 10 الى 11]

وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)

لا توالي أحدا و لا تنفع ولاية الناس لها وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى فمبعث الخلق بيده، لا بيد غيره، و يلزم من ذلك، أن يخاف الناس عقابه، حيث إن بيده الحكم وَ هُوَ

عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الإحياء و الإماتة و الرزق، و غيرها، بخلاف الأصنام، التي لا تقدر على شي ء، و اتخاذ القادر وليا أولى من اتخاذ العاجز.

[11] أما هذه الاختلافات التي حدثت بين الناس، فالحكم الوحيد فيها هو اللّه تعالى، إذ هو المطلع على الصدق و الكذب و الحقيقة و الزيف وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ الضمير عائد إلى «ما» أي كل شي ء اختلفتم فيه فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ و هو الحكم العالم الذي يحق له الحكم، أما من سواه، فبين جاهل، و بين ما لا يحق له الحكم، و إن كان عالما، إذ الفصل في القضايا و نفوذها أمر يحتاج إلى السلطة، و لا سلطة إلى له سبحانه ذلِكُمُ «ذا» إشارها، و «كم» خطاب اللَّهُ رَبِّي أي أن الذي يحكم بين المختلفين هو ربي، لا الأصنام العابرة الجاهلة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مهامي وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في جميع أموري، أو المعنى، أتوب إليه.

[12] ثم وصف سبحانه بأنه فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما، من فطر بمعنى خلق، و هو الذي جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 18

[سورة الشورى (42): آية 12]

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12)

مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس نفوسكم أَزْواجاً ليسكن الإنسان إليها، فإن «كل جنس لجنسه يألف» و لا يقال فكيف تكون في الآخرة زوجة الإنسان حورية؟ إذ هناك يلطف الإنسان، حتى يكون كالملك فيتجانسان وَ جعل مِنَ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم أَزْواجاً ذكرا و أنثى، لتكميل المنافع و النتاج، لبقاء النسل، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ يَذْرَؤُكُمْ ذرأ، بمعنى أوجد، أي

يخلقكم- أنتم و الأنعام- فِيهِ أي في هذا الجعل، فإن امتداد نسل الإنسان و الحيوان، إنما هو بجعل الأزواج، و لذا ينقطع من لا زوج له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ من الأصنام و غيرها من سائر المعبودات، و الكاف إما زائدة لتأكيد النفي- كما هو شأن الزوائد غالبا- أي ليس مثله شي ء، قطعا، أو هذا مبالغة، فإن الشي ء إذا لم يكن لما يشابهه مثل، لم يكن له مثل بطريق أولى، مع أنه سبحانه لا يشابه أحدا، فهو غير منقطع عن خلقه وَ هُوَ السَّمِيعُ للمسموعات الْبَصِيرُ للمبصرات، فهو غير منقطع عن خلقه، فقد أحاطهم علما و إدراكا.

[13] لَهُ سبحانه مَقالِيدُ جمع مقلاد و هو المفتاح السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن مفتاح الصحة و المرض، و الغنى و الفقر، و الحياة و الموت، و الإيجاد و الإعدام، و غيرها ...، بيده، و هذا من باب التشبيه، فإن من بيده المفتاح يكون مسيطرا على الخزينة التي منها العطاء و المنح يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 19

[سورة الشورى (42): آية 13]

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)

وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء، حسب حكمته في التوسعة و التضييق، و ليس معنى هذا، أن لا مدخلية للطلب، إذ الطلب من جملة الأشياء التي قررها سبحانه للرزق، كما أن الزواج من جملة الأسباب التي قررها سبحانه للولد، و إن كان الولد من خلقه تعالى

إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و من علمه جعل بعض الناس أغنياء، بأن وسع عليهم، و جعل بعضهم فقراء، بأن ضيق عليهم.

[14] ثم أن هذا الخالق العظيم، الذي بيده كل شي ء، و هو سميع بصير بكل شي ء، هو الذي شرع الدين لرفاه البشر، و نظامه أفضل الأديان و الأنظمة، إذ يعرف ما يلائم حياة الإنسان، و ما لا يلائم، ثم إن نظامه خال من الأغراض، و الأهواء و الميول شَرَعَ لَكُمْ أيها المسلمون مِنَ الدِّينِ أي الإسلام، و معنى الشرع، جعل النهج و النظام و أصله من الظهور، و منه الشريعة لظهور محل أخذ الماء على الشاطئ، أو من الشروع بمعنى الابتداء ما وَصَّى بِهِ نُوحاً فالإسلام دين الأنبياء، من شيخ المرسلين نوح الذي كان بدء العالم الجديد وَ هو الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى فهؤلاء الأنبياء، و غيرهم من سائر الأنبياء، إنما بشروا بدين واحد، كما قال اللّه سبحانه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «1» و قد ذكرنا في بعض

______________________________

(1) آل عمران: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 20

المؤلفات، إن الدين ينقسم إلى أصول و فروع و أخلاق، و الكل غير قادر للتبدل، فالأصول: التوحيد، و العدل، و النبوة، و الوصاية، و المعاد، و هل هذا قابل للاختلاف؟ و الفروع: خضوع يسمى الصلاة، و إنفاق يسمى الزكاة، و إمساك يسمى الصيام، و ذهاب إلى محل يذكر اللّه يسمى الحج، و أمر بالمعروف، و نهي عن المنكر، و هل هذا قابل للنسخ؟ ثم بيع و شراء و إجارة و إرث، و ما أشبه، و رذائل محرمة، كالخمر و القمار، و فضائل لازمة، كالصلة و بر

الوالدين، و هل يمكن تحريف شي ء منها؟ و الأخلاق شجاعة و غيرة و بذل و معونة و عفة، و ما أشبه، و هل يمكن أن تنقلب الشجاعة رذيلة، و الجبن فضيلة، و هكذا؟

نعم اختلاف في الحدود، و القيود، و الآداب، لا في الجوهر و الأصل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ متعلق، ب «وصّى» أي أوصيناهم بإقامة الدين، بأن يكون قائما غير دارس وَ لا تَتَفَرَّقُوا أيها الأنبياء عليهم السّلام أو أيها الناس- بأن يكون من باب الالتفات- فِيهِ أي في الدين ثم ذكر اللّه سبحانه، إن الكفار يستعظمون دعوتك إلى التوحيد، لأنهم عباد أصنام قد توارثوها عن الآباء كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ باللّه ما تَدْعُوهُمْ من التوحيد و الإخلاص إِلَيْهِ أو المراد كبر عليهم دعوتك إلى نفسك بالرسالة، إذ قالوا، كيف صار رسولا من بيننا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1»؟ و هذا المعنى أقرب إلى الجملة التالية اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي أن اللّه سبحانه يختار من يشاء للرسالة،

______________________________

(1) الزخرف: 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 21

[سورة الشورى (42): آية 14]

وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

و لفظ «إليه» إنما هو لأن المختار ينضم و ينتهي إلى من اختاره و اجتباه، و لا يختار اللّه إلا من هو قابل للرسالة، فليس اعتباطا و جزافا، أو تابعا للمال و الشرف الظاهري وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالألطاف الخفية مَنْ يُنِيبُ أي من يتوب إليه، و يرجع عن كفره و عصيانه، فإنه إذا هدى شخصا و أرشده

الطريق، فأناب و تاب، لطف به بألطافه الخفية.

[15] وَ ما تَفَرَّقُوا أي لم يختلف أهل الكتاب فيما بينهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بوحدة الدين، و حقيقة جميع الأنبياء، فقد أرشدهم سبحانه، فلم ينيبوا و لم يرجعوا، و لذا تركهم سبحانه و لم يلطف بهم الألطاف الخفية، و لم يزدهم هدى، و إنما تفرقوا بَغْياً أي حسدا و ظلما بَيْنَهُمْ بأن بغى بعضهم على بعض حسد بعضهم بعضا، و المراد ظلم أهل الكتاب بعضهم بعضا، و كان الإتيان بلفظ «بينهم» لإفادة أنهم لم يظلموا الأجانب عن الإيمان بل حسدوا و ظلموا من هم على شاكلتهم في الدين و الإذعان وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن يمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سمي ذلك الأجل و الأمد في اللوح المحفوظ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي قضى اللّه سبحانه بينهم، بتقوية الحق، و إهلاك المبطل، لكن اللّه سبحانه، حيث حكم ببقائهم مدة معينة- لمصلحة رآها في ذلك- أخّر العذاب عنهم وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ بأن صاروا من أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 22

[سورة الشورى (42): آية 15]

فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

الكتاب، بعد أولئك الأنبياء، أو بعد آبائهم المختلفين لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من هذا القرآن أو من الدين مُرِيبٍ موجب للتشكيك و الريب، فهؤلاء كآبائهم في الاختلاف و التفرق، أو المعنى، أن أخلاف أهل الكتاب، لفي شك من كتابهم، إذ التفرق و الاختلاف، يوجب

الشك و الريب في أن ما بيد الإنسان، هل هو صحيح أم لا؟

[16] فَلِذلِكَ أي لاختلاف هؤلاء في الدين بحيث لم يبق الدين واضحا قائما فَادْعُ يا رسول اللّه إلى اللّه سبحانه وَ اسْتَقِمْ في الدعوة، و لا تبالي بما تلاقي من أنواع الأذى و صنوف المكروه كَما أُمِرْتَ أي كما أمرك اللّه سبحانه بالدعوة و الاستقامة وَ لا تَتَّبِعْ يا رسول اللّه أَهْواءَهُمْ أي أهواء أهل الكتاب الذين حرفوا الدين، و زادوا فيه، و أنقصوا منه وَ قُلْ يا رسول اللّه معلنا وحدة الأديان و الكتب و الرسالات آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ فكل الكتب للهداية، و التبشير من جانب اللّه تعالى وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ فمن طبيعة دين اللّه العدل بين جميع الناس، فلا يحابي أحدا، و لا ينقص أحدا قدره اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ أيها الناس، فلا إله سواه لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فكل امرئ مجزي بأعماله، إن كان خيرا فخير، و إن كان شرا فشر، فكفر الكافر لا يضر إلا نفسه، كما أن إيمان المؤمن لا ينفع إلا نفسه، و قد ظهر الحق ف لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ فقد تم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 23

[سورة الشورى (42): آية 16]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)

الاحتجاج، و ظهر الحق، واضحا جليا، إذ الاحتجاج إنما يكون قبل ظهور الحق، أما بعده، فلا فائدة فيه اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا للحساب يوم القيامة، حتى يظهر هناك، من المحق، و من المبطل وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي إلى ثوابه و عقابه، فالمؤمنون مصيرهم نعيم اللّه سبحانه و جنانه

و الكافرون مصيرهم سخط اللّه و نيرانه.

[17] وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في ذاته، أو صفاته مِنْ بَعْدِ تلك الحجج الواضحة، و قد ما اسْتُجِيبَ لَهُ استجاب للدعوة الزمرة المؤمنة حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي باطلة زائفة، إذ الاحتجاج بعد تمام الدليل، و التفات المؤمنين حول الدعوة لا قيمة له، نعم لو لم تثبت الحجة، أو لم يكن هناك جماعة مستجيبة، يأوي إليها الإنسان من شر الخصوم و العداء، لكان لهم بعض الحق، في الجدل و الخصومة، أما و قد بان الطريق، و سلكه الناس، فلا حجة، لمن لا يسلك عِنْدَ رَبِّهِمْ و إن كان بعض الناس يعطيهم الحق في بقائهم على الكفر، و لكن عند اللّه سبحانه، و في حسابه لا حق لهم، و لا مفهوم لقوله «من بعد ما استجيب له» بل ذلك بيان لشدة ضلال هؤلاء، حتى أنه بعد الاستجابة، يبقون على كفرهم و ضلالهم وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ من اللّه سبحانه وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم القيامة، أو أعم منه، و من الدنيا، و حيث إن اللّه سبحانه، ليس غضبه، بمعنى ما فينا- مما هو ملازم للنفس- كان معناه نتيجة الغضب، و هو الانتقام، و ذلك أعم من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 24

[سورة الشورى (42): الآيات 17 الى 18]

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)

العذاب الشديد، فلا يقال بأنه موجب للتكرار.

[18] اللَّهُ الذي يحاجون فيه، هو من أنزل الشريعة و بيده المعاد، و هل يحاج الإنسان في جاعل النظام، و

إليه مصير الأنام؟ فإن اللّه هو الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ أي إنزالا بالحق، و لأجل إقامة الحق، فلا الإنزال بالباطل، كإنزال الشياطين على الكهنة، و لا المنزل باطل، كما لو أمر صاحب الدار بخراب داره، فإن له الحق في الإنزال، لأنه صاحب السلطة، لكن ليس له حق في الأمر المنزّل، و هو خراب الدار وَ أنزل الْمِيزانَ الذي يوزن به بين الحق و الباطل في العقائد، و الأعمال و الأقوال وَ ما يُدْرِيكَ يا رسول اللّه، أي من أين تدري- و هذا للتهويل- أو المراد، ما يدريك أيها المخاطب لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي القيامة، فلا يغر الإنسان، ما يراه من الأمن و السلامة، فلعل محكمته قربت، فاللازم أن يكون الإنسان على خوف و وجل منها.

[19] يَسْتَعْجِلُ بِهَا أي يطلبون عجلة الساعة، بأن تأتيهم عاجلا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها و إنما استعجالهم على وجه الاستهزاء و السخرية، كما يسخر غير المؤمن بالساعة إذا ذكّر بها وَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و المعاد مُشْفِقُونَ أي خائفون مِنْها أي من الساعة، لما يعلمون من أهوالها، و لخوفهم، بأن يكونوا قد قصروا، فيسألهم عقابها و نكالها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا أي الساعة الْحَقُ الذي لا كذب فيه مقابل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 25

[سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 20]

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

الكفار، الذين يظنون أنها باطلة، لا حقيقة لها أَلا فليتنبه السامع إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ أي يجادلون من المراء، و هو الجدال فِي

السَّاعَةِ ليثبتوا بطلانها، منكرين لوجودها لَفِي ضَلالٍ و ابتعاد عن الصواب بَعِيدٍ كالإنسان الذي يضل عن الجادة كثيرا، و مقابل العصاة، الذين هم في ضلال، و لكن ليس بذلك البعد، فإنهم أقرب إلى الجادة، من منكر المعاد.

[20] إن اللّه سبحانه خلق الدنيا للامتحان، و لذا يرزق المؤمن و الكافر فيها، لتهيئة وسيلة السعادة، أما الآخرة، فليس رزقها، إلا لمن آمن و عمل صالحا، و هذا لتنبيه الكفار، بأن الآخرة، التي يوعدونها ليست بمثابة الدنيا يرزق فيها كل صالح و طالح، و إنما مقياس تلك غير مقياس هذه الدار اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يلطف بهم ليسعدهم، فيهيّئ لهم وسائل السعادة، سواء كانوا صالحين أم طالحين يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كيف يشاء في سعة أو ضيق وَ هُوَ الْقَوِيُ القادر على الإعطاء و المنع و التوسعة و التضييق الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه، فلا يتمكن أحد من معارضته، [21] و إذا كان اللّه رازقا هنا، فليعلم العباد أن من طلب رزق الدنيا يؤتيه بقدر، و لا نصيب له في الآخرة، و من طلب رزق الآخرة- بالإيمان و العمل الصالح- يعطى أكثر من كسبه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله حَرْثَ الْآخِرَةِ أي زرعه، فكأن العمل هنا بذر يعطي هناك ثماره نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ إذ يعطيه اللّه سبحانه من عشرة أضعاف إلى ما فوق سبعمائة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 26

[سورة الشورى (42): الآيات 21 الى 22]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما

يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

ضعف وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا بأن عمل وكد و اجتهد للدنيا فقط، بدون لحاظ للآخرة في عمله نُؤْتِهِ أي ذلك المريد مِنْها أي من الدنيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه لم يزرع حتى يحصد.

[22] لقد تقدم، أن الدين شرع اللّه سبحانه الذي بشر به الأنبياء جميعا، أما طريقة هؤلاء الكفار، فمن ذا الذي شرعها لهم، بعد أن لم يأذن بها اللّه سبحانه؟ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا أي هل لهؤلاء الكفار أصنام شرعوا و نهجوا تلك المنهاج لَهُمْ مِنَ الدِّينِ و الطريقة في العقيدة، و العمل ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ و هذا سؤال استنكاري، أي كيف يحق لهم أن ينهجوا نهجا لم يأذن اللّه سبحانه به؟ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي الكلمة التي قالها اللّه سبحانه، في شأن تأخير العذاب عن هؤلاء و التي هي فاصلة بين حياتهم، و بين عذابهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم عاجلا، فيما بين هؤلاء الكفار، و بين المؤمنين، بإنزال العقوبة على هؤلاء، لانحرافهم عن الطريق وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يؤلمهم جزاء على كفرهم و عصيانهم.

[23] تَرَى يا رسول اللّه، و أيها الرائي الظَّالِمِينَ في يوم القيامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 27

[سورة الشورى (42): آية 23]

ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

مُشْفِقِينَ أي خائفين مِمَّا كَسَبُوا إذ يتجلى هناك لهم، أن أعمالهم أثمرت النيران و النكال وَ هُوَ أي ما كسبوا- و المراد

جزائه، إلا أن يقال بتجسيم الأعمال- واقِعٌ بِهِمْ قطعا فلا مفر لهم منه وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة فصحت عقيدتهم و عملهم فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ الروضة هي الأرض الخضرة، بحسن النبات، و الجنة الأرض التي يحفها الشجر، و يجنها عن الشمس و الأبصار لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من أنواع الملاذ عِنْدَ رَبِّهِمْ فلهم شرف القرب المعنوي من اللّه سبحانه، كما أن لهم ما يشتهون من الملذات الجسمية ذلِكَ الثواب الذي ينعم اللّه سبحانه عليهم به هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي تفضل اللّه سبحانه عليهم، و إلا فالإنسان مهما كان عمله، لا يستحق على اللّه سبحانه شيئا.

[24] ذلِكَ الثواب و الفضل الكبير، هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ الصالحين الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فليرغب فيه الناس، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا يطلب عوض هذه البشرى، و هذه الهداية المنتهية إلى تلك النعم، و ذلك الفضل الكبير مالا و أجرا، و إنما يريد من الناس أن يوالوا أقربائه، فاطمة و الأئمة الأطهار، و ذلك ليس له أيضا، و إنما لهم، إذ إن الأئمة عليهم السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 28

يرشدون الناس إلى الخير و الصلاح، و يهدونهم إلى الحق و الصواب و الصدق قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الذين بشرتهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما جئتكم به من الهداية و البشرى أَجْراً و ثمنا إِلَّا الْمَوَدَّةَ أي الود و الحب فِي الْقُرْبى أي في أقربائي، و من الواضح، أن المودة الواجبة هي بالنسبة إلى فاطمة و الأئمة، صلوات اللّه عليهم أجمعين، أما بالنسبة إلى سائر ذرية الرسول- غير من كفر منهم- فالمودة

مستحبة، و

قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أكرموا ذريتي الصالحين للّه و الطالحين لي»

، و

قال «المرء يحفظ في ولده»

«1» و ينسب إلى الشافعي، أنه قال:

يا آل بيت رسول اللّه حبكم فرض من اللّه في القرآن أنزله كفاكم من عظيم الفخر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له و قد ورد إن المشركين تسألوا، هل يريد محمد من رسالته أجرا، فنزلت هذه الآية وَ مَنْ يَقْتَرِفْ أي يعمل حَسَنَةً من عقيدة أو عمل أو مودة لآل البيت نَزِدْ لَهُ فِيها أي في تلك الحسنة حُسْناً بأن نجعل له ثوابا في الآخرة فالتصدّق- مثلا- حسن في الدنيا، فمن تصدق نزيد صدقته حسنة، بجعل ثواب لها في الآخرة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 102.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 29

[سورة الشورى (42): آية 24]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24)

للسيئات، فلا ييأس المذنب من عفوه و غفرانه- و هذا بمناسبة ذكر الكفار و الظالمين-. شَكُورٌ يشكر حسنات العباد، و شكره سبحانه، بإعطائه الزيادة هنا، و الأجر هناك- و هذا بمناسبة ذكر المؤمنين العاملين للصالحات-.

[25] إن هؤلاء الكفار يصمون عن الحق، و لا ينظرون في الأدلة أَمْ أي بل يَقُولُونَ افْتَرى محمد عَلَى اللَّهِ كَذِباً حيث نسب القرآن إليه كذبا، و هو من كلامه، و لكن هذا الكلام منهم كذب، إذ ليس اللّه سبحانه يدع أحدا يدعي النبوة، و يأتي بالخارقة، ثم يذره فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ حين يراك كاذبا- كما زعموا- يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فلا تتمكن من تلاوة القرآن، كالظرف المختوم الذي لا يخرج

منه شي ء مما فيه وَ لا يهمك يا رسول اللّه هذا الافتراء منهم، فإنه يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ من أقوالهم و يزيله، فلا يتعلق به أحد، و لا يرى كلامهم صوابا وَ يُحِقُّ الْحَقَ أي يظهر كونه حقا، إذ معنى «أحق» أثبت بِكَلِماتِهِ أي يظهر حقية الرسول، بما ينزله من القرآن الذي لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله، فيبطل دعواهم، إذ لو كان الأمر، كما قالوا لتمكن فصحاؤهم من الإتيان بمثله إِنَّهُ تعالى عَلِيمٌ أي عالم بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأمور التي تدور في صدورهم حولك لإبطال أمرك، فلا يترك مؤامراتهم و أفكارهم تنفذ فيك، و تطبق عليك، بل يحبطها و يبطلها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 30

[سورة الشورى (42): الآيات 25 الى 27]

وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)

[26] و لا ييأس هؤلاء الكفار عن رحمة اللّه و فضله و عفوه، فإن تابوا مما هم فيه، تاب عليهم وَ هُوَ اللّه الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فمن تاب و رجع إليه قبل توبته وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ أي المعاصي، و هذا في مقابل أن يقبل التوبة، و يضم التائب إلى جماعته، لكنه ينتقم منه لما فعل سابقا وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أيها البشر من عصيان و طاعة و إدبار و توبة فلا يظن أحد أنه مختف عليه سبحانه، لا يرى سيئته، فيعاقبه، أو حسنته فيجازيه بالثواب.

[27] وَ هو الذي يَسْتَجِيبُ

أي يجيب الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فهو يعطي طلباتهم إن رأى ذلك صلاحا، و إلا أخّرها إلى القيامة، كما ورد بذلك الأحاديث وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فليس إجابة الدعاء فحسب، بل إثابة على الدعاء، فمن طلب من اللّه ولدا أعطاه، و تفضل عليه بالثواب حيث دعاه، أو المراد أنه يزيد على الطلب لطفا و كرما، فمن طلب ولدا أعطاه ولدين- مثلا- وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في مقابل المؤمنين لهم الإجابة و الفضل.

[28] و إذ تقدم أنه سبحانه، يستجيب للمؤمنين، و يزيدهم من فضله، يأتي سؤال أنه، لماذا نرى حاجة كثير من المؤمنين و فقرهم، و إنهم يدعون ليل نهار؟ و الجواب وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ بأن وسع عليهم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 31

[سورة الشورى (42): آية 28]

وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

دار الدنيا، كما يريدون لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1»، و لذا يضيق عليهم، حتى يحفظهم من البغي و التعدي و قد حكي: إن معدما سأل موسى أن يطلب من اللّه- في مناجاته- أن يتفضل عليه، فلما سأل موسى، أجابه اللّه بذلك، و أعلمه أن التوسعة على هذا، لم يكن صلاحا، و إنما أجاب الدعاء، و حين رجع موسى من «الطور» رأى المعدم، و هو يؤخذ للقضاء، فقالوا: إنه أثرى فشرب الخمر و سكر، و قتل إنسانا فهو يؤخذ للقصاص وَ لكِنْ يُنَزِّلُ اللّه الرزق بِقَدَرٍ ما يَشاءُ مما يراه صلاحا، و إن قيل، فلما ذا يفقر بعض الصالحين، كالأنبياء، و يثري بعض الفاسدين كالفراعنة؟ فالجواب،

أن الفقر هناك، لترفيع الدرجات، و هنا لإزهاق أرواح هؤلاء بالمال، حيث تظهر منهم بعض السيئات، فيستحقون التوسعة للنكال و العذاب إِنَّهُ تعالى بِعِبادِهِ جمع عبد خَبِيرٌ مطلع على أحوالهم بَصِيرٌ يراهم، فهم تحت علمه الشامل، و رؤيته النافذة، و لذا يدبرهم على نحو الصلاح و الحكمة.

[29] وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر من السماء مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي بعد أن يئسوا عن المطر، و جدبت أراضيهم، و قحلت وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ بإخراج النبات و الثمر، و تنمية الزرع و الضرع، فيرى الإنسان نعمه سبحانه، منتشرة في سهول الأرض و جبالها وَ هُوَ الْوَلِيُ الذي يلي شؤون عباده الْحَمِيدُ المحمود في أفعاله، فما يتفضل به يستحق به

______________________________

(1) العلق: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 32

[سورة الشورى (42): الآيات 29 الى 30]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)

الحمد و الشكر.

[30] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمن خلقهما و أوجدهما، إنه هو اللّه وحده لا شريك له وَ ما بَثَّ فِيهِما أي نشر في السماوات و الأرض مِنْ دابَّةٍ تدب على وجه الأرض، أو تطير في السماء وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ الجمع قَدِيرٌ و المراد بالجمع، إما الحشر- كما قال تعالى: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «1»- و إما أن يجمعهم في مكان واحد، و هذا لإلقاء ظلّ قوي من القدرة الوسيعة، في ذهن المخاطب، حتى أنه سبحانه، يتمكن من جميع هذه الكثرة الهائلة المتشتتة من

صنوف الحيوان.

[31] أرأيتم فضل اللّه و قدرته؟ فاعلموا أن انحرافكم عن منهاجه، يوجب التضييق على أنفسكم، فما يصيبكم من الأذى، إنما هو من أعمالكم، و إلا ففضله سبحانه عام، كما أنكم لا تقدرون على الفرار من بأسه، إذا شاء بكم الأذى، فإنه صاحب القدرة الوسيعة وَ ما أَصابَكُمْ أيها الناس مِنْ مُصِيبَةٍ مالية أو بدنية، أو غيرهما فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر و العصيان، و النسبة إلى اليد لأنها الآلة العاملة في تحصيل الكثير من الآثام، كالسرقة و الضرب، و النهب و القتل، و ما أشبه، و لا يخفى أن هذا العام مخصص بمن لم يكن له كسب سيّ ء، فإن ما أصابه، إنما هو لزيادة الأجر و المنزلة، كما هو معلوم عقلا و نقلا وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ فليس يعاقب عليها.

______________________________

(1) التكوير: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 33

[سورة الشورى (42): الآيات 31 الى 33]

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)

[32] وَ ما أَنْتُمْ أيها البشر بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تتمكنون من تعجيز اللّه سبحانه، بأن تفرون منه، فلا يقدر على عقوبتكم التي استحققتموها، و لعل الإتيان ب «في الأرض» للتعميم، فإن بعض المجرمين أيضا، لا يتمكنون من تعجيز سلطاتهم في البلاد التي هم مسيطرون عليها، أما عدم التعجيز في الأرض كلها، فذلك خاص به سبحانه وَ ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها البشر مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم، و يدبر شؤونكم، و يدفع العذاب

عنكم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم من بأس اللّه سبحانه، و هذا لتنبيه الكفار على أن معاصيهم، لا بد من الجزاء عليها، فلا يظنوا أنهم يتمكنون من الفرار، أو أن أولياءهم، يتمكنون من دفع العذاب عنهم، أو أن أنصارهم يقدرون على التغلب على إرادة اللّه سبحانه.

[33] وَ مِنْ آياتِهِ أي آيات اللّه سبحانه الدالة على وجوده و سائر صفاته الْجَوارِ جمع جارية، و هي السفينة، سميت بها لجريها في الماء فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم، و هو الجبل الطويل، فمن جعل الماء بحيث يحملها، و من سخر الهواء، بحيث تجريها إلى حيث تشاء؟

[34] إِنْ يَشَأْ اللّه سبحانه يُسْكِنِ الرِّيحَ بأن لا تتحرك فَيَظْلَلْنَ أي تلك السفن، و الإتيان بضمير العاقل، لعله باعتبار من فيها رَواكِدَ جمع راكدة، و هي الواقفة في محلها عَلى ظَهْرِهِ أي ظهر الماء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 34

[سورة الشورى (42): الآيات 34 الى 36]

أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

لا تتحرك من أماكنها، و هذا بالنسبة إلى السفن الهوائية لا البخارية إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من تسخير الماء و الهواء، لتسيير السفن لَآياتٍ دلالات متعددة من البحر و الريح و السير، و غيرها لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر عند البلاء شَكُورٍ يشكر عند النعماء، فإن مثل هذا الإنسان، الذي نضج عقله، حتى أنه صار صبارا شكورا، هو الذي يلتفت إلى هذه النعمة العظيمة، و يراها الدالة على وجود اللّه سبحانه، و سائر صفاته.

[35] أَوْ إن يشأ اللّه سبحانه

يُوبِقْهُنَ أي يهلك السفن، بأن يجعل الريح عاصفة حتى تغرقها بِما كَسَبُوا أي كسب أهلها من الكفر و العصيان وَ يَعْفُ اللّه سبحانه عَنْ كَثِيرٍ فإذا أهلكهم، فببعض ذنوبهم لا بكلها، و إلا كان الكل مقتضيا، لإهلاك العاصي قبل ذلك، و إن رحمهم، فبعفوه عن جميع الذنوب، بمعنى عدم معالجته بعقوبتها.

[36] وَ هناك، إذا وقفت الريح أو عصفت يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا أي يجادلون لإبطال آياتنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لا نجاة لهم من تلك التهلكة، و إنما خصهم، لأنهم هناك يعترفون، أما غيرهم، و هم المؤمنون، فاعترافهم دائم الأوقات.

[37] و إذ بين اللّه سبحانه بعض نعمه على البشر في البر و البحر، ألفت الناس إلى أن كل هذه في جنب نعيم الآخرة، هين يسير فَما أُوتِيتُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 35

[سورة الشورى (42): الآيات 37 الى 38]

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)

أي أعطيتم أيها البشر مِنْ شَيْ ءٍ من هذه النعم فهي متاع الْحَياةِ الدُّنْيا أي تتمتعون بها في الحياة القريبة الزائلة وَ ما عِنْدَ اللَّهِ و المراد عند رتبته، بل شرّفها، و أعلى رتبتها عن رتبة ما في الدنيا، و إلا فليس للّه تعالى مكان خَيْرٌ من متع هذه الحياة وَ أَبْقى أي أكثر بقاء، لأنها تبقى دائم الأبد، و أنها لِلَّذِينَ آمَنُوا بأن صحت عقيدتهم وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم، و ذلك دليل الإيمان، حيث يرون اللّه سبحانه، مالك كل شي ء، و بيده أزمة كل شي ء.

[38] وَ الَّذِينَ عطف على «للذين» و المعنى أن

ما عند اللّه سبحانه، إنما هو لمن اتصف بهذه الصفات يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ مثل الزنى و القمار و الربا، و ترك الصلاة، و الزكاة، و ما أشبه، و إنما قال «كبائر الإثم» لأن الصغائر تقع من غير المعصوم، لا محالة وَ الْفَواحِشَ و هي المعصية الفاحشة التي تتجاوز الحد كثيرا، و كأن هذا أعظم من الكبائر، أو المراد التي تسمى في العرف فاحشة، كالزنى و اللواط و السحق و ما أشبه وَ إِذا ما غَضِبُوا «ما» زائدة للتأكيد أو مصدرية، أي حين الغضب هُمْ يَغْفِرُونَ ذنب الذي أوجب غضبهم، بأن أزادوا على الحلم، عن المغضب غفران ذنبه.

[39] وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ بأن أجابوه سبحانه في كل ما دعاهم إليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 36

من أمور الدين وَ أَقامُوا الصَّلاةَ خصصها بالذكر لأهميتها، و لصعوبتها على الإنسان و لأنها إذا استقامت، نهت عن الفحشاء و المنكر بطبعها وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يتشاورون في أمورهم، هي «فعلى» من المشاورة، و هي المفاوضة في الكلام ليظهر الحق، و المراد بالأمور، هي جميع شؤونهم، التي لم يجعل لها اللّه حدا خاصا، و ذلك من المستحب، في الزواج، و البيع، و الإجارة، و التعلم، و الاكتساب، و غيرها، و قد تمسك بعض ممن تأثرت أفكارهم بأنظمة الغرب، بهذه الآية، لتصحيح الديمقراطية الغربية، من أحزاب، و برلمان، و مجلس الشيوخ، و انتخابات، و ما أشبه، و هذا بالإضافة إلى أنه غلط في نفسه، و إن وقع فيه كثير من بلاد الغرب، كما التثليث «في الدين المسيحي» غلط وقعت فيه جماعات كثيرة، مخالف للإسلام، و لم يطبقه المسلمون في يوم من الأيام، و ذلك دليل عدم فهمهم من الآية ذلك

و لم يفسرها الرسول أو الأئمة عليهم السّلام بذلك، فلنأخذ أهل السنة أنهم قالوا، بأن الرسول مات بلا تعيين، فأبو بكر خليفة بالقوة- كما يظهر ذلك لمن راجع تاريخ السقيفة- و عمر بالوصاية من أبي بكر فقط، و عثمان بجعل من عمر في ستة فقط- و إن سماه شورى، و هل نصب الملوك لشخص في مشاورة سداسية تعتبر انتخابات على ما يريدون هؤلاء؟ و علي عليه السّلام بانتخاب الثوار و جماعة من أهل المدينة، و إن كثرت الأصوات له بالنسبة إلى سابقيه نوعا ما، و مجي ء علي إلى الحكم، لأنه عرف نفسه أحق، لا لأنه انتخب، و لذا

قال في خطبة الشقشقية «و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى» و «أرى تراثي نهبا»

، و الحسن عليه السّلام بالوصاية، أو انتخاب جماعة من أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 37

الكوفة، و معاوية بالسيف و يزيد بالوصاية، و هكذا دامت السيف و الوصاية إلى آخر خليفة عثماني، و عمر بن عبد العزيز جاء بالوصاية، ثم بانتخاب أهل المسجد فقط- خوفا من السلطان، كما هو معلوم في مثل هذه الأحوال، قديما و حديثا- فأين من هذا «الديمقراطية» و إن طورها أحزاب اليوم ألف تطوير، لإلصاقها بالإسلام، و يظنون أنه فتح للإسلام، فبينما هو هدم لأقوى دعائمه، ثم لنأخذ الشيعة: فنعتقد نحن أن اللّه كما عين الرسول، عين الأئمة الاثنى عشر، ثم عين الأئمة الفقهاء الجامعين للشرائط، و كل ملك شيعي كان فقيها جامعا للشرائط، أو كان مأذونا من فقيه جامع للشرائط فهو بحق أصالة أو وكالة، و كل من فقد هذين الوصفين، فهو باطل، و نرى في تاريخ ملوك الشيعة الأقسام الثلاثة، بدون أن يكون

فيهم اسم انتخاب و لو في يوم واحد إلى آخر ملوك القاجار في إيران .. ثم إن الانتخابات بجميع صورها باطلة ليست من الإسلام، أما انتخابات هذا اليوم فهي أشنع و أبشع، و لذا أفتى علماء حول مجلس إيران، بأنه ضلال و انحراف، و أرادوا تحريره، فقتل «الشيخ فضل اللّه النوري» و «السيد عبد اللّه البهبهاني» و «الشيخ الآخوند المولى محمد كاظم الخراساني» فقد كان قصدهم من «المشروطة» التي أقدموا عليها، أن يكون للملك جماعة من العلماء العدول، أقلهم خمسة، و بعض الناضجين حين ما يريد إنفاذ حكم من أحكام الإسلام، و تطبيقه على الأمة، و أرادوا بذلك إحياء سنة الرسول، و سيرة الخلفاء و الملوك الأقدمين حيث كانت مجالسهم لا تخلو من علماء لإرشادهم سبيل الدين، و ناضجين لإرشادهم سبيل الدنيا- بالنسبة إلى غير النبي و الوصي- أما هما فاستشارتهم، كانت لجلب الخواطر، و إلا فهم أغنى عن ذلك ... و أفتى علماء العراق حول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 38

[سورة الشورى (42): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)

مجلس الأمة، حين أراد «فيصل» فتحه بأمر الإنكليز، لهدم الإسلام، بأن «المنتخب و المنتخب كلاهما في النار» و قد لقوا جزاء فتياهم تشريدا و تسميما و إهانة و هتكا، فمن أراد اليوم إعادة «المجلس» أو «الانتخاب» أو «الديمقراطية» أو «الأحزاب» أو ما شابه ذلك، بزعم أنه خدمة للإسلام و خلاص للمسلمين، فليعلم- إن كان مخلصا- أنه يبني من جديد لهدم الإسلام، في لباس الإسلام، و سيرى في الدنيا انقلاب الأمر عليه، و في

الآخرة الخسارة و النكال، فإن هذا أساس غربي بحت لا يمت إلى الإسلام بصلة أصلا، و من كان شاكا فليدرس الإسلام من جديد، لا على ضوء الأنظمة الغربية، و ما ارتكز في ذهنه من سموم الأجواء التي نشرها الغرب و عملائه، بل على ضوء الكتاب و السنة، و فتوى الفقهاء، الذين هم أعرف الناس بالإسلام و بنظمه وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ من المال و العلم و الجاه، و غيرها- حسب عموم الآية- و إن كان المنصرف خصوص المال يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه.

[40] وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أي الظلم، بأن ظلمهم أحد هُمْ يَنْتَصِرُونَ بأن ينتقموا ممن تعدى عليهم، لئلا يصيبهم الذل، و لئلا يجرأ الظالم على التمادي في غيه، إن رأى الباب أمامه مفتوحا، و غير خاف أن هذا لا ينافي قوله «إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» فلكل شي ء مجاله.

[41] ثم بين سبحانه حد الانتصار لئلا يتجاوز المظلوم على مقدار ما ظلم انتقاما و تشفيا وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ يوردها الظالم سَيِّئَةٌ مِثْلُها يردها المظلوم، و سميت سيئة، من باب المزاوجة، لكون الرد شبيه التعدي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 39

[سورة الشورى (42): الآيات 41 الى 42]

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)

في الشكل، و منه قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1» و قوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ «2» فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ بأن عفا عن المعتدي فيما كان ذلك ثوابا، لا عقابا، بأن أذل نفسه، و جرأ المعتدي على التمادي في العدوان، و أصلح

فيما بينه و بين اللّه، بأن كان عفوه للّه سبحانه، لا لغاية دنيوية، أو أصلح بين عدوه و نفسه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فإنه يثيبه جزاء عفوه و إصلاحه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فليس ترغيبه في العفو، لأنه أخذ جانب الظالم، بل لأجل، أن بعض الناس يصلحهم العفو أكثر مما تصلحهم العقوبة، و لأنه موجب لعظيم مثوبة المظلوم.

[42] وَ لَمَنِ انْتَصَرَ لنفسه من ظالمة، بأن رد اعتدائه بالمثل بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد أن ظلمه الظالم فَأُولئِكَ المنتصرون، و إنما جي ء بالجمع، باعتبار معنى «من» و قد تقرر في الأدب أنه يجوز في من و ما مراعاة اللفظ، و المعنى ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي من إثم و عقاب في الآخرة، لأنه أخذ حقه و لم يتعد.

[43] إِنَّمَا السَّبِيلُ في عقاب الدنيا بواسطة السلطان و عقاب الآخرة عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ابتداء وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 40

[سورة الشورى (42): الآيات 43 الى 44]

وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)

يفسدون في الأرض، و إنما جي ء، ب «في الأرض» لبيان أن كل بغي، إنما يظهر أثره في الأرض، و أن ظنه الظالم صغيرا موضعيا «1» بِغَيْرِ الْحَقِ فإن كل بغي بغير الحق و إنما جي ء بهذا الوصف، لإظهار البشاعة، و تعليل «إنما السبيل» أُولئِكَ الباغون لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في الدنيا بالحد و التعزيز، و في الآخرة بالنار و النكال.

[44] وَ لَمَنْ صَبَرَ على الأذى وَ غَفَرَ أي عفى عن

المؤذي- فيما كان الغفران خيرا- إِنَّ ذلِكَ منه لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي تحتاج إلى عزيمة قوية في النفس، و ليس من الأمور التي تأتي عفويا، حسب إرادة عادية، فإن ذلك بحاجة إلى شجاعة نفسية فائقة.

[45] و بعد استعراض صورة للمؤمنين في دنياهم و آخرتهم، يأتي السياق لنقل حال الكافرين في النشأتين وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه و شأنه، بعد أن أراه الطريق فلم يسلكه، و هذا هو معنى الإضلال، كما سبق فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ يلي أموره، و يأخذ بيده مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد اللّه سبحانه، إذ لا هادي إلا اللّه تعالى وَ تَرَى يا رسول اللّه أو أيها الرائي الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يوم القيامة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ أي رد إلى الدنيا، فإن

______________________________

(1) العدالة الإسلامية للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 41

[سورة الشورى (42): آية 45]

وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)

«مرد» مصدر ميمي مِنْ سَبِيلٍ تمنيا منهم للرجوع إلى الدنيا، حتى يعملوا صالحا- بظنهم-.

[46] وَ تَراهُمْ أي ترى الظالمين يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار، و المعنى تعرض النار عليها، و إنما جي ء هكذا، لأنهم يذهب بهم من عند النار أو من باب «القلب» كقوله «كما طينت بالفدن السياعا» خاشِعِينَ أي متواضعين مِنَ الذُّلِ الذي أخذهم حيث وجدوا مرارة النكال و الحكم، عليهم بالعذاب و الهوان يَنْظُرُونَ إذا أرادوا النظر إلى شي ء مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ فإن الإنسان الذي لم يجرم ينظر إلى الإنسان و الأشياء بكل عينه، أما المجرم

فإنه يختلس النظر بخفاء، لئلا يراه أحد فيشتمه أو يؤذيه، أو يخجل منه، فإن الحياة غالية في العين وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا تعريضا بهم و جوابا لما قال الظالمون لهم، في الحياة، بأنهم يخسرون بسبب الإيمان سعادتهم و مستقبلهم إِنَّ الْخاسِرِينَ هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عذبوها و أوقعوها في النار وَ أَهْلِيهِمْ حيث فارقوهم، سواء كانوا من أهل الجنة، أو من أهل النار يَوْمَ الْقِيامَةِ فإن هذا هو الخسارة الكبرى، لا ذهاب بعض المنافع الدنيوية، كما كان يقول الكفار للمؤمنين، في دار الدنيا أَلا فليتنبه السامع إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ لا يتحول عنهم أبدا، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 42

[سورة الشورى (42): الآيات 46 الى 47]

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)

بالظالمين المعاندين من الكفار، فإنهم هم المخلدون.

[47] وَ ما كانَ لَهُمْ أي للظالمين مِنْ أَوْلِياءَ جمع ولي، أي أصدقاء و أحباء يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من عذاب اللّه، بأن يدفعوا عنهم عذابه و نكاله، أو أن «من دون اللّه» متعلق ب «أولياء» أي لا ولي غير اللّه، ينصر وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه و شأنه، بعد أن أراه الطريق، فلم يهتد فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ يوصله إلى المقصد، و هو السعادة، إذ السبيل الوحيد، هو سبيل اللّه، فإذا تركه الإنسان، لم يكن هناك سبيل آخر يوجب النجاة و الخلاص.

[48] اسْتَجِيبُوا أيها الناس، و لعل الإتيان من باب «الاستفعال» لفرض بيان أن الإجابة يلزم

أن تكون من القلب بطلب و إرادة، لا مجرد إجابة لفظية، و عمل سطحي لِرَبِّكُمْ بالإيمان به، و إطاعة أوامره مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة لا مَرَدَّ لَهُ أي لا رجوع لذلك اليوم، بأن يتأخر عن موعده، حتى يجد العصاة فرصة لاستئناف العمل مِنَ اللَّهِ إما بمعنى، إن اللّه لا يرده، أو أنه لا يرد على اللّه، بأنه يرده أحد خلافا لإرادة اللّه ما لَكُمْ أيها البشر مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ تلجئون إليه، و تقون أنفسكم بسببه عن عذاب ذلك اليوم وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي منكر ينصركم، أو إنكار: بمعنى أنكم لا تقدرون على الاستنكار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 43

[سورة الشورى (42): آية 48]

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)

لشدة الهول و الفزع، أو لما ترون من عدم الفائدة في إنكاره.

[49] فَإِنْ أَعْرَضُوا يا رسول اللّه، و لم يؤمنوا فلا يهمك أمرهم، و لا تذهب نفسك عليهم حسرات، إذ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي مأمورا بحفظهم حتى يكون خروجهم خلاف مسئوليتك، و ما كلفت به إِنْ عَلَيْكَ أي ما عليك يا رسول اللّه إِلَّا الْبَلاغُ فأنت مأمور بالتبليغ و الإرشاد، و قد فعلت ذلك وَ هؤلاء بعداء عن الإيمان، لما جبلوا عليه من البطر حالة الرخاء و الكفر حالة البلاء و كيف هؤلاء يخالفون حتى يبتلوا بالنار- مع هذا الطبع الرقيق الذي لا يتحمل نقمة و لا شدة-؟ ف إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ و المراد به هؤلاء، لا كل إنسان، و إنما جي ء باللفظ العام، لأن ذلك

هو الطبع الغالب مِنَّا رَحْمَةً أي أوصلنا إليه من طرفنا رحمة فَرِحَ بِها أي بطر و تجاوز الحد، كما قال له قومه لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ «1» وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي صفة تسؤهم كالفقر و المرض و الخوف، و ما أشبه بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي كانت تلك السيئة جزاء لبعض أعمالهم، و النسبة إلى «اليد» لأنها العضو الغالب في الإتيان بالأفعال، و إلا فالمراد كل معصية فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ يجزع من البلاء، و ينسى النعماء.

______________________________

(1) القصص: 77.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 44

[سورة الشورى (42): الآيات 49 الى 51]

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

[50] و النعم كلها من اللّه سبحانه، حتى أعظم النعم التي توجب امتداد الإنسان- و هي الذرية- فلم يبتعد الإنسان عن اللّه، و هو المنعم و المتفضل عليه؟ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو خالقهما و مالكهما، و المراد الظرف و المظروف معا يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله الملك، و بيده الخلق، و منه الإعطاء، و المنع يَهَبُ أي يعطي على وجه الهبة المجانية لِمَنْ يَشاءُ من الناس إِناثاً جمع أنثى، أي البنات، و المراد بالجمع الجنس- و قد سبق، أن كلا من الجمع و الجنس، يخلف الآخر في المعنى- وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ جمع ذكر، أي البنين.

[51] أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي يجمع لهم، يقول العرب: زوجت إبلي، أي

جمعت بين كبارها و صغارها ذُكْراناً وَ إِناثاً فيعطيهم من الجنسين، إما في بطن واحد، أو بطون متعددة وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ من الرجال أو النساء عَقِيماً لا يصير له ولد، إما بضعف مني الرجل، أو ضعف رحم المرأة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بالمصالح قَدِيرٌ لما يشاء.

[52] و إذ تقدم جملة من شؤون المعاد، و الألوهية، جاء السياق لبيان بعض شؤون الرسالة، كما هي العادة في السور المكية، تبين من كل هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 45

[سورة الشورى (42): آية 52]

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)

الأصول نتفا و أطرافا، و قد كان الكفار يطلبون من الرسول أن يروا اللّه يكلمهم وجها لوجه، حتى يصدقوا كما قالوا لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ «1» فجاء الجواب وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أي لا يمكن للبشر مهما كان عظمه و قدره أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وجها لوجه، فإنه سبحانه لا يمكن رؤيته، إذ ليس جسما، و لا جسمانيا، حتى يرى إِلَّا وَحْياً بأن يلقي في قلبه إلقاء، فإن أصل الوحي، هو الإلقاء الخفي بحيث لا يعرفه غير المخاطب أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يتكلم اللّه معه، و لا يراه تعالى، فكان حجابا فاصل بينهما، و هذا كناية عن عدم الرؤية أَوْ يُرْسِلَ سبحانه رَسُولًا أي ملكا، ليكلم الإنسان عن اللّه سبحانه فَيُوحِيَ بواسطة ذلك الملك أو يوحي الملك، و يلقي في قلب الرسول بِإِذْنِهِ أي بإذن اللّه تعالى ما يَشاءُ من المعارف و الأحكام، و الإتيان بلفظ «بإذنه» لإفادة، أن كلّا من مجي ء الملك،

و تكلمه مع الرسول، بحاجة إلى الإذن و الأمر إِنَّهُ سبحانه عَلِيٌ أي رفيع عن إدراك البشر، فلا يراه أحد حَكِيمٌ في جميع أفعاله فلا يكلم أحدا إلا الرسول، أو ما أشبه، أما أن يكلم كل أحد، فليس ذلك من الحكمة لعدم قابلية مطلق البشر لكلام اللّه مباشرة.

[53] وَ كَذلِكَ أي كما أوحينا إلى الأنبياء السابقين، أو بمعنى هكذا-

______________________________

(1) البقرة: 119.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 46

على تقريب تقدم بيانه- أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه رُوحاً و المراد به الشريعة، إذ هي روح الحياة السعيدة، فإن الإنسان بدون الشريعة، كالميت الذي لا يعقل، و لا يشعر، و لا يبصر، و لا يسمع، إذ هو خال عن الحقائق الكونية، ضال عن طريق الرشد مِنْ أَمْرِنا أي ناشئا تلك الروح من أمرنا و إرادتنا، فهو صادر عنا، فإن الإنسان، قد يعطي من نفسه، و قد يعطي من غيره، و ما يعطي من النفس، أكثر خيرا و تكرمة، و لعل الإتيان، ب «من أمرنا» لبيان ذلك ما كُنْتَ تَدْرِي يا رسول اللّه مَا الْكِتابُ قبل أن يوحى إليك وَ لَا الْإِيمانُ قبل أن تتلقنه، و من البديهي أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل إلقاء اللّه إليه الكتاب و الإيمان، لم يكن يعلمهما، و إنما الكلام في أن الآية ساكتة عن وقت ذلك، و الظاهر أنه قبل خلق العالم، فهو حكاية عن ابتداء خلقة الرسول في العوالم العلوية، كما

ورد «كنت نبيا، و آدم بين الماء و الطين»

«1» وَ لكِنْ نحن الذين أعلمناك جَعَلْناهُ أي جعلنا الكتاب و الإيمان- باعتبار كل واحد منهما- نُوراً لدروب الحياة المظلمة نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ من الذين يقبلون الدعوة، فالمراد

بالهداية: الألطاف الخاصة، أما إرشاد الطريق، فهو عام لكل أحد مِنْ عِبادِنا جمع عبد وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَتَهْدِي و ترشد

______________________________

(1) مفتاح الفلاح: ص 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 47

[سورة الشورى (42): آية 53]

صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

الناس إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا التواء فيه، و لا انحراف، فكتابك نور، و أنت هاد، و الدرب الذي تهدي إليه، صراط مستقيم موصل إلى السعادة.

[54] صِراطِ اللَّهِ الذي قرره و جعله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فله التكوين و له التشريع و المبدع المكون أعلم بما يصلح مما يفسد، و لذا فإن نظامه أفضل الأنظمة، و أصلحها للبشر أَلا فليتنبه السامع إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ فمنه البدء، و إليه الختام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 48

43 سورة الزخرف مكية/ آياتها (90)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «زخرف» و هي كسائر السور المكية بصدد بيان العقيدة، و الاستدلال عليها و حيث ختمت سورة الشورى بذكر القرآن، ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه، تيمنا، فإن الشعار يؤثر في الشي ء تأثيرا خارجيا، لأن الإنسان يعامل بشعاره، و واقعيا فإن لكل من الرحمن و الشيطان جنودا، فإذا ذكرت اللّه وحده فرّت جنود الشياطين منهزمين، و الرحمن الرحيم و صفان جي ء بهما لأجل استمطار شآبيب الرحمة من ساحة القدس، فمن ذكر اللّه بوصف طالبا منه تعالى أن يتفضل عليه أعطاه كما قال وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1».

______________________________

(1) غافر: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 49

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا

جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)

[2] حم «حاء» و «ميم» و ما أشبههما من سائر حروف الهجاء مادة هذا القرآن المعجز الذي لا يتمكن البشر من الإتيان بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو رمز بين اللّه و الرسول، أو غيرهما من سائر الأقوال.

[3] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي قسما بهذا القرآن الواضح الذي يظهر الحق و يبينه.

[4] إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب، حين اختار منهم من يحمل هذه الرسالة، و اختار محلهم منبثقا لهذا الوحي الثمين لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و هذا هو المقسم به، أي أن الغاية من إنزال القرآن عربيا تعقلكم و تفهمكم للحقائق، يا معشر العرب.

[5] وَ إِنَّهُ هذا القرآن فِي أُمِّ الْكِتابِ و هو اللوح المحفوظ، و إنما سمي بذلك لأنه أصل الكتب السماوية و غيرها، حيث إن كل شي ء مدروج فيه على نحو الصواب و الحكمة، فهو المرجع الوحيد الصحيح، كالأم التي هي أصل الإنسان، و منها جاء و إليها يأوي لَدَيْنا أي الذي عندنا لَعَلِيٌ أي رفيع ذو قيمة و رتبة حَكِيمٌ قد وضع الأشياء موضعها اللائق بها من تشريع و أخبار و بيان و غيرها، فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، و يسمى الكتاب حكيما باعتبار اشتماله على الأشياء الحكيمة.

[6] و إذا كان هذا القرآن بهذه المثابة، فهل ترفع اليد عنه بمجرد أن جماعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 50

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 99

[سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 8]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ

يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

كذبوا به و أسرفوا في الابتعاد عنه؟ أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ يا معشر الناس الذِّكْرَ أي القرآن صَفْحاً أي أ نترك الوحي؟ و أصله من ضرب الحيوان على صفحة وجهه ليميل عن طريقه إلى ما يراد به، ثم استعمل في كل تحريف لشي ء عن الطريق أَنْ كُنْتُمْ أي لأجل أنكم كنتم قَوْماً مُسْرِفِينَ تسرفون و تجاوزون في الكفر و العصيان؟ كلا! لا يكون هذا، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «1» بالإضافة إلى أنه إتمام الحجة، و توضيح للمحجة.

[7] و ليس هذا الأمر غريبا من هؤلاء فقد كانت عادة الأمم تكذيب الأنبياء وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية، و «كم» خبرية للتكثير.

[8] وَ ما يَأْتِيهِمْ أي الأولين مِنْ نَبِيٍ من: لتعميم النفي إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإن الجهال إذا انقطعوا عن الحجة استهزءوا و تمسخروا حتى يغلبوا خصمهم بسبب انهيار أعصابه أمام الاستهزاء، فلا يتمكن من مواصلة الاحتجاج.

[9] فَأَهْلَكْنا بسبب الاستهزاء و عدم الإيمان أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هو

______________________________

(1) الأنعام: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 51

[سورة الزخرف (43): الآيات 9 الى 10]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

أشد من هؤلاء القوم بَطْشاً أي قوة و منعة، فلا يغتر هؤلاء المشركون بالقوة و العدة، فإنها أمام إرادة اللّه سبحانه لا مجال لها وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي قد سلف في القرآن أمثال أولئك الأقوام الذين أهلكناهم، و قصصهم، فقد سبق شباهة أولئك الكفار السابقين بهؤلاء الكفار من قومك.

[10]

و إذ قدم بعض الكلام حول الرسالة و القرآن يأتي الكلام حول التوحيد وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء الكفار يا رسول اللّه مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل هو اللّه أم الأصنام؟ لم يجدوا بدّا من الاعتراف بالحقيقة، لأنهم لا يجدون سبيلا إلا القول بكون الخلق للأصنام ف لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَ و الإتيان بضمير العاقل، أما من جهة تغليب من فيها عليها، أو لما قالوا من جواز الأمرين- من «هن» و «ها» في غير العاقل- الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْعَلِيمُ بكل شي ء فإن هذا الخلق المدهش لا يمكن إلا أن يكون من صنع قادر عالم، و الأصنام عاجزة جاهلة.

[11] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي محلا للسكنى، فتستقرون فيها- و هذا من باب الالتفات المذكور في علم البلاغة- وَ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأرض سُبُلًا جمع سبيل و هو الطريق،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 52

[سورة الزخرف (43): الآيات 11 الى 13]

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)

ليتمكن الإنسان من السير و السفر لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى خالقكم حيث ترون هذه الآثار الباهرة الدالة على عالم قدير حكيم.

[12] وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر، و المراد بالسماء جهة العلو بِقَدَرٍ فليس المطر- على ما يزعمه الغافل- يكون بكثرة لا قدر لها، فإن اللّه قد حسب ذلك حسابا دقيقا، و أنزله بقدر الحاجة لا زائدا و لا

ناقصا فَأَنْشَرْنا بِهِ أي أحيينا بسبب المطر بَلْدَةً مَيْتاً أي جافة يابسة لا حركة فيها، كالميت الذي لا حراك له، و الإحياء إنما هو بإخراج النبات و الثمار، و المراد أرض البلدة التي في أطرافها، و إنما أضيف الإحياء إليها لأنها المنتفعة بالمطر كَذلِكَ أي رأيتم من إحياء الأرض بعد موتها تُخْرَجُونَ أنتم من القبور بعد الموت للنشر و القيامة.

[13] وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات و المعدن و غيرها، أو المراد بالأزواج الأصناف وَ جَعَلَ لَكُمْ أي لمنافعكم مِنَ الْفُلْكِ أي السفن وَ الْأَنْعامِ الإبل ما تَرْكَبُونَ عليه في البحر و البر، و إنما قال من «الفلك» لأن بعض السفن ليست صالحة للركوب كما أن بعض الأنعام كالغنم مثلا كذلك.

[14] لِتَسْتَوُوا أي تركبوا باستواء بلا صعوبة التمايل و الانحراف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 53

[سورة الزخرف (43): الآيات 14 الى 15]

وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)

عَلى ظُهُورِهِ أي ظهور ما جعل لكم من الفلك و الأنعام، و يسمى محل الركوب ظهرا، باعتبار باطن السفينة و الحيوان، الذي هو داخل فيهما لا يمكن و لوجه أو الاستقرار فيه ثُمَّ تَذْكُرُوا أي تتذكروا و يأتي إلى ذهنكم نِعْمَةَ رَبِّكُمْ التي أنعم عليكم إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فتشكروه على تلك النعمة وَ تَقُولُوا في ذكركم سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي أنزهه عن المثل و الشريك و القبائح، «هذا» يعني المركب سفينة كانت أم حيوانا وَ ما كُنَّا لَهُ أي لهذا المركب مُقْرِنِينَ أي مطيقين مقارين له، فلو لا تسخير اللّه إياه لنا، لم نتمكن من ركوبه،

فإن الإقران الإطاقة يقال أقرنت لهذا البعير أي أطقته.

[15] وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، من انقلب، بمعنى تغيّر حاله من حال إلى حال، و هذا من باب تذكر الجنازة و سفر الآخرة، من المركب و سفر الدنيا- و ذلك من تتمة الدعاء الذي يقال عند ركوب المركب-.

[16] وَ بعد هذه الآيات الكونية جَعَلُوا أي جعل الكفار لَهُ تعالى مِنْ عِبادِهِ و هم الملائكة و المسيح و عزيز جُزْءاً فقالوا إنهم أولاد اللّه، فإن الولد جزء من الوالد، لأنه خلق من دمه السائل في عروقه إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي كثير الكفر، فيكفر باللّه تعالى في كل أمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 54

[سورة الزخرف (43): الآيات 16 الى 17]

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17)

في ذاته، في صفاته، في توحيده في الرسالة، في المعاد مُبِينٌ أي بيّن الكفر ظاهره.

[17] ثم إن الكفار قالوا: الملائكة بنات اللّه فيأتي السياق لاستنكار قولهم هذا، بالإضافة إلى استنكار أصل اتخاذه- سبحانه- ولدا أَمِ اتَّخَذَ أي هل اتخذ اللّه سبحانه مِمَّا يَخْلُقُ من صنوف الخلق بَناتٍ بأن جعل الملائكة بناتا له وَ أَصْفاكُمْ أي أخلصكم بِالْبَنِينَ فلو كانت البنت مكروهة- كما في عرفكم- كيف تنسبون المكروه إليه، و تقولون إنا مختصون بالذكور؟ و هل هذا إلا تنزيل لقدر اللّه دون مرتبتكم.

[18] وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ أي أحد هؤلاء الكفار الذين قالوا إن الملائكة بنات اللّه بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بما جعل شبها للّه، فإن ولد كل شي ء شبهه و نظيره، و المراد إذا بشر أحدهم بأن ولدت زوجته بنتا له

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي انقلب وجهه إلى السواد لكثرة الغم الذي يصيبه من هذه البشارة، فإن الإنسان إذا اغتاظ، توجه الدم إلى وجهه، و حيث إن الدم يضرب إلى السواد يظهر من تراكمه لون السواد، و لعل التعبير ب «ظل» لبيان دوام الاسوداد في وجهه مدة أيام، لكثرة الحنق و الغيظ وَ هُوَ كَظِيمٌ أي مملوء غضبا، كاظما نفسه، لئلا يبدو منه ما ينافي شأنه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 55

[سورة الزخرف (43): الآيات 18 الى 19]

أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19)

[19] فكيف يجعل هؤلاء الكفار البنت التي يكرهونها بهذا النحو من الكره للّه سبحانه؟ أَ وَ الهمزة للاستفهام و الواو للعطف أي هل هؤلاء الكفار يجعلون للّه مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي يكبر و يتربى في الزينة، و هي البنت فإنها تزين بالملابس و الذهب و الفضة من صغرها حتى تكبر وَ هُوَ فِي الْخِصامِ أي في المخاصمة و الاحتجاج غَيْرُ مُبِينٍ غير متمكن من إظهار حجتها و دليلها، فإن المرأة حيث يغلب عليها جانب العاطفة لا تتمكن أن تقاوم الرجل الذي غلب عليه جانب العقل و الاتزان، و إنما جي ء بالضمائر مذكرا باعتبار «من» و قد جاز في «من» و «ما» مراعاة اللفظ و المعنى، و الحاصل أنه كيف يجعل هؤلاء للّه البنات الناعمة جسدا، العاجزة حجة، و يجعلون لأنفسهم البنين العاملين الأقوياء في الحجاج، و هل هذا إلا انتخاب الشي ء الحقير- بنظرهم- للّه تعالى، و اختيار الرفيع لأنفسهم؟

[20] ثم صرح سبحانه بذلك بقوله وَ جَعَلُوا أي هؤلاء الكفار الْمَلائِكَةَ

الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ كسائر العبيد إِناثاً بأن زعموا أنهم بنات اللّه أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي هل حضر هؤلاء الكفار خلق الملائكة حتى رأوا بأنهم إناث؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ بهذا الكذب الشائن، و لعل الإتيان ب «السين» لما ورد من تأخير كتابة العصيان مدة، رجاء أن يتوب الإنسان، فلا تكتب السيئة في ديوانه وَ يُسْئَلُونَ عن هذه الشهادة يوم القيامة من أين قالوها؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 56

[سورة الزخرف (43): الآيات 20 الى 23]

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)

[21] و قد كان الكفار يعبدون الملائكة وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ بأن يمنعنا عن عبادتهم، و قالوا ذلك في جواب المؤمنين الذين اعترضوا عليهم و كيف تعبدون الملائكة؟ ما لَهُمْ بِذلِكَ بأن اللّه شاء عبادة الملائكة مِنْ عِلْمٍ فمن أين لهم أن يثبتوا أن اللّه شاء عبادتهم للملائكة؟ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون في نسبة المشيئة إليه سبحانه.

[22] أَمْ آتَيْناهُمْ أي هل أعطينا و أرسلنا إلى هؤلاء عبّاد الملائكة كِتاباً فيه أن اعبدوهم- بأن لم يعلموا المشيئة عقلا و إنما علموها نقلا- مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن الناهي لهم عن ذلك فَهُمْ بِهِ أي بذلك الكتاب مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون آخذون به تبريرا لعبادتهم للملائكة؟

[23] كلا! لا علم لهم و لا كتاب بَلْ

قالُوا لتبرير موقفهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة هي عبادة الملائكة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ و ما بقي من تقاليدهم و عاداتهم مُهْتَدُونَ فالأمر لا يخرج عن تقليد صرف.

[24] و ليس التقليد للآباء في الضلال و الانحراف خاصا بهؤلاء الكفار بل الكفار السابقون يقولون بمثل هذا القول في مقابل الأنبياء وَ كَذلِكَ أي كحال هؤلاء ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 57

[سورة الزخرف (43): الآيات 24 الى 25]

قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

فِي قَرْيَةٍ من القرى، و المراد بها المدينة مِنْ نَذِيرٍ أي رسول ينذرهم من الكفر و المعاصي إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي المتنعمون فيها، من أترف بمعنى تنعم، و المراد به الرؤساء و الكبراء، لأنهم دائما يقابلون المصلحين بالإنكار و التخاصم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة و ملة وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ نقتدي بهم، فلا نخالفهم في الطريقة باتباعكم أيها الأنبياء، و ذلك لأن في اتباعهم إبقاء لكيانهم، بالإضافة إلى أن الألفة توجب تزين الأليف في النظر دون الجديد.

[25] قالَ يا رسول اللّه لهم أَ تبقون على طريقة آبائكم وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ يعني لو كان ما أدعوكم إليه أكثر رشدا و هداية من طريقة الآباء؟ قالُوا في الجواب إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ من الدين و الشريعة كافِرُونَ سواء كان أهدى أم غيره.

[26] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي من أولئك الذين تمردوا على طاعة الأنبياء عليه السّلام و تمسكوا بالتقاليد البالية فَانْظُرْ يا رسول اللّه، أو أيها الناظر

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ للأنبياء؟ و في هذا تهديد لكفار مكة إن لم يؤمنوا كانت عاقبتهم كعاقبة أولئك، و المراد بالنظر: العلم و التفكير في أمرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 58

[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 28]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)

[27] ثم يأتي السياق لنقل قطعة من قصة إبراهيم عليه السّلام لشباهتها لقصة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن قومه كانوا يعبدون الأصنام فأظهر التبرؤ منهم وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزر، و كان عمه، و إنما اسم أبيه «تارخ» و أطلق عليه لفظ «الأب» احتراما فإن الناس يسمون العم «أبا» و الخالة «أما» كما في قصة يوسف عليه السّلام «و رفع أبويه» على ما ذكره جماعة، من أن المرأة كانت خالته لا أمه وَ كما قال لأبيه قال ل قَوْمِهِ حين كانوا يعبدون الأصنام و الكواكب إِنَّنِي بَراءٌ مصدر «برء» يطلق على المفرد و التثنية و الجمع مذكرا و مؤنثا بلفظ واحد، فهو من قبيل «زيد عدل» و إلا فالأصل «ذو براء» مِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام.

[28] و حيث إن العام شامل حتى اللّه سبحانه استثنى بقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني و أوجدني من العدم فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أصله سيهديني حذف ضمير المتكلم تخفيفا و تنسيقا، و حيث إن الهداية شي ء يحتاج إليها الإنسان في كل خطوة من خطوات الحياة، صح الإتيان بالفعل المستقبل، و لا ينافي ذلك وجودها في الإنسان سابقا، و من ذلك «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

[29] وَ جَعَلَها أي جعل إبراهيم كلمة

التوحيد- المستفادة من قوله «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي»- كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي في نسله و ذريته بأن وصاهم بالتزامه و التمسك بها، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 59

[سورة الزخرف (43): الآيات 29 الى 30]

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كلما انحرفوا عن الطريق، بأن يتذكروا الوصية فيرجعوا إلى التوحيد فإن الإنسان- حسب المحيط- ينحرف فإذا تذكر وصية جده رجع و تاب.

[30] بَلْ لندع حديث إبراهيم إلى أحوال هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول، الذين جاءهم الحق عيانا فقالوا إنه سحر- فإنّا لم نكتف بالنسبة إليهم بكلمة إبراهيم في إرشادهم، بل أرسلنا إليهم رسولا آخر، و مع ذلك انحرفوا- مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي أنعمت عليهم بالصحة و النعمة و طول العمر وَ آباءَهُمْ إذ كل جيل يلاقي الجيل السابق حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ و هو القرآن أو الشريعة وَ رَسُولٌ مُبِينٌ أي ظاهر مبيّن للنهج، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[31] وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ أي القرآن أو الشريعة أو الرسول قالُوا هذا سِحْرٌ ظاهر الآية يناسب كون المراد بالحق القرآن لأن غيره يحتاج إلى التأويل وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ فليس من عند اللّه تعالى، و إنما الذي جاء به ساحر يريد السيطرة و الاستعلاء بسحره، و قد بين في هذه الآيات مختلف صنوف النعم و الإرشاد على هؤلاء: تمتيعهم لأنفسهم، و إبقاء آبائهم، و وصية إبراهيم عليه السّلام، و مجي ء الرسول،

______________________________

(1)

البقرة: 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 60

[سورة الزخرف (43): آية 31]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)

و مع ذلك لم يؤمنوا.

[32] وَ قالُوا لَوْ لا أي هلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي رجل من هذه القرية أو رجل من تلك عَظِيمٍ صفة رجل، أي رجل عظيم من مكة أو الطائف.

في تفسير الإمام أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش «إلى أن قال»: قال له عبد اللّه بن أبي أمية: لو أراد اللّه أن يبعث لنا رسولا لبعث أجلّ من في ما بيننا مالا و أحسنه حالا؟ فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن اللّه أنزله عليك و أبعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم، إما الوليد بن المغيرة بمكة و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف؟ فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أما قولك لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، فإن اللّه ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت و لا خطر له عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة، لما سقى كافرا به مخالفا له شربة ماء، و ليس قسمة اللّه إليك بل اللّه القاسم للرحمات و الفاعل لما يشاء في عبيده و إمائه، و ليس هو عز و جل ممن يخاف أحدا كما تخافه أنت لماله و حاله، فعرفته بالنبوة لذلك، و لا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع فيخصه بالنبوة لذلك، و لا ممن يحب

أحدا محبة الهوى كما تحب أنت فتقدم من لا يستحق التقديم و إنما معاملته بالعدل، فلا يؤثر لأفضل مراتب الدين و جلاله إلا الأفضل في طاعته و الأجدّ في خدمته و كذلك لا يؤخر في مراتب الدين و الجلالة إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 61

[سورة الزخرف (43): آية 32]

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)

أشدهم تبطرا عن طاعته، و إذا كانت هذه صفته لم ينظر إلى مال و لا إلى حال بل هذا المال و الحال من تفضله و ليس لأحد من عباده عليه ضربة لازب، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضا؟ لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده و لا إلزامه تفضلا، لأنه تفضل قبله بنعمه، ألا ترى يا عبد اللّه كيف أغنى واحدا و قبّح صورته؟ و كيف حسّن صورة واحد و أفقره؟ و كيف شرّف واحدا و أفقره؟ و كيف أغنى واحدا و وضعه؟ ثم ليس لهذا الغني أن يقول هلّا أضيف إلى يسري جمال فلان؟ و لا للجميل أن يقول هلّا أضيف إلى جمالي مال فلان؟ و لا للشريف أن يقول هلا أضيف إلى شرفي مال فلان؟ و لا للوضيع أن يقول هلا أضيف إلى صفتي شرف فلان؟ و لكن الحكم للّه يقسم كيف يشاء و يفعل كما يشاء و هو حكيم في أفعاله، محمود في أعماله

«1».

[33] و أجابهم اللّه تعالى بقوله أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النبوة، أي هل تقسيم النبوات بيد هؤلاء حتى ينتخبوا فلانا

للنبوة دون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ كلا! فإن اللّه سبحانه لم يجعل بأيديهم قسمة أرزاقهم فكيف يعطي مقاليد النبوة بأيديهم؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ و هو ما يستعيشون به فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في هذه الحياة القريبة على حسب المصلحة و الحكمة وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ أي بعض هؤلاء فَوْقَ بَعْضٍ رزقا و جاها و قوّة و في سائر الشؤون دَرَجاتٍ فلم نفوض

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 506.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 62

إليهم أمور نفسهم مع عدم أهميتها فكيف نفوض إليهم أعظم الأمور و هي النبوة؟ لِيَتَّخِذَ أي إنما جعلنا بعضهم فوق بعض لأن يستخدم بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا و هو الذي يسخّر في الحوائج و يستخدم في المهام، فإنه بذلك يتم نظام العالم و يستقيم، إذ لو كان الكل سادة من كان يعمل؟ و لو كان الكل أقوياء كثر التنازع و الفناء، و لو كان الكل فقراء من كان يجلب الطعام و الحوائج ليبيعها في وقتها عند الحاجة؟

و لو كان الكل أغنياء من كان ينكس و يطبخ و يخبز و يدير الأمور الصغيرة كالفلاحة و البناء و ما أشبه؟ و قد أراد بعض السخفاء ك «ماركس» اليهودي و أضرابه، أن يهدموا نظام الغنى و الفقر، فلم يتمكنوا و غاية ما صنعوا أنهم أضافوا إلى الأغنياء مع غنائهم السلاح، فجعلوا الناس فقراء، و الأغنياء بيدهم الحكم، لكي يتمكنوا من امتصاص دماء الفقراء بالمال و القوة معا، بعد ما كان كل من هذين العاملين للاستعلاء و الترفع في فئة، فكان الفقراء يجدون مناصا من طغيان كلّ بالالتجاء إلى الآخر، و لقد كان نظامهم مغلوطا إلى أبعد الحدود، و لذا نرى اليوم- و

بعد نصف قرن من قيام دولتهم في الشرق- يستجدون الحنطة و الرزق من بلاد الرأسماليين كل عام ... و لقد منع الإسلام عن كل من الرأسمالية بالمعنى الغربي و الشيوعية و الاشتراكية، و إنما نظّم الأمور خير تنظيم، مما لا مجال هنا لتفصيله «1» وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يا رسول اللّه خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال فكيف يمكن أن

______________________________

(1) راجع الاقتصاد للشهيد السيد حسن الشيرازي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 63

[سورة الزخرف (43): الآيات 33 الى 35]

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

يترك اللّه الخير- بيدهم- و الحال أنه لم يترك ما يجمعون بأيديهم؟ أو المراد أن النبوة خير من الأموال، فما عندك خير مما عند رجل من القريتين عظيم، الذين يرون تفضيلهما عليك.

[34] إذ قيمة المال و الزخرف في نظر اللّه سبحانه تافه جدا حتى أنه لو لم تكن مخافة انحياز الناس إلى الكفار لأسبل اللّه على الكفار الأموال و الزخارف بكل ألوانها، فهل هذا المال الذي هكذا شأنه يكون ميزانا لإعطاء النبوة و إرسال الرسول حتى يقول الكفار أنه «لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ»؟ وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أي لو لا مخافة أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا جميعا كفارا، حيث يرون ان الدنيا للكفار و المؤمنين صفر اليد منها لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً جمع سقف مِنْ فِضَّةٍ بأن أكثرنا عليهم من الفضة حتى

يصنعوا السقوف منها وَ مَعارِجَ من فضة، و هو جمع معراج أي السلم، أي كانت سلالم بيوتهم فضة عَلَيْها يَظْهَرُونَ أي على تلك المعارج يصعدون و يعلون، فإن الصاعد يظهر بما لا يظهر الذي في البيت.

[35] وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة وَ لأنفسهم سُرُراً جمع سرير، من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ عند الجلوس.

[36] وَ زُخْرُفاً أي جعلنا لهم في السقف و المعارج و الأبواب و السرر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 64

[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 37]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)

الزخرف، و هو الذهب، و المعنى أغرقناهم في الذهب و الفضة حتى يكون كل شي ء لهم منهما وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ من الفضة و الذهب و الدر و سائر أنواع التجمل و الزينة لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «أن» نافية و «لما» بمعنى إلا، أي ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، أي الحياة القريبة، التي يتمتع بها الإنسان في أيام قلائل وَ الْآخِرَةُ التي عِنْدَ رَبِّكَ قربا شرفيا، لا مكانيا لِلْمُتَّقِينَ الذين آمنوا و أطاعوا، فمن الضروري أن يحصل الإنسان على الآخرة لا على الدنيا الفانية التي لا قيمة لها.

[37] و إذ تبين أن لا قيمة للماديات، فالكافر لا أهمية له بنظره سبحانه و إن كان ذا رئاسة أو مال، بل إن مستواه المعنوي لمنحط جدا حتى أنه دائم الملازمة للشيطان الذي يغويه، فهل مثل هذا صالح للنبوة؟ وَ مَنْ يَعْشُ أي يعرض و يتعامى عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أصله من «العشو» و هو ضعف البصر، فكأن الكافر ضعيف البصر، بالنسبة إلى الشريعة و الدين نُقَيِّضْ أي نرسل

لَهُ لذلك الإنسان شَيْطاناً يوسوس إليه و يؤذيه و يصده عن الحق فَهُوَ أي الشيطان لَهُ لذلك الإنسان قَرِينٌ أي ملازم، و ذلك لأنه لما أعرض عن الحق خلّى سبحانه بينه و بين الشياطين يفعلون به ما يشاءون، و هذا معنى «التقييض».

[38] وَ إِنَّهُمْ أي الشياطين القرناء مع الكفار، و إنما جي ء بالجمع، لأن المراد ب «شيطانا» الجنس، لا الواحد لَيَصُدُّونَهُمْ أي يمنعون هؤلاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 65

[سورة الزخرف (43): الآيات 38 الى 39]

حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

الكفار عَنِ السَّبِيلِ طريق اللّه سبحانه بالوسوسة و إلقاء الشبهة وَ يَحْسَبُونَ هؤلاء الكفار أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي أنهم في سبيل الحق، حيث زين لهم كفرهم و عصيانهم، حتى زعموا أنهم على هدى، و أن المؤمنين على ضلالة، كما قال سبحانه وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «1».

[39] و يبقى الشيطان مع هذا الكافر حَتَّى يوم القيامة ف إِذا جاءَنا أي حضر للحساب و الجزاء في يوم المحشر و ظهر له جزاءه السي ء قالَ مخاطبا للشيطان الذي كان يغويه في دار الدنيا، و يمنعه عن الاهتداء يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أيها الشيطان، بعدا مثل بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي المشرق و المغرب، و غلب المشرق، لقاعدة تغليب الأشرف، أو الأقرب إلى القصد، و لذا يقال للشمس و القمر «شمسان» و «قمران» فَبِئْسَ الْقَرِينُ كنت لي في الدنيا حيث أوصلتني إلى هذه الحالة، و هذا العقاب الأليم.

[40] و إذا كان المقام محل توهم أن يخفف الشيطان المقارن للكافر- في الآخرة- بعض عذابه، كما هو المعتاد في الدنيا أن

يخفف أحد القرينين بعض آلام الآخر، جاء الخطاب للكافر بقوله وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ أيها الكفار و الشياطين القرناء لهم الْيَوْمَ أي يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ

______________________________

(1) المطففين: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 66

[سورة الزخرف (43): الآيات 40 الى 42]

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)

أنفسكم في الدنيا بالكفر و العصيان أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا فاعل «لن ينفعكم» أي لا يفيدكم اشتراككم في العذاب لتخفيفه عنكم بل لكل عذاب نفسه، بدون أن يحمل قرينه بعض عذابه.

[41] ثم جاء السياق ليسلي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنسبة إلى هؤلاء الكفار الذين لا يسمعون وعظه و إرشاده ببيان أن التقصير ليس منك، و إنما من الكافر نفسه حيث عاند حتى صار كالأصم الأعمى لا يسمع و لا يبصر أَ فَأَنْتَ يا رسول اللّه، و الاستفهام للإنكار تُسْمِعُ الصُّمَ أي تقدر على إسماع من به صمم في أذنه، و «صم» جمع أصم أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي تقدر على إرشاد الأعمى بالكلام هو و الأصم سواء من لا ينتفع بما يرى هو و الأعمى سواء وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال ظاهر بين، و هذا في قبال أولئك فإن من ضل قلبه عن الحق و عاند يكون غير قابل للهداية، فهؤلاء لا ينتفعون بأبصارهم و أسماعهم و قلوبهم.

[42] و لا بد أن ننتقم من هؤلاء الكفار سواء انتقمنا في حياتك أو بعد موتك فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد نَذْهَبَنَّ بِكَ يا رسول اللّه، أي نميتك قبل تعذيب هؤلاء

الكفار فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعدك.

[43] أَوْ إن أردنا أن نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ من العذاب و النكال، بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 67

[سورة الزخرف (43): الآيات 43 الى 45]

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

نعذبهم في حياتك فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فإنهم لا يتمكنون من الفرار أو الانتصار علينا.

[44] فما عليك يا رسول اللّه أمر هؤلاء، و إنما أنت منتدب إلى البلاغ باستمرار سواء قبل الناس أم لم يقبلوا فَاسْتَمْسِكْ يا رسول اللّه أي تمسك بشدة بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القرآن و الشريعة إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل إلى السعادة بأقرب الخطوط.

[45] وَ إِنَّهُ أي الذي أوحي إليك من القرآن و الشريعة لَذِكْرٌ لَكَ أي مذكر لك ما أودع في فطرتك من الأصول وَ لِقَوْمِكَ أي العرب، أو من بعثت إليهم من جميع البشر، و لذا

كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول «اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون»

«1» حين كان يؤذيه الكفار و لو كانوا غير قومه، و يحتمل أن يكون المراد بالذكر «الشرف» أي أنه شرف باق لكم وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة هل عملتم بما في هذا الذكر أم لا؟.

[46] وَ سْئَلْ يا رسول اللّه مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى و غيرهم عليه السّلام، و هذا مجاز يراد به الفحص عن مقالاتهم، كما يقال سل الأطباء عن هذا المرض، أي راجع كتبهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص:

68

[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 47]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47)

أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أي سواه آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل قررنا عبادة آلهة أخرى، و هذا الكلام لتقريع أهل الكتاب في المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم متبعون للأنبياء و مع ذلك كانوا يشركون باللّه زاعمين أن اللّه أباح لهم الشرك و قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا «1» و قالوا هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ «2» و هذا لا ينافي ما روي من أن الأنبياء جمعوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، و خوطب بهذا الخطاب هناك.

[47] ثم يأتي السياق ليذكر نتفا من قصة موسى عليه السّلام، تسلية للرسول، حيث قابله القبط بما قابل المشركون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع آياتنا، و هي المعجزات الباهرة، من عصا، و يد، و جراد، و دم، و غيرها إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي الأشراف من قومه، و تسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون الصدور رهبة و العيون هيبة، و ذكر الملأ يغني عن ذكر سائر القبط، لأنهم تابعون دائما، فلا يحسب حسابهم فَقالَ موسى لهم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم.

[48] فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بِآياتِنا أي مع المعاجز التي أعطيناها لتثبيت نبوته إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي يستهزئون بالآيات، و هذه

______________________________

(1) النحل: 36.

(2) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 69

[سورة الزخرف (43): الآيات 48 الى 50]

وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ

أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

حيلة العاجز يتخذها وسيلة لإخماد صوت خصمه القوي حيث لا يتمكن من إبطال حجته.

[49] وَ ما نُرِيهِمْ أي ما أريناهم، و إنما جي ء بالمستقبل لأنه حكاية حال ماضية مِنْ آيَةٍ أي خارقة من الخوارق التسع إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها فما ترادف عليهم كان الثاني أكبر من الأول و الثالث أكبر من الثاني و هكذا في الباقي أو انه عبارة عرفية لبيان كبر جميع الآيات، و لذا يقول القائل لي أولاد واحد منهم أحسن من الآخر- يريد وصول كل واحد إلى منتهى درجة الحسن- وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فقد كانت بعض تلك الآيات عذابا لهم، كالدم و القمل و الضفادع لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم و ضلالهم.

[50] وَ قالُوا أي قال فرعون و ملأه لموسى، عند ما نزل بهم العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا أي لأجل رفع عذابنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فقد عهد اللّه إلى موسى أنهم إن أرسلوا معك بني إسرائيل بأن أطلقوا سراحهم من السجون و التسخير يكشف العذاب عنهم، كما سبق في بعض الآيات، أو أنهم لما ضاق بهم الخناق وعدوا أن يؤمنوا إذا كشف العذاب عنهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ إلى الإيمان أو إطلاقهم.

[51] و على أيّ فقد دعا موسى ربه و كشف اللّه عنهم العذاب فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ كأن العذاب ستر عليهم، فإذا رفع، كشف عنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 70

[سورة الزخرف (43): الآيات 51 الى 53]

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ

وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)

ليظهروا من تحته غير معذبين إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد و يبقون على كفرهم، أو يبقون بني إسرائيل على إسارهم كالسابق.

[52] وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ حين رأى أن أمر موسى أخذ في العلو و الظهور، فأراد الحطّ من قدر موسى و إظهار نفسه قويا عظيما لدى أهل مصر، لئلّا يميلوا إلى موسى فجمعهم و خطبهم قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ على نحو الاستفهام التقريري، أي أن لي هذا الملك الوسيع وَ هذِهِ الْأَنْهارُ كالنيل و نحوه تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت أمري و سلطتي، فلي أرض و ماء أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذا الملك العظيم؟.

[53] أَمْ تبصرون و تعلمون أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ يريد موسى عليه السّلام، و المراد بالمهين الذليل الحقير، من هان بمعنى ذل و سهل أمره وَ لا يَكادُ يُبِينُ أي لا يكاد يفصح بكلامه، فقد كان موسى عليه السّلام قبل النبوة يعقد لسانه إذا أراد الكلام، و لذا قال في دعائه «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» و قد استجاب اللّه دعاءه فكان فصيحا، لكن فرعون استغل جهل الناس بذلك، و أنهم كانوا قد عهدوه قبل النبوة غير مفصح، و لذا خدعهم بأنه بعد باق على حالته السابقة.

[54] فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أي على موسى أَسْوِرَةٌ جمع سوار و هو الحلية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 71

[سورة الزخرف (43): الآيات 54 الى 56]

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً

فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

التي تلبس في اليد بين المرفق و الزند مِنْ ذَهَبٍ أي إن كان صادقا فلما ذا لا يلقي عليه ربه مقدارا من الذهب يثري و يغني أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ أي متتابعين يعينونه على أمره؟ و إذ لا ذهب يبقى و لا ملائكة معه فهو كاذب، و أي ربط بين النبوة و إلقاء الأسورة؟ أم أي حاجة إلى نزول الملائكة بعد تلك الآيات؟ و إنما أراد فرعون خداع الجماهير بهذه التلفيقات الباطلة.

[55] فَاسْتَخَفَ فرعون قَوْمَهُ بأن حسبهم خفيفي العقول يتمكن من إنهاضهم لنصره بمجرد خطاب و مغالطة، كما هي عادة الطغاة دائما أمام الجماهير فَأَطاعُوهُ فيما دعاهم إليه من رفض الإسلام و اتباع موسى، و البقاء على الكفر و العصيان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن طاعة اللّه تعالى، و لذا اتبعوا فرعون.

[56] فَلَمَّا آسَفُونا أي أغضبونا ببقائهم في الكفر و العناد، و اللّه سبحانه لا يغضب- كما يغضب الإنسان- بل المراد وصلوا في كفرهم و عصيانهم إلى حد من شأنه أن يغضب انْتَقَمْنا مِنْهُمْ جزاء كفرهم و إثمهم فَأَغْرَقْناهُمْ في البحر أَجْمَعِينَ و لم نبق واحدا منهم سالما.

[57] فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين إلى النار و على سائر الكفار وَ مَثَلًا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 72

[سورة الزخرف (43): آية 57]

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)

أي عبرة و موعظة يمثل بهم لأجل العظة و التذكير لِلْآخِرِينَ الذين يجيئون بعدهم.

[58] و بمناسبة الحديث عن قصة موسى عليه السّلام يقدم على ذلك مقدمة

و هي ما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزل قوله تعالى إِنَّكُمْ

وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» فرح بعض المشركين بأنهم وجدوا مأخذا على الرسول، فجاء ابن الزبعرى و هو القائل:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل و قال للرسول ألم يعبد المسيح و عزيز و الملائكة؟ فقال الرسول بلى قد عبدوا، فقال: فكيف يكون هؤلاء «حصب جهنم» كما ذكرت و أنت تثني عليهم؟ و إذا جعلتهم من أهل النار فنحن نرضى بأن نكون كالمسيح، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك! ما أجهلك بلسان قومك؟ «ما» لما لا يعقل، فأقحم ابن الزبعرى و ارتد خائبا

، و في قول آخر إن الرسول انتظر الوحي، فنزل إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «2» و قد أراد اللّه سبحانه من إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ «3» الأصنام، لأن الخطاب موجه إلى المشركين، فكان قولهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغالطة و جدلا، و لذا أوضحت الآية ذلك، و هناك روايات أخرى لا يهمنا التعرض لها وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي لما ضرب ابن الزبعرى المثل بعيسى و أراد أن يجعله مثلا لقوله «و ما

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

(2) الأنبياء: 102.

(3) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 73

[سورة الزخرف (43): الآيات 58 الى 60]

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)

تعبدون» إِذا قَوْمُكَ يا رسول اللّه، و المراد بهم الكفار مِنْهُ أي من هذا المثل يَصِدُّونَ أي يضجون ضجيج المجادلة، لظنهم أنهم

غلبوك و أبطلوا أمرك.

[59] وَ قالُوا في جدالهم معك أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ من عيسى أَمْ هُوَ خير؟

فإذا كان عيسى في النار- كما تقول أنت يا محمد- فلتكن آلهتنا في النار أيضا، فإنا راضون بمقام عيسى ما ضَرَبُوهُ أي لم يضرب هذا المثل ابن الزبعرى لَكَ يا رسول اللّه إِلَّا جَدَلًا فهم يريدون الجدل لا الحقيقة، كسائر المعاندين بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أي يريدون الخصومة و الجدل لدفع الحق بالباطل.

[60] ثم يأتي السياق لبيان حال عيسى، بقول وسط بين إفراط النصارى و تفريط اليهود إِنْ هُوَ أي ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة، فليس إلها، و لا لغير رشده كاذبا وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي مثلا للدين و الفضيلة، فإن القدوة يكون مثلا به، ألا ترى أنك تمثل للرسالة بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و للزهد بالمقدّس الأردبيلي، و بالشقاوة بابن ملجم فإن الفرد الكامل في صفته يجعل مثلا، و إنما كان مثلا لبني إسرائيل لأنه عليه السّلام بعث فيهم.

[61] وَ لَوْ نَشاءُ أيها الناس لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلا منكم معاشر بني آدم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 74

[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 62]

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ فإن إفناءكم و جعل الملائكة مكانكم يَخْلُفُونَ و يكونون خلفكم في الأرض، أمر يسير علينا، فلا يظن الكفار أن اللّه غير قادر على إفنائهم أو أنه لا يجد أفضل منهم، و لذا يبقيهم.

[62] وَ إِنَّهُ أي أن عيسى ابن مريم عليه السّلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي علامة لقرب القيامة، فقد ورد في عدة

أحاديث إن عيسى عليه السّلام ينزل من السماء عند ظهور الحجة عليه السّلام و يصلي به و كونه موجبا للعلم باقتراب الساعة ليس معناه أنه عليه السّلام ينزل قرب الساعة حقيقة، بل هو من قبيل كون رسولنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من علائم الساعة، و يحتمل أن يرجع ضمير «إنه» إلى نزول الملائكة، أي أن النزول وقت قيامة القيامة كما قال سبحانه وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها «1» و وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «2» و الآية بعد- عندي- من المتشابهات، كما أنه لم يظهر لي الربط التام بين آية (60) و ما قبلها و اللّه العالم فَلا تَمْتَرُنَّ بِها لا تشكّون في الساعة، فإنها آتية لا محالة وَ اتَّبِعُونِ فيما آمر و أنهي، و حذف «ياء» المتكلم للتخفيف هذا أي اتباعي و سلوك ديني صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى السعادة الأبدية بأقصر خط و أسهل سلوك.

[63] وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ أي لا يصرفنكم الشَّيْطانُ بوساوسه عن طريق

______________________________

(1) الحاقة: 18.

(2) الفرقان: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 75

[سورة الزخرف (43): الآيات 63 الى 64]

وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)

اللّه، و صراطه المستقيم إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ أيها البشر عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

[64] وَ لَمَّا جاءَ عِيسى إلى اليهود بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة الخارقة الواضحة كإحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص قالَ لهم قَدْ جِئْتُكُمْ مرسلا إليكم بِالْحِكْمَةِ أي بالنبوة التي هي عرفان الشريعة و سائر الأمور المرتبطة بدين الناس و دنياهم، فإن الرسول وحده

يعلم موضع كل شي ء و يتمكن من وضع كل شي ء موضعه، و قد سبق أن الحكمة عبارة عن وضع كل شي ء في موضعه اللائق به وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فقد اختلف اليهود في كثير من شريعة موسى عليه السّلام فجاء عيسى مبينا لهم الحق في بعض تلك الاختلافات، و إنما قال «بعض» لأن كل الاختلافات الجزئية لا يسهل إعلام أهلها بالحق فيها و هذا يظهر إذا قاس الإنسان ذلك بالاختلافات في ذات نفسه، فإن الخطوط العامة للاختلافات يمكن بسهولة بيان الحق فيها أما الاختلافات بين كل فردين منتشرين هنا و هناك في بعض الأمور الدينية، فلا يسهل استيعابها، و لا يهم الداعي و المرشد بيان الحق فيها فَاتَّقُوا اللَّهَ أيها اليهود، و خافوا عقابه في العصيان وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم و أنهاكم، و حذف «الياء» للتخفيف و التنسيق.

[65] إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي فلست إلها وَ رَبُّكُمْ فلا إله غيره، فقد كانت الوثنية تتحكم في بعض طوائف اليهود فَاعْبُدُوهُ وحده لا شريك له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 76

[سورة الزخرف (43): الآيات 65 الى 66]

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)

هذا الذي ذكرته من لزوم توحيد اللّه، و اتقائه و إطاعة رسله صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إلى السعادة الأبدية، بلا انحراف أو تحوير.

[66] و هل بقيت أمة عيسى على صفاء التوحيد كما أمر عيسى، و صرح به في كلامه؟ و هل بقوا أوفياء فيما حمّلهم من الشريعة؟ كلا! فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي الفئات التي اتبعت عيسى عليه السّلام مِنْ بَيْنِهِمْ أي من بين أولئك الذين أرشدهم عيسى

و هداهم، فهناك من بقي يهوديا، و من انحرف عن التوحيد فقال إن عيسى ثالث ثلاثة، و من أدخل في الشريعة ما ليس منها أو أنقص منها، و من حرّف الإنجيل كما شاء إلى غيرهم من الأحزاب المختلفة فَوَيْلٌ كلمة تقال لبيان سوء الحال لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و العصيان من هؤلاء مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ أي عذب يوم القيامة، المؤلم الموجع.

[67] و إذ تقدم الكلام حول التوحيد، و حول الرسالة، يأتي السياق لبيان نتف حول المعاد- كما هي القاعدة في بيان الأحوال الثلاثة، في القرآن الحكيم- هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا السَّاعَةَ؟ بمعنى ماذا ينتظرون بعد قيام الحجة عليهم، إلا أن تقوم عليهم القيامة، فيعذبون بكفرهم؟ و هذا تهديد لهم، كما تقول لمن أمرته فعصى: هل تنتظر إلا العقوبة؟ يعني أنك بعصيانك يكون حالك كحال من ينتظر العقاب، و إلا فلما ذا تعصي؟، و الإتيان بلفظ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 77

[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 69]

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69)

«ينظرون» لنكته هي أن المنتظر يأخذ في النظر إلى المحل المترقب، إذا قرب وقت المجي ء، فكأن كل شي ء تمّ بالنسبة إلى هؤلاء الكفار، و قد قرب وقت العذاب، فهم ينظرون إلى محلّه متى يأتيهم أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بلا سابق إنذار وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ وقت مجيئه حتى يتوبوا و يستعدوا له.

[68] الْأَخِلَّاءُ جمع خليل، و هو الصديق، يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لما يرى كل واحد منهم من العذاب لأجل تلك المصادقة إِلَّا الْمُتَّقِينَ الذين آمنوا و اتقوا الكفر

و المعاصي، فإنهم لا يتعادون هناك، إذ لم يترتب على صداقتهم عذاب أو نكال، بل بالعكس من ذلك فإن التصادق في اللّه يوجب الثواب و الأجر.

[69] و يخاطب اللّه المتقين في ذلك بقوله يا عِبادِ جمع عبد، و حذف الياء للتخفيف لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ من العقاب وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ لفوات الثواب من أيديكم.

[70] ثم وصف العباد، ليعلم من هم؟ بقوله الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر و ما يلزم الإيمان به بِآياتِنا أي بحججنا و أدلتنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ لأوامرنا، بأن صحت عقيدتهم، و حسن عملهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 78

[سورة الزخرف (43): الآيات 70 الى 73]

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)

[71] ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ المؤمنات تُحْبَرُونَ أي تسرون فيها سرورا يظهر على وجوهكم أثره، فإن الحبور هو السرور الذي يظهر أثره في الوجه.

[72] يُطافُ عَلَيْهِمْ أي يطوف عليهم الولدان المخلدون و معنى الطواف أن يدور فيهم لإسقائهم و إطعامهم، كما يدور الساقي بِصِحافٍ جمع صحفة و هي الجام الذي يؤكل فيه الطعام مِنْ ذَهَبٍ فيها أنواع الأطعمة وَ أَكْوابٍ جمع كوب و هو ظرف يشرب فيه الماء وَ فِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من أنواع الملذات وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ بالنظر إليه وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ باقون أبد الآبدين بلا زوال أو تنقل.

[73] وَ تِلْكَ التي وصفناها هي الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي انتقلت إليكم، كالإرث الذي

ينقل إلى الإنسان، و إنما أورثوا الجنة بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا، و الظاهر أن هذا كلام يقال لأهل الجنة على سبيل التكريم لهم، و إنما جاء بلفظ «تلك» للبعيد دون «هذه» تنزيلا للرفيع منزلة، البعيد حسّا- كما قالوا: في ذلك الكتاب-.

[74] لَكُمْ أيها المتقون المسلمون فِيها أي في الجنة فاكِهَةٌ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 79

[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 78]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)

ثمرة كَثِيرَةٌ بلا انقطاع أو قلة مِنْها تَأْكُلُونَ لأنها لكثرتها لا تؤكل كلها، و إنما يؤكل «منها» أي بعضها.

[75] و في مقابل هؤلاء، الكفار و العصاة الذين أجرموا في الحياة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ و هذا لمن عاند الحق، و أما العاصي الذي تدركه الشفاعة فإنه يخرج من النار لا كالمعاند الذي ينتهي أمره.

[76] لا يُفَتَّرُ من الفتور، بمعنى التخفيف، لا يخفف عَنْهُمْ العذاب وَ هُمْ فِيهِ أي في العذاب مُبْلِسُونَ أي آيسون، و هذا من أعظم المصائب، إذ الراجي له راحة القلب- نوعا ما- بينما أن الآيس منقطع، لا يرى إلا دوام العذاب، مما يزيده ألما و حزنا.

[77] وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتعذيبهم في النار وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنفسهم حيث عملوا في الدنيا ما استحقوا به العقاب.

[78] وَ نادَوْا أي أهل النار يا مالِكُ و هو خازن جهنم لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي اسأل ربك أن يميتنا نتخلص و نستريح من هذا العذاب قالَ مالك

في جوابهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ أي باقون في النار فلا موت بعد هذا أبدا.

[79] ثم يذكّرهم سبحانه- في الدنيا- بأنه أرشدهم و لكن لم يقبلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 80

[سورة الزخرف (43): الآيات 79 الى 81]

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)

لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ أي أرسلنا إليكم ما هو حق من أمر الرسل و الكتب و الشرائع وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ معاشر الناس لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما ألفتم من الباطل فصعب عليكم مفارقته إلى العمل بالحق و اتباعه.

[80] أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً؟ أي بل إن هؤلاء عوض اتباعهم للحق جعلوا يحيكون المؤامرات ضد الحق، من الإبرام، و هو الإحكام في العمل، و القتل فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي إنا محكمون أمرنا في إعلاء كلمتنا و مجازات هؤلاء.

[81] أَمْ يَحْسَبُونَ أي بل يظن هؤلاء- حين يدبرون المكر و المؤامرة- أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ ما يضمرون في أنفسهم و ما يتناجى بعضهم مع بعض بَلى نسمع السر و النجوى، و إطلاق السماع على السر- المضمر في القلب- باعتبار الجوار للنجوى، و إلا فالسر يعلم، لا أنه يسمع وَ رُسُلُنا أي الملائكة الحفظة لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ما يسرون و يتناجون.

[82] و لقد كان هؤلاء الكفار بمختلف أشكالهم يزعمون أن للّه ولدا، أما المسيح أو الملائكة، أو عزيز فجاء السياق لنفي الولد قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لذلك، باعتبار أنه جزء من الإله، فهو إله يستحق العبادة، و إنما قال «أول العابدين» لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 81

[سورة الزخرف (43): الآيات 82

الى 84]

سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)

الرسول حيث إنه أعرف الناس باللّه و شؤونه لا بد و أن يكون أسرع الناس إلى عبادة ولد اللّه، لا يخفى ان الجملة الشرطية لا تنافي استحالة الطرفين- كما ذكروا-.

[83] سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي أنزه اللّه تنزيها عن هذا القول، فسبحان مصدر منصوب بفعل مقدر أي أسبح سبحان رَبِّ الْعَرْشِ جي ء بهذا الوصف للدلالة على عظم مقامه سبحانه فكيف يمكن أن يتخذ ولدا عَمَّا يَصِفُونَ أي يصف هؤلاء المشركون اللّه سبحانه به فيقولون «له ولد».

[84] فَذَرْهُمْ أي دعهم يا رسول اللّه يَخُوضُوا في باطلهم، و أصل الخوض هو الارتماس في الماء، و يسمى المحدّث الذي غرق في الحديث خائضا- تشبيها- وَ يَلْعَبُوا في الدنيا، فإن أعمالهم الدنيوية لعب- إذ هي مثله في عدم الفائدة و الفناء بسرعة- حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ فيه بعذاب الأبد، و هو يوم القيامة، و هذا تهديد لهم.

[85] وَ هُوَ وحده إله الكون كله لا إله سواه ولدا كان أو شريكا فهو الَّذِي فِي السَّماءِ هو إِلهٌ بلا شريك وَ فِي الْأَرْضِ هو إِلهٌ بلا شريك، وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله، بمعنى أن كلّا من خلقه و تشريعه حسب الحكمة و الصلاح الْعَلِيمُ بمصالح عباده، و قد سبق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 82

[سورة الزخرف (43): الآيات 85 الى 86]

وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَ لا يَمْلِكُ

الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86)

أن العلم و الحكمة أمران فرب عالم غير حكيم و رب حكيم غير عالم، إذ الحكمة ملكة وضع الأشياء مواضعها و تلك تجتمع مع العلم كما يمكن أن توجد بدونه.

[86] وَ تَبارَكَ أي دامت بركته، و إنمائه للخيرات الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما من ملك و إنسان و هواء و غيرها، فلا منازع له، و لا شريك و لا ولد وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فهو وحده يعلم وقت قيام القيامة وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي إلى حسابه و جزائه ترجعون أنتم أيها البشر بعد الموت.

[87] فهو وحده إله مالك خالق، لا شأن للأصنام في خلق أو ملك، أما من يعبدها بزعم أنها تشفع له فهو في غلط وَ ذلك لأنه لا يَمْلِكُ الأصنام الَّذِينَ يَدْعُونَ هؤلاء الكفار لهم مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه- و إنما جاء الاستثناء لأنهم كانوا يدعون اللّه أيضا- الشَّفاعَةَ و إنما جي ء بضمير العاقل للأصنام لتنسيق الكلام بين الكفار و بين جوابهم فهم يعتبرون الأصنام عقلاء إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هم عيسى و عزيز و الملائكة، فإن الكفار كانوا يعبدونهم، و لهم الشفاعة في الآخرة، أنهم يشهدون بالحق، و أنهم ليسوا بآلهة، و إنما أنبياء و ملائكة وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم ليسوا بآلهة، و هؤلاء لا يشفعون من جحد الحق و كفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 83

[سورة الزخرف (43): الآيات 87 الى 89]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

به، فلا ينتظر الكفار

شفاعة الآلهة التي يعبدونها، فأصنامهم لا تشفع إطلاقا، و الأنبياء و الملائكة يشفعون لغيرهم، لا لهم.

[88] و من عجيب الأمر أنهم يعبدون غير اللّه، مع أنهم معترفون بأن اللّه وحده خالقهم وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء الكفار- يا رسول اللّه- مَنْ خَلَقَهُمْ و أخرجهم من العدم إلى الوجود لَيَقُولُنَ في جوابك اللَّهُ خلقنا فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي إلى أين يصرفون بعد هذا الاعتراف؟ و المعنى فكيف ينصرفون من عبادة اللّه إلى عبادة الأصنام؟.

[89] و لا يجد الرسول أمام عناد هؤلاء إلا أن يشكو ربه منهم وَ قِيلِهِ أي قول الرسول يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ بعد أن بلغتهم و أنذرتهم و قمت بواجب الإرشاد.

[90] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يا رسول اللّه، أي أعرض عنهم، فإن المعرض يعطي صفحة وجهه للطرف بعد ما كان مقبلا عليه بمقدم وجهه وَ قُلْ لهم سَلامٌ أصله أن الذاهب يدعو لمن بقي بالسلامة، ثم استعمل في كل معرض و مودة، تشبيها، و إن لم يكن قصده سلامتهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في الدنيا حين ضنك عيشهم، أو عند الموت، أو في القيامة، بأنهم كانوا على خطأ، حين لم يقبلوا منك، و استمروا في كفرهم و عنادهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 84

44 سورة الدخان مكية/ آياتها (60)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الدخان» و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، بالنسبة إلى التوحيد و الرسالة و المعاد، و لما ختمت سورة الزخرف بالوعيد للكفار، ابتدأت هذه السورة- في أوائلها- بالعذاب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع باسم الإله الذي له كل شي ء، و يملك كل أمر، فلا أحق منه بالابتداء و جعله شعارا، الرحمن الرحيم لعباده في الدنيا، و يرحم المؤمنين خاصة في الآخرة.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 85

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» جنس هذا الكتاب المعجز الذي عجز الجن و الإنس أن يأتوا بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو رمز بين اللّه و بين الرسول، و هل ذلك تكرار لما سبق من مثل هذه اللفظة، أو لمدلولات مختلفة، و إن تماثلت الرموز؟ احتمالات، إلى غير ذلك من الأقوال في فواتح السور.

[3] وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي قسما بهذا الكتاب- و هو القرآن- الظاهر، و قد مرّ أن اللّه سبحانه يحلف بمختلف صنوف خلقه، دلالة لعظمة كل خلق، و إن كان في النظر أمرا هينا، نحو «و التين و الزيتون».

[4] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا الكتاب الذي هو القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ذات بركة و نماء، و المراد بها ليلة القدر، و محتمل ليلة القدر أربع، التاسع عشر و الواحدة و العشرين و الثالث و العشرين من شهر رمضان المبارك و ليلة النصف من شعبان، فقد نزل القرآن في ليلة القدر- جملة واحدة- إلى البيت المعمور في السماء، ثم نزل منجما إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مبتدأ بالسابع و العشرين من رجب يوم مبعث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزلت سورة «اقرأ» إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ للكفار و العصاة، بأنهم إن استمروا على كفرهم و عصيانهم عوقبوا في الآخرة بالعذاب و النار، و قوله «إنا ...» هو المقسم به، لقوله «وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ».

[5] فِيها أي في الليلة المباركة يُفْرَقُ أي يبين

و يميز و يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي كل أمر مقدر محكم مرتبط بهذا العالم، فإن التقديرات من العام إلى العام تجري في ليلة القدر من كل سنة، و قد ورد متواتر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 86

[سورة الدخان (44): الآيات 5 الى 8]

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

الأحاديث أن الملائكة ينزلون بتقديرات العام، إلى الإمام الموجود بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1» ففي دورنا هذا تنزل الملائكة في ليلة القدر على الإمام المهدي عليه السّلام بتقديرات كل إنسان و كل أمة من العام إلى العام.

[6] نأمر بذلك أَمْراً مِنْ عِنْدِنا فإننا نصدر الأوامر بالتقديرات إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ للرسل إلى الأمم، و لذا أرسلنا محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى هذه الأمة، و زودناه بالكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة.

[7] و إنما نرسل الرسل رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي نرحم الناس رحمة بالإرسال، إذ الرسل يبيّنون للناس ما يصلحهم في دنياهم و أخراهم إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لما يتكلم به الناس و لكل صوت الْعَلِيمُ بما يفعلون، فهو يعلم سر الناس و نجواهم، فليحذر الناس الذين أرسل إليهم أن يخالفوا اللّه سبحانه.

[8] رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقها و مربيها وَ ما بَيْنَهُما من الإنسان و الملك و الجن و الأشجار و غيرها إِنْ كُنْتُمْ أيها الناس مُوقِنِينَ أي ذوي يقين و علم، لعلمتم بصحة هذا الخبر، و هذا في قبال من لا يبالي و

لا يتبع الأمر ليتقين، و الحاصل إن أردتم العلم برب الكون لعلمتم أن ربه هو اللّه.

[9] لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده لا شريك له يُحْيِي الأموات، كما يحي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 94 ص 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 87

[سورة الدخان (44): الآيات 9 الى 12]

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)

الأرض و غيرها وَ يُمِيتُ الأحياء من إنسان و حيوان و نبات، و من ظن أنه يميت أحدا بواسطة القتل فقد اشتبه، فإنه إنما يهيئ السبب كما يهيئ الزرّاع و الوالد سبب الزرع و الولد، أما الزرع و الولد فمن اللّه سبحانه، هو رَبُّكُمْ خالقكم و مربيكم وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الذين سبقوكم، فهل يتمكن أحد أن يدعي أن المسيح أو الملائكة أو عزير أو الأصنام خلقوه؟ كلا! [10] بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار فِي شَكٍ من التوحيد يَلْعَبُونَ بالشريعة و الدين، و المراد يفعلون فعل اللاعب، لأنهم لا يرون للدين قيمة و لا يدركون أنه مرتبط بمصيرهم في الحياة الدنيا و الآخرة.

[11] فَارْتَقِبْ أي انتظر يا رسول اللّه يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فإن من أشراط الساعة أن يشمل العالم دخان مظلم يمكث أربعين يوما، و المعنى أنهم إن لعبوا مقابل هذا الجد، و شكّوا مقابل هذا الأمر المتيقّن، فدعهم حتى يأتيهم العذاب، في يوم القيامة.

[12] يَغْشَى أي يحيط ذلك الدخان ب النَّاسَ و هو من أهوال القيامة و يقال لهم هذا الذين ترون و تترقبون عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع لمن كفر و عصى.

[13] و هناك يقولون رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ أي

ارفع عذاب الدخان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 88

[سورة الدخان (44): الآيات 13 الى 15]

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)

و سائر ما يترقبونه من أنواع العذاب إِنَّا مُؤْمِنُونَ بما أرسلت و بمن أرسلت.

[14] أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي كيف يمكن أن يقبل هناك- في القيامة- تذكرهم و اعترافهم و إيمانهم؟ وَ الحال أنهم وقت كانوا في الدنيا قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الصدق، و المراد به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[15] ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ و أعرضوا عن الإيمان به و بما يقول وَ قالُوا في شأنه مُعَلَّمٌ يعلمه القرآن بعض الأعجميين مَجْنُونٌ فليس نبيا بل مجنون قد علّمه بعض الناس هذا القرآن، فيردده لا شعوريا لأطماع و غايات، و المعنى أنه لا يفيد هناك إيمانهم و قد فات أوان الإيمان حين كانوا في الدنيا.

[16] ألسنا ذكرنا أحوال هؤلاء في الآخرة؟ و ألم يطلبوا كشف العذاب؟ فإنا نمهلهم في الدنيا قليلا، لنرى ماذا يصنعون؟ و سمي كشفا للعذاب مع أنهم لم يعذبوا بعد، للتشابه لفظا، كقوله:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة و قميصا إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ الدخان و غيره، و المراد بالكشف: عدم تعذيبكم فيما بقي من أعماركم قَلِيلًا في الأيام القلائل المستقبلة ما دمتم في الدنيا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر و العصيان، فكيف قلتم: إنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 89

[سورة الدخان (44): الآيات 16 الى 18]

يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي

لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)

مؤمنون، و ها نحن نراكم عائدون في الكفر؟ و هذا من أبلغ أساليب الالتفات المذكور في علم البلاغة فكأنه صار ما أخبر سبحانه من الدخان، ثم طلبوا فأجيبوا، و ها هم عائدون إلى الكفر، و من قبيله ما يحكى عن بعض الزهاد- عملا- أنه كان يذهب إلى المقابر، فيستلقي في قبر كأنه ميت، ثم يفكر بالمحاسبة و العذاب و الأهوال، فيقول «رب ارجعوني» ثم يجيب- كأنه نداء يأتيه من الأعلى- أرجعناك إلى الحياة، فيقوم و يرجع أهله شاكرا أن استجيب له، لأن يدرك ما فات منه.

[17] و ليتذكر هؤلاء الكفار يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى أصل البطش الأخذ الشديد باليد للتعذيب، و المراد نأخذ الناس لتعذيبهم، و البطشة الكبرى، هي الأخذ في يوم القيامة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ننتقم من كل كافر و فاسق، و «يوم» منصوب بالمقدر، أو ب «منتقمون».

[18] وَ لَقَدْ فَتَنَّا أي امتحنا، فإن الفتنة بمعنى الامتحان قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي فرعون و قومه، فإنه كثيرا ما يطلق «قوم فلان» أو «آل فلان» أو ما أشبه، و يراد به هو و قومه و آله وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ذو كرامة على اللّه سبحانه، و هو موسى عليه السّلام.

[19] فقال لهم أَنْ أَدُّوا أي أعطوا، من الأداء، كما يقال «أدّ الأمانة» إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي أطلقوا سراح بني إسرائيل الذين هم في أسركم، فقد كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 90

[سورة الدخان (44): الآيات 19 الى 22]

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ

مُجْرِمُونَ (22)

بنو إسرائيل معذبين في سجون فرعون، و تحت اضطهاده، فقال له موسى أطلق سراحهم، و هذا كقوله فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» إِنِّي لَكُمْ يا آل فرعون رَسُولٌ أَمِينٌ مؤتمن فيما أؤديه لا أخونكم و لا أخون الوحي، فما أقوله كله وحي بلا زيادة أو نقصان.

[20] وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي لا تتجبّروا على اللّه بترك طاعته، فكأن الكافر و العاصي يرى نفسه فوق رتبة اللّه، و لذا لا يستعد أن يتبعه و يطيع أمره إِنِّي آتِيكُمْ يا آل فرعون بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة و دليل ظاهر و هي الأدلة التي أقامها على وجود اللّه و سائر صفاته و الخوارق التي كان مزودا بها.

[21] و لما دعاهم موسى عليه السّلام توعدوه بالقتل و الرجم- كما هي عادة الطغاة أمام المصلحين- فقال لهم موسى وَ إِنِّي عُذْتُ أي استجرت و لذت بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ بخالقي و خالقكم أَنْ تَرْجُمُونِ أي ترجمونني بالحجارة، و حذف ياء المتكلم تخفيفا و تنسيقا.

[22] وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أي لم تصدقوني فيما جئتكم به فَاعْتَزِلُونِ أي اتركوني لا لي و لا علي.

[23] و لما رأى موسى أن القوم مصرون على الكفر و الضلال فَدَعا رَبَّهُ

______________________________

(1) الأعراف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 91

[سورة الدخان (44): الآيات 23 الى 25]

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25)

أي ناجى ربه قائلا يا رب أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مصرون على الاجرام لا ينفع فيهم البلاغ.

[24] فاستجاب اللّه دعائه في خلاصه من فرعون و قومه فأوحى إليه أسر يا موسى، و الإسراء هو السير ليلا بِعِبادِي

أي بني إسرائيل لَيْلًا و إنما أمروا بالخروج لئلا يعلم فرعون بهم فيأخذهم عاجلا قبل الهروب و الفرار إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أن فرعون سيتبعكم، و هذا إما تعليل قوله «ليلا» أو مقدمة لبيان غرق فرعون و بشرى لهم، أو حث لهم على الإسراع، حتى لا يدركهم الطلب.

[25] وَ اتْرُكِ يا موسى الْبَحْرَ الذي تعبرون منه رَهْواً أي ساكنا على حاله بعد أن خرجتم منه، بأن يبقى على حاله ذي طرق و جواد، حتى يطمع فرعون في عبوره فيغرق. و ذلك لأن ضربه بالعصي بقصد إرجاعه إلى ما كان، كان بيد موسى، فأمره سبحانه أن لا يفعل ذلك إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي أن فرعون و قومه الذين يتبعونكم محكوم عليهم بالغرق جزاء لكفرهم و عصيانهم.

[26] و سار موسى و اتبعه فرعون في البحر بجنوده- كما فصّل سابقا- فيأتي السياق- بعد ذلك- ليبن كيف أن غرقهم لم يؤثر شيئا لا في الأرض و لا في السماء كَمْ تَرَكُوا أي خلف فرعون و قومه، بعدهم مِنْ جَنَّاتٍ جمع جنة و هي البستان، تسمى جنة لستر أرضها بالأشجار و النخيل وَ عُيُونٍ جارية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 92

[سورة الدخان (44): الآيات 26 الى 29]

وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

[27] وَ زُرُوعٍ جمع زرع و هو ما لا ساق له كالحنطة و الشعير وَ مَقامٍ كَرِيمٍ أي مجالس و منازل فاخرة، ذات كرامة و رفعة في الأنظار.

[28] وَ نَعْمَةٍ بفتح النون، و الغالب لغير العارف، أن يقرأها بكسر النون كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعمين متلذذين، كما يتنعم

آكل الفاكهة.

[29] كَذلِكَ أخرجناهم و أهلكناهم و بقيت دورهم و نعمهم بعدهم وَ أَوْرَثْناها تلك النعم قَوْماً آخَرِينَ هم بنوا إسرائيل، حيث رجعوا إلى مصر و صاروا فيها ملوكا و سادة.

[30] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ أي على آل فرعون السَّماءُ وَ الْأَرْضُ و هذا كناية عن أنه لم يتغير شي ء في الكون بهلاكهم، و قد ورد أن السماء و الأرض تبكيان لموت النبي و الإمام و العالم و المؤمن «1»، و بطبيعة الحال أن البكاء من جنسهما المناسب بهما، و إن كان يحتمل البكاء حقيقة- و ما ذلك على اللّه بعزيز- وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لما حكم عليهم بالعذاب، لم يمهلوا حتى يتوبوا، فلا يظن الكافر أنه إذا جاء العذاب يتمكن من التوبة و الاستمهال ليصلح ما فات منه.

______________________________

(1) هناك روايات حول بكاء السماء و الأرض على النبي و الإمام و المؤمن،

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ قال لم تبك السماء على أحد منذ قتل يحيى بن زكريا عليه السّلام حتى قتل الحسين عليه السّلام فبكت عليه «كامل الزيارات: ص 89»

، و

ورد في مجمع البيان: ج 9 ص 109 عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكاءهما على المؤمن. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 93

[سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 34]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)

[31] وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ المؤمنين بموسى مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ عذاب فرعون الذي

كان يهينهم و يذلهم، من قتل الأبناء و استحياء النساء.

[32] مِنْ فِرْعَوْنَ الذي كان يأمر بتعذيبهم إِنَّهُ كانَ عالِياً أي متجبرا متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ يسرف و يتجاوز الحد في الظلم و التعذيب.

[33] وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اخترنا بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ أي على بصيرة منا باستحقاقهم، لا اختيارا اعتباطيا عَلَى الْعالَمِينَ أي عوالم زمانهم، فإنهم كانوا مختارين على سائر الكفار في زمانهم، لأنهم كانوا مؤمنين، و غيرهم كانوا كفارا، و هذا كما يقول: الشريف الفلاني أكبر أشراف العالم، يريد أشراف زمانه لا كلّ شريف كان أو سيكون.

[34] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم، و النسبة إليهم باعتبار إعطاء موسى عليه السّلام، كما يقول الملك: أعطيت القبيلة الفلانية كذا و كذا، فيما إذا أعطى رئيسها مِنَ الْآياتِ الخارقة ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي امتحان ظاهر، حتى يكون المؤمن على بصيرة، و الكافر عن عناد يستحق العقاب الأليم، و هي مثل العصا و اليد و فلق البحر، و تضليل الغمام، و المن و السلوى و غيرها.

[35] و بعد التكلم عن التوحيد و الرسالة- في بعض جوانبها- يأتي السياق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 94

[سورة الدخان (44): الآيات 35 الى 37]

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)

لذكر المعاد إِنَّ هؤُلاءِ الكفار المعاصرون لك يا رسول اللّه لَيَقُولُونَ منكرين للمعاد.

[36] إِنْ هِيَ أي ما العاقبة و نهاية الأمر إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى التي تزيل حياتنا وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين، فليس للإنسان موتتان و حياتان، كما تقولون أنتم أيها المؤمنون، و إنما قالوا «الأولى» مع أنهم

لا يعتقدون بموتة أخرى، لتوحيد السياق مع كلام المؤمنين الذين كانوا يحاجوهم.

[37] فَأْتُوا أيها المؤمنون المدّعون للبعث بِآبائِنا الذين ماتوا من قبلنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم أن الإنسان يبعث بعد الموت، و لكن كلامهم تافه إلى أبعد الحدود، إن المؤمنين لم يدعوا أنهم يعيدون الأموات و إنما ادعوا إعادة اللّه لهم عند القيامة، فأي ربط بين الكلامين؟ و لذا لم يأت السياق لجوابه، فإن جواب المعاند السكوت.

[38] أَ هُمْ خَيْرٌ أي هل هؤلاء الكفار خير من حيث كثرة الأموال و الجيوش و القوة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ و قد كان تبع ملكا مؤمنا، و قومه كافرين، و كانوا كثيري الأموال و القوى وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود و قوم لوط و غيرهم؟ و الجواب مقدّر، أي أن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء، و مع ذلك أَهْلَكْناهُمْ لما كفروا باللّه و عصوا رسله ل إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ و هذا تهديد لهؤلاء بأن مصيرهم مصير أولئك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 95

[سورة الدخان (44): الآيات 38 الى 41]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)

إن تمادوا في الكفر و الطغيان.

[39] وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من صنوف الخلق لاعِبِينَ أي بلا غرض و غاية كما يفعل اللاعب، حتى نترك هؤلاء يلعبون، كما سبق بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ «1».

[40] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ لأجل غاية هي إطاعة البشر، كما

قال تعالى في الحديث «خلقت الخلق لأجلك و خلقتك لأجلي»

و في

القرآن الحكيم وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس و هم الكفار لا يَعْلَمُونَ أن الخلق بالحق، بل يظنون أنه صدفة فلا غاية و لا غرض، و لكل امرئ ما يشاء أن يعمل.

[41] و إذا كان الخلق بالحق، قرر هناك يوم للحساب و الجزاء- كما أن لأجل ذلك أيضا نزلت الكتب و شرعت الشرائع- إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ و هو يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق و المبطل، و بين أهل الجنة و أهل النار مِيقاتُهُمْ أي وقت حساب الناس أَجْمَعِينَ بلا تخلف أحد منهم عن ذلك الموعد.

[42] ثم وصف ذلك اليوم بأنه يوم عجيب لا يفيد فيه إلا رحم اللّه سبحانه التابع للإيمان و العمل الصالح يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً

______________________________

(1) الدخان: 10.

(2) الذاريات: 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 96

[سورة الدخان (44): الآيات 42 الى 47]

إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)

خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)

المراد بالمولى هنا الصاحب، سمي به لأنه يتولى شؤون صاحبه أي لا ينفع صاحب لصاحبه، أصلا وَ لا هُمْ أي الناس يُنْصَرُونَ بأن ينصرهم أحد لإنقاذهم من عذاب اللّه، فيما استحقوا العذاب.

[43] إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي تفضل عليه سبحانه بغفران ذنبه، و إدراكه الشفاعة، بعد أن كان قابلا لذلك، بالإيمان الصحيح إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فلا يرد بأسه عن أحد استحقه الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[44] ثم بين سبحانه مقام كل من الفريقين هناك، فقال إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ و هي شجرة تعطي ثمارا بشعة مرة.

[45] طَعامُ الْأَثِيمِ أي من

كثرت آثامه و معاصيه، فإن «أثيم» فعيل من «الإثم».

[46] كَالْمُهْلِ و هو النحاس المذاب- أو ما أشبه يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي إذا أكله الأثيم غلى وفار في بطنه من شدة الحرارة.

[47] كَغَلْيِ الْحَمِيمِ أي مثل غلي الماء الحار الشديد الحرارة.

[48] ثم يقال للزبانية الموكلين بالنار خُذُوهُ أي خذوا هذا الأثيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 97

[سورة الدخان (44): الآيات 48 الى 51]

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51)

فَاعْتِلُوهُ يقال «عتله» إذا دفعه بشدة و عنف، أي فادفعوه من أطراف النار إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسط النار، حيث العذاب و الألم أكثر، و سمي وسط الشي ء سواء، لاستواء المسافة بينه و بين أطرافه المحيطة به.

[49] ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ للتعذيب و الإهانة مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ أي الماء الحار الشديد الحرارة، فهو في وسط النار، و في بطنه زقوم يغلي، و على رأسه يصب الماء الحار.

[50] و يقال له لإذلاله في مقابل كبريائه في الدنيا ذُقْ هذا العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ فإن الكفار يقولون في الدنيا، بلسان حالهم، أو لفظا، إننا أعزاء كرماء فكيف نتبع الدين؟ فيقال لهم هذا القول هناك على وجه السخرية و الاستهزاء، و

قد ورد أن أبا جهل قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بين جبليها أعز و لا أكرم مني، فنزلت هذه الآية.

[51] ثم يقال لهم إِنَّ هذا العذاب و الجزاء ما كُنْتُمْ أيها الكفار بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكون في دار الدنيا، فذوقوه الآن جزاء لشككم و إصراركم على الكفر و العناد.

[52] و لننظر إلى مقام

المؤمنين الورعين هناك إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي في دار الدنيا فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في محل مأمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 98

[سورة الدخان (44): الآيات 52 الى 56]

فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56)

من العذاب و الآلام.

[53] فِي جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ أي أنهر جارية، أو عيون صافية، و معنى «في» إنهم في محل فيه «عيون» و «أشجار».

[54] يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ و هو الحرير الرقيق وَ إِسْتَبْرَقٍ هو الحرير الخشن، و لكل فضل، فالأول ألين مسا، و الثاني أكثر جمالا في العين، في حال كونهم مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا في مجالسهم، يتحدثون هناك، و لا تأخذهم وحشة الانفراد.

[55] كَذلِكَ حال أهل الجنة وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ جمع «حوراء» و هي المرأة البيضاء الملائكية الجميلة عِينٍ جمع عيناء، و هي من وسعت حدقتها، و ذلك مما يزيد من جمال المرأة.

[56] يَدْعُونَ فِيها أي يطلبون في الجنات بِكُلِ قسم من ال فاكِهَةٍ أي الثمرة آمِنِينَ أي في حال كونهم لا يخافون نفادها أو ضررها، أو المراد مطلق الأمان من كل مكروه، و كرر ذلك لأهميته.

[57] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ فهم خالدون في ذلك النعيم أبد الآبدين، و قد شبه الموت بالمعلومات، و لذا نسب إليه الذوق إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، إذ الموتة الأولى إنما هي في دار الدنيا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 99

[سورة الدخان (44): الآيات 57 الى 59]

فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

(58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

و المعنى أن هؤلاء لا يلاقون الموت إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا موت لهم، و قد سبق وجه الاستثناءات المنقطعة عموما، و أن الكلام المتقدم يفرض خاليا عن القيد، و ذلك لتكثير الفائدة، فتنحل الجملتان إلى ثلاث جمل وَ وَقاهُمْ أي حفظهم اللّه سبحانه عَذابَ الْجَحِيمِ فليس عدم موتهم من قبيل عدم موت أهل النار، الذي يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ «1».

[58] فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي يتفضّل سبحانه بهذه النعم على أهل الجنة فضلا، إذ لا يستحق أحد على اللّه شيئا ذلِكَ الفضل هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الفلاح و الظفر بالمطلوب الذي ليس شي ء أعظم منه.

[59] فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن بِلِسانِكَ العربي، يا رسول اللّه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع في فطرتهم من المبدأ و المعاد ليفوزوا بذلك الثواب و ينجوا من تلك النار و العقاب.

[60] فَارْتَقِبْ أي انتظر يا رسول اللّه هذا الوعد إِنَّهُمْ أي الكفار مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون، فإن كل واحد من الخصمين ينتظر ما يحل بالخصم الآخر، و هذا تهديد لهم، بأنهم سيلاقون جزاء أعمالهم كما تقول لمن تريد تهديده، «انتظر فإني منتظر معك» أي سترى ما يحل بك.

______________________________

(1) إبراهيم: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 100

45 سورة الجاثية مكية آياتها/ (38)

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 149

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «جاثية» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث و لما ختمت سورة الدخان بذكر القرآن، و إنه ميسّر بلسان الرسول، افتتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باللّه في أمورنا كلها، فالظرف متعلق ب «نستعين» على بعض الأقوال، فإن الإنسان يحتاج إلى العون في كل خطوة

من خطى الحياة، و اسم اللّه أحق شي ء يستعان به، الرحمن الرحيم، الذي له الرحمة المكررة و لعل التكرار، لإفادة أنه يرحم، ثم يرحم، بخلاف سائر الناس الذين إذا وجدوا أن من رحموه ليس أهلا قطعوا الرحمة منه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 101

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» و أشباههما من سائر حروف الهجاء هو مادة القرآن التي يتركب منها، و هي مادة لإلفاتكم معاشر العرب، فعدم إمكانكم الإتيان بمثله دليل قاطع على أنه تنزيل اللّه سبحانه، أو رمز بين اللّه و الرسول، أو غيرهما من الأقوال.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ أي أن إنزال هذا الكتاب و هو القرآن إنما هو من اللّه لا من غيره، كما كان المشركون يفترون بنسبة القرآن إلى الرسول أو بعض الأعجميين، أو الشيطان- حيث يقولون أنه كهانة- الْعَزِيزِ في سلطانه فهو قادر على ما يشاء الْحَكِيمِ يفعل الأشياء على وفق الصلاح فأنزل القرآن على طبق الصلاح و الحكمة.

[4] إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ دالة على وجود اللّه و سائر صفاته لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يؤمنون باللّه و إنما خصهم مع أن الآيات أعم، لأنهم هم المنتفعون بها، و أما غيرهم فهم معرضون، كما قال سبحانه وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «1».

[5] وَ فِي خَلْقِكُمْ أيها البشر وَ ما يَبُثُ اللّه أي ينشر مِنْ دابَّةٍ بيان «ما» و هي كل حيوان، و إن كان

الأصل فيها خاصا، بما يدبّ على وجه الأرض آياتٌ أي دلالات دالة على وجود اللّه و علمه و قدرته

______________________________

(1) يوسف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 102

[سورة الجاثية (45): آية 5]

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يريدون العلم و اليقين، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل، و خصت الآيات بهم، لأنهم هم المنتفعون بها، و إنما قال في الموضعين «آيات» مما ظاهره وجود بعض الآيات، مع أن كل شي ء آية، لأن المراد آيات عظام، و من المعلوم أن العظام من الآيات بعضها.

[6] وَ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ بمجي ء أحدهما مكان الآخر على نظام واحد بدون خلل و اختلاف وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ إما المراد مطلق الأرزاق و كونها من السماء، لأن تقديرها يكون هناك، أو المراد المطر الذي هو سبب الإنبات، و منه يأتي الرزق، و هذا هو الأقرب بالنسبة إلى ما يأتي- و إن أمكن الاستخدام- و تسمية الماء رزقا بعلاقة السبب و المسبب، مثل قوله:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا فَأَحْيا بِهِ أي سبب ذلك الرزق الذي هو الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جمودها و اغبرارها، لا حراك فيها و لا نشاط وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ بصرفها من هنا إلى هناك، شمالا و جنوبا، شرقا و غربا آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي دلالات لأهل العقل، أما غيرهم فإنهم يعملون عقولهم حتى يدركوا هذه الآيات الدالة على وجود اللّه و قدرته و سائر صفاته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 103

[سورة

الجاثية (45): الآيات 6 الى 8]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8)

[7] تِلْكَ التي تقدمت آياتُ اللَّهِ أي دلالاته التي نصبها برهانا على وجوده و سائر صفاته نَتْلُوها أي نقرأها، و المراد الإيحاء بها، و تلاوة الملك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ فليس ذلك بالباطل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ حديث اللَّهِ الذي هو القرآن وَ آياتِهِ الدالة على وجوده و سائر صفاته يُؤْمِنُونَ أي أنهم إن لم يؤمنوا بآيات اللّه الكونية و الشرعية، فبماذا يؤمنون؟ و المعنى أنه ليس شي ء بهذا الوضوح و الجلاء، فإن كان الإنسان يؤمن بشي ء، كان اللازم أن يؤمن باللّه و آياته.

[8] وَيْلٌ كلمة تقال عند إرادة بيان سوء الحال لِكُلِّ أَفَّاكٍ صيغة مبالغة، بمعنى كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ أي كثير العصيان، و هو الذي يكذب بكل شي ء مما جاء به الرسول و القرآن.

[9] ثم يبين المراد من الأفاك الأثيم بقوله تعالى يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ أي آيات القرآن تُتْلى عَلَيْهِ و تقرأ عنده بقصد هدايته و إرشاده ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً أي يقيم على كفره و تكبره عن الحق، و الإتيان ب «ثم» لبيان استبعاد الإصرار بعد سماع الآيات فقد كان الكبر بعيدا بعد تلاوة الآيات كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي لم يسمع الآيات إذ لم يقبلها و بقي على ما كان سابقا فَبَشِّرْهُ يا رسول اللّه بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع، و الإتيان بلفظ البشرى للاستهزاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 104

[سورة الجاثية (45): الآيات 9 الى

12]

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

[10] وَ إِذا عَلِمَ ذلك الأفّاك مِنْ آياتِنا أي أدلتنا و حججنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا شَيْئاً أي بعضا اتَّخَذَها هُزُواً أي يستهزئ بها، كأن الآية آلة سخرية له أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم بالإضافة إلى الألم الذي فيه.

[11] مِنْ وَرائِهِمْ أي عقب هؤلاء، في الآخرة جَهَنَّمُ التي هي مقرهم وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً أي لا يدفع عنهم من عذاب اللّه، ككسبهم للأموال و الأولاد و الجاه، شيئا، بأن يخفف عنهم بعض العذاب وَ لا يغني عنهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي لا يدفع عنهم بعض العذاب آلهتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.

[12] هذا القرآن الذي أنزلناه، و الآيات التي أوضحناها هُدىً يهدي إلى الحق و صراط مستقيم وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي أدلته التي أقامها على توحيده و سائر صفاته، بعد مجي ء الهداية لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و هو أشد العذاب أي من هذا القسم منه أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[13] ثم أخذ السياق في وصف بعض آيات اللّه سبحانه اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ أي ذلّله لكم ليصلح لركوبكم عليه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 105

[سورة الجاثية (45): الآيات 13 الى 14]

وَ

سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)

السفن فِيهِ أي في البحر بِأَمْرِهِ تعالى، فتسخير البحر شي ء، و إجراء الفلك شي ء آخر، و لذا قال «بأمره» وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي إن جريان الفلك لأسفاركم و لطلبكم التجارة وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لكي تشكروا نعمه سبحانه، فالتسخير لغايات ثلاث.

[14] وَ سَخَّرَ لَكُمْ أيها البشر ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنهما تسيران و تعملان ليل نهار لنفع البشر، و من جعلهما كذلك غير اللّه سبحانه؟ جَمِيعاً صفة «ما» أي سخر كل شي ء جميعا مِنْهُ أي من اللّه سبحانه فلا شريك له و لا صانع غيره إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لما فيها لأجل نفع البشر لَآياتٍ لأن في كل شي ء آية و دلالة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أوضاع الكون، و تخصيصهم بالذكر، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات دون غيرهم فكأنها خلقت لهم فقط.

[15] قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ آمَنُوا إذا نالكم من الكفار أذى اغفروا لهم ل يَغْفِرُوا و يصفحوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أيام اللّه هي الأيام التي يظهر فيها عقابه أو نعمائه، فإن الكفار لا يعترفون باللّه، حتى يرجون أيامه، و المراد بذلك أن لا يكون المؤمنون في صدد الانتقام من الكافرين الذين يؤذونهم، و ذلك خطة أخلاقية سياسية فإن المظلوم تهواه الأنفس فترجح كفته، و بذلك يكون قد ربح المعركة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 106

[سورة الجاثية (45): الآيات 15 الى 16]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي

إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16)

و لذا ينقل عن «غاندي» محرر الهند قوله «تعلمت من الحسين عليه السّلام أن أكون مظلوما لأنتصر»، و الحاصل يتركوا مجازاتهم ليتولى اللّه ذلك عنهم لِيَجْزِيَ اللّه قَوْماً أي الكفار بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فمعنى الغفران إيكال الجزاء إليه سبحانه كما يقول الحاكم للمظلوم اترك عقاب ظالمك لأجازيه أنا.

[16] ثم يبين سبحانه أن كل عامل يجزى بما عمل فالمؤمنون يجزون جزاء إيمانهم و الكافرون يجزون جزاء كفرهم مَنْ عَمِلَ صالِحاً المراد به كل عمل صالح فَلِنَفْسِهِ إذ فائدته ترجع نحوه وَ مَنْ أَساءَ بأن عمل السيئ فَعَلَيْها أي فضرر ذلك على نفسه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بعد الجزاء في الدنيا، هناك جزاء آخر في الآخرة، عند رجوع الناس إلى حساب اللّه و جزائه.

[17] ثم يأتي السياق لبيان أنه كيف يجزي من كفر بالنعمة في الدنيا، و أنه كيف يسلب عن الظالم النعمة لتعطى غيره مع بيان أن القيادة الإلهية انتقلت من بني إسرائيل إلى المسلمين، ليقودها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسب شرعة السماء وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و هو التوراة، وَ الْحُكْمَ أي الحكومة فإن منصب الحكومة و السلطة على الناس خاص باللّه سبحانه، و من بعده لأنبيائه و الأئمة حسب ما قرره تعالى، و من بعدهم لنوابهم و وكلائهم وَ النُّبُوَّةَ فكان فيهم الملوك و الأنبياء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 107

[سورة الجاثية (45): آية 17]

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ

الطَّيِّباتِ حيث تفضلنا عليهم ببركات الأرض و السماء وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم، فإن كل جيل عالم، و كل قرن عالم، و هذا هو المتبادر من هذه الجملة- كما ذكرنا سابقا- لا جميع العوالم من الأولين و الآخرين، فلو قال أحد إن الدولة الفلانية أقوى الدول، كان المتبادر منه، الدول المعاصرة لها لا دول الملوك ماضيا و مستقبلا إلى الأبد.

[18] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي دلالات و براهين واضحات من أمر الدين و الدنيا، فإن الدين و الدنيا يحتاجان إلى مبيّن و موضّح لمسالكهما، و الأنبياء دائما يأتون بذلك، مثلا يبينون أن الصوم جنة من النار، أن الحجامة وقاية من الأمراض فاختلفوا، و قابلوا الإحسان بالكفران، و قد كانوا هم الأمة الوحيدة الموجهة للعالم التي بيدها قيام الدين و الدنيا- حتى أن عيسى عليه السّلام كان شارحا و موضحا، لا ناسخا- و ما اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بأن علموا الحق من الباطل و مع ذلك اختلفوا فيه بَغْياً أي حسدا و ظلما بَيْنَهُمْ فحسد بعضهم بعضا، فتركوا الحق إلى الباطل انتقاما لذلك التمسك بالحق- كما نرى شبهه في زماننا هذا- إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين من بني إسرائيل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فمثلا آمن بعضهم بعيسى و لم يؤمن بعضهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 108

[سورة الجاثية (45): الآيات 18 الى 20]

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ

رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

و صاد بعض في السبت، و لم يصد بعض و هكذا و إذ خرجت بنو إسرائيل عن صلاحية القيادة بسبب كفرهم و اختلافهم انتهت القيادة إلى الرسول و المسلمين.

[19] ثُمَ من بعد أولئك جَعَلْناكَ يا رسول اللّه عَلى شَرِيعَةٍ أي على طريقة مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين و الدنيا، بأن بينا لك طريقة خاصة لسعادة الإنسان في دنياه و آخرته فَاتَّبِعْها أي اتبع يا رسول اللّه تلك الشريعة وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق، فإن الناس يريدون من القائد ان يتّبع آراءهم، و هنا يأتي النهي عن ذلك، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس كسائر القادة، و إنما له منهاج خاص من قبل اللّه سبحانه، يلزم عليه ان يطبقه و يعلنه للناس، و هذا ينافي اتباع آراء الأشخاص.

[20] إِنَّهُمْ أي الذين لا يعلمون لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ يا رسول اللّه مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا يفيدونك في دفع ما يريد اللّه بك- إن اتبعت أهواءهم- وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكفار بعضهم يوالي بعض و ينصر الآخرين في معاداتك، فلا ينبغي لك أن تعتمد عليهم و تتبع أهواءهم وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ يلي أمورهم، فحسبك اللّه، عن هؤلاء.

[21] هذا القرآن الذي أنزل إليك بَصائِرُ لِلنَّاسِ جمع بصيرة، فكما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 109

[سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 22]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22)

أن البصيرة في الإنسان كاشفه له طريق الفلاح،

كذلك القرآن كاشف طريق السعادة، أي بينات تبصرهم أمورهم، فلا يحتاج الإنسان بعد القرآن إلى اتباع الأهواء وَ هُدىً أي هداية إلى الطريق وَ رَحْمَةٌ أي فضل و ترحم، يرحمهم اللّه به إذ يريهم السعادة الأبدية لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ به و يعلمون انه الحق، و إنما خصهم، لأنهم المنتفعون أما غيرهم، فهم في ضلال و نقمة.

[22] هنالك ظالمون يتبعون الأهواء، و متقون يتبعون الشريعة، فهل هما متساويان؟ كلا، فإن البون بينهما شاسع أَمْ حَسِبَ أي هل حسب و ظن الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أي اقترفوها و ارتكبوها، و الاجتراح الاكتساب أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ «أم» منقطعة فيها معنى الاستفهام الإنكاري، أي ليس كذلك سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ أي تستوي حياتهم و موتهم، و المحيي و الممات مصدران ميميان ساءَ ما يَحْكُمُونَ بأن الطائفتين متساويتان، فحياة المؤمنين في سعة و راحة و اطمئنان، و حياة الكافرين ضنك و تعب و قلق، و ممات المؤمنين إلى الجنة و الرضوان، و ممات الكافرين إلى السخط و النيران.

[23] و كيف يتساوى حال المؤمن و الكافر وَ الحال أنه خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ و من مقتضيات الحق أن يكون لكل عامل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 110

[سورة الجاثية (45): آية 23]

أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)

أجره، لا أن يتساوى المصلح و المفسد في الأجر؟ وَ لِتُجْزى أي خلقهما لأن تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير و شر و لو تساويا لم يترتب هذا الثمر على الخلق، بل لم يثب

المحسن بالإحسان، و لم يجاز الكافر بالعصيان وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من أجر المحسن شي ء، و لا يزاد على عقاب المسي ء شي ء.

[24] أَ فَرَأَيْتَ يا رسول اللّه مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي الشخص جعل مكان الإله الهوى، فكما يعبد المؤمنون الإله، يعبد و يتبع هو هواه و ميول نفسه، و قد كان في الجاهليين من يعبد حجرا فإذا رأى حجرا أجمل منه رمى بالأول و اتخذ الثاني إلها وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي تركه سبحانه، ليتيه في الضلالة على علم منه سبحانه باستحقاقه للترك، فإنه لما أعرض عن الهدى تركه تعالى و شأنه، و لم يكن ذلك عن جهل- تعالى عن ذلك- بل عن علم، لاستحقاقه الترك و الخذلان وَ خَتَمَ اللّه عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ و معنى الختم أن يكون كالشي ء المختوم الذي لا يدخل فيه شي ء و الختم على السمع كناية عن عدم إشفاعه بما يسمعه، و على القلب كناية عن عدم وعى قلبه للحق، و نسبة الختم إليه سبحانه، لأنه خلق البشر بحيث إنهم لو انحرفوا عن الجادة، و استمروا في الانحراف اعتاد قلبهم ذلك، فلم يمل إلى الهدى، و يكون الضلال ملكة لهم، فلا يدخل في القلب هداية كالشي ء المختوم وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي غطاء، لا يعتبر بالنظر، فهو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 111

[سورة الجاثية (45): آية 24]

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)

و الأعمى سواء فَمَنْ يَهْدِيهِ أي يهدي هذا الشخص المتصف بتلك الصفات مِنْ بَعْدِ اللَّهِ و هل هناك هاد إلا هو؟ و

المعنى أنه إذا لم يهتد بهداية اللّه، فلا هداية عند غيره حتى يمكن أن يهتدي بها أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أصله «تتذكرون» على قاعدة باب «التفعل» و الاستفهام إنكاري، أي لماذا لا تتعظون بهذه المواعظ؟

[25] وَ قالُوا أي قال المنكرون للبعث ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ليست للبشر حياة إلا هذه الحياة القريبة، فلا حياة بعد الموت نَمُوتُ وَ نَحْيا فحياتنا فيها نخرج من بطون الأمهات، و موتنا هو هذا الذي نشاهده، و الفعلان باعتبار الجنس، أي نموت نحن و يحيا أولادنا، و هكذا، أو المراد كل فرد، و إنما أخر «نحيا» للتناسب مع «حياتنا الدنيا» في السجع، و قد تقرر في الأدب أن الواو لا يدل على الترتيب، قال ابن مالك:

و اعطف بواو سابقا أو لاحقا في الحكم أو مصاحبا موافقا وَ ما يُهْلِكُنا و يميتنا إِلَّا الدَّهْرُ أي مرور الزمان، فليس هناك إله يميت وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ الذي ذكروه من كون الحياة منحصرة في هذه، و إن المهلك هو الدهر مِنْ عِلْمٍ حتى يقولوا ذلك عن يقين و دراية إِنْ هُمْ أي ما هؤلاء القائلين إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا بذلك، من التقليد و التخمين، و التقدير «ما هم إلا ظانون».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 112

[سورة الجاثية (45): الآيات 25 الى 26]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)

[26] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المنكرين للنشأة الأخرى الكافرين باللّه آياتُنا أي أدلتنا الدالة على وجودنا و وجود الدار الآخرة بَيِّناتٍ

أي في حال كون تلك الآيات ظاهرات واضحات ما كانَ حُجَّتَهُمْ أي دليلهم في نفي الآخرة إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا أيها المقرون بالمعاد بِآبائِنا الذين ماتوا من قبل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم إن البعث سيكون؟ و قد كان هذا الكلام تافها فأي ربط بين أن يكون شي ء في المستقبل و بين أن يأتي به المدعي له حالا أ ترى هل يصح أن يقول المنكر للصيف- و هو في الشتاء- ائتي أيها المقر بالصيف إن كنت صادقا؟ فجوابه: أنا أقول بمجي ء الصيف في وقته ولي دليل، كما أن جواب الدهرية: نحن نقول بالبعث و لنا أدلة، أما أن يأتي بالبعث حالا بإحياء الأموات فلا ربط له بالكلام.

[27] قُلِ يا رسول اللّه لهؤلاء-. معرضا عن جوابهم التافه- مبينا لهم الحقيقة اللَّهُ يُحْيِيكُمْ بعد أن كنتم ترابا ميتا، و المراد بذلك استمرار إحياء اللّه للبشر من القديم إلى المستقبل، و لذا جي ء بالمستقبل ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بإزهاق أرواحكم- في مقابل قولهم: ما يهلكنا إلا الدهر- ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ للنشور، من القبور، منتهين في السير إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ حين يحاسب الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلا للريب، و إن ارتاب فيه المبطلون وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم أعرضوا عن التعلم، فإن المعاد فيه جهتان، الإمكان، و الوقوع، أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 113

[سورة الجاثية (45): الآيات 27 الى 29]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

الإمكان فمن قدر على الابتداء يقدر على

الإعادة بالضرورة ... و أما الوقوع، فقد أخبر الصادق بوقوعه، فلا بد أن يقع.

[28] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فأنتم أيها الناس تحت قدرته، و لا تظنوا إمكان الفرار وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي الفاعلون للباطل، و معنى خسارتهم هلاكهم.

[29] وَ تَرى يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، في يوم القيامة كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً من الجثو و هو التهيؤ للقيام، و ذلك لأن الإنسان الخائف لا يجلس جلسة الاطمئنان بل يرفع ألييه من الأرض حتى إذا نودي أو جاء الفزع قام فورا بلا استبطاء، و هناك كل أمة منحازة عن أمة أخرى، جاثية على ركبتيها، أو المراد جثوهم بين يدي الحكام، كما يجثو المترافعان عند القاضي، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا المنزل على نبيها، ليكون الكتاب حكما بينهم، هل عملوا على طبقه أم لا و ذلك كما يقول أحد المتخاصمين للآخر: أدعوك إلى كتاب اللّه، فيقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نفس الأعمال- بناء على تجسيمها- أو جزائها.

[30] هذا كِتابُنا أي اللوح المحفوظ، أو ديوان الحفظة الذي سجّل فيه أعمالكم يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يبين لكم أيها الناس و سمي البيان نطقا، للمشابهة في إبداء المخفي من العمل، كما أن النطق يبدي المخفي في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 114

[سورة الجاثية (45): الآيات 30 الى 32]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا

وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

القلب بِالْحَقِ فلا يبين الباطل إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نكتب، و الاستنساخ هو الأمر بالنسخ، أي نأمر الكتبة بنسخ أعمالكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا.

[31] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته و ثوابه و فضله ذلِكَ الإدخال في الرحمة هُوَ الْفَوْزُ أي الفلاح الْمُبِينُ الظاهر.

[32] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يقرؤها عليكم الأنبياء و المرشدون فَاسْتَكْبَرْتُمْ أي تعاظمتم عن قبول الحق وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ تعملون بالإجرام، كفرا و عصيانا؟ و هذا سؤال توبيخ و تقريع.

[33] وَ كنتم في دار الدنيا إِذا قِيلَ لكم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فالبعث كائن لا محالة وَ السَّاعَةُ أي القيامة لا رَيْبَ فِيها أي ليست محل الريب و الشك قُلْتُمْ في جواب المؤمنين ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي لا نعلم ما هي، تقولون ذلك على وجه الاستهزاء إِنْ نَظُنُ أي ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 115

نظن بها إِلَّا ظَنًّا فليس لنا علم بها، و «الظن» في الأول استعمل في المعنى الأعم، و في الثاني بمعناه الراجح المقابل للوهم وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي لا يقين و لا علم لنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 117

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء السادس و العشرون من آية (34) سورة الجاثية إلى آية (31) سورة الذاريات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 118

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 119

[سورة الجاثية (45): الآيات 33 الى 35]

وَ

بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

[34] وَ هناك بَدا أي ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي الجزاء الذي رتب على أعمالهم وَ حاقَ أي حلّ و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فإنهم إذا هددوا بالعذاب في دار الدنيا، استهزءوا به، و هناك يحل ذلك بهم.

[35] وَ قِيلَ لهم الْيَوْمَ نَنْساكُمْ أي نترككم هملا كالمنسي، تلاقون العقاب و العذاب كَما نَسِيتُمْ و تركتم العمل لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فكما تركتم الاستعداد لهذا اليوم نترككم في العذاب، و الإتيان بلفظ نسي لأن المهمل إذا طال أمد إهماله صار نسيا منسيا، فالمعنى نترككم إلى أن تكونوا منسيين وَ مَأْواكُمُ أي محلكم و منزلكم النَّارُ فكما أحرقوا أعمارهم و طاقاتهم في الدنيا سوف يحرقون بالنار في الآخرة، فإن النيران المعنوية صارت نيران مادية وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم من النار، فكما لم ينفعهم في الدنيا الذين كانوا يريدون خلاصهم من نيران عقائدهم و أعمالهم، كذلك لا ينفعهم هناك أي ناصر لأن الآخرة تبع للدنيا، و هي ثمرة للأعمال في الدنيا، فكما أن بذرة التفاح تعطي التفاح، و بذرة الحنظل تعطي الحنظل، كذلك العقائد و الأعمال و الصفات في الدنيا تعطي ثمرها في الآخرة.

[36] أما أنهم كيف سلكوا في الدنيا هذا المسلك الذي أدّى بهم في الآخرة إلى النار ف ذلِكُمْ ذلك المسلك الدنيوي، إنما كان أيها الكفار المخاطبون- فإن «كم» خطاب- بسبب

أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 120

اللَّهِ الآيات البشرية، كالأنبياء و الأئمة و المرشدين، و الآيات العقائدية، كالعقيدة بأصول الدين، و الآيات الاحكامية، كأحكام الإسلام، فإنها كلها آيات، و علامات اللّه، علامات تكوينية، و علامات تشريعية.

هُزُواً آلة استهزاء، فكنتم تضحكون على أولياء اللّه، و على أحكامه، كما هو شأن الإنسان الجاهل و المتجاهل، و بذلك لم يرضخوا لأنبيائه و أوليائه سبحانه، و لا لأحكامه تعالى وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا القريبة فحسبتم أن لا حياة سواها، و لذا انسقتم مع الأهواء و المشتهيات التي أضرتكم، نتيجة عنادكم للحق فَالْيَوْمَ في الآخرة، فإن اليوم يطلق على النهار وحده، و على النهار و الليل، و على القطعة من الزمان و لو كانت طويلة جدا، و لذا يقال:

الدهر يومان يوم لك و يوم عليك لا يُخْرَجُونَ مِنْها لا مخرج لهم، لبيان أنهم لا يقدرون بأنفسهم على الخروج، فالخروج إن كان فهو بواسطة الغير، و لا غير يخرجهم وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه، بالاستغفار و العمل الصالح، لأن الوقت قد فات، فإن وقت إرضاء اللّه هو دار الدنيا، و سبب أن الآخرة ليست محل الإرضاء: أن العقائد و الأعمال في الدنيا أحالت الإنسان إلى قطعة خبث، كما تستحال البيضة إلى فرخ، فكما لا يمكن إرجاع الفرخ بيضة، كذلك لا يمكن إرجاع ما استحال خبيثا إلى الحالة الدنيوية التي يمكن بها أن يعمل صالحا و يعتقد صحيحا، فإن في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 121

[سورة الجاثية (45): الآيات 36 الى 37]

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

الاستفراخ، و هذا لا ينافي قدرة اللّه على ذلك، إذ اللّه يخلق كل شي ء ممكن، و هذا شي ء ممكن خلقه سبحانه، و تفصيل المسألة في كتب الفلسفة.

[37] و إذ بينا لكم مصير المطيع و العاصي فاصرفوا كل طاقاتكم في سبيل الإطاعة، و الاجتناب عن المعصية، إذ لله وحده الْحَمْدُ لأن كل خير منه، حتى أن الإنسان إذا عمل الخير، فإنه سبقه جعل اللّه له القدرة على الخير، فإنه هو رَبِّ السَّماواتِ ما في الجهات العليا وَ رَبِّ الْأَرْضِ ما في الجهة السفلى، و إنما جعلت السماوات جمعا و الأرض مفردا، لأن ما نسكنها أرض، و كل ما سوى ذلك فهو سماوات لأنها أعلى من هذه الأرض، أما جمع الأرض في الأدعية، و في قوله سبحانه وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «1» فلملاحظة النسبة رَبِّ الْعالَمِينَ كل عالم، عالم الجن، و عالم الملائكة، و عالم الإنسان، و عالم الحيوان، إلى غيرها، و حيث التداخل بين العوالم و بين السماوات و الأرض، لم يأت بالواو في «رب العالمين» و جي ء بالجمع العاقل باعتبار تغليب العاقل على غيره لأن العاقل أشرف.

[38] إنه «اللّه» الذات المستجمع لجميع الكمالات و «رب» و يربي و ينمي الأكوان وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ لأنه أكبر من كل شي ء، كبرا معنويا، و أكبر من أن يوصف فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو القاهر الذي ليس لشي ء

______________________________

(1) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 122

كبر و قهر مستقل، إن ما استفاده منه، فهو يستحق الحمد، لأنه اللّه، و لأنه رب، و لأن له الكبرياء و هو يستحق الحمد، لأنه كامل، و لأنه رب، و لأنه الكبير القاهر المشرف على كل شي ء وَ هُوَ الْعَزِيزُ الوحيد الذي

غيره ذليل أمام عظمته (وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) «1» الْحَكِيمُ وضع كل شي ء حسب الحكمة في موضعه اللائق به.

______________________________

(1) طه: 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 123

46 سورة الأحقاف مكية/ آياتها (36)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الأحقاف» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة ألوهية و رسالة و معادا.

و لما ختمت سورة «الجاثية» بصفات اللّه سبحانه ابتدأت هذه السورة، بأن القرآن من تنزيل هذا الإله العظيم، ليكون الناس أقرب إلى قبوله لأنه منزل من عند اللّه سبحانه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم اللّه نبدأ، ليطابق ابتداءنا في اللفظ، الابتداء في الخلق، فكما أن اللّه سبحانه أول كل شي ء، كذلك اسمه أول كل كلام، و هو مكرر الرحمة، يرحم بدء و ختاما بمختلف أشكال الرحمة، و لعله لذا جي ء بلفظي الرحمن و الرحيم، فإن اختلاف اللفظ دليل على اختلاف المعنى، فالرحمن إشارة إلى نوع من الرحم، و الرحيم إشارة إلى نوع آخر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 124

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)

[2] حم رمز بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الراسخين في العلم، و لعله يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي، كما انه لا يمر زمان إلا و يدرك الناس كنوزا كونية، فإن العلوم كلها قوانين وضعها اللّه في الكون، مثل قانون جاذبية الأرض و قانون أرخميدس في الماء و قانون الأطياف في النور و غيرها، و إذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه

الكل، فإن الرموز بين رؤساء الحكومات و كبار أعضاء الدولة في صلاح الناس، و إن كان كل الناس لا يعرفونها.

[3] إن هذا القرآن هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ و إنما قال «تنزيل» لأنه أنزل من فوق أي الفوق المعنوي لأن اللّه سبحانه أرفع من الكل، كما يقال في العرف أن الأمر صدر من الجهات العليا، يريدون جهة السلطان، و إن كان بيت السلطان تحت الجبل، و المأمور فوق الجبل مثلا، إذ السلطان أعلى رتبة من السوقة و المأمورين مِنَ اللَّهِ لا من الجن، بالكهانة، و لا من لسان أعجمي، و لا من نفس محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما كانوا يرمون القرآن بكل ذلك الْعَزِيزِ فبعزته أرسل رسولا و أنزل دستورا، إذ لو لا العزة لم يكن له ذلك الْحَكِيمِ الحكمة وضع الأشياء موضعها؛ فإنزاله الكتاب إنما هو حسب الحكمة، لإصلاح الدين و الدنيا، و قد كان اللّه قادرا على أن يخلق الكون مثل ما ينتهي إليه في آخر نقطة من الكمال، إلا أن هذا اللون من الخلق كان يتطلب بلسان الحال إفاضة الوجود و اللّه فياض مطلق لا بخل فيه، و لذا خلق هذا اللون المتدرج في الصعود أيضا.

[4] ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ تقدم في آخر سورة الجاثية وجه جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 125

السماوات و إفراد الأرض وَ ما بَيْنَهُما في كل خلل و فرج منهما، كالإنسان و الملك و نحوهما، فالمخلوقات فيهما باعتبار، و بينهما باعتبار آخر إِلَّا بِالْحَقِ لا هزوا و لا لعبا، و المراد بالحق المطابق للصلاح، خلافا للهزو الذي ليس مطابقا للصلاح، لا يقال قدر من اللعب أيضا مطابق للصلاح، و لذا أجاز يعقوب عليه

السّلام أن يلعب أولاده، لأنه يقال ذلك يصلح للإنسان المخلوق بهذه الكيفية الخاصة، الذي لا يقدر من العمل الجدّي المستمر فيحتاج إلى الترفيه، لا بالنسبة إلى اللّه الذي لا يتعب و لا يمسه لغوب وَ إلا إلى أَجَلٍ زمان مُسَمًّى سمي عندنا إذا انتهى ذلك الأجل هلكت السماوات و الأرض و ما بينهما كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ «1» فليس الخلق فوضى في المدة، كما يزعمه الجاهلون ثم إن الأجل له إطلاقات «القطعة من الزمان» مثل إن أجل زيد خمسون سنة، و «آخر الزمان» مثل إن أجل زيد إلى سنة ألف و أربعمائة من الهجرة و كلاهما محتمل في الآية الكريمة وَ مع ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا من العقاب في الدنيا لمخالف قوانين اللّه، فكل من لم يعمل بالشريعة وجد ضنك العيش وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «2» و من العقاب في الآخرة بالنار و الجحيم مُعْرِضُونَ فلا يعملون بالأوامر، مع أن الخلق بالحق، و إن المدة قصيرة ذات أجل، و قد كان مقتضى العقل أن يعمل الذين كفروا بالإنذار، بعد ما يشاهدون من حقيقة الخلق و بعد ما

______________________________

(1) القصص: 89.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 126

[سورة الأحقاف (46): آية 4]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)

علموا من عدم البقاء السرمد، و إنما لكل شي ء أجل.

[5] ثم إنكم أيها الكفار، لا حجة لكم في كفركم ف قُلْ لهم يا رسول اللّه أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني أيها الكافرون عن حال ما تَدْعُونَ مِنْ

دُونِ اللَّهِ من الأصنام، سواء كان، شمسا، أو قمرا، أو بشرا، أو حجرا، أو غير ذلك أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فهل خلقوا نباتا أو حيوانا أو بحرا أو برا، أو غير ذلك، و لا يحق لهم أن يقولوا أن فرعون مثلا خلق تلك المدينة إذ فرعون لم يخلق، و إنما فرعون جاء بالمعدات أي حركة عضلاته فقط، و إنما مادة البناء و صورته كلاهما للّه سبحانه و لذا قال سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ «1» أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ شراكة فِي خلق السَّماواتِ و حيث رأيتم إنهم شركاء اللّه في خلق الأرض و السماوات فاتخذتموهم شركاء للّه و كفرتم بوحدانيته و إذ ادعيتم الشراكة في الخلق ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا القرآن يؤيد اشتراك الأصنام في الخلق، إن كنتم تدعون أنكم على دين، كما كان بعضهم يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السّلام، أو دين عيسى عليه السّلام، أو دين موسى عليه السّلام، و مع ذلك كانوا يجعلون الأصنام أو المسيح، أو عزيرا، شركاء للّه أَوْ أَثارَةٍ بقية مِنْ عِلْمٍ بأن يدل المنطق على صحة اعتقادكم بالآلهة الباطلة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن الأصنام

______________________________

(1) الفرقان: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 127

[سورة الأحقاف (46): آية 5]

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5)

و غيرها شركاء للّه سبحانه، و إذ لا دليل لكم من كتاب سابق، و لا من علم و برهان، فاتركوا الأصنام و سائر المعبودات، و اعبدوا إلها واحدا فقط، و إنما قال سبحانه «أثارة من علم» لأنهم كانوا جهالا و هم أيضا ما كانوا يدعون أنهم علماء،

و لكن الجاهل قد يبقى له بعض العلم و المنطق عن أسلافه.

[6] وَ هؤلاء الكفار الذين يتركون اللّه سبحانه و يدعون غير اللّه من الأوثان، سواء تركوا اللّه إطلاقا، أو تركوا اللّه في الجملة، بأن أشركوا معه غيره، لا أحد أكثر ضلالا منهم إذ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ فهو قد ترك السميع المجيب القادر على قضاء حوائجه و اتخذ إلهه صنما لا يجيبه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و لو دعاه طول حياة الدنيا، و جعل يوم القيامة غاية مع أن الأصنام لا تجيبهم إلى الأبد و حتى بعد يوم القيامة، إنما هو لأجل أن هؤلاء يعترفون في يوم القيامة بضلال أنفسهم، ففي يوم القيامة لا دعوة من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فلا دعوة للكفار حتى يطرح الكلام في أنه هل تجيبهم الأصنام أم لا، مثل قولهم لا كلمتك إلى أن تموت، فليس المراد أكلمك بعد الموت، بل المراد أن موضوع الكلام ينتفي وَ هُمْ أي تلك الآلهة البشرية أو الحجرية أو الشمس و القمر و نحوها، و إنما جي ء بلفظ العاقل، لأن بعض المعبودات عقلاء، أو لأن الكفار لما أنزلوها منزلة العقلاء بعبادتهم لها، جي ء الكلام على منطقهم عَنْ دُعائِهِمْ أي دعاء الناس لتلك الأصنام غافِلُونَ لأنها جمادات فلا تشعر طلب الكفار منها، أو عباد مشغولون بأحوال أنفسهم، فالغفلة كناية عن عدم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 128

[سورة الأحقاف (46): الآيات 6 الى 7]

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

قضاء حاجة عبادها، فإذا قضوا حاجة لهم، فإنما

في الحقيقة، ليست مرد الحاجة لتلك الأفراد بل للّه سبحانه.

[7] وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ أي جمعوا يوم القيامة كانُوا تلك الأصنام لَهُمْ للبشر الذين يعبدونها أَعْداءً لأن الأصنام تضر عبادها، بإدخالهم النار، كما يفعل العدو بعدوه وَ كانُوا تلك الأصنام بِعِبادَتِهِمْ أي عبادة البشر لها كافِرِينَ فإن اللّه ينطق الأصنام ليظهروا تبريّهم من عبادها، أو كناية عن أنه لو كان لتلك الأصنام لسان لكفرت بعبادها، و قد قال اللّه تعالى في آية أخرى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «1» و لا مانع من نطق الجماد بقدرة اللّه تعالى، و في الآيات و الأخبار دلالة على ذلك كقوله سبحانه قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» و قوله سبحانه فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «3» و قوله عز من قال فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «4» و قوله سبحانه يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها «5» إلى غير ذلك ... و حاصل الآيتين الكريمتين أنه لا فائدة في عبادة هذه الأصنام و إنما تضر في الآخرة، عوض أن تنفع.

[8] وَ هؤلاء الكفار اتخذوا الباطل، و تركوا الحق و عاندوه، أما اتخاذهم الباطل فلما سبق من عبادتهم الأصنام، و أما تركهم الحق فلأنهم

______________________________

(1) فاطر: 15.

(2) فصلت: 12.

(3) الأحزاب: 73.

(4) النازعات: 15.

(5) الزلزلة: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 129

[سورة الأحقاف (46): آية 8]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على التوحيد و الرسالة و المعاد، في حال كونها بَيِّناتٍ واضحات يفهمها كل عاقل قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا

لِلْحَقِ الذي بيّنّا لهم لَمَّا جاءَهُمْ واضحا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح كونه سحرا، فجعلوا الحق الواضح، سحرا واضحا، بسبب عنادهم، ثم إن الفرق بين السحر و المعجز: أولا: أن العقل يميز بينهما، فهل أن للكون إلها عالما قادرا سحر؟ و هل أن الصنم و البشر إله خالق؟

و ثانيا: إن الإعجاز بدون أدوات، و السحر يأتي بأدوات. و ثالثا:

إن الساحر لا يقدر على كل شي ء بل على أشياء خاصة، بينما صاحب الإعجاز على كل شي ء مقدور في ذاته.

[9] إنهم كانوا يقولون أن الآيات سحر، و كانوا يقولون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر على اللّه، لأنه يدعي أنه نبي من قبل اللّه، و الحال أنه ليس بنبي أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» بمعنى «بل» كأنه تعجب من دعواهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر قُلْ في جوابهم يا رسول اللّه لا يمكن أن يفتري البشر على اللّه، إذ اللازم على اللّه أن يفضحه، فإن العقلاء يحتجون على المفترين بما لا يتمكن من رده ف إِنِ افْتَرَيْتُهُ افتريت القرآن فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يقال «يملك الوزير من الأمير» أي أن الأمير إذا أراد شيئا و لم يرده الوزير يتمكن الوزير أن يصرف الأمير عن إرادته، لكن الإنسان لا يملك أن يصرف اللّه عن إرادته، و قد أراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 130

[سورة الأحقاف (46): آية 9]

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

سبحانه فضح مدعي النبوة كذبا، لأنه سبحانه نصب الأدلة العقلية على خلافه، كما نصب

الأدلة العقلية على فضح مدعي الطب كذبا، و مدعي الهندسة كذبا، لأن الأول لا يقدر على شفاء المرضى، و الثاني لا يقدر على جعل الهندسة لبناء دار و نحوها، و الرسول إن كان كاذبا فهل كان يقدر على جواب كل سؤال و حل كل مشكلة؟ فلو كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاذبا، لا يملك أحد أن يصرف اللّه عن إرادته في فضح الكاذب ... ثم هددهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ تندفعون فِيهِ من الشرك و تكذيب آياته و الافتراء على رسوله، و سيجازيكم عليه كَفى بِهِ أي باللّه شَهِيداً شاهدا بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق، لأنه لم يفضحني، بالأدلة العقلية و يشهدكم بالانحراف بما قد نصب من الأدلة العقلية المبينة لبطلان المبطل وَ لا بأس لكم فإن تبتم تاب اللّه عليكم لأنه هُوَ الْغَفُورُ لعباده التائبين الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم من رحمته زيادة على غفران ذنوبهم.

[10] و قد كان كفار مكة يستدلون على عدم رسالة الرسول بأنه لو كان رسولا لزم أن يأتيهم بكل آية يقترحونها من الإعجاز، عنادا فيهم و تضليلا للسذج ف قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم ما كُنْتُ بِدْعاً جديدا بديعا مِنَ الرُّسُلِ حتى أتاكم بكل ما تقترحونه من الآيات، فهل كانت الرسل تأتي بكل آية تقترحها عليهم أممهم؟ حتى يأتيكم بمثل أولئك الرسل، كلما تقترحون من الآيات، فإن كانت الحجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 131

كافية، فقد أتيتكم بالقرآن و بمعجزات أخر تكفي في إثبات النبوة، و إن كانت الحجة غير كافية، فالإتيان بالمعجزة أيضا غير مفيدة لإقناعكم، أ رأيت لو عالج الطبيب أعصى الأمراض، و

تحدى الأطباء، فهل للأطباء أن يقولوا أنت لست بطبيب، و إلا فعالج مرضى آخرين؟ و إذا قالوا ذلك ألم يحمل كلامهم على العناد؟ وَ كذلك الكفار كانوا يقولون للرسول إن كنت رسولا فقل لنا ما هو مصيرنا في الدنيا و ما هو مصيرك؟ و أجابهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ فإن علم الغيب تفصيلا خاص باللّه تعالى إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ «إن» نافية أي ما أتبع في المجي ء بالآيات، و في الإخبار عن المغيبات، إلا كما يوحى إلي، و ليس من الصلاح إجابة كل معاند بما يقترح، و إلا كان مهزلة، و كرروا قولهم أنه سحر، فما ذا يفعل الرسول لمن يرد العناد؟ و قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاءهم موسى بكل آية فقالوا سِحْرانِ تَظاهَرا «1» كما انه ليس من الصلاح أن يخبرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكل ما يريدون من المغيبات لأنه إن كان لإقناع المصنف فقد اقتنع بما رآه من إعجاز القرآن و غيره، و إن كان لإقناع المعاند، فالمعاند لا يقتنع و لو جاءهم الرسول بكل آية، أليس عيسى عليه السّلام أخبرهم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم و مع ذلك كفروا به؟ وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ منذر بأنّ من لم يسمع كلامي له حياة سيئة في الدنيا و في الآخرة

______________________________

(1) القصص: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 132

[سورة الأحقاف (46): آية 10]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي

الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «1» مُبِينٌ واضح كوني منذرا و رسولا، فاللازم أن آتي إليكم بالقدر الذي يثبت أني منذر و رسول، لا أن آتي بالمقترحات العنادية لكم.

[11] قُلْ يا رسول اللّه لي شاهدان على صدقي، فكيف تكفرون أنتم، مما يسبب لكم أشد الوبال. الأول: الإعجاز. الثاني: تصديق أهل الكتاب الذين هم أهل خبرة لي، و ذلك كما ادعى إنسان أنه طبيب ثم عالج الأمراض، و صدقه الأطباء، فهل يبقى هناك شك في كونه طبيبا؟

و من أنكر كونه طبيبا أليس يكون معاندا؟ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بدليل أنكم عاجزون عن الإتيان بمثله وَ الحال أنكم كَفَرْتُمْ بِهِ أليس ذلك يسبب الوبال لكم؟ وَ أرأيتم إن كان شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين هم أهل كتاب و خبرة كعبد اللّه بن سلام الذي كان من علماء بني إسرائيل و آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى مِثْلِهِ أي مثل قولي أنه من عند اللّه فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ أنتم، أليس ذلك يسبب لكم الوبال؟ و قد حذف الجواب «لأنه كان من عند اللّه ...» للتهويل، مثل قولك مهددا لولدك، إن شربت الخمر؟ تريد أنه يلاقي عقوبة بسبب شربه- كما ذكروا في علم البلاغة- ثم ألمع سبحانه إلى الجواب بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 133

[سورة الأحقاف (46): آية 11]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)

ظلموا أنفسهم بالعناد، اللّه لا يوصلهم إلى

مطلبهم، لأن الهداية قد تكون بمعنى إراءة الطريق نحو وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» أي أريناهم الطريق، و قد تكون بمعنى الإيصال إلى المطلوب نحو إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «2» أي لا توصلهم إلى المطلوب، و إلا فالهداية بإراءة الطريق كانت من شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ...

و إذا لم يوصلهم اللّه إلى مطلبهم خسروا الدنيا و الآخرة.

[12] ثم إن هؤلاء الكفار بالإضافة إلى كفرهم باللّه، و بالرسول، و بالقرآن، أخذوا يستهزئون بالمؤمنين وَ ذلك بأن قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي قالوا عنهم، و كأنه جاء «باللام» مرة دلالة على أنهم قالوا في حضور المؤمنين و ب «سبقوا» غائبا، مرة دلالة على أنهم قالوا في غيبة المؤمنين، للدلالة على أن الكفار كانوا يقولون ذلك في كل حال لَوْ كانَ الإيمان و القرآن خَيْراً ما سَبَقُونا أي لم يسبقنا المؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إِلَيْهِ إلى الإيمان و القرآن، و ذلك لأننا أكثر عقلا منهم، فلو كان خيرا لكنا نحن السابقين وَ سبب قولهم هذا هو أنهم إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ و لم يسلكوا سبيل الهداية فَسَيَقُولُونَ للترفيه عن أنفسهم إنه ليس بخير بل هذا القرآن و ما جاءه الرسول إِفْكٌ كذب قَدِيمٌ كما في آية أخرى وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها «3» فهم لم يقبلوا عنادا، و استهزءوا بالمؤمنين، و قالوا إنه ليس بخير،

______________________________

(1) فصلت: 18.

(2) القصص: 57.

(3) الفرقان: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 134

[سورة الأحقاف (46): الآيات 12 الى 13]

وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ

(12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)

و إنما هو كذب سابق، و كل قولهم و عملهم هراء و بدون حجة، و إنما هو كلام المستكبرين و المعاندين، فإن رمي كل حق بأنه ليس بخير، و أن المؤمنين به لا عقل لهم، و إنه إفك قديم، سهل، لكن الإتيان بالدليل على ذلك غير ممكن، و لذا قالوا في المثل «ما أسهل كيل التهم و أصعب إقامة الأدلة عليها».

[13] وَ كيف يكون هذا إفك و الحال أن مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن كِتابُ مُوسى عليه السّلام التوراة تشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن، في حال كونه إِماماً يقتدي به الناس، فهل من يقتدي بكتاب موسى عليه السّلام لا عقل له؟ وَ رَحْمَةً لرحم البشر، و الكذب ضد الرحم، فقولهم «ليس بخير» و «إفك» جوابهم أنه ككتاب موسى عليه السّلام فهو «إمام» و «رحمة» وَ هذا القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لما في كتاب موسى عليه السّلام من أصول الدين و الأخلاق، و نحوهما و لكن مع فارق، فالتوراة كان لسانا عبريا، و القرآن لِساناً عَرَبِيًّا و إنما أنزل لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إنذارا بخسران دينهم و دنياهم وَ ليكون بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ للذين أحسنوا بالإيمان به و باتباعه، بأن لهم خير الدنيا و الآخرة، أما أن القرآن لم نزل على لغة العرب؟ فيرده أنه بأية لغة نزلت كان موضع هذا التساؤل؟ و لو قيل لماذا لم ينزل بكل لغة؟ فجوابه أن كونه بلغة واحدة أحسن لأنها تصبح لغة واحدة لكل البشر يتفاهمون بها بالإضافة إلى لغاتهم الخاصة بهم.

[14] و حيث عرفتم أيها المؤمنون خير ما تمسكتم به، و عرفتم بطلان حجج الكفار،

فلا يستفزنكم أذاهم و استهزائهم لكم، و كونوا مستقيمين في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 135

[سورة الأحقاف (46): الآيات 14 الى 15]

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)

دينكم حتى تنالوا جزاء الاستقامة ف إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ و تركوا الأصنام، بأن صحت عقيدتهم ثُمَّ اسْتَقامُوا في اتباع أوامره سبحانه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لمكروه سابق، فإن الخوف من المكروه المرتقب، و الحزن من المكروه الوارد الكائن الآن، أو الماضي، و ذلك ليس بمعنى أن المؤمنين لا يصيبهم حزن و خوف، بل بمعنى «النسبية» فخوفهم و حزنهم، بالنسبة إلى خوف الكفار و حزنهم، قليلا جدا بحيث يمكن سلب كونه خوفا أو حزنا، لأنهما قليلان مؤقتان، و مقترنان بالبشارة بالأجر و الثواب، بخلاف خوف الكفار و حزنهم.

[15] و إنما كان خوفهم و حزنهم مؤقتا لأن أُولئِكَ المؤمنين أَصْحابُ الْجَنَّةِ في الآخرة، فما يلاقونه من الأتعاب في الدنيا ينقضي بسرعة خالِدِينَ فِيها أبدا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ و الاعتقاد نوع من العمل أيضا، لأنه عمل القلب، فلا يقال: لماذا لم يقل سبحانه: ...

بما كانوا يعتقدون و يعملون؟.

[16] وَ كما أننا وصينا الإنسان بعدم الشرك و عبادة اللّه الذي هو منعم حقيقي عليه كذلك وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ اللذان هما سبب وجوده فكل واحد

منهما منعم مجازي على الإنسان، و الوصية قول مؤكّد سواء كان في الحياة أو بعد الممات إِحْساناً أي أن يعمل الحسن، و قوله سبحانه «إحسانا» من باب المبالغة مثل «زيد عدل»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 136

فيقدم لهما قطعة من الحسن، أي أحسن الأعمال، حتى كأن العمل ذات الحسن و اللازم أن يخص الأم بزيادة الإحسان لزيادة أتعابها في سبيله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً كارهة الحمل لمشقته في أغلب أوقات الحمل، بل و كثيرا ما في أوله أيضا حيث الاضطرابات التي تطرأ على المرأة عند الحمل، و حيث الحزن النفسي من أتعاب الحمل و الطلق و غير ذلك وَ وَضَعَتْهُ حين الولادة كُرْهاً لمشقات الولادة فهي كارهة وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً فإن الحمل ستة أشهر على الأقل، و الإرضاع سنتان فالمجموع ثلاثون شهرا، تعاني فيها الأم مشاكل جمة من جهة الولد، هذا بالإضافة إلى المشاكل في المستقبل التي تعانيها بسبب رعاية الولد و عنايتها به، أليس بعد هذه الأتعاب تستحق الأم الإحسان إليها من جانب الأولاد، و هنا ينقسم الأولاد إلى قسمين قسم يعمل بوصيتنا له في الإحسان إلى أبويه، و قسم لا يعمل، كما انقسم الناس أمام اللّه سبحانه إلى قسمين قسم مؤمن، و قسم كافر، فالقسم المطيع يكون حاله حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ استحكم قوته البدنية و العقلية، كأن يشدّ من التبعثر، و بهذا البلوغ يتمكن عقله من الفهم على وجوب الإحسان إليهما، و يتمكن بدنه من القيام بخدمتهما وَ هذه الحالة تمتد حتى بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حيث القوة البدنية تأخذ بالضعف، و حيث أن الغالب موت الأبوين قبل بلوغ الولد ذلك، فلا حاجة لهما إلى خدمة الولد قالَ الإنسان يا رَبِّ

أَوْزِعْنِي ألهمني و خذ أمامي حتى لا أنحرف عن الجادة، فإن معنى وزعه: منعه أَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 137

أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ فإن قوة الشباب ذهبت احتاج الإنسان إلى الاستعانة باللّه أكثر في التوفيق للشكر، و لأن حالة الحدة تأخذ مجراها إلى الإنسان فهو يكون أبعد من الشكر، لأن مشكلات الحياة تستفزه فيكون أقرب إلى الكفران، و الشكر للنعمة التي كانت على الوالدين، نوع إطاعة للّه و إحسانه إليها وَ أوزعني أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فأريد منك يا رب أن توجه قلبي و لساني بالشكر، و جوارحي بالعمل الصالح وَ يا رب أدعوك أن أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعلهم صالحين، و «في» باعتبار أن الصلاح يقع فيهم، و «لي» باعتبار أن صلاح الذرية عائد إلى الوالدين، سمعة و ثوابا، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا للدلالة على أن الإحسان إلى الأبوين يؤثر في إحسان الذرية للإنسان، فصلاح الإنسان يسبب صلاح الذرية، أما ما سلف مني من المخالفة ف إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ يا رب و أستغفرك عن ذلك وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لك أعترف بذلك، ليكون الإنسان أقرب إلى التواضع، فالإنسان الحسن هو الذي عبد اللّه و لم يشرك به، و أحسن إلى والديه من حين بلوغ أشده إلى حين أربعين سنة، و حيث فقد الوالدين ببلوغ الأربعين دعا لهما، و اعترف بفضلهما، و طلب من اللّه أن يعينه في المستقبل «حالة ضعفه» أن يشكره كما كان يشكره سابقا، و طلب منه إصلاح ذريته .. و قد صبت هذه الحقيقة في هذا القالب البلاغي الرائع الذي يمشي بالإنسان من حين حمل الأم له إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 138

[سورة الأحقاف (46): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)

حين بلوغه أربعين سنة، و إنما لم تختم الآية الإنسان، إلى حين الموت لبقاء فجوة في النفس، كما هي العادة في الألواح الجميلة، ليذهب الخيال كل مذهب.

[17] أُولئِكَ الأفراد الذين هذه صنعتهم من العبادة و الشكر و الدعاء الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي بقبول أحسن، لا أن أعمالهم الأحسن فقط تقبل، فهو من باب «القلب» مثل: عرضت الناقة على الحوض وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فلا يجازون بها، فهم يكونون فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ و قد وعدنا بذلك وَعْدَ الصِّدْقِ لا خلف فيه بل صادق مطابق للواقع الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ «الذي» صفة «وعد» فهؤلاء حسناتهم مقبولة و سيئاتهم مغفورة، و مقرهم الجنة.

[18] وَ بالعكس من هذا القسم من الإنسان المؤمن الشاكر للّه و لوالديه القسم الثاني من الإنسان الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ لما كبر و عقل أُفٍّ لَكُما فهو كافر بهما، و كافر بعقيدتهما التي هي التوحيد، فقد جمع بين الكفرين، و «أف» كلمة «تضجر» و «إهانة للمخاطب» أَ تَعِدانِنِي من الوعد- أَنْ أُخْرَجَ بعد الموت، من قبري للحساب وَ الحال أنه قَدْ خَلَتِ مضت الْقُرُونُ و السنوات الكثيرة مِنْ قَبْلِي فلم يرجع أحد من الأموات، و إنكار البعث مستلزم لإنكار الألوهية و إنكار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 139

[سورة الأحقاف (46): الآيات 18 الى 19]

أُولئِكَ

الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)

الرسالة وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان من اللّه هدايته و يقولان له وَيْلَكَ السوء لك إذا بقيت على هذه العقيدة آمِنْ باللّه، فهما يدعوان لإيمانه، و يطلبان منه الإيمان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌ فلا تكفر به، و مجرد الاستبعاد و أنه لماذا لم يحشر السابقون، ليس دليلا على العدم فَيَقُولُ ما هذا الذي تقولانه من البعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، و هي الخرافة، التي قالها السابقون بدون برهان و دليل.

[19] أُولئِكَ أمثال هؤلاء الذين كفروا باللّه و بالبعث، و لم يشكروا والديهم فلم يطيعونهما الَّذِينَ حَقَ ثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الذي قلناه و وعدنا به بأن من لم يؤمن جزاءه جهنم، فهم داخلون فِي أُمَمٍ جماعات كافرة قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ السابقين قَبْلِهِمْ مِنَ كفرة الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و لعل ذكر الجن لأجل التهويل إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ خسروا دنياهم و آخرتهم، و «إنهم» إما جملة مستأنفة تحسّريّة، و إما عطف بيان ل «القول» فمعناه ثبت عليهم أنهم خاسرون.

[20] وَ كما أن القسم المؤمن من الناس نوفيهم أعمالهم بإدخالهم الجنة كذلك هؤلاء الكافرين نوفيهم أعمالهم ف لِكُلٍ من القسمين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا إذ الأشد إيمانا و الأحسن عملا درجته فوق ذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 140

[سورة الأحقاف (46): آية 20]

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

الإيمان العادي و العمل

الصالح العادي، و كذلك بالنسبة إلى الأكفر و الكافر و الأعصى و العاصي وَ لِيُوَفِّيَهُمْ اللّه أَعْمالَهُمْ التي منها عقائدهم، لأن العقيدة عمل العقل، و معنى التوفية، إرجاعه إليهم وافيا، بدون زيادة أو نقيصة، ثم هل الجزاء نفس العمل أخذ صورة الآخرة، كما أن الدجاجة نفس البيضة، و الشجرة نفس النواة، و الولد نفس المني،- و لذا قال سبحانه «أعمالهم»- أو إن الجزاء جزاء العمل، مثل «دينار» يعطيه الإنسان أجرة للبناء؟ احتمالان، و إن كان ظاهر الأدلة و المؤيدات النقلية و العقلية الأول وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من حسنة المؤمن، و لا يزاد في سيئة الكافر.

[21] ثم إن القرآن مشى بالفريقين «عقيدتهم و عملهم» في الدنيا حتى أوصلهما إلى الآخرة، و قد رأينا المؤمن كيف أنه دخل الجنة فلننظر إلى الكافر و حاله يوم القيامة لنرى وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ في حال كونهم واقفين على شفيرها، في ذل و هول عظيمين، فيقرأ عليهم وثيقة الاجرام، فيقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا إن البدن و العقل و الطاقات و سائر ما للإنسان مما يتمكن من التصرف فيه، طيب منحها اللّه له، لأجل إسعاده، لكن الكفار يصرفونها لأجل شقائهم، كمن أعطى ولده مالا لأجل أن يكتسب به لتأمين مستقبله فصرفه في شرب الخمر و الزنى و القمار مما أوجب أمراضه الجسدية و العقلية وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها بتلك الطيبات حتى نفذت و لذا ليس عندكم الآن شي ء لراحتكم و سعادتكم، بل حصلتم بتلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 141

[سورة الأحقاف (46): آية 21]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ

تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)

الطيبات، هذه النار و العذاب لأنفسكم، إذن فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يؤلم جسدكم بالنار، و أنفسكم بالإهانة، لأنكم صرفتم جسدكم و أنفسكم في الملذات الضارة بسبب ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فالهوان لذلك الاستكبار وَ بسبب ما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ و تأتون بالمعاصي، فالنار لأجل تلك المعاصي الجسدية، و السرّ أن كل طاقة قابلة لأن تصرف في الفساد و قابلة لأن تصرف في الصلاح، فالنفط يمكن أن يصرف في طبخ الطعام، و في إحراق الدار و الأثاث، و الماء يمكن أن يصرف في الزراعة و الشرب و النظافة و في غرق الإنسان به في بحر أو نهر أو نحوهما، إلى غير ذلك، و الطاقات التي منحها اللّه للإنسان كذلك صالحة لصرفها في شراء الجنة و العزة الأبدية، و صالحة لصرفها في شراء النار و الهوان الأبدي، و حيث صرفها الكافر في غير المصرف الصحيح كان جزاءه عذاب الهون، و لعل قوله سبحانه «بغير الحق» لأن إرادة الكبر قد تكون لأجل إصلاح الناس و منع المفسدين عن الفساد، و لذا فالقيد إخراجي، لا توضيحي.

[22] وَ ليعتبر هؤلاء الكفار بقصص التاريخ، حتى يعلموا أن جزاء تكذيب أنبياء اللّه، و الانحراف عن منهجه سبحانه يوجب خسران الدنيا، أيضا، بالإضافة إلى خسران الآخرة، التي ذكر في الآية المتقدمة ف اذْكُرْ لهم يا رسول اللّه أَخا قبيلة عادٍ القبيلة الكافرة باللّه و اليوم الآخر و أخوهم هو «هود» النبي عليه السّلام إِذْ أَنْذَرَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 142

قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف، و هو رمل مستطيل مرتفع عن الأرض فيه انحناء، و كانت قبيلة عاد يسكنون في «اليمن» في أراض

رملية، و كانت لهم مدن في تلك الأراضي وَ قَدْ خَلَتِ أي مضت و سبقت النُّذُرُ جمع نذير، أي الأنبياء مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قبل هود عليه السّلام وَ مِنْ خَلْفِهِ بعد هود عليه السّلام- هذه جملة معترضة- لإفادة أن النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس جديدا بل الأنبياء كانوا مستمرين، قبل هود و بعد هود، و كان هود أيضا نبيا، و كلهم وصّوا أممهم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فإن لم تعبدوا اللّه، أو عبدتم غير اللّه ف إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في هوله، يأخذكم ذلك العذاب في الدنيا قبل الآخرة، و هنا سؤال هو أنه لماذا عبادة غير اللّه، أو عدم عبادة اللّه، توجب العذاب، فهل اللّه يحتاج إلى العبادة حتى يعذب غير العابد؟

و الجواب أن اللّه ليس محتاج، و إنما طبيعة عبادة غير اللّه تنتهي إلى العذاب، كطبيعة الحنظل التي تنتهي إلى المرارة، و طبيعة بيضة الحية التي تنتهي إلى السم، و هنا سؤال آخر: هو أنه هل هذه الطبيعة بجعل اللّه، أو خارجة عن إرادة اللّه، فإن كانت بجعله سبحانه فلما ذا جعلوا هكذا؟ و إن كانت خارجة عن إرادته، فذلك مما دل العقل على بطلانه، إذ اللّه قادر على كل شي ء؟ و الجواب: هي بجعل اللّه، و إنما جعل سبحانه هكذا، لأن الماهيات تتطلب الفيض، و عدم الفيض بخل لا يليق بمقامه سبحانه، و تفصيل المسألة في الكتب الفلسفية الإسلامية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 143

[سورة الأحقاف (46): الآيات 22 الى 24]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ

لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24)

[23] قالُوا أَ جِئْتَنا يا هود لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا فإنا لا نؤمن بك، فجوابهم لهود عليه السّلام لم يكن تقليدا بحتا، و ضلالا، بدون حجة و برهان- كما هو شأن كل جاهل معاند- فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في كلامك و قد قالوا ذلك له على سبيل الاستهزاء.

[24] قالَ هود عليه السّلام إِنَّمَا الْعِلْمُ في وقت عذابكم عِنْدَ اللَّهِ فليس الأمر بيدي حتى أطلب الآن العذاب وَ أما أنا فشأني أن أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و قد فعلت ذلك وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لأنكم تتركون الحجة التي أتيت بها إليكم و تأخذون بالعناد، و لا بد أن يأتي يوم ينزل عليكم العذاب حيث لا ينفع الندم.

[25] حتى إذا بلغوا كل مبلغ من العتو و أخبرهم هود بوقت عذاب اللّه، و كانت بلادهم خصبة فأصابهم القحط، و لم ينفعهم ذلك أيضا في رجوعهم، فلا الحجة أفادت، و لا أرضاهم الذي منّ اللّه به عليهم، و لا القحط الذي أصابهم، فاستحقوا العقاب فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا العذاب و كان ريحا سوداء لاحت لهم من الأفق عارِضاً أي شيئا كالسحاب ذي المطر عرض في أفق السماء مُسْتَقْبِلَ متوجهة أَوْدِيَتِهِمْ جمع وادي، الصحراء التي تسيل فيها السيول قالُوا جهلا منهم بحقيقة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 144

[سورة الأحقاف (46): الآيات 25 الى 26]

تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً

وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)

العارض هذا عارِضٌ سحاب مُمْطِرُنا فنخرج من القحط و أجابهم هود عليه السّلام كلا بَلْ هُوَ مَا العذاب الذي اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ طلبتموه و قلتم: فأتنا بما تعدنا، هي رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و لعل رياح نخوتهم تبدلت إلى رياح العذاب، كما أن أنهار فرعون التي كان يفتخر بها في قوله «و هذه الأنهار تجري من تحتي» و صارت سببا لادعائه الألوهية، تجمعت فصارت سببا لغرقه و هلاكه، فإن العذاب من جنس العصيان.

[26] تُدَمِّرُ تهلك هذه الرياح كُلَّ شَيْ ءٍ من المباني و الأشجار و الإنسان و الحيوان بِأَمْرِ رَبِّها فلا يمكن أن يقف أمامها شي ء فجاءتهم و أهلكتهم و أصبحوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أما في المساكن و من في المساكن فقد هلكت، فإذا حضر إنسان تلك البلاد لم ير إلا أثار بيوتهم، و إنما بقيت للعبرة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ و هل العذاب كان خارقا أو كان عاديا؟ احتمالان: و على أي حال فالعذاب عذاب كيفما كان قال سبحانه قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ «1».

[27] وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي قوم هود عليه السّلام فِيما إِنْ قد مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ من

______________________________

(1) الأنعام: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 145

[سورة الأحقاف (46): آية 27]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)

القوى البدنية و العقلية، و الإمكانات الكونية، فأنتم و إياهم سواء في إعطاء اللّه سبحانه نعمه

وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً يسمعون به آيات اللّه وَ أَبْصاراً يرون بها آثار اللّه وَ أَفْئِدَةً يعرفون بها المعقولات و يميزون بها بين الحق و الباطل، و قدم السمع، لأن السمع غالبا أكثر دركا من البصر إنه يسمع الأخبار من الأزمنة و الأمكنة البعيدة بخلاف البصر الذي لا يرى إلا في شعاع محدود، و الأفئدة تتأخر في الإدراك عن السمع و البصر، لأنهما بابان إلى الفؤاد فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما أفاد في الدفاع عنهم سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ لأنهم لم يستعملوها فيما يفيدهم، و إنما لم تنفعهم في إنقاذهم من العذاب مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء أي و لو إغناء قليلا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ ينكرون بما يرونه و يسمعونه و يفهمونه من آيات اللَّهِ اللفظية، و الكونية وَ حاقَ نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي استهزائهم، فإن استهزاءهم صار عذابا منزل بهم، و قد سبق أن عمل الإنسان كالبذر ينمو و ينمو و ينمو حتى يصل إلى ثمرة، فاحذروا أيها الناس أن ينزل بكم العذاب كما نزل بهم، فإنه بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن لم يكن عذاب خارق، لكن لا شك أنه تكون عذابات متناسبة و الأعمال، فإن لكل انحراف آثار سيئة، كما هو واضح عقلا و دل عليه الدليل الشرعي.

[28] و اعلموا يا أيها البشر أن العذاب لم يكن خاصا بقوم هود بل كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 146

[سورة الأحقاف (46): آية 28]

فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

مخالف لا بد و أن ينال عذابه وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا

ما حَوْلَكُمْ ما في أطرافكم يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كقرى قوم هود، و قوم صالح، و قوم لوط، و غيرها وَ قد صَرَّفْنَا الْآياتِ التي تنبههم من الرخاء و البلاء و الإعجاز، و التصريف جعل الشي ء من حالة إلى حالة، فسبب التنبيه لهم صار عدة مرات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكنهم لم يرجعوا عن غيهم فأخذهم العذاب، حتى يروا جزاء أعمالهم، و حتى يعتبر بهم البشر الآتون بعدهم إنهم إذا خالفوا كان مصيرهم مصير أولئك.

[29] فلو كانت تلك الأصنام آلهة، كما كان يزعم قوم هود عليه السّلام فَلَوْ لا لماذا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ أي الأصنام، وجي ء لهم بضمير العاقل، لأن عبادها كانوا يزعمون أن تلك الأصنام عقلاء اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً أي يتقربون بهم إلى اللّه، حيث كان الكفار يقولون «هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه» آلِهَةً مفعول «اتخذوا» بَلْ ضَلُّوا و غابوا تلك الأصنام عَنْهُمْ عن نصرة أولئك القوم و لذا لم ينصروهم ساعة نزول عذاب اللّه وَ ذلِكَ الأثر أي العذاب، عاقبة إِفْكُهُمْ و كذبهم، فإن الأصنام لم ينصروهم، بل هي تلك الأصنام صارت سبب بلائهم و عذابهم وَ ذلك سبب افترائهم و قوله سبحانه ما كانُوا يَفْتَرُونَ يؤول بالمصدر، أي افتراءهم، ف «إفكهم» أي عدولهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 147

[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 30]

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)

عن الحق، و «افتراءهم» أي لجوءهم إلى الباطل فإن كل مبطل له عملان انصرافه عن الحق، و

اتخاذه الباطل، لا يقال كل مؤمن يقتل كالأنبياء و الحسين عليهم السّلام و غيرهم، أيضا لا ينصرهم اللّه تعالى لإنقاذهم من أيدي الظلمة، لأنه يقال أولئك عذبوا بالعذاب السماوي و لو كانت آلهتهم مربوطة بالسماء لم يعذبوا، بخلاف الصالحين فإنهم قتلوا بأيدي الأشرار.

[30] وَ كيف يكفر أهل مكة بك يا رسول اللّه، و قد تمت عليهم الحجة، و إنهم علموا بإيمان الجن بك، و قد علم الكفار إيمان الجن، بواسطة كهنتهم، و هذه حجة أخرى عليهم إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً وجهنا إليك جماعة مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ حضروا قراءة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للقرآن قالُوا قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا حتى نفهم القرآن فهما كاملا فَلَمَّا قُضِيَ انتهى الرسول من قراءته وَلَّوْا رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ لهم بأنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن حاق بهم العذاب.

[31] قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى عليه السّلام و لعل أولئك الجن ما كانوا مؤمنين بعيسى عليه السّلام، لأن في الجن، كما في الإنس أديان و مذاهب، أو لأن كتاب عيسى عليه السّلام متمم لكتاب موسى أو لأن اليهود كانوا قريبين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيتمكن الكفار من الاستفسار منهم هل هناك جن مؤمنون، فذكر موسى عليه السّلام من هذا الباب، في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 148

[سورة الأحقاف (46): الآيات 31 الى 32]

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)

حال كون

ذلك الكتاب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما قبله من الكتب المنزلة يَهْدِي إِلَى الْحَقِ الحق هو المطابقة للواقع وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ فإن الوصول إلى الهدف «الحق» قد يكون بطريق مستقيم، و قد يكون بطريق غير مستقيم.

[32] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ الداعي الذي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإضافة تشريفيّة وَ آمِنُوا بِهِ الإجابة أن يذهب الإنسان ليسمع كلام المنادي، و الإيمان هو قبول كلامه، فإذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعضها، لأن حقوق الناس لا تسقط بالإيمان، إلا بقدر خاص مذكور في الفقه، فإذا كان الكافر مديونا لزيد في شراء دار و أنكر ذلك، و آمن لم يجبه الإسلام، إلى غير ذلك وَ يُجِرْكُمْ يحفظكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، في الدنيا و في الآخرة إذ خلاف أوامر اللّه يوجب آلام الدنيا أيضا.

[33] وَ لا يظن ظان أنه يمكنه الهرب من عذاب اللّه، إذا لم يؤمن باللّه فإنه مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ و لم يؤمن به فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ لا يعجز اللّه بأن يهرب منه، و لا يتمكن اللّه عليه فإنه لا يمكن الفرار من حكومته فِي الْأَرْضِ أي مكان من الأرض كأن شمله سلطان اللّه، فإن المجرم بالنسبة إلى الحكومة لا يعجزها في مدينة الحكومة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 149

[سورة الأحقاف (46): آية 33]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33)

و تعجز الحكومة في سائر الأرض، بخلاف المخالفين للّه فإنهم لا يعجزون اللّه في أي مكان من الأرض وَ لا يظن المخالف للّه، أن صنمه

ينقذه من بأس اللّه إذ لَيْسَ لَهُ لذلك المخالف مِنْ دُونِهِ غير اللّه أَوْلِياءُ ينصرونه من بأسه سبحانه أُولئِكَ المخالفون للّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح، لأنهم لا دليل لهم، ثم هم في معرض الهلاك و العذاب- و هذا كله كلام الجن-.

[34] ثم إن هؤلاء الكفار، بالإضافة إلى أنه لا برهان لهم على كفرهم، في معرض خطر عذاب الآخرة، و إنكارهم للبعث لا يستند إلى حجة و دليل، فهم ينكرون اللّه أو يشركون به بدون دليل، و ينكرون الرسول بدون دليل، و ينكرون البعث بدون دليل أَ وَ لَمْ يَرَوْا ألا يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ لم يعجز بِخَلْقِهِنَ حتى لا يقولوا انه خلق أولا، لكنه عجز بعد ذلك فلا يقدر على الإعادة، و الدليل على عدم العجز، التلازم بين الخلق و استمرار القدرة بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى لأن الإعادة كالابتداء، فالقادر على بناء دار قادر على إعادتها بعد الخراب- مثلا- بَلى نعم إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و هذه الجملة لتأكيد الكلام في قبال أن الكفار كانوا يؤكدون عدم البعث، لأنه ليس بممكن في نظرهم، ثم إن البعث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 199

[سورة الأحقاف (46): الآيات 34 الى 35]

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

يتوقف على علم اللّه بذوات الإنسان المبعثرة في الأرض

و بقدرته على جمعها ثانيا، و اللّه عالم قادر فلما ذا الامتناع؟.

[35] إن الكفار كانوا يقولون في الدنيا أن البعث و الجنة و النار ليس بحق، لكنهم يعترفون في الآخرة بكل ذلك وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يؤتى بهم على شفير جهنم مثل «عرضت الناقة على الحوض» و يقال لهم أَ لَيْسَ هذا الذي تشاهدونه من العذاب بِالْحَقِ فهل هذا كذب كما كنتم تقولون في دار الدنيا؟ قالُوا بَلى إنه حق وَ رَبِّنا قسما باللّه، فهم يعترفون باللّه، و بالبعث، حيث لا ينفعهم الاعتراف قالَ الملك لهم إذا فَذُوقُوا الْعَذابَ بكل أعضاء جسمكم بسبب ما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في الدنيا، و هذا إهانة و توبيخ.

[36] و إذا تممت عليهم الحجة يا رسول اللّه و لم ينفعهم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أولوا العزم هم الرسل الذين كانت عزيمتهم في الهداية و الإرشاد و الصبر على المحن أكثر من غيرهم، و هم كما في رواية نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد عليهم السّلام وَ لا تَسْتَعْجِلْ بطلب العذاب لَهُمْ و ذلك لأن بعضهم يؤمنون و في أصلاب بعضهم مؤمنون، إذا عذبوا و ماتوا، لم يخرج أولئك المؤمنون إلى الوجود، بالإضافة إلى أنه لا يهم بقائه طويلا ف كَأَنَّهُمْ يَوْمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 151

يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ فإن الماضي مهما كان طويلا لا يرى إلا قليلا، أ رأيت من عمّر مائة سنة إذا تكلم يقول ذهب عمرنا كأنه لمح بصر و قوله «نهار» كناية عن أنهم أبصروا لكنهم تعاموا، و هذا القرآن بَلاغٌ لهم، و كفاية لمن أراد الرجوع إلى

الحق، فإذا خرجوا عن الطاعة بعد البلاغ فإنهم يضرون أنفسهم فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ و الفسق هو الخروج عن الطاعة، و لذا يطلق حتى على الكفر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 152

47 سورة محمد مدنية/ آياتها (39)

سميت بهذا الاسم و ب «القتال» لاشتمالها على كلا الاسمين، و هي كسائر السور المدنية تعالج قضايا الشريعة. و لما ختمت سورة الأحقاف بتهديد الكفار بعذاب الآخرة، افتتحت هذه السورة بتهديدهم بعذاب الدنيا و ضلال أعمالهم، فلا تنفعهم في نجاتهم من أيدي المؤمنين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسمه تعالى، ليبارك لنا في أمورنا، فإن اسم اللّه بركة، توجب الثبات و الدوام، فإنه وحده هو الدائم، فكلما ارتبط به كان له نسبية الدوام «الرحمن الرحيم» فإن الرحم إعطاء بدون استحقاق، و اللّه يعطي الإنسان خلقه و وجوده بدون استحقاق، ثم يعطيه حوائجه بدون استحقاق أيضا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 153

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)

[2] الَّذِينَ كَفَرُوا بإنكار اللّه أو التشريك معه و إنكار أنبيائه و أوصيائهم و إنكار المعاد وَ صَدُّوا منعوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه بمنع الناس عن الهداية، فهم أجرموا مرة بكفرهم و مرة بمنع الآخرين عن الإيمان أَضَلَ اللّه أي أحبط أَعْمالَهُمْ التي كانوا يظنون أنها تنفعهم كالصدقة و إقراء الضيف و نحوهما.

[3] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ

عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الصفات الصالحة، فإن الإيمان بدون العمل الصالح لا ينجي كما أن العمل الصالح بدون الإيمان لا ينفع و حيث انه كان مورد توهم أن يقول أهل الكتاب نحن أيضا مؤمنون عاملون بالصالحات، خصص تعالى بقوله وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من الواضح أن الإيمان بالقرآن يلازم الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه وَ هُوَ أي ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْحَقُ النازل مِنْ رَبِّهِمْ من رب المؤمنين كَفَّرَ اللّه، أي ستر و أبطل عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ السابقة على إيمانهم وَ أَصْلَحَ اللّه بالَهُمْ أي حالهم و شأنهم بأن وفقهم و هداهم لأن ينظموا أمورهم بحيث يكون حالهم في الدنيا و الآخرة حسنا، فإن العمل بمنهاج الإسلام يصلح شؤون الإنسان.

[4] ذلِكَ الذي تقدم من ضلال أعمال الكفار، و كفران سيئات المؤمنين و إصلاح أمرهم بسبب أن الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ و الباطل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 154

[سورة محمد (47): آية 4]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4)

كالمرض يبطل أثر الأطعمة الطيبة و يفسد الأعضاء الصحيحة وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ و الإنسان الصحيح الجسم حتى إذا أصاب جسمه مرض طفيف دفعه الجسم و استعاد صحته، فالسيئة مكفّرة في المؤمن مِنْ رَبِّهِمْ تأكيد لبطلان قولهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء بالقرآن

من عند نفسه كَذلِكَ الذي ذكر من أن الكفار اتبعوا الباطل، و أن المؤمنين اتبعوا الحق يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي الأمثال النافعة لهم، فالحق مثل المؤمن و الباطل مثل الكافر.

[5] و إذ ظهر أن الكفار معاندون فَإِذا لَقِيتُمُ أيها المؤمنون الَّذِينَ كَفَرُوا في حالة الحرب فَضَرْبَ الرِّقابِ اضربوا رقابهم ضربا و اقتلوهم حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي أكثرتم من قتلهم و الجرح فيهم، حتى استسلموا، يقال فلان مثخن أي ثقيل للحمل الذي عليه، و جماعة الكفار إذا كثر فيهم القتل و الجرح، يكونون كالإنسان الثقيل الذي لا يتمكن من الحركة و القتال فَشُدُّوا الْوَثاقَ الوثاق ما يوثق به من الحبل و نحوه أي شدوهم بالوثاق، كناية عن أسرهم، و بعد ذلك فَإِمَّا تمنون عليهم مَنًّا بَعْدُ بإطلاق سراحهم بدون أخذ الفدية وَ إِمَّا تفدون و تأخذون منهم فِداءً مقابل إطلاق سراحهم، و إنما تفعلون ذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها الوزر الثقل، أي أثقالها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 155

[سورة محمد (47): الآيات 5 الى 7]

سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7)

فإن للحرب أثقالا كالسلاح و نحوها، و إضافتها إلى الحرب مجازية، و ظاهر الآية أن المراد بالإثخان و شد الوثاق إنما هو لأجل انتهاء الحرب، و كأنه جواب سؤال مقدر هو لماذا قتل الناس و لماذا أسرهم؟ و الجواب حتى لا تكون حربا ذلِكَ الذي ذكرناه هو التكليف وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لغلب المسلمين على الكفار بدون القتال، لأنه سبحانه قادر على كل شي ء وَ لكِنْ لم يستأصل الكفار و لم يبدهم لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يمتحن المؤمنين

بقتالهم فيثيبهم الجنة، و الكافرين بقتالهم للمؤمنين فيجزيهم بالنار وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا تظنوا أنه تلف و ذهب، كما هو ظن الذين لا يعتقدون باليوم الآخر، و لذا يفرون من الجهاد فَلَنْ يُضِلَ اللّه، و لن يضيع أَعْمالَهُمْ الصالحة، فهم أحياء و يرون جزاء أعمالهم الحسنة.

[6] سَيَهْدِيهِمْ اللّه، إلى الجنة، و إنما جاء «بالسين» لأن الجنة بعد البرزخ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ أي شأنهم في البرزخ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

[7] وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ في حال كونه سبحانه عَرَّفَها لَهُمْ قبل ذلك، و من المعلوم أن ترقب الخير يوجب سرور النفس.

[8] و لا يظن المؤمنون أنهم إذا حضروا القتال بالأهبة و الاستعداد يتركهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 156

[سورة محمد (47): الآيات 8 الى 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10)

اللّه، حتى يتغلب عليهم الكفار بل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ بنصرة دينه و نبيه و نصرة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَنْصُرْكُمْ اللّه على عدوكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ كالإنسان الواقف على أرض صلبة، لا إن اللّه ينصركم أولا، ثم يترككم و شأنكم بل يبقى معكم يرشدكم في سبيل الحياة، و لا يخفى أن «نصرة اللّه» غيبي، و بالأسباب الظاهرة أيضا و هي أن الإنسان إذا علم أنه مع اللّه استبسل في القتال و ارتفعت معنوياته، مما توجب نصرته على الكفار الفاقدين للمعنويات.

[9] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً انحطاطا لَهُمْ أي فينحطون انحطاطا، في الدنيا

بالمغلوبية وَ في الآخرة بأنه سبحانه أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ الصالحة، فلا يثابون عليها.

[10] و ذلِكَ التعس بسبب أنهم الكافرين كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ تكبرا و عنادا بعد أن تبين لهم أنه الحق فَأَحْبَطَ اللّه أبطل أَعْمالَهُمْ الصالحة، فلا لهم دنيا سعيدة و التي تعبوا لأجلها، و لا لهم آخرة مريحة حيث كفروا بها.

[11] ثم اللازم على هؤلاء الكفار، إن لم يقبلوا بالحجة و الدليل، أن يخافوا سوء العاقبة كما عاقبنا الكفار من الأمم السابقة أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يسافروا إلى اليمن و إلى الشام و إلى غيرهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 157

[سورة محمد (47): الآيات 11 الى 12]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12)

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين كذبوا أنبياء اللّه عليهم السّلام فقد دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أبادهم و أفناهم، و آثارهم موجودة، كما في اليمن من آثار قوم عاد، و في قرب الشام من آثار قوم لوط، إلى غيرهما من سائر الآثار للأمم البائدة، و لو لم يكونوا بائدين، لبقيت مدنهم و أحفادهم، لكنهم سادوا، فعصوا، فبادوا وَ لِلْكافِرِينَ بك يا رسول اللّه أَمْثالُها أمثال تلك العقابات التي أنزلت بالأمم السابقة.

[12] و إنما نصر اللّه المؤمنين و أباد الكافرين ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وليّهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ حتى يدفع عنهم العذاب، بل المولى الحقيقي لهم و هو اللّه عدوهم و معذبهم.

[13] و حيث إِنَّ اللَّهَ مولى المؤمنين فإنه يُدْخِلُ الَّذِينَ

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ الجنة الحديقة سميت جنة لاستتار أرضها بالأشجار تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، و هذا جزاء إيمانهم و عملهم الصالح وَ أما الَّذِينَ كَفَرُوا فلا عقيدة لهم و لا عمل صالح بل يَتَمَتَّعُونَ في الدنيا بلا ملاحظة الهدف و بدون جعل دنياهم وسيلة أخرتهم فإن المؤمن يتزود و الكافر يتمتع وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ بلا ملاحظة قبل الأكل و لا ملاحظة بعد الأكل، فإنهم يأكلون ما يحصلونه من حلال أو حرام و لا يلاحظون في أكلهم هدف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 158

[سورة محمد (47): الآيات 13 الى 14]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)

الطاعة و العبادة، تشبيها بالأنعام التي لا تلاحظ شيئا بخلاف العاقل الذي يلاحظ ألا يكون المال سرقة و نحوها قبلا و ألا يكون ضارا بعد الأكل وَ حيث أنهم لم يلاحظوا الهدف ف النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي مرجعهم و منزلهم.

[14] وَ إذا ترى يا رسول اللّه أن أهل مكة أخرجوك بأن أجبروك على الهروب فلا تحزن فإنا سننتقم منهم إذ كَأَيِّنْ أي كثير مِنْ قَرْيَةٍ مدينة، فإن القرية تطلق على كل مدينة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ من حيث المال و السلاح و الرجال و العمران الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب لما أخرجوا أنبيائهم و عتوا عن أمرنا فَلا ناصِرَ لَهُمْ حين أخرجوا أنبيائهم، حتى يدفع عنهم العذاب.

[15] كما أن اللازم ألا يغتم المؤمنين الذين أخرجهم أهل مكة فإنهم على بينة من ربهم و هذا أكبر تسلي

لهم أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة في عقيدته و في سلوكه مِنْ رَبِّهِ فإن الحجة إذا كانت من قبله سبحانه كانت قطعية الفائدة و الصحة كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ زينه الشيطان و الهوى له، و إن كان عقله يدل على بطلانه مثل كفار مكة الذين أخرجوا المؤمنين وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ليس يتساوى هذا بذاك فلا يحزن المؤمنون لما أصابهم بعد أن علموا أنهم على حق و أن أعدائهم على باطل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 159

[سورة محمد (47): آية 15]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

[16] إنهم أخرجوا الرسول و المؤمنين من مكة، لكن اللّه أعد لهم المدينة المنورة في الدنيا، و الجنة في الآخرة و الجنة خير من منازلهم في مكة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ مثل مدينة ليست أمثال مدن الدنيا، فإن مدن الدنيا لا يوجد فيها الشي ء المطلوب، و إن وجد فيها فهو قليل أو فاسد أما الجنة فإن فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ غير متغير الطعم و الريح، و فيه تعريض بمكة حيث أن مياهها قليلة و آسنة لأنها تبقى في الحباب و الأحواض فتتغير! و هذا و ما بعده شبه تسلية للمؤمنين الذين أخرجوا من مكة وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بخلاف لبن الدنيا فإنه إذا بقي تغير طعمه وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فيها سوء

مذاق و لا فيها سكر بحيث تنغض لذة الشارب بخلاف خمر الدنيا.

وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لا يخلطه الشمع و فضلات النحل وَ لَهُمْ للمؤمنين فِيها في الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لا كمكة لا ثمار فيها، و حيث أن المؤمنين حرموا من ما كان عندهم في مكة من الماء و الشراب، و العسل و اللبن و الثمار القليلة، و لم يحرموا من زوجاتهم بل كن معهم، لم يذكر في الآية الكريمة الحور وَ ما ذكر مما لهم في الجنة بدل عما حرموه، ثم أن المؤمنين حرموا عطف و حنان الكفار الذين كانوا يعطفون عليهم قبل الإسلام، إذ صاروا لهم أعداء، عوض اللّه لهم عن ذلك برضاه و عطفه فقال سبحانه مبشرا لهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 160

[سورة محمد (47): آية 16]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16)

مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هذه لذة معنوية حيث يعلمون أن اللّه غفر لهم و رضي عنهم، فهل هذه النعم التي حصل عليها المؤمنون تتساوى مع ما حصل عليها الكفار من النار و الماء الحار؟ و هل هؤلاء المؤمنون كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ لهم حرق النار، و حزن أنهم يعلمون أنهم خالدون وَ إذا عطشوا و طلبوا الماء سُقُوا ماءً حَمِيماً أي حارا فَقَطَّعَ ذلك الماء من فرط الحرارة أَمْعاءَهُمْ و الآية، و إن كان مساقها في المؤمنين و الكافرين من أهل مكة، كما ذكرنا، إلى أنها عامة لكل مؤمن و كافر- كما هو واضح-.

[17] وَ إذا تبين أهوال الكفار في الآخرة فليعلم المنافقون الذين

ظاهرهم معك يا رسول اللّه و باطنهم على خلافك، أنهم أيضا لهم مصير الكفار، و علامتهم أنهم لا يعون كلامك و لا يهتمون بأمرك فإن مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ بعد أن يحضر مجلسك في ضمن المؤمنين، لكن ليس قلبه عندك حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من المؤمنين، حيث أن المؤمنين وعوا كلامك و تعلموا أوامرك ما ذا قالَ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آنِفاً أي قبل قليل في أول وقت يقرب منا، من استأنف الشي ء إذا ابتدأ به، كأنه عند أنفه أُولئِكَ المنافقون الذين هذه صفتهم هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فإنهم بعنادهم حصلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 161

[سورة محمد (47): الآيات 17 الى 18]

وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18)

على حالة في قلوبهم، تمنعهم عن وعي كلام الرسول، فصارت ملكة لهم، و النسبة إلى اللّه، لأن اللّه سبحانه جعل هذه الملكة عقيب تكرار اللامبالاة، كما جعل العدالة عقيب تكرار الكف عن المحرمات وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في الباطل و لم يتبعوا الحق، فهؤلاء المنافقون حالهم حال الكفار الذين تقدم أنهم اتبعوا أهوائهم فهم مثلهم في العقاب، و إيمانهم الظاهري لا ينفعهم.

[18] وَ بالعكس من المنافقين الذين يزدادون غيّا، إذ كل مرة ينصرفون عن كلام الرسول و أوامره تزداد غشاوة قلوبهم سمكا، كما في سائر الملكات التي تتقوى بالتكرار و الممارسة الَّذِينَ اهْتَدَوْا حقيقة من المؤمنين زادَهُمْ اللّه هُدىً بكلمات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ تتقوى ملكة الإيمان في قلوبهم وَ آتاهُمْ أعطاهم اللّه تَقْواهُمْ

اللائقة بهم، إذ ترفع درجات التقوى في نفس الإنسان المؤمن حتى تصل إلى غايتها الممكنة.

[19] فليرجع المنافقون عن غيهم قبل مجي ء يوم القيامة و إلا ندموا على ما فعلوا إذا رأوا العذاب فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي المنافقون إلى شي ء إِلَّا السَّاعَةَ كناية عن أنهم لا يؤمنون حقيقة و لو جاءهم كل آية أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بدون استعداد سابق، لكن إذا كان المنافقون ينتظرون الساعة، فليعلموا أنها قريبة إذ قد جاءَ أَشْراطُها علاماتها التي منها بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و انشقاق القمر، فالمدة من زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 162

[سورة محمد (47): آية 19]

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19)

إلى الساعة، أقرب من المدة بين آدم عليه السّلام و الساعة، أو موسى عليه السّلام و الساعة و هكذا فَأَنَّى لَهُمْ للمنافقين إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي ما ذكّروا به، و المراد بذكراهم الساعة، و قوله سبحانه «فأنى» جواب «فهل» أي إن كان ينظر المنافقون إلى الساعة حتى يؤمنوا:

فأولا: جاءتهم علاماتها فاللازم أن يؤمنوا:

فأولا: جاءتهم علاماتها فاللازم أن تؤمنوا و ثانيا: ما هي فائدة مجي ء الساعة إذ حين ذاك لا يقبل الإيمان، و قوله سبحانه «فأنى» للامتناع، أي ليس لهم حين قيام الساعة، أن يؤمنوا.

[20] و إذا علمت يا رسول اللّه سعادة المؤمنين و شقاوة الكافرين و المنافقين فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أثبت على علمك، لأن العلم فياض إلى الإنسان آنا بعد آن، كما أن النور فياض من الشمس آنا بعد آن، فبإمكان الإنسان أن يبقى على

علمه و بإمكانه أن يترك علمه و يعمل عمل غير العالم وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أكمل النفس بالاستغفار فإن العلائق المادية الضرورية، حيث لا يمكن رفعها، كان لا بد من التواضع أمام اللّه، بالاستغفار، حتى يحوز على الكمال الممكن، مثلا ان العاري الذي لا ملابس له، إذا جاءه إنسان اعتذر من عريه و الاعتذار ليس لأنه فعل خطأ بل لأجل التواضع أمام ذلك الإنسان و هذا النحو من التواضع يزده جاها عند الزائر، و هذا هو سبب استغفار الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

أما العبادات الخاصة في كلام الإمامين أمير المؤمنين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 163

[سورة محمد (47): آية 20]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20)

و السجاد عليه السّلام و غيرهما عليهم السّلام فإنها كنايات و مجازات تشبيها للنواقص الضرورية بالنواقص الحقيقية وَ استغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بطلب غفران اللّه لهم وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ تقلبكم في كافة أحوالكم وَ مَثْواكُمْ حين ترجعون إلى بيوتكم للمنام و الاستراحة، فاللازم أن تخشوه و تستغفروه لأنه معكم دائما، فهو سبحانه جدير بأن تعتقدوا به، كما في «و اعلم ...» و أن تستغفروه كما في «و استغفر ...».

[21] و إذ تبين أن اللّه هو الإله الوحيد الواجب إنفاذ أمره و طلب الغفران منه، فاللازم إطاعته في الذهاب إلى الجهاد، بالإضافة إلى أن المؤمنين هم طلبوا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجهاد و وعدوا أن يجاهدوا إذا أمروا به وَ قد كان يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا أي هلا «تحريض و

طلب» نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا بالجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة لا لبس و لا تشابه فيها- فلا تكون محلا للعذر بالتأويل- وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ بأن كان فيها أمرا بالحرب رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين و مرض القلب هنا انطباعه على خلاف الأوامر و الفرار من الطاعة يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ فإن من غشي عليه مِنَ جهة قرب الْمَوْتِ إليه تدور عينه في حالة بهت، ثم يشخص بصره إلى ناحية لا يتمكن من حركتها، و هكذا حال الجبناء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 164

[سورة محمد (47): الآيات 21 الى 22]

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22)

عند شدة الخوف و مثل هؤلاءفالموت أولى لَهُمْ من الحياة، و هذا دعاء عليهم بالهلاك.

[22] إن المنافقين قالوا قبل نزول سورة القتال طاعَةٌ أي نحن مطيعون وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كان قولهم قولا معروفا، حول الجهاد فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي صار الجهاد عزما و جدّا بنزول السورة في شأنه، انسحب المنافقون عن الميدان، فعصوا عوض الطاعة، و أخذوا يتكلمون بما لا يليق بإنسان مؤمن أن يتكلم بمثله عوض «قول معروف» كانوا يتكلمون به سابقا، و هذه الآية تفسير للآية السابقة «وَ يَقُولُ الَّذِينَ ...» «فإذا نزلت ...» فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد، بأن أطاعوا عند نزول حكم القتال لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ في دينهم و دنياهم.

[23] و حيث أنهم هربوا من القتال، أخذوا يغيّبون أنفسهم في القرى و غيرها لئلا يكونوا بحضور المؤمنين و أخذوا يفسدون بالطعن في الرسول و في

أرحامهم المؤمنين الملتفين حوله ليبرروا موقفهم في الابتعاد عن الرسول و عن المؤمنين، كما هو شأن كل منافق يبتعد عن القيادة و يخالف الإطاعة فَهَلْ عَسَيْتُمْ هل يتوقع منكم إلا هذا، فإن «عسى» بمعنى الاحتمال القريب الوقوع إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الجهاد أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالطعن في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ الذين التفوا حول الرسول و أطاعوا أوامره،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 165

[سورة محمد (47): الآيات 23 الى 25]

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25)

و هذه الصفة تنطبق على كل من يتولى عن القيادة الإسلامية الصحيحة في كل زمان و مكان.

[24] أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم- و إن كانوا مؤمنين حسب الظاهر- هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فأبعدهم عن كل خير، بسبب انحرافهم عن جادة الإيمان فَأَصَمَّهُمْ اللّه عن استماع الحق وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ عن رؤية الحق و نسبة الفعلين إلى اللّه، بينما أنه بأنفسهم صموا أسماعهم و غمضوا أعينهم عن الحق، من جهة أن اللّه تركهم و شأنهم، كما يقال أفسد الوالد ولده، إذ تركه و شأنه حتى فسد.

[25] أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ هؤلاء المنافقون الْقُرْآنَ ليفهموا أن اللّه جازى المخالفين من الأمم السابقة بعقاب الدنيا و عذاب الآخرة، لعلهم يردعون عن غيّهم أَمْ عَلى قُلُوبٍ قلوبهم أَقْفالُها فلا يمكنهم التدبر؟ أي يقدرون فلا يتدبرون، أم لا يقدرون؟ و هذه عبارة بلاغية تقال في مورد كناية عن أن الطرف معاند لا ينفع معه الوعظ و الإرشاد، كما يقال

«لمن سقط في البئر» هل غمضت عينيك أم أنت أعمى؟ و لعل تنكير القلوب لأجل إفادة ابتعادها حتى كأنها نكرة، و إضافة الأقفال إليها، لبيان أن للقلوب أقفال خاصة، هي التعامي و العناد، مما يسبب عدم نفاذ العلم و الفضيلة فيها.

[26] و ليعلم هؤلاء المنافقون الذين يفرون من القتال، أن الشيطان صار قائدهم، بعد أن كانوا تحت سلطان اللّه الخالق العظيم، فهم انساقوا وراء عدوهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 166

[سورة محمد (47): آية 26]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26)

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا رجعوا عَلى أَدْبارِهِمْ بدل أن يسيروا إلى الأمام، رجعوا قهقرى من طرف الدبر إلى الخلف مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ظهر لَهُمُ الْهُدَى و عرفوا الحق الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم ركوب الآثام، من السول بمعنى الاسترخاء وَ أَمْلى لَهُمْ أي قرر عليهم، كالذي يملي على الآخر الشي ء ليكتبه، فالشيطان أولا جعلهم رخوا، ثم قرر لهم أن يخرجوا عن الطاعة.

[27] و إنما تمكن الشيطان من الأخذ بقيادهم، لأنهم انحرفوا عن طاعة الرسول إلى طاعة الكفار و حيث بدلوا قيادة اللّه إلى قيادة الشيطان تمكن الشيطان منهم ذلِكَ التمكن من الشيطان من قيادهم بسبب أنهم قالُوا للكفار لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ إذ الكفار كرهوا القرآن و الرسول سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كما هو شأن المنافقين دائما، إنهم يميلون قليلا إلى جانب الأعداء، و هذا الميل القليل ينتهي بهم إلى الميل الكثير، ثم تبديل القيادة من الإيمان إلى الكفر، و في هذا تنبيه على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يميل قليلا، و إلا انحرفوا، كما قال اللّه سبحانه ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا

السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1» وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ السر الذي ناجوا به

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 167

[سورة محمد (47): الآيات 27 الى 29]

فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)

الكفار أولا حتى حصل الانحراف أخيرا، و في هذا تهديدهم و تنبيه للآخرين أن لا يتخذوا الكفار أولياء، إذ الكافر بالآخرة يحرّف المسلم.

[28] هذا حالهم في الدنيا فضيحة و انحراف فَكَيْفَ بهم في الآخرة إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ آخذين أرواحهم في حال كون الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ ضرب الوجه لتوجههم إلى الكفار و ضرب الدبر لاستدبارهم الحق و المؤمنين.

[29] و إنما صار ذلِكَ حالهم عند الموت بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من ترك أوامره وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ كرهوا رضى اللّه فَأَحْبَطَ أبطل اللّه أَعْمالَهُمْ الصالحة و التسلسل الطبيعي، أنهم اتبعوا ما أسخط اللّه فذهبوا إلى المنافقين، فارتدوا، فخربت دنياهم و آخرتهم، و أسلوب القرآن، كأسلوب الكون في جمع المختلف، حيث كان القصد جمال الكون، فماء إلى جنب شجر، إلى جنب حيوان إلى آخره، و كذلك فعل اللّه سبحانه في كتابه التكويني و ذلك لشحذ الذهن، و قد ذكرنا طرفا من ذلك في كتاب «حول القرآن الحكيم».

[30] ثم ليعلم هؤلاء المنافقون أن نفاقهم لحفظ ماء وجههم عند كلا الجانبين يعود عليهم بأكبر الضرر حيث إن الكفار لا يعتمدون عليهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 168

[سورة محمد (47): آية 30]

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)

كما هو

واضح، و المؤمنون يعرفون ضمائرهم فيسلبون اعتمادهم أيضا، فيبقون مكروهين من الجانبين أَمْ حَسِبَ بل زعم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مرض النفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم، نحو الرسول و نحو المؤمنين، كلا ليس كذلك بل تظهر أحقادهم، كما

قال الإمام علي عليه السّلام «ما نوى امرء شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه و صفحات وجهه»

«1».

[31] وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ رؤية العين بأن ينزل جبرائيل و يقول إنهم فلان و فلان، لكن اللّه على الأغلب يترك الأمور مع الأنبياء على طبيعة الحياة، من دون إعجاز، ليتخذهم الناس أسوة، لئلا يقول الناس أنهم قدروا على إدارة الأمور من جهة الوحي و الغيب، و لا نتمكن نحن مثلهم فيتقاعسوا عن العمل فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ سيما الإنسان ملامح وجهه، لكنا لا نشاء ذلك، لما تقدم ثم ابتدأ سبحانه بقوله وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي أن فلتات ألسنتهم تدلّك عليهم و اللحن هو الإمالة، فإن المنافق يميل بكلامه، حيث إن قلبه لا يرضى أن يتكلم حسب موازين الإيمان وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ أعمال المؤمنين و المنافقين فاللازم مراقبته سبحانه، و هذا تهديد للمنافق بأنه بالإضافة إلى أنه يفضح في الدنيا، فهو يجزي بالجزاء في الآخرة، لأن اللّه يعلم عمله.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 72 ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 169

[سورة محمد (47): الآيات 31 الى 32]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)

[32] ثم لا يظن المؤمنون أنهم بمعزل عن الاختبار، و إن الاختبار أسقط المنافقين، و أظهر

طيب جوهر المؤمنين، و انتهى كل شي ء- كما يزعم ذلك من نجح في الامتحان الأول غالبا- وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نمتحنكم أيها المؤمنون حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ من غير المجاهدين، إذ لا يكفي الامتحان الأول بالإيمان في ترك الإنسان و شأنه، و قوله «حتى نعلم» أي يقع علمنا على الخارج، أي يصل العلم إلى مرتبة الفعلية بعد أن كان اللّه عالم لكل ذلك من قبل وَ الصَّابِرِينَ إذ من الممكن الشروع في الجهاد، لكن لا يصبر عليه المجاهد وَ حتى نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نمتحن أخباركم، فإنه كما يمتحن الإنسان بالجهاد و نحوه، يمتحن خبره هل أن من يصل إليه خبر المجاهد و غير المجاهد، يتبع المجاهد أو غير المجاهد، و امتحان الخبر كناية عن امتحان من يصل إليه الخبر، مجازا.

[33] ثم إن الكفار و المنافقين يظنون أنهم يضرون اللّه و ينفعون أنفسهم، و الحال أنهم لا يضرونه بل يضرون أنفسهم بحبط أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا، أو باطنا فقط كالمنافق وَ صَدُّوا منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن جعلوا الناس في الطرق المنحرفة، حيث الناس- إذا كانوا هم بأنفسهم- مشوا في سبيل اللّه المستقيم وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ هم في شق «أي طرف» و الرسول في شق مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ ظهر الْهُدى إذ قبل إتمام الحجة عليهم لا يحبط أعمالهم الصالحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 170

[سورة محمد (47): الآيات 33 الى 34]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدهم وَ سَيُحْبِطُ اللّه

أَعْمالَهُمْ يبطلها فلا يعطيهم جزاء حسنا لصدقتهم و عتقهم و إقرائهم الضيف و نحو ذلك، فهم ضروا أنفسهم و لم يضروا اللّه، بينما كانوا يزعمون أنهم ينفعون أنفسهم و يضرون اللّه.

[34] ف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا علمتم أن المخالفة تعود بالضرر على المخالف أَطِيعُوا اللَّهَ في أوامر القرآن وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يأمر وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ الصالحة بسبب العصيان فإن العصيان يحبط العمل الصالح.

[35] و ليعلم الكفار أن باب التوبة لهم مفتوح، فإذا رجعوا إلى الإيمان و الطاعة، غفر اللّه لهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَ آمنوا و عملوا صالحا أعطوا جزاء إيمانهم و كل عمل صالح سبق إيمانهم أو لحقه، أما إذا ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنه لا ينفع الإيمان و الندم بعد الموت و قد ذكرنا سابقا أن العناد على الكفر يوجب تبدل الجوهر إلى الناري الذي لا يبدله بعد الموت إلى الجوهر النوري، و لذا لا غفران لمن مات بكفر، أو رأى الموت بعينه، كما ذكره سبحانه بقوله (وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ). «1»

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 171

[سورة محمد (47): الآيات 35 الى 36]

فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36)

[36] و إذا علمتم أيها المؤمنون أن اللّه معكم، و ضد الكافرين فَلا تَهِنُوا لا تضعفوا عن القتال وَ لا تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ المسالمة مع الكفار خوفا منهم، بخلاف ما إذا كانت الدعوة إلى السلم لمصلحة قلة المسلمين أو نحو ذلك أو

كما قال سبحانه و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وَ الحال أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جمع أعلى، فإن المسلم أعلى حجة، و أعلى قوة، لأن إيمانه يجعله أعلى من جهة المعنويات و هي مهمة جدا في الانتصار وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ينصركم و يثبت أقدامكم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أي لن يضيع منكم أَعْمالَكُمْ فأنتم أعلى منطقا و نفسا، و اللّه معكم، و ترجون جزاء حسنا، و بهذه الجهات الثلاث لا ضعف في المسلمين و يجب أن يعلموها حتى لا يهنوا و لا يدعوا إلى السلم.

[37] و إن كان الفرار من الجهاد، لأجل حب الحياة فاعلموا إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ لا حقيقة لها كما لا حقيقة للّعب فإن الشي ء الذي يلعب به الصبيان شبيه بالأمور الواقعية، و كذلك الحياة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة وَ لَهْوٌ يلهي الإنسان و يصرفه عن الأهداف الحقيقية، التي هي رضى اللّه و الجنة وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه وَ تَتَّقُوا بترك اللهو و اللعب يُؤْتِكُمْ اللّه أُجُورَكُمْ اللائقة بكم، فإن الأجر اللائق بعمل الإنسان، هو رضى اللّه و الجنة وَ لا تخافوا من الإيمان و التقوى، حيث يزعم بعض الناس أنه لو آمن يجب عليه أن يدفع ماله في سبيل اللّه، كلا ليس كذلك لا يَسْئَلْكُمْ اللّه أَمْوالَكُمْ كلها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 172

[سورة محمد (47): الآيات 37 الى 38]

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

بل شيئا يسيرا منها كالخمس و الزكاة و هي لمنفعتكم أيضا.

[38] و إنما

لا يسأل اللّه كل أموالكم «أي غير الضرورية لكم» مع أن سؤال كل الأموال أولى لما فيه من توسعة رقعة الإسلام و من إنقاذ الناس من براثن المستكبرين؟ لأنه إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي كل الأموال فَيُحْفِكُمْ فيبالغ في الطلب، فإن الإحفاء بمعنى المبالغة تَبْخَلُوا عن عطاء الكل وَ يُخْرِجْ الطلب أَضْغانَكُمْ أحقاد صدوركم، و ليس المراد أن الضغن كامن فيظهر، بل هو من قبيل إخراج النبات أي أوجده، و الحاصل أن طلب كل المال، و إن كانت فيه مصلحة إلا أنه تركه سبحانه، لأن أضراره أكثر من منافعه فهو من قبيل

«لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك».

[39] و إذ مهد الجو، بذكر أن الحياة زائلة فلا ينبغي للإنسان أن يتعلق بها، و أن اللّه لا يريد كل أموالكم صار المجال لإظهار وجوب دفع بعض المال، و ليس ذلك لأمر شخصي، بل لإقامة حكم اللّه و في سبيل اللّه ها للتنبيه أَنْتُمْ أيها المؤمنون هؤُلاءِ أي هم الذين- و الإتيان بهذه العبارة لجلب الانتباه أكثر فأكثر- تُدْعَوْنَ يدعوكم اللّه، و لعل الإتيان بالمجهول، لئلا يكون رده من البخلاء ردا على اللّه مباشرة؟ إذ قال «يدعوكم اللّه» لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ للغزو و لمصالح المسلمين و لسد عوز المحتاجين فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ فلا يعطي أو يعطي أقل من الحق الواجب عليه وَ اعلموا أن مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 173

لأن ضرر البخل عائد عليه، فكان البخل عن النفس من قبيل «منع عن نفسه الخير» و إنما يعود ضرر البخل إلى الإنسان نفسه، لأن مجتمع البخلاء لا ينمو و إذا لم ينمو المجتمع تضرر الجميع، بما فيهم البخيل نفسه وَ

لا يزعم أحد أن اللّه إنما يطلب المال لأنه فقير، و أن الذين يطلب منهم أغنياء؟ ف اللَّهِ هو الْغَنِيُ إنه يملك كل الكون، و يملك ان يخلق كل شي ء بإرادته، فهل مثله فقير؟ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ حتى أنكم تحتاجون في استمرار حياتكم إليه تعالى، و هل مثل هذا الإنسان يسمى غنيا؟ بل إنما يطلب منكم المال ليمتحنكم، و ليعود نفعه إليكم وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا فلا تنفقون يَسْتَبْدِلْ اللّه بكم قَوْماً غَيْرَكُمْ يقيمهم مقامكم، فإن الخير يلتف حوله الناس، و إنما المهم أن يكون الإنسان من أهل الخير ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في المخالفة لأوامره سبحانه، و من الطبيعي أن تأتي الأجيال اللاحقة لتعتبر بنواقص الأجيال السابقة فيكملوها فلا يكونوا أمثال أولئك السابقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 174

48 سورة الفتح مدنية: آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفتح» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على أحكام الشريعة و لما ختمت سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقضايا الجهاد بالنفس و المال، افتتحت هذه السورة بثمرة تلك المجاهدات، حيث فتح اللّه على نبيه مكة المكرمة، ببركة جهاده و جهاد المجاهدين من أصحابه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي يمنح كل خير، و الذي منه فتح مكة «الرحمن الرحيم» بعباده، و لذا يمنحهم ما فيه صلاحهم برحمته الواسعة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 175

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2)

[2] إِنَّا فَتَحْنا لَكَ يا رسول اللّه فَتْحاً مُبِيناً واضحا، قالوا نزلت بعد أن رجع رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية، و المراد أنه سيفتح له، فنزل المضارع المحقق الوقوع منزلة الماضي، لأنه في كونه يقينا مثل المستقبل، أو المراد أن الحديبية فتح، لأنها كانت سبب الفتح و مفتتحه.

[3] و إنما فتحنا لك لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ على الفتح وَ ما تَأَخَّرَ أي أن الفتح سبب لغفران كل الذنوب، و المراد به، إما ذنوبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند الكفار، فإنه كان عاقا قاطعا للرحم عندهم و قد قتل رجالهم و سبّ آلهتهم قبل الفتح و بعد الفتح، فإذا سلط عليهم، غمضوا عن ذنوبه، كما هي العادة أن الإنسان إذا تسلط غفر الناس ما يزعمون له من ذنوب، و إما المراد بالذنوب، ما ذكروا من ذنوب الأنبياء، من أنها تعد ذنوبا بالنظر إلى الكمال الواقعي يمنعه الاضطرار إلى المأكل و المشرب و ما أشبه، فهو نوع من التواضع، يرفع النقص الذي ألجئ إليه اضطرارا، و إما المراد ذنوب الأمة فإن ذنب الأتباع يعد ذنب الرئيس- عرفا- فالجهاد تكميل للمضطر إليه، أو سبب غفران ذنب الأمة وَ ل يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الإسلام و ضم السيطرة إلى النبوة وَ ل يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً فإن الهداية تتلاحق آنا بعد آن، و في حالة بعد حالة، مثلها مثل الحياة، و مثل ماء النهر، فكل خطوة بعدها إما هداية أو ضلال، لأنه إن مشى مستقيما- بعد تلك الخطوة- فهو هداية و إلا كان ضلالا، و الفتح سبب الهداية، لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 176

[سورة الفتح (48): الآيات 3 الى 4]

وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي

أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

يمشي في البلد المفتوح بسيرة حسنة و هي هداية جديدة.

[4] وَ ل يَنْصُرَكَ اللَّهُ فإن الفتح سبب النصرة «و إن كان نفس الفتح أيضا نصرة» نَصْراً عَزِيزاً فيه عزة و منعة فالفتح صار سببا لأربعة أمور، غفران الذنب، و تمام النعمة، و الهداية الجديدة، و النصرة العزيزة.

[5] و ليشكر المؤمنون نعمة الفتح فإن اللّه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الصفة الموجبة للسكون و الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فإن تهيئة الإنسان للمقدمات توجب إفاضة اللّه للنتائج، كما أن تهيئة الزارع للزرع توجب إفاضة اللّه النبات، و لما استعد المؤمنون للإطاعة بقتال الأعداء، ذهب منهم الخوف و الاضطراب و صارت لهم الطمأنينة، مما أوجبت فتحهم السريع لِيَزْدادُوا إِيماناً جديدا مَعَ إِيمانِهِمْ القديم، فإن سكون القلب يوجب التفكر حسنا و رؤية الأشياء كما هي الواقع، فيرون فضل اللّه عليهم و بذلك يزدادون إيمانا وَ لا يزعم المؤمنون أنهم، بدون فضل اللّه تمكنوا من الفتح، بل كان معهم جند اللّه، مثل إلقاء الرعب في قلوب الكافرين، و إنزال السكينة في قلوب المؤمنين، إذ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الجنود المادية و المعنوية وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً يعلم كيف ينصر المسلمين على الكافرين حَكِيماً يضع الأشياء موضعها فلما أن هيّأ المسلمون أنفسهم للقتال، كانت الحكمة تقتضي نصرتهم، كما أن الأب الحكيم يمدّ ولده بالمال كلما رأى حسن طاعته له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 177

[سورة الفتح (48): الآيات 5 الى 6]

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً

عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6)

[6] و إنما فعل سبحانه ما فعل من النصرة للمؤمنين، بعد أن أطاعوا أوامره ليزيد ثوابهم فيدخل الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ لأنهن أيضا كنّ مجاهدات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يغطيها و يزيلها، فإن الجهاد سبب غفران الذنب، كما هو سبب رفع الدرجة في الجنة، فالمراد بإدخالهم الجنة في أثر الجهاد، الجنة الرفيعة التي لو لا الجهاد لم يستحقوها وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنه منتهى رغبة الإنسان، أن يكون في لذة دائمة، و لعل ذكر «عند اللّه» للإفادة بأنهم في نعمة معنوية أيضا، لأنهم يلتذون بأنهم قرب اللّه سبحانه، قربا معنويا.

[7] وَ يُعَذِّبَ عطف على «يدخل» أي أن اللّه نصر المؤمنين لأمرين:

الأول: لأجل رفعة درجات المؤمنين في الآخرة. و الثاني: ليزيد عذاب الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ لأنهم بنفاقهم في باب هذه النصرة زاد عذابهم في الآخرة وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ لأنهم ببقائهم على الشرك و محاربتهم للرسول زاد عذابهم الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ حيث كانوا يظنون أن اللّه لا ينصر رسوله، و أنه كذب سبحانه مع رسوله في ما وعده من النصرة عَلَيْهِمْ على أولئك المنافقين و الكفار دائِرَةُ السَّوْءِ أي ما كانوا يظنونه من عدم النصرة، حتى يسوء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 178

[سورة الفتح (48): الآيات 7 الى 8]

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ

نَذِيراً (8)

المؤمنون، دائر عليهم و حائق بهم، و سميت دائرة، من دوران الفلك، فقد دارت دائرة سيئة بالنسبة إليهم، و قوله سبحانه «عليهم ...» إما إخبار أو ادعاء عليهم وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قطعهم عن رحمته وَ لَعَنَهُمْ أبعدهم عن كل خير، و ذلك لأن اللّه تعالى لا يتغير حاله، و لا يعروه غضب و نحوه كما قرر في علم أصول الدين وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً أي أن جهنم موضع سوء يصيرون إليه بعد موتهم.

[8] وَ يؤكد سبحانه للمؤمنين وجوب إقدامهم في الحروب لأجل الإسلام، كرر سبحانه لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالحر و البرد و المطر و الريح من جنوده في السماء، و الرعب في القلب و التشتت للشمل و نحوهما من جنوده في الأرض، إلى غيرهما من جنوده الكثيرة وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً يقدر أن يفعل ما يريد لعزته حَكِيماً يضع الأشياء موضعها، فإذا نصر المؤمنون دينه، نصرهم.

[9] و لما ذكر شي ء من صفاته سبحانه، ذكر بعض صفات رسوله، القائد للمؤمنين ليعلم المؤمنون أن قائدهم صالح لقيادتهم إلى خير الدنيا و سعادة الآخرة إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه شاهِداً على الناس لتشهد على المؤمن بالإيمان و على الكافر بالكفر و على المنافق بالنفاق وَ مُبَشِّراً تبشر المؤمنين بخير الدنيا و الآخرة وَ نَذِيراً تنذر الكافرين و المنافقين بشر الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 179

[سورة الفتح (48): الآيات 9 الى 10]

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ

أَجْراً عَظِيماً (10)

[10] و إنما أرسلنا الرسول لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ لأنه الدال إلى اللّه و إلى رسوله وَ تُعَزِّرُوهُ تقووه بالنصرة و ذلك بتقوية دينه و نصرة أحكامه وَ تُوَقِّرُوهُ تعظموه وَ تُسَبِّحُوهُ تنزهوه عن الشريك و عن المناقص بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا.

[11] و إذ عرف المسلمون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق المعرفة فاللازم أن يعرفوا أن بيعتهم له لازمة عليهم، لأن بيعته بيعة للّه تعالى، فإذا نكث الإنسان بيعته، فبالإضافة إلى أنه خان اللّه و رسوله، كان ضارا لنفسه، إذ فائدة البيعة تعود إلى نفس المؤمن إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا رسول اللّه إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ إذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممثل للّه تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فقد كان أسلوب البيعة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرفع يده ممدودة باطنها إلى الأرض و ظاهرها إلى السماء، فيأتي المبايع فيمر باطن كفه بكف الرسول مبتدأ من رأس الخنصر منتهيا إلى رأس إبهام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذه هي كيفية البيعة، و هي رمز أن البائع قد باع كل شي ء له من نفس و مال و غيرهما، للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ «1» و إتيان الصيغة بباب المفاعلة، لأنه باع ما عنده ليأخذ بقدره من الجنة، فالبيع من الطرفين، و إذا أراد شخص نقض البيعة مع أمير أو ما أشبه، كان يمر بيده من رأس الإبهام

______________________________

(1) التوبة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 180

[سورة الفتح (48): آية 11]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ

الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)

إلى رأس الخنصر، و كما يستفاد من روايتين ذكرهما الفيض «رحمه اللّه» في الصافي، و يد اللّه كناية، مثل بيت اللّه و ناقة اللّه فَمَنْ نَكَثَ نقض البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ بما يعود ضرره عَلى نَفْسِهِ لأنه إذا لم يتبع سبيل اللّه اتبع السبل المنحرفة التي في سلوكها الضلال و العذاب وَ مَنْ أَوْفى أي وفى، كلاهما بمعنى واحد كما قال سبحانه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» و هل فائدة باب الأفعال الدلالة على كمال الوفاء تأكيدا له بِما أي بالذي عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ اللّه في الدنيا و الآخرة أَجْراً عَظِيماً و السين لأجل أن الحصول على الفوائد الدنيوية لا يكون إلا متأخرا، و

قد ورد أن هذه الآية نزلت في بيعة الرضوان عام الحديبية، و قد كان تخلف عن رسول اللّه في سفره إليها قبائل أسلم و جهينة و مزينة و غفار و غيرهم فإنهم بعد أن استنفرهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتلّوا بالشغل بأموالهم و أهليهم، فنزلت فيهم هذه الآية

«2».

[12] سَيَقُولُ لَكَ يا رسول اللّه الْمُخَلَّفُونَ كأن ضعف إيمانهم سبب مخالفتهم، و لذا جي ء بصيغة المفعول، مثل «أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ» بصيغة المجهول مِنَ الْأَعْرابِ و هم أهل البادية، و لا يسمى أهل

______________________________

(1) المائدة: 2.

(2) راجع مجمع البيان: ج 9 ص 190.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 181

المدن أعرابا، و إنما يسمون عربا شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا عن السفر معك يا رسول اللّه فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب الغفران من

اللّه على تخلفنا، فإنهم تخلفوا خوفا، و لما رجع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منتصرا ندموا و جاءوا يعتذرون، لكن كلامهم في اعتذارهم، أولا، و في طلب استغفاره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم ثانيا، كان كذبا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فعدم نفرهم أولا: كان خوفا، و طلب استغفارهم ثانيا: كان لأجل أن يمحوا عن أنفسهم و صمة العار التي لحقت بهم عند المؤمنين قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هل هناك من يقدر على منع نفوذ قضاء اللّه فيكم إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا بالقتل و إغارة قبيلة على قبيلة أو ما أشبه ذلك فأنتم كان فراركم خوفا، بينما لا ينفع الفرار من بأس اللّه إن كان مقدرا أن ينزل بكم أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً و الآن أنتم جئتم معتذرين لتحصلوا من اعتذاركم على نفع المستقبل من الجاه عند المؤمنين و الغنيمة في المستقبل، بينما النفع بيد اللّه، لا أن اعتذاركم يجر إليكم نفعا، و الحاصل أنهم كانت أعمالهم و عدم نفرهم، و اعتذارهم، تابعة لخوفهم و رجائهم، بينما الضرر و النفع بيد اللّه، لا بحسب أعمالهم بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فعلم سبب تخلفكم و سبب اعتذاركم «على خلاف ما أظهرتم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 182

[سورة الفتح (48): الآيات 12 الى 14]

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ

الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)

[13] ثم بين اللّه سبحانه كذبهم في دعواهم «شغلتنا أموالنا و أهلونا» بقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لأن كفار مكة يقتلونهم وَ زُيِّنَ ذلِكَ الظن فِي قُلُوبِكُمْ فإن الإنسان يرتاب أولا ثم يشك ثم يظن، ثم يقوى ظنه إلى حد أنه الذي يزين له فيصرفه عن العمل بخلاف ذلك وَ قد كان الظن باطلا إذ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ لم يكن يستحق أن يزين في قلوبكم، إذ ما كنتم تعلمون من خطط النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحكيمة، و من نصرة اللّه له كان ينبغي أن يصرفكم عن ظنكم وَ كُنْتُمْ بانصرافكم عن النصر مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قَوْماً بُوراً جمع بائر، أي هالكين، هلكت دنياكم لأنكم فضحتم، و آخرتكم لما أعده اللّه لكم من العقاب.

[14] لقد كنتم قوما بورا في الدنيا كما وضح ذلك للجميع وَ أما أنكم بور في الآخرة فلوضوح أن مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ كما ظهر ذلك من تخلفكم عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الساعة الحرجة فَإِنَّا أَعْتَدْنا هيئنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا تستعر.

[15] وَ اللّه سبحانه قادر على عذابهم إذ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يتمكن الحروب عن إرادته و لكن إذا رجع هؤلاء إلى التوبة و الطاعة فلعله سبحانه يغفر لهم إذ هو تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 183

[سورة الفتح (48): آية 15]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ

قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)

يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و ليست مشيئته اعتباطية بل تابعة لعمل الإنسان فيشاء غفران التائب و عذاب المصر وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يستر ذنب التائب رَحِيماً يرحمه بأن يبدل سيئاته حسنات.

[16] و إذ بين سبحانه أن عذرهم كان كذبا، أراد أن يبين أن طلبهم للتوبة و الاستغفار أيضا كذب سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الذين تخلفوا عن النصر مع الرسول إلى الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى حرب جديد مما فيه مَغانِمَ جمع مغنم بمعنى الغنيمة لِتَأْخُذُوها ذَرُونا أي دعونا نَتَّبِعْكُمْ فحيث كان الخوف من أهل مكة لم يسافروا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أما حيث حرب طفيفة، يريدون الكون معكم ليحصلوا على الغنائم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فإن المسلمين استعدوا لقتال أهل مكة في الحديبية ليعلوا الإسلام، لكن كان رأيهم خطأ، إذ ما كان بالإمكان فتح مكة، مع علم أهلها أن الرسول يريد محاربتهم، بل أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتحها في حالة غفلتهم لئلا تراق دماء، و كان كما أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الصلح، و لما ثقل على المسلمين، حيث لم يحاربوا و لم يحصلوا على مغانم من أهل مكة، وعدهم اللّه أن يعوضهم عن مغانم مكة بمغانم خيبر، فكانت مغانم خيبر لأهل الحديبية- حسب وعد اللّه سبحانه- فإذا تبع المخلفون المسلمين في فتح خيبر كان ذلك تبديلا لكلام اللّه تعالى، و لذا ف قُلْ يا رسول اللّه للمخلفين لَنْ تَتَّبِعُونا إنشاء في صورة إخبار، لبيان أنه محقق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 184

[سورة الفتح (48): آية 16]

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ

مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16)

الوقوع كَذلِكُمْ أي هكذا و «كم» أداة خطاب قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن نتهيأ لخيبر، و هو في الحديبية فَسَيَقُولُونَ أي المخلفون بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم، و هذا نفي لكلام المؤمنين حيث قالوا للمخلفين «إن اللّه وعد الغنائم لأهل حديبية» بَلْ ليس كما يقول المخلفون إذ أنهم كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا فهم لا يفهموا حتى موازين الدنيا، فإن من عليه الغرم فله الغنم، لا أن يكون الخوف و الصعوبة للمؤمنين، ثم يشاركهم المخلفون في الغنائم.

[17] قُلْ يا رسول اللّه لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في ذمهم و إشعارا بشناعة تخلفهم سَتُدْعَوْنَ إِلى قتال قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ حيث يكون فيه الخوف و الغنم معا، فإنكم حيث لم تتحملوا خوف الحديبية لا تأخذون من غنائم خيبر. أما في المستقبل لنا حرب مع قوم أولي بأس شديد، كأهل مكة «حين نريد فتحها» و «كحرب حنين» و «كحرب الطائف» و غيرها، فلكم أن تأتوا معنا لتنالوا قسطكم من صعوبة الحرب، و قسطكم من غنائمها تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فإما القتال حتى النصر، أو أن يسلموا بدون قتال، و لعله إشارة إلى أن أهل مكة استسلموا بدون قتال، و أن أهل حنين قوتلوا إلى أن انتصر المسلمون فَإِنْ تُطِيعُوا باستجابة الذهاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 185

[سورة الفتح (48): آية 17]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)

مع المسلمين إلى قتال هؤلاء يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً بتوسعة التجارة مع أهل مكة، و بالغنائم في حنين بالإضافة إلى ثواب اللّه في الآخرة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و لم تحضروا القتال كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما لتضاعف جرمكم، بإصراركم على مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[18] نعم لا يجب حضور الجهاد على الكل فالمتخلف في الحديبية و في غير الحديبية لا يشمله التهديد و الوعيد ف لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي لا نشتد عليه بإلزامه حضور الحرب وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ لأنه لا يتمكن من اللحاق بالمجاهدين الماشين، و لا يقدر على ركوب الفرس، لعدم وصول رجله إلى الركاب وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ إذا كان مرضه يمنعه من السير وَ إذا أطعتم أيها المخلفون، في المستقبل إذا دعاكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الحرب فإن مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فلا يذوق حر الصحراء، لأنه في جنة، و لا عطش شح الماء، لأنه عند الأنهار الجارية وَ مَنْ يَتَوَلَ منكم يُعَذِّبْهُ اللّه عَذاباً أَلِيماً مؤلما، و قد كرر سبحانه التهديد ليكون أبلغ في التخويف و ليهيئ نفوسهم لقبول الأوامر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 186

[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)

[19] ثم جاء الكلام لينقل قصة الحديبية لتكون بشارة للمؤمنين الذين شهدوا الحديبية، و تعريضا بالمتخلفين

لزيادة تحذيرهم عن التخلف ثانية فقال سبحانه لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كانت في الحديبية شجرة جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحتها، و أخذ البيعة من المسلمين الذين كانوا معه لمحاربة قريش، حين أشيع بأنهم قتلوا رسول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم، و هذه البيعة سميت ببيعة الرضوان، لقوله تعالى «لقد رضي اللّه» و المراد برضي زيادة الرضا، لأن اللّه كان راضيا عنهم قبل ذلك، أو رضاه ببيعتهم فَعَلِمَ اللّه بسبب بيعتهم ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإيمان و الإخلاص، و المراد رفع علمه سبحانه على المعلوم حين وجد المعلوم في الخارج، فالمراد ظهر ما في قلوبهم، و هذا الظهور كان معلوما للّه تعالى، و على هذا «فالفاء» في فعلم، للترتيب الكلامي لا الترتيب الخارجي فَأَنْزَلَ اللّه جزاء لبيعتهم السَّكِينَةَ سكون النفس عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ و أعطاهم ثوابا لذلك فَتْحاً قَرِيباً هو فتحهم لخيبر بعد انصرافهم من الحديبية.

[20] وَ أثابهم مَغانِمَ غنائم كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من خيبر وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا على أمره حَكِيماً يفعل الأشياء حسب المصلحة و الحكمة، فحركة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الحديبية، أفادت طغى القبائل في أهل مكة حيث منعوا عن الحرم، كما فتحت الطريق أمام فتح مكة حيث أن نقض المشركين للعهد أعطى الزمام بيد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليهاجم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 187

[سورة الفتح (48): الآيات 20 الى 21]

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها

قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21)

مكة دفاعا، و كذلك كرس- منعهم عن الحج- نفوسهم إلى التصميم على فتح خيبر.

[21] وَعَدَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هي المغانم التي حصل و يحصل عليها المسلمون منذ الحديبية إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ مغانم خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر فلم يقدروا على محاربتكم، إذ أنهم ذهلوا و سقط في أيديهم فلم يحاربوا بقدر قواهم الواقعية وَ لِتَكُونَ هذه الغنائم، و كف أيدي الناس آيَةً علامة لِلْمُؤْمِنِينَ فظهر صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أخبرهم قبل خيبر أنهم سيغلبون و يغنمون غنائم كثيرة، و الظاهر أن «لتكون» عطف على مقدر يفهم من الكلام السابق فكأنه قال «عجل الغنيمة و كف الأعداء» لتنتفعوا ماديا، و لتكون آية لتنتفعوا معنويا وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً عطف على «لتكون» إذ المعونة المادية و المعنوية تزيد الإنسان صلابة للاستقامة في الطريق، فقد تقدم أن كل خطوة في الحياة، إما مستقيمة أو منحرفة.

[22] وَ أُخْرى عطف على «هذه» أي عجل لكم غنائم خيبر و ادخر لكم غنائم أخرى هي غنائم هوازن لَمْ تَقْدِرُوا بعد عَلَيْها لأنه لم تقع حرب هوازن بعد قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي استولى عليها بالعلم و القدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 188

[سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 23]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)

مثل الدائرة المحيطة بالشي ء حيث لا يقدر ذلك الشي ء التخلص من تلك الدائرة وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ

شَيْ ءٍ قَدِيراً فسيرشدكم على كيفية التسلط على تلك الغنائم، و هذا إما إخبار بالغيب أو أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعرفه بتجسس تجمع المشركين للقضاء على المسلمين، فإن للحرب أرصادا في الغالب.

[23] إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صالح في الحديبية، و حارب مع أهل خيبر، و قد اجتمع لمناصرة خيبر حلفاؤهم، لكنهم لما رأوا قوة الرسول انهزموا وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من حلفاء خيبر لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ و انهزموا و انكسروا في القتال، و ذلك لوضوح أنه لو انهزمت القوة الأقوى لانهزمت القوة الأضعف ثُمَّ لا يَجِدُونَ أولئك الحلفاء وَلِيًّا يلي أمورهم بالتوسط إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إعطائهم المعلومات و نحوها كما يفعل أولياء كل جماعة بهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم في حربهم مع الرسول.

[24] هذه هي سُنَّةَ اللَّهِ طريقته حيث ينصر أوليائه على أعدائه، و يعطي الأولياء غنائم الأعداء الَّتِي قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلُ في سائر الأنبياء عليهم السّلام، و إن قلت فكيف كان يقتل الكفار الأنبياء، قلت كانوا يتسلطون عليهم حيث لا يكون للنبي جماعة مدافعة، أما إذا كانت فسنة اللّه نصرة الأنبياء، لا يقال إذا لا فرق بين الأنبياء عليهم السّلام و بين غيرهم، لأنه يقال الفرق إن الأنبياء ينتصرون و لو بدون مكافئة القوى بخلاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 189

[سورة الفتح (48): الآيات 24 الى 25]

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ

وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)

غير الأنبياء عليهم السّلام. إن قلت و كذلك بعض الأمم الضعيفة تغلب على الأمم القوية قلت: إذا أخذت الغلبة بالمعنى المادي أي تبديل أناس في الحكم بأناس آخرين فقط بدون تغيير النظام فهي موجودة في أي فئة قليلة مصممة تغلب فئة كثيرة غير مصممة، أما إذا أخذت بالمعنى المادي و المعنوي فتلك خاصة بأهل اللّه تعالى وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا إذ إن قوانين اللّه في الحياة لا تتغير، فهي جارية إلى زوال الحياة عن الأرض.

[25] ثم بين سبحانه فلسفة الصلح في الحديبية، و لتوضيح أن النصرة كانت هناك للمؤمنين- حسب سنة اللّه- و إنما يقاتل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا لخوف الانهزام بل لمصلحة أخرى وَ هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي كَفَ منع أَيْدِيَهُمْ أيدي الكفار عَنْكُمْ فلم يتجرءوا على قتالكم وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ فقبلتم الصلح و تركتم الحرب بِبَطْنِ مَكَّةَ مركز العداوة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم تقع الحرب في بطن مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فبعد أن كانوا يغزونكم في المدينة طلبوا منكم الصلح في الحديبية و هذا ظفر معنوي وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً حيث أطعتم الرسول بعدم الحرب، مع أن رأيكم كان الحرب، و كنتم ترون عدم الحرب انهزاما.

[26] و قد كان أهل مكة مستحقين للحرب لأنهم هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 190

و رسوله وَ صَدُّوكُمْ منعوكم عَنِ زيارة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حيث كان المسلمون

يريدون العمرة وَ منعوا عن الْهَدْيَ الإبل التي ساقها المسلمون لعمرتهم مَعْكُوفاً من عكف إذا حبس لأن الإبل كان محبوسا على الهدي لينحر بعد قضاء العمرة، فقد منع المشركون أَنْ يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ المكان الذي ينحر فيه بمكة، و بهذا قد استحقوا القتال مرة لكفرهم، و مرة لصدهم عن المسجد، و مرة لمنعهم الهدي، و مع ذلك فقد كف اللّه تعالى أيديكم عنهم وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ في مكة مختلطين بالكفار لَمْ تَعْلَمُوهُمْ بأشخاصهم، لتتجنبوا قتالهم عند قتالكم مع المشركين أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من «رجال مؤمنون ...» أي لو لا خوف سحقكم «و وطئكم» في حالة حرب المشركين، لرجال و نساء مسلمين فإذا وطأتموهم تصيبكم مِنْهُمْ من جهة أولئك المسحوقين مَعَرَّةٌ أي مكروه إذ يحزن المسلم أن يقتل المسلم، إذا وقع القتل اشتباها، بالإضافة إلى تعيير المشركين للمسلمين بأنهم قتلوا حتى إخوانهم في الدين، إلى غير ذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم المسلم من غير المسلم، فقوله «لم تعلموهم» لبيان أنهم لا يعرفون أولئك المسلمين، و قوله «بغير علم» لبيان أن سحقهم بغير علم، فلا تكرار، و جواب «لو لا» محذوف لدلالة الكلام عليه، أي لو لا خوف سحقكم للمؤمنين المجهولين، لما كف اللّه أيديكم عن المشركين، و إنما كنا نجيز لكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 191

[سورة الفتح (48): آية 26]

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26)

في حرب أهل مكة لو لا خوف سحق المؤمنين لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من الذين

يحاربون، فظاهر «ليدخل» أنه تعليل للجواب المحذوف، ففي الآية معلولان «الحرب» و «الكف» و علتان «الإدخال في الرحمة للأول» و «خوف السحق للثاني» لكن لما كان الثاني أهم، رجحه سبحانه على الأول، ثم أكد سبحانه أن الكف عن الحرب كان لخوف سحق المؤمنين بقوله لَوْ تَزَيَّلُوا تفرقوا و تميز المسلم عن الكافر- في أهل مكة- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من أهل مكة- في قبال الذين آمنوا منهم- عَذاباً أَلِيماً مؤلما، بالقتل و الأسر و غنيمة الأموال.

[27] و قد كان كف اللّه أيديكم عنهم و حتى لا تقع الحرب إِذْ في زمان جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ أي الكبر و الأنفة حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فإن «الحمية» مشتقة الحمى، و قد تستعمل لحمية الخير، و قد تستعمل لحمية الشر، و لذا بينه سبحانه، بأنها كانت حمية الجاهلية، إذ الجاهل يحمي عن الباطل، و ذلك لأنه بعد أن تقرر الصلح بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين رسول المشركين

«في الحديبية» قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه أهل مكة ... فقال سهيل بن عمر «رسول المشركين» بل اكتب «باسمك اللهم»- و ذلك لأنهم كانوا يكرهون اسم الرحمن لجهلهم- و لا تكتب رسول اللّه، لأنا لو عرفناه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 192

[سورة الفتح (48): آية 27]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27)

رسولا ما حاربناه ... فأمر الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام أن يكتب كما قال سهيل، و لو لا مسامحة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاشتعلت نار الحرب

«1» فقد جعل رسول المشركين في قلبه حمية الجاهلية لكن فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ سكونه عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلم يصروا على كيفية كتابة كتاب الصلح وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى فجنحوا إلى الخوف من اللّه في أن لا ينساقوا وراء الكبر فتقع الحرب، و يسحق المؤمنون المجهولون الذين كانوا بمكة، و «السكينة» هي حلم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون، في حال قدرتهم على الحرب و المراد بالكلمة «الشعار» فإن المؤمنين جعلوا شعارهم التقوى، فكلما وقعت مشكلة، التفوا حول هذا الشعار وَ كانُوا الرسول و المؤمنون أَحَقَّ بِها من المشركين، لأن المؤمن أحق بتجنيب المزالق من غير المؤمن وَ كانوا أَهْلَها أهل التقوى، من قبيل قولنا: أهل الرجل أحق باتباع الرجل وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً يعلم ما يفعله المؤمنون من جهة تقواهم، فيثيبهم عليه، كما يعلم ما يفعله الكفار من جهة حميتهم فيعاقبهم عليه.

[28] كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل خروجه إلى الحديبية رأى في المنام أنه و المؤمنين معه دخلوا المسجد الحرام، فنقل رؤياه للمؤمنين، و لما

______________________________

(1) راجع وقعة صفين: ص 509.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 193

قبل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلح في الحديبية و لم يدخل المسجد الحرام، تساءل المؤمنون عن مدى صحة الرؤيا، و هل كانت أضغاث أحلام؟ و إذا كانت صادقة فلما ذا لم تتحقق؟ و أجاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الرؤيا صحيحة

و أنهم يدخلون المسجد، و لكن ما ظنه المسلمون من أن تحقق الرؤيا يكون في هذه السنة «سنة الحديبية» كان غير صحيح ف لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا فكان ما أراه اللّه في المنام صدق بِالْحَقِ الصدق هو مطابقة الخبر للواقع، و الحق هو مطابقة الواقع للخبر، و قد يجتمعان للتأكيد، أو المراد أن ما أراه تعالى له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان صدقا «يقع في المستقبل» متلبسا «بالحق» أي بالغرض الصحيح و الحكمة البالغة، فأنتم أيها المؤمنون لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ مؤكدا «باللام» و «نون الثقيلة» إِنْ شاءَ اللَّهُ إن شاء اللّه إما كلمة تبرك، فليس لها معنى الشرط، أو هي مثل لفظ «لعل» الذي يستعمله القرآن الحكيم المراد به أن الكلام محل «لعل» أو محل «إن شاء اللّه» و إن كان سبحانه لا يرجو شيئا و لا شك له حتى يعلق على المشيئة، فهو كاستعمال الأمر بقصد التهديد أو ما أشبه، و كذلك في كل إنشاء و إخبار، قد يستعملان بقصد آخر، في حال كونهم آمِنِينَ عن محاربة الكفار لكم، و في حال كونكم مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ من أظفاركم و غيرهما، و الظاهر أن المراد أن قسما محلق و قسما مقصر لا تَخافُونَ بعد ذلك، فالآمن حين الدخول، و عدم الخوف بعد ذلك فلمجرد الترتيب في الكلام علم اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 194

[سورة الفتح (48): آية 28]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)

ما لَمْ تَعْلَمُوا من كون المصلحة تأخير دخول المسجد الحرام، و قد تقدم أن المصلحة ظهرت بعد ذلك فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ من قبل دخولكم

المسجد الحرام فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، و بذلك قوي الإسلام و اطمأن المسلمون بالنصر و الغنائم، إلى أن تيسر وقت فتح مكة، تصديقا لرؤيا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[29] و كيف زعم بعض المسلمين في الحديبية أنهم انهزموا، حتى قال قائلهم ما شككت في نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل شكي يوم الحديبية و الحال أن اللّه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يصحبه الهدى، لهداية الناس إلى الحياة السعيدة في الدنيا و الآخرة وَ دِينِ الْحَقِ الدين هي الطريقة، و الحق هو الواقع «لأن لكل شي ء واقعا صحيحا» فالدين الحق هو الطريقة، و الهدى عبارة عن الهداية إليه، كما يقال هديته إلى الطريق، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء بأن يهدي الناس، و كأن معه خريطة دين الحق، و إنما أرسله اللّه سبحانه لِيُظْهِرَهُ ليغلبه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كل الأديان، سواء كانت سماوية منسوخة أو غير سماوية وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فاللّه يشهد بأنه رسوله و أن ما أتى به هو الدين الحق، و شهادته سبحانه عبارة عن جعله تعالى الفطرة البشرية موافقة له، و جعل الحجة له، أو المراد جعل المعجزة المصدقة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معه، ثم إنه كما يحق لمخترع الطائرة أن يقول ستعم الطائرة كل البلاد، و سينسخ السفر بالدواب «لأنه يعلم ذلك بالمقايسة بين المركوبين، و بفهم طبيعة البشر المائلة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 195

[سورة الفتح (48): آية 29]

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ

مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)

الراحة» كذلك ظهور الإسلام على الأديان كلها، شي ء موافق للمنطق، بعد فهم طبيعة الإنسان المائلة إلى الأخذ بالمنهج الصحيح، و فهم طبيعة الإسلام و مقايسة بسائر الأديان ليظهر أنه الألأم بطبيعة الإنسان.

[30] و إذ تقدم الكلام عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عن المؤمنين به و عن المنافقين ذكر اللّه تعالى صفاتهم الظاهرة ليعرف بها المؤمن عن المنافق مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ظاهر الآية أنه مبتدأ و خبر وَ الَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ لأن الكافر مبدأه فاسد مفسد فإذا لم يؤخذ بالشدة لإيقافه عند حده فسد و أفسد، لكن المراد بالشدة الشدة العقلائية «كما هو المتبادر منه» لا الشدة بمعنى القساوة و الإفراط رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يرحم بعضهم بعضا، فإن أرواحهم تتلاقى بالإيمان، مما يوجب رحم بعضهم بعضا تَراهُمْ أيها الرائي رُكَّعاً سُجَّداً لكثرة صلاتهم يَبْتَغُونَ أي يلتمسون بكثرة الصلاة فَضْلًا و زيادة مِنَ اللَّهِ ثوابا وَ رِضْواناً يطلبون مرضاته فهؤلاء سِيماهُمْ علامة إيمانهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ كالسمة التي تحدث في جباههم من كثرة سجودهم، فهذه ثلاث صفات لهم، صفة مع الأعداء، و صفة مع المؤمنين، و صفة مع اللّه ذلِكَ الوصف الذي ذكر لهم مَثَلُهُمْ أي وصفهم فِي التَّوْراةِ المنزلة على موسى عليه السّلام وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ المنزلة على عيسى عليه السّلام فقد وصف المؤمنون في الكتابين، بالأوصاف الثلاثة المتقدمة، ثم بين سبحانه حالة نموهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 196

و تكاثرهم، من جراء تلك الأوصاف الثلاثة السابقة، فهم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه فَآزَرَهُ فقواه، أي قوى الزرع فراخه، إذ الفراخ يقوي قليلا قليلا فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزرع أي صار من الدقة إلى الغلظة فَاسْتَوى و استقام ذلك الزرع بعد الغلظة عَلى سُوقِهِ جمع ساق، فإنه كان في بدو أمره، بدون فراخ، و بدون غلظة الساق، و بدون الاستقامة، فإذا هبت به ريح أمالته و ربما قلعته يُعْجِبُ ذلك الزرع الزُّرَّاعَ من منظره و فراخه و غلظته و قوته و كذلك بدأ المؤمنون قليلين، ثم أفرخوا فألحقوا بأنفسهم أناسا آخرين، فهم كالفراخ بالنسبة إلى المؤمنين الأولين، و بذلك حصل مؤازرة السابقين للاحقين، و بذلك صار الأولون أقوياء كأنهم استغلظوا، لأن من وجد الأعوان يقوى، و حينذاك قاموا بأنفسهم أشداء، لا تخوفهم رياح الكفر، و لا يمثل بهم أعاصير الباطل لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ اللام للعاقبة، مثل فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا، أي كان عاقبة كونهم كالزرع الكذائي غيظ الكفار، و لعل الإتيان بهذه الصفة «غيظ الكافرين» لأجل بيان أنهم لغيظهم يكيدون للمؤمنين، مما يعطي المؤمنين تبرير قتالهم و استئصال شأفتهم، و بذلك «يظهره على الدين كله» وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ إشارة إلى أن كل هذه الكثرة التي التفت حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مما هم كالزرع، ليسوا من أصحاب الجنة بل المؤمنون منهم فقط كذلك مَغْفِرَةً غفرانا لذنوبهم وَ أَجْراً عَظِيماً في الآخرة، فدنيا المؤمنين كزرع كذا، و آخرتهم غفران و أجر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 197

49 سورة الحجرات مدنية/ آياتها (19)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجرات» و هي كباقي السور المدنية مشتملة على قضايا

الشريعة. و لما ختمت سورة الفتح بصفة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين معه ابتدأت هذه السورة ببعض وظائف المؤمنين اتجاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين في أمورنا كلها باللّه، ليكون اللّه عونا لنا و ليكون اسمه شعارنا، و لنوحي إلى أنفسنا أن نلتف حوله سبحانه، لينقذنا من مشاكلنا، و ليمنح لنا ما نحتاجه في ديننا و دنيانا و آخرتنا، فهو الرحمن الرحيم في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 198

[سورة الحجرات (49): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا أي لا تتقدموا، كما يقال مقدمة الجيش لمن تقدم منهم و لعل المجي ء من باب التفعيل، من باب أن النفس تقدم الإنسان، و لذا يأتي أحيانا بصيغة المجهول- في مثل هذه الأفعال- قال تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «1» لأن نفسهم أجبرتهم على أ لسجود بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ كناية عن عدم سبق الإنسان بأن يحكم بحكم قبل أن يكون اللّه أنزله و قبل أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيّنه، و إلا فليس للّه سبحانه يد، و إنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و لا يبعد أن يكون لفظ «لا تقدموا» يشمل حتى في تقدم المشي أمام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوا منه فلا تخالفوا أوامره و نواهيه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأعمالكم، و

عن تفسير القمي أن وفد بني تميم إذا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقفوا على باب حجرته فنادوا يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخرج إلينا و كانوا إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تقدموه في المشي و كانوا إذا كلموه رفعوا أصواتهم فوق صوته، يقولون يا محمد ما تقول في كذا؟ كما يكلم بعضهم بعضا فأنزل هذه الآيات

«2».

[3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ فلا تكن

______________________________

(1) الشعراء: 47.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 318.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 199

[سورة الحجرات (49): آية 3]

إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

درجة رفع صوتكم أكثر من درجة رفع النبي صوته، مثلا يصل صوت النبي إلى ذراع و يصل صوتكم إلى ذراعين بل اللازم أن يكون صوتكم أخفض من صوته أو مساويا له وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كأنه جي ء ب «له» لبيان أن إجهارهم كان لأجله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يسمع كلامهم- بزعمهم- بِالْقَوْلِ عند التكلم كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ عند ما يكلم بعضكم بعضا فإذا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساكتا فأردتم أن تكلموه تكلموا بأدب و خضوع و خفض صوت، لا كما يكلم بعضكم بعضا من الجهر و رفع الصوت الخارجين عن أدب التكلم مع الكبار، و إنما لا

تفعلوا ذلك ل أَنْ لا تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فإن سوء الأدب مع الرسول يوجب حبط العمل وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.

[4] إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها و لا يرفعونها، بقدر صوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا أكثر من صوته، سواء كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال التكلم، أو كان ساكتا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ سواء تكلموا معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو مع إنسان آخر من الذين عنده أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى جرّبها لها و مرّنها عليها، أي ظهرت تقوى قلوبهم لأن أعمال الجوارح تابعة للقلب لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران لذنوبهم لتأدبهم بهذا الأدب الرفيع عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب جزيل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 248

[سورة الحجرات (49): الآيات 4 الى 5]

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

فلهم جزاءان محو الذنب و رفع الدرجة.

[5] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ يا رسول اللّه مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خلف حجراته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان لكل امرأة له حجرة خاصة بها أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب فلا ينادي الشخص الإنسان الكبير من وراء الحجرة، بل إما أن يدق الباب دقا خفيفا، أو أن يشير بكلام يدل على أنه حضر لحاجة، أو أن يصبر حتى يخرج الإنسان الرفيع بنفسه و إنما قال «أكثرهم» مع أن كل من فعل ذلك لا يعقل، تأدبا، حتى يمكن أن يزعم

أن من فعل ذلك أنه ليس داخلا في «أكثرهم» فلا يتأذى، و هذا باب من أبواب البلاغة، حيث يفهم المتكلم، من فعل السيئ، قبح فعله، مع تجنب أن يؤذيه.

[6] وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال و النداء وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن تأدب بعد ذلك و سمع الأمر رَحِيمٌ يعطي للمتأدب الأجر و الثواب، و هذه الآيات لم ينته فحواها، بل الأدب يقتضي كل ذلك مع الكبار، فإن كل آيات القرآن تنفع الإنسان عبرة أو حكما، حتى آية النجوى التي نسخت في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفادت طبيعة الإنسان و أنها بخيلة لا تصرف المال و إن فاته الخير بسبب صرف المال، حتى يعلم الإنسان أن اللازم عليه محاربة شحه، إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها ابتداء أنها خاصة، ثم إن الجهر عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإنسان الرفيع الشأن لا يكون مذموما إذا كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 201

[سورة الحجرات (49): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)

بأمره، كما إذا أمر بالمناداة، و هكذا إذا أمر بنحو المناداة كما

ورد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمرهم برفع أصواتهم في تلبية الحج، حين أمره جبرائيل عليه السّلام «بالعج و الثج» أي رفع الصوت، و ذبح الهدى

«1».

[7] و حيث ذكر سبحانه أدب المؤمنين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر تكليف بعضهم اتجاه بعض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ بخبر فَتَبَيَّنُوا فتعرفوا و تفحصوا

هل صدق في خبره أم لا، فإن ظهر أنه كان صادقا رتبوا الأثر عليه و إلا فاتركوا خبره، و إنما أمرنا بالتبيّن ل إِنْ لا تُصِيبُوا قَوْماً بمكروه من جراء خبر ذلك الفاسق بِجَهالَةٍ بجهل منكم بالواقع، اعتمادا على خبر ذلك الفاسق فَتُصْبِحُوا تكونوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الأخذ بخبر ذلك الفاسق و ترتيب الأثر عليه نادِمِينَ

فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث وليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق و كان بينه و بينهم عداوة، فلما سمعوا بمجيئه استقبلوه، فظن أنهم يريدون قتاله، و لم يتحقق في الأمر، و إنما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال إنهم ارتدوا و منعوا الزكاة، فأظهر الرسول الاهتمام بقتالهم، فنزلت الآية الكريمة

، هكذا في بعض الروايات غير النقية السند، و في بعض الروايات الأخر، أنها نزلت في بعض أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين اتهمت ماريا بالزنى، و الظاهر أنه لا منافاة بين الأمرين، لأن الآية عامة تشمل كل ما كان كذلك، فهما مصداقان، و يمكن نزولها مرتين، كما في بعض الآيات حيث نزلت مرتين، حالها

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 12 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 202

[سورة الحجرات (49): آية 7]

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)

حال ما إذا رأيت إنسانا يظلم فتقول له «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...» و إذا رأيت آخر يظلم، تقرأ له نفس الآية، ثم لا يقال كيف أرسل الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاسق لجمع الصدقات؟ ثم كيف همّ بقتالهم مع أن العقلاء لا يعتمدوا على خبر الفاسق، و الجواب أن فسقه لم يكن ظاهرا قبل ذلك، بل أظهره القرآن، و الرسول أظهر إرادة القتال، لا إنه أراد أن يقاتل واقعا و كثيرا ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يظهر شيئا لمصلحة، و إن كان لا يريده واقعا، و قد كان إظهار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن بعض الصحابة أشار إليه بحرب بني المصطلق كما ورد في التفاسير «1».

[8] و لذا قال سبحانه وَ اعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فلا تسيئوا الأدب معه، بالكذب عليه، كما كذب الوليد، و لا تشيروا عليه بما تشتهون، كما أشرتم إليه بحرب بني المصطلق، فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ من الأمور التي تشيرون عليه بها، ف «الأمر» اسم جنس لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت، لأن كل أحد يأتي إليه، و يقول له ما يرى هو من نظرته الخاصة، بينما الرسول لا يعمل إلا بما يصلح العموم، كما هو شأن الكبراء حيث يلاحظون المصلحة العامة، و إلا فهذا يقول ضد ذلك، و ذلك يقول ضد هذا، و كل يريد تنفيذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يشير به إليه، و من المعلوم أن ذلك يوجب مشقة المسلمين، لأن معنى سماع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلامهم، أن يطرد هذا و يعاقب هذا، و هلم جرا، ثم بين سبحانه، أن ترك إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) راجع مجمع

البيان: ج 9 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 203

[سورة الحجرات (49): آية 8]

فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

للمؤمنين الذين يشيرون إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بآرائهم، لا يسبب لأولئك المؤمنين كراهية للإيمان أو للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن العادة عند الناس أن كبراءهم إذا لم يقضوا حوائجهم كرهوهم، بل أحيانا صاروا ضد أولئك الكبراء، لكن المؤمنين ليسوا كذلك، فليس التفافكم أيها المؤمنون حول الرسول، لإطاعته لكم و لأخذه بأقوالكم وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ و صرتم تحبون الإيمان حتى صرتم تحبون الرسول، و إن لم يأخذ بنصائحكم و إرشاداتكم وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ قد يكون الشي ء محبوبا لكنه غير مزين، كولد الإنسان القبيح المنظر، و قد يكون محبوبا و جميلا، كولده الجميل، و هكذا الإيمان محبوب و جميل، و ذلك حيث خلق اللّه فطرة الإنسان، بحيث يحب المحبوب و يرى جمال الجميل، و لذا نسب الفعلين «حبب ... و زين» إلى نفسه تعالى وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ جعله مكروها وَ الْفُسُوقَ أي الكذب، و قرينة «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ» و أصل الفسوق الخروج، و يسمى الفاسق فاسقا لخروجه عن الطاعة وَ الْعِصْيانَ كل معصية و أُولئِكَ الذين يحبون الإيمان و يكرهون الكفر و العصيان هُمُ الرَّاشِدُونَ لهم رشد عقلي، حيث يحبون الجميل، و يكرهون القبيح.

[9] حبب اللّه إليهم الإيمان، و كره إليهم الكفر و العصيان فَضْلًا مِنَ اللَّهِ زيادة على أصل خلقتهم و إعطائهم النعم المادية، و إنما تفضل اللّه ذلك عليهم، دون الكافرين و العصاة، لأنهم تهيئوا لاستماع كلام اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 204

[سورة الحجرات (49): آية 9]

وَ

إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)

و سلكوا طريق العقل و الفكر وَ نِعْمَةً الإعطاء فضل، و المعطي- بصيغة المفعول- نعمة، تسبب أن ينعم بال الإنسان وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الملتفين حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا جعل بعضهم بحيث حبب إليهم الإيمان و كره إليهم الكفر و العصيان حَكِيمٌ يضع الأشياء موضعها و يعطي كل ذي حق حقه.

[10] و حيث كان الانسياق وراء قول الوليد يوجب اقتتال المؤمنين، بعضهم مع بعض، لكن اللّه عصم رسوله، فلم تقع مثل هذه الحرب، كأن الكلام محل سؤال أنه إذا وقعت مثل هذه الحرب فما ذا هو التكليف؟

و قد أجاب القرآن عن ذلك بقوله وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الجمع باعتبار المعنى، فإن كل طائفة تتكون من جماعة من الأفراد فَأَصْلِحُوا أيها المسلمون الخارجون عن المعركة بَيْنَهُما بالنصيحة و الدعوة إلى الكف عن القتال و التصالح فيما بينهما فَإِنْ لم تقبل إحداهما النصح بل بَغَتْ من البغي بمعنى الظلم و التعدي إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى و هذا هو الغالب أن تكون إحداهما باغية ظالمة، فإن قوله «فإن بغت» ليس المراد به أنه ليس من أول النزاع باطل و حق، إذ لا يعقل حقان متقاتلان، بل الجاهل منهما ببطلانه، يظهر له جهله في الأثناء، و يعلم أنه باغ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ بالكف عن القتال و الرجوع إلى الوحدة الإسلامية فَإِنْ فاءَتْ و تركت القتال و استعدت لأن تقبل حكم

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 205

[سورة الحجرات (49): الآيات 10 الى 11]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

الإسلام في العداء الذي وقع بينها و بين الطائفة الأخرى فَأَصْلِحُوا أيها المؤمنون الخارجون عن المعركة بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ فإن الإصلاح يمكن أن يكون بالجور، بأن تقبل الطائفة الأضعف بما يوجب هضم بعض حقها وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ الذين يحكمون بالقسط و قد ورد في بعض التفاسير أن الآية نزلت في قتال حدث بين الأوس و الخزرج بالسعف و النعال، و كان ذلك في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأصلح بين الجانبين «1»، و لا يخفى أن ما ورد في تأويل الآية بقتال الإمام في البصرة، لا يدل على إيمان من حاربه، إلا بالمعنى العام للإيمان، إذ كثير ما يطلق الإيمان على الظاهري منه.

[11] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الإيمان فكما أن الأخ النسبي يحنو على أخيه كذلك المؤمن يحنو على المؤمن فَأَصْلِحُوا أيها المؤمنون بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا حدث بينهما شقاق و شجار وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوه فلا تنازعوا، و إن تنازع اثنان منكم فلا تتركوهما أعداء بل أصلحوا بينهما لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فإن المتقي لا يعلم هل يموت على التقوى و هل يبقى على التقوى في مستقبل عمره، فكونه مرحوما ليس مقطوعا به، بل لعله يرحم.

[12] و إذ كان المؤمنون إخوة، فاللازم عليهم أن لا

يفعل البعض ما يسي ء

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 206

إلى البعض الآخر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ رجال من رجال عَسى أَنْ يَكُونُوا أولئك الذين سخر منهم خَيْراً مِنْهُمْ من الساخرين، و عسى بمعنى لعل، و هذه العلة لتأكيد النهي، و إلا فالسخرية محرمة عقلا و شرعا، حتى بالنسبة إلى المساوي و الأدون وَ لا تسخر نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى لعل أَنْ يَكُنَ تلك المسخر منهن خَيْراً مِنْهُنَ من الساخرات و

في الصافي عن القمي أنها نزلت في عائشة و حفصة حيث كانتا تسخران من صفية و تقولان لها يا بنت اليهودية فشكتهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لها صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولي لهما أبي هارون نبي اللّه و عمي موسى كليم اللّه و زوجي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسول اللّه، و لما قالت لهما ذلك، قالتا: علمك هذا رسول اللّه

«1» وَ لا تَلْمِزُوا لا تعيبوا باللسان أو بالإشارة أَنْفُسَكُمْ لأن عيب الآخرين، من المؤمنين عيب على النفس، لأن المؤمنين وحدة واحدة، كما قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2» وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز باب المفاعلة من النبز بمعنى أن يجعل كل واحد منهما للآخر لقبا سيئا، و النبز حرام، و إنما جاء بلفظ التنابز للدلالة على أن النبز لا بد و أن ينتهي إلى المنابزة بِئْسَ الِاسْمُ أي العلامة لأنه مشتق من الوسم الْفُسُوقُ الخروج عن طاعة اللّه، بأن كانت علامة المؤمن الفسوق

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 321.

(2) النساء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 207

[سورة الحجرات

(49): آية 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

بَعْدَ الْإِيمانِ بعد أن آمن و صار شعاره و اسمه «المؤمن» ثم يصبح شعاره و اسمه «الفاسق» لأنه فعل ما نهى اللّه عنه وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عن ما ارتكبه من المعصية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث أنهم عصوا ثم لم يتوبوا، أما من تاب بعد عصيانه فلا يستحق أن يسمى ظالما.

[13] و بعد أن نهى المسلمون من التقاتل، نهوا عن الاستهزاء و اللمز و النبز، و من الواضح أن كل مرتبة متأخرة أنزل من المرتبة السابقة، و لذا جاء السياق لينهي عن الأنزال من تلك أيضا و هو سوء الظن، فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ أي الظن السيئ و إنما قال كثيرا لأنه لا بد و أن يوجد في الكثير من الظن السيئ الظن المحرم، بخلاف قليل الظن فإنه بما لا يكون فيه المحرم، بالإضافة إلى أن قليل الظن ليس تحت اختيار الإنسان فإنه حالة نفسية قد تأتي بدون الاختيار فلا يمكن النهي عنه، أما كثير الظن فإنه تحت الاختيار إذ الكثرة لا تحصل إلا بالتتبع و الانسياق وراء الإنكار، و إنما نقول اجتنبوا كثيرا من الظن ل إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ و قد قرر في علم أصول الفقه وجوب الاجتناب من أطراف الشبهة المحصورة فإذا كان بعض الظن إثما وجب الاجتناب من الأطراف المحتملة لذلك، و الظن السيئ إما حرام بنفسه، و إما حرّم لأنه مقدمة للعمل المحرم، إذ الذي

يظن سوء غالبا ما يرتب الأثر العملي على ظنه السيئ وَ لا تَجَسَّسُوا لا تبحثوا عن عورات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 208

[سورة الحجرات (49): آية 13]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

المسلمين و أمورهم الخفية وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، و لو بالإشارة أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فالغيبة بمنزلة أكل لحم الأخ الميت في شدة قبحه و كراهته، و لعل التشبيه من باب أن للأخ ذاتا و ذكرا فكما أن قطع قطعة من لحمه و لوكها في الفم قبيح كذلك قطع قطعة من ذكره «عرضه» و لوكها في الفم كذلك، و قد جعل كونه غائبا مثل كونه ميتا في عدم شعور كليهما بما يصنع بلحمه و بذكره فَكَرِهْتُمُوهُ فكما كرهتم أكل لحمه أكرهوا أكل عرضه وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوه في عصيانه، و إذا اتقيتم اللّه و تبتم عما سلف منكم ف إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ كثير قبول التوبة رَحِيمٌ يرحم العباد فلا يعاقبهم بعد توبتهم.

[14] و حيث أن المعاصي السابقة الذكر تنشأ من رؤية الإنسان نفسه أرفع من غيره، بيّن سبحانه أن لا رفعة لأحد على أحد إلا بالتقوى، و إذا حصلت التقوى امتنع الإنسان عن تلك المعاصي يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى آدم و حواء عليهما السّلام أو أب و أم كل فرد، فلا تفاضل في أصل الخلقة وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً تجتمعون تحت عنوان واحد، كاللغة و المدنية و اللون و نحوها وَ قَبائِلَ تجتمعون في أب تتشعب القبيلة و

تنحدر منه، و هذان أيضا لا يوجبان التفاضل، و إنما جعلناكم شعوبا و قبائل لِتَعارَفُوا لأجل أن يتعرف بعضكم على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 209

[سورة الحجرات (49): آية 14]

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

بعض بسبب القبيلة، أو بسبب أنه من الشعب الفلاني إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أكثركم تقوى فمن أراد الرفعة عند اللّه فليجدّ في أن يكون أكثر تقوى من الآخرين، و كلما زاد الإنسان تقوى زاد كفاءة، منتهى الأمر أن الكفاءة عند أهل الدنيا، عبارة عن الكفاءات الدنيوية فقط، و عند اللّه هي الكفاءات الدنيوية بالإضافة إلى الكفاءات الأخروية، لأن الإسلام دنيا و آخرة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل أموركم خَبِيرٌ و الخبير فوق العليم، لأنه عبارة عن العلم و التجربة، فالذي تعلم الطب و لم يجرب لا يسمى خبيرا، بخلاف ما إذا جرب، و المراد به في اللّه سبحانه أنه في غاية العلم و الإدراك، فمن أطاعه علم ذلك و جزاه و من عصاه علم ذلك و أخزاه.

[15] و إذ تقدم شرائط الإيمان، بالانتهاء عن كل معاصي اللّه تعالى، حتى من مثل الظن الباطني، ذكر سبحانه أن الذي لم يشتمل على هذه الشرائط لا يحق له أن يقول آمنت قالَتِ الْأَعْرابُ هم أهل البادية- كما تقدم الكلام في ذلك- آمَنَّا بك يا رسول اللّه و بما جئت به قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا لعدم توفر شرائط الإيمان فيكم وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام هو الانقياد و الدخول في السلم و إظهار الشهادتين، و هذه كانت موجودة

في الأعراب وَ لَمَّا و بعد لم يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ لأنه إذا دخل القلب حصلت الطاعة بجميع أوامر الإسلام، و لا يخفى أنه قد يطلق الإيمان و يراد به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 210

[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16)

الإسلام، و قد يطلق على الأخص من الإسلام وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في كل أمر و نهي لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً بل يعطي أجوركم كاملة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسابق الذنوب رَحِيمٌ بعباده يتفضل عليهم زيادة على غفران ذنوبهم، و قوله «لا يلتكم» تشويق للأعراب أن يؤمنوا زيادة على إسلامهم.

[16] و إنما لم يدخل الإيمان في قلوب الأعراب بعد، لأن المؤمن الصادق هو الذي كانت له صفات خاصة مما لا تتوفر في هؤلاء الأعراب ف إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ إيمانا من عمق قلوبهم ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا في صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة اللّه و لإنقاذ المستضعفين من براثن المستنكرين، و كان الإنقاذ لأجل أمر اللّه أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في دعواهم الإيمان، و إنما قال سبحانه «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» لأن كثيرا ممن أسلموا كانوا يشكون حين ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأمرهم بأمر لا يلائم أذواقهم.

[17] و إذا كان لكم إيمان

صادق فاللّه يعلم ذلك، بدون أن تقولوا بأفواهكم آمنتم فلا حاجة إلى قولكم، بل اللازم واقع الإيمان قُلْ لهم يا رسول اللّه أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي تخبرونه بقولكم: آمنا؟ و هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 211

[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

استفهام إنكاري وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهل من يعلم كل شي ء يخفى عليه إيمانكم- إن كان لكم إيمان- حتى يحتاج إلى إخباركم بأنكم آمنتم؟ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و هذا أعم من «يعلم ...» لأن الأول يشمل الموجودات فقط، و هذا يشمل حتى غير الموجودات، قال بعض المفسرين روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا و حلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية «1».

[18] و إذا كان اللازم أن لا يتفوه الإنسان بأنه مؤمن، لأن اللّه لا يحتاج إلى ذلك بل هو عليم بكل شي ء، فمن اللازم المؤكد أن لا يمنّ الإنسان بإيمانه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه أَنْ أَسْلَمُوا فيعدون إسلامهم عليك منّة قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فأنتم الذين انتفعتم بإسلامكم، لا أنا بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ لأنه أكبر إعطاء من اللّه للإنسان حيث يبصر بسببه طريقه في الدنيا و يسعد به في الآخرة، و معنى المنة أنه أحسن إليه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، و إلا فعدم منة اللّه، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

[19] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب عن الحواس

فيهما

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 232.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 212

فكيف يخفى عليه إيمانكم؟ و كيف يخفى عليه صدقكم و كذبكم في الإيمان؟ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فهو يرى قلوبكم التي فيها الإيمان و التي ليس فيها الإيمان، و يرى أعمال جوارحكم التي تأتون بها حسب إيمانكم أو حسب عدم إيمانكم، فلا يخفى عليه سركم و لا علنكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 213

50 سورة (ق) مكية/ آياتها (46)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذا اللفظ: «ق» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة و لما ختمت سورة الحجرات بأحوال المنافقين و أشباههم، افتتحت هذه السورة بأحوال الكافرين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الذي من تمسك به كان من الناجين و من انحرف عنه بكفر أو نفاق كان من الهالكين «الرحمن الرحيم» الذي يرحم تفضلا في إيجاد الإنسان، ثم يرحم في إعطائه ما يحتاج إليه من الأمور المادية و المعنوية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 214

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)

[2] ق

ورد عن الصادق عليه السّلام أن «ق» هو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه و به يمسك اللّه الأرض أن تميد بأهلها

«1». أقول:

إن الأمواج المحيطة بالأرض مما يشملها الهواء، سميت بالجبل، لأنها مثله في الارتفاع و الشموخ، و من المعلوم أن تراكم الذرات في هذا الجو السيّال يسبب لونا خاصا، هو لون السماء، و لو لا هذا الغلاف الجوي لهلك الإنسان، لما تكون الأرض معرضا لتساقط الأحجار، ملايين الأحجار من الجو-

كما ثبت في العلم الحديث- و قد تقدم الكلام في فواتح السور و في إعرابها وَ الْقُرْآنِ قسما بالقرآن الْمَجِيدِ ذي المجد أي العظمة و الشرف، و جواب القسم محذوف أي قسما بالقرآن المجيد، أنه حق، بقرينة ما بعده- و هناك احتمالات أخر مذكورة في التفاسير.

[3] بَلْ عَجِبُوا الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ هو الرسول الذي ينذرهم من عاقبة كفرهم مِنْهُمْ من جنسهم لا من جنس الملائكة و الجن، و المراد بالمنذر هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَقالَ الْكافِرُونَ هذا كون النبي منذرا من قبل اللّه تعالى شَيْ ءٌ عَجِيبٌ هو الشي ء الذي لم يألفه الإنسان و لم يتوقعه.

[4] و حيث كان أنذرهم بالعاقبة السيئة بعد الموت قال الكفار- بصدد بيان تعجبهم- أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لأن الميت بعد زمان من موته يتحول إلى تراب، أ نرجع أحياء، كما يقول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و قد حذف جواب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 89 ص 373.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 215

[سورة ق (50): الآيات 4 الى 5]

قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

«إذا» لوضوحه ذلِكَ الذي يقوله محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من الرجوع أحياء رَجْعٌ بَعِيدٌ يبعد في نظرنا أن يكون له حقيقة.

[5] و لماذا بعيد هل لأنا لا نقدر على الإعادة؟ و جوابه: أن الذي يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة أو لأن أجزائه تنتشر في الأرض، و لا نتعرف أين سقطت تلك الأجزاء؟ و جوابه قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجسادهم إذا

ماتوا، فإذا علمنا ما تأكل الأرض من لحومهم و عظامهم و سائر أجزائهم، مع أن أكل الأرض شي ء لا يراه حتى من ينظر، فكيف لا نعرف أجزاءهم المبعثرة بعد تحولها إلى تراب وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يحفظ كل شي ء، و هو اللوح المحفوظ، و من المعلوم أنه سبحانه لا يحتاج إلى الكتاب، و إنما ذكر ذلك لتقريب أذهان الكفار، و في ذلك الكتاب يحفظ خصوصيات الإنسان الحي، و الأجزاء المبعثرة من الميت فإذا أريد بعث الميت أعيد بدون زيادة و لا نقيصة، بتلك الخصوصيات و المزايا التي كان له حال الحياة.

[6] بَلْ إنهم زادوا على التعجب، بأن كذبوا بالحق، فلم يقفوا على الشك و التردد، مع أنهم لا حجة لهم في هذا التكذيب لأنهم في أمر مضطرب فقد كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ و هو الرسول و القرآن، و ما جاء به الرسول من العقيدة و الشريعة، و تكذيبهم بدون دليل أفظع من تعجبهم السابق- و لذا قال سبحانه «بل» فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 216

[سورة ق (50): الآيات 6 الى 8]

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)

فتارة يقولون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعر، و تارة كاهن و تارة مسحور، و تارة ساحر، و تارة يعلمه بشر، و ذلك يدل على أنهم لا يستندون إلى حجة.

[7] أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا باللّه، و بقدرته على البعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ ألا يدل ذلك على الإله العليم

و القدير؟ و هل من علمه و قدرته إلى هذا الحد ألا يقدر على البعث؟ كَيْفَ بَنَيْناها؟ فإن نظام تسيير الكواكب الدقيق من أغرب البناءات وَ زَيَّنَّاها بالكواكب وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ فرجة خالية عن النظام، و الدليل على عدم الفرجة، أن الكواكب تسير بانتظام معين على طول الزمان، و لو كان مكان في السماء بدون نظام كان الكوكب إذا وصل إليه سبّب اضطرابه، و لكن هذا ما ليس بموجود.

[8] وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها، فهي مدورة لا مثل الإبرة و الهرم و ما أشبه مما ليس قابلا للسكنى وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل، أي الجبال الثابتة، و الإلقاء بمعنى الخلق من قبيل قولهم «ضيق فم الركية» فليس المراد الإلقاء بعد خلق الأرض، و لو لا الجبال لتفتت الأرض في دورانها السريع وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من كل صنف بَهِيجٍ يبتهج به الإنسان و يفرح عند النظر إليه، لحسنه و جماله.

[9] و إنما فعلنا كل ذلك تَبْصِرَةً ليتبصر به وَ ذِكْرى و ليتذكر به لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه عن غفلته مفكر في بدائع خلقه، و الفرق بين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 217

[سورة ق (50): الآيات 9 الى 11]

وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

التبصرة و التذكرة، أن الأولى لمن لا يعرف فيكون ما خلق سبب عرفانه، و الثانية لمن عرف و نسي فيكون ما خلق سبب تذكرته.

[10] وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً المطر مُبارَكاً كثير البركة، و البركة من «برك» بمعنى ثبت

و دام فإن ماء السماء دائم لأنه يختزن في فجاج الأرض فيكون عيونا و أنهارا، فينتفع به الإنسان طول حياته فَأَنْبَتْنا بِهِ بماء السماء جَنَّاتٍ بساتين للجمال و الانتفاع بمختلف الانتفاعات وَ حَبَّ الْحَصِيدِ حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد، كالحنطة و الشعير و غيرهما.

[11] وَ أنبتنا به النَّخْلَ باسِقاتٍ أي طوالا، و المراد بالنخل جنسه، و لذا جاءت صفته جمعا لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، و الطلع وعاء الثمر.

[12] أنبتناها رِزْقاً لِلْعِبادِ و الرزق يشمل الرؤية أيضا، لأن كل ما يعطيه اللّه للإنسان مما يتمتع بمنظره أو بشمه أو بأكله أو بلبسه أو غير ذلك، فهو رزق، و المراد بالعباد أعم من الإنسان و الحيوان، لأن كل ذي روح عبد للّه وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا ميتة لا زرع فيها و لا ما يتبع الزرع من الإنسان و الحيوان، و حياة الأرض تحركها و التحرك عليها، و سمى الأرض بلدة، مجازا بالمشارفة لأن الماء يجعل الأرض بلدا كَذلِكَ كما أخرجنا من السماء الماء و من الأرض النبات الْخُرُوجُ تخرجون أنتم من قبوركم عند بعثكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 218

[سورة ق (50): الآيات 12 الى 15]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

[13] و إن كذبك هؤلاء الكفار، يا رسول اللّه، فلا تغتم، فإنا سوف نجازي المكذبين كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِ الذين رسوا نبيهم

في الأرض و أقبروه حيّا، و كانت مدنهم بين إيران و روسيا، و كانوا على نهر يسمى إلى اليوم بنهر «أرس» و تفصيل القصة مذكورة في قصص الأنبياء و في التفاسير كتفسير الصافي في سورة الفرقان «1» وَ ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام.

[14] وَ عادٌ هم قوم هود عليه السّلام وَ قوم فِرْعَوْنُ فإنه قد يطلق اسم الكبير على كل قومه وَ إِخْوانُ لُوطٍ عليه السّلام و لعل التعبير بالإخوان لأجل التفنن البلاغي، كما أن الظاهر أنه لأجله، اختلف التعبير بقوم و أصحاب، و ذكر فرعون، إلى غير ذلك.

[15] وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة و هم قوم شعيب عليه السّلام وَ قَوْمُ تُبَّعٍ و حيث سبق تفاصيل قصص هؤلاء لم نكررها كُلٌ كل هؤلاء كَذَّبَ الرُّسُلَ المرسلة إليهم فَحَقَ فثبت و حل وَعِيدِ و عيدي عليهم بالعذاب، و في هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تهديد لهم.

[16] أَ فَعَيِينا هل عجزنا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي هل أصابنا العجز بعد أن خلقنا الخلق أولا، و في بعض التفاسير أ فعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ «2» لكن المتبادر من الآية ما ذكرناه بَلْ هُمْ لا ينكرون

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 4 ص 13.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 219

[سورة ق (50): الآيات 16 الى 17]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17)

أنا لم نعجز عن الخلق الأول و إنما ينكرون البعث لأنهم فِي لَبْسٍ و اشتباه و التباس مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فليس إنكارا للسابق و إنما

شكا بالنسبة إلى اللاحق، و يحتمل أن يراد ب «لبس» أي لباس، لأن خلايا الإنسان تتبدل كل آن فهم على طول الزمان في خلق جديد فمن يعرف كونه يبعث كل آن كيف ينكر البعث في الآخرة.

[17] إننا نعلم أن الإنسان ينساق وراء وساوس نفسه في البعث، مع أن اللازم أن ينساق وراء الدليل و البرهان وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فمنا البدء و منا الإعادة وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ من إنكار البعث و غيره وَ كيف لا نعلم وساوس نفسه و الحال أنا نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الوريدان هما العرقان المكتنفان بصفحتي العنق في مقدمه، و إضافة الحبل إليه للبيان، أي الحبل الذي هو وريد، و معنى قربه سبحانه قربه علما و اطلاعا، فإن اللّه لا مكان له، و لعل ذكر حبل الوريد، لأنه مربوط بالقلب و بالمخ فهو وسط بينهما، و لا أقرب منه إلى الإنسان، الذي إنسانيته بمخه و قلبه.

[18] نحن أقرب إِذْ في الزمان الذي يَتَلَقَّى يأخذ و يسجل الْمُتَلَقِّيانِ الملكان الموكلان بالإنسان لحفظ أعماله و أفكاره، فالمراد أنه غني عن الملكين لأنه أقرب إلى الإنسان منهما، إلا أنه تعالى حيث جعل الدنيا دار الأسباب، جعلها سببا لحفظ الأعمال، كما جعل عزرائيل سببا لقبض الأرواح عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 220

[سورة ق (50): الآيات 18 الى 20]

ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)

فإن أحدهما في طرف اليمين و الآخر في طرف الشمال، ملازم للإنسان كالقاعد إلى جنبه.

[19] ما يَلْفِظُ الإنسان مِنْ قَوْلٍ

و ذكر اللفظ من باب المثال، و إلا فكل عمل للإنسان بل و كل فكر له مراقب، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ يراقبه و يحفظه، و هو الملكان، و حيث أنه أراد جنس الرقيب لم يأت بصيغة التثنية عَتِيدٌ مهيأ حاضر لا يشتبه.

[20] وَ هكذا تستمر رقابة الملكين للإنسان إلى أن جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إليه فإن للموت سكرة تغطي عقله كالسكران بِالْحَقِ بالذي قاله الأنبياء من حقائق الآخرة، و التي كان ينكرها الكفار، فيرونها معاينة عند موتهم، و يقال لهم حينذاك و ذلِكَ المجي ء ما كُنْتَ أيها الإنسان مِنْهُ تَحِيدُ تفي ء، فالآن قد وصلت إليك حيث لا ينفعك الندم و التوبة.

[21] و بعد ذلك وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فكما أنه إذا أريد جمع الناس نفخوا في الأبواق إعلاما لهم حتى يجتمعوا كذلك إذا أراد جمع الخلائق و إحيائهم للبعث، و لعله سمي صورا لخروج صور الناس منه، كما ورد في الحديث، أن للصور ثقبا بعدد الخلائق، فتخرج النفوس منها عند البعث ذلِكَ اليوم يَوْمُ تحقق الْوَعِيدِ الذي وعدناه في الدنيا، فقد كنا وعدنا المؤمن بالثواب و الكافر بالعقاب، و في هذا اليوم يرون ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 221

[سورة ق (50): الآيات 21 الى 24]

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)

[22] وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ يسوقها إلى محشرها وَ شَهِيدٌ يشهد عليها بما عملت في الدنيا، و الظاهر أن المراد جنس الشهيد، فيشمل «المتلقيان» الذي سبق.

[23] و يقال له حينذاك لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ

فعدم الاستعداد الكامل لهذا اليوم جهلا أو عنادا غفلة مِنْ هذا اليوم فلم تستعد له فَكَشَفْنا الآن عَنْكَ غِطاءَكَ الذي كان مانعا عن رؤية الآخرة و الاعتقاد بها فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ إلى الآخرة يراها بعد أن كان عليه غطاء يمنع عن رؤيتها، و لا يبعد أن تكون الدنيا و الآخرة متداخلتين تداخل العطر و الماء في الورد لا يحس بالآخرة المنهمك في المحسوسات، و قد ذكرنا ذلك في كتاب «حول القرآن الحكيم».

[24] وَ قالَ حينذاك قَرِينُهُ الملك الشاهد عليه الذي كان قرينه في دار الدنيا و شاهدا على أعماله هذا دفتر عمله ما لَدَيَ مما سجلته عليه عَتِيدٌ مهيأ لا يحتاج إلى حساب جديد، مثل دفاتر التجار التي لا تحتاج إلى جمع الأرقام و الأجناس، بل مهيأ حاضر.

[25] ثم يخاطب السائق و الشهيد، من قبل اللّه تعالى و يمكن أن يكون المراد من «قرينه» الشيطان المقترن معه، يقول هذا الكافر الذي عندي مهيأ للنار، يقوله على سبيل الاستهزاء به و هذا المعنى أنسب إلى السياق في ما يأتي من حكم «قرينه» كما أن المعنى الأول أنسب إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 222

[سورة ق (50): الآيات 25 الى 26]

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)

ظاهر الآية مع الغض عما يأتي و اللّه العالم، أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ «إنما أتي بصيغة المبالغة» و لم يقل كافر، دلالة على أن كل كافر كفار، لأن استمراره في الكفر أوجب شدة كفره عَنِيدٍ معاند للحق، لأن غير المعاند الذي كفر عن جهل ليس مقامه جهنم، و في دعاء الكميل «أن تخلد فيها المعاندين» و إلا فلو كان

غير معاند يمتحن يوم القيامة، كما ورد في جملة من الروايات الواردة في من كان في الفترة بين الرسل و طفل الكافر و المجنون إلى غير ذلك.

[26] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كما هي صفة الكفار العنيد، يمنع عن إسلام أحد و عن أن يوصل أحد إلى المسلمين بخير، و الخير جنس شامل لكل خير مُعْتَدٍ متعدّ عن حدّه، و هي صفة ثانية ملازمة للكفار العنيد مُرِيبٍ كثير الريب و الشك و هذه صفة ثالثة له إذ المعاند دائما في ريب و وسواس، كما يظهر ذلك لمن راقب أحوال المعاندين، فإن كبرياء المعاند الذي يلازمه يجعله يشك دائما في أصدقائه و أصحابه لئلا يميلوا إلى الحق، و هكذا هو شأن كل مستكبر و مستعلي.

[27] الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بيان للكفار، و يشمل ما إذا كان ملحدا لا يعترف باللّه، لأن معبوده مهما كان «حتى إذا كان هواه» فهو إليه مجعول مع اللّه و ما إذا كان مشركا، لأنه أشرك باللّه غيره فَأَلْقِياهُ أيها الشاهد و السائق فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ شدته، لأجل شدة كفره و عناده، و تكرار «ألقيا» للدلالة على استحقاقه، حتى لا يتوهم متوهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 223

[سورة ق (50): الآيات 27 الى 29]

قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)

أنه ليس بمستحق، كما تقول أضرب زيدا أضربه، فإن الثاني لإفادة قطعية استحقاقه.

[28] و هنا يأخذ الكافر و الشيطان القرين له في التنازع الكافر يقول للشيطان أنت كنت سبب ضلالي و الشيطان يرد عليه بأنك كنت ضالا بنفسك

و إنما أنا أعنتك فقط قالَ قَرِينُهُ الشيطان المقترن معه كما قال سبحانه نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «1» لوضوح أن الجنس يميل مع جنسه رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أنه ما سببت طغيانه، فلا تعذبني عذاب من أضل غيره وَ لكِنْ كانَ الكافر بنفسه فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي بعيد عن الحق، لأن الضال إذا كان قريبا من الجادة رجي أن يهتدي إليها، أما الضال البعيد عن الجادة، فلا يرجى هدايته، فهناك مخاصمة بين الشيطان و الكافر كلّ يلقي اللوم على الآخر.

[29] و يجيبهم اللّه، بأنه لا تنفع الخصومة، و إنما لكلّ قسطه من العذاب قالَ اللّه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ في موقف الحساب، فإنه لا فائدة فيها وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ في كتبي المنزلة و على لسان أنبيائي المرسلين بِالْوَعِيدِ و أن من عصى كان جزاءه جهنم، و كلاكما عاصيان، و لا حجة لكما.

[30] ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ فلا يقع الخلف في وعيدي بإدخال الكافر

______________________________

(1) الزخرف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 224

[سورة ق (50): آية 30]

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

المعاند النار، و كذلك بإدخال الشيطان الذي أغواه، أما إدخال المذنب من المؤمنين الجنة بالشفاعة و نحوها، فليس من تبديل القول، لأن عذابه مشروط بعدم الشفاعة و نحوها، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فليس عذابي إياكما ظلما و إنما قال «ظلام» لأن العذاب إذا كان ظلما كان ظلما فظيعا لكثرة العذاب و استمراره، و يمكن أن تكون الصيغة للنسبة، لا للمبالغة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل.

[31] كل هذه الكلمات مع الملك و مع الشيطان و

بين الشيطان و الكافر يكون يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ و الظاهر أن السؤال حقيقي، فإن لكل شي ء حالة تعقّل و إدراك مع اللّه، كما يظهر من متواتر الآيات و الروايات، و أيده العلم الحديث، و إن كانت إدراكاتها تتفاوت، و يكون إدراك الإنسان فوق كل إدراك فلا يقال أن العقل خاص بالإنسان، إذ ينقض ذلك بالحيوان الذي لا إدراك و لا عقل له، و الظاهر أن سؤال جهنم، إنما هو لبيان جوابها الموجب لهول الكفار أكثر فأكثر، فإنه فرق بين أن تقول للمجرمين لي «حية» تلدغكم جميعا، و أن تسأل الحية، و تجيب هي، فإنه أشد هولا للمجرم وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ «مزيد» مصدر ميمي بمعنى الزيادة، أي أن لي متسعا يتسع لكل زيادة، و هذا لأجل التهويل، فإنه فرق بين أن تلقي المجرم في نار مساحتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 225

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 33]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)

عشرة أذرع، أو في نار مساحتها ألف ذراع فإن الكثرة تلقي في النفس رهبة، و إن كانت نتيجة الاحتراق واحدة «و يحتمل في الآية معنى آخر مذكور في التفاسير».

[32] و حيث عرفنا أحوال الكافر و عاقبته في دخوله النار، فلنعرف أحوال المؤمنين و دخولهم الجنة وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت إليهم، إما من باب «القرب» أي قربوا إلى الجنة، أو أنه حقيقة يؤتى بالجنة إلى قرب المحشر لِلْمُتَّقِينَ في قبال إلقاء الكفار في النار، في حال كونها غَيْرَ بَعِيدٍ و حيث أن الإنسان لا يذهب إلى العذاب فإنه يلقى فيه أما النعيم فإن

الإنسان يذهب إليه و لذا لم يقل «دخل الجنة» بل جاء بما ظاهره التدرج إلى دخولها.

[33] و يقال للمتقين بعد ما يرون الجنة هذا ما تُوعَدُونَ ما كنتم وعدتم به في دار الدنيا لِكُلِّ أَوَّابٍ من آب بمعنى رجع، أي كثير الرجوع إلى اللّه بالتوبة و التذكر، فإنه لحظة غفلة عن اللّه- و لو بالاشتغال بالمباحات- بعد عن قربه سبحانه حَفِيظٍ يحفظ حدود اللّه سبحانه، فجهنم للكافر العنيد، و الجنة للأواب الحفيظ.

[34] و الأواب الحفيظ هو مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فمع أنه يعلم أن اللّه رحمن مع ذلك يخشاه، و إن كان المؤمنون الذين يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر غائبين عنه، فلا يترك العصيان خوفا من الإنسان، و إنما خوفا من اللّه الغائب عنه وَ جاءَ إلى المحشر بِقَلْبٍ مُنِيبٍ من أناب بمعنى تاب، و ليس «منيب» و «خشي» تكرارا، إذ قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 226

[سورة ق (50): الآيات 34 الى 36]

ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)

يخشى الإنسان من شي ء لكنه لا يرعوي و لا يترك ما يخشى منه، فهو «يخشى» و قلبه «منيب» و «يحفظ» حدود اللّه، و «كثير التوبة: أواب» فهي أربع صفات في قبال «الكافر العنيد المناع المريب».

[35] فإذا جاءوها قيل لهم ادْخُلُوها ادخلوا الجنة بِسَلامٍ مع سلامة، إذ ربما يدخل الإنسان المكان الحسن لكن مع صعوبة و عذاب، أو المراد «سلموا إذا دخلتموها» أو المراد سلام الملائكة لهم ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُلُودِ بخلاف أيام الدنيا فإنها ليست للخلود، أما الجنة فإن الإنسان إذا

دخلها خلد إلى الأبد.

[36] لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من أنواع النعم، و لا يشتهي الإنسان هناك القبائح، فلا يقال هل تكون هناك حرب أو نحوها مما قد يشتهيها الإنسان في الجنة وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ زيادة على ما يشتهون، مما لا يخطر ببالهم و قد ورد أن في الجنة ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

[37] و إذ قد علم أن للكفار النار و للمتقين الجنة، فليعلم هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بك يا رسول اللّه أن لهم عقابا في الدنيا أيضا، فقد عاقبنا الكفار السابقين الذين كذبوا أنبياءهم وَ كَمْ للتكثير أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفار مِنْ قَرْنٍ أهل قرن، و القرن جزء خاص من الزمان، و أطلق على أهل القرن بعلاقة الحال و المحل، مثل «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ» هُمْ أولئك القرون أَشَدُّ مِنْهُمْ من قومك يا رسول اللّه بَطْشاً قوة و إفسادا، لأن البطش الأخذ بشدة مثل قوم عاد و ثمود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 227

[سورة ق (50): الآيات 37 الى 38]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)

و غيرهما، و حيث كانوا أكثر بطشا و قوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ كأن دخولهم في البلاد تنقيب، لأنهم كانوا يفحصون عن مواضع الثروة و النزهة، كالمنقب الذي يخرق و يثقب الأرض طلبا للمال و الكنز، فإن قوتهم و بطشهم صار سببا لذلك و لذلك جاء «بالفاء» ف هَلْ كان لهم مع شدة البطش و التنقيب في البلاد مِنْ مَحِيصٍ مهرب و خلاص لهم

من اللّه حين أراد إهلاكهم.

[38] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من التخويف بعذاب اللّه في الدنيا و الآخرة لمن كفر لَذِكْرى تذكرة، و ذلك لأن الإنسان بفطرته يعلم كل ذلك، و إنما يكون بيان القرآن تذكرة لمن نسيه أو تناسى عنه لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع، فإن من لا وعي لقلبه، مثل من لا قلب له أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم ما يقال له و يستمع إليه، فقد يكون للإنسان قلب مهيأ، و قد لا يكون له قلب مهيأ لكنه يستمع بانتباه و بذلك يهيئ قلبه، و في كلتا الحالتين، يكون ما ذكرناه تذكرة له، فقد تكون الأرض بنفسها صالحة للزرع، و قد لا تكون لكنها تقبل الإصلاح، فتصلح ثم تزرع، ف «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» كالأول و «أو ألقى ...» كالثاني.

[39] أما و كيف أن هؤلاء الكفار ينكرون البعث و هم يرون خلقنا السابق، و يعلمون أنا لم نتعب لأجله، و دليل عدم التعب استمرارنا في الخلق و في إدارة الكون وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 228

[سورة ق (50): آية 39]

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39)

صنوف الخلائق فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اليوم قطعة من الزمان، و إن كان خمسين ألف سنة كما في قوله سبحانه فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» و قد دلت بعض التجارب العلمية على أن اكتمال خلق السماوات و الأرض بهذه الصورة الحالية، استوعب ستة مليارات «كل مليار ألف مليون» من السنوات «سنة بتقديرنا الحاضر» و العلم عند اللّه وَ ما

مَسَّنا حتى مجرد المس «و هو ما لا يدخل في الأعماق» مِنْ لُغُوبٍ من تعب و إعياء، و قد زعم اليهود أن اللّه تعالى بدأ الخلق يوم الأحد و انتهى في يوم الجمعة و استراح يوم السبت و استلقى على العرش.

[40] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب بالتوحيد و بالرسالة و بالبعث وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزه اللّه عما لا يليق، مصاحبا تنزيهك بتحميده مما يليق بعظمته، فالحمد ذكر الحسن، و التسبيح التنزيه عن الشي ء، و «الباء» للمصاحبة، و تقديم التنزيه، لوضوح أن الأرض لا تزرع إلا بعد تنظيفها و القلب لا يكون مبعث الخير، إلا بعد تنزيهه عن الصفات السيئة، و كذلك جاءت كلمة التوحيد فأولا «لا إله» نفي الشرك ثم «إلا اللّه» و السرّ أن العدم مقدم على الوجود دائما، و على هذا جرى قوله «و سبح ...» قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حيث يبتدئ يوم جديد بنعمة جديدة وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ حيث انتهى اليوم بسلام

______________________________

(1) المعارج: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 229

[سورة ق (50): الآيات 40 الى 43]

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)

و رحمة و ذلك ما يستحق الشكر.

[41] وَ مِنَ اللَّيْلِ بعض الليل فَسَبِّحْهُ شكرا لمجي ء الليل الموجب لراحة الإنسان وَ سبحه أَدْبارَ السُّجُودِ بعد كل صلاة شكرا لأن وفقك لطاعته و عبادته، و قد تفسر الإتيان بالصلوات الخمس و الظاهر أنه من باب المصداق.

[42] ثم رجع السياق إلى قصة البعث، حيث أن الكلام كان فيها وَ اسْتَمِعْ يا رسول

اللّه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ للبعث فإن إسرافيل ينفخ في الصور فيبعث الأموات مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداءه إلى الكل على حد سواء، فليس النداء قريبا إلى بعض بعيدا عن بعض، كما هي العادة في الدنيا حيث أن النداء من مكان قريب بالنسبة إلى بعض و بعيد بالنسبة إلى آخرين.

[43] يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ يسمع هؤلاء المنكرون كما يسمعه سائر الناس بِالْحَقِ فإن الصيحة مقترنة بالحق، و ليست دعوة باطلة ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور للبعث، ففي الآية الأولى أنت تسمع يا رسول اللّه، و في الثانية هم يسمعون، فيظهر صدقك، و يظهر خسرانهم، و فيهما بشارة للداعي و إنذار للمدعو.

[44] أ فلا يرون إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ فلما ذا ينكرون البعث؟ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ مصدر، أي الصيرورة و الرجوع بعد الموت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 230

[سورة ق (50): الآيات 44 الى 45]

يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

[45] و ذلك المصير يكون في يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ تنشق قبورهم فيخرجون منها سِراعاً أي مسرعين لما يصيبهم من الهول و الوحشة ذلِكَ الإخراج حَشْرٌ جمع للناس للبعث عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل.

[46] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من تكذيبك فلا تهتم لقولهم فإنا سنجازيهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تجبرهم على الإيمان، فإنما أنت داع تدعوهم، فإذا لم يستجيبوا فلك أجرك بدعوتهم، و عليهم وزرهم بعدم الإجابة فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ فالقرآن آلة التذكير مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه هو الذي ينتفع به أما من لا يخاف من الوعيد، فإنه و إن وجب تذكيره، لكنه حيث لا ينتفع به فكأنه لم

يذكّر أصلا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 231

51 سورة الذاريات مكية/ آياتها (61)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الذاريات» و هي كباقي السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاثة و لما ختمت سورة «ق» بذكر الآخرة و البعث افتتحت هذه السورة بذلك، بعد القسم بعدة أمور.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله نبدأ السورة، لإفادة أنا تحت هذا الاسم نعمل أعمالنا، و نكرر اسمه المشتق من مادة «رحم» ليكرر رحمته علينا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 232

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)

[2] وَ الذَّارِياتِ الواو للقسم أي قسما بالذاريات، و هي الرياح التي تذر التراب و غيره ذَرْواً مفعول مطلق للتأكيد.

[3] فلمجرد الترتيب الكلامي أو لأن الحاملات الأشياء التي تحمل وِقْراً أي حملا ثقيلا سواء كانت تلك الحاملات التي تحمل الأمطار أو السفن التي تحمل الإنسان و غيره أو نحوهما، تسير بسبب الذاريات.

[4] فالسفن أو السحب الجاريات التي تجري في الماء أو الهواء يُسْراً بيسر و سهولة.

[5] فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً قسما بالملائكة التي خلقها اللّه و جعلها تقسم أمور الكون فتجري أمور الكون تحت نظرها.

[6] إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث بعد الموت لَصادِقٌ وضع اسم الفاعل موضع المصدر أي صدق، لا بد من وقوعه، و هذا هو جواب القسم، و المناسبة هو أن من خلق الرياح، و المياه، و قرر لكل شي ء قانونا صالحا له، كتقرير قانون سير الأشياء المحملة بالأثقال بكل يسر، و من خلق الملائكة، و جعل بأيديهم تقسيم أمور الكون على نحو الصلاح و الحكمة، لقادر على إعادة الأموات إلى الحياة،

«فإن الأشياء تعرف بأمثالها».

[7] وَ إِنَّ الدِّينَ الجزاء لَواقِعٌ قطعا فيجزي كل إنسان بما عمل إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 233

[سورة الذاريات (51): الآيات 7 الى 11]

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)

[8] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء ذاتِ الْحُبُكِ جمع حباك على نحو:

مثل جمع مثال، و هو الطريق الحسن فإن في السماء طرقا، للنيازك و للملائكة و لمسير الشمس و القمر و الكواكب و نزول المطر إلى غير ذلك، و الحلف هكذا لمناسبة قوله تعالى.

[9] إِنَّكُمْ أيها البشر لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ و اختلاف قولهم واضح، و إنما احتيج إلى الحلف لبيان أنهم إنما يصدرون في حكمهم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه شاعر و كاهن و مجنون و غير ذلك، لا عن دليل و برهان بل عن الهوى، و إلا لم يختلفوا فيه، فهو على حد أن يقول «قسما بالسماء أنتم لستم على شي ء في تكذيب الرسول».

[10] يُؤْفَكُ يصرف عَنْهُ أي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَنْ أُفِكَ أي من صرف عن الحق، أو أن الضمير في «عنه» عائد إلى «الدين» أي عن البعث و الجزاء.

[11] قُتِلَ دعاء عليهم بالقتل، أي أن يقتلهم اللّه الْخَرَّاصُونَ الخراص الذي يخمّن بدون علم، كناية عن أن المنكر للرسول، أو القيامة، خراصون لا علم لهم بالنفي و إنما يخمنون تخمينا.

[12] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في ضلال و جهل يغمرهم، كالماء الذي يغمر الإنسان و يستوعبه، كأن الجهل و الضلال شملهم من رأسهم إلى أرجلهم ساهُونَ

غافلون عما أمروا به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 234

[سورة الذاريات (51): الآيات 12 الى 17]

يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)

كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17)

[13] يَسْئَلُونَ على سبيل الإنكار أَيَّانَ وقت و زمان يَوْمُ الدِّينِ أي يوم الجزاء؟

[14] و الجواب عن سؤالهم، أنه يكون يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يحرقون و يعذبون.

[15] و يقال لهم هناك ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ عذابكم الذي هيأتموه لأنفسكم في الدنيا بإنكاركم للّه و الرسول و البعث هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فقد كان الكفار يقولون إن كان هناك عذاب فائتنا به يا محمد، و هذه الآية تهددهم بأنهم سيصلون إليه.

[16] هذا حال المكذبين، أما حال المصدقين إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ فإنهم يذهبون في العيون للسياحة مقابل أولئك الذين كذبوا حيث أنهم في النار و العذاب.

[17] آخِذِينَ قابلين ما آتاهُمْ أعطاهم رَبُّهُمْ من العطاء و النعيم، بكل رضى و سرور، في مقابل الكفار الذين يصب فوقهم العذاب بكل كره منهم، ل إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ زرعوا في الدنيا الإحسان فأخذوا ثماره في الآخرة الجنان.

[18] و كان من وصفهم في الدين أنهم كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 235

[سورة الذاريات (51): الآيات 18 الى 21]

وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19) وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (21)

الهجوع النوم، أي قليلا من الليل ينامون، ف «ما» زائدة، أو

المراد قليلا من الليل لا ينامون، ف «ما» نافية.

[19] وَ بِالْأَسْحارِ أي في الأسحار، و السحر هو الثلث الأخير من الليل هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون الغفران من اللّه، و لفظ «هم» لإفادة الحصر، أي أنهم هم الذين يستغفرون حقيقة، دون سواهم، فإن استغفاره صوري لا يخرج عن عمق القلب.

[20] وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ نصيب حقّ عليهم و ثبت لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَ الْمَحْرُومِ الذي لا يسأل، فإن سأل السائل أعطوه و إن لم يسأل المحروم ابتدأوا بإعطائه.

[21] ثم رجع السياق إلى ما كان بصدده من الأصول الثلاثة الألوهية و الرسالة و المعاد، و حيث كان الكلام السابق حول المعاد، و الاستدلال له جاء الكلام الآن حول الألوهية وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ دلالات على وجود اللّه و صفاته.

و في كل شي ء له آية تدل على أنه واحد لِلْمُوقِنِينَ الذين سلكوا طريق الاستدلال «اليقين» لا الذين سلكوا طريق الأهواء و الظنون.

[22] وَ فِي أَنْفُسِكُمْ آيات تدل على وجوده و صفاته تعالى فإن كل جزء من أجزاء الجسم، و كل صفة من صفات النفس دليل ساطع على وجود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 236

[سورة الذاريات (51): الآيات 22 الى 24]

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)

اللّه و علمه و قدرته و غير ذلك أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذه الآيات؟ حتى ترجعوا إلى اللّه و تعترفوا به و بصفاته؟

[23] ثم إن رزقكم و مقدراتكم أيضا دليل آخر على وجود اللّه تعالى وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ إن المطر ينزل من السماء و يسبب لكم الرزق من الحبوب و لحوم البهائم و غير

ذلك مما تأكلون و تلبسون و غيرهما أ فليس ذلك دليلا على اللّه و صفاته؟ و إلا فلو لم يكن إله فمن ذا الذي أنزل المطر؟ وَ في السماء ما تُوعَدُونَ فإن كل ما يصيب الإنسان من صحة و مرض و غيرهما خارج عن إرادته أليس ذلك دليلا على أنه يأتي من جهة اللّه؟ و المراد بالسماء جهة العلو، و الإنسان وعد بمقدراته إما لفظا على لسان الأنبياء و إما عرفه فطرة، و كلاهما وعد له.

[24] ثم لتأكيد ما تقدم من المعاد و الألوهية- بعد الاستدلال لهما بما ذكر في الآيات السابقة- حلف سبحانه فقال و رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ ما ذكرناه لَحَقٌ مطابق للواقع مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقيقة الألوهية و المعاد و لعل المجي ء «بالنطق» لأنهم كانوا يريدون إبطال الحق بنطقهم و قولهم و تكذيبهم، فقابلتهم الآية «بالنطق» للإثبات، و المقابلة اللفظية نوع من البلاغة.

[25] ثم ذكر سبحانه هلاك قوم لوط عليه السّلام إنذارا لكفار قريش، بأنهم إن لم يؤمنوا أصابهم العذاب، و ذكر مقدمة ذلك مجي ء الرسل الذين كانوا مكلفين بعذابهم، إلى قرى لوط من طريق مرورهم على إبراهيم عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 237

[سورة الذاريات (51): الآيات 25 الى 27]

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (27)

هَلْ أَتاكَ جاءك و أخبرت به يا رسول اللّه حَدِيثُ قصة ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ فإنهم كانوا ملائكة و لذا كانوا مكرمين، كما قال تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1».

[26] إِذْ دَخَلُوا

عَلَيْهِ على إبراهيم عليه السّلام في داره فَقالُوا له سَلاماً أي نسلم عليك سلاما قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم سَلامٌ لعل عدوله إلى الرفع لقصد الثبات- حيث أن الجملة اسمية- و هي تدل على الثبات، حتى تكون تحيته أكثر من تحيتهم، و قال إبراهيم عليه السّلام في نفسه لما أرى الملائكة قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لأنه ما كان رآهم في بلده قبل ذلك، أو أنه قال ذلك يريد به أن يعرّفوا أنفسهم فهو مثل «من أنتم؟».

[27] فَراغَ ذهب إبراهيم عليه السّلام إِلى أَهْلِهِ بتسلل و خفية ليحضر لهم طعاما فإن من أدب الضيافة أن يتسلل الضيف لإحضار الطعام، و التسلل لأجل أن لا يمنعه الضيف عن الإحضار فَجاءَ إليهم بِعِجْلٍ سَمِينٍ مطبوخ، و اختار السمين من بقره لأنه أدب أن يحسن الإنسان الضيافة.

[28] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ليأكلوا لكنهم أبوا عن الأكل ف قالَ لهم أَ لا تَأْكُلُونَ لكنهم لم يأكلوا أيضا.

______________________________

(1) الأنبياء: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 238

[سورة الذاريات (51): الآيات 28 الى 30]

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

[29] فَأَوْجَسَ أضمر عليه السّلام في نفسه مِنْهُمْ من عدم أكلهم خِيفَةً لظنه أنهم جاءوا لشر، فإن الضيف إذا لم يأكل ظهر منه قصد الشر عرفا قالُوا لا تَخَفْ إنا ملائكة، و الملائكة لا تأكل وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ تلده زوجته سارة بعد أن كانت عقيما لا تلد و قد كبرت بما لم يعتد ولادة مثلها عَلِيمٍ من صفته الذكاء و العلم.

[30] و لما سمعت سارة بخبر الولادة فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ في

صياح من الصرير بمعنى الصوت فَصَكَّتْ أي لطمت وَجْهَها فعل المتعجب، لتعجبها بأنها كيف تلد وَ قالَتْ هل تلد عَجُوزٌ عَقِيمٌ حتى تبشروني بغلام.

[31] قالُوا الملائكة كَذلِكَ كما قلنا قالَ رَبُّكِ و «ك» خطاب لها إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله حقا و فعله محكما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 239

تقريب القرآن إلى الأذهان الجزء السابع و العشرون من آية (32) سورة الذاريات إلى آية (30) سورة الحديد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 240

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 241

[سورة الذاريات (51): الآيات 31 الى 36]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)

فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)

[32] قالَ إبراهيم عليه السّلام للملائكة فَما خَطْبُكُمْ أي فما شأنكم و ما طلبكم و لماذا جئتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ فإن الملائكة رسل اللّه تعالى.

[33] قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا أرسلنا اللّه تعالى إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط.

[34] لأجل أن نرسل عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ يطبخ حتى يكون في صلابة الحصاة، و يسمى بالسجيل معرب «سنك كل».

[35] مُسَوَّمَةً معلّمة عِنْدَ رَبِّكَ فكما يهيئ رئيس الدولة لكل نوع من الأجرام نوعا من العقوبة كذلك اللّه هيأ لكل نوع جريمة نوع عقاب في الدنيا و في الآخرة، و العذاب من جنس العمل كما أن الدجاجة من جنس البيضة لِلْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في العصيان، و قد ذكرنا في كتاب «حول القرآن الحكيم» مناسبة بعض

العقوبات لبعض الإجرامات، المذكورة في القرآن الحكيم، ثم جاء القرآن بأسلوب الالتفات، فقال:

[36] فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسله و أحكامه.

[37] فَما وَجَدْنا فِيها في تلك القرى غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هو بيت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 242

[سورة الذاريات (51): الآيات 37 الى 40]

وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40)

لوط عليه السّلام، و قد كانت زوجته أيضا مع الكفار، و لما خرج لوط و أهل بيته إلا زوجته، و ابتعدوا عن المدينة، نزل على القرى العذاب.

[38] وَ تَرَكْنا فِيها في قرى لوط التي دمرت آيَةً علامة و هي الآثار الباقية التي يراها الناس حين يمرون بتلك الأرض، و البحر الميت قرب الأردن- إلى الآن- من آثار تلك القرى لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم و حيث إن الذي يخاف يعتبر دون غيره، خصص سبحانه الآية «لِلَّذِينَ يَخافُونَ» و إلا فكونه آية يراها الكل.

[39] وَ فِي مُوسى عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» أي أن في موسى عليه السّلام آيات، و الظرف على سبيل المجاز، إذ الآيات في مجموع القصة إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة واضحة تدل على صدقه في دعواه النبوة، و المراد بها معاجزه عليه السّلام.

[40] فَتَوَلَّى فأعرض فرعون بِرُكْنِهِ كأن إعراضه بسبب ما كان يتقوى به من جنوده و ملكه، فموسى عليه السّلام اعتمد على الحجة، و فرعون اعتمد على القوة وَ قالَ فرعون إن موسى عليه السّلام ساحِرٌ إن كان عاقلا فيما

يفعل أَوْ مَجْنُونٌ إن كان لا يعقل، فإن قسما من المجانين الذين دخلت فيهم الأرواح الشريرة يفعلون الخوارق.

[41] فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ الذين كانوا معتمد فرعون في تكذيبه لموسى عليه السّلام فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم طرح إهانة فِي الْيَمِ في البحر فغرقوا جميعا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 243

[سورة الذاريات (51): الآيات 41 الى 44]

وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44)

وَ هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه، فقد كان تكذيبه لموسى لبقاء سلطته و سمعته، و الغرق ذهب بالسلطة، و انفضاحه ذهب بالسمعة فصار الناس يلومونه و يلعنونه.

[42] وَ فِي عادٍ عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» أي آيات في قوم عاد، الذين أرسل إليهم هود عليه السّلام إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ سميت عقيما، لأنها لم تكن تلد خيرا، كما هي عادة الرياح إذ هي تولد السحاب و المطر و تنقل ما تلقح الثمار و الأزهار، بل ولدت شرا.

[43] ما تَذَرُ ما تترك مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ تلك الريح إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الرميم ما تفتت من حجر أو نبات أو غيرهما، و إنما كانت آيات، لأن كل أثر من تلك الريح آية و علامة لصدق رسل اللّه، و عقاب من خالف الرسل.

[44] وَ فِي ثَمُودَ عطف على «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ» و ثمود هم قوم صالح عليه السّلام إِذْ قِيلَ لَهُمْ قال لهم نبيهم صالح عليه السّلام تَمَتَّعُوا ابقوا في دوركم حَتَّى حِينٍ حتى زمان مقرر و هو ثلاثة أيام، أمهلهم ثلاثة أيام لعلهم يتوبون.

[45]

لكنهم لم يتوبوا مع أنهم رأوا آثار العذاب فَعَتَوْا استكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ بالإيمان و الهداية فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بعد ثلاثة أيام- كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 244

[سورة الذاريات (51): الآيات 45 الى 47]

فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)

وعدهم نبيهم- و الصاعقة هي ما تصعق الإنسان و تميته فجأة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ و لا يقدرون على دفعها، و في قوله سبحانه «وَ هُمْ يَنْظُرُونَ» دلالة على ضعفهم، حيث كانوا يظنون أنهم أقوياء و بسبب هذا الظن كانوا يستكبرون، و دلالة على تألمهم إذ لو كانت أخذتهم في حالة النوم مثلا لم يتألموا مثل هذا التألم.

[46] فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أن يقوموا من كبوتهم، فلم يكونوا كالمرضى الذين يتمكنون من شفاء أنفسهم، و في هذا تنبيه إلى أن عذاب اللّه إذا جاءهم لم يكن له علاج، إلا بالرجوع إليه سبحانه وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ لم ينصرهم أحد، فلا يقوم أمام أمر اللّه، لا قوة ذاتية، و لا نصرة خارجية.

[47] وَ أهلكنا قَوْمَ نُوحٍ و إنما لم يعطفه، للتفنن الذي هو مقتضى البلاغة مِنْ قَبْلُ هؤلاء الذين ذكروا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه سبحانه، و لذا أغرقناهم بالطوفان أليس في كل هذه العقوبات دلالة لكفار قريش على سوء مصير المكذب؟

[48] ثم ألا يستدل هؤلاء على وجود اللّه و علمه و قدرته بما يشاهدون من آثار عظمته؟ وَ السَّماءَ بَنَيْناها فإن جعل الأنجم و جعل النظام في الكون، من أجل الأبنية- لوضوح أن البناء ليس خاصا بالبناء الحجري و نحوه- بِأَيْدٍ بقوة من آد،

يئيد، فإن قوة المبنى و إتقانه تدل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 245

[سورة الذاريات (51): الآيات 48 الى 50]

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

قوة الباني، و قوة بنائه، ثم إنا لم نستنفد قوانا في بناء ما يشاهدون وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ السماء، و قد دل علم الفلك الحديث على أن الكون في توسع دائم.

[49] وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها جعلناها فراشا لتستقروا عليها و تنتفعوا بها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن الذين مهدنا لكم الأرض.

[50] وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ من أصناف الحيوان و أصناف النبات و حتى أصناف الماء حلو و مالح و شبهه كالسماء و الأرض و الليل و النهار إلى غير ذلك لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فعلنا كل ذلك من خلق السماء و الأرض و الأزواج لأجل أن تتذكروا فتعرفوا الخالق و تعبدوه، ثم إنه لا منافاة بين تعدد الغاية فالخلق لأجل تطلبها الفيض و اللّه فياض مطلق و لأجل تذكر الإنسان كما إذا سافر الإنسان لأجل صحة مزاجه و لأجل تنزهه.

[51] و إذ عرفتم اللّه و علمتم أنه يثيب المطيع و يعاقب العاصي فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ فكما أن من يطارده الأسد يفر، كذلك من طاردته الذنوب لزم عليه أن يفر بالأعمال الصالحة، و سرعة الإتيان بها بمثابة الفرار، إلى ثواب اللّه و طاعته إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من قبل اللّه نَذِيرٌ أنذركم إن بقيتم في الكفر و العصيان تلحقكم نتائج سيئاتكم مُبِينٌ واضح لوضوح الأدلة التي تدل على نبوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 246

[سورة الذاريات (51): الآيات 51 الى

53]

وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)

[52] وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما كان المشركون يجعلون ذلك إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ من قبل اللّه نَذِيرٌ مُبِينٌ فاللازم أمران: الأول:

توحيد الإله. و الثاني: عدم عصيانه، و لعل وجه تقديم الثاني، في الآيتين إن الاشتغال بالمعاصي يحجب الإنسان عن الإيمان بالوحدانية، كما قال تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1» كما أن وجه تكرار آخر الآية بشكل واحد لعله للتنبيه على أن الإنذار على المعاصي مثل الإنذار على المشرك، كما قال تعالى لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً «2».

[53] إنهم مع إنذارك لهم إنذارا واضحا ينسبونك إلى أنك ساحر أو مجنون و كَذلِكَ أي أن الأمر مثل ذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم مِنْ رَسُولٍ من عند اللّه إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ بعضهم قالوا ساحر و بعضهم قالوا مجنون، أو كما تقدم في تفسير آية «وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

[54] أَ تَواصَوْا بِهِ أي أن الأولين و الآخرين الذين رمى كلهم أنبياءهم بالسحر و الجنون هل أوصى بعضهم بعضا بأن ينسبوا الأنبياء إلى مثل هذه النسبة؟ كلا، إذ لا ربط بين الأمم مع اختلاف زمانهم و تباعد

______________________________

(1) الروم: 11.

(2) الأنعام: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 247

[سورة الذاريات (51): الآيات 54 الى 57]

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ

لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)

بلادهم بَلْ هُمْ الأولون و الآخرون الكافرون بالأنبياء قَوْمٌ طاغُونَ فمشاركتهم في الطغيان أوجبت أن يرموا الأنبياء بما يكون مقتضى الطغيان و العتو على اللّه سبحانه، بعد أن فقدوا الحجة في رد برهان الأنبياء.

[55] فَتَوَلَ فاعرض عَنْهُمْ و لا تجادلهم بعد أن كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا العناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على إعراضك بعد أن جهدت في البلاغ فلم ينفع معهم.

[56] وَ لكن خذ طريقك في الإرشاد العام ف ذَكِّرْ الناس حسب قدرتك فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم يزدادون بها بصيرة، أو المراد بالمؤمنين الذين لهم نفوس طيبة تقبل الحق، فاستعمل «المؤمن» فيمن له طبيعة إيمانية.

[57] وَ إذا نفعت الذكرى المؤمنين عملوا بما هو غاية الخلقة إذ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و يطيعون، و إذا أطاعوا كملوا هم، لا أن اللّه استفاد منهم شيئا.

[58] ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ من مال كما يريد السادة من العبيد أن يعملوا لأجل جلب المال للسادة حتى يرتزق به السيد في اشتراء دار و لباس و مركب و ما أشبه «فإن كل ذلك رزق» وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 248

[سورة الذاريات (51): الآيات 58 الى 60]

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

يطعموني يهيئوا لي طعاما، كما يفعله الطباخ للسيد.

[59] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لكل من يحتاج إلى الرزق من بشر و حيوان و غيرهما، فكيف يخلقهم لأن يرزقوه؟ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الشديد، لا مثل قول الملوك لا متانة

لها و لذا تؤول إلى الضعف و الانحلال و العدم، و إذا كان سبحانه له القوة المتين فلا حاجة له في الطعام كي يتقوى به كما أن الإنسان كذلك يتقوى بالطعام.

[60] و إذا أبلغت في الإنذار و لم يقبلوا فلا تغتم إذ إنا سوف نعاقبهم فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالتكذيب لك ذَنُوباً نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل نصيب نظائرهم من الأمم السابقة، و هذا تشبيه حيث إن أصل «الذنوب» الدلو العظيم المملوء ماء، و جي ء به للإشارة إلى كثرة ذنوبهم فَلا يَسْتَعْجِلُونِ العذاب لأنه سيأتيهم لا محالة.

[61] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سوء لهم مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي يوم القيامة، و «من» أي من ناحية ذلك اليوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 249

52 سورة الطور مكية/ آياتها (50)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الطور» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة بأصولها الثلاث و لما ختمت سورة الذاريات بعذاب الكفار ابتدأت هذه السورة بذلك، بعد تأكيد عذابهم، بجملة من الأيمان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شرع في السورة مصاحبا باسم اللّه، لكي نتعلم أن كل شروع لا بد و أن يقترن باسمه، لأنه شكر للنعمة أن يتذكر الإنسان خالقه و رازقه عند كل ابتداء، إذ لو لا لطفه، لم يكن الإنسان قادرا على العمل «الرحمن الرحيم» الذي يرحم كل شي ء يعطيه الوجود، ثم يرحمه بتربيته و السير به في مراحل الكمال فهو سبحانه يرحمه إيجادا و يرحمه إبقاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 299

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ

(5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)

[2] وَ الطُّورِ قسما بطور سيناء الذي تكلم موسى عليه السّلام مع ربه من فوقه، قال جمع من المفسرين أنه جبل بمدين.

[3] وَ قسما ب كِتابٍ مَسْطُورٍ إما المراد أي كتاب، فالطور مرفوع مكانا، و الكتاب مرفوع معنى، فالمراد القسم بكل رفيع، مادي أو معنوي، أو المراد كتاب خاص، مثل التوراة و الإنجيل و القرآن، و لا يبعد إرادة الإنجيل باعتبار أنه سبحانه و تعالى حلف بشي ء لموسى عليه السّلام، و بشي ء لعيسى عليه السّلام و بشي ء لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و هو البيت المعمور».

[4] ذلك الكتاب فِي رَقٍ أي جلد رقيق مَنْشُورٍ نشر لقراءته، و لعل القصد من الصفات إفادة وضوحه، فالكتابة مسطورة، لا مندمجة بعضها في بعض، و هي في ورق قد نشر، يقرأه كل إنسان، فالكتابة جمعت بين الارتفاع معنى الظهور، كما أن الطور جمع بين الارتفاع مادة الظهور.

[5] وَ قسما ب الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الكعبة المعظمة، أو الضراح في السماء الرابعة أو السابعة.

[6] وَ قسما ب السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ السماء، لأنه سقف يمنع وصول أحجار النيازك إلى الأرض، و المراد به بعض طبقات السماء.

[7] وَ قسما ب الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الذي له أمواج كشعل النيران، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 251

[سورة الطور (52): الآيات 7 الى 13]

إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)

الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)

المراد به حين ينقلب نيرانا، كما في أهوال القيامة.

[8] إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ على الكفار لَواقِعٌ قطعا.

[9] ما لَهُ ليس للعذاب مِنْ دافِعٍ يدفعه عن

الكفار، فكأن الإنسان يسرح بخياله إلى السماء، و الجبل، و البحر، و بيت مرتفع في وسطها، و كتاب نشر في أحوال الكون، «كتاب تكويني إلى جانبه كتاب تشريعي» ألا يدل كل ذلك على عظيم القدرة؟ إذا فلا بد و أن يذوقوا العذاب.

[10] و إنما يقع العذاب يَوْمَ تَمُورُ تضطرب السَّماءُ مَوْراً لأن النظام الكوني ينهدم فتضطرب الكواكب.

[11] وَ تَسِيرُ الْجِبالُ كالسحاب السائر سَيْراً مفعول مطلق للتأكيد.

[12] فَوَيْلٌ و سوء يَوْمَئِذٍ في هذا اليوم لِلْمُكَذِّبِينَ باللّه و برسوله و بالمعاد.

[13] الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يخوضون في الكفر و العصيان يَلْعَبُونَ فإن عمل من لا يفكر في العاقبة لعب إذ لا هدف حقيقي له، و إن تصور أن له هدفا.

[14] و ذلك في يَوْمَ يُدَعُّونَ الدعّ الدفع العنيف إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 252

[سورة الطور (52): الآيات 14 الى 17]

هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17)

مفعول مطلق لتأكيد العنف في سوقهم إلى جهنم.

[15] و يقال لهم هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ و كنتم تقولون أن ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سحر لا أصل له.

[16] أَ فَسِحْرٌ هذا الذي ترونه في النار؟ يقال لهم ذلك تبكيتا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أن هذه نار؟ كما كنتم تقولون في الدنيا، إنا لا نراك وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1».

[17] اصْلَوْها ذوقوا النار فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا بأن تجزعوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الصبر و عدمه، فأيهما لا يخفف من عذابكم إِنَّما

تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ظاهره نفس عملكم إذ قد ذكرنا في بعض السور أن نفس العمل صار جزاء كما أن نفس البيضة و النواة تصير فرخا و شجرة، و من الواضح أن في مثل هذا المقام لا فرق بين الصبر و الجزع و لعل هذا الكلام للكفار، جزاء لما كانوا يقولونه للأنبياء إنهم لا يقبلون كلامهم في كل الأحوال، فجزاؤهم النار في كل الأحوال.

[18] و في مقابل هؤلاء المكذبين المصدقون ف إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ النعمة الباطنية «الجنة الظاهرية» كما أن الكفار في ألم النار

______________________________

(1) فصلت: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 253

[سورة الطور (52): الآيات 18 الى 21]

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)

و ألم التوبيخ و الاستهزاء، كما في «أ فسحر؟ فاصبروا ...».

[19] فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ أعطاهم رَبُّهُمْ من النعم وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي حفظهم من ذلك العذاب، إشارة إلى أنهم و إن استحقوا العذاب لبعض معاصيهم إلا أن اللّه يغفر لهم و يحفظهم من ذلك العذاب لطفا و تفضلا.

[20] و يقال لهم كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً الهني ء الذي لا تنغيص فيه لا من جهة الفم و لا من جهة الحلق عند الازدراء و لا من جهة العاقبة فلا أثر سيئ له بسبب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من العقيدة الصحيحة، و الأعمال الصحيحة، فإن العقيدة نوع عمل للقلب حيث بنى على شي ء معين.

[21] في حال كونهم

مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَصْفُوفَةٍ قد اصطفت ففيه جمال للمنظر بالإضافة إلى كونه راحة للجسم وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ جمع حوراء واسعة العين و بيضاء الجسم فنظافة في الأبدان و الأخلاق، و عيناه واسعة العين بما يزيدها جمالا، و قد وردت في الروايات تزويج النساء أيضا برجال الدنيا، و لعل عدم ذكر النساء و زواجهن من باب البلاغة، لأنه من غير المستحسن لدى العرف أن يقال للمرأة نزوجك، بخلاف أن يقال للرجل.

[22] ثم إن أولاد المؤمنين الذين لا يستحقون بأعمالهم مراتب آبائهم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 254

[سورة الطور (52): آية 22]

وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)

الجنة، يلحقون بآبائهم لتقدير إيمان الآباء وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ بأن لم يكونوا كفرة أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ حتى ينعم الآباء بمؤانسة الأولاد، فمرة يشتغلون بالحور العين، و تارة بالذرية، و في ذلك قرة أعينهم وَ ما أَلَتْناهُمْ أي ما نقصنا الآباء مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فلم نعطي للأبناء من حق الآباء بل أعطينا الأبناء زيادة على حق الآباء كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ كأن نفس الإنسان مرهونة بالعمل الصالح فإذا أعطى اللّه العامل استرجع نفسه فصار حرا، و إلا بقي أسيرا في جهنم، لأنه لم يقدم ما يفك به نفسه، كما أن صاحب الدار الذي رهنها لأنه لم يقدم مال المرتهن لم يتمكن من استرداد داره، و لعل قوله سبحانه «كُلُّ امْرِئٍ ...» لدفع توهم أنه إذا أعطى الذرية ما لا يستحقون فقد حصلوا الثواب بغير عمل؟ و الجواب كلا، إن الذرية كانوا مؤمنين فاستحقوا الجنة بذلك، و لكن اللّه تفضل عليهم بالمزيد جزاء للآباء فدرجتهم بين جزاء لهم و جزاء

لآبائهم، أو يقال إن كلا من الآباء و الذرية استحق نفس الدرجة الرفيعة و استحق الجمع بينها، فالآية إخبار عن الواقع، و لا إعطاء لما لا يستحق و لو إعطاء تفضلا.

[23] وَ أَمْدَدْناهُمْ استمررنا في إمدادهم، فليس كالضيافات، في الدنيا التي يؤتى إلى الضيف بالمأكول و المشروب أول ما يجي ء فقط، فإذا جلس ساعة مثلا، لا يؤتى إليه مرة أخرى بهما بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 255

[سورة الطور (52): الآيات 23 الى 27]

يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27)

و اللحم شامل للطير و السمك و سائر اللحوم.

[24] يَتَنازَعُونَ على سبيل المزاح و المفاكهة فِيها في الجنة كَأْساً فيها خمر لا لَغْوٌ فِيها لا يتكلمون إذا شربوها باللغو وَ لا تَأْثِيمٌ من ما يفعله شاربوا الخمر في الدنيا من السب و الضرب و الجرح و أحيانا التعدي على الأعراض و غيرها، فإنه لا فساد في الآخرة.

[25] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ يمر بهم مرورا متواصلا، لإعطائهم الكأس و الفاكهة و قضاء حوائجهم غِلْمانٌ جمع غلام لَهُمْ كَأَنَّهُمْ في بياضهم و جمالهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ محفوظ في مكان نظيف بحيث لم يكن ظاهرا حتى يغير بريقه الهواء و الوسخ.

[26] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ من أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ هذا يسأل ذاك و ذاك يسأل هذا عن أحوالهم في الدنيا و ما استحقوا به هذه الدرجات؟

[27] قالُوا المسؤولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في دار الدنيا حيث كنا فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ خائفين

من العذاب، إذ من لا خوف له لا يعمل صالحا- إلا في الأندر من النادر-.

[28] فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بغفران ذنوبنا وَ وَقانا حفظنا عَذابَ السَّمُومِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 256

[سورة الطور (52): الآيات 28 الى 31]

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)

النار النافذة في المسام و ثقب الجسد.

[29] إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا نَدْعُوهُ ندعو اللّه سبحانه، و لا ندعو غيره إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ و لذا أحسن إلينا و رحمنا، رحمنا فلم يعذبنا بذنوبنا، و أحسن إلينا بإعطائنا أزيد من استحقاقنا.

[30] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بالعقائد الصحيحة و لا يمنعك من الاستمرار في التذكير سبهم لك و اتهامهم إياك بأنك كاهن أو مجنون فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بسبب إنعامه الذي أعطاك تعالى بِكاهِنٍ متصل بالجن يخبره بعض الأخبار الغائبة عن الحواس وَ لا مَجْنُونٍ دخل فيه الجان فأخذ يتكلم ببعض المغيبات- كما كانوا يتهمون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذين الأمرين-.

[31] أَمْ يَقُولُونَ بل يقولون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعِرٌ إذا رأوا عدم قبول الناس افترائهم الأول «إنه كاهن أو مجنون». نَتَرَبَّصُ بِهِ أي نصبر و ننتظر رَيْبَ الْمَنُونِ أي ما يقلق النفوس من حوادث الدهر، فإذا احتفت به المشاكل انقلع عن دعواه النبوة، أو المراد بالمنون الموت.

[32] قُلْ لهم يا رسول اللّه تَرَبَّصُوا انتظروا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 257

[سورة الطور (52): الآيات 32

الى 35]

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35)

فكما أنكم تنتظرون هلاكي و عدم نجاحي، فإني أنتظر نجاحي و تقدم دعوتي، أو أنتظر موتكم، و سوف نرى العاقبة لمن؟.

[33] أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا التناقض في أقوالهم فمرة يقولون شاعر، و أخرى كاهن و ثالثة مجنون، فهل أمثال هذه الكلمات تصدر من العقلاء؟ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يعرفون الحق، و إنما يقولون الباطل لطغيانهم على الحق، و عنادهم في الأمر.

[34] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن من تلقاء نفسه بدون أن ينزل عليه وحي بَلْ هم يعلمون و إنما لأنهم لا يُؤْمِنُونَ يرمون القرآن بهذه الأمور حتى يجعلوا لأنفسهم عذرا في عدم إيمانهم.

[35] و إذا كان تقوّل من الرسول فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ شي ء جديد مِثْلِهِ مثل القرآن إِنْ كانُوا صادِقِينَ في قولهم «تقوله» إذ لو كان القرآن كلام البشر لتمكن بلغائهم أن يأتوا بمثله، فعدم تمكنهم بأجمعهم من الإتيان بمثل القرآن دليل عدم كون القرآن من كلام البشر.

[36] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ خالق لهم و لذا لا يذعنون بالخالق و لا يسمعون كلامه أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ خلقوا أنفسهم؟ و حيث لا هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 258

[سورة الطور (52): الآيات 36 الى 38]

أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

و لا هذا كان لا بد من إذعانهم للخالق، فلما ذا يكفرون به و

يجعلون له شريكا؟

[37] أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فهم شركاء للّه، و الشريك لا يخضع لشريكه، بَلْ ليس كل ذلك و هم يعلمون أنهم عبيد مربوبون و إنما لا يُوقِنُونَ فإن الانسياق وراء البرهان- دون الأهواء و التقاليد- لا يكون إلا لمن أراد التيقّن، فنفي الإيقان عنهم باعتبار نفي آثاره، كما يقال: لا عين لفلان إذ لم يستعمل عينه حتى سقط في بئر، و يقال لا عقل له، إذا لم يستعمل عقله.

[38] أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فلا يرون أنفسهم بحاجة إلى اللّه، و لذا لا يؤمنون به و لا برسوله و لا بكتابه؟ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ على الخزائن، و إن تكن لهم فسيطرتهم على الخزائن توجب أن يزعموا غنائهم عن الإيمان؟

[39] أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مرقاة يصعدون بسببها إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ إلى الوحي فلا يحتاجون إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم كالرسول يعرفون أمور السماء فإذ زعموا ذلك، و قالوه عنادا فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ من ادعى الاستماع بِسُلْطانٍ حجة مُبِينٍ واضحة على صدقه، كأن يخبر عن الآتي، كما يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأخبار الغيب، و لا يخفى أن في هذا احتجاج على منكر اللّه، و على من جعل له شريكا، و على من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 259

[سورة الطور (52): الآيات 39 الى 42]

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)

أنكر الرسول أو القرآن، و على من أنكر البعث، بأسلوب بلاغي رائع، و باحتجاجات عقلية، و عرفية يفهمها كل إنسان و إن لم يكن

من أهل الخبرة و الدقة.

[40] أَمْ لَهُ الْبَناتُ فقد كان جمع من كفار قريش يقولون إن الملائكة بنات اللّه وَ لَكُمُ الْبَنُونَ البنون خاص بكم؟ و بأي دليل تقولون هذا القول؟.

[41] أَمْ تَسْئَلُهُمْ يا رسول اللّه أَجْراً على الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ التزام غرم مُثْقَلُونَ يحملون الثقل، و لذا لا يؤمنون بك فرارا من إعطاء المال، و حيث لا تسألهم أجرا و الدليل معك فلما ذا لا يؤمنون؟

[42] أَمْ عِنْدَهُمُ علم الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما أخذوه عن الغيب و بذلك علموا كذبك و لذا لا يؤمنون بك؟

[43] أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك، لا حجة لهم، و لا عندهم الغيب، و إنما يكيدون بك ليتخلصوا منك حتى لا تدعوهم إلى الهدى، استثقالا عن الحق، لكن فليعلموا أنهم لا يقدرون على الكيد بك، و إنما كيدهم على أنفسهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ يعود و بال كيدهم عليهم، كما قال وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 260

[سورة الطور (52): الآيات 43 الى 46]

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)

[44] أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ و لذا يشركون مع اللّه إلها غيره؟ سُبْحانَ اللَّهِ اللّه منزه عَمَّا يُشْرِكُونَ إذ لا شريك له، كما دلّ على ذلك العقل، بالإضافة إلى أنهم لا دليل لهم على الشرك، و في هذه الآيات تفنيد لمزاعم الكفار، و الجامع بينها إنها كانت مزاعم باطلة رائجة بينهم.

[45] و قد كان الكفار

يتحدون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه إن كان صادقا، فليسقط عليهم قطعة من السماء لإهلاكهم، مثل تحدي كل جاهل معاند، و قد أجابهم القرآن بأنهم حتى إن رأوا ذلك عاندوا الحق، كما هو شأن كل معاند وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ كأحجار الجو، أو ما يزعمه سماء، ساقِطاً يَقُولُوا من فرط عنادهم و طغيانهم، هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ تراكم و تجمع بعضه على بعض، فلا فائدة في إتيانك يا رسول اللّه بهذه المعجزة.

[46] فَذَرْهُمْ فاتركهم بعد ما رأيت من عنادهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون بأيديكم، أو موتة طبيعية، حتى يروا جزاءهم هناك.

[47] يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً في رد العذاب فإن عذاب الآخرة ليس كمشاكل الدنيا يمكن ردها بالكيد و الأساليب الدنيوية وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ كما ينصر بعضهم البعض في الدنيا، فإن الآخرة ليس فيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 261

[سورة الطور (52): الآيات 47 الى 49]

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ (49)

ناصر ينصر من أراد اللّه عذابه.

[48] وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء الكفار، جي ء بهذا اللفظ، للدلالة على اقتران الكفر بالظلم غالبا، بل الكفر من أعظم الظلم بنفس الكافر عَذاباً دُونَ ذلِكَ قبل عذاب الآخرة، و هو ما يشاهدونه في الدنيا من ثمرات أعمالهم، فإن الظلم لا يثمر إلا العذاب وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك، و الحاصل أن كفرهم يعود عليهم بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة.

[49] وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الحكم الذي أعطاك، فإن الرسول

كان حاكما من قبل اللّه فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي تحت حفظنا و رعايتنا، و الإتيان بجمع العين، لبيان أنهم إن كانوا جماعة ضدك، فإن أعينا أيضا تراقبك لحفظك و لئلا يمسوك بسوء وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ نزهه مع إثبات صفات الكمال له- كما تقدم مثله- حِينَ تَقُومُ في أول النهار و اشكره على أن مضى ليلك بسلام.

[50] وَ سبحه مِنَ اللَّيْلِ بعض الليل حين يدخل الليل على أن مضى نهارك بسلام وَ سبحه إِدْبارَ النُّجُومِ إذا أدبرت النجوم، بعد منتصف الليل حين تأخذ النجوم في النزول من نصف السماء، فإن الإنسان يستيقظ عند ذاك، غالبا و يفكر في عظمة اللّه، و يلقي سكون الليل في نفسه رهبة و خشوعا أمام خالق الكون و جاعل الظلمات و النور.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 262

53 سورة النجم مكية- مدنية/ آياتها (63)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النجم» و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة، كما أن بعض آياتها التي نزلت بالمدينة تعالج قضايا العمل- على ما يظهر من نفس السورة من أنها مكية مدنية، و على ما قاله جمع من المفسرين- و لما اختتمت سورة الطور بما يفيد تكذيب الكفار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ابتدأت هذه السورة بتفنيد مزاعمهم في كذبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صادق و ليس بكاذب و لا ضال.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع باسم اللّه، فإن الذات الشريفة تؤثر في شرافة إمداداتها، كما أن الذات غير الشريفة تؤثر في عدم شرافة إمداداتها، لذا يحب الإنسان حتى أسم محبوبه و يكره حتى أسم مكروهه، اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن

بعباده بدءا، و الرحيم بهم استمرارا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 263

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5)

[2] وَ النَّجْمِ قسما بالنجم، و المنصرف جنس النجم إِذا هَوى نحو المغيب، من وسط السماء، أو من الأفق.

[3] ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل هو عن الطريق المستقيم، و لعل وجه القسم بالنجم، أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجم معنوي في كل أحواله، كما أن النجم نجم حتى في حال هويه، وَ ما غَوى الناس في دعوته إلى اللّه، بل هو مهتد في نفسه و دعوته للناس دعوة إلى الرشد.

[4] وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى عن هوى النفس و ميوله الشخصية كما كان الكافرون يقولون «تقوّله».

[5] إِنْ ما هُوَ الذي نطق به من القرآن و سائر إخباره عن اللّه تعالى إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه من جانب اللّه و هل الوحي وقتي، أو مستمر و إنما جهاز الاستقبال وقتي مثله مثل نور الشمس المستمرة منذ أن خلقت، و إنما إذا وجدت زجاجة مقعرة أخذته و أحرقت به ما ينعكس إليه النور منها، فحالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخاصة تأخذ الوحي المناسب في الوقت المناسب، احتمالان: و إن كان ظاهر الأدلة الأول.

[6] عَلَّمَهُ أي علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالوحي شَدِيدُ الْقُوى جبرئيل، فإن للملك قوى كما للإنسان قوى، و قوى الملك شديدة، مثلا علمه كثير، و لا ينسى، و قدرته كثيرة و لا تضعف إلى غير ذلك،

و ظاهر الآية بسياق الآيات الآتية أن المراد به جبرئيل عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 264

[سورة النجم (53): الآيات 6 الى 10]

ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)

[7] ذُو مِرَّةٍ ذو قوة، و أصل المرة خلط في العروق، كالصفراء و السوداء، و سمي مرة لقوة البدن به، ثم استعملت في أصل القوة، فكأنه قال مرة «قواه شديدة» و مرة «قوى بمجموعة» أو المراد بذي مرة حصانة في عقله و رأيه فالأول: لقواه المادية. و الثاني: لقوته العقلية، فلما أراد أن ينزل الوحي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاسْتَوى استولى على الأرض لإتيان الوحي.

[8] وَ هُوَ جبرئيل عليه السّلام بِالْأُفُقِ الْأَعْلى مكانه في أعالي السماوات.

[9] ثُمَّ دَنا جبرئيل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَتَدَلَّى في الهواء، تدلي الدلو في البئر، و أصل التدلي استرسال مع تعلق، و لعل هذا التعبير باعتبار تعلق جبرئيل عليه السّلام بالأعلى تعلقا.

[10] فَكانَ جبرئيل من محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قابَ قَوْسَيْنِ فإن قوسين إذا التصقت إحداهما بالأخرى يكون عرضهما مقدار ذراعين لأن «قاب» كل قوس مقدار ذراع تقريبا، و «القاب» عبارة عن الفاصل بين رأسي القوس الواحد، و المراد من هذه الآية- حسب الظاهر- إن قرب جبرئيل من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بقدر ذراعين أَوْ أَدْنى و لعله كان يقترب و يبتعد، كما هي عادة كل متكلّمين.

[11] فَأَوْحى اللّه في هذه الحالة إِلى عَبْدِهِ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما

أَوْحى ما أراد وحيه، أو المراد، ب «أوحى» جبرئيل، مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 265

[سورة النجم (53): الآيات 11 الى 15]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «1» أما الضمير في عبده راجع إلى اللّه سبحانه، و في تفسير الآية ذكر مصاديق و تأويلات لا تنافي ظاهرها الذي ذكرناه.

[12] ما كَذَبَ الْفُؤادُ فؤاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما رَأى من جبرئيل و سمع من الوحي، إذ قد يكذب الفؤاد الحواس، كأن يرى الإنسان الشمس و القمر صغيرين، أو ماء البحر أسود، لكن القلب يقول ليس كما رأيت، فالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى جبرئيل بعينه و عرف صدق رؤيته بقلبه.

[13] أَ فَتُمارُونَهُ أي أيها الكفار هل تجادلون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلى ما يَرى ما رآه فتقولون له: قد اشتبهت و لم يكن جبرئيل؟ و لعل الإتيان ب «يرى» بصيغة المستقبل، لاستمرار علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى وقت الكلام، بأن ما رآه كان صدقا، لا خيالا.

[14] و هل يمكن أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد اشتبه وَ الحال أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَقَدْ رَآهُ رأى جبرئيل نَزْلَةً أُخْرى حين نزل بالوحي إليه مرة ثانية، و الاشتباه لا يمكن مرتين.

[15] و كانت رؤيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الثانية لجبرئيل عليه السّلام عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «المنتهى» مضاف إليه، لعل المراد انتهاء عالم الدنيا

إلى هناك بقرينة.

[16] عِنْدَها أي عند تلك السدرة جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها

______________________________

(1) السجدة: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 266

[سورة النجم (53): الآيات 16 الى 19]

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى (19)

المؤمنون الصالحون.

[17] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ غشيه بمعنى أحاط به و استولى عليه ما يَغْشى مما لا يعلمه إلا اللّه تعالى و لعلها باعتبار كونها الحدّ الفاصل بين عالم الدنيا و عالم الآخرة، يكون مهبط الأملاك من الجنة إلى السماوات و الأرض، و مصعد أرواح المؤمنين و الملائكة الصاعدة من الأرضين و السماوات إلى طرف الجنة.

[18] و لا يقول الكفار لعلّه اشتبه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه المرة أيضا، لأنه ما زاغَ لم يمل الْبَصَرُ بصر رسول اللّه، بأن رأى غير جبرئيل فزعم وَ ما طَغى بأن لم يكن شي ء فيزعمه شيئا كما في من يرى السراب فيزعمه شيئا و هو ليس بشي ء، ثم لا يخفى أن رؤية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل مرتين، إنما يراد به أنه رآه بصورته الواقعية، كما ورد بذلك النص و التفاسير «1»، و إما بغير صورته الواقعية، كصورة «دحية» فقد رآه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرات عديدة.

[19] و لَقَدْ رَأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند سدرة المنتهى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي الآيات العظام التي كانت حول شجرة السدرة.

[20] هل اللّه و ما شاهده الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آيات اللّه، يقاس بما أنتم عاكفون عليها من الأصنام؟ أَ فَرَأَيْتُمُ

اللَّاتَ وَ الْعُزَّى و هما صنمان كان

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 243.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 267

[سورة النجم (53): الآيات 20 الى 23]

وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)

يعبدهما قريش.

[21] وَ مَناةَ الصنم الثَّالِثَةَ الْأُخْرى و لعلها أخرى في المرتبة عندهم؟

أقول: و حذف الجواب لزيادة الاستهجان، فهو كما يقال «لزيد مليون دينار» ثم يقال أرأيتم كم لعمرو من الدنانير؟ «فيما كان له ثلاثة دنانير مثلا» فإن قوله: أ رأيت، يراد به الاستهجان، و بيان عدم المقايسة بين الأمرين.

[22] ثم استهجن القرآن كلاما أخرا للمشركين، و هو قولهم أن الملائكة بنات اللّه فقال أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ سبحانه الْأُنْثى فقد كانوا يزعمون بأنهم مخصصون بالأولاد الذكور، و لا ولد ذكر اللّه تعالى، و يحتمل أن يراد أنكم تكرهون الإناث، فكيف جعلتم الأصنام الثلاثة «و كانوا يزعمون أنهم إناث» شركاء اللّه تعالى.

[23] تِلْكَ القسمة بينكم ف «لكم الذكر» و بين اللّه «و له الأنثى» إِذاً إذا كان كما زعمتم قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة، من ضاز يضيز، إذا جار.

[24] إِنْ هِيَ ما تلك الأصنام الثلاثة إِلَّا أَسْماءٌ أي تسميتها بالألوهية اسم مجرد لا حقيقة تحت هذا الاسم ف «هي» محل، أطلق، و أريد به «الحال» لأن «الاسم» حال، و «الصنم» محل سَمَّيْتُمُوها مجرد تسمية أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ من قبل، و إلا فهل الأصنام آلهة؟ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجة و برهان، و إنما هوى

أنفسهم مع تلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 268

[سورة النجم (53): الآيات 24 الى 26]

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (26)

الأصنام ثم ظنوا أنها آلهة، فلا دليل من العقل و لا من الشرع عليها إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ بأنها آلهة وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الرسول و الكتاب المطابقان للعقل و الفطرة فتركوهما و اتبعوا أهواءهم الباطلة في القول بأن الأصنام آلهة.

[25] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى استفهام إنكاري أي ليس للإنسان ما يتمناه، فهؤلاء يتمنون صحة عقيدتهم و يتمنون أن تشفع الأصنام لهم، لكن هذا التمني لا يتحقق.

[26] فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى بيده كل شي ء فهو الإله و هو الشفيع قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً «1».

[27] إنهم يرجون الشفاعة من الأصنام بينما الملائكة لا تقدر على الشفاعة إلا بعد إذن اللّه وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ فهو مع كونه ملكا، و مع كونه في السماوات قريبا من رحمة اللّه لا تُغْنِي لا تفيد شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً أي أنهم على تقدير أن يشفعوا لا تفيد شفاعتهم و «كم» لا مفهوم له، حتى يكون هناك «ملك» تغني شفاعته، و لعل الإتيان به لإفادة أنه إذا كان كثير من الملائكة كذلك، فكيف بالأصنام؟ و لا حاجة في إسقاط الأصنام

______________________________

(1) الزمر: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 269

[سورة النجم (53): الآيات 27 الى 29]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ

الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29)

عن الشفاعة القول بأن «كل الملائكة كذلك» إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع و من الناس أن يشفع له وَ يَرْضى و يراه أهلا لذلك: شافعا و مشفوعا، و الرضا و إن كان قبل الإذن إلا أن ملاحظة رؤوس الآي أورث تأخيره، [28] إِنَ الكفار الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و ذلك يلازم عدم إيمانهم بما جاء عن اللّه لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى فإنهم حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سموا كل ملك بنتا.

[29] وَ الحال ما لَهُمْ بِهِ بما يقولون مِنْ عِلْمٍ أي لا علم لهم بأن الملائكة أنثى إِنْ ما يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ فإنهم يظنون أن الملائكة بنات وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي لا يفيد مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إذ لا برهان للظن، و ما لا برهان له ليس مطابقا للواقع، فإن كل مطابق للواقع له برهان.

[30] فَأَعْرِضْ يا رسول اللّه عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا إذ لا يفيد معه التذكير! لأنه معاند وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا فكل سعيه و عمله للدنيا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 270

[سورة النجم (53): الآيات 30 الى 32]

ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

و لا يعتقد بالآخرة حتى يعمل لها، فهو منكر للتوحيد، و منكر للمعاد.

[31] ذلِكَ انحصار فكرهم في الدنيا، من دون نفوذ علمهم إلى المبدأ و لا إلى المعاد مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قدر بلوغ علمهم فهو علم ضيّق محدود منحرف، فلا تتعب نفسك يا رسول اللّه مع هؤلاء فإن اللّه يعلم حالهم و سوف يجازيهم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أنفذ علما فيعلم خصوصياتهم و كل دقائقهم وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيجازي كلا حسب عقيدته و عمله.

[32] وَ لِلَّهِ ما أي الذي فِي السَّماواتِ وَ ما أي الذي فِي الْأَرْضِ أي كل شي ء فيهما ملكا و خلقا لِيَجْزِيَ اللّه الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا و العمل يشمل عمل القلب أيضا لأن الاعتقاد عقد القلب على شي ء خاص، و «اللام» للعاقبة، لا للعلّة، مثله، مثل لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «1» وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بالمثوبة الحسنى في الدنيا و الآخرة.

[33] و من هم الذين أحسنوا؟ هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الآثام الكبيرة و التي منها الكفر و الشرك و عدم الإيمان بالرسول و بما جاء به الرسول و عدم الإيمان بالمعاد وَ الْفَواحِشَ التي إثمها يتعدى إلى

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 271

[سورة النجم (53): آية 33]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)

الآخرين، من فحش إذا تعدى عمله الآثم إلى الآخرين إِلَّا اللَّمَمَ أي الذي يلمّ بالإنسان و يرد عليه مما لا علاج من وروده غالبا، و هي الصغائر و هي الصغائر مثل كلمة نابية، أو ضحكة غير جائزة أو نظرة محرمة أو ما شابه ذلك، و الاستثناء منقطع لدفع توهم أن كل عصيان كبيرة، حيث

إنها معصية لإله عظيم إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ فيغفر للّمم قطعا، بعد أن كان يغفر لكثير من الكبائر لمن يشاء هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ حتى من أنفسكم فمن عمل صالحا يعرفه و من عمل فاسدا يعرفه إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فإن علمه شامل لزمان تكوينكم من الأرض حيث إن الإنسان تراب ثم ينقلب، نباتا، ثم ينقلب حيوانا ثم النبات و الحيوان ينقلب إلى طعام يأكله الأبوان فيصير دما ثم منيّا وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و هذه أول مرحلة إنسانية، فيعلم بكم من ذلك الحين إلى اليوم فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا يغرنكم أعمالكم الصالحة، كما يقع فيه بعض المؤمنين غير المتأدبين، فيزكي نفسه إنه صام و صلى و أنفق و فعل الخير، فإنه غرور يوجب سقوط النفس عن الرفعة عند اللّه و عند الناس هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فعلى المؤمن، لا يكون مفرّطا بعمل الفواحش، و لا مفرطا يزكي نفسه، فإن التزكية للنفس قبيح، و للّه أقبح لأنه أعلم بالإنسان من حال كونه ترابا إلى حال تقيّا، حتى من نفسه.

[34] و إذا عرفنا أحوال المتقين الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 272

[سورة النجم (53): الآيات 34 الى 37]

وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)

اللمم فلنعرف أحوال غيرهم أَ فَرَأَيْتَ في قبال ذلك المتقي الَّذِي تَوَلَّى عن الحق و أعرض عنه و إن آمن به.

[35] وَ أَعْطى مالا قَلِيلًا كما هو شأن كثير من الناس حيث يظهرون الإيمان لكنهم لا يلتزمون بموازينه، و بالأخص لا يدفعون المال

المفروض عليهم إطلاقا أو يعطون شيئا قليلا وَ أَكْدى أي قطع العطاء و أمسك يده عن الإنفاق، لغلبة حالة البخل عليه، و من طبيعة أمثال هؤلاء الناس، أنهم يلقون تبعة ذنوبهم على غيرهم، فإذا قلت له لماذا تعصي؟ قال ذنب المبلغين الذين لا يبلغون كاملا، ثم أن اللّه يغفر لي، و ما أشبه من الكلمات المتعارفة عند البخلاء و العصاة، و في التفاسير أنّ الآيات نزلت في عثمان في قصة «1»، و من المعلوم أنه من باب المصداق.

[37] أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فيعلم أن إنفاقه قد كفاه في حصول منزلة له عند اللّه، و يعلم أن غيره يتحمل إثم أعماله؟ فَهُوَ يَرى الغيب و يعلم به؟

[37] أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ألم يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى

[38] وَ بما في صحف إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى كان وفيّا بكل ما تعهد من قبل اللّه سبحانه، و «وفّى» بالتشديد مبالغة في الوفاء «و فيه تعريض أن هذا المؤمن الذي أعطى قليلا ... إلى آخره» لم يوفي بما شرط على

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 298.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 273

[سورة النجم (53): الآيات 38 الى 43]

أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى (43)

نفسه من الإطاعة في كل الأوامر.

[39] أَلَّا تَزِرُ لا تحمل وازِرَةٌ نفس حاملة وِزْرَ حمل نفس أُخْرى فكل إنسان ذنبه على نفسه، لا كما زعم هذا البخيل من أن ذنبه على غيره.

[40] وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فلم يزعم أن إعطائه القليل

كاف عن الإعطاء الذي أمر به فكما لا يؤخذ أحد بذنب الغير كذلك لا يثاب أحد بأكثر مما عمل.

[41] وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى يراه بنفسه بدار الدنيا جزاء بالمدح أو بغير ذلك، فإن الدنيا قبل الآخرة دار المكافآت «و لا يجتني الجاني من الشوك العنب».

[42] ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزي العبد سعيه الْجَزاءَ الْأَوْفى الأوفر و ذلك في الآخرة.

[43] و ليعلم الناس أن اللّه هو مبدأ الأشياء و كل الأشياء تنتهي إليه و كل الأمور بيده، و لذا يجب عليهم شكره، و طاعته، كما يجب عليهم أن يخافوا من عقابه و عذابه وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى انتهاء كل شي ء، و معنى «إلى» إلى جزائه و ثوابه و عقابه.

[44] وَ أَنَّهُ هُوَ سبحانه أَضْحَكَ وَ أَبْكى فقد خلق في الإنسان قوتهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 274

[سورة النجم (53): الآيات 44 الى 49]

وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى (48)

وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49)

كما خلق و قدر ما يسبب البكاء و الضحك، و الضحك و البكاء ليس خاصا بالإنسان بل كل شي ء له ضحك و بكاء، قال الشاعر:

إن فصل الربيع فصل جميل تضحك الأرض من بكاء السماء ذهب حيثما ذهبنا و درّ حيث درنا و فضة في الفضاء [45] وَ أَنَّهُ هُوَ سبحانه أَماتَ وَ أَحْيا حتى أنه إذا قتل الإنسان إنسانا فإن روحه بيد اللّه، و لذا لا يموت الإنسان في جهنم.

[46] وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ من كل شي ء الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى و عدم ذكر الخنثى إما لشذوذه،

أو لأنه في الحقيقة إما ذكر أو أنثى.

[47] خلقهما مِنْ نُطْفَةٍ هي الماء القليل إِذا تُمْنى تدفق في الرحم.

[48] وَ أَنَّ عَلَيْهِ سبحانه النَّشْأَةَ الإنشاء بعد الموت الْأُخْرى فكما بدأ يقدر على الإعادة.

[49] وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى الأغنياء بخلق وسائل الغنى وَ أَقْنى أعطى المال الذي يدّخر للقنية أي الإبقاء، فالمال المتحرك الموجب للغنى، و المال الثابت كلاهما من عنده تعالى.

[50] وَ أَنَّهُ هُوَ تعالى رَبُّ الشِّعْرى نجم في السماء يطلع آخر الليل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 275

[سورة النجم (53): الآيات 50 الى 55]

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55)

كان جماعة من العرب يعبدونه.

[51] وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً أي قبيلة عاد الْأُولى قوم هود عليه السّلام و هناك عاد ثانية عاد إرم ذات العماد.

[52] وَ أهلك ثَمُودَ قوم صالح فَما أَبْقى أحدا من الفريقين، حيث عصوا و عتوا و كان جزاؤهم العذاب.

[53] وَ أهلك قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قبل عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ أكثر ظلما وَ أَطْغى أكثر طغيانا فقد ورد أنهم كانوا يضربون نوحا عليه السّلام حتى يبقى ليس به حراك، فهم ظالمون لأنفسهم طاغون على غيرهم و قد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلم ينفع فيهم.

[54] وَ الْمُؤْتَفِكَةَ و هي قرى قوم لوط عليه السّلام التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت أَهْوى بها و قلّبها بعد أن رفعها.

[55] فَغَشَّاها أحاط بتلك القرى من العذاب ما غَشَّى الشي ء الذي غشاها من أصناف العذاب الذي لا يوصف.

[56] و بعد كل هذه العذابات التي

تعلم بها، مما أصاب العصاة فَبِأَيِّ آلاءِ نعم رَبِّكَ يا أيها الإنسان تَتَمارى تتشكك، أليس وجود الأنبياء نعمة؟ أليس إنزال الكتب نعمة، أليس إرشاد العقل إلى الصحيح و الباطل نعمة؟ و هل شك في هذه النعم التي من أخذ بمقتضاها سعد، و من ترك مقتضاها شقي و عذب، حتى إنك تشك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 276

[سورة النجم (53): الآيات 56 الى 59]

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)

و تعصي و تترك الأوامر.

[57] هذا القرآن نَذِيرٌ ينذركم من عذاب اللّه لمن عصي مِنَ النُّذُرِ الْأُولى من جنس الإنذارات السابقة التي بعثنا بها إلى الأمم السابقين، و من المحتمل أن يكون المراد بهذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو نذير من جنس المنذرين «الرسل» السابقين.

[58] لقد أَزِفَتِ قربت الْآزِفَةُ القيامة التي هي قريبة إلى كل من جاء إلى دار الدنيا، فإن الإنسان خلق جسمه الذي هو من التراب، قبل مئات الألوف من السنوات، و قد خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فإذا جاء إلى دار الدنيا فقد قرب موته، و إذا مات الإنسان قامت قيامته، أو المراد القيامة الحقيقية، لأن أكثر عمر الدنيا قد انقضى- كما دل على ذلك الآثار و العلم الحديث-.

[59] لَيْسَ لَها للآزفة مِنْ دُونِ اللَّهِ أحد غير اللّه كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها و الإتيان بها، فإن القيامة شي ء مخفي، فإذا أقامها اللّه سبحانه فقد كشفها، و المراد الكناية عن أن القيامة بيد اللّه تعالى.

[60] إذن فاللازم على هؤلاء من خوف عقاب الدنيا- كما في الآيات السابقة- و من خوف عقاب الآخرة-

كما في هاتين الآيتين- أن يؤمنوا و يخافوا و يعملوا صالحا، و لكنهم سادرون في غيّهم أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ حديث التوحيد و النبوة و المعاد مما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تَعْجَبُونَ و قد كان اللازم أن لا تعجبوا، لأنه قد قامت الحجة عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 277

[سورة النجم (53): الآيات 60 الى 62]

وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62)

[61] وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لا تَبْكُونَ ندما و حزنا على ما سلف منكم من الكفر و الآثام، و حزنا على ما يأتي من عقاب الدنيا و الآخرة.

[62] وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون و هذه الاستفهامات استنكارية.

[63] فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا اخضعوا له بالسجود و العبادة إن كنتم أردتم الخلاص و النجاة، و هذه السجدة واجبة، و لعله فلسفة وجوبها كوجوب السجدات الثلاث الأخر و استحباب غيرها من السجدات تلوين الطاعة، كما لوّن سائر الطاعات من صلاة و صيام و حج و اعتكاف فكل واحد بشكل، و لكل واحد أجزاء بأشكال، و ذلك طبقا للكون الذي هو أشكال و ألوان و اللّه العالم بحقائق أوامره و أحكامه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 278

54 سورة القمر مكية/ آياتها (56)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «القمر» و هي كسائر السور المكية تتعرض لقضايا العقيدة بأصولها الثلاثة. و حيث تقدم في آخر سورة النجم «أزفت الآزفة» ابتدأت هذه السورة بذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم اللّه ليكون اسمه الكريم عونا لنا على الإتمام، إذ التوفيق للإتمام لا يكون إلا بيده سبحانه، و هو الرحمن الذي يرحمنا بالتوفيق الرحيم الذي يرحمنا مرة أخرى بإدامة التوفيق.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 279

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

[2] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ القيامة، و فيها احتمالان كما تقدم في آخر السورة السابقة في «أزفت الآزفة» أو المراد أنه ليس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا الساعة، فقد انتهت نبوات السماء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ الذي هو من علامات اقتراب الساعة، و قد كان ذلك معجزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصة طويلة، و قد نقل كتاب «الإسلام يتحدى» ذكر بعض التواريخ الغابرة رؤية الناس لهذا الانشقاق، كما ذكرت بعض الجرائد الكويتية- بعد نزول الغربيين على القمر- رؤيتهم مكان الانشقاق كأنه صار نصفين ثم التحم- مع أنهم مسيحيون لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-.

[3] وَ إِنْ يَرَوْا هؤلاء الكفار المعاندون آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُعْرِضُوا عنها و لا يقبلونها وَ يَقُولُوا إن ما يأتي به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الآيات سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فهو يأتي بالسحر على سبيل الاستمرار.

[4] وَ كَذَّبُوا بالحق لما جاءهم وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما قرر عليهم الهوى و الميل النفساني، لا ما قرره عليهم عقلهم وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ و كل أمر لا بد و أن ينتهي إلى محل استقراره، و هذا تهديد لهم، أي أن تكذيبهم

لا بد و أن ينتهي إلى عاقبة سيئة لهم.

[5] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ أي الأخبار باللّه و بالآخرة، و بجزاء المحسن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 280

[سورة القمر (54): الآيات 5 الى 8]

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

حسنا و المسي ء سيئا ما فِيهِ كفاية و مُزْدَجَرٌ ازدجار، مصدر ميمي، فلو أنهم كانوا من أهل العقل و الحكمة لكفاهم ما ذكرنا لهم من الوعيد ازدجارا.

[6] ذلك الذي قلناه لهم من الأنباء حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بلغتهم، و قد كانت حكمة بوضع الشي ء في موضعه و لكن فَما تُغْنِ ما تفيد النُّذُرُ الإنذارات، بالنسبة إلى من يتعامى عنها.

[7] فَتَوَلَ أعرض يا رسول اللّه عَنْهُمْ من بعد أن أبلغت و أنذرت، و لم يقبلوا، لأن الإنذار لا ينفع فيهم فما أهول ما ينتظرهم من العذاب في يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ الداعي الذي يدعوهم عند البعث، ليقوموا للحساب إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ منكر فظيع، و إنما كان منكرا، لأن الإنسان لم يألفه و لم يشاهده.

[8] خُشَّعاً جمع خاشع بمعنى الذليل أَبْصارُهُمْ فإن خشوع النفس يظهر من خشوع العين يَخْرُجُونَ في أثر النداء مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث، بمعنى القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة و التموّج و عدم النظام و انتشارهم في كل مكان.

[9] مُهْطِعِينَ مسرعين إِلَى الدَّاعِ إلى الذي يدعوهم إلى الحساب-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 281

[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 13]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ

بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13)

و يوم ذلك كلهم مطيعون- يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي عسير صعب.

[10] و هؤلاء الكفار بالإضافة إلى أنه ينتظرهم عذاب الآخرة، كذلك مثلهم مثل الأقوام السابقة الذين كفروا بالأنبياء و بما جاءوا به فأخذهم عذاب الدنيا فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل قومك يا رسول اللّه قَوْمُ نُوحٍ فقد بغوا و طغوا و كذبوا عَبْدَنا نوحا عليه السّلام وَ قالُوا إنه مَجْنُونٌ كما يقول الكفار بالنسبة لك يا رسول اللّه وَ ازْدُجِرَ زجر نوح عليه السّلام عن التبليغ بأنواع الأذية، لكن نوحا عليه السّلام استقام و لم ينصرف عن تبليغ الرسالة.

[11] فَدَعا نوح عليه السّلام رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ قد غلب علي الكفار بقوتهم المادية فَانْتَصِرْ فانصرني يا رب عليهم.

[12] و قد استجبنا دعاءه فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ مواضع نزول المطر بِماءٍ مُنْهَمِرٍ انهمر و تساقط بكثرة، كأنه أفواه القرب.

[13] وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً حتى كأنها لها عيون فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء و ماء الأرض عَلى أَمْرٍ هو إغراق قوم نوح عليه السّلام قَدْ قُدِرَ قدّره اللّه سبحانه و حكم به.

[14] وَ حَمَلْناهُ أركبنا نوحا عليه السّلام و من معه من المؤمنين عَلى سفينة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 282

[سورة القمر (54): الآيات 14 الى 18]

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (18)

ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة، جمع «لوح» وَ دُسُرٍ المسامير، فإنه جمع «دسار» بمعنى المسمار.

[15] تَجْرِي

السفينة بالمياه المحيطة بالأرض بِأَعْيُنِنا تحت نظرنا و رعايتنا، و الجمع باعتبار أن كل حركة تحتاج إلى عين ترعاها من الغرق و الهلاك، و قد فعلنا ذلك بنوح عليه السّلام جَزاءً حسنا منا لِمَنْ كانَ كُفِرَ لنوح الذي كفر به قومه.

[16] وَ لَقَدْ تَرَكْناها أبقينا خبر نوح و قومه آيَةً علامة يعتبر بها العقلاء فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هل هناك من يعتبر بالقصة؟ المبلغ يعتبر به فلا يهمه تكذيب الناس، و الناس يعتبرون فلا يكذبون المبلغين لأن عاقبتهم تكون سيئة.

[17] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي للمكذبين وَ نُذُرِ إنذاراتي لهم، ألم تكن عاقبة المكذبين العذاب كما وعدتهم؟

[18] و هل يريدون أوضح بيانا من هذا الذي ذكرناه و خوفناهم به؟ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا سهّلنا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ليتذكر به الناس فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من يتذكر و يتعظ؟ استفهام تحريضي، و «مدّكر» من «ادّكر» أصله «تذكّر».

[19] و بعد قوم نوح عليه السّلام كَذَّبَتْ عادٌ قبيلة عاد و هم قوم هود عليه السّلام، فعذبناهم بتكذيبهم فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ أليس في تكرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 283

[سورة القمر (54): الآيات 19 الى 22]

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

العذاب لكل قوم كذبوا، وعظا لكفار قريش؟ فليس لهم أن يقولوا أن عذاب قوم نوح كان من القضايا الاتفاقية.

[20] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ على عاد رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة البرد فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ استمر العذاب عليهم في ذلك اليوم حتى أهلكهم.

[21] تَنْزِعُ تقلع تلك الريح النَّاسَ قوم عاد، من أماكنهم في الغرف و غيرها و

كانت تفتح الأبواب و تخرج الناس إلى الساحات و ترفعهم عن الأرض ثم تضربهم بها، و كانت تقلع رؤوسهم عن أجسادهم فبقيت أجسادهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أصول نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقلع عن مغارسه، و لعلهم كانوا يلوون على أنفسهم من شدة الألم و لأن يجمعوا أنفسهم في قبال الريح، و لذا شبهوا بأعجاز النخل.

[22] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ لعل وجه التكرار لأجل أن مثل هذا العذاب لا يمكن أن يحمل على أنه طبيعي، و إن أمكن ذلك في الغرق.

[23] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فلم نجعله كالكتب الفلسفية التي لا يفهمها الإنسان إلا بصعوبة بالغة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ من يتذكر فلا يعصي حتى لا يعذب كما عذب الأمم السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 284

[سورة القمر (54): الآيات 23 الى 27]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (24) أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27)

[24] كَذَّبَتْ قبيلة ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام بِالنُّذُرِ جمع نذير أي الأنبياء إذ تكذيب نبي واحد هو تكذيب لكل الأنبياء.

[25] فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا من جنسنا أو من قبيلتنا، لأن صالح كان من قبيلتهم واحِداً لا تبع له نَتَّبِعُهُ و نقبل كلامه؟ هذا لا يكون إِنَّا إِذاً إذا اتبعنا بشرا واحدا لَفِي ضَلالٍ عن طريقة آبائنا وَ سُعُرٍ جمع سعير، أي نحرق بناره، كما يقال فلان أحرق نفسه أي سبّب ضياع نفسه و ماله و مستقبله، إنهم ما كانوا يقتنعون بالبرهان، بل كانوا يريدون أن يكون الهادي لهم من جنس أعلى كالملائكة لا

«منا» أو لهم جماعة و سطوة و شوكة مثل أن يكون ملكا أو رئيس عشيرة.

[26] أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ الكتاب و الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ فلما ذا لم يلق الوحي إلي من هو أكثر منه مالا أو شخصية؟ بَلْ هُوَ صالح عليه السّلام كَذَّابٌ كثير الكذب في نسبة الوحي إلى نفسه أَشِرٌ حمله بطره على الترفع علينا بادعائه النبوة، فإن المترفعين لما يعتادون الإشارة إلى الناس بالاستهزاء و السوء، اشتق من مادة الإشارة، الأشر بهذا المعنى.

[27] سَيَعْلَمُونَ غَداً حين ينزل عليهم العذاب مَنِ هو الْكَذَّابُ الْأَشِرُ هل هم الذين أكثروا من الكذب أم صالح النبي عليه السّلام؟.

[28] إِنَّا أي اللّه سبحانه مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها من الجبل و باعثوها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 285

[سورة القمر (54): الآيات 28 الى 31]

وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

إليهم معجزة لصالح عليه السّلام فِتْنَةً اختبارا و امتحانا لَهُمْ هل يؤمنون بالإعجاز أم لا؟ فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم و راقبهم هل يؤمنون أم لا؟

وَ اصْطَبِرْ عليهم بالاستمرار في التبليغ و عدم الدعاء عليهم مع إيذائهم لك.

[29] وَ نَبِّئْهُمْ أخبرهم أَنَّ الْماءَ الذي كان يجري نهرا عندهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم للناقة يوم و لهم يوم، فإذا شربت الناقة في يومها كل ماء النهر أعطتهم عوضه حليبا كُلُّ شِرْبٍ شرب الحصة من الماء مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه و لا حق لأحدهما في الماء في يوم الآخر.

[30] فَنادَوْا ثمود صاحِبَهُمْ و هو قدار الذي كان من شرارهم فَتَعاطى أخذ الناقة، و لعل باب التفاعل من جهة أن قدار و جماعة منهم أخذوا

زمام الناقة حتى ألجؤوها إلى مكان يمكن عقرها فَعَقَرَ قدار الناقة أي جرحها و قتلها.

[31] فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ؟ هل تركت عذابهم لما خالفوا و كذبوا أم أخذتهم بالعذاب؟.

[32] إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبرائيل عليه السّلام فانخلعت بذلك قلوبهم فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الماشية في الشتاء في حظيرته، و لعل وجه التشبيه، أنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 286

[سورة القمر (54): الآيات 32 الى 36]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)

تقطعت أيديهم و أرجلهم و تكوّمت الأبدان و الأيدي و الأرجل في مكان، كما يتكوّم الهشيم المتكسر المجتمع.

[33] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ لا يقال في القرآن متشابهات، لأنه يقال عامة القرآن ميسرة و بعض الآيات المتشابهات لا يضر بالعموم من حيث العموم.

[34] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ فلم يقبلوا إنذار لوط عليه السّلام و تكذيب لوط تكذيب لسائر الأنبياء.

[35] إِنَّا جزاء لتكذيبهم أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا ترميهم بالحجارة يقال حصبه أي رماه بالحجارة إِلَّا آلَ لُوطٍ لوط و أهل بيته المؤمنين «باستثناء زوجته فإنها أصابها ما أصاب القوم لأنها كانت كافرة مثلهم» نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ في آخر الليل.

[36] و إنما نجيناهم نِعْمَةً لهم مِنْ عِنْدِنا إذ كان من الممكن إماتتهم في ذلك الحال، بدون عذاب، كما يموت كل خير في زمان ما كَذلِكَ هكذا، كما جزينا آل لوط عليه السّلام نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا عليه، بالإيمان و الطاعة، و المراد الشكر القلبي

و الشكر العملي.

[37] و قد قدم سبحانه عذابهم على ذكر بلاغ لوط لهم، لبيان أن العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 287

[سورة القمر (54): الآيات 37 الى 39]

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39)

يأخذ المعتدين بسرعة حتى كأن بقاءهم في الحياة لمحة عين وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السّلام بَطْشَتَنا أخذنا الشديد بالعذاب لمن خالف أوامرنا فَتَمارَوْا فتشككوا من المماراة أي المجادلة بِالنُّذُرِ و أخذوا يجادلون بالباطل حول صدق لوط.

[38] وَ لم يقتنعوا بتكذيبه و الاستمرار في فحشائهم، بل أضافوا على ذلك أنهم لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ المراودة، الرواح و المجي ء، فقد جاء آل لوط ضيوف، فأراد قومه أن يلوطوا بهم، و كان أولئك الضيوف هم الملائكة فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها و سويناها بسائر الوجه حتى عميت عيونهم و شوهت خلقتهم فقلنا لهم فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ أي ذوقوا عاقبة إنذاري لكم، أو المراد كأن لسان الحال يقول لهم «ذوقوا ...».

[39] وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ دخل العذاب عليهم في الصباح الباكر، و البكرة أول الصبح، و دخول العذاب في ذلك الوقت أنكر، لأنهم يرجون خير النهار فإذا بهم يجدون انهدام الآمال بالعذاب مُسْتَقِرٌّ فلم يكن عذابا عابرا، بل عذاب استقر بهم حتى أهلكهم.

[40] فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ و فائدة التكرار تكرار التذكير و من الواضح أنه قد يؤثر التكرار ما لا يؤثر غيره، و ذلك لاستيعاب الذهن له، و لذا إذا أراد الإنسان أن يحفظ شيئا كرره مرات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 288

[سورة القمر (54): الآيات 40 الى 43]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ

(40) وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)

[41] وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ لا يقال غير العرب لا يستفيدون من القرآن، لأنه يقال، قصد الإسلام توحيد لغة الناس، لأجل تفاهم عام و لأجل إرساء دعائم حكومة واحدة- بما فيها من الفوائد الجمة- و مثل ذلك يوجب يسر القرآن للكل.

[42] وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ آل فلان يستعمل له و لآله، أي فرعون و آله النُّذُرُ المنذرون مثل موسى و هارون و مؤمن آل فرعون، و لعل أنبياء آخرين أيضا كانوا، لما ورد في الأحاديث أن موسى عليه السّلام حج مع سبعين نبيا.

[43] كَذَّبُوا بِآياتِنا الكثيرة كُلِّها كاليد و العصا و القمل و الضفادع و الدم و غيرها، و لعل المجي ء بدون «الواو» لإفادة فورية التكذيب بلا تروّ فَأَخَذْناهُمْ بالغرق أَخْذَ عَزِيزٍ له العزة و الغلبة مُقْتَدِرٍ له القدرة، لأن القدرة قد تكون مع الذلة عند الناس، و قد تكون مع العزة.

[44] أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر قريش خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ من أولئك الكفار للأمم السابقة حتى نترككم مع تكذيبكم، و قد سمعتم كيف أخذنا أولئك الكفار؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ في الكتب، بأن كنا أعطيناكم عهدا في كتب الأنبياء أن لا نهلككم؟ و إذ لا ذاك، و لا هذا، فاللازم أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 289

[سورة القمر (54): الآيات 44 الى 48]

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ

فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)

تخافوا من بطشنا و أن نفعل بكم ما فعلنا بتلك الأمم الكافرة.

[45] أَمْ يَقُولُونَ هؤلاء الكفار نَحْنُ جَمِيعٌ مجتمع مُنْتَصِرٌ ننتصر و نتغلب على من أراد بنا هلاكا؟ و هل يمكن التغلب على إرادة اللّه؟.

[46] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ سيهزمون إذا جاءهم عذاب اللّه و لا يفيدهم جمعهم وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ فلا يقفون وجها لوجه أمام العذاب، بل يعطون العذاب قفاهم و يفرون، فلا يفيدهم جمعهم.

[47] هذا إذا أرسلنا عليهم العذاب في الدنيا بَلِ السَّاعَةُ القيامة مَوْعِدُهُمْ موعد عقوبتهم الحقيقية و عذابهم الأصلي وَ السَّاعَةُ أَدْهى أشد عذابا لهم من عذاب الدنيا وَ أَمَرُّ أكثر مرارة في مذاقهم، و الداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدي الإنسان لدوائه.

[48] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ بالإضافة إلى عذابهم في الدنيا و الآخرة، هم فِي ضَلالٍ عن الحق، و هذا ما يولد لهم نوعا من المشاكل المادية، لأن غير طريق الحق فيه مشاكل و أتعاب وَ سُعُرٍ جمع سعير، لأنهم يستعرون نفسيا بما يرتطمون فيه من المشاكل فهم في قلق نفسي و اضطراب و عدم سكينة، فإن الاطمئنان النفسي للمؤمنين فقط، أو المراد ضلال الدنيا و سعير الآخرة.

[49] يَوْمَ بيان لموعدهم في الساعة، أو ما بينه بقوله «سعر»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 290

[سورة القمر (54): الآيات 49 الى 51]

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)

يُسْحَبُونَ يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ فإنهم لما لم تخضع وجوههم للحق، جوزوا بإذلال وجوههم في النار، و يقال لهم زيادة في إهانتهم من جهة الشماتة ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ مسّه، أي أصابه، و سقر علم على جهنم.

[50]

و حيث إن الكفار كانوا يقولون: ائتنا بعذاب اللّه إن كنت صادقا، أجابهم القرآن إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ أي جعلناه بِقَدَرٍ بتقدير خاص، فيوم القيامة، و عذاب هؤلاء، يأتي في الوقت المقدر لهما، و لا نقدم العذاب حسب طلبهم فكما أن كل بذرة تعطي ثمرا، فللثمرة بين زرعها و بين إثمارها زمان مقدر، كذلك كل عمل إلى أن يعطي ثمره و جزاءه له وقت مقدر خاص.

[51] لكن إذا حان الوقت المقدر، فلا تراجع فيه و لا بطء فيه وَ ما أَمْرُنا بعذابهم أو بغير ذلك إِلَّا واحِدَةٌ فلا حاجة للتكرار في الأمر، كما لا تراجع منه إذا أمرنا و هو كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ حركة البصر، في السرعة فلا يحتاج إلى مقدمات فيجب أن يعرف هؤلاء الكفار أنه إذا حان عذابهم لا تراجع فيه، كما أنه لا يأخذهم تدريجيا ليفكروا في الخلاص بل يأخذهم بغتة.

[52] وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم من الأمم، و قد عرفتم كيف لم نتراجع حين أردنا عذابهم و كيف لم نتدرج في عذابهم بل أخذناهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 291

[سورة القمر (54): الآيات 52 الى 55]

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

دفعة واحدة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مدّكر يتذكر، حتى يرجع عن غيه؟.

[53] و لم ننس حتى أصغر شي ء فعلوه فعاقبناهم بكل ما ارتكبوا من جرائم وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ مكتوب فِي الزُّبُرِ كتبه الحفظة.

[54] وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من أعمالهم، كما هو كذلك في كل أعمال البشر مُسْتَطَرٌ مسطور مكتوب.

[55] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ جمع نهر بسكون

الهاء، و لعل المراد انهم يسبحون في أنهار الجنة، و الظرف مجاز.

[56] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان لا كذب فيه، بخلاف الدنيا، فإن مكان الدنيا باعتبار أن ظاهره الراحة و واقعه التعب، كذب عِنْدَ مَلِيكٍ ملك، و مليك أكثر دلالة على استقرار ملكه، لأنه صفة مشبهة كشريف مُقْتَدِرٍ له القدرة على تنفيذ ما وعد من عذاب العاصين و نعيم المطيعين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 292

55 سورة الرحمن مكية أو مدنية/ آياتها (79)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الرحمن» و قد اختلفوا في كونها مكية أو مدنية لكنها أشبه بالسور المدنية لمعالجتها قضايا العقيدة، لا الشريعة. و لما ختمت سورة القمر بذكر اللّه سبحانه نعمه للإنسان في الآخرة، ابتدأت هذه السورة بذكره سبحانه، و نعمه للإنسان في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نقرن أعمالنا بذكر أسمه تعالى، شعارا لنا بأنا من أتباع اللّه و المطيعين لأوامره، كما نرجو أن يرحمنا في مستقبل دنيانا و آخرتنا، كما في ماضي أمرنا بالخلق أولا، و إعطائنا سائر النعم ثانيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 293

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (7)

[2] الرَّحْمنُ لأنه رحمن «فإن تعليق الأمر على الصفة يفيد العلية».

[3] عَلَّمَ الْقُرْآنَ إذ لو لا رحمه لم يعلم القرآن و ترك البشر في دياجير الظلام.

[4] خَلَقَ الْإِنْسانَ أخّر الخلق، عن التعليم مع أنه مقدم على التعليم زمانا، للدلالة على جلالة العلم حتى أنه لو لا العلم لكان خلق الإنسان قليل الفائدة.

[5] عَلَّمَهُ الْبَيانَ بأن يتكلم و يظهر ما في ضميره.

[6] و

إذ ذكر القرآن الإنسان بالنعم التي تدل على علم اللّه و قدرته و دقة حكمه، جاء الدور للتنبيه على أنه لا مكان للعبثية و الاعتباط في الخلق الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قد خلقا و يجريان بحساب معلوم مقدر بلا زيادة و لا نقيصة.

[7] وَ النَّجْمُ الموجود في السماء، و الذي ينجم أي يظهر في الأفق وَ الشَّجَرُ الذي ينجم أي يظهر من الأرض يَسْجُدانِ خاضعان للّه سبحانه، و يسجد ليس بمعنى المستقبل، بل بمعنى الحال أي دائما، أو المراد سجودهما، إذ لكل شي ء معرفة باللّه و نوع خضوع له، و في جملة من التفاسير، إن المراد بالنجم النبات الذي لا ساق له، في مقابل الشجر الذي له ساق.

[8] وَ السَّماءَ رَفَعَها اللّه سبحانه، سواء أريد به المدارات أو الجزئيات،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 294

[سورة الرحمن (55): الآيات 8 الى 12]

أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12)

أو الأنجم وَ وَضَعَ أي جعل و إنما أتى بهذا اللفظ، ليجعل المقابلة بين الرفع و الوضع الْمِيزانَ ليوفي كل ذي حق حقه، ففي القضايا التكوينية عدل و حساب دقيق، و كذلك جعل سبحانه للتعامل بين الناس عدلا و حسابا.

[9] و إنما وضع الميزان ل- أَلَّا تَطْغَوْا و تجوروا فِي الْمِيزانِ في وزن الأشياء إذ لو لم يكن الميزان الذي به توزن الأشياء لحصل الجور في وزن الأشياء.

[10] لكن قسما من الناس أيضا يجورون مع وجود الميزان، بالاحتيال و التطفيف و لذا قال اللّه سبحانه وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَ لا تُخْسِرُوا

الْمِيزانَ أي لا تنقصوه، و المراد ما في الميزان بعلاقة الحال و المحل.

[11] وَ إذا تقدم ذكر السماء فلنذكر ما يقابل نعمة السماء من نعمة الأرض فإن الْأَرْضَ وَضَعَها اللّه لِلْأَنامِ لفائدتهم أحياء و أمواتا.

[12] فِيها فاكِهَةٌ إما الثمار أو كل ما يتفكه به وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ الكم وعاء التمر، و «ذات» باعتبار جنس النخل.

[13] وَ الْحَبُ كالحنطة و الشعير ذُو الْعَصْفِ ورق الزرع، سمي به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 295

[سورة الرحمن (55): الآيات 13 الى 17]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)

لأنه يعصف به أي يتحرك، و منه «العاصفة» بمعنى الريح الشديدة وَ الرَّيْحانُ ما يستشم به من الأوراد و نحوها.

[14] فَبِأَيِّ آلاءِ جمع «إلى» بمعنى النعمة رَبِّكُما أيها الجن و الإنس، بقرينة «للأنام» و «أيها الثقلان» تُكَذِّبانِ فإن تكذيبهم برب النعمة و إنكارهم له، كفران للنعمة، و تكذيب لربط النعمة برب النعمة، و تكرار التذكير بهذه الآية «فَبِأَيِّ آلاءِ ...» في مقابل كثرة تكذيبهم برب النعمة.

[15] خَلَقَ اللّه الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ الطين اليابس الذي له صلصلة، أي صوت كَالْفَخَّارِ الخزف فإن اللّه جعل التراب طينا و لما بقي مدة صار كالحمإ المسنون، ثم يبس و صار صلصالا، كما في آيات متعددة.

[16] وَ خَلَقَ الْجَانَ أبا الجن، أو كل جني، فكما أن أصل كل فرد منا التراب، كذلك أصل كل جني النار مِنْ مارِجٍ صاف من الدخان مِنْ نارٍ أي نار مارجة، و يسمى مارجا من مرج بمعنى اضطرب.

[17] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبون بنعمة الخلق؟

و من خلقكم إذن؟.

[18] اللّه هو رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الصيف و مشرق الشتاء وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 296

[سورة الرحمن (55): الآيات 18 الى 23]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)

مغربهما.

[19] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و هل هناك رب آخر جعل المشرق و المغرب؟ و من هو إذن؟

[20] مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلط بين بحر عذب و بحر مالح يَلْتَقِيانِ فإن تحت الأرض قطعة من الماء المالح في البحار، و العذب في العيون و المخازن الخلقية، و هما متجاوران، و هذا في بطن ذاك و بالعكس.

[21] بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز لا يَبْغِيانِ فلا العذب يدخل في المالح، و لا العكس، و ذلك لقانون خلقه اللّه في المائين، مما لا يقبل أحدهما الاختلاط بالآخر، و إنما كل ماء يجذب إلى نفسه أجزاء ما من جنسه، و قد ذكروا تفصيل ذلك في علم الفيزياء.

[22] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل خلق المائين غير اللّه؟ و هل جعل هذا القانون فيهما غير اللّه؟

[23] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ الدر الذي في الصدف وَ الْمَرْجانُ شجرة تنبت تحت الماء.

[24] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل خلق اللؤلؤ و المرجان من غيره تعالى؟ و من هو إذا؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 297

[سورة الرحمن (55): الآيات 24 الى 28]

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)

[25] وَ لَهُ سبحانه الْجَوارِ جمع جارية أي السفينة،

و كونها له لأنه خلق مواردها، و وهب الإنسان عقلا لصنعها و جعل في الماء قانونا «كشفه أرخميدس» لأجل أن لا تغرق في الماء الْمُنْشَآتُ التي أنشأها و أوجدها الإنسان بفكر وهبه اللّه له فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ جمع علم و هو الجبل الطويل، فكيف أنها لا تغرق في الماء؟.

[26] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل خلق المواد، و إعطاء الإنسان قدرة الإنشاء، أو جعل قانون أرخميدس في الماء، لغير اللّه؟، و من يجرأ أن يقول ذلك؟

[27] هكذا أنشأناكم، و هيأنا مصالحكم، ثم بعد ذلك كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض فانٍ يفنى و يهلك.

[28] وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذات ربك، و الإنسان يقال له وجه، فيقال «نحتاج إلى وجوه جديدة» أو «فلان وجه كريم» و ذلك، لأنه محل التوجه، فيطلق على الكل من باب إطلاق الجزء على الكل، كما ذكروه في أقسام المجاز ذُو الْجَلالِ فهو أجل من أن يفنى وَ الْإِكْرامِ الذي أكرم بالخلق ثم يكرم بالإعادة. و الأول: صفة جلال. و الثاني: صفة جمال.

[29] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل تكذبون بأن اللّه يفني زيدا و عمروا و بكرا؟ و كل واحد من فناءاته نعمة، نعمة على المؤمن لأنه ينجيه إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 298

[سورة الرحمن (55): الآيات 29 الى 30]

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)

دار كرامته، و على غير المؤمن لأنه لا يزداد عصيانا ببقائه في دار الدنيا.

[30] فهو الخالق، و هو مهئ كل نعمة، و هو المغني، ثم هو المسؤول لكل حاجة، في كل الكون يَسْئَلُهُ يطلب الحوائج منه مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و غيرهم وَ

الْأَرْضِ من الإنسان و الجن و غيرهما، و ليس اللّه كالإنسان الذي يجعل القانون ثم لا يغيره و لا يبدله، فلا شأن له في التصرف بعد وضعه القانون بل كُلَّ يَوْمٍ هُوَ سبحانه فِي شَأْنٍ فإذا قدر الفقر ثم سأله إنسان أن يغنيه أغناه، و هكذا، فهو يتصرف في الكون في كل آن، لا يقال ما هي الحاجة إلى ذلك و قد كان بقدرته سبحانه أن يكون كصاحب معمل يشغل معمله لحظة، ثم يتركه طيلة حركته، فيخلق اللّه الكون لحظة، ثم لا يعمل شيئا؟ لأنه يقال المحال لا يقع تحت قدرة اللّه تعالى فإن الأشياء عدم بدون استمرار عناية اللّه بها مثل أن النور عدم بدون إفاضة الشمس دائما له، و مثال المعمل غير صحيح، لأن صاحب المعمل لا يأتي إلا بالمعدّ أي بحركة أعضائه و جوارحه في اللحظة الأولى أما دوران المعمل فهو حسب قانون جعله اللّه في الكون فاللّه قائم على دوران المعمل لا إنه يدوره بنفسه كما أن من يضغط على جهاز الكهرباء أتى بالمعدّ و انتهى فالإنارة المستمرة إنما هي حسب قانون اللّه في جريان تيار الكهرباء، و هذا بحث طويل مربوط بالفلسفة.

[31] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس اللّه يستمر في إعطاء الكون الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 299

[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 33]

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)

و البقاء الجديد؟ و أليس كل ذلك آلاء و نعما.

[32] سَنَفْرُغُ لَكُمْ سنتجرد عن شؤون الدنيا لأجل حسابكم يوم القيامة- إذ لا دنيا حينئذ- أَيُّهَ الثَّقَلانِ

الجن و الإنس، و الظاهر أنه تهديد، و كناية على أنه لا عمل إلا حسابكم، فيكون الحساب دقيقا جدا، فهو مثل قول الرجل لمن يريد تهديده، سأفرغ لك، أي لا يكون لي شغل إلا الإيقاع بك.

[33] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بآلاء اللّه حتى لا تقعوا في العذاب يوم القيامة و أهوالها.

[34] إن ذلك التفرغ لشأنكم إنما يكون في يوم لا مفر لأحد من سلطان اللّه، فيقال للثقلين يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يا أيتها الجماعة إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أن تهربوا من ثقب الكون مِنْ أَقْطارِ جمع قطر بمعنى الناحية السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأن أقطارها في ذلك اليوم مسدودة فَانْفُذُوا و اهربوا لكن هيهات أن تتمكنوا من ذلك لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون من النفوذ و الهرب إِلَّا بِسُلْطانٍ بحجة واضحة تأتون بها على أنكم عملتم في الدنيا حسنا، فيعطى لكم جواز التخلص من الحساب إلى سعة الجنة.

أقول: ربما فسر هذه الآية بعض العلماء بعدم إمكان الذهاب إلى أجواء السماء و أعماق الأرض إلا بسلطان العلم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 349

[سورة الرحمن (55): الآيات 34 الى 38]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38)

[35] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فكما أن الدنيا نعمة، كذلك الحساب نعمة، فإن مثله مثل الامتحان الذي يعطي كل ذي حق حقه، فهل تكذبان بنعم الحساب التي توجب وصول كل ذي حق إلى حقه؟

[36] في ذلك اليوم يُرْسَلُ عَلَيْكُما أيها الجن و الإنس شُواظٌ اللهب الخالص، أو

ذرأت النار المتطايرة مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ مذاب حتى يتأذى بهما الكفرة و العصاة فَلا تَنْتَصِرانِ لا أحد ينصركم من بأس اللّه، فآمنوا و اعملوا حتى لا يصيبكم مثل هذا العذاب.

[37] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بالآلاء حتى لا يشملكم مثل هذا العذاب.

[38] فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بأن كان في نظر الناظر كأن فيها خلل و فرج، كما أن يوم الحساب ينظر الناس إلى السماء كأن فيها فرج من أثر وجود الغيم في بعضها و عدم وجوده في بعضها فَكانَتْ السماء وَرْدَةً يظهر في فرجها أثار العذاب الأحمر، لأن النار حمراء كَالدِّهانِ كالدهن أي عذاب سيال كالدهن أحمر كالنار، و جواب «إذا» لا يسأل، كما يأتي.

[39] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبا حتى لا تبتليا بأهوال هذا اليوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 301

[سورة الرحمن (55): الآيات 39 الى 42]

فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42)

[40] فَيَوْمَئِذٍ تكرار لقوله سبحانه «فإذا» للتأكيد لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ عن ذنب أحد، إلا نفسه، و جي ء بضمير مفرد، لإفادة أن كل إنسان هو المسؤول عن نفسه فلا يتوهم أنه يمكنه الفرار و إلقاء الأجوبة على عاتق الغير، كما أن الكبراء في الدنيا يفعلون كذلك، يلقون أجوبة الأسئلة المحرجة على عاتق غيرهم إِنْسٌ وَ لا جَانٌ فكل إنس يجيب عن نفسه و كل جني يجيب عن نفسه.

[41] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبان؟ و تخلّفان هذه المشكلة التي لا مفر منها وراء ظهوركم.

[42] إنه بالإضافة إلى أنهم يسألون في موطن من مواطن القيامة عن أعمالهم، إنهم

يعرفون من ألوانهم يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و وجوههم السود و أجسامهم الزرق، فإن أجسامهم تكون كجسم من لفحه برد شديد، و كآبتهم الظاهرة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ «1» «زرقاء» وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «2» و إنما لم يذكر الصالحون، لأن المقام لتهديد الكفار و العصاة فَيُؤْخَذُ كل مجرم بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ ظاهر الآية أنهم يجمع الملائكة بين ناصيتهم و أقدامهم لإلقائهم في جهنم.

[43] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا حتى لا تقعوا في أمثال هذا العذاب الجسمي و الإهانة النفسية.

______________________________

(1) آل عمران: 107.

(2) القيامة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 302

[سورة الرحمن (55): الآيات 43 الى 47]

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47)

[44] و يقال لهم حينذاك هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كان يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ في دار الدنيا فكانوا يقولون لا جنة و لا نار، أرأيتم كيف وصلتم إليها، و لم ينفعكم تكذيبكم بها في الخلاص منها.

[45] و المجرمون في حركة دائمة فيها بين شدة العذاب و العطش و بين شرب الماء الذي هو في غاية الحرارة يَطُوفُونَ المجرمون، و الطواف هو الذهاب و المجي ء بَيْنَها بين نيرانها وَ بَيْنَ ماء حَمِيمٍ حار آنٍ من شدة الحرارة قد انتهى حره إلى آخر درجة.

[46] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل لكم طاقة بهذا العذاب حتى تكفروا، و تبتلوا به؟.

[47] هذا حال المجرمين و المكذبين وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ موقف ربه، أي يوم الحساب و إضافة «مقام» إلى «الرب» لبيان اختصاص الحكم هناك للّه سبحانه، لا إن المراد «قيام اللّه»

كما ربما توهم، أي خاف اللّه في الدنيا فآمن و عمل صالحا جَنَّتانِ جنة لجزاء عمله، و أخرى زيادة و تفضلا، كما قال تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «1» و قوله كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ «2».

[48] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا بالآلاء حتى تنالوا هذا

______________________________

(1) يونس: 27.

(2) الحديد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 303

[سورة الرحمن (55): الآيات 48 الى 54]

ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)

الثواب العظيم.

[49] ذَواتا أَفْنانٍ كل جنة ذات ألوان من النعيم و الثمار و الحور و القصور.

[50] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لا تكذبوا حتى تنالوا هذا النعيم ذا الأفنان.

[51] فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ في كل جنة عين، لها صفاء العين، و جمالها، و منظر النهر الجاري.

[52] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فبينما كان ينبغي أن يكون وراء كل مخوف و كل نعمة تصديق، هؤلاء يكذبون، و سيجزون جزاء تكذيبهم.

[53] فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان شتوي و صيفي أو غريب و مألوف، أو كبير و صغير، أو رطب و يابس، إلى غير ذلك، كل ذلك للتفنن و مزيد النعمة.

[54] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بنعمه الظاهرة أو بنعمه الباطنة؟ و هل نعمه قابلة للتكذيب؟

[55] و هؤلاء أصحاب هذا النعيم تراهم في حال كونهم مُتَّكِئِينَ بحالة راحة و استرخاء عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها البطانة مقابل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 304

[سورة الرحمن (55): الآيات 55 الى 60]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ

يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)

الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين، يسبب الراحة، فليس فراش ظاهر فقط، حتى لا يستريح الإنسان عليه وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي الذي يجنى منهما و هو الثمر دانٍ متهدل على رؤوسهم يتمكن القاعد و النائم أن يناله بسهولة.

[56] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذبان بآلائه في الآخرة.

[57] فِيهِنَ في تلك الفرش نساء قاصِراتُ الطَّرْفِ مقصورة أبصارهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يمسهن، لا بالجماع و لا بغير الجماع إِنْسٌ قَبْلَهُمْ قبل أهل الجنة وَ لا جَانٌ فزوجة الإنس لم يمسها إنس و زوجة الجن لم يمسها جن.

[58] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بآلائه التي تؤكل و تشرب أم بآلائه من جنس الزواج و الاستمتاعات.

[59] كَأَنَّهُنَ كأن تلك النساء الْياقُوتُ في حمرة الشفاه و الوجنات وَ الْمَرْجانُ في بياض الجسم و البشرة.

[60] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فمن خلق مثل هذا الجمال الذي رأيتموه في الدنيا، في الجملة، و سيراه المؤمنون في الآخرة في كماله الرائع؟.

[61] ثم أن كل هذا الجزاء لمن أحسن في الدنيا بالإيمان و العمل الصالح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 305

[سورة الرحمن (55): الآيات 61 الى 66]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65)

فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)

و هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ أي إحسان المؤمنين إِلَّا الْإِحْسانُ إليهم في الآخرة بالثواب و النعيم؟ فإن البذرة تثمر الثمرة التي هي من جنسها.

[62] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل هناك تكذيب بأن

الإحسان يولّد الإحسان؟.

[63] النعم التي ذكرناها إنما هي للسابقين المقربين وَ مِنْ دُونِهِما أدون و أنزل من الجنتين المذكورتين جَنَّتانِ و الظاهر أنهما لمن دون المقربين في الأعمال، أي باقي المؤمنين.

[64] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهل يتساوى الأكثر طاعة و الأقل طاعة؟

الأكثر طاعة في جنتين رفيعتين، و الأقل طاعة في جنتين أقل درجة، فهل يكذب الإنسان بمثل هذا؟

[65] مُدْهامَّتانِ من «دهم» بمعنى السواد أي أن الجنتين خضراوتان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة، فلا يبس لهما.

[66] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هل تكذب بجمال و نضارة ما يمنحه اللّه للمطيعين الذين أكرمهم بإسكانهم دار كرامته؟

[67] فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان، لا كمثل الجنتين السابقتين حيث العيون الجارية التي هي أجمل من مجرد النضاخة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 306

[سورة الرحمن (55): الآيات 67 الى 73]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73)

[68] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس في قدرة اللّه أن يجعل العين تنضخ؟

[69] فِيهِما فاكِهَةٌ من بعض أقسام الفواكه وَ نَخْلٌ للتمر وَ رُمَّانٌ و هذا أقل مما في الجنتين السابقتين حيث فيهما من كل فاكهة زوجين.

[70] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ألا يقدر سبحانه أن يعطي المؤمن أمثال هذا النعيم.

[71] فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ نساءهن خير من كل ناحية مثل «زيد عدل» «حسان» الوجوه و هن أقل من الحور القاصرات الطرف، فالسابقات كأنهن اللؤلؤ و المرجان.

[72] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن اللّه قادر على أن يجعل المرأة خيرا محضا و حسنة الوجه.

[73] حُورٌ جمع حوراء، كما تقدم و هن البيضاوات

جسما مَقْصُوراتٌ محفوظات مخدرات فِي الْخِيامِ فأهل هاتين الجنتين ليس لهم قصور مثل أصحاب الجنتين السابقتين بل لهم خيام كخيام أهل البادية.

[74] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أ ليست هذه النعمة مما يجب أن يشكر عليها، عوض أن يكفر بها المكذبون؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 307

[سورة الرحمن (55): الآيات 74 الى 78]

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)

[75] لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يجامعهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ فهن باكرات.

[76] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس اللّه بقادر على مثل ذلك.

[77] في حال كون أصحاب هاتين الجنتين مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ جمع رفرفة و هي الوسادة خُضْرٍ خضراوات وَ عَبْقَرِيٍ كل ثوب موشى يقال له عبقري، و لعل على تلك الوسائل أثواب جميلة موشاة حِسانٍ تلك الرفرف و العبقري كلها حسناوات و هذه أقل مرتبة من فرش بطائنها من إستبرق.

[78] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أليس مثل هذا جزاء الصالحين و إن كانوا بدرجة ثانية من الصلاح؟

[79] تَبارَكَ من برك بمعنى الدوام و الثبات اسْمُ رَبِّكَ و دوام الاسم كاشف عن دوام المسمى، و فيه تلميح بالعظمة حيث لم يقل «تبارك ربك» ذِي الْجَلالِ أجل من الصفات السيئة التي لا تليق به وَ الْإِكْرامِ فليس اللّه جليلا و جميلا لنفسه بل يكرم غيره، و فيه تلميح إلى صفات الكمال، إذ فاقد الشي ء لا يعطيه فلو لم يكن كريما لم يتمكن من إكرام غيره، و الإكرام بأصل الخلق و الإيجاد، ثم بالقيام بشؤون الخلق، ثم بجزائهم جزاء حسنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص:

308

56 سورة الواقعة مكية/ آياتها (97)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الواقعة» و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و ربما يقال إن بعض آياتها مدنية. و لما كان الكلام في آخر سورة الرحمن عن «المبدأ» ابتدأت هذه السورة بذكر «المعاد» و هما أساسان من الأسس الثلاث للعقيدة «بإضافة الرسالة».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم الإله الذي إذا ذكر اسمه كان فيما اقترن به بركة و ثبات و دوام، فهو الذات الثابت الذي لا زوال له و لا اضمحلال، الرحمن بخلقه كل ما في الكون، الرحيم الذي يرحم خلقه بالعناية و الرعاية، و ليس كمن يبدأ بالخير ثم يقطع خيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 309

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8)

[2] إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ إذا حدثت القيامة و جاءت و سميت بالواقعة لتحقق وقوعها.

[3] لَيْسَ لِوَقْعَتِها نفس كاذِبَةٌ فكلّ يصدق في ذلك اليوم صحته، و إن كان جماعة ينكرونه في الدنيا، و هذا كمال يقال إذا وقعت في السجن تصدق كلامي بأن ما تعمله الآن ليس من صلاحك.

[4] و هذه الواقعة خافِضَةٌ تخفض و تنزل بالكفار و العصاة اللذين كانوا في الدنيا، بنظر الناس في رفعة و سمو رافِعَةٌ ترفع المؤمنين المطيعين اللذين كانوا في دار الدنيا، بنظر الناس في ذل و هوان.

[5] و يكون ذلك فيما إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا تحركت تحركا شديدا بالزلازل التي هي من علائم الساعة.

[6] وَ بُسَّتِ الْجِبالُ فتتت و تحركت بَسًّا

مفعول مطلق لبيان شدة التفتت و الحركة.

[7] فَكانَتْ هَباءً الهباء الذي يرى من الذرات في شعاع الشمس إذا دخل الشعاع في كوّة في غرفة مظلمة مُنْبَثًّا منتشرا.

[8] وَ كُنْتُمْ أيها البشر أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً المقربون و أصحاب اليمين، و أصحاب الشمال.

[9] فصنف أصحاب الْمَيْمَنَةِ أصحاب اليمن ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 310

[سورة الواقعة (56): الآيات 9 الى 11]

وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)

ما أعظم حالهم إذ هم في خير سعادة و بركة.

[10] وَ صنف أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أصحاب الشؤم و هم أهل النار ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أعظم حالهم في العذاب، مثل فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «1».

[11] وَ صنف السَّابِقُونَ و لا حاجة إلى ذكر التهويل في حالهم، كالصنفين السابقين فإنهم معروفون بأنهم السَّابِقُونَ يسبقون إلى الجنة بغير حساب.

[12] أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى رضوان اللّه سبحانه، مما لم يلحقهم أحد من المؤمنين، و هم الأنبياء و الأوصياء و الأولياء.

لا يقال إن صفاء جوهر الأنبياء و الأوصياء سبب إطاعتهم، فأية فضيلة لهم و لو كان غيرهم خلق صافي الجوهر لكان كذلك؟ لأنه يقال بالإضافة إلى أن خلق عدم صافي الجوهر يوجب نقصا في الخلق، و بخلا عن الفيض، و كلاهما تمتنع على اللّه، أنهم إنما صفي جوهرهم لأنهم أجابوا بالطاعة في عالم الذر، بما لم يجب غيرهم بمثلهم فلو فرض تساويهم مع غيرهم، لكنهم أجابوا بالطاعة، فصفي جوهرهم، فكان ذلك جزاء العمل لا اعتباطا، و لذا

ورد في دعاء الندبة «بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية و زخرفها و زبرجها فشرطوا ذلك و علمت منهم الوفاء، فقبلتهم

______________________________

(1) طه: 79. تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 311

[سورة الواقعة (56): الآيات 12 الى 17]

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)

و قربتهم»

«1» و البحث طويل مكانه كتب الفلسفة الإسلامية.

[13] و المقربون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ التي ملأت نعمة وفيرة بحيث لا مكان للشر فيها.

[14] ثُلَّةٌ أي جماعة كثيرة مِنَ الْأَوَّلِينَ الأمم السابقة من لدن آدم عليه السّلام إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأن الأنبياء و الأوصياء كانوا في هذه الفترة.

[15] وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ كمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته و من إليهم و هم أقل عددا من السابقين، كما هو واضح.

[16] و هم عَلى سُرُرٍ جمع سرير مَوْضُونَةٍ أي منسوجة بالذهب و اللؤلؤ.

[17] مُتَّكِئِينَ عَلَيْها في حالة راحة و استرخاء مُتَقابِلِينَ بعضهم مقابل بعض للتحدث و مزيد السرور.

[18] يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الطواف الذهاب و المجي ء، و لذا يقال طاف بالبيت، و لا يلزم الدور و لذا يقال طاف بالصفا و المروة وِلْدانٌ أولاد كالخدم، فالحور خادمات، و الولدان خدم مُخَلَّدُونَ باقون دائما على هيئتهم لا يهرمون و لا يموتون.

______________________________

(1) مفاتيح الجنان: ث 607.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 312

[سورة الواقعة (56): الآيات 18 الى 25]

بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22)

كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25)

[19] بِأَكْوابٍ جمع كوب إناء لا عروة له و لا خرطوم وَ أَبارِيقَ

جمع إبريق ما له عروة و إبريق وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الماء المعين و هو الزلال العذب الطعم، و لعل المراد به الخمر بقرينة الآية الآتية.

[20] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا يأخذهم الصداع، و هو وجع الرأس كما أن من يشرب الخمر في الدنيا يأخذه الصداع وَ لا يُنْزِفُونَ لا يسكرون، لأن من سكر فقد «نزف» أي سال عقله و خرج من رأسه.

[21] وَ يطوف عليهم الولدان ب فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يختارون.

[22] وَ ب لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يريدون.

[23] وَ حُورٌ عِينٌ عطف على «ولدان» أي يطوف عليهم حور عين، و كأن ذلك كناية عن تهيؤ الفراش لهم في كل وقت.

[24] و هن كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ في الصفاء و النضارة فإن اللؤلؤ إذا لم يكنّ و لم يحفظ قلّ صفاؤه.

[25] يعطي أهل الجنة كل ذلك جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أعمالهم التي عملوها في الدنيا.

[26] لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة لَغْواً أي كلاما لغوا وَ لا تَأْثِيماً نسبة إلى الإثم، فإن الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء كانوا في الدنيا يسمعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 313

[سورة الواقعة (56): الآيات 26 الى 32]

إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)

وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)

اللغو من أقوامهم و ينسبونهم إلى الإثم فيقال لهم، إنهم آثمون لتركهم أديان قومهم و اتخاذهم دينا جديدا، لكن في الجنة لا شي ء من هذين فقد ذهبت الأتعاب و صاروا في راحة و رفاه.

[27] إِلَّا استثناء منقطع قِيلًا قولا سَلاماً سَلاماً هذا يدخل عليهم و يسلم، و ذاك يدخل و يسلم، و هكذا.

[28] وَ الصنف

الثاني أَصْحابُ الْيَمِينِ الذين هم دون المقربين مرتبة، و هم المؤمنون الصالحون ما أَصْحابُ الْيَمِينِ لا يتكلم حولهم من السعادة و الرفاه الذين هم فيهما.

[29] هم يعيشون في جنان نضرة فِي سِدْرٍ النبق مَخْضُودٍ قد خضد شوكة فلا شوك فيه.

[30] وَ طَلْحٍ شجر الموز مَنْضُودٍ قد نضد و رتب ثمره بعضه فوق بعض.

[31] وَ ظِلٍ لا شمس فيها تؤذيهم مَمْدُودٍ لا يزول كما يزول ظل الدنيا و تنسخه الشمس.

[32] وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ دائم السكب، لا ينقطع حتى يحتاجون إلى عناء تحصيله.

[33] وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وافرة مستمرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 314

[سورة الواقعة (56): الآيات 33 الى 40]

لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37)

لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

[34] لا مَقْطُوعَةٍ كما في فواكه الدنيا حيث تكون في فصل دون فصل وَ لا مَمْنُوعَةٍ لا يمنع عن أخذها أحد، فهي مباحة لكل أهل الجنة.

[35] وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ نساء مرفوعات في الأخلاق و الجمال كما يقال فلان إنسان رفيع، و عبر عن النساء الحوريات بالفراش لافتراش الأزواج لهن.

[36] إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ ابتدأنا خلقهن إِنْشاءً بدون ولادة، كما في نساء الدنيا.

[37] فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً دائمات البكارة ليتلذذ الأزواج بهن أكثر، و كذلك هن يتلذذن أكثر، لأنه لا وجع لهن، و لا صعوبة لأزواجهن في افتضاضهن.

[38] عُرُباً جمع عروب بمعنى المحبة للزوج أَتْراباً جمع ترب بمعنى المتساويات مع أزواجهن في السن، لا الصغيرة التي يرى الزوج منها عنتا و لا الكبيرة التي يكرهها زوجها لكبر سنها.

[39] كل ذلك النعيم لِأَصْحابِ الْيَمِينِ الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة و هم المؤمنون

من الأمم.

[40] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ جماعة كثيرة من الأمم السابقة.

[41] وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 315

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 47]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)

[42] وَ أَصْحابُ الشِّمالِ و هم الصنف الثالث من البشر و الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ما أَصْحابُ الشِّمالِ فهم في أهوال كثيرة، حتى لا يمكن أن يتصور أحوالهم.

[43] فِي سَمُومٍ نيران تنفذ إلى مسام الجلد وَ حَمِيمٍ ماء متناه في الحرارة.

[44] وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ دخان أسود فهم في النار ذات دخان لا يرون مكانا.

[45] لا بارِدٍ كسائر الظلال وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع كما في دخان الدنيا إذ قد يمنع الدخان حر الشمس و نحوها.

[46] و لماذا يذوقون هذا العذاب المؤلم؟ ل إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في دار الدنيا مُتْرَفِينَ يعيشون في الترف و هو الانهماك في الملذات و الشهوات.

[47] وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ لعهد اللّه أي نقضه الْعَظِيمِ و هو الشرك، لأن اللّه أخذ الميثاق من كل البشر بأن يؤمنوا به، ثم هؤلاء حنثوا عهد اللّه.

[48] و بالإضافة إلى إنكارهم المبدأ وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا الهمزة للاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 316

[سورة الواقعة (56): الآيات 48 الى 54]

أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى

مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)

الإنكاري مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لحومنا وَ عِظاماً ظهرت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ليوم القيامة؟ فأنكروا المعاد أيضا.

[49] أَ وَ و هل آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الذين صاروا ترابا يبعثون؟ «فالهمزة» للاستفهام و «الواو» للعطف على ضمير «مبعوثون».

[50] قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم نعم يبعث الجميع إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ كلهم أجمع.

[51] لَمَجْمُوعُونَ تحت التراب إِلى مِيقاتِ وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ هو يوم القيامة، حيث يبعث كلهم مرة واحدة.

[52] ثُمَ بعد البعث إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن طريق الثواب الْمُكَذِّبُونَ باللّه و برسوله و بالمعاد.

[53] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ و هو شي ء في غاية المرارة.

[54] فَمالِؤُنَ تملؤون مِنْهَا من تلك الثمرة المرة الْبُطُونَ فإنهم لشدة جوعهم يأكلون منها إلى حد الامتلاء.

[55] ثم يعطشون أشد العطش فَشارِبُونَ عَلَيْهِ على الزقوم مِنَ الماء الْحَمِيمِ الذي هو غاية في الحرارة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 317

[سورة الواقعة (56): الآيات 55 الى 60]

فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)

نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)

[56] فَشارِبُونَ تكرار الفاء لبيان أنهم يشربون و يشربون شُرْبَ الْهِيمِ مثل شرب الإبل العطشان الذي هو في غاية العطش فإن الإبل الذي به «الهيام» و هو داء الاستسقاء، يشرب من الماء الشي ء الكثير جدا، و هيم جمع أهيم و هيماء.

[57] هذا نُزُلُهُمْ لنزل ما يعد للضيف يَوْمَ الدِّينِ في يوم القيامة.

[58] و هذا جزاء تكذيبكم

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ فلما ذا لم تصدقوا بمن خلقكم، و لا برسله، و لا بما أخبر من بعثه؟.

[59] و كيف تكذبون باللّه و أنتم ترون أن كل ما حولكم هو من خلق اللّه؟

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ما تقذفونه في الأرحام من النطف.

[60] أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تجعلونه بشرا سويا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ و إذا اعترفتم بأنكم لا تخلقونه فلم تكذبون بخالقه؟.

[61] ثم الموت الذي يأتيكم بغير إرادة منكم فهل أنتم سبب الموت أو اللّه؟

و إذا كان اللّه هو المقدر للموت فلما ذا تكفرون به نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فكل إنسان يموت حسب تقدير اللّه و إرادته وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين تشبيه بأن يسبق إنسان إنسانا فلا يقدر المسبوق اللحاق بالسابق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 318

[سورة الواقعة (56): الآيات 61 الى 65]

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)

[62] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ بأن نذهب بكم و نأتي غيركم- من مثلكم- مكانكم وَ نُنْشِئَكُمْ نخلقكم خلقا جديدا فِي ما أي في صورة لا تَعْلَمُونَ لا تعلمونها كأن نجعلكم قردة أو خنازير أو غير ذلك.

[63] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى كيف أنشأناكم فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فلما ذا لا تتذكرون أن من يقدر على الإنشاء أولا يقدر على الإنشاء ثانيا؟

فكيف تنكرون البعث؟.

[64] ثم ليس خلقكم أنتم من اللّه فقط بل كل شي ء هو من خلق اللّه أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ تبذرون حبّة لأجل الزراعة و الثمر.

[65] أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ

و لا أحد يقدر أن يقول إنه هو الزارع للنبات كما أنه لا أحد يقدر أن يقول إن الزارع له هو الطبيعة، فهل الطبيعة الجاهلة العاجزة تقدر على مثل هذا الشي ء، و إذا صدق الإنسان أن اللّه هو الزارع الذي يجعل من الأرض الميتة نباتا حيا، سهل عنده أن يصدق أن اللّه قادر على إعادة الإنسان بعد موته.

[66] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متحطما عوض أن ننمي النبات حتى نجعله شجرة ذات ثمرة فإذا فعلناه هشيما لظلتم تَفَكَّهُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 319

[سورة الواقعة (56): الآيات 66 الى 72]

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70)

أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)

تتكلمون في مجالسكم، من جهة التعجب و الندم على ما أنفقتم في الأرض لأجل الزرع، و المراد أنكم لا تقدرون أمام قدرة اللّه بجعله النبات هشيما إلا التكلم فقط.

[67] إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ملزمون بغرامة ما أنفقنا.

[68] بَلْ تقولون بالإضافة إلى غرامة ما أنفقنا نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ حرمنا من رزقنا.

[69] أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ هو ماء عذب صالح للشرب.

[70] أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا؟

و هل هناك أحد يقول أنا أنزلت الماء؟.

[71] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً مالحا يمجّه الطبع فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم التي هي ضرورية لحياتكم، و لو إنا ما أعطيناها لكم، لم يكن لكم علاج في تحصيلها، إلا التفكّر و التحسّر.

[72] أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تخرجونها من الخشب و نحوه.

[73] أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها

خلقتم شجرتها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ و هل هناك أحد يقول إنه أنشأ شجرتها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 320

[سورة الواقعة (56): الآيات 73 الى 76]

نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)

[74] نَحْنُ جَعَلْناها النار تَذْكِرَةً تذكركم بنعمة اللّه، و بنار الآخرة، حتى تشكروه سبحانه على هذه النعمة، و تخافوا من عذاب يوم القيامة وَ مَتاعاً منفعة يتمتع بها الإنسان في طبخه و تدفئته و قضاء سائر حوائجه المحتاجة إلى النار لِلْمُقْوِينَ يقال أقويت منذ أيام أي لم آكل طعاما فالمقوين هم الذين يحتاجون إلى الطعام، و لعله من حمل الضد على الضد، حيث إن خالي البطن لا يقوى فحمل على من «يقوى» بأكله الطعام.

[75] و إذ عرفت كثرة نعم اللّه عليك فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ نزهه عما لا يليق به، و الباء في «باسم» مثل اللام في «سبح للّه» للتقوية الْعَظِيمِ صفة الرب.

[76] و حيث فرغ عن إثبات الألوهية جاء دور إثبات الرسالة، و ذلك بسبب بيان أن القرآن من عند اللّه سبحانه فَلا أُقْسِمُ هذا صيغة تشير إلى الحلف، ليكون للكلام قوة الحلف، مع عدم الحلف احتراما للمحلف به، ف «لا» نافية بِمَواقِعِ النُّجُومِ إذ القوة الهائلة التي تحفظ النجوم الكبار، و التي بعضها ستون مليون مرّة أكبر من الشمس، الشمس التي هي أكبر من الأرض بأكثر من مليون مرة، إن تلك القوة من العظمة مما ينبغي أن يحلف بها.

[77] وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أنه عَظِيمٌ بل خارج عظمته من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 321

[سورة الواقعة (56): الآيات 77 الى 81]

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ

(77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)

طوق فهم البشر و إدراكهم.

[78] إِنَّهُ الشي ء المنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ له كرامة الوحي و هو يكفي لإصلاح المعاش و المعاد.

[79] فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مكتوب في لوح محفوظ عند اللّه أنزله اللّه على رسوله لهداية البشر إلى يوم القيامة.

[80] لا يَمَسُّهُ لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الملائكة فإذا كان شأنه هناك في العالم الأعلى مثل هذا الشأن، فاللازم تقديره حق قدره في هذا العالم، و هذا حسب ظاهر الآية، و ما ورد في تفسيرها بطون أو تأويل أو ما أشبه «1»، و لا منافاة بين الجميع، كما ذكرناه في كتاب «حول القرآن الحكيم» «2».

[81] و هو تَنْزِيلٌ أي منزل، فهو من قبيل «زيد عدل» مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أنزله لصالح الكون إلى الأبد.

[82] أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الشي ء الحادث الذي هو القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون؟ كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه تهاونا، و أصله استعمال الدهن للين الجسم.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 77 ص 255.

(2) موسوعة الفقه: ج 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 322

[سورة الواقعة (56): الآيات 82 الى 86]

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)

[83] وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي سبب رزقكم، أطلق عليها الرزق بعلاقة السبب و المسبب أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تكذيبكم لهذا القرآن الموصوف بالصفات السابقة، لأنهم كانوا يرون أن استمرار رزقهم إنما هو بالتجافي

عن القرآن و التكذيب له، كما يقال «جعل فلان رزقه الزنى» أي جعله ممر رزقه.

[84] نعم سترون جزاء تكذيبكم عند ما يأتيكم الموت و لا علاج لكم في دفعه فَلَوْ لا فهلا إِذا بَلَغَتِ النفس الْحُلْقُومَ لأن النفس تخرج من الرجل إلى الحلقوم، ثم إلى الرأس، و ذكر الحلقوم من جهة شعور الإنسان بالموت مع بقاء مشاعره في الرأس مدركا لهول الموت.

[85] وَ أَنْتُمْ أيها الحاضرون حول المحتضر حِينَئِذٍ حين وصلت روحه إلى الحلقوم تَنْظُرُونَ و هو و أنتم في غاية إلى عدم موته، و رجوعه إلى الحياة.

[86] وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ لأن علمنا و قدرتنا نافذتان إلى أعماقه، و أنتم لستم كذلك وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ أنتم قربنا.

[87] فَلَوْ لا تكرار، لأجل ارتباط الجواب ب «لو لا إِذا بَلَغَتِ ...» إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 323

[سورة الواقعة (56): الآيات 87 الى 92]

تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)

[88] تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى كل الجسد، كما كان سابقا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إنكاركم للّه و قدرته، فإذا لم يكن إله- كما زعمتم- و لم يكن أمر الكون بيده، فلما ذا لا تقدرون أنتم على إنجاز أحب شي ء إلى قلوبكم من إرجاع الروح إلى ميتكم العزيز، أليس كل ذلك دليلا على وجود إله قدير بيده كل شي ء.

[89] ثم يبين اللّه سبحانه مصير هذا المحتضر فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ و هو

القسم الأول من «الأزواج الثلاثة» المذكورين في أول السورة.

[90] فَرَوْحٌ فله راحة وَ رَيْحانٌ الريحان المشموم كناية عن حضور مشتهياته الطيبة وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ جنة ذات نعمة.

[91] وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و هو القسم الثاني من أهل الجنة لكنهم دون المقربين.

[92] فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين، سلامة لك في آخرتك و أنت تكون مِنْ جملة أَصْحابِ الْيَمِينِ كما يقال «السلام عليك من شهيد في سبيل اللّه» فإن «من» بيان ل «كاف» الخطاب.

[93] وَ أَمَّا إِنْ كانَ المحتضر مِنَ الْمُكَذِّبِينَ باللّه و رسوله و المعاد الضَّالِّينَ عن طريق الهداية، «هم أصحاب الشمال» فهو ضال في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 324

[سورة الواقعة (56): الآيات 93 الى 96]

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

نفسه مكذب للحق.

[94] فَنُزُلٌ هو ما يعد للضيف مِنْ حَمِيمٍ من ماء حار شديد الحرارة.

[95] وَ تَصْلِيَةُ يقال صلاة إذا أوصله جَحِيمٍ هي من أسماء جهنم.

[96] إِنَّ هذا الذي ذكرناه من جزاء الأقسام الثلاثة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الحق المطابق للواقع، الذي هو يقيني أي من شأنه ذلك و إن أنكره كثير، مثل «لا ريب فيه» أي ليس هو محل الريب و إن ارتاب فيه الكثير، و هذا أحد الأقسام الثلاثة التي ينقسم اليقين إليها.

فالأول: علم اليقين، كما إذا علمت بأن النار حارة.

و الثاني: حق اليقين، كما إذا رأيت النار.

و الثالث: عين اليقين، كما إذا أدخلت يدك في النار و ذقت حرارتها.

[97] و إذا علمت بما تقدم فَسَبِّحْ يا رسول اللّه بِاسْمِ رَبِّكَ نزهه عما لا يليق به الْعَظِيمِ صفة الرب، و قد تقدم بعض الكلام فيه في آية

شبيهة بها، فباعتبار أن التسبيح للذات يأتي بلا حرف جر، و باعتبار أن التسبيح ملصق بالاسم يتعدى بالباء، و باعتبار أن التسبيح للّه يتعدى باللام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 325

57 سورة الحديد مدنية/ آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحديد» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على قضايا الشريعة. و لما ختمت سورة الواقعة بتسبيح اللّه ابتدأت هذه السور بذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبدأ باسم اللّه فإنه المبدأ حقيقة، و نبدأ باسمه ليطابق الكلام الواقع و هو الرحمن بالكل يخلقهم من العدم إلى الوجود برحمته، و رحيم بالكل يعطي كل مخلوق حسب ما يستحق مما ينميه و يكمله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 326

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ نزهه عما لا يليق به، و قد تقدم في آخر الواقعة، وجه تعدي التسبيح باللام ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قد سبق وجه جمع السماوات و إفراد الأرض، و تسبيح كل شي ء إما بلسانه، و إن كنا لا نفهم ألسنة غير الإنسان من المخلوقات، و إما بدلالته على علم اللّه و قدرته و صفاته و غير ذلك، إذ حتى الشعرة الواحدة دليل على الذات و على كل الصفات العقلية الثابتة عقلا له سبحانه وَ هُوَ تعالى الْعَزِيزُ له العزّة و الرفعة و عزّة ما سواه إنما تكون به تعالى الْحَكِيمُ يضع الأشياء موضعها، و لحكمته خلق الكون، و

لعزته سبح له كل ما في الكون.

[3] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بل هو وحده المالك الحقيقي، أما سواه فملكه استعارة و مجاز يُحْيِي التراب إلى النبات و الحيوان و الإنسان، كما يحيي الإنسان و الحيوان بعد موتهما وَ يُمِيتُ الثلاثة بعد حياتها في دار الدنيا، كما يميت الحيوانات على الأكثر في الآخرة، حتى أن الكافر إذا رأى ذلك قال: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ بشرط أن يكون لذلك الشي ء أهلية تعليق القدرة، كما بحث حول ذلك في كتب الفلسفة الإسلامية.

[4] هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شي ء وَ الْآخِرُ بعد كل شي ء، و لا منافاة لعدم انتهاء الجنة و النار إذ يصدق البعدية بالنسبة إلى الحال الحاضرة، فإن الكل يهلك إلى وجهه وَ الظَّاهِرُ بآثاره لدى كل ذي عقل وَ الْباطِنُ

______________________________

(1) النبأ: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 327

[سورة الحديد (57): آية 4]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

الخفي بحقيقته لا يعلم حقيقته إلا هو تعالى وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم كل شي ء، كما أنه يقدر على كل شي ء- كما تقدم في الآية السابقة-.

[5] هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اليوم قطعة من الزمان و لعل المراد ستة مليارات من السنوات فقد ثبت في بعض تحقيقات العلم الحديث خلقهما في مثل هذه المدة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى على عرش الإرادة إذ قبل ذلك كان من باب السالبة

بانتفاء الموضوع، فالاستواء على العرش كناية عن التصرف في الكون، فهو مثل قول الشاعر:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله هذا «الاستيلاء» من ناحية القدرة أما من ناحية العلم فإنه سبحانه يَعْلَمُ ما يَلِجُ يدخل فِي الْأَرْضِ كالبذر و الميت وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالنبات و الحيوان الذي يخلق تحت الأرض ثم يخرج منها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالمطر وَ ما يَعْرُجُ فِيها يصعد إليها كالدخان و الأبخرة وَ هُوَ مَعَكُمْ علما و قدرة إذ علمه نافذ فينا و قدرته محيطة بنا أَيْنَ ما كُنْتُمْ في بر أو بحر في نور أم ظلام في عراء أو بناء وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يراكم، و البصر غير العلم كما هو واضح فإن علمنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 328

[سورة الحديد (57): الآيات 5 الى 7]

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

بالشي ء و لا نراه، غير أن نعلم به و نراه، أما كيفية رؤية اللّه فهي مجهولة مثل كيفية علمه و سائر الأمور المرتبطة بذاته تعالى.

[6] لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أعاد ذكره لأن الآية السابقة كانت كالاستدلال لذلك، بخلاف ما ذكره سبحانه أولا، حيث إنه لم يتقدم له استدلال- في هذه السورة- وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فإذا أراد الإنسان شيئا فإن قدره سبحانه صار و إلا لم يصر كما أن الموظفين إذا أرادوا شيئا أرجع إلى الرئيس إن قبله صار و إلا لم يصر،

و هذا كناية عن أن الإرادة النهائية له تعالى.

[7] يُولِجُ يدخل اللّه اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يأخذ الليل مكان النهار، إذا طال الليل، أو المراد أن عمودا من الظلام يدخل في ضوء النهار ثم ينتشر الظلام إلى أن يأخذ الأفق، فإن من يلاحظ الكرة الأرضية و الشمس يعلم أن ظل الأرض كالعامود الذي يخترق نور الشمس وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ فيه الاحتمالان السابقان، و لذا يرى نور النهار أول الفجر كالخيط في طرف المشرق، ثم يتوسع حتى يشمل النور الأفق وَ هُوَ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «الذات» الحقيقة، و كأنه كناية عما في الصدور، لا بد و أن يكون محيطا به عالما بما فيه.

[8] آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أيها الكفار، أو عمّقوا إيمانكم أيها المؤمنون وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ استخلفكم و جعلكم خلفاء لمن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 329

[سورة الحديد (57): الآيات 8 الى 9]

وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)

قبلكم فِيهِ في ذلك المال، إذ كان المال لغيرنا ثم صار لنا و هكذا جيلا بعد جيل كل جيل خليفة سابقه، كناية عن أن المال ليس لكم، و إنما كان لغيركم ثم يكون من بعدكم لغيركم أيضا فإن الذين آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا من أموالهم لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ في الدنيا بالرفاه و السعادة و في الآخرة بجنة عرضها السماوات و الأرض.

[9] وَ ما لَكُمْ أيّ شي ء لكم إذن لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فهل لكم فائدة من عدم إيمانكم وَ الحال

إن الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ و يقيم لكم الحجج و الآيات وَ قَدْ أَخَذَ اللّه مِيثاقَكُمْ عهدكم الغليظ في عالم الذر، و أودع فيكم الفطرة التي تدل على صحة ما جاء به الرسول إذ يجد كل إنسان في نفسه قبول الحق و ليس هذا إلا أن شيئا مودع فيه يلجؤه إلى الاعتراف باطنا سواء اعترف ظاهرا أم لا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لشي ء ما، فإن تنبيه الرسول و دلالة العقول من أقوى موجبات الإيمان، و هذا مثل ما يقال «إن كنت تفهم فافهم أن الشي ء الفلاني ينفعك».

[10] و هُوَ اللّه الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات لِيُخْرِجَكُمْ أيها البشر مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الجهل إِلَى النُّورِ نور الإيمان و العلم، فإن الكفر و الجهل يسببان عدم رؤية الإنسان للحقائق، كما أن الظلام يسبب عدم رؤية الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 330

[سورة الحديد (57): آية 10]

وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

للأشياء وَ إِنَّ اللَّهَ الواو للحال، أو العطف بِكُمْ أيها البشر لَرَؤُفٌ الرأفة يقال للعطف قبل ظهوره أو دقة الرحمة رَحِيمٌ عطف يظهر أثره أو مطلق الرحمة.

[11] وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا أيّ شي ء لكم من عدم إنفاقكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طريقه المؤدية إلى رضوانه وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إذا لم تنفقوا يبقى المال و تموتون، و لم تستفيدوا منه في تحصيل

الدرجات العالية، فإن كل من في السماوات و من في الأرض يموتون و تبقى أموالهم و ما كان في أيديهم للّه وحده لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ فتح مكة وَ قاتَلَ قبل الفتح، حيث الإسلام غريب و بحاجة شديدة إلى المقاتلين و إلى المال، و من أنفق و قاتل بعد فتح مكة حيث أعز اللّه الإسلام، و ذهب الخوف من المسلمين، و كثرت الغنائم، و حذف هذا الشق لوضوحه أُولئِكَ المنفقون المقاتلون قبل الفتح أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ الفتح وَ قاتَلُوا بعد الفتح وَ كُلًّا من المنفق و المقاتل قبلا، و بعدا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى و هذا الكلام لئلّا يزعم تساويهما لا لبيان تبرير المتقاعس قبلا، إذ المتقاعس له وزر وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 331

[سورة الحديد (57): الآيات 11 الى 12]

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

فيجازيكم حسب أعمالكم.

[12] ثم إن الذي يعطي ماله في سبيل اللّه فهو قرض يسترجع أكثر منه في دنياه و آخرته، أما الآخرة فالمثوبة، و أما الدنيا فلأن الإنفاق يوجب تقدم الاجتماع، و الاجتماع المتقدم يرتفع أفراده أكثر، و بذلك يكون مالهم أكثر، و لذا قال سبحانه وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ «1» مَنْ ذَا الشخص الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مقابل القرض السيئ الذي لا إخلاص له أو كان لأجل تحصيل الربا بالزيادة فَيُضاعِفَهُ اللّه لَهُ لأن اللّه يجعل كل حسنة أضعافا ثم يردها

على صاحبها وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فإن الأجر لأصل القرض «بالإضافة إلى ما يضاف إليه من الزيادة» كريم في نفسه يرجع إلى صاحبه مع الإكرام له.

[13] و تلك المضاعفة و الأجر إنما هو في يَوْمَ القيامة حيث تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ مثلا نورهم عمود له امتداد ميل، فإذا تحركوا تحرك النور، فكأنه يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ فإن لهم نورا من هذين الجانبين، و لعل ما كان من بين أيديهم للمقربين، و ما كان بأيمانهم لأصحاب اليمين، ليكون علامة لمنزلتهم، أو لأن صحائفهم تعطى من طرف اليمين من الأمام، و يقال لهم بُشْراكُمُ بشارة لكم الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من

______________________________

(1) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 332

[سورة الحديد (57): آية 13]

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)

تحت أشجارها، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أبدا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ النجاح الْعَظِيمُ الذي ليس مثله فوز.

[14] و ذلك في يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا و هم يعيشون في ظلام شديد انْظُرُونا انظروا إلينا حيث يتوجه عمود نوركم إلى جانبنا ل نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ حتى نرى طريقنا و نتعرف إلى أوضاع بدننا، لأن الإنسان في الظلام لا يرى طريقه، و لا يتعرف على أوضاع جسده، و إنما ذكرت الآية المنافقين، و لم تذكر الكفار، لأن الكفار في مكان آخر، و إنما يحشر جميع من كان ظاهره الإيمان في مكان واحد، ثم يميّزون قِيلَ لهم في جوابهم ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا فحصّلوا هناك نُوراً كناية عن أن النور

إنما يحصل في الدنيا لا في الآخرة.

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و المنافقين بِسُورٍ بحائط يكون فاصلا بينهما لَهُ بابٌ لمرور الملائكة أو لأجل أن يميز المؤمن من المنافق، حيث كانا قبلا مختلطين فمن كان في طرف المؤمنين من المنافقين أخرج من الباب إلى المنافقين، و بالعكس باطِنُهُ حيث المؤمنون فِيهِ الرَّحْمَةُ و سمي باطنا لأنه المكان الأحسن المحفوظ كباطن حائط الدار وَ ظاهِرُهُ طرف المنافقين مِنْ قِبَلِهِ من جهته الْعَذابُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 333

[سورة الحديد (57): الآيات 14 الى 15]

يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

[15] و حين ذاك يُنادُونَهُمْ ينادي المنافقون المؤمنين أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في دار الدنيا نعمل الأعمال الصالحة معا فكيف صرتم أنتم في رحمة و نحن في العذاب؟ قالُوا المؤمنون بَلى كنتم معنا في الظاهر وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي حرفتم أنفسكم عن الحق بسبب نفاقكم و عصيانكم وَ تَرَبَّصْتُمْ في إطاعة أوامر اللّه، فلم تسارعوا إليها كما سارع المؤمنون فإن من عادة المنافق أن لا يدخل في جهاد و لا خير، و إنما يقول: دعنا نرى ماذا تكون العاقبة وَ ارْتَبْتُمْ شككتم في الدين وَ غَرَّتْكُمُ خدعتكم الْأَمانِيُ جمع أمنية، مثل «أغاني جمع أغنية» فإن المنافق لا يجاهد رجاء أن لا يصادف بأذى، و لا ينفق رجاء أن يزيد تجارته، و لا يحضر الخير رجاء أن يقدم عمله الدنيوي و هكذا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ تقدم دينه و

لم يكن لكم نصيب في ذلك وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ خدعكم بالاستهانة بأمر اللّه الْغَرُورُ الشيطان الذي هو كثير الخدعة.

[16] فَالْيَوْمَ في يوم الحساب لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء في مقابل أن تخلصوا من نار جهنم وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا إذ في الآخرة لا ينفع إلا الإيمان و العمل الصالح مَأْواكُمُ النَّارُ محلكم الذي تأوون إليه نار جهنم هِيَ مَوْلاكُمْ أولى بكم وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ إنه مصير سي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 334

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 17]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

[17] و إذا عرف الفرق بين المؤمن حقيقة و المؤمن صورة «المنافق واقعا» ف أَ لَمْ يَأْنِ ألم يصل الآن أي الوقت لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فتكون قلوبهم مصدقة لما لفظوا بألسنتهم من الشهادتين وَ ل ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ فيقبلوا قلبا كلما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم إذا آمنتم أيها المنافقون قلبا، و أنتم أيها المؤمنون ظاهرا و باطنا، اعلموا إن من شرط الإيمان المنجي البقاء على الإيمان و عدم الانحراف وَ لا يَكُونُوا أولئك المؤمنون كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ كتاب موسى عليه السّلام و غيره من الأنبياء فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمن فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ لم تكن لها شفافية و لين قلوب المعاصرين للأنبياء، في عصر الرسالة، حيث كانوا يخضعون لأوامر اللّه سبحانه، لما لهم من لين و طهارة و

شفافية وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خرجوا عن الطاعة، فالباقي منهم قسى قلبه، و غير الباقي خرج عن الطريق.

[18] لكن اللّه لا يترك دينه بين ذاك و هذا بل إنه كما يحيي الأرض بعد اليباب يحيي الدين بعد الاندراس اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بسبب المطر، و كيفية تحديد اللّه للأمم، أن الأمة السابقة تأخذها النخوة و الغرور فلا تعمل صحيحا بل تأخذ في عمل الباطل، و أمة جديدة صفت أذهانها عن الرواسب و الأنانيات تأخذ في العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 335

[سورة الحديد (57): الآيات 18 الى 19]

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)

و لذا تأخذ مكان الأمة السابقة، و قد جعل الإسلام الشورى في الحكم و كون رئيس الدولة المجتهد العادل المخالف لهواه المطيع لأمر مولاه ضامنا لبقاء الإسلام غصنا طريا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدلالات الواضحات على صحة ما نقول لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تفهمون ما نقول و تعملون بموجبه.

[19] و حيث كان الكلام قبلا في إعطاء المال في سبيل اللّه رجع الكلام إليه فقال سبحانه إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أصله «تصدق» أي أعطى الصدقة وَ الذين أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً و إنما سميت الصدقة صدقة، لأنها تصديق للّه في ما يقول فالمعنى إن الذي صدق اللّه في إعطاء المال، و قد جعله قرضا حسنا يُضاعَفُ لَهُمْ عند رد ما أعطوا وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ و قد تقدم تفسير الآية، فلا حاجة إلى التكرار.

[20] نعم

إنه لا ينفع مجرد إعطاء الصدقة إذا لم يكن كامل الإيمان و لذا قال سبحانه وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فشرط القبول الإيمان باللّه و الرسول و إعطاء الصدقة قرضا حسنا بإخلاص و بدون ربا أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ لكثرة تصديقهم لأنهم صدقوا باللّه و بكل أنبيائه و بما وعد من إعطائهم المال، إلى غير ذلك وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لأن اللّه يجعلهم شهداء على غيرهم، في الآخرة، إذ الإنسان العادل المعتدل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 336

[سورة الحديد (57): آية 20]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)

في سلوكه يكون شاهدا على غيره لَهُمْ لهؤلاء المؤمنين المصدقين أَجْرُهُمْ أجر الصديقين وَ نُورُهُمْ و نور الصديقين وَ بالعكس منهم الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا و لم يعملوا صالحا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لا أجر حسن لهم، و لا نور لهم، بل يعيشون في حر النار و ظلام الدخان.

[21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ فهي صورة للآخرة الحقيقية، مثل ملاعب الأطفال التي هي صورة للأشياء الحقيقية في الدنيا وَ لَهْوٌ تلهي الإنسان عن الواقع الذي هو الآخرة وَ زِينَةٌ مظهر لا واقع له كما يتزين الإنسان ببعض المظاهر التي لا تغير من الواقع شيئا وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يفتخر الإنسان على إنسان ثان و بالعكس و هي حالة بدائية يتصف بها الأطفال وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ حيث كل ما يريد أن يكون

أكثر من الأخر مالا و ولدا بينما لا يفيد أيهما له فائدة حقيقية، ثم كل ذلك إلى الزوال و الفناء كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ الزراع نَباتُهُ قد أعجبوا بها و فرحوا بما لا دوام له و لا بقاء ثُمَّ يَهِيجُ هيجانا إلى الفساد فَتَراهُ مُصْفَرًّا قد ذهب رونقه و جماله ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يابسا متكسرا فالدنيا في نضارتها الخلابة ثم سرعة زوالها مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 337

[سورة الحديد (57): آية 21]

سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

النبات السريع الزوال هذا حال زينة الدنيا، في الدنيا وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ في قبال أهل الدنيا المغترين بها، الذين مثل دنياهم ما تقدم أهل الآخرة الذين لهم مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ غفران لذنوبهم و رضي اللّه لهم الذي هو أعظم شي ء لأنه نعمة روحية، و النعمة الروحية أفضل من النعمة الجسدية وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن أقبل إليها و لم يطلب بها الآخرة الباقية، فإنها تغر الإنسان عن منافعه الواقعية.

[22] و إذا عرف الإنسان حال الدنيا و حال الآخرة فليسرع إلى تحصيل الآخرة سابِقُوا من المسابقة تحريض لطلب الآخرة بكل سرعة ممكنة، كما يفعل المسابق في الدنيا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أسباب الغفران وَ جَنَّةٍ عَرْضُها سعتها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ كسعتهما و الفضاء وسيع جدا حتى أن كل السماء و الأرض في جنبه كحبة أرز في صحراء غير متناهية أُعِدَّتْ هيأت تلك الجنة لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فليتشوق إليها كل عاقل ذلِكَ إعطاء

الجنة للمؤمنين فَضْلُ اللَّهِ لأنه ليس بواجب عليه سبحانه إعطاء الجنة للمطيع يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ و مشيئته تابعة للصلاح الذي لا يكون إلا للمؤمن العامل بالصالحات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 338

[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 23]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يعرف مدى فضله وسعة رحمته إلا هو.

[23] و حيث ذكر سبحانه وجوب القتال و الإنفاق و شوق المطيعين بالجنان و أنذر المخالفين بالعقاب جاء دور بيان أن ما يصيب الإنسان عامة «و التي منها ما يصيبه حال الحرب من الموت و الجرح و ما أشبه» مثبوت عند اللّه و لا يضيع أجره ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كالجرب و أكل الجراد المزارع وَ لا حرف عطف فِي أَنْفُسِكُمْ كالمرض و الجرح إِلَّا مكتوبة فِي كِتابٍ ثابتة في علمنا، و لعل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها برأه بمعنى خلقه إِنَّ ذلِكَ كناية في كتاب من قبل تكونه عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه سبحانه عالم بما كان و بما يكون و بما هو كائن إلى الأبد، و الإشكال بأنه إذا كان سبحانه عالما لا يمكن تخلفه، واضح الجواب: لأن العلم ليس بعلة، كما أنك إذا علمت بطلوع الشمس غدا لا تكون علة لطلوعها.

[24] و قد ذكرنا ذلك لكم بأنه ثابت في الكتاب لِكَيْلا تَأْسَوْا لا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا، و قد ذكر سبحانه تبعا لذلك «و

إن لم يكن الكلام منصبا عليه» قوله وَ لكي لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أعطاكم من نعيم، فإن من علم أن كل شي ء يصيبه من خير و شر مقدر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 339

[سورة الحديد (57): آية 24]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

كائن، لا يحزن حزنا متزايدا و لا يفرح فرحا متزايدا، لأن شدة الحزن و الفرح، لمحزن و لمفرح فجائي، و العلم يرفع الفجائية ألا ترى أن من يعلم أن غدا يموت ولده لا يحزن مثل حزن من لا يعلم بذلك بل يفاجأ به، إلى غير ذلك ثم المراد «عدم الحزن المخرج للإنسان إلى الجزع» و «عدم الفرح المخرج للإنسان إلى البطر» وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ من اختال بمعنى تكبّر فَخُورٍ كثير الفخر، فإن من فرح فرحا متزايدا بالنعمة، و لم يخف عواقبها أخذ في الكبر و الافتخار على الناس.

[25] و من هو المختال الفخور؟ هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ عن الإنفاق فإن الذين يفرحون الفرح المطغي ممن لا يؤمن بأن المال جاءه بكتابة من اللّه، و إنه زائل و له حساب دقيق «للتلازم بين العلم بالكتابة و بين التواضع و الإنفاق، كالتلازم بين عدم هذا العلم و بين التكبر و البخل».

وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ إذ البخلاء يريدون بخل الناس حتى لا تقع اللائمة عليهم وَ مَنْ يَتَوَلَ عن أوامر اللّه سبحانه فلا ينفق فليعلم أن اللّه أمر بالإنفاق لمصلحته هو لا لأن اللّه بحاجة إلى المال و إن اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ إذ غنى ما سوى اللّه مجازي الْحَمِيدُ فلا يحتاج إلى الإنفاق ليكثر المؤمنين حتى يحمدوه، فإنه المحمود بالذات سواء حمده أحد أولا.

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 5، ص: 340

[سورة الحديد (57): آية 25]

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

[26] و من كونه غنيا حميدا يتبين أن إرساله الرسل و الأحكام ليس لأجل حاجته و إنما لأجل الناس أنفسهم لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ بالأدلة البينة الواضحة وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ جنس الكتب السماوية وَ أنزلنا الْمِيزانَ و معنى إنزاله تقريره، و حيث إنه من مكان رفيع معنى، صح «أنزلنا» كما يقال هذه الأمور من فوق إذا كانت من الرئيس، و المراد كل ميزان للحق و الباطل، سواء كانت موازين للأخلاق أو المعاملات أو المعاشرات أو الموازين الحديدية و نحوها، لأن كل الموازين العلمية و العملية إنما قررها اللّه سبحانه، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، فلا يظلم أحد أحدا، فالكتاب لبيان الحكم، و الميزان لتطبيق ذلك الحكم على المجتمع، و من يخالف؟ فله الحديد وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ إنزاله باعتبار تقديره في السماء فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ بالقتل و القصاص و نحوهما وَ فيه مَنافِعُ لِلنَّاسِ لأن كثيرا من الحاجات تكون بسبب الحديد وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ عطف على فيه بأس، أي أنزلنا الحديد للبأس و المنفعة و الامتحان مَنْ يَنْصُرُهُ وَ ينصر رُسُلَهُ إذ استعمال الأسلحة الحديدية في مجاهدة الكفار نصرة للّه و لرسله بِالْغَيْبِ في حال كون اللّه، أو الرسول غائبا عنهم إذ الناس لا يرون اللّه، و كثيرا لا يرون الرسول، و مع ذلك يجاهدون، و معنى «ليعلم اللّه» أي ليتحقق علمه في الخارج، لكن ليس طلب اللّه للنصرة عن

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 341

[سورة الحديد (57): الآيات 26 الى 27]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)

احتياج ف إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على إهلاك من يريد عَزِيزٌ لا يحتاج إلى أحد، و إنما أمر بالجهاد لينتفع الناس بالجهاد في دنياهم و آخرتهم.

[27] ثم ذكر سبحانه بعض أفراد الرسل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ فقد كان بعض ذريتهما أنبياء وَ الْكِتابَ أعطينا بعضهم كتبا جديدة فَمِنْهُمْ من ذريتهما مُهْتَدٍ اهتدى بالأنبياء وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي من أولئك الذرية فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه سبحانه.

[28] ثُمَ بعد نوح و إبراهيم عليهما السّلام قَفَّيْنا أتبعنا عَلى آثارِهِمْ آثار ذينك النبيين و ذريتهما بِرُسُلِنا أرسلنا رسولا بعد رسول وَ قَفَّيْنا أتبعنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ رسلا أيضا و لعل عدم ذكر موسى عليه السّلام أن الكلام في الأول و الوسط و الآخر فنوح أول «نبي» و إبراهيم وسط كذلك، و عيسى آخر قبل نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ آتَيْناهُ أعطيناه الْإِنْجِيلَ فلما ذا ينكر النصارى الرسول و قرآنه أليس أرسل لهم رسولا و أعطوا كتابا؟ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ اتباعا حقيقيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 342

لا من حرّف دينه و غيّر كتابه رَأْفَةً صفة داخل القلب وَ رَحْمَةً صفة

داخل القلب إذا ظهرت في الخارج وَ رَهْبانِيَّةً مشتقة من رهبة بمعنى ما يظهر من العبادة على الجوارح من آثار رهبة القلب، و رهبان جمع راهب ابْتَدَعُوها بدعة حسنة أي طبقوا أمر اللّه بالرهبة على كيفية خاصة فإن للإنسان أن يطبق الكلي على بعض أفراده، مثل أن يطبق

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الوقوف على حسب ما وقفها أهلها»

على بناء المدرسة الدينية، فهي مجعولة باعتبار جعل اللّه الكلي، و مبتدعة باعتبار الفرد، و لذا لا منافاة بين قوله تعالى «جعلنا» و بين قوله «ابتدعوها» ما كَتَبْناها الرهبانية عَلَيْهِمْ بالصيغة الخاصة إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فإنهم لما ابتدعوها كتبناها عليهم بالصيغة الخاصة لأجل طلب رضى اللّه، فهي مجعولة بالكلية، مبتدعة بالصيغة الخاصة، مكتوبة بعد ذلك لأجل رضى اللّه فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لأن الرؤوف الرحيم الراهب يجب عليه التصديق بما جاء من عند اللّه، لكنهم بكفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و باختلافهم قبل ذلك، و جعلهم الإله ثالث ثلاثة، و بتحريفهم الإنجيل، و بغشوتهم على الناس، تركوا رعاية تلك الأوصاف فَآتَيْنَا أعطينا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أي بقوا على إيمانهم، لأن للإنسان في كل يوم إيمانا جديدا أَجْرَهُمْ الذي يستحقون بسبب بقائهم على إيمانهم وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 343

[سورة الحديد (57): الآيات 28 الى 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ

اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

[29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانا صادقا لا يشوبه النفاق، إذا آمنتم بالرسول إيمانا صادقا يُؤْتِكُمْ يعطكم اللّه كِفْلَيْنِ أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ نصيبا لأجل إيمانكم باللّه، و نصيبا لأجل إيمانكم برسوله و المراد أيها المؤمنون بعيسى عليه السّلام آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيعطيكم اللّه رحمة لأجل إيمانكم بعيسى عليه السّلام و رحمة لأجل إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ بين الناس فإن الإنسان المحكّم عقله و المتبع للّه و رسوله يكون له نور يعرف به الحق من الباطل فيحكمه الناس في أمورهم و يستشيرون منه في أعمالهم كمن عنده المصباح في الليل المظلم حيث يستنير الناس بنور مصباحه وَ يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ذنوبكم وَ اللَّهُ غَفُورٌ كثير الغفران رَحِيمٌ بعباده فيغفر ذنوبهم، و يعطيهم الجنة من رحمته.

[30] يقال في العرف «إن المطلب كذا، حتى لا يعلم زيد» أي أتركه حتى لا يعلم، إذا كان إنسانا معاندا لا يريد العلم، و الظاهر من الآية هو هذا، أي أن من آمن باللّه و الرسول له كفلان و نور و غفران لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اتركهم حتى لا يعلموا، و إنما يتركون لأنهم معاندون، فيبتدئ قوله سبحانه أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 344

اللَّهِ أن مخففة من الثقيلة، و اسمه ضمير محذوف، أي أنهم لا يقدرون على إعطاء أو منع شي ء من فضل اللّه، فلا يقدرون على منع فضله «بالكفيلين و النور و الغفران» عن المسلمين،

كما لا يقدرون على منح مثل هذا الفضل لأنفسهم و «أن لا يقدرون» عطف على «لئلا يعلم» أي أنهم لا يعلمون الحق، و لا يقدرون على صرف الأجر وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ و هذا تأكيد لبيان أنهم «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» يُؤْتِيهِ يعطي اللّه ذلك الفضل ل مَنْ يَشاءُ ممن اتبع أوامره وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ نسأله سبحانه أن يمنحنا من ذلك الفضل و هو المستعان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 345

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء الثامن و العشرون من آية (1) سورة المجادلة إلى آية (13) سورة التحريم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 346

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 347

58 سورة المجادلة مدنية/ آياتها (23)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل هذا الباب. و هو قوله «تجادلك» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب بيان العقيدة و حيث ختمت سورة الحديد ببيان فضله سبحانه افتتحت هذه السورة بذكر مصداق من مصاديق فضله، و ذلك تلبية اللّه لرغبة المرأة التي جاءت الرسول تجادل في زوجها، بأن جعل لها مخرجا من تلك المشكلة التي وقعت فيها، ببيان حكم الظهار.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم الإله المستحق لجميع المحامد و أنواع التعظيم، ففي الابتداء باسمه أداء لحقه في التقديم، و إتيان بمقتضى عظمته، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، و على كل أحد، فهو

«يعطي من سأله»

و

«يعطي من لم يسأله و من لم يعرفه، تحننا منه و رحمة».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 348

[سورة المجادلة (58): آية 1]

بِسْمِ

اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

[2] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ المرأة الَّتِي تُجادِلُكَ أي تراجعك و تتكلم معك يا رسول اللّه فِي أمر زَوْجِها و اسم المرأة «خولة» و اسم زوجها «أوس» وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ حالها و ما نزل من المكروه وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي تخاطبكما أنتما يا رسول اللّه، و يا أيتها المرأة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع الكلام بَصِيرٌ يبصر الأحوال، فأنتما باطلاعه سبحانه استماعا و إبصارا، قال في المجمع- بتلخيص-:

نزلت الآيات في امرأة من الأنصار من خزرج. و اسمها «خولة» و زوجها «أوس» و ذلك أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها، فأبت عليه، فغضب عليها، و كان امرءا فيه سرعة و لمم، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، ثم ندم على ما قال، و كان الظهار من طلاق أهل الجاهلية، فقال لها: ما أظنك إلا و قد حرمت عليّ، فقالت:

لا تقل ذلك و أت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاسأله؟

فقال: إني أجد أني أستحي من أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله؟ فقال: سليه فأتت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني و أنا شابة غنية ذات مال و أهل حتى إذا أكل مالي و أفنى شبابي، و تفرق أهلي و كبر سني ظاهر مني، و قد ندم فهل من شي ء يجمعني و إياه فتنعشني به؟ فقال: ما أراك إلا حرمت عليه- أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحرمة الموقتة

التي تحل بالكفارة- فقالت: يا رسول اللّه و الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، و أنه أبو ولدي و أحب الناس إلي؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أراك إلا حرمت عليه، و لم أؤمر في شأنك بشي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 349

[سورة المجادلة (58): آية 2]

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)

فجعلت تراجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إذا قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمت عليه هتفت و قالت: اشكوا إلى اللّه فاقتي و حاجتي و شدة حالي، اللّهمّ فأنزل على لسان نبيك، و كان هذا أول ظهار في الإسلام. و قالت:

انظر في أمري جعلني اللّه فداك.

فنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوحي، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادعي زوجك فتلا عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «قد سمع اللّه» إلى تمام الآيات، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: إذا يذهب مالي كله و الرقبة غالية و أنى قليل المال فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال:

و اللّه يا رسول اللّه إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري و خشيت أن تعشى عيني، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا و اللّه إلا أن تعينني على ذلك يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: إني معينك بخمسة عشر صاعا و إني داع لك بالبركة، فأعانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك

«1».

[3] ثم بين سبحانه ذم «الظهار» بقوله الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ نِسائِهِمْ أي يقولون لهن: «أنت كظهر أمي» فإن هذا اللفظ كان طلاقا في الجاهلية، و معناه: أنه كما يحرم على ظهر الأم، كذلك تحرمين أيتها الزوجة علي، و قد أقر الإسلام كون هذا اللفظ محرّما للزوجة، إذا اجتمع فيه شروط الطلاق، من كونه بمحضر العدلين و ما أشبه، إلا أنه حرم الطلاق بهذا النحو و جعل الرجوع فيه الكفارة ما هُنَ أي لسن الزوجات، المقول فيهن هذا القول أُمَّهاتِهِمْ فإن مجرد اللفظ لا يجعل من الزوجة أمّا إِنْ أُمَّهاتُهُمْ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 408.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 399

[سورة المجادلة (58): آية 3]

وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)

أي أمهات هؤلاء المظاهرين إِلَّا النساء اللَّائِي جمع التي وَلَدْنَهُمْ فلا أمومة حقيقية بين المظاهر و المظاهر منها وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ فإن تشبيه الزوجة بالأم قول منكر، فلا شرعية لهذا القول، و كل شي ء لا يكون له حقيقة و لا شرعية فهو باطل وَ زُوراً أي كذبا، فإن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه، و لم يكن بحقيقة كان كذبا، لكن لا ييأس القائل من عفو اللّه و فضله فإن أبواب التوبة مفتوحة وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ كثير العفو عن العصاة غَفُورٌ لذنوبهم. و أما الفرق أن العفو هو عدم العقاب، و ذلك

لا يلازم الستر بحيث لا يكون ذنبه ظاهرا، كما نرى أن الحكومات قد تعفوا عن مجرم لكن جرمه مذكور ثابت في الدفتر، أما الغفران فهو الستر للمعصية، حتى تمحى عن ديوانه سبحانه.

[4] ثم جاء السياق ليبين حكم الظهار و ما يترتب عليه وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ المظاهرة مشتقة من «الظهر» و الإتيان ب «من» لأن الظهر يبتدأ من جانب المرأة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا بأن يريدون الرجوع إلى النساء و نقض كلامهم السابق المقتضي للتحريم فاللازم عليهم لحلية الوطي و رجوع الزوجة كما كانت فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي يجعل عبدا مملوكا حرا بالعتق، و إنما قيل له رقبة بعلاقة الجزء و الكل مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي يمس أحد الزوجين الآخر، و هو كناية عن الجماع، فإن الجماع لا يحل قبل التحرير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 351

[سورة المجادلة (58): آية 4]

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

ذلِكُمْ ذا إشارة إلى التحرير و «كم» خطاب، أي أن وجوب التحرير عليكم مما تُوعَظُونَ بِهِ و الوعظ هو التحرير عن عمل يوجب العقاب، فإن ترك التحرير و المماسة موجب للعقاب لأنه عصيان وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من المماسة بدون الكفارة أو بعدها خَبِيرٌ عالم مطلع، فلا تفعلوا ما يوجب عليكم عقابا.

[5] فَمَنْ ظاهر من زوجته و أراد العود و لَمْ يَجِدْ أي لم يتمكن من عتق رقبة إما لعدم وجود المال لاشترائه، أو لعدم وجود أصل العبد- كما في زماننا- فكفارته صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ التتابع هو التوالي و مجي ء الواحد بعقب الآخر، أي أن

يصوم شهرين بلا فصل إفطار يوم بين أيام الشهرين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي يجامعا الرجل و المرأة فَمَنْ ظاهر و لَمْ يَسْتَطِعْ العتق و لا الصيام و أراد الرجوع فعليه إطعام سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فقيرا بأن يشبع بطنهم أو يعطي لكل واحد ثلاثة أرباع من الحنطة- مثلا- ذلِكَ الحكم بالكفارة للمظاهر المريد للعود إنما شرع لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي ليرسخ الإيمان في قلوبكم فإن رسوخ الإيمان إنما هو بتتابع الأعمال و التكاليف، فإن التكاليف توقظ القلب و تقوي الملكة فيه، و حيث إن الإيمان كسائر الصفات شي ء تدريجي يحدث آنا بعد آن، صح الإتيان بالفعل باعتبار المستقبل، كقوله «اهدنا الصراط» و قد تقدم تفصيله وَ تِلْكَ الكفارات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 352

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6)

حُدُودُ اللَّهِ أي هي الحدود للإيمان التي قررها اللّه سبحانه، فلا يسمح للمؤمن الخروج منها، بالعصيان، كما لا يسمح للإنسان أن يخرج من حدود المدينة نحو الأعداء وَ لِلْكافِرِينَ بحدود اللّه المنكرين لها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[6] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ حاده بمعنى خالفه وَ رَسُولَهُ بأن لا يمتثلون أوامرهما كُبِتُوا أي أذلوا و أخزوا، من الكبت بمعنى الإذلال كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار و المشركين، و إذلالهم بنصرة الإسلام عليهم في الدنيا، و عذابهم في الآخرة وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ أي علائم و أدلة بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات، على أصول العقيدة، و أحكام

الشريعة، فلا عذر للشخص أن يقول لم أعرف و لم أدر وَ لِلْكافِرِينَ بالآيات عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم.

[7] و العذاب المهين إنما هو في يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي يحييهم و يحشرهم جَمِيعاً فلا يترك منهم أحد، و لا مفر لأحد من بأسه سبحانه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم اللّه بِما عَمِلُوا إخبارا لأجل العذاب، فإن المجرم يعد جرمه أولا ثم يعاقب لئلا يقول عذبت ظلما أَحْصاهُ اللَّهُ أي عدده سبحانه في كتابه و حفظه وَ نَسُوهُ فإن الغالب إن الإنسان ينسى أعماله التي عمل بها وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 353

[سورة المجادلة (58): آية 7]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7)

أي شاهد حاضر، فيعرف كل ما يصدر من الإنسان، و يأمر الملائكة بتثبيته، ليجازي به يوم القيامة.

[8] أَ لَمْ تَرَ أي ألم تدرك، فإن الرؤية قد تكون بالعين، و قد تكون بالقلب، و المخاطب هو الرسول أو كل من يتأتى منه العلم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لا يغيب عنه شي ء من الأشياء؟

فكيف لا يعلم أعمال الجاحدين و الكافرين؟ و الاستفهام تقريري، و هو بمثابة الدليل لقوله «يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» و «اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ» ثم أكد عموم علمه سبحانه بأنه شامل حتى للأسرار التي يفضي بها الإنسان إلى إنسان سرّا و في إخفات ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى

«من» زائدة لعموم النفي، و «النجوى» هو الحديث السري يدور بين اثنين أو أكثر في منأى من الناس ثَلاثَةٍ أي ثلاثة أشخاص إِلَّا هُوَ سبحانه رابِعُهُمْ يسمع ما يقولون.

وَ لا نجوى خَمْسَةٍ أشخاص إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ يسمع كلامهم وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ بأن يكون المتناجين اثنين وَ لا أَكْثَرَ بأن يكونوا أكثر من خمسة إِلَّا هُوَ سبحانه مَعَهُمْ بالعلم و الاطلاع أَيْنَ ما كانُوا من بقاع الأرض، و غيرها ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما عَمِلُوا في الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ ليجازيهم عليه فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 354

[سورة المجادلة (58): آية 8]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

الثواب و العقاب بعد الإخبار تكريما للمثاب، و إهانة للمعاقب، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها فلا يخفى عليه شي ء.

[9] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى

قال ابن عباس

إنها نزلت في اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم و ينظرون إلى المؤمنين و يتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا و قد بلغهم عن أقربائنا و إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة، فكان ذلك يحزنهم فشكوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهى الرسول عن النجوى فلم ينتهوا عن ذلك، فأنزل سبحانه هذه الآية

«1» ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ غير مبالين بالنهي.

وَ يَتَناجَوْنَ فيما بينهم بِالْإِثْمِ فيكنّ بعضهم لبعض

آثامه وَ الْعُدْوانِ أي التعدي على الناس و التعدي عن الحق وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ بأن كان بعضهم يوصي بعضا بعصيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِذا جاؤُكَ هؤلاء المتناجون بالباطل حَيَّوْكَ يا رسول اللّه بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي تحية ظاهرها مليح و باطنها قبيح،

فقد كان اليهود يقولون للرسول عوض التحية «السام عليك» و السام هو الموت، يخفون ذلك موهمين أنهم قالوا «السّلام عليك» و قد كان فريق آخر يقول في تحيته «أنعم صباحا، و أنعم مساء» و هي تحية أهل الجاهلية،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 413. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 355

[سورة المجادلة (58): آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)

فنهاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك و قال «قد أبدلنا اللّه بخير من ذلك تحية أهل الجنة السّلام عليكم

» و الاستفهام في قوله «ألم تر» للإنكار، أي لماذا يفعل هؤلاء هكذا وَ يَقُولُونَ هؤلاء اليهود و المنافقون فِي أَنْفُسِهِمْ أي بعضهم لبعض أو خلجانا في صدورهم لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي لو كان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا حقا، فهلا ينزل اللّه علينا العذاب؟ أليس ذلك دليل على أنه ليس بنبي؟ و يأتي الجواب لاستفهامهم التعنتي هذا حَسْبُهُمْ أي كافيهم عقوبة جَهَنَّمُ التي يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يوم القيامة فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع و المحل لسكناهم، أما عدم تعذيب اللّه فلأنه لا يعذب اللّه في الدنيا كل عاص، و إلا ما ترك على ظهرها من دابة.

[10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ بعضكم مع بعض فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي لا تفعلوا كفعل المنافقين و اليهود- كما سبق- وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ أي بأفعال الخير، كأن يناجي أحدهم الآخر بأن ينفق في سبيل اللّه وَ التَّقْوى كأن يناجيه في ترك معصية أو فعل طاعة مما يتقي به عن عذاب اللّه وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي إلى حسابه و جزائه تنتقلون بعد المبعث و الحياة الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 356

[سورة المجادلة (58): الآيات 10 الى 11]

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

[11] إِنَّمَا النَّجْوى الذي يتعاطاه الكفار و المنافقون مِنَ أعمال الشَّيْطانِ و إيحاءاته، و إنما يوحي إلى أوليائه بذلك لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا بأن يظنوا أن المتناجين ينقلون فيما بينهم خبرا محزنا، أو يدبرون مؤامرة، أو يستهزئون بالمؤمنين أو ما أشبه وَ لَيْسَ نجواهم بِضارِّهِمْ أي لا يضر المؤمنين شَيْئاً فان النجوى ليس إلا عملا باطلا لغوا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن اللّه مطّلع على نجواهم، فإن اقتضت حكمته أن لا يحول بينهم و بين ما دبروا من المكر، كان يضرهم، أما إذا لم يرد اللّه سبحانه ضرر المؤمنين حال بينهم و بين ما يدبرون بالنجوى، فاللازم أن يتوجه المؤمنون إلى اللّه بالضراعة ليدفع كيد الكفار و المنافقين عنهم وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن

يكلوا أمرهم إليه سبحانه، فإنه نعم الحفيظ.

[12] و إذا فرغ السياق من بيان أدب من آداب المجالس، بذكر بعض الأمور المرتبطة بالنجوى، بمناسبة تحدث المرأة مع الرسول حول الظهار، الذي كان حوارا في المجلس و مما يحدث في المجالس، جاء السياق ليبين أدبا آخر من آداب المجالس فقال سبحانه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ و القائل أيّ شخص كان تَفَسَّحُوا أي اتسعوا فِي الْمَجالِسِ بأن تجمعوا أنفسكم في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 357

الجلوس، حتى يتسع المكان لشخص آخر فَافْسَحُوا و وسعوا المكان يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع اللّه لكم الأمر، أو يوسع اللّه لكم منازلكم في الجنة، فقد ورد أن المسلمين كانوا يتنافسون على المجلس في محضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنوا بمجلسهم عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يفسح بعضهم لبعض وَ إِذا قِيلَ لكم انْشُزُوا أي قوموا عن أماكنكم ليجلس غيركم، من «نشز» بمعنى ارتفع فَانْشُزُوا أي فقوموا،

قالوا و كان سبب نزول هذا أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يكرم أهل بدر، و ذات يوم و الناس آخذون مكانهم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ورد بعض أهل بدر فلم يفسح الجالسون لهم مكان، فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض الجالسين قوموا حتى يجلس أهل بدر، فقاموا لكن الكراهية بدت في وجوههم و استغل المنافقون ذلك فقالوا لمن أقيم: أ هكذا عدل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث يقيمكم ليجلس غيركم ذلك المكان؟ فنزل ذلك

«1».

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ إيمانا

صحيحا من الأعماق وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ في الدنيا و في الجنة، فهذا الامتثال للرسول بالقيام حسب أمره موجب لرفعتكم في الدنيا و الآخرة، و فيه تناسب حسن بين قيامهم من المجالس، و رفعة درجتهم، و الدرجات إنما هي بحسب مراتب الإيمان و العلم، وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 417.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 358

[سورة المجادلة (58): آية 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

أي عالم مطلع فيجازيكم حسب أعمالكم.

[13] و بعد ذلك جاء السياق لبيان أدب آخر من آداب مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيه تلميح إلى أن ذلك أدب عام، فقد سبق منا أن أمثال هذه الآيات إنما أتي بها للإلماع إلى الخطوط العامة في الأحكام و الآداب، و إن لم يكن لها مصاديق خارجية بعد موت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يرتبط بتلك الآيات مباشرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي أردتم الإسرار في أذنه، فإن الفعل يأتي بمعنى الإرادة كهذه الآية، كما أن الإرادة تأتي بمعنى الفعل كقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» و يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «2» و ما أشبه ذلك فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ أي أمام النجوى صَدَقَةً فقد كان الأشراف- في زعمهم- يأتون إلى الرسول يناجونه بالترهات، إظهارا لفضلهم- كما جرت عادة أمثالهم إلى هذا اليوم- يريدون إراءة الناس ان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمع لقولهم و يرعاهم فجاءت

هذه الآية رادعة لهم، و فيه الأمر بتعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنفاع الفقراء، و النهي عن الإفراط في السؤال، و الميز بين المخلص و المنافق، و محب الآخرة و محب الدنيا، فلما سمعوا بهذه الآية انتهوا، باستثناء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فصرف دينارا عشرة دراهم، و أخذ يعطي درهما للفقير و يناجي، و درهما آخر و يناجي، و هكذا حتى أنفق العشرة «3».

______________________________

(1) الأحزاب: 34.

(2) البقرة: 186.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 359

[سورة المجادلة (58): آية 13]

أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)

ذلِكَ أي إعطاء الصدقة قبل النجوى خَيْرٌ لَكُمْ لأن فيه تحصيل الثواب، و أداء الواجب، و الدلالة على السخاء، و تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَطْهَرُ لأن التصدق يطهّر النفس من الرذيلة و الشح فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به قبل النجوى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عليكم ترك ذلك رَحِيمٌ بكم فلا يكلّفكم التصدق بل يجوّز لكم النجوى بدون الصدقة، و ستره سبحانه إنما هو بعدم إيجابه التصدق، حتى يأثم المناجي بدون التصدق، فلا يقال: لا مجال لقوله «غفور» في المقام، إذ الغفران عن الذنب و لا ذنب في المقام؟ و لما نزلت هذه الآية لم يتقدم أحد من النجوى إلا الإمام كما سبق، فأنزل اللّه سبحانه رفع الحكم بقوله:

[14] أَ أَشْفَقْتُمْ أي هل خفتم من الفقر أيها المسلمون أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ للرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم صَدَقاتٍ و كان الإتيان بالجمع باعتبار كون «النجوى» جنسا شاملا لأفراد متعددة، فلكل فرد صدقة، و هذا استفهام توبيخي، بأنه كيف تركتم هذه الفضيلة للخوف من الفقر مع العلم أن الصدقة لم تكن محددة، فكان يكفي القليل منها فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تتصدقوا، و تركتم النجوى بخلاف من الإنفاق وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن عفى تقصيركم في هذه الفضيلة فاعملوا بسائر أحكام الإسلام فقد رفع عنكم هذا الحكم فلا مانع بعد ذلك من النجوى بدون الصدقة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بالإتيان بها بحدودها وَ آتُوا الزَّكاةَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 360

[سورة المجادلة (58): آية 14]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14)

أعطوها وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر أوامرهما وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فأنتم بعينه و تحت اطلاعه، فلا تعملوا ما يخالف أوامره حتى تستحقوا العقاب.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إن في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها أحد بعدي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدم درهما

«1»، أقول: قوله «ءأشفقتم» لا ينافي عدم وجود النسخ في القرآن، لأن الظاهر كون الأمر بتقديم الصدقة في الآية السابقة، كان امتحانيا من قبيل رؤيا إبراهيم عليه السّلام، و لإظهار فضيلة الإمام عليه السّلام- كذا يقول المنكرون للنسخ-.

[15] و بمناسبة ما تقدم من النجوى، أتى السياق ليبين احترام السر و أنه لا يجوز إظهاره للأعداء أَ لَمْ

تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا بالصداقة و الوداد قَوْماً من الكفار غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال في المجمع: و المراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود و يفشون إليهم أسرار المؤمنين «2» ما هُمْ أي ليس هؤلاء المنافقين مِنْكُمْ أيها المؤمنون وَ لا مِنْهُمْ أي من الكفار، بل

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 29.

(2) مجمع البيان: ج 9 ص 419.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 361

[سورة المجادلة (58): الآيات 15 الى 17]

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)

مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء وَ إذا قيل لهم لم تنافقوا يَحْلِفُونَ لتبرئة ساحة أنفسهم عَلَى الْكَذِبِ بأنا لا نساير الكفار و لا ننافق وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون في قولهم و أنهم منافقون.

[16] أَعَدَّ اللَّهُ أي هيأ اللّه لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالخزي و الفضيحة و في الآخرة بالنار و النكال إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من النفاق و موالاة أعداء اللّه تعالى.

[17] اتَّخَذُوا هؤلاء المنافقون الذين حلفوا لكم أَيْمانَهُمْ جمع يمين و هي الحلف جُنَّةً أي سترة و ترسا يدفعون بها عن نفوسهم التهمة و الظنة إذا ظهر منهم النفاق فَصَدُّوا أنفسهم، و الناس الضعاف الإيمان عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصل إلى مرضاته فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يذلهم و يهينهم جزاء على نفاقهم.

[18] لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لا تفيد هؤلاء المنافقين في دفع عذاب اللّه عنهم أَمْوالُهُمْ التي جمعوها

وَ لا أَوْلادُهُمْ الذين خلفوهم مِنَ اللَّهِ أي من بأس اللّه و نكاله شَيْئاً فلا تدفعان عنهم و لو بعض العذاب أُولئِكَ المنافقون أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، كالصاحب الذي يلازم صاحبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 362

[سورة المجادلة (58): الآيات 18 الى 19]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)

هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد، و

قد روي أن الآيات نزلت في منافق كان يجالس اليهود و يأخذ عنهم نفاقا، فلما اطلع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أمره نهاه، فقال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه يأخذ عنهم صفته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموجودة في التوراة، و حلف على ذلك كذبا و تغطية لأمره، لكن الوحي فضحه و فشى أمره.

[19] هم أصحاب النار في يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ أي هؤلاء المنافقين يحييهم بعد الممات للحساب و الجزاء جَمِيعاً بغير أن يترك منهم أحدا و هذا التأكيد لئلا يحتمل أحد أنه يترك، كما هو الشأن في الدنيا إذ يترك بعض القوم- جهلا أو نسيانا- في الدعوات العامة و ما أشبهها فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي اللّه سبحانه، بأنهم كانوا مؤمنين في دار الدنيا كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الحال ظانين أن اللّه لا يعلم أمرهم، و ينطلي عليه كذبهم بمجرد الحلف وَ يَحْسَبُونَ أي يظنون أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ بأن أيمانهم الكاذبة تروج هنا، كما كانت تروج في الدنيا لدى المؤمنين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ في كلامهم و يمينهم فلا تروج الأيمان المكذوبة هناك، بل

يعرفون بالكذب و الدجل.

[20] اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ على هؤلاء المنافقين الشَّيْطانُ أي استولى عليهم، و الاستحواذ هو الاستيلاء، من «حاذ» بمعنى «حاز» كالذي يحوز شيئا لنفسه و يختاره لشخصه فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ حتى أنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 363

[سورة المجادلة (58): الآيات 20 الى 21]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)

لا يذكرونه سبحانه حتى يخافوا منه، فينقلعوا عن النفاق و العصيان أُولئِكَ المنافقون حِزْبُ الشَّيْطانِ جماعته و أتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا دنياهم و آخرتهم، فإن الدنيا تزول، و لهم في الآخرة النار.

[21] ثم انتقل السياق من المنافقين، إلى كل مخالف للّه و رسوله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ أي يتجاوزون حدوده بالمخالفة وَ رَسُولَهُ فيما جاء من الأحكام أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ فلا أحد أذل منهم في الدنيا و الآخرة، و كأن الأذلون فرقة سابقة على الإسلام، فهؤلاء المحادون في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بعده داخلون في أولئك، و كأن هؤلاء أكثر ذلّا و هوانا من العصاة من المؤمنين، و بهذا الاعتبار عبر عنهم بالأذل، أو أنهم أذل من الكافر غير المحادد.

[22] و هل يظن هؤلاء المحادون أن عملهم يثمر لهم نجاحا، أو للإسلام هبوطا؟ كلا! فقد كَتَبَ اللَّهُ في اللوح المحفوظ و قرر لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي على كل محاد و مخالف، و قد جرب العالم صدق هذه المقالة، فالآخذون بزمام العالم حتى في هذا اليوم المظلم هم الرسل كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لهم من الأتباع أكثر

من نصف أهل العالم، و مناهجهم سارية- قليلا أو كثيرا- في كل العالم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على نصر أنبيائه عَزِيزٌ غالب في سلطانه، فلا يتمكن أحد على أن يغلبه أو يغلب رسله، و

قد روي أن المسلمين لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 364

[سورة المجادلة (58): آية 22]

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

رأوا ما يفتح اللّه عليهم من القرى قالوا: ليفتحن اللّه علينا الروم و فارس فقال المنافقون: أ تظنون أن فارسا و الروم كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ فأنزل اللّه هذه الآية

«1».

[23] ثم جاء السياق ليبين وظيفة المسلم أمام الكافر، و أنه يلزم عليه أن لا يواد الكافر مهما كان، خلافا لأولئك المنافقين الذين كانوا يوادون الكافرين لا تَجِدُ يا رسول اللّه، أو أيها المسلم قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صحيحا يُوادُّونَ الموادة المحابة، من باب «المفاعلة» مَنْ حَادَّ اللَّهَ أي خالف اللّه وَ رَسُولَهُ بترك أوامرهما و الكفر بهما، و المعنى: إنه لا تجتمع موالاة الكفار مع الإيمان، فمن والاهم فليس بمؤمن، و ان أظهر الإيمان وَ لَوْ كانُوا أي كان الذين يحادون اللّه و رسوله آباءَهُمْ أي آباء المؤمنين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ بأن قربت قرابتهم، فإن الكفر يقطع قرابة المؤمن بالكفار و إن بقي رجحان بعض أقسام الصلة، إذا كان الكافر أبا أو أما أو

ما أشبه، كما قال سبحانه، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «2» أُولئِكَ الذين لا يوادون الكفار كَتَبَ اللّه أي أثبت فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 421.

(2) لقمان: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 365

بالألطاف الخفية بهم حيث رآهم في طريق الحق.

وَ أَيَّدَهُمْ أي قوّاهم اللّه سبحانه بِرُوحٍ مِنْهُ أي بروح من عنده تعالى، فإن المؤمن الصامد توجد فيه روح قوية توجب التزام أحكام اللّه سبحانه، حتى أن أقوى أسباب الكفر لا تتمكن من زحزحته وَ يُدْخِلُهُمْ اللّه في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء حال كونهم خالِدِينَ أي دائمين باقين فِيها أي في تلك الجنات رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حيث علم فيهم الإيمان الراسخ و العمل الصالح وَ رَضُوا عَنْهُ بما منحهم من الفضل و الإيمان في الدنيا و الجنان في الآخرة أُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات حِزْبُ اللَّهِ جماعته و أتباعه- في مقابل حزب الشيطان- أَلا فلينتبه السامع إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين فازوا و ظفروا بخير الدنيا و سعادة الآخرة، قالوا نزلت هذه الآية في «حاطب» حيث كاتب أهل مكة يخبرهم بإقبال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نحوهم للفتح، بعد ما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى أصحابه أن يفشوا الخبر، فلما عوتب في ذلك، اعتذر بأن أهله في مكة فأراد أن يكون له يد على أهلها، حتى لو كانت الدائرة على المسلمين راعى أهل مكة يده عندهم، فلا يؤذوا زوجته و أهله.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 366

59 سورة الحشر مدنية/ آياتها (25)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الحشر» و هي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة و حيث ختمت سورة المجادلة بذكر حزبي الرحمن و الشيطان افتتحت هذه السورة بذكر غلبة حزب الرحمن على حزب الشيطان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله نبتدئ السورة، لتكون معلّمة بعلامة الإيمان و يكون تعليما للمسلمين: بلزوم أن يبدءوا أعمالهم باسمه سبحانه، الرحمن الرحيم الذي خلقه، بالخلقة أولا، و اللطف و التربية و العناية ثانيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 367

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ أي نزهه سبحانه عن النقائص، و يجوز في سبح تعديه بلا واسطة نحو «سبحه» و تعديه مع الواسطة نحو «سبح له» باعتبار أن التسبيح له لا لغيره ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و المراد الظرف و المظروف، و المراد بالتسبيح إما التكويني بأن كل شي ء يدل على وجود الإله و سائر صفاته، دلالة الأثر على المؤثر، أو التسبيح بألسنتها التي لا نفقهها، كما قال:

كل شي ء في الكون يشعر لكن منع الناس عن شعور المشاعر وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْحَكِيمُ يفعل الأشياء حسب الحكمة و الصلاح.

[3] هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كل

أهل الكتاب كفار، لكن منهم من آمن بالرسول، فخرج عن الكفر، و منهم من لم يؤمن فيقال له «كفر» إما باعتبار استمراره في الكفر من قبيل «اهدنا»، أو باعتبار أنه كان إلى قبل بعثة الرسول مؤمنا- إذ كان تكليفه هو دينه- فإذ جاء الرسول و لم يؤمن صار كافرا و المراد بهم هنا يهود «بني النضير» مِنْ دِيارِهِمْ بأن سلط المؤمنين عليهم و أيدهم، حتى يتمكنوا من إخراجهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الحشر هو الجمع من مكان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 368

إلى مكان آخر- و لعل المراد لأول مرة في إخراج اليهود من المدينة بصورة جماعية- ثم بعد ذلك أخرج غيرهم، حتى لا يبقى في جزيرة العرب اليهود إطلاقا، فإنهم أهل مؤامرة و دسائس، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إخلاء البلاد منهم و من كيدهم، لئلا يدبروا المؤامرات على الدين الجديد.

ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا أي اليهود بهذه السرعة لما كنتم تعلمون من شدة بطشهم و شوكتهم وَ ظَنُّوا أي اليهود أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ أي تمنعهم من المسلمين حُصُونُهُمْ جمع حصن و هي القلعة التي يتحصن فيها الإنسان خوفا من العدو المهاجم مِنْ بأس اللَّهِ بأنه سبحانه إذا أراد بهم شيئا وقفت حصونهم أمام إرادته فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي جاءهم أمر اللّه بالخراب لقلاعهم، و التشريد لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي لم يظنوا أنهم يمكن أن يؤتوا من تلك الجهة بأن ألقى الرعب في قلوبهم و أرخى قواهم، و كسر شوكتهم و منعتهم وَ قَذَفَ أي ألقى اللّه سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف، فإنهم لما رأوا كثرة شوكة المسلمين انهارت قواهم، و أول الهزيمة هو: الرعب و خور القوى و

انهيار الأعصاب يُخْرِبُونَ أي أولئك اليهود بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فقد كانوا يهدمون بيوتهم لئلا ينتفع بها المؤمنون وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فقد كان المؤمنون يخربون بيوتهم ليصلوا إليهم و يهزموهم فَاعْتَبِرُوا و اتعظوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 369

يا أُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب العقول، بأن اللّه سبحانه إذا حاده جماعة كيف يهزمهم و يغلب عليهم، حتى أنهم بأنفسهم يهدمون بيوتهم التي هي أعز ما يكون لديهم، و المراد بالاعتبار النظر في الأمور ليرى الإنسان بها أمورا أخر لها ارتباط وثيق بها.

و قد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في «بني النضير» و تفصيل قصتهم على ما في «قادة الإسلام» «1»: قتل أحد أصحاب الرسول نفرين ممن كانا في عهد الإسلام، و كان قتله لهما اشتباها، فأراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يستقرض ديتهما من بني النضير، و هم يهود قرب المدينة، عددهم زهاء الألف، فأظهروا قبول إقراض الدية، و دعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى داخل الحصن.

لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبى و اتكأ على جدار الحصن، و هناك نزل عليه جبرئيل و أخبره بأنهم عازمون على الغدر به، و تبين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك من حركاتهم، حيث إنهم تآمروا بينهم أن يذهب أحدهم على سطح الجدار الذي كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متكئا عليه فيلقي على رأس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجرا حتى يقضي على حياته الشريفة.

قفل الرسول راجعا إلى المدينة، قبل أن يأخذ القرض، و أرسل رسولا إلى بني النضير إذ نقضتم ميثاقكم و أردتم الغدر، فاخرجوا من بلادي و

لقد أمهلتكم عشرة أيام، و حينذاك لم يجدوا مناصا عن الخروج إلا أن بعض المنافقين، وعدهم النصر، و نهاهم عن الخروج، فلم يخرجوا، و أخبروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنهم لن يخرجوا فليفعل

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 370

[سورة الحشر (59): آية 3]

وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3)

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بدا له و عزموا على القتال، فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جمع من أصحابه، و رايته بيد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و حاصروا حصونهم و أخذوا يحتلون بيوتهم، فكانت اليهود تنسحب من دار إلى دار، و كلما انسحبت هدّمت البناء الذي في معرض الاحتلال و استماتوا، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع آمالهم عن أراضيهم، فأمر بقطع نخيلهم. يئس اليهود عن النجدة، و أرسلوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسولا يطلبون منه أن يسمح لهم بالخروج جميعا، فأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بشرط أن لا يحملوا أكثر مما تحمله إبلهم فقط، لكنهم لم يقبلوا، و بقوا مستميتين، و لما ضيق عليهم الحصار قبلوا شرط الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن الرسول جزاهم عن عنادهم، فلم يسمح لهم بحمل شي ء من أموالهم، و إنما أذن لهم بالخروج بدون حمل أثقالهم، فقبلوا الشرط و خرجوا وحدهم، و خلوا أموالهم كلها للإسلام، فقسم الأموال بين المهاجرين الأولين، و أعطى منها لنفرين من الأنصار، و بجلاء بني النضير استراح المسلمون من عدو لدود

لهم، كان يكيد لاجتثاث الإسلام من جذوره.

[4] وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ أي حكم اللّه عَلَيْهِمُ أي على بني النضير الْجَلاءَ أي الانتقال من ديارهم، و الجلاء عن أوطانهم لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بأن أمر الرسول بقتلهم و إهلاكهم كما أنه سبحانه فعل ذلك ببني قريظة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ لما تمادوا في كفرهم و عصيانهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 371

[سورة الحشر (59): الآيات 4 الى 6]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6)

[5] ذلِكَ الإخراج لهم عن ديارهم، و إعداد النار لهم في الآخرة بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ أي عادوه وَ حاربوا رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ بالمخالفة و المحاربة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي فليستعد للعقاب الشديد، لأنه تعالى «أرحم الراحمين في موضع العفو و الرحمة، و أشد المعاقبين في موضع النكال و النقمة».

[6] ما قَطَعْتُمْ أيها المسلمون مِنْ لِينَةٍ أي نخلة كريمة من أنواع النخيل، و إنما سمي لينة للين ثمره، و تقبل سعفه للتصنيع أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي جذوعها بأن لم تقطعوها- فقد قطع المسلمون بعض النخيل لبني النضير و تركوا بعضها قائمة- فَبِإِذْنِ اللَّهِ فقد تحرج المسلمون عن هذا العمل، بأنه إن لزم القطع فكان ما أبقوا غير جائز، و إن لزم الإبقاء كان ما قطعوا غير جائز، و لذا جاء البيان ليبرر

موقفهم و يطمئن قلوبهم، فإن ما احتيج إلى قطعه في الحرب و التنكيل قطع، و ما لم يحتج إلى قطعه أبقي، وَ لِيُخْزِيَ أي يذل اللّه الْفاسِقِينَ أي أولئك اليهود بهذا القطع و الإبقاء، فما قطع أورث فيهم حسرة كيف قطع المسلمون ما غرسوه و ربوه، و ما أبقي أورث فيهم حسرة كيف أبقي حتى ينتفع المسلمون به؟

[7] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الغنيمة التي غنموها في إجلاء بني النضير، بأنها خاصة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقربائه لأن المسلمين لم يتعبوا لأجلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 372

و ذلك بخلاف الغنيمة التي تعب المسلمون في تحصيلها، فإنها تقسم خمسة أقسام أربعة منها للمسلمين، و واحدة منها للرسول و أقربائه، و إنما خصص القسم الأول بالرسول و آله، لأنهم لما منعوا من الزكاة احتاجوا إلى سد نفقاتهم و ذلك إنما هو بالفي ء و الخمس، و لأنه لا بد و أن يكون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حصة زائدة ليتمكن من إدارة شؤون المسلمين المرتبطة بأمور الدولة- كما تخصص لرؤساء الحكومات- اليوم- حصة معينة من الخزينة لسد نفقاتهم المرتبطة بالشؤون العامة- وَ ما أَفاءَ اللَّهُ الفي ء هو الغنيمة، و أصله بمعنى الرجوع، و إنما سميت الغنيمة فيئا، لبيان أنها كانت بيد الكفار غصبا، فرجعت إلى أصحابها الشرعيين و هم المؤمنون الذين خلق اللّه لهم كل شي ء عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي من بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ أيها المسلمون، و «ما» نافية، و الإيجاف تسيير الخيل و الركاب من وجف يجف، بمعنى تحرك باضطراب، إذ الفتح بالقهر يلازم الاضطراب في الحركة عَلَيْهِ أي على ذلك الفي ء مِنْ خَيْلٍ هي الفرس وَ

لا رِكابٍ هي الإبل، أي أنكم لم تحصلوا على تلك الغنيمة بسبب الفتح بخيل أو إبل حتى يكون لكم ذلك الفي ء.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار بإيقاع الرعب في قلوبهم حتى يفتح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدنهم بلا حرب و لا تعب وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيتمكن من تسليط الرسل على الكفار بلا حرب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 373

[سورة الحشر (59): آية 7]

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)

[8] و إذا تمهدت هذه المقدمة- و هي أن المسلمين إن لم يتعبوا على هذا الفي ء- جاء السياق ليذكر حكمه، و انه ليس لهم، و إنما هو للرسول و آله ما أَفاءَ اللَّهُ أي ما أرجع اللّه سبحانه عَلى رَسُولِهِ مِنْ أموال أَهْلِ الْقُرى الكافرة التي حصل الرسول عليها بدون حرب فَلِلَّهِ تعالى- تشريفا للرسول- و إلا فكل شي ء له سبحانه وَ لِلرَّسُولِ بتمليك اللّه إياه وَ لِذِي الْقُرْبى أي أهل بيت رسول اللّه و قرابته، و المراد بهم الأئمة الطاهرون عليهم السّلام.

وَ الْيَتامى جمع يتيم و هو من مات أبوه وَ الْمَساكِينِ جمع مسكين و هو الفقير الذي أسكنه الفقر من الحركة وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره الذي لا يعرف من أمره شي ء، و لذا ينسب إلى الطريق. و قد ثبت أن المراد بهؤلاء السادة من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم، ثم بين سبحانه الحكمة في جعل الفي ء هكذا بقوله: كَيْ لا يَكُونَ الفي ء دُولَةً و هي اسم للشي ء الذي يتداوله القوم فيما بينهم يكون لهذا مرة و لهذا مرة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ حتى لا يعمل في الفي ء ما كان يعمل في الجاهلية، فقد كان إذا وقع غزو أخذ الرؤساء الأموال، و من المعلوم أن الرؤساء يتداولون المال بينهم بالضيافة و الزواج لأبناء بعضهم من بنات بعض، و استقبال بعضهم لبعض و هكذا مما يوجب نقل المال من هذا الرئيس إلى ذاك الرئيس فيبقى الفقراء محرومون، و هذه العلّة أي قوله «لكي» مع العلة السابقة و هي «فما أوجفتم» يتمّان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 374

[سورة الحشر (59): آية 8]

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)

المطلوب، إذ لا يخلو أمر الفي ء بين أن يكون للرؤساء، كالجاهلية، أو للمسلمين كالغنائم، أو للرسول و آله، و إذ قد نفي الأول لأنه يوجب احتكار المال بين الأغنياء، و الثاني لأن المسلمين لم يتعبوا في تحصيله حتى يستحقوا شيئا، لم يبق إلّا الثالث.

ثم لما كان هذا الحكم شاقّا عليهم نزل قوله: وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي أعطاكم من الأحكام فَخُذُوهُ أي تمسكوا به و اعملوا بفحواه وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ و بين لكم حرمته فَانْتَهُوا عنه و لا ترتكبوه وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تخالفوه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن ترك أوامره و خالفه.

قال في المجمع- ناقلا- إن الآية نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول اللّه خذ صفيك و الربع و دعنا و الباقي فهكذا كنا نفعل

في الجاهلية و أنشدوه لك المرباع منها و الصفايا و حكمك و النشيطة و الفضول فنزلت الآية فقالت الصحابة سمعا و طاعة لأمر اللّه و أمر رسوله

«1».

[9] ثم بين سبحانه وصف الطوائف الأربع من آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذين خصص بهم الفي ء- الذي لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب- و ليس ما يأتي من الوصف إلا كحكمة للتشريع حال نزول الآيات لا إنها أوصاف مشروطة دائما.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 432.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 375

[سورة الحشر (59): آية 9]

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)

لِلْفُقَراءِ بدل لقوله «لِذِي الْقُرْبى ...» أو «وَ الْيَتامى ..» و هذا هو الأوفق بما ثبت من أن الإمام الذي يأخذ الفي ء لا يشترط فيه الفقر- إلا أن يكون حكمه حال النزول، كما ذكرنا- فلا تخصيص الْمُهاجِرِينَ الذين هاجروا من مكة إلى المدينة الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أخرجهم الكفار ظلما و عدوانا وَ أَمْوالِهِمْ إذ خلفوا أموالهم وراء ظهرهم يَبْتَغُونَ أي يطلبون هؤلاء المهاجرون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ بأن يتفضل سبحانه عليهم عوض ما خلفوه وراءهم من الديار و الأموال وَ رِضْواناً بأن يرضى عنهم وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ أي ينصرون دينه سبحانه وَ رَسُولَهُ بالجهاد بين يديه لإعلاء كلمة الإسلام أُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في إيمانهم حيث أتوا بمقتضيات الإيمان.

[10] و إذ جرى مدح المهاجرين، جاء السياق ليمدح الأنصار، بقوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني المدينة، و

هي دار الهجرة، و معنى «تبوؤا» اتخذوها منزلا، و مبوءا، من «باء» بمعنى رجع و يسمى المنزل مبوءا لأن الإنسان كلما خرج رجع إليه وَ الْإِيمانَ أي تبوؤا الإيمان، فهو كالمنزل الذي يتخذه الإنسان محل استراحة و رجوع، فكلما نزل به أمر رجع إلى الإيمان يستلهمه العلاج و الخلاص، أو أن التقدير «آثروا الإيمان» مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هجرة المهاجرين إلى المدينة، فإن أهل المدينة آمنوا قبل هجرة المهاجرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 376

[سورة الحشر (59): آية 10]

وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من مكة و سائر القرى الكافرة- و هذا هو خبر «الذين»- و المعنى كما أن للمهاجرين المدح بما تقدم، للأنصار المدح بأنهم يحبون المهاجرين وَ لا يَجِدُونَ أي هؤلاء الأنصار فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا أي لا يحسدون المهاجرين من جهة ما آتاهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غنائم بني النضير، وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي يقدمون المهاجرين في الإسكان و الإحسان، على أنفسهم وَ لَوْ كانَ بِهِمْ أي بهؤلاء الأنصار خَصاصَةٌ أي احتياج و فقر، فإنهم يرجحون المهاجرين على حاجة أنفسهم، و مثل هذا الإنسان أعظم ثوابا ممن ينفق و هو غني.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي من يحفظ بلطف اللّه سبحانه، من بخل النفس، بأن لا تغلبه نفسه فتبخل فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[11] و إذ فرغ السياق عن المهاجرين و الأنصار، جاء ليمدح التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة بقوله وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ بأن

أسلموا من بعد المهاجرين و الأنصار، قولهم هذا- مما يدل على رسوخ الإيمان فيهم- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَ اغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 377

[سورة الحشر (59): آية 11]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)

لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ من المهاجرين و الأنصار و غيرهم وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا و غشّا و عداوة لِلَّذِينَ آمَنُوا من مضى منهم أو من عاصرناهم و إنما قال «لا تجعل» لبيان أن اللطف منه سبحانه، حتى إذا لم يلطف بإنسان كان معرضا للغل، و المعنى لا تتركنا على أحوالنا، حتى يستولي علينا الشيطان و النفس، فتكون أنفسنا معرضا للغل رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ بعبادك رَحِيمٌ بهم، و هذا تعليم للمؤمنين كيف ينبغي أن يكونوا اتجاه من سبقهم، و تجاه سائر المؤمنين المعاصرين لهم.

[12] و إذا سبق مدح المؤمنين و بيان صفاتهم، جاء السياق ليظهر طرفا من أحوال المنافقين بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، و الاستفهام للتعجب و الاستنكار إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا بأن أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ في الكفر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي كفروا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد بهم يهود بني النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي أخرجكم الرسول من دياركم و بلادكم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ موافقة لكم، فلا نبقى في بلادنا، وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في أمر قتالكم أَحَداً يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَبَداً فإذا أمرنا بقتالكم لا نقاتلكم وَ إِنْ

قُوتِلْتُمْ بأن قاتلكم الرسول و المسلمون لَنَنْصُرَنَّكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 378

[سورة الحشر (59): الآيات 12 الى 13]

لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)

أي نكون في جهتكم ضد الرسول و المسلمين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ أي هؤلاء المنافقين لَكاذِبُونَ في أقوالهم، فلا يخرجون مع بني النضير و لا يقاتلون معهم فقد قالوا: إن عبد اللّه بن أبي كان يحرض اليهود على الاستمائة و قتال الرسول و يمنيهم بهذه المواعيد الكاذبة، و كان كما قال اللّه سبحانه كذب حين أتى وقت العمل.

[13] لَئِنْ أُخْرِجُوا أي أخرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني النضير لا يَخْرُجُونَ أي هؤلاء المنافقون مَعَهُمْ تشاركا معهم في الفرار و التخلص وَ لَئِنْ قُوتِلُوا أي قاتلهم المسلمون لا يَنْصُرُونَهُمْ كما زعموا وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ على فرض مستحيل لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي ينهزمون عن مقابلة الرسول و المسلمين و يسلمون بني النضير طعمة سائغة لحراب المسلمين ثُمَ اليهود لا يُنْصَرُونَ على فرض أنهم بقوا معهم و لم يولوا الأدبار، لأن المنافقين أذل من أن يتمكنوا من المقاومة أمام الرسول و كتائب المسلمين المجاهدة.

[14] ثم يأتي السياق ليبين أن المنافقين خائفون من المسلمين أشد الخوف فكيف يتمكنون من نصرة اليهود في قبال المسلمين؟ لَأَنْتُمْ أيها المسلمون أَشَدُّ رَهْبَةً أي خوفا فِي صُدُورِهِمْ أي صدور هؤلاء المنافقين، أو اليهود، و إنما قال «في صدورهم» لأن الصدر مكان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 379

[سورة الحشر (59): آية 14]

لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ

وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)

القلب و القلب مبعث النفس التي تحمل الخوف و الاطمئنان مِنَ اللَّهِ فهم لا يخافون من اللّه قدر ما يخافون منكم، لأنهم يرونكم و لا يرون اللّه سبحانه، و لم يتمكن الإيمان في قلوبهم حتى يخافونه، ذلِكَ أي شدّة خوفهم منكم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يعقلون و لا يعرفون عظمته سبحانه، و من لم يعرف الملك لم يهبه.

[15] ثم بين سبحانه أن قتال اليهود للمسلمين ليس مثل سائر الحروب، فإنهم لشدة خوفهم من المسلمين و اختلاف الكلمة فيما بينهم لا جرأة لهم على المقاتلة السافرة، و ذلك مما يشجع المسلمين على القتال لا يُقاتِلُونَكُمْ أيها المسلمون، هؤلاء اليهود جَمِيعاً أي في حال اجتماعهم- و ذلك لبيان شدة ضعفهم حتى أن جميعهم لا يتمكنون من القتال إلا بالكيفية الآتية- أو المراد بضمير الفاعل: اليهود و المنافقون، و جميعا لتأكيد ذلك إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي لا يبرزون لحربكم إلا و هم متحصنون بالقرى ذوات الحصون و الامتناع أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ جمع جدار، يرمونكم بالنبل و الحجارة و ما أشبه.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني أن عداوة بعضهم لبعض شديدة، فلا ائتلاف بينهم و لا اتحاد، حتى تتفق قلوبهم و يشجعوا في مقاتلتكم تَحْسَبُهُمْ أي تظنهم يا رسول اللّه، أو أيها الرائي جَمِيعاً أي متفقين متراصين وَ الحال ليسوا كذلك بل قُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 380

[سورة الحشر (59): آية 15]

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)

شتيت كمرضى و مريض، و الشتيت هو المتفرق، أي أن قلوبهم متفرقة ذلِكَ الذي

ذكر في وصفهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه الرشد مما فيه الغي، و من لا يعقل يكون بما ذكر له من الصفة، و هذه الصفات في اليهود إنما تولدت من منهجين ينهجون عليهما الأول:- زعمهم بأنهم شعب اللّه المختار. و الثاني: تكالبهم على المادة، فإن الاتفاق و سائر الفضائل إنما تتولد من التواضع و تحكيم الروحيات في الأمور، فإذا زعم كل إنسان أنه فاضل لم يرضخ لغيره مما يسبب التشتيت، و إذا اتجه الإنسان نحو المادة لم تهذب نفسه حتى ينبع منها الخير و الفضيلة، و لذا نرى عبر التاريخ، اليهود بين معتد، و بين مطارد، إن صار لهم شي ء اعتدوا ثم جاء من يطاردهم، و هكذا دواليك، و قد رأينا في عصرنا قصة اعتدائهم في «ألمانيا» و مطاردة «هتلر» لهم ... ثم اعتدائهم في المسلمين، و أخذت السحب تتجمع هنا و هناك لمطاردتهم.

[16] و مثل بني النضير كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً و هم بنو قينقاع الذين نقضوا عهد الرسول فأمرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالخروج ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي عاقبة عملهم السيئة، و لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع في الآخرة، و قد كان عبد اللّه بن أبيّ المنافق وعدهم النصر، فلم ينصرهم، كما غر بني النضير و خذلهم حين التحموا بجيش المسلمين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 381

[سورة الحشر (59): الآيات 16 الى 18]

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا

اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

[17] فكان مثله كَمَثَلِ الشَّيْطانِ في تغريره ثم خذلانه و تسليمه إلى عذاب اللّه إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ بأن وسوس إليه و زين الكفر في نظره حتى أطاعه فكفر فَلَمَّا كَفَرَ و خالف اللّه سبحانه بما استحق به عذابه قالَ الشيطان إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ أيها الكافر لا أنصرك و لا أخلصك من عذاب اللّه إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و هل الخائف يتمكن من نصرة غيره؟ و كذلك ابن أبيّ غرّ بني النضير و بني قينقاع حتى حاربا الرسول، فلم ينصرهما بل خذلهما.

[18] فَكانَ عاقِبَتَهُما أي عاقبة الشيطان و الإنسان الذي غرّه فكفر، أَنَّهُما فِي النَّارِ حال كونهما خالِدَيْنِ فِيها أي استحقا النار و لقيا العذاب، ذاك بإغرائه، و هذا بكفره وَ ذلِكَ العقاب جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر اغترارا بكلام الشيطان.

[19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فلا تتركوا أوامره، و تخصيص الخطاب بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به و إلا فالتقوى تجب على كل أحد وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ أي لينظر كل إنسان و يفكر في ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي ليوم القيامة، هل أنه قدم الصالح أو الفاسد، الثواب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 382

[سورة الحشر (59): الآيات 19 الى 21]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)

أو العقاب بمعنى لزوم تقديم الشي ء الحسن و إن كل عمل يعمله الإنسان فإنما يراه غدا وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره

و زواجره إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مطلع على أعمالكم فيجازيكم غدا عليها.

[20] وَ لا تَكُونُوا يا أيها المؤمنون كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ بأن آمنوا ثم نسوا اللّه فخالفوه، كأهل الكتاب، و ليس المراد نسيانهم له حقيقة، بل أعم من ذلك و ممن ترك الأوامر، فإن العالم التارك كالناسي في عدم الامتثال فَأَنْساهُمْ اللّه أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم اللّه ناسين حتى أنهم لم يعملوا لنجاتها و خلاصها كالإنسان الذي ينسى نفسه فلا يهتم بشأنها أُولئِكَ الذين تلك صفتهم هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه تعالى.

[21] و هل يتساوى هؤلاء الذين يدخلون النار جزاء لكفرهم و عصيانهم مع الذين يدخلون الجنة جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح؟ كلا لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الدائمون فيها أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ الذين فازوا بالثواب و النجاة.

[22] و كيف لا يخشع الكفار للقرآن حتى يؤمنوا بما جاء به، و الحال أن القرآن لو نزل على جبل لخشع؟ فما يخشع له الجبل الجامد، كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 383

[سورة الحشر (59): آية 22]

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)

لا يخشع له القلب القاسي فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «1» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ بأن كان الجبل هو المخاطب بالقرآن الموظف للعمل به لَرَأَيْتَهُ أي رأيت يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، ذلك الجبل خاشِعاً خاضعا خائفا مُتَصَدِّعاً أي منشقا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ و خوفه، و هذا إما على نحو الحقيقة باعتبار أن للجماد إدراكا و ان كنا لا نعرف كيفية إدراكه، كما قال سبحانه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «2» و قال قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3» و قال

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «4» و قال وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «5» و إما على المجاز كناية عن قوة ما في القرآن من النفوذ و المضي حتى إن الجبل- مع عظمته- لو عقل لخشع و تصدع، فكيف لا يخشع الإنسان؟ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي هذا المثل و ما أشبهه نبينها للناس، و هذا مثل لشدة نفوذ القرآن و مضيه، لتقريب عظمة القرآن إلى الأذهان لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي لكي يتفكروا فيما ضرب له المثل، فإن المثل يقرب الذهن إلى الممثّل له، فيكون مجال التفكير فيه أوسع.

[23] ثم أتى السياق لبيان جملة من صفات اللّه سبحانه، لبيان خضوع الوجود كله له تعالى كما أن الجبل يخضع لكلامه هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

______________________________

(1) البقرة: 75.

(2) سبأ: 11.

(3) فصلت: 12.

(4) الإسراء: 45.

(5) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 384

[سورة الحشر (59): آية 23]

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)

أي لا متصرف في الكون و لا معبود بالحق إلا هو وحده بلا شريك عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فيعلم كل شي ء سواء كان غائبا عن الحواس كالملك و الجن و ما أشبههما، أو تشهده الحاسة و تدركه كالمرئيات و المسموعات و ما إليهما. أو

عن الباقر عليه السّلام انه قال الغيب ما لم يكن و الشهادة ما كان

هُوَ الرَّحْمنُ المتفضل على جميع خلقه الرَّحِيمُ المتفضل على المؤمنين، فاطلاعه اطلاع رحمن رحيم لا اطلاع قسي غليظ شديد.

[24] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و التكرار يفيد التركيز في مقابل عبّاد الأوثان و الطبيعيين و من إليهم الْمَلِكُ السيد المطاع المالك

للكون الْقُدُّوسُ المنزه من كل نقص و عيب و آفة و قبيح، من القدس و هو الطهارة و النزاهة السَّلامُ الذي سلّم الكون منه تعالى، فليس كالملوك المفسدين للعباد و البلاد، أو المعنى انه السالم من الآفات، حتى كأنه قطعة من السلام من باب «زيد عدل».

الْمُؤْمِنُ الذي سلّم خلقه من ظلمه، أو واهب الإيمان، أو بمعنى أن له تعلقا بالخلق كما أن للمؤمن تعلقا بالخالق، فإن أصل الإيمان التعلّق بشي ء الْمُهَيْمِنُ المسيطر على الكون، من الهيمنة بمعنى السيطرة الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه أو هو ما قل وجوده و كثر نفعه، و اللّه أظهر المصاديق لذلك، لتفرده و احتياج الكون إليه الْجَبَّارُ الذي يجبر الكسر، أو الذي يقهر غيره، فإن الكون كله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 385

[سورة الحشر (59): آية 24]

هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

مقهور له مسيّر بإرادته الْمُتَكَبِّرُ الذي تكبر و تعالى عن كل ما يوجب نقصا و حاجة سُبْحانَ اللَّهِ أنزهه تنزيها عَمَّا يُشْرِكُونَ عما يشرك به المشركون من الأصنام و الأوثان.

[25] هُوَ اللَّهُ المستجمع لجميع صفات الكمال- لأن اللّه علم لذاك الذات المستجمع- الْخالِقُ الذي قدّر كل شي ء الْبارِئُ الذي نفذ التقدير بالإيجاد الْمُصَوِّرُ الذي صور كل موجود بصورة خاصة، فإن الشي ء يحتاج إلى التقدير و التصميم قبل الإيجاد- و هو الخلق- ثم إلى إخراج ذلك المقدر إلى الوجود- و هو البرء- ثم إلى تصوير ذلك الموجود بصورة خاصة- و هو التصوير- لَهُ تعالى الْأَسْماءُ الْحُسْنى فهو العالم، لا الجاهل القادر لا العاجز الكريم لا البخيل، و هكذا فله كل اسم حسن يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي

السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ينزهه كل شي ء عن النقائص و القبائح، تنزيها تكوينيا، أو حسب إدراكها- كما تقدم- وَ هُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في أفعاله فلا يفعل شيئا عبثا، بل حسب الحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 386

60 سورة الممتحنة مدنية/ آياتها (14)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل من هذه المادة و هو قوله «فامتحنوهن». و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى قضايا العقيدة و الإيمان. و إذ ختمت سورة الحشر بصفاته سبحانه الموجبة لأن لا يتخذ الإنسان غيره تعالى ملكا و إلها و سيدا، ابتدأت هذه السورة بتحريم اتخاذ أعداء اللّه، أولياء. و

قد نزلت هذه الآيات في «حاطب ابن أبي بلتعة» و كان سبب ذلك أن «حاطبا» كان قد أسلم و هاجر إلى المدينة و كان عياله بمكة؛ فكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصاروا إلى عيال حاطب و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه خبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يريد أن يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألوه عن ذلك؟ فكتب إليهم حاطب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريد ذلك- و ذلك حين عزم الرسول على فتح مكة- و دفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية، فوضعته في قرونها، و ذهبت نحو مكة، فنزل جبرائيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بذلك، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و الزبير بن العوام في طلبها، فلحقاها، فقال لها أمير المؤمنين عليه السّلام: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شي ء، ففتشوها

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 387

فلم يجدوا معها شيئا، فقال الزبير: ما نرى معها شيئا، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه ما كذبنا على رسول اللّه، و لا كذب رسول اللّه على جبرائيل، و لا كذب جبرائيل على اللّه جل ثناؤه.

و اللّه إن لم تظهري الكتاب، لأذهبن برأسك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: تنح يا علي عني حتى أخرجه- حيث علمت أن الإمام يفعل ذلك لو لم تعطه الكتاب- فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أمير المؤمنين عليه السّلام و جاء به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال رسول اللّه: يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: و اللّه يا رسول اللّه ما نافقت و لا غيرت و لا بدلت و إني أشهد أن لا إله إلا اللّه و أنك رسول اللّه حقا، و لكن أهلي و عيالي كتبوا إلي بحسن صنع قريش إليهم فأحببت أن أجازي قريشا بحسن معاشرتهم، فقام عمر و أراد أن يضرب عنق حاطب مستأذنا رسول اللّه في ذلك، لكن حاطبا توجه إلى الرسول يستصرخه، فعفا عنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر عمر بالكف عنه فنزلت الآيات

«1»، تحذيرا للمسلمين أن يكرر منهم مثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم الإله الذي له ما في الكون المستحق لجميع المحامد- فإن اللّه علم على هذا الذات- و هل هناك أحق بتقديم اسمه من اسم اللّه تعالى؟ و ذكر الاسم دون أن يقال «باللّه» للاحترام حتى أن اللازم أن يشرع بذكر الاسم، لا بذكر نفس الذات، الرحمن الرحيم الذي رحمته وسعت كل شي ء، و له رحمة خاصة

بالمؤمنين، كما قالوا في لفظ «الرحيم» أنه خاص بعباده المؤمنين.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 388

[سورة الممتحنة (60): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي الذي يعاديني بالكفر و العصيان وَ عَدُوَّكُمْ الذي يعاديكم بالاستهزاء و المحاربة و سائر أنواع العداوة أَوْلِياءَ توالونهم و تنصرونهم، جمع «ولي» في حال كونكم تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تبذلون لهم ودكم و حبكم، عمل المحب لمحبه، كما فعل «حاطب» بأهل مكة الذين هم أعداء اللّه و أعداء المسلمين وَ قَدْ كَفَرُوا أولئك الأعداء بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ الإسلام و القرآن و الرسول، و هم يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ عن بلادهم- كما فعل كفار مكة- و الإخراج إنما كان ل أَنْ تُؤْمِنُوا أي لإيمانكم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ و هل يوالي الإنسان مثل هذا العدو؟

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ أيها المؤمنون من بلادكم جِهاداً فِي سَبِيلِي أي لأجل الجهاد في سبيل اللّه وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي طلبا لرضاي و المعنى أن غرضكم من الخروج و الهجرة الجهاد و طلب رضا اللّه، فلا توادوا عدو اللّه و عدوكم- أهل مكة- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تعلمونهم في السر بينكم و بينهم مودة و حب وَ هل يخفى عملكم هذا على اللّه؟ كلا ف أَنَا أَعْلَمُ من كل أحد

بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي بخفايا أموركم و ظواهرها فلا يغيب عليّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 389

[سورة الممتحنة (60): الآيات 2 الى 3]

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

شي ء، و سأجازيكم عليها وَ مَنْ يَفْعَلْهُ أي يفعل الإسرار بالمودة مِنْكُمْ أيها المؤمنون فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عدل عن طريق الحق إلى المهلكة، و سواء الطريق: وسطه.

[3] إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يصادف كفار مكة لكم أيها المؤمنون في الحرب يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً يبادرونكم بالمحاربة، فعل العدو بعدوه، و هذا لنفي ما زعمه حاطب من أنهم أحباؤه، فتأتي الآية لتبين إن إظهار حبهم له و لعائلته إظهار مكذوب لا حقيقة له وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أيها المؤمنون أَيْدِيَهُمْ بالضرب و القتل وَ أَلْسِنَتَهُمْ بالسب و القذف بِالسُّوءِ أي بما يسيئوكم، فلا يتركون وسيلة من وسائل الإساءة إلا عملوها بالنسبة إليكم وَ وَدُّوا أي أحب هؤلاء الكفار لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم باللّه كما كفروا هم، فلا يسبب إهلاككم مودّة أمثال هؤلاء الكفار فإنه:

[4] لَنْ تَنْفَعَكُمْ أيها المؤمنون أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ و المعنى لا يحملنكم التحفظ على القرابة و الأولاد على مخالفة اللّه و الرسول و موادة الكفار، كما فعل حاطب حيث أراد التحفظ على أهله بمكة فخالف الرسول بأن كتب إلى الكفار، يعلمهم بقصد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكة يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ اللّه بَيْنَكُمْ فيدخل أهل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 390

[سورة الممتحنة (60): آية 4]

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي

إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

الإيمان الجنة و يدخل أهل الكفر و العصيان النار، فلا تفعلوا ما تستحقون به النيران وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يبصركم و يرى أعمالكم، فلا تفعلوا ما تستحقون به سخطه و عقابه.

[5] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أيها المؤمنون أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي اقتداء حسن، الأسوة هي القدوة و هو اسم لما يؤتسى و يقتدى به فِي إِبْراهِيمَ الخليل عليه السّلام وَ الَّذِينَ آمنوا مَعَهُ أي فاقتدوا بهم أيها المؤمنون في مقاطعة الكفار إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الكافرين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بري ء، فلا نواليكم وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي و من أصنامكم التي تعبدونها، و المعنى لا علاقة لنا بها، بل نظهر انها باطلة ليست بآلهة، فعل العدو بعدوه، و إن لم تكن معاداة حقيقية بين الإنسان و بين الجماد كَفَرْنا بِكُمْ أي قالوا لقومهم جحدنا طريقتكم، أو خطاب للأصنام، و الإتيان بلفظ العاقل لتوحيد سياق كلام المؤمنين مع كلام الكافرين فإنهم كانوا يزعمون العقل و الإدراك للأصنام وَ بَدا أي ظهر بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ أيها القوم الكافرين الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ و هو أشد العداوة الموجبة لكون العداء في الباطن، من «بغض» أَبَداً أي إلى الأبد ما دمتم أنتم على الكفر حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و تخلعوا عبادة الأصنام إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ أي اقتدوا بإبراهيم، إلا في هذا القول-

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 5، ص: 391

[سورة الممتحنة (60): آية 5]

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)

الذي قال لأبيه و ذلك كان قبل نهي اللّه سبحانه- لِأَبِيهِ أي عمه آزر لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي أطلب غفران اللّه لك، و كان ذلك لموعدة وعده إياه، فلما تبيّن له أنه عدوّ للّه تبرأ منه، فلا ينبغي للمسلم أن يقتدي بذلك، بأن يستغفر للكافر و يحتمل أن الاستثناء من قوله «إنا برآء منكم» أي قالوا للكفار إنّا أعداء لكم، إلا إبراهيم وعد عمه بالاستغفار قبل أن يتبين أنه عدو للّه، ثم قال إبراهيم لعمه وَ ما أَمْلِكُ لَكَ يا عم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فإذا أراد بك شيئا لم أملك أن أرد العقاب عنك، ثم قال إبراهيم و المؤمنون به رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا فقد وكلنا أمورنا إليك وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا الإنابة هي الرجوع أي رجعنا إليك في أمورنا، فإن الإنسان باعتبار أنه مخلوق للّه تعالى كأنه جاء من عنده، فهو إذا أطاع كان بمنزلة الراجع إليه سبحانه، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي ان منتهى أمورنا إليك، و نعود في يوم القيامة إلى حسابك و جزائك.

[6] رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تجعلنا امتحانا لهم فإن الكافر يمتحن بالكفر و بإيذاء المؤمنين و بالعصيان، و إذا وقع المؤمن مورد امتحان الكافر، أو ذي و قد لا يطيق ذلك، أو المراد لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نتحمله وَ اغْفِرْ لَنا أي استر علينا و امح سيئاتنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب القاهر في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء حسب الصلاح و الحكمة، و لعل حكاية هذه

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 392

[سورة الممتحنة (60): الآيات 6 الى 7]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)

الجمل لتعليم المسلمين كيف يدعون اللّه سبحانه.

[7] لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون في عصر الرسالة فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «في» بمعنى النسبة، أي بالنسبة إلى إبراهيم و من آمن معه اقتداء حسن، فهم خير مقتدى لكم في أعمالكم، و مقاطعتهم للكفار و إنما كرر ذلك لما رتب عليه بقوله لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي أن هذه الأسوة و الاقتداء إنما هي للذي يرجو ثواب اللّه سبحانه «ليعتقد بالجزاء و الحساب في الآخرة» أما المنكر لذلك فلا معنى لاقتدائه بمن اعتقد باللّه و هذا للإشارة إلى التلازم بين الإيمان و بين الاقتداء وَ مَنْ يَتَوَلَ أي يعرض عن هذا الاقتداء، فلم يقتد بإبراهيم، بل اتخذ من الكفار أولياء فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ الذي لا يحتاج إلى أحد و إلى عمل الْحَمِيدُ المحمود بذاته فلا يحتاج إلى طاعة المطيع و حمد الحامد، و المعنى: أن الذي يعرض يضر نفسه، و لا يضر اللّه سبحانه لغناه المطلق.

[8] و إذا تريدون أيها المؤمنون موادة أهل مكة لما بينكم من الصلات النسبية و السوابق فلعله سبحانه يهيئ و سائل هدايتهم حتى لا يكون محظور في موادتهم عَسَى اللَّهُ أي لعله سبحانه أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ أيها المؤمنون وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ أي اتخذتموهم أعداء مِنْهُمْ أي من أهل مكة مَوَدَّةً بسبب الإسلام وَ اللَّهُ قَدِيرٌ على ذلك

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 393

[سورة الممتحنة (60): الآيات 8 الى 9]

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

وَ اللَّهُ غَفُورٌ لما سلف منكم من موادتهم في حال كفرهم رَحِيمٌ يتفضل عليكم بالرحمة بالإضافة إلى الغفران و العفو.

[9] و إذا كان المفهوم من الآيات السابقة ما يشمل تحريم موادة كل كافر استثنى السياق من ذلك بقوله لا يَنْهاكُمُ أيها المؤمنون اللَّهُ عَنِ موادة الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي أمر الدِّينِ أي من جهة أنكم متدينون بالإسلام وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ بأن كان كافرا مسالما أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال عن قوله «عن الذين» أي لا ينهاكم اللّه عن بر هؤلاء وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تعدلوا فيما بينكم و بينهم، بأن تبادلوا الحب و الوداد قيل ان المسلمين استأمروا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يبروا أقرباءهم من المشركين «1» و قيل ان قتيلة بنت عبد العزيز قدمت مشركة على بنتها أسماء بهدايا فلم تقبلها و لم تأذن لها بالدخول، فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي الذين يعدلون في أمورهم.

[10] إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ أيها المؤمنون عَنِ موادة الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ فقاتلوكم من جهة أنكم متدينون وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ منازلكم، في مكة و غيرها وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي تعاون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 450.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 394

[سورة الممتحنة (60): آية 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا

جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)

بعضهم مع بعض في تشريدكم من بلادكم أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي ينهاكم اللّه عن توليهم و اتخاذهم أولياء و هذا بدل اشتمال عن قوله: «الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ» وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي يتخذهم أولياء و أحباء فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان للّه و الرسول.

[11] و بمناسبة الحديث عن موادة الكفار يأتي السياق ليذكر بعض أحكام النساء مما له رابطة بالكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ من دار الكفر إلى دار الإسلام فَامْتَحِنُوهُنَ أي اختبروهن حتى تعرفوا صدق إيمانهن و هجرتهن. في الصافي عن القمي قال: إذا لحقت امرأة من المشركين بالمسلمين تمتحن بأن تحلف باللّه أنه لم يحملها على اللحوق بالمسلمين بغض لزوجها الكافر و لا حب لأحد من المسلمين و إنما حملها على ذلك الإسلام، فإذا حلفت على ذلك قبل إسلامها «1».

و اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ منكم فليس عليكم إلا الإيمان و العمل حسب ذلك فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ أي صادقات في إيمانهن من الحلف و سائر العلامات و الإمارات فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى بلاد الكفار لا هُنَ أي المؤمنات

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 362.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 395

حِلٌ أي حلال لَهُمْ فإن الكافر لا يحق له مس المسلمة وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ فإنهم يصبحون كالأجانب بالنسبة إلى المؤمنات

وَ آتُوهُمْ أي أعطوا الكفار- الأزواج- أيها المؤمنون، حين حبستم نساءهم عن الرجوع إليهم ما أَنْفَقُوا على المرأة من المهر فإن الزوجة تردّ على زوجها صداقها الذي أعطاها ثم يتزوجها المسلم وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج عليكم أيها المؤمنون أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فإن إسلامهن أبطل عقدهن السابق بالكفار- على تفصيل مذكور في الفقه-.

إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي أعطيتم النساء مهورهن، بمعنى أن الحلّية متوقفة على العقد و المهر وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي لا تعقدوا أيها المسلمون على الكافرة، فإن الإمساك هو الأخذ، و عصم جمع عصمة و سمي العقد عصمة لأنه به يعصم كل من الزوجين عن الفجور، و الكوافر جمع كافرة، و كما لا يجوز الابتداء على عقد الكافرة كذلك لا يجوز البقاء على العقد فيما لو أسلم الرجل، و بقيت المرأة كافرة- على تفصيل مذكور في الفقه «1»- و جاءت هذه الجملة بمناسبة نكاح المسلمة بالكافر، يعني كما لا يجوز نكاح المسلمة للكافر كذلك لا يجوز نكاح المسلم للكافرة

______________________________

(1) موسوعة الفقه: ج 65، كتاب النكاح جزء 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 396

[سورة الممتحنة (60): آية 11]

وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

وَ إذا لحقت منكم- أيها المسلمون- امرأة بدار الكفر، بأن كفرت و ارتدت و ذهبت إلى الكفار سْئَلُوا و اطلبوا من الكفار ما أَنْفَقْتُمْ عليها من المهر وَ لْيَسْئَلُوا أي الكفار ما أَنْفَقُوا من المهر على امرأة كافرة أسلمت و التحقت بكم- لقاعدة التقابل بين الفئتين- فهم يطالبون مهر نسائهم إذا أسلمن و التحقن بكم و أنتم تطالبون مهر نسائكم إذا كفرن

و التحقن بهم.

ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى ما تقدم من الأحكام و «كم» خطاب للمؤمنين حُكْمُ اللَّهِ الذي قرره يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون و الكافرون وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالأحكام و ما يصلح للبشر حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهي فليست هذه الأحكام إلا حسب الصلاح و الحكمة، قالوا و قد كان من بنود صلح الحديبية أن الرجال يردون كل إلى المحل الذي فر منه، فإذا جاء رجل من الكفار إلى المسلمين ردوه، و كذا بالعكس و لم يكن ذكر للنساء في بنود الصلح و إذ تم الصلح و كتبوا الكتاب جاءت «سبيعة بنت الحرث» مسلمة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجاء زوجها في طلبها و كان كافرا فقال يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اردد علي امرأتي فنزلت هذه الآية «1».

[12] وَ إِنْ فاتَكُمْ أيها المؤمنون شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي أحد من نسائكم إِلَى الْكُفَّارِ بأن لحقن بهم مرتدات فَعاقَبْتُمْ أي غزوتم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 397

و أصبتم من الكفار عقبى- و هي الغنيمة- و امتنع الكافر أن يعطيكم مهر زوجتكم التي لحقت بهم فَآتُوا أي أعطوا أيها المؤمنون الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ أي المؤمنين ارتدت زوجاتهم و فرت إلى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من المهور عليهن. و الحاصل أن الزوجة إذا فرت و لم يقبل الكفار أن يدفعوا مهرها إلى زوجها المسلم أعطى الإمام مهرها لزوجها من الغنيمة التي حصلت من المعاقبة وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تخالفوا أمره بأن تمنعوا الزوج المسلم عن المهر إذا فرت زوجته و لم يبذل الكفار مهرها الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن من مقتضيات

الإيمان التقوى.

روي في الجوامع أنه لما نزلت الآية المتقدمة أدى المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم و أبى المشركون أن يردوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فنزلت هذه الآية

«1».

قال القمي: و كان سبب ذلك أن عمر بن الخطاب كانت عنده فاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة فكرهت الهجرة معه و أقامت مع المشركين فنكحها معاوية بن أبي سيفان فأمر اللّه رسوله أن يعطي عمر مثل صداقها «2». و

روي عن الصادق و الباقر عليهما السّلام أنهما سئلا ما معنى العقوبة ها هنا؟ قالا: إن الذي ذهبت امرأته فعاقبت على امرأة أخرى غيرها يعني تزوجها فإذا هو تزوج امرأة أخرى غيرها فعلى الإمام أن

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 339.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 363. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 398

[سورة الممتحنة (60): آية 12]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

يعطي له مهر امرأته الذاهبة

«1». أقول: فعلى هذا فمعنى «عاقبتم» تزوجتم بأخرى عقيبها، كما أنه لا يبعد أن يكون القيد سواء كان بالمعنى السابق أو هذا المعنى من باب القيد الغالب لا أن له خصوصية فإنّ على الإمام إعطاء المهر للمسلم الفارّة زوجته سواء أراد التزويج أم لا و سواء غنموا أم لا. و اللّه أعلم.

[13] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ أي النساء اللائي يردن الإيمان فهو من باب مجاز المشارفة نحو

«من قتل قتيلا فله سلبه»

يُبايِعْنَكَ أي

يردن بيعتك و قد كان ترتيب بيعة النساء أن يضع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده في ظرف من الماء فيخرجها ثم تأتي النساء فيضعن أيديهن في ذلك و معنى البيعة أن المبايع يبيع كل شي ء له للّه و الرسول، كما قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ «2» عَلى شرط أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ بأن يوحدنه و لا يتخذن معه شريكا شَيْئاً أي أيّ نوع من أنواع الشريك كان وَ لا يَسْرِقْنَ لا من أزواجهن و لا من غير أزواجهن وَ لا يَزْنِينَ بالرجال الأجانب سواء كنّ ذوات بعل أم لا وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ لا بالإسقاط و لا بالوأد و لا بسائر أقسام القتل وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ أي بكذب يكذبنه في مولود يوجد لديهن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 313.

(2) التوبة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 399

بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم بأن يزنين فيلدن من الزنى ثم ينسبنه إلى أزواجهن! فإن المولود إنما يلد بين الرجلين و يرتضع بين اليدين، و هذا غير النهي عن الزنى- الذي سبق-.

و قال بعض: إن المرأة في الجاهلية كانت تلتقط المولود ثم تنسبه إلى الزوج فنهين عن ذلك «1» وَ لا يَعْصِينَكَ يا رسول اللّه فِي مَعْرُوفٍ

قال الإمام الصادق عليه السّلام هو ما فرض اللّه عليهن من الصلاة و الزكاة و ما أمرهن به من خير

«2»، أقول: و كان الإتيان بقوله:

«في معروف» مع أن الرسول لا يأمر إلا بالمعروف، التنبيه على أن الرسول شأنه الأمر بالمعروف ترغيبا لهن للعمل بأوامره فَبايِعْهُنَ أي اقبل بيعتهن و لهن الجنة و الثواب على

مثل هذه البيعة وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ أي اطلب من اللّه غفران ذنوبهن السالفات إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يتفضل بالإضافة على الغفران، بالرحمة و الفضل.

روي إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايعهن و كان على الصفا، و كان عمر أسفل منه و هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا، فقالت هند: إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، و ذلك أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بايع الرجال يؤمئذ على الإسلام و الجهاد فقط .. فقال: و لا تسرقن فقالت هند: إن أبا سفيان رجل ممسك و إني

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 97.

(2) بحار الأنوار: ج 79 ص 76. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 400

[سورة الممتحنة (60): آية 13] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 448

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

أصبت من ماله هناك فلا أدري أ يحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من مالي فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عرفها.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تقتلن أولادكن فقالت هند: ربيناهم صغارا و قتلتموهم كبارا و أنتم و هم أعلم، و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر،

فضحك عمر حتى استلقى و تبسم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لما قال: لا تأتين ببهتان، فقالت هند: و اللّه إن البهتان قبيح و ما تأمرنا إلا بالرشد و مكارم الأخلاق، و لما قال و لا يعصينك في معروف فقالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في كل شي ء

«1».

[14] و أخيرا يأتي السياق ليعود إلى ما استبدئ به من تحريم موادة الكفار الذي لأجله نزلت السورة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً من الكفار غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

فقد روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم

، و معنى التولي الموادة و المحابة و اتخاذهم أولياء قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ فإنهم منكرون لها كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ بأن يرجعوا إلى الدنيا، فهم و الكفار سواء في عدم الاعتقاد بالآخرة، و ان أظهر أولئك الاعتقاد بها كذبا و تدليسا.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 14 ص 279.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 401

61 سورة الصف مدنية/ آياتها (15)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الصف» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام كاشتمالها على العقيدة.

و لما ختمت سورة الممتحنة بقطع موالاة الكفار ابتدأت هذه السورة بلزوم قتالهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي له ما في السموات و الأرض، و هل هناك أحق بالاستعانة منه؟ إنه «اللّه» الذي بيده كل شي ء، الذي يعين من استعان به، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة و تكميل الناقص، فهو خير من يستعان به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 402

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ

هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

[2] سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و المراد الأعم من الظرف و المظروف، و إنما كرر هذه الآية في أول السورة السابقة و هذه السورة تأكيدا و تركيزا في الذهن، فإن تسبيح الكون- سواء كان بالمعنى التكويني أو الإدراكي- شي ء غريب عن الأذهان يحتاج إلى التركيز و الترسيخ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة، و هي وضع كل شي ء موضعه.

[3] و قد كان قسم من المؤمنين يقولون إذا لقينا العدو لا نفر و نرجع عنهم، حتى إذا كان يوم أحد فروا فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ استفهام إنكاري فإن القول بدون الفعل أقبح من السكوت مع عدم الفعل، كما أن الفعل بدون القول أحسن من الفعل بعد القول- إذا لم يكن لتشجيع أو نحو ذلك من العناوين- قالوا: الناس في الخير على أربعة أقسام: قائل فاعل، و قائل غير فاعل، و غير قائل غير فاعل، و غير قائل فاعل، و الأحسن الأخير، و الأقبح الثاني و الأول خير من الثالث.

[4] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي كبر من حيث المقت و الغضب عنده سبحانه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ

[5] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ لإعلاء كلمته و سبيل رضوانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 403

[سورة الصف (61): آية 5]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ

تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)

في حال كونهم مصطفين صَفًّا بلا تبعثر أو تفرق كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ كأنهم في شدة ثباتهم بناء قد رصّ، أي أحكم بناؤه يقال رصصت البناء أي أحكمته.

روي إن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى اللّه تعالى لبذلنا فيه أموالنا و أنفسنا فأنزل اللّه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ» الآية فلما كان يوم أحد و تولوا أنزل اللّه سبحانه «لم تقولون»؟

[6] ثم جاء السياق ليحذر المسلمين أن يكونوا كأصحاب موسى عليه السّلام يؤذونه بعد أن علموا أنه نبي من عند اللّه تعالى، فإن ترك القتال إيذاء للرسول و مخالفة لأمره وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل الذين آمنوا به يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بأفعالكم كعبادة العجل، و أقوالكم كقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا «1» وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ «قد» للتحقيق، و إن كان الأكثر في فعل المضارع أن يكون للتقريب، و لعل النكتة فيه أن احتمال كونه رسولا كاف في كفهم عن أذاه إِلَيْكُمْ بعثني إليكم لهدايتكم.

لكن القوم تمادوا في إيذائه عليه السّلام فَلَمَّا زاغُوا أي مالوا عن الحق بالاستمرار في أذاه كما هو طبيعة اليهود أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي تركهم و شأنهم و منع عنهم الألطاف الخفية حتى مالت قلوبهم، و نسبة

______________________________

(1) المائدة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 404

[سورة الصف (61): آية 6]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

الزيغ إليه سبحانه، لأنه

إذا ترك الإنسان جذبته الأهواء الموجبة للزيغ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فمن خرج عن طاعة اللّه بعد الدليل و البرهان تركه سبحانه و شأنه و لم يلطف به الألطاف الخفية.

[7] و هكذا فعل اليهود بعيسى بن مريم عليه السّلام آذوه بعد ما جاءهم بالبينات وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ و الإصرار في القرآن على إضافة عيسى بمريم عليه السّلام لنفي كونه ابن اللّه يا بَنِي إِسْرائِيلَ و المراد بهم اليهود إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بعثني لهدايتكم و إرشادكم في حال كوني مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ أي ما تقدمني، فإن الشي ء الذي أمام الإنسان هو بين يديه- مجازا- مِنَ التَّوْراةِ التي جاء بها موسى عليه السّلام.

وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ أي أبشركم برسول من عند اللّه تعالى يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ يعني نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و قد ذكر الشيخ محمد صادق فخر الإسلام، في كتابه أنيس الأعلام- و هو ممن كان مسيحيا فأسلم- قصة طويلة حول هذا الأمر و أن اسم الرسول «فارقليطا» المفسر بأحمد و هي في كتابهم- و هذه هي عادة الأنبياء عليهم السّلام يصدقون السابقين و يبشرون باللاحقين لأنهم أخوة من عند اللّه لبيان منهج واحد، و إنما الفروق في المزايا و الخصوصيات التابعة للظروف فَلَمَّا جاءَهُمْ عيسى، أو لما جاءهم الرسول- أحمد- بِالْبَيِّناتِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 405

[سورة الصف (61): الآيات 7 الى 8]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)

الأدلة

الواضحات قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر و لم يؤمنوا، فإن كان الضمير راجعا إلى عيسى، كان ردفا لتكذيب اليهود لموسى، و إن كان راجعا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت الآيات في صدد بيان الرسالات الثلاث، و إن أهل الملتين السابقتين كيف استقبلوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المبشر به لديهم.

[8] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي أيّ شخص أكثر ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي اختلق الكذب على اللّه، و قال لكلامه إنه سحر و لرسوله إنه ساحر كاذب، وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ الذي فيه سعادته في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العناد بعد ما رأوا النور و الهدى، و دلهم على الطريق فلم يسلكوه.

[9] يُرِيدُونَ هؤلاء الكفار المعاصرون لك يا رسول اللّه لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ و هو رسوله و منهاجه بِأَفْواهِهِمْ و إنما سمي نورا لأنه ينير دروب الحياة المظلمة بمناهج تسبب السعادة و الوصول إلى الهدف، كمن معه المصباح في الليلة المظلمة حيث لا يصطدم بشي ء بل يسلك السبيل حتى يصل إلى المطلوب، و إنما قال «بأفواههم» لأنهم ظنوا أنهم يتمكنون من إطفاء نور الإسلام، بالتكذيب و التهريج.

وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أي مظهر دينه، فإن النور إذا أطفئ لم يتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 406

[سورة الصف (61): الآيات 9 الى 10]

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10)

امتداده في الزمان، أمّا إذا لم يطفأ استمر و امتد و

تم وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ من بقاء نور اللّه و إضاءته للعالم.

[10] هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْهُدى أي مع الهداية للبشرية إلى السعادة الأبدية وَ ب دِينِ الْحَقِ و هو دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي أن الإرسال كان لأجل إظهار هذا الدين عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي على كل الأديان، فإن «الدين» جنس و لذا جي ء له ب «كله» فإن الإسلام يغلب الأديان كلها على نحوين: الأول بالحجة و الدليل، و هذا موجود منذ زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الثاني بالغلبة و السيطرة و هذه تكون في زمن الإمام الحجة عليه السّلام.

فقد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية و أنه هل ظهر الإسلام؟ قال عليه السّلام: كلا فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلا و ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلا اللّه بكرة و عشيا

«1» وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الذين أشركوا باللّه، فإنه يعلو على رغم أنوفهم.

[11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنما خص المؤمنين بالخطاب، مع أنه أعم، لأنهم المنتفعون بالخطاب العاملون به دون سواهم هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أهديكم و أرشدكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ على نحو الاستفهام الطلبي.

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 663.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 407

[سورة الصف (61): الآيات 11 الى 12]

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

[12] ثم بين تلك التجارة، التي لها أربح الأثمان،

و هل شي ء أنفع من نجاة الإنسان من عذاب مؤلم موجع؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بأن تعتقدوا به إلها واحدا وَ رَسُولِهِ بأن تصدقوه فيما جاء به، و المراد إيمانا باقيا راسخا- فلا ينافي ذلك كونهم مؤمنين، كقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «1»- وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي تتبعون أنفسكم بالمشاق التي منها الحرب لأجل إعلاء كلمة اللّه بِأَمْوالِكُمْ بأن تبذلوها لأجله تعالى وَ أَنْفُسِكُمْ بأن ترخصوها في أوامره، حتى إذا استلزمت إزهاق أنفسكم و قتلكم في سبيله ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب، أي ما ذكر من الإيمان و الجهاد- باعتبار كل واحد- خَيْرٌ لَكُمْ من الشرك الذي مصيره النار و العقاب إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و المعنى إن كنتم عالمين لعلمتم أن الإيمان و الجهاد خير و أنفع من الكفر و الكسالة.

[13] و إذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ السالفة وَ يُدْخِلْكُمْ اللّه تعالى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و ماء و لبن و خمر وَ يدخلكم في تلك الجنات مَساكِنَ طَيِّبَةً جمع مسكن و هو المنزل، سمي بذلك لأنه محل سكون الإنسان فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، أي

______________________________

(1) النساء: 137.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 408

[سورة الصف (61): الآيات 13 الى 14]

وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

في جنات أنتم دائمون فيها خالدين لا خروج

لكم عنها ذلِكَ الغفران للذنب و الدخول في الجنات الْفَوْزُ و الظفر بالمطلوب و السعادة الْعَظِيمُ الذي ليس فوقه سعادة و فلاح.

[14] وَ لكم مضافا إلى نعمة الفوز بالجنان، نعمة أُخْرى إذا آمنتم و جاهدتم تُحِبُّونَها و هي نعمة دنيوية نَصْرٌ لكم على الكفار مِنَ طرف اللَّهِ سبحانه، لأنه ينصركم على الأعداء، و إن كانت قواكم المادية أقل منهم وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ لبلادهم، و قد كان كما أقام سبحانه فقد فتحوا مكة و فارس و الروم و كثير من أماكن المشركين و الكفار في مدة و وجيزة وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه الْمُؤْمِنِينَ بهذين الثوابين، إن صدقوا في الإيمان و قاموا بواجب الجهاد.

[15] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي أعوانه الملازمين لخدمته بإقامة دينه، في مقابل المؤمن الذي لا يهيئ نفسه للنصرة، و إنما يعمل ببعض الأمور الدينية كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي أنصروه نصرة مثل ما طلب المسيح من تلامذته لِلْحَوارِيِّينَ و هم أصفياؤه و تلاميذه مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي في السير إلى رضوان اللّه و ثوابه، سيرا مستقيما، يكون معي في تعاليمي؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ و الخطاب إما كان خاصا لهم و أجاب الجميع بالموافقة، أو كان عاما،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 409

و إنما قال «للحواريين» باعتبار أنهم الفئة الموجهة في خطابه عليه السّلام للجماهير فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إيمانا صحيحا و هم الحواريون و من إليهم وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ بأن لم تؤمن بعيسى أو آمنت ثم انحرفت كالمثلثة و نحوهم فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي قويناهم عَلى عَدُوِّهِمْ الكافرين فَأَصْبَحُوا أي المؤمنون به ظاهِرِينَ غالبين بالحجة على الكافرين، أو غالبين بالعدد و القوة على أولئك،

و كما أيدنا النصارى الحقيقيين على اليهود و المزيفين من النصارى كذلك نؤيد الإسلام الصحيح على الأديان الأخرى، و الإسلام المنحرف، و إنما يسمى الغالب ظاهرا لأنه يظهر و غيره يخفى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 410

62 سورة الجمعة مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجمعة» و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام بالإضافة إلى اشتمالها على العقيدة، و لما ختمت سورة الصف بتأييد المؤمنين بعيسى عليه السّلام افتتحت هذه السورة بالإرسال في الأميين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له كل شي ء، و إنما يبدأ باسم من له كل شي ء استحقاقا و استعطافا، فمن له كل شي ء هو الأحق بالتنويه، و من بيده كل شي ء هو الأحق و الأولى بالاستعطاف.

الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بالفضل، فإن الرحمة هي الفضل على من فيه نقص بتكميل ذلك النقص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 411

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)

[2] يُسَبِّحُ لِلَّهِ أي ينزه اللّه من النقائص، تنزيها إما تكوينيا، لأن في كل شي ء له آية دالة على أنه خالق عالم قدير، و إما بلسان تفقهه ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ السماء و ما فيها، و الأرض و ما فيها فإن الظرف قد يطلق على الإثنين، كما أن المظروف قد يطلق على الإثنين الْمَلِكِ السلطان على الكون بقول مطلق، فإن سلطة ما عداه تعالى مجازية الْقُدُّوسِ المنزه عن كل

نقص، من قدس بمعنى تنزه الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه الْحَكِيمِ الذي يفعل الأشياء بالحكمة و الصلاح.

[3] هُوَ اللّه تعالى الَّذِي بَعَثَ أي أرسل فِي الْأُمِّيِّينَ الأمي منسوب إلى الأم و المراد بهم العرب، سموا بذلك إما لأنهم من أهل «أم القرى» أي مكة المكرمة- المسماة بذلك لأن القرى دحيت من تحتها- و إما لأن الغالب منهم لم يكونوا يعرفون القراءة و الكتابة فهم- في جهلهم- كالذي خلق من الأم لا يعرف شيئا، و البعث في الأميين لا يلازم أن يكون لهم وحدهم، حتى تدل الآية على خصوص نبوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَسُولًا لأجل هدايتهم مِنْهُمْ أي من أنفسهم و من أهل بلدهم.

يَتْلُوا أي يقرأ عَلَيْهِمْ أي على أولئك الأميين آياتِهِ أدلّته، أو آيات القرآن وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم تطهيرا علميا، فإن المعلم الرقيب يطهر تلاميذه من أدران القلوب و الجوارح بحفظهم عن الرذائل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 412

[سورة الجمعة (62): الآيات 3 الى 4]

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

و الأعمال المنكرة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أحكامه و شرائعه وَ الْحِكْمَةَ بأن يعرفوا وضع الأشياء مواضعها، فإن الحكمة هي وضع الشي ء موضعه وَ إِنْ كانُوا هؤلاء الأميون مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتيهم الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في انحراف ظاهر، فلا عقائد صحيحة و لا أعمال صالحة و لا عادات طيبة، و لا أخلاق فاضلة، يعني أنه يوصلهم إلى أرقى مراقي الكمال، و إن كانوا قبل ذلك في أبعد متاهات الضلالة.

[4] وَ يعلّم آخَرِينَ مِنْهُمْ أي من أولئك الأميين، ممن يأتي بعدهم إلى

يوم القيامة، و كونهم منهم إما باعتبار أنهم من نسلهم أو باعتبار أنهم بالإيمان يكونون من جنس أولئك لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «لمّا» لما لم يقع و ينتظر وقوعه، أي لم يلحقوا- بعد- بهم، مع أنه ينتظر لحوقهم وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه فيتمكن من الهداية للآخرين الْحَكِيمُ الذي يضع الأشياء مواضعها.

[5] ذلِكَ أي الإرسال، بالنسبة إلى المرسل بأن جعله نبيا، أو بالنسبة إلى المرسل إليهم بأن شرفهم بأن هداهم فَضْلُ اللَّهِ لطفه و رحمته يُؤْتِيهِ أي يعطيه مَنْ يَشاءُ من عباده لكن المعلوم أن اللّه لا يعطي شيئا إلا حسب الحكمة، بمن كان صالحا للإعطاء، وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي فضله أعظم من فضل كل- ذي فضل، و إعطاء كل معطي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 413

[سورة الجمعة (62): الآيات 5 الى 6]

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)

[6] ثم نبّه السياق المسلمين بوجوب التمسك بالشريعة حتى لا يكونوا كاليهود الذين تركوا العمل بالتوراة، بعد ما تمسكوا بها في زمن موسى عليه السّلام مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حمّلهم اللّه التوراة، و كأن الوجه في التعبير ب «حملوا» إفادة أنهم إنما تمسكوا بها بكل صعوبة و تحميل لا بالطوع و الرغبة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها بأن تركوا العمل بها باختيار، و لذا جاء الفعل هنا من باب المجرد، و المراد ب «لم يحملوها» رفضوها و تركوا أحكامها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً جمع سفر و هو الكتاب، و

الحمار الذي يحمل الكتب على ظهره لا يستفيد منها، و اليهود مثل ذلك فإنهم مع كون التوراة بين أظهرهم لا يستفيدون منها و لا يعملون بأحكامها فمن تمسك بالقرآن ظاهرا و لم يعمل به كان مثله كذلك، بِئْسَ المثل مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ و المراد بهم اليهود الذين كذبوا بالتوراة- تكذيبا عمليا- أو كذبوا بآيات اللّه في القرآن، و المعنى بئس القوم قوم هذا مثلهم، فإن المثل السيئ لا يكون إلا للشخص السيئ، وَ اللَّهُ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، بعد أن هداهم إلى الطريق فلم يسلكوه.

[7] و قد كان اليهود يزعمون أنهم أولياء اللّه- بعد تركهم العمل بالتوراة- و يأتي السياق ليفند زعمهم هذا قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي سمّوا يهودا، و تهودوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 414

[سورة الجمعة (62): الآيات 7 الى 8]

وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ و أنكم شعب اللّه المختار مِنْ دُونِ النَّاسِ و أن سائر الناس لا يحبهم اللّه، و ليسوا بأولياء اللّه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم، فإن الولي لا يخاف من الموت، إذ يعلم بعلو حاله هناك.

[8] وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أي لا يتمنى اليهود الموت أَبَداً أي إلى الأبد بسبب ما عملوا من كفرهم و عصيانهم و أن أحوالهم في الآخرة سيئة من ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ و نسبة التقديم إلى اليد باعتبار أن اليد هي الأكثر عملا، من باب

علاقة الجزء و الكل وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ عالم بأحوالهم و سيجازيهم على ظلمهم، و هذا تهديد لليهود.

[9] و هل ينفع عدم تمنيهم الموت و فرارهم منه؟ قُلْ يا رسول اللّه لهم إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ بتوفير أسباب الصحة لأنفسكم، و عدم حضوركم في مواضع الخطر خوفا من الموت فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ يلقاكم و ينزل بكم لا محالة ثُمَ بعد الموت تُرَدُّونَ أي ترجعون، فإن الإنسان حيث صدر عن إرادة اللّه سبحانه، كان ذهابه إلى حسابه و جزائه، شبيها بالرد و الرجوع إليه إِلى عالِمِ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ أي ما ظهر للحواس و شهدها، أي حضرها الشخص، و المراد أنه تعالى يعلم السر و العلانية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 415

[سورة الجمعة (62): آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)

فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم- إخبار الذي يريد الجزاء- بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة أو القبيحة.

[10] و إذا تبين لزوم العمل بالشريعة حتى لا يكون المسلم، كمثل اليهود في تركهم العمل بالتوراة، جاء السياق ليبين شريعة عظيمة هي صلاة الجمعة، و هذه الصلاة واجبة في زمن الحضور، أما زمن الغيبة فلعلمائنا فيها خلاف، و الذي استظهرته أن وجوبها خاص بالإمام أو مأذونه في زمان بسط يد الإمام، و لذا لم يرد قيام الأئمة من بعد الإمام الحسين بها، و لم يكن ذلك لأجل التقية، و هذا هو السر في اشتهار تركها بين فقهائنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جلس على

المنبر لخطبة الجمعة أذّن بلال على باب المسجد، و كذا جرى أبو بكر و عمر بعده حتى جاء عثمان، فكان يؤذن على سطح داره أولا ثم إذا جلس على المنبر أذن ثانيا- و هذا هو الأذان الثالث الذي قالوا عنه بأنه بدعة، و كونه ثالثا باعتبار الأذان الإعلامي، و الأذان على المنبر، المشروعين- أما الأذان على سطح الدار فهو شي ء لم يكن في الإسلام مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي بعض يوم الجمعة، و هو لصلاة الجمعة، و سمي جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة، و قد كان هذا اليوم عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام، كما أن النيروز كان عيدا قبل الإسلام ثم قرره الإسلام.

فَاسْعَوْا السعي هو المضي بسرعة و عجلة إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 416

[سورة الجمعة (62): الآيات 10 الى 11]

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

الصلاة الجمعة وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي دعوا المعاملة، و الظاهر أن «البيع» من باب المثال الغالب، و إلا فالمراد كل عمل ينافي الذهاب إلى الصلاة ذلِكُمْ أي السعي إلى الذكر، و ترك المعاملة خَيْرٌ لَكُمْ أيها المؤمنون في دينكم و دنياكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن علمتم الأشياء لعلمتم أن السعي خير لكم.

[11] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت صلاة الجمعة فَانْتَشِرُوا أي تفرقوا أيها المؤمنون فِي الْأَرْضِ بأن يذهب كل إنسان إلى عمله الموجب للانتشار و التفرق وَ ابْتَغُوا أي اطلبوا بالكسب و ما أشبه مِنْ فَضْلِ

اللَّهِ رزقه و لطفه، و هذا أمر للإباحة، لأنه بعد الحظر، نحو قوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً بأن تكونوا متذكرين له لسانا و قلبا، حال الابتغاء و غيره، فإنه مجلى القلوب عن صدأ الغفلة و المعاصي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا برضاه و إحسانه.

[12]

قال جابر: أقبلت عير و نحن نصلي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت هذه الآية، و في رواية إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا

«2» وَ إِذا رَأَوْا هؤلاء الذين حضروا

______________________________

(1) المائدة: 3.

(2) بحار الأنوار: ج 22 ص 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 417

لصلاة الجمعة تِجارَةً مقبلة، فقد كانت تجارتهم تأتي من أطراف البلاد في مواسم معينة، فمن لم يسرع للاشتراء فاتته السلعة، و لزم عليه الانتظار إلى الموسم الآخر لسد حاجاته بالاشتراء أَوْ لَهْواً و كان من عادة العير التجارية إذا جاءت أن يدق الطبل إعلاما لأهل المدينة بمجيئها و هذا هو اللهو الذي يلهي عن ذكر اللّه و يشغل عن الانصراف إلى الصلاة انْفَضُّوا أي أسرعوا إِلَيْها إلى تلك التجارة و اللهو- باعتبار كل واحد منهما- و الانفضاض هو التفرق بسرعة وَ تَرَكُوكَ يا رسول اللّه قائِماً تخطب خطبة الجمعة، بأن لم يبالوا بشأنك تقديما لأمر الدنيا على أمر الآخرة قُلْ يا رسول اللّه لهم ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ فثوابه على البقاء مستمعا خطبة الجمعة أفضل من اللهو و خير لكم وَ مِنَ التِّجارَةِ و لعل تقديم التجارة

هناك و تأخيرها هنا، لأن هناك شروع من الأقوى يعني أنهم يذهبون للتجارة بل لما دون التجارة و هو اللهو ... و هنا شروع من الأضعف يعني أن ما عند اللّه خير من اللهو و ما فوق اللهو و هو التجارة وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فلا يزعم أحد أنه لو ترك الاشتراء من العير لبقي بلا رزق، بل اللّه يرزقه من واسع فضله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 418

63 سورة المنافقون مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لأنها مشتملة على لفظة «المنافقون» و هي كسائر السور المدنية تشتمل على النظام، بالإضافة إلى قضايا العقيدة، و لما ختمت سورة الجمعة بترك الرسول قائما، الذي هو من أشباه أعمال المنافقين ابتدأت هذه السورة بقصة من قصص المنافقين التي وقعت في إحدى غزوات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

قد ورد أن هذه السورة نزلت في غزوة «بني المصطلق» في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج إليها، فلما رجع منها نزل على بئر، و كان الماء قليلا فيها و كان الأنس بن سيّار حليف الأنصار و كان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر، فاجتمعوا على البئر، فتعلق دلو سيّار بدلو جهجاه فقال سيار دلوي و قال جهجاه دلوي؟ فضرب جهجاه وجه سيار فسال منه الدم، فنادى سيار بالخزرج و نادى جهجاه بقريش، فأخذ الناس السلاح، و كادت أن تقع الفتنة فسمع عبد اللّه ابن أبيّ النداء فقال ما هذا؟ فأخبروه بالخبر، فغضب غضبا شديدا، ثم قال قد كنت كارها لهذا المسير، ما ظننت أني أبقى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 419

إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير ثم

أقبل على أصحابه و قال هذا عملكم! أنزلتموهم منازلكم و واسيتموهم بأموالكم و وقيتموهم بأنفسكم و أبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم و أيتم صبيانكم و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم.

ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل- و أراد بالأعز هو و أمثاله، و بالأذل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين- و كان في القوم زيد بن أرقم و كان غلاما و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ظل شجرة في وقت الهاجرة و عنده قوم من أصحابه من المهاجرين و الأنصار، فجاء زيد فأخبره بما قال عبد اللّه بن أبيّ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعلك وهمت يا غلام؟ قال لا و اللّه ما وهمت فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا و اللّه ما غضبت عليه. قال: فلعله سفه عليك؟ قال لا و اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لشقران مولاه أن يقدم راحلته و ركب و تسامع الناس بذلك فقالوا ما كان رسول اللّه ليرحل في مثل هذا الوقت؟ فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول اللّه و رحمة اللّه و بركاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و عليك السلام. فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أو ما سمعت قولا قاله صاحبكم؟ قالوا و أي صاحب لنا غيرك يا رسول اللّه قال: عبد اللّه بن أبيّ زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال: يا رسول اللّه فأنت و أصحابك الأعز

و هو و أصحابه الأذل فسار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومه كله لا يكلمه أحد، فأقبلت الخزرج على عبد اللّه بن أبيّ تلومه فحلف عبد اللّه أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى نعتذر إليه، فلوى عنقه فلما جن الليل سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليله كله، و النهار، فلم ينزلوا إلا للصلاة، فلما كان من الغد نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نزل أصحابه و قد انهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم، فجاء عبد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 420

اللّه بن أبيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلف عبد اللّه أنه لم يقل ذلك و أنه ليشهد أن لا إله إلا اللّه و أنك لرسول اللّه و أن زيدا قد كذب علي.

فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه- أي أظهر السكوت- و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه و يقولون كذب على عبد اللّه سيدنا، فلما رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان زيد معه يقول اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد اللّه بن أبيّ، فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يأخذه من الحالة عند نزول الوحي عليه فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسرى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يسكب العرق عن جبهته، ثم أخذ بأذن زيد بن

أرقم فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدقت و وعى قلبك و أنزل اللّه فيما قلت قرآنا، فلما نزل جمع أصحابه و قرأ عليهم سورة المنافقين ففضح اللّه عبد اللّه بن أبيّ ثم جاء ولد عبد اللّه بن أبيّ إلى رسول اللّه و قال: يا رسول اللّه إن كنت عزمت على قتله فمرني أن أكون أنا الذي أحمل إليك رأسه فو اللّه لقد علمت الأوس و الخزرج أني أبرهم ولدا بوالدي، فإني أخاف أن تأمر غيري فيقتله فلا تطيب نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول اللّه: بل نحسن لك صحابته ما دام معنا

«1».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في حوائجنا، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شي ء ليلطف علينا بالرحمة فيحل مشاكلنا الدنيوية و الأخروية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 285.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 421

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2)

[2] إِذا جاءَكَ يا رسول اللّه الْمُنافِقُونَ و المراد به عبد اللّه بن أبيّ، و قد تقدم أن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس، و يراد به الفرد، و إنما يعبر بالجمع لإفادة أن من هذا وصفه فحكمه حكم ذلك الفرد الصادر منه الفعل كما أن الفرد قد يأتي بمعنى الجنس، حيث تسلخ منه الفردية، و تبقى الجنسية التي في ضمن الفرد، و المنافق هو الذي يبطن الكفر و يظهر الإسلام قالُوا في محضرك نَشْهَدُ

إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ بأن هذا هو اعتقادنا القلبي، لا إظهارنا اللفظي فقط وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ و هذه جملة جاء بها القرآن تمهيدا للجملة التالية، لئلا تنصرف إلى إنكار اللّه سبحانه رسالته حيث يكذب المنافقين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في ادعائهم أنهم يعتقدون برسالة الرسول من أعماق قلوبهم، فإنهم إنما آمنوا باللسان و قلبهم باق على الكفر و الجحود.

[3] اتَّخَذُوا أي هؤلاء المنافقون أَيْمانَهُمْ جمع يمين و هي القسم أي حلفهم جُنَّةً أي وقاية يتسترون بها حتى لا يصيبهم أذى من الرسول و المسلمين فَصَدُّوا أي منعوا بسبب حفظ أنفسهم على الكفر باطنا- بالحلف الكاذب- عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريق دينه و ثوابه لأنهم بنفاقهم يحفظون أنفسهم في زمرة المسلمين، ثم يشاغبون خفية، و يمنعون الناس عن الإيمان الصحيح إِنَّهُمْ أي المنافقين ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 422

[سورة المنافقون (63): الآيات 3 الى 4]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

أي بئس العمل عملهم حيث يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر صدا عن سبيل اللّه.

[4] ذلِكَ النفاق إنما كان بسبب أنهم آمَنُوا بألسنتهم ثُمَّ كَفَرُوا بقلوبهم، فإن المنحرف الطبع إذا رأى خيرا أسرع إليه مخلصا و إذا رأى التصادم مع مصالحه يبقى في ظاهر الموافقة- حزنا- و يتراجع في الباطن ترجيحا لمصالحه فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ إذ تمرنوا على الكفر و التمادي في صفة يوجب تطبع النفس بها إذ تكون ملكة للمتمادي، و الطابع هو اللّه سبحانه، الذي خلق النفس

البشرية هكذا، و إن كان الطبع بسبب نفاقهم، و المراد بالقلوب الأنفس فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون حقيقة الإيمان و التقوى لأن نفوسهم انحرفت، و إذا انحرفت النفس رأى الجميل قبيحا و القبيح جميلا.

[5] وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ أي نظرت إليهم يا رسول اللّه أو أيها الرائي تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ بحسن منظرهم و تمام خلقتهم و جمال صورهم وَ إِنْ يَقُولُوا أي يتكلموا في أي شأن من الشؤون تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ أي أصغيت إلى كلامهم لجميل بيانهم و فصاحة منطقهم، فهم مع حسن المنظر و عذوبة البيان كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ فارغون عن الصفات الحسنة و الفضائل، كالخشبة الفارغة التي لا تتمكن أن تقف بنفسها فتستند لحائط و نحوه لتقف و تستقيم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 423

[سورة المنافقون (63): آية 5]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)

فالخشبة التي أكلت جوفها الأرضة ظاهرها جميل و باطنها فارغ لا تتمكن أن تقف هي لركاكتها و هؤلاء كذلك لهم ظاهر من غير باطن يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ و كل نازلة عَلَيْهِمْ لجبنهم و فراغ قلوبهم عن فضيلة الإيمان، فإن المؤمن ثابت القلب رابط الجأش أما المنافق فإنه خائف دائما أن يظهر باطنه فيفضح، و لذا كلما حدث شي ء خاف و جبن أن يقع فيه و يفضح باطنه، و الفاجعة و النازلة تسمى صيحة لارتفاع الصياح فيها من باب علاقة السبب و المسبب هُمُ الْعَدُوُّ أي أن هؤلاء المنافقين هم أعداؤك الوحيدون يا رسول اللّه الكاملون في العداوة إذ الكفار لظهورهم يؤمن شرهم، أما المنافق فهو يخفى في الجماعة المؤمنة بإظهار الإيمان حيث لا يرى و لا يعرف حتى يفسد و

يسبب المشاكل.

فَاحْذَرْهُمْ يا رسول اللّه عن أن يختلطوا بالمسلمين و يطلعوا على أسرارهم، لأنهم عرفوا بمناطق العزة و نقاط الضعف، فهم أقدر من العدو الخارج على الإفساد و المؤامرة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بأن يقتلهم اللّه ليستريح المسلمون من شرهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق مع الأدلة الواضحة؟

[6] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا أي هلموا و أتوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ أي يطلب لكم غفران اللّه لما صدر منكم من الذنب لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 424

[سورة المنافقون (63): الآيات 6 الى 7]

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7)

حركوها حركة المعرض، و عطفوها نحوا إلى جانب يخالف جانب القائل تكبرا و إعراضا وَ رَأَيْتَهُمْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أيها الرائي يَصُدُّونَ أي يمنعون عن سبيل الحق وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ يظهرون كبرهم و أنهم لا حاجة لهم إلى استغفار الرسول.

[7] و إذ كان أولئك منافقين ف سَواءٌ عَلَيْهِمْ في عدم الانتفاع و عدم غفران اللّه لهم أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ يا رسول اللّه أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فإن الاستغفار إنما ينفع المؤمن دون المنافق لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أبدا لأنهم يبطنون الكفر إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الذين خرجوا عن طاعة اللّه بالنفاق و الشقاق.

[8] هُمُ المنافقون الَّذِينَ يَقُولُونَ بعضهم لبعض لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المؤمنين أصحاب الحاجة حَتَّى يَنْفَضُّوا أي يتفرقوا

عنه، و يأتي التعليق على كلامهم هذا بقوله وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ التي يبذل منها لمن حوالي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد ظن هؤلاء المنافقون أن خزائن الأرزاق و الأموال بأيديهم حتى إذا قطعوا الأموال على المؤمنين يتفرقون، و جهلوا أن الشمس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 425

[سورة المنافقون (63): الآيات 8 الى 9]

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)

و الأرض و الماء و الهواء التي هي خزائن الأموال و الأرزاق كلها بيد اللّه تعالى فيبذل منها على المسلمين بالزراعة و الاكتساب و ما أشبه، فليس منع أولئك سببا لتفرق هؤلاء المؤمنين من حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أن الخزائن بيد اللّه تعالى.

[9] يَقُولُونَ هؤلاء المنافقون لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يريدون المنافقين أنفسهم مِنْهَا أي من المدينة الْأَذَلَ يريدون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و يأتي الرد عليهم وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ و هو مع المؤمنين وَ لِرَسُولِهِ بإعزاز اللّه له وَ لِلْمُؤْمِنِينَ بتمسكهم بالإسلام الموجب لسعادة الدنيا و الآخرة و عزتهما وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن العزة لهم حيث يجدون أعوانا من المنافقين و مقدارا يسيرا من المال، و قد دلت التجربة على ذلك، فقد جاء الأذل، و هو ابن أبيّ- إلى الأعز- و هو الرسول،

يعطي البراءة عما اقترفه.

[10] و إذا تقدم ذكر النفاق الذي هو إبطان الكفر و إظهار الإيمان جاء السياق ليذكّر المسلمين بأن لا يفعلوا ما هو من أخلاق المنافقين من الإقبال على الدنيا، و جعل الآخرة وراء ظهرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أي لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 426

[سورة المنافقون (63): الآيات 10 الى 11]

وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

بأن تشتغلوا بها فلا تراعوا حق اللّه فيها و لا تحضروا للصلاة و غيرها من سائر الفرائض اشتغالا بالمال و الولد.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاشتغال بالمال و الولد عن ذكر اللّه فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم إذ لا نجاة لهم في الآخرة من العذاب.

[11] وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ فيما أمرنا من الخمس و الزكاة و الصلاة و سائر الحقوق- و لعله عام يشمل الإنفاق من العلم و الجاه و القوة بالإضافة إلى الإنفاق من المال- مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي يحضره الموت، بأن تأتي أسبابه و علائمه فَيَقُولَ يا رَبِّ لَوْ لا أي هلّا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ بأن أبقى في الدنيا و لو مدة قليلة لأصلح شأني فَأَصَّدَّقَ أي أتصدق و أزكي مالي و أنفقه في سبيل اللّه وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أصلي و أصوم و أحج و أبذل نفسي في سبيلك و حسب أوامرك.

[12] و هل ينفع هذا الطلب؟ كلا وَ ذلك لأنه لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ

نَفْساً بإبقائها في الدنيا زيادة على المدة المقدرة لها إِذا جاءَ و حضر أَجَلُها فلا يتمكن من العمل الصالح ببدنه و الإنفاق من ماله وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أيها البشر فلا تفعلوا ما يوجب العقاب و النكال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 427

64 سورة التغابن مدنية/ آياتها (19)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «التغابن» و هي كسائر السور المدنية تعالج النظام إلى جنب بيان العقيدة، و لما ختمت سورة المنافقين بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، افتتحت هذه السورة بذكر المطيع و العاصي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه الجامع لجميع صفات الكمال، و هل هناك أحق بالابتداء ممن هو الأول و الآخر، و من كان قبل كل شي ء ثم كوّن كل شي ء؟ الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء و الرحمة في الإنسان حالة في القلب، و لكن فيه سبحانه يراد بها فعل يترتب على الرحمة من الفضل و الإنعام إذ لا مجال فيه سبحانه لمثل هذه الصفات، و لذا قالوا «خذ الغايات و اترك المبادي».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 428

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

[2] يُسَبِّحُ لعل التعبير بالماضي في بعض السور باعتبار معنى التسبيح، و بالمضارع في البعض باعتبار الحال و الاستقبال لِلَّهِ أي ينزهه عن النقائص ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ظرفا و مظروفا- كما سبق- لَهُ الْمُلْكُ

فهو المالك المطلق الحقيقي، و سائر المالكين ملكهم محدود، و إضافي لاختصاص الشي ء بتخصيص اللّه سبحانه لا أنهم ملاك حقيقيون وَ لَهُ الْحَمْدُ، إذ المحامد كلها راجعة إليه، فإن الحمد إنما يكون على الجميل الاختياري، و فاعل كل جميل هو اللّه سبحانه، أما سائر من يحمد فهو محمود حمدا مقيدا إضافيا وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على الإيجاد و الإعدام و التصرف كيفما شاء.

[3] هُوَ اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر فَمِنْكُمْ كافِرٌ باللّه بسوء اختياره بعد وضوح الحجة و ظهور المحجة وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ باللّه و بما جاء به الرسل، و هذا التفريع لبيان أنه لا ينبغي الكفر بعد كون الملك و الخلق له سبحانه، و بعد تسبيح الكون لعظمته وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أنتم أيها البشر بَصِيرٌ يرى الأشياء، ثم يجازيكم عليها.

[4] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ظرفا و مظروفا بِالْحَقِ فلم يكن الخلق عبثا و لغوا، كما يفعل الأطفال، من صنع التماثيل من طير و نحوه للهو، فإن خلقها كان لحكمة و غاية و مقصد وَ صَوَّرَكُمْ بأن جعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 429

[سورة التغابن (64): الآيات 4 الى 5]

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5)

لكم الصور الظاهرة من الحواس و الكيفيات و الصور الباطنة بأن جعل لكم العقل و الملكات فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بصورة عامة، و إن كان في البشر من ليس حسن الصورة، فإن الأحكام يراد بها النوع لا كل فرد- كما قرر في علمي البلاغة و الأصول- وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ

أي تصيرون إلى حسابه و جزائه بعد الموت، أو في القيامة.

[5] يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما في الْأَرْضِ مما يحدث و ما يعدم و ما يتصرف فيه كيف يتصرف وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تعملونه سرا عن الناس وَ ما تُعْلِنُونَ تعملونه علنا في محضر الناس، أو المراد من السر الأعم مما يدور في الصدور و ما يعمل سرا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور في قلوب البشر، و هذا يؤيد كون «ما تسرون» بمعنى تعملون سرا لا الأعم، و إلا كان تأكيدا- و هو خلاف الأصل-.

[6] و إذ بين السياق آيات حول الألوهية، جاء ليهدد الكافرين الذين أعرضوا عن اللّه و الإيمان به بقوله أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها الناس نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث إنهم أعرضوا عن الإيمان فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي عذبهم اللّه سبحانه حتى ذاقوا عاقبة كفرهم و تكذيبهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 430

[سورة التغابن (64): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)

في الآخرة بالإضافة إلى العذاب الذي ذاقوه في الدنيا.

[7] ذلِكَ العذاب إنما شملهم و أخذهم بسبب أنه كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من عند اللّه بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الظاهرة و الحجج و المعاجز فَقالُوا أولئك الكفار، في رد دعوة الرسل أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا أي كيف يمكن أن

يكون الرسول الذي هو بشر مثلنا يهدينا؟ و «بشر» جنس و لذا جي ء له بصيغة الجمع «يهدوننا» فَكَفَرُوا بالرسل و بما جاءوا به وَ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الحق وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ أي فعل فعل المستغني عن الشي ء و هو تركه و شأنه، و هذا بعد أن طلب منهم الهداية و الرشاد فلم يقبلوا، و إنما جي ء من باب «الاستفعال» الظاهر في الطلب، لأن الغناء في المتعارف إنما يأتي بعقب الطلب فهو من باب التشبيه بالمحسوس، و إذ كان الكلام موهما لاحتياج اللّه بهم قبل ذلك جاء السياق ليدفع هذا التوهم بقوله وَ اللَّهُ غَنِيٌ بذاته لا يحتاج إلى شي ء و لا أحد حَمِيدٌ بأفعاله لا يحتاج إلى أن يحمد و لا ينقص عن كونه محمودا بالذات عدم حمد الناس له.

[8] إن الكفار تولوا عن الإيمان باللّه و عن الإيمان بالرسل، و كذلك تولوا عن الإيمان بالبعث زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يكن ذلك تيقنا بل زعما و ظنا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا بعد الموت، و لن يحيوا للحساب و الجزاء قُلْ يا رسول اللّه ردّا لزعمهم بَلى ليس الأمر كما زعمتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 431

[سورة التغابن (64): الآيات 8 الى 9]

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

وَ حق رَبِّي اللّه، بل لَتُبْعَثُنَ أي لتحشرن أحياء بعد الموت ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَ أي تخبرن- على صيغة المجهول- و المخبر هو اللّه و الملائكة و الأنبياء و من

يعينونه للحساب و الإخبار بِما عَمِلْتُمْ من الكفر و المعاصي، فإن المجرم يخبر بعمله ثم يعاقب وَ ذلِكَ البعث و الإخبار عَلَى اللَّهِ تعالى يَسِيرٌ سهل هين، فإن من خلق الخلق ابتداء قادر على أن يعيدهم.

[9] و إذا تحقق البعث و الحساب و تحقق الجزاء فَآمِنُوا أيها البشر بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بالإذعان بهما و اتباع أوامرهما وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا و هو القرآن إذ هو ينير سبيل الحياة المظلمة ليرى الإنسان طريقه نحو السعادة و من المعلوم أن الأئمة عليهم السلام من مصاديق ذلك النور- كما ورد «1»- وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أيها البشر خَبِيرٌ عالم مطلع، فإذا آمنتم جزاكم بالثواب و الأجر و لا يذهب إيمانكم هدر.

[10] و ذلك البعث و الجزاء إنما يكون في يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ اللّه لِيَوْمِ يسمى بيوم الْجَمْعِ لاجتماع الخلائق فيه للحساب ذلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغابُنِ و هو تفاعل من الغبن بأن يغبن كلّ الآخر، فإن أهل الجنة يغبنون أهل النار باتخاذ منازلهم في الجنة- فإن لكل إنسان منزل في الجنة و منزل في النار- و بالعكس يغبن أهل النار أهل الجنة باتخاذ

______________________________

(1) التحصين لابن طاووس: ص 585.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 432

[سورة التغابن (64): آية 10]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

منازلهم في النار- و تسمية هذا الطرف: غبنا من باب الجناس، من قبيل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «1»-.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأن يعتقد به و ينزهه عما لا يليق به وَ يَعْمَلْ صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد به جنس العمل الصالح، لا عملا واحدا يُكَفِّرْ اللّه عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يمحي عن ديوانه ما

أسلف من الذنوب و المعاصي، فإن التكفير بمعنى الستر و المحو وَ يُدْخِلْهُ اللّه سبحانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء، في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي دائمين في تلك الجنات أَبَداً لا زوال لهم عنها إلى غير النهاية ذلِكَ الدخول في الجنة خالدا، هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي ليس وراءه فلاح.

[11] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بحججنا و أدلتنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، فإن صاحب الشي ء هو الملازم له في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي باقون فيها أبدا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس النار مرجعا و مآلا للإنسان.

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 433

[سورة التغابن (64): آية 11]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11)

[12] و إذ دعا سبحانه إلى الإيمان بيّن بعض ثمار الإيمان الطيبة التي ينالها الإنسان في هذه الدنيا قبل الفوز بالجنان في الآخرة، و قدم لذلك مقدمة بقوله ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي لا تصيب الإنسان مصيبة و لا يقع الإنسان في مشكلة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فاللّه سبحانه هو الذي يقدر الأشياء فلو لا تقديره لم يقع شي ء في الكون، فإن اللّه سبحانه قادر على أن يسكن الكوارث حتى لا تنزل بالإنسان، و إنما قرر سبحانه المصائب لتنزل بالإنسان للامتحان و الاختبار، و ليس معنى ذلك أن المصائب السيئة ينزلها اللّه سبحانه، بل معناه أنه تعالى لا يأخذ أمامها حتى لا تنزل، فمن يقتل ظلما- بإذن اللّه- أي لا يمنع اللّه القاتل- منعا تكوينيا بأن تشل يده-

حتى لا يتمكن من القتل و إنما يأذن و لا يأخذ بيد القاتل لكون الدنيا دار اختبار، فلو كان سبحانه يجبر على ترك القبيح لكان الإنسان بمنزلة الحجر و الجماد في أفعاله الاضطرارية و يبطل الثواب و العقاب.

و إذ قدم السياق هذه المقدمة، أتى إلى ثمرة الإيمان بقوله وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا راسخا يَهْدِ اللّه قَلْبَهُ حتى يطمئن بأن ما يصيبه إنما هو بعلم اللّه، و أنه يجازيه بالثواب و الأجر على ما أصابه، و إذا علم الإنسان أن ما أصابه من الضرر يتدارك بأضعاف الخير، اطمأن قلبه و لم تصدمه المصيبة كثيرا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيجازي كل امرء بما عمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 434

[سورة التغابن (64): الآيات 12 الى 14]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

[13] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ أيها البشر في ما أمركم وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أتاكم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الإطاعة فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلغكم بلاغا ظاهرا، و قد بلّغ فليس عليه شي ء و إنما يرجع و بال العاقبة إليكم حيث أعرضتم بعد البلاغ.

[14] اللَّهُ الذي تدعون إلى الإيمان به هو الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له و لا نظير وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يكلوا أمورهم إليه، و يعتمدوا عليه.

[15] و إذ دعا السياق الناس إلى الإيمان، جاء ليبين بعض أعداء المؤمن الذين

يثنونه عن الإيمان ليتخذ منهم حذره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي نسائكم وَ أَوْلادِكُمْ أي بعضهم، و لذا جي ء ب «من» عَدُوًّا لَكُمْ لأنكم مؤمنون و هم كافرون أو منافقون فَاحْذَرُوهُمْ أن لا يصدوكم عن الحق و الهدى وَ إذا آذوكم بسبب إيمانكم ف إِنْ تَعْفُوا عنهم دون الانتقام وَ تَصْفَحُوا و هو أن يعرض الإنسان و يبدي صفحة وجهه أمام المكروه وَ تَغْفِرُوا بأن تستروا ذنبهم فلا تنتقموا منهم، و كان للأمر ثلاث مراتب: ستر الذنب، و عدم المقابلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 435

[سورة التغابن (64): الآيات 15 الى 16]

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)

حتى بالكلام، و عدم الانتقام.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبكم، أو لذنوبهم- إذا تابوا- رَحِيمٌ بعباده، فعلى المؤمن أن يتعلم الغفران و الرحمة منه سبحانه، و هذا بالإضافة إلى الثواب، خطة حكيمة في جلب الناس إلى الإيمان، فإن السلم في مقابل العدو، يخفف من حدته و يلقي في نفسه حب مبدأ المسالم حتى ينجذب إليه.

[16] إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي امتحان لكم، كي يتبين من يطيع اللّه فيهما و من يعصيه و هذا من باب المثال، و إلا فأقرباء الإنسان و زوجه أيضا فتنة و امتحان وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ و ثواب كبير لمن أطاعه و لم يخالفه لأجل أهله و ماله.

قال الإمام الباقر عليه السّلام إن الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعلق به ابنه و امرأته و قالوا ننشدك

اللّه أن تذهب عنا و تدعنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذرهم اللّه أبناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم و منهم من يمضي و يذرهم و يقول: أما و اللّه لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع اللّه بيني و بينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبدا، فلمّا جمع اللّه بينه و بينهم أمره اللّه أن يحسن إليهم و يصلحهم فقال «و إن تعفوا و تصفحوا و تغفروا فإن اللّه غفور رحيم»

«1».

[17] فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، بامتثال أوامره مَا اسْتَطَعْتُمْ أي بقدر

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 372.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 436

[سورة التغابن (64): آية 17]

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)

استطاعتكم فإنه لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها وَ اسْمَعُوا من الرسول ما يأمركم وَ أَطِيعُوا بعد ما سمعتم، و كأن المراد من السماع أن يستمعوا للعمل وَ أَنْفِقُوا من أموالكم في سبيل اللّه خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أي إنفاقا خيرا، فإنه عائد لأنفسكم إذ تعطون بدله في الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُوقَ أي يحفظ شُحَّ نَفْسِهِ أي بخلها، بأن يحفظه اللّه سبحانه من البخل، فينفق كما أمر اللّه سبحانه فَأُولئِكَ المتصفون بتلك الصفات أو من وقي شح نفسه هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، من أفلح بمعنى فاز و ظفر بالسعادة.

[18] ثم أن هذا المال الذي ينفقه الإنسان لا يذهب ضياعا بلا عوض بل هو بمنزلة قرض يقرضه الإنسان للّه سبحانه، فيرده عليه أضعافا مضاعفة إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن يكون الإنفاق للّه و في سبيله بلا منّ و لا رياء و لا سمعة و لا حب المدح و ما أشبه من

مفسدات العمل يُضاعِفْهُ اللّه لَكُمْ أي يعطي بدله أضعافا، حتى أن الواحد يصل عوضه إلى سبعمائة و أكثر وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بسبب ذلك الإنفاق وَ اللَّهُ شَكُورٌ أي فاعل الشكر، فإن الإنسان الشاكر يثني المشكور و يبذل له عوض عمله، و هكذا اللّه سبحانه يمدح المعطي و يبذل له عوضه حَلِيمٌ فلا يعاجل العاصي بالعقوبة، فهو شاكر للمطيع، حليم عن العاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 437

[سورة التغابن (64): آية 18]

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

[19] و هو يعلم كل إنفاق و عمل صالح، فلا يضيع الحسن عنده، فإنه عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما ظهر، أي السر و العلانية و المحسوس و غير المحسوس الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه فيقدر على كل شي ء الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء حسب الحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 438

65 سورة الطلاق مدنية/ آياتها (13)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة «طلقتم» و غيره، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة، و حيث ختمت سورة التغابن بالتحذير من بعض النساء، ابتدأت هذه السورة ببعض أحكامهن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله ليكون عونا لنا في مهامنا، فإنه خير مستعان إذ له العلم و القدرة و الحكمة، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و لو كان الإنسان عاصيا له غير مطيع لأوامره، فهو يتفضل فوق الاستحقاق و يعين و إن لم يستحق المستعين الإعانة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 439

[سورة الطلاق (65): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ

مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حيث أن خطاب العظيم يراد به هو و من معه جاء السياق بلفظ الجمع في قوله إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي أردتم طلاق النساء، فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة، كما أن الإرادة تستعمل بمعنى الفعل- كما سبق- فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ أي وقت عدتهن، و هي كونهن في طهر غير المواقعة، فإن «العدة» بمعنى التعداد، و العدد، و «لام» لعدتهن، للتعدية، أي كون الطلاق في العدة التي هي أيام الطهر وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ أي أحسبوا أيام عدة المرأة التي إذا مرت خرجت من حبالة الزوج الأول و جاز أن تنكح رجلا جديدا وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تخالفوا أمره بالطلاق في حال الحيض، أو عدم إحصاء العدة حتى تبقى المطلقة تنتظر الانقضاء، لتكوين بيت جديد، و لا تعرف ذلك.

لا تُخْرِجُوهُنَ المطلقات مِنْ بُيُوتِهِنَ أي مساكنهن وقت الطلاق حتى تنقضي العدة، فإن سكناها ما دامت في العدة على الزوج وَ لا يَخْرُجْنَ هن من البيوت مدة العدة فإن خرجت بلا ضرورة أثمت إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ معصية فاحشة أي متجاوزة في الإثم مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة كالزنى، كما روي عن الصادق عليه السّلام «1»، فإذا زنت أخرجت عن البيت ليقام عليها الحد، و في بعض الروايات تفسيرها بأن

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 499.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 440

[سورة الطلاق (65): آية 2]

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ

بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2)

تؤذي أهل البيت بلسانها فإنها تخرج إلى محل آخر و ذلك لإيذائها «1» وَ تِلْكَ الأحكام التي ذكرت للطلاق حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأن يخالف أحكامه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي عرضها للعقاب و النكال، ثم بين سبحانه بعض الحكمة في الأحكام المتقدمة بقوله لا تَدْرِي النفس لَعَلَّ اللَّهَ سبحانه يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ العزم على الطلاق، أو بعد ذلك الطلاق، أَمْراً فإن تأخير الطلاق إلى الطهر الذي لم يواقع فيه ربما يغير من رأي الزوج، فلا يطلق و جعل العدة و عدم الإخراج من البيت ربما أوجب نزولهما عن الغضب الموجب للطلاق فيتراجعا عما قصدا من الطلاق.

[3] فَإِذا بَلَغْنَ النساء المطلقات أَجَلَهُنَ أي وصلن إلى رأس المدة- قبل انقضاء العدة- بأن بقيت من العدة شي ء، تخبر الرجل بين أن يرجع إليهن، أو يذرهن حتى تنقضي العدة فَأَمْسِكُوهُنَ إن أردتم الرجوع بِمَعْرُوفٍ أن تعاشروهن كما أمر اللّه سبحانه بالحسنى أَوْ فارِقُوهُنَ بأن تدعوهن على حالهن حتى تنقضي العدة بِمَعْرُوفٍ بدون إيذاء لها، و أخذ بعض أثاثها، أو إثارة قلاقل حولها كما هو من فعل الجهال. وَ أَشْهِدُوا إذا أردتم الطلاق ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 22 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 441

[سورة الطلاق (65): آية 3]

وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3)

نفرين عادلين من المسلمين حتى يشهدان على الطلاق، و العدالة عبارة عن ملكة في النفس تبعث على الإتيان بالواجبات و الترك للمحرمات خوفا من اللّه سبحانه،

و المعنى أنه يلزم حضور شاهدين عادلين عند إجراء صيغة الطلاق «و ذوي» جمع أريد به الاثنان فما فوق، كما فسر في الأحاديث، وَ أَقِيمُوا أيها الشهود الشَّهادَةَ إذا احتاج أحد الطرفين إلى الإشهاد لِلَّهِ فلا تحرفوا فيها، فإن الأمر إذا جاء به الإنسان للّه، راقبه سبحانه، كي لا يزيد و لا ينقص ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب، أي ذلك الذي تقدم من إقامة الشهادة للّه، يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنه هو الذي يخاف اللّه و يقيم الشهادة للّه، أما غيره فلا يهتم بالحقيقة و هذا كناية عن أن الانحراف في الشهادة كاشف عن عدم الإتيان وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخافه سبحانه، فيعمل حسب أوامره يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من مشاكله.

[4] فلا يظن الإنسان أنه إذا شهد بالحق وقع في المشكلة حيث يغضب عليه المبطل الذي يريد منه الشهادة بالباطل كما لا يزعم أنه يوجب قطع رزقه حيث أن المبطل ربما كان هو السبب في رزقه أو أن له القدرة في أن يسبب إلى ولي رزقه أن يمنعه عنه وَ يَرْزُقْهُ اللّه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي من مكان لا يظن أن يأتي من ذلك المكان الرزق، و لصدق هذا الكلام شواهد كثيرة عند المجربين، و من الأمثلة البارزة الآن أمامي رجل قتل فاحشة طمعا في مالها و ألقاها في النهر، ثم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 442

[سورة الطلاق (65): آية 4]

وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)

أعطى مرتزقته الشركاء معه في

الإثم أموالا لئلا يشهدوا عند القاضي و هددهم إن شهدوا، و انتشر الخبر و جاء القاضي يحلف الشهود بالقرآن الكريم، فحلف الكل بالإنكار إلّا واحد منهم كان صاحبا لهذا المجرم، فإنه قال لا أحلف بالقرآن كاذبا، و شهد بالحق وفر من المجرم بعد «و من الغريب» أن القاضي حكم على المجرم بهذا الشاهد الواحد، و ابتلى الكل، إلا هذا الصادق فإنه تاب من أعماله السابقة و هو إلى اليوم في الحياة يمدحه من يعرفه، بينما أن أولئك سجنوا و غرموا، و مات بعضهم في شبابه.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي من يكل أموره إلى اللّه يكفيه كل مخوف و مشكلة و ينجيه من كل هلكة إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ

أي يبلغ ما يريده و لا يفوته شي ء من إرادته، فلا يزعم الزاعم أن وعده سبحانه يمكن فيه الخلف قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً أي مقدارا و تقديرا و تسير أموره حسب ذلك فإذا جعل تقدير المتقي الكفاية و الرزق لا بد و أن يكون كما أراد بلا خلف.

[5] ثم بين سبحانه مقدار العدة التي إذا انقضت حل للزوجة أن تنكح زوجا جديدا وَ اللَّائِي جمع التي أي النساء المطلقات اللائي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي يئسن من الحيض فلا يحضن مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في أمرهن فلا تدرون أن انقطاع الحيض لكبرهن و يأسهن أي بلوغهن سن اليأس، و هو خمسون في غير القرشية و النبطية،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 443

[سورة الطلاق (65): الآيات 5 الى 6]

ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ

لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)

و ستون فيهما أم لعارض فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فإذا أكملن الثلاثة خرجن من العدة، أما اليائسة فلا عدة لها إذ يجوز لها الزواج بزوج جديد بمجرد الطلاق وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد لصغر السن، أو لمرض و غيره، كذلك عدتهن ثلاثة أشهر وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أي النساء الحاملات إذا طلقن أَجَلُهُنَ أي مدة انتظار عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فإذا وضعن حملهن فقد انقضت العدة سواء طال الزمان بين الطلاق و الولادة أم قصر وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فلا يخالف أوامره يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي يسهل أموره حتى لا يقع في المشاكل، و حيث إن هذه الأحكام توجب كبت الغرائز بالنسبة إلى الرجل الذي يريد نكاحهن، و بالنسبة إليهن لفّها السياق بلفائف من التقوى تذكيرا و عظة، لئلا يزلق قدم المرأة أو الرجل المريد للنكاح في مهاوي المخالفة.

[6] ذلِكَ الذي ذكر من أحكام الطلاق أَمْرُ اللَّهِ و حكمه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لمصالحكم وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يخافه فلا يخالفه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أي يغفر له ذنوبه، فإن التكفير هو التغطية و الستر وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أي يعطيه الأجر العظيم و الثواب الجسيم في الآخرة.

[7] ثم بيّن سبحانه حال المطلقة في النفقة و السكنى، مدة العدة فقال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 444

أَسْكِنُوهُنَ أي النساء المطلقات في بيوتكم مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي مكانا من سكناكم و محلكم مِنْ وُجْدِكُمْ أي من ما تقدرون عليه، من وجد بمعنى قدر و تمكن، أي من سعتكم وَ

لا تُضآرُّوهُنَ أي لا تسببوا ضررا عليهن في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ أي طالبين بالإصرار التضييق عليهن لإزعاجهن حتى يضطرون إلى الزوج.

وَ إِنْ كُنَ تلك المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ أي حاملات فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ بالكسوة و الأكل و الشرب و ما أشبه حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فإن انقضاء عدتهن بالوضع فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم بعد الوضع فَآتُوهُنَ أي أعطوهن أُجُورَهُنَ أي أجرة الإرضاع إذ الواجب على الوالد نفقة ولده وَ أْتَمِرُوا أيها الأبوان و المتعلقون بهما بَيْنَكُمْ بعضكم مع بعض في أمر إرضاع الولد بما هو الأصلح بحال الجميع لئلا يتضرر أحد من الأطراف الثلاثة الأب و الأم و الولد، و الائتمار قبول الأمر و ملاقاته بالتقبل بِمَعْرُوفٍ مقابل المنكر، فلا يكون التشاور بقصد الإضرار و إثارة الأحقاد و الكوامن، بل بقصد الإحسان و العدالة وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ أيها المتشاورون في أمر إرضاع الولد، بأن اختلفتم في أمر الأم المرضعة و مقدار الأجرة و ما أشبه ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أي للولد امرأة أُخْرى غير الأم، و المعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 445

[سورة الطلاق (65): آية 7]

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

فلتسترضع الولد امرأة غير الأم، و لعل فيه إشارة إلى معاتبة الأم بأنها لا ينبغي لها المعاسرة.

[8] ثم بين سبحانه أن المندوب على الوالد أن يوسع على المطلقة المرضعة، إن كان له سعة لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ، في المال مِنْ سَعَتِهِ بأن يوسع على المرضعة في الأجرة، ألم تكن زوجته، و أم ولده، و مرضعته؟ وَ مَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ بأن لم يكن للأب سعة

فَلْيُنْفِقْ على المرضعة مِمَّا آتاهُ اللَّهُ بقدر التمكن الذي أعطاه اللّه سبحانه ذلك فلا يطلب من مثل هذا الشخص الزيادة على أجرة المثل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً أي أحدا إِلَّا ما آتاها أي بقدر ما أعطاه من الطاقة المالية، كما لا يكلف إلا بقدر الطاقة الجسدية و سائر الطاقات، و لا يغتم المملق بأنه ليس له، كما يكون الأب المملق كثيرا ما يتحسر على أنه لا يجد الزائد حتى يبذل لمربية ولده و مرضعته، فإنه سَيَجْعَلُ اللَّهُ في مستقبل الإملاق بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً بعد فقر غنى- و بعد ذلة عزة- و بعد انحطاط و رفعة و هكذا في سائر الأمور.

فإن الدهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم و لا سرور و قد بنت الملوك به قصورا فما بقي الملوك و لا القصور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 446

[سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 10]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)

[9] و إذ بين الأحكام، جاء السياق ليبين، أن العاتي العاصي لهذه الأحكام و غيرها، مصيره مصير الأقوام السابقين، الذين أهلكوا بسبب طغيانهم و عتوهم وَ كَأَيِّنْ بمعنى- كم- الخبرية المفيدة للتكثير مِنْ قَرْيَةٍ من للتبيين و المراد البلدة عَتَتْ أي طغت عَنْ أَمْرِ رَبِّها فلم تطع أوامر اللّه سبحانه، و المراد أهل القرية، بعلاقة الحال و المحل وَ رُسُلِهِ أي عن أمر رسله، بأن لم يطيعوا رسل اللّه سبحانه فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً مقابل السماح في الحساب، فإن الإنسان

المؤمن العامل بالصالحات يعفى عن جرائمه و يحاسب حسابا يسيرا، جزاء على إيمانه و عمله، أما العاتي الطاغي، فإنه يحاسب على كل عمل عمله وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي عذابا منكرا أليما، و المراد بالمحاسبة في الملأ الأعلى حولهم لا محاسبتهم بالذات إذ الحساب إنما هو بعد الموت، و السياق يفيد كون حساب أولئك قبل عذابهم في الدنيا.

[10] فَذاقَتْ تلك القرية وَبالَ أَمْرِها أي عاقبة صنيعها الشر وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أي خسرت الدنيا و خسرت الآخرة.

[11] ذلك في الدنيا و قد أَعَدَّ اللَّهُ أي بقي لَهُمْ أي لأهل القرية، عَذاباً شَدِيداً في الآخرة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن ألباب جمع لب، و هو العقل اتقوه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 447

[سورة الطلاق (65): آية 11]

رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)

سبحانه حتى لا ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك الأمم الَّذِينَ آمَنُوا وصف لأولي الألباب، و إنما وصفهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بالتحذير قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً أي مذكرا يذكركم بأس اللّه و عذابه، و الانحراف بعد التذكير أقبح.

[12] ثم بين سبحانه الذكر المنزل بقوله رَسُولًا أي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كونه منزلا، باعتبار أنه مبعوث من طرف اللّه سبحانه تشبيها للنزول المعنوي الحسي يَتْلُوا أي يقرأ هذا الرسول عَلَيْكُمْ أيها الناس آياتِ اللَّهِ أدلته و حججه التكوينية، في حال كونها مُبَيِّناتٍ أي في حال الآيات تبين و

توضح الأمر و إنما يتلو لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر و العصيان إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان و العمل الصالح، و إنما شبه الإيمان بالنور، لأنه ينير الإنسان ليدرك الحقيقة- في العقيدة و العمل- فمن زعم أنه لا إله أو للإله شريك فهو في ظلمة عن الحقيقة كالإنسان الذي في ظلمة الليل لا يدرك ما أمامه من الأشياء، و كذلك بالنسبة إلى من يشرب الخمر، يزعم أنها لا تضر، فإنه في ظلمة من الحقيقة، و قس على ذلك سائر الاعتقادات و الأعمال.

و قوله «الذين آمنوا» يراد بهم ذواتهم قبل الإيمان، و إنما جي ء الوصف للإشارة بهم لا أن المراد إخراجهم بعد الإيمان و العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 448

[سورة الطلاق (65): آية 12]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

الصالح، لأنهم مخرجون بعد ذلك حين الاتصاف- كما لا يخفى- وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ يَعْمَلْ عملا صالِحاً الملازم لعدم العمل الفاسد يُدْخِلْهُ اللّه في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها و قصورها الْأَنْهارُ من خمر و عسل و لبن و ماء في حال كونهم خالِدِينَ أي دائمين فِيها في تلك الجنات أَبَداً بلا نهاية و قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ أي لهذا الإنسان المؤمن العامل بالصالحات رِزْقاً إذ يعطى من ثمار الجنة و مياهها و أزواجها و سائر لوازم العيش الراقية.

[13] ثم بين سبحانه وصفه- ليخاف العاصي- و يطمئن المؤمن لوعده بقوله اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ

لعل المراد بها مدارات الكواكب السيارة، أو ما أشبه وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ سبعا، و

قد قال الإمام الرضا عليه السّلام أرض تحيط بها سماؤها، ثم أرض تحيط بها سماؤها، إلى أن عدّ سبعة

، و تفصيل الكلام في كتاب- الهيئة و الإسلام-. «1» و ضمير «هن» تأتي للعاقل و غير العاقل كما سبق يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ أي أن أمر اللّه سبحانه يتنزل من كل سماء إلى أرضها، و هكذا حتى يصل الأرض الأخيرة، و إنما خلق سبحانه ما خلق، مما يشاهده

______________________________

(1) للعلامة الشهرستاني.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 449

الإنسان لِتَعْلَمُوا أيها البشر أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر على العقاب و الثواب، كما قدر على خلق الأفلاك و الأرضين وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً فإن الخلق يدل على العلم، إذ لو لا العلم لم يمكن الخلق، كما أن سير الكون المشار إليه بقوله «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ» دالّ على العلم، إذ التسيير محتاج إلى العلم الدقيق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 450

66 سورة التحريم مدنية/ آياتها (13)

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 499

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه المادة و هي قوله «لم تحرم» و هذه السورة كسائر السور المدنية، مشتملة على النظام إلى جنب العقيدة و حيث ذكرت في سورة الطلاق أحكام النساء، جاءت هذه السورة لبيان بعض الأمور التي ترتبط بهن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان به، و هل أحق بالاستعانة منه، إنه المالك لكل شي ء الرحمن الرحيم الذي يتفضل باللطف و الإحسان، القادر لكل ما أراد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 451

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ

لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لماذا تحلف لتحرم على نفسك بعض ما أحل اللّه لك، و قد كان التحريم للحلال بالحلف جائزا، لكن اللّه سبحانه بين للرسول أن حلفه حول هذا الموضوع محلولة- بهذا التعبير- تأنيبا لعائشة و حفصة اللتين آذتا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى حلف ما حلف.

فقد روى البخاري- صاحب الصحيح عند العامة- عن عائشة قالت كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش و يمكث عندها، فتوطأت أنا و حفصة على زينب إذ دخل عليها فلنقل له أكلت مغافير و هو صمغ حلو الطعم كريه الرائحة، إني أجد منك ريح مغافير، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا و لكن كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له، و قد حلفت لا تخبري بذلك أحدا

«1» تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي تطلب بالتحريم رضى زوجاتك، و قد سبق في بعض الآيات أن الأغراض قد تأتي لا للمخاطب بل تقريع الغير وَ اللَّهُ غَفُورٌ يستر على عباده، فإن تحلة اليمين، تحتاج إلى التحلة حتى لا يقال كيف خالف الرسول حلفه، و حنث رَحِيمٌ يتفضل بالرحم، علاوة على الغفران.

[3] قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ الظاهر كون الخطاب للرسول، و إنما أتى بصيغة الجمع احتراما، و قد تقدم سابقا، أن الجمع و المفرد يتناوبان في حمل

______________________________

(1) الطرائف في معرفة

مذاهب الطوائف: ج 1 ص 294.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 452

[سورة التحريم (66): آية 3]

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)

أحدهما على الآخر، لنكتة بلاغية، أي أوجب عليكم تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ بأن تحلوها فلا تتبعون مفادها، و المراد أن يشرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العسل فهو له حلال، و إن اللّه قد أحل حلفه التي حلفها أنه لا يشرب العسل طلبا لرضى بعض نسائه وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ فإذا حل اليمين فقد انحلت كما أن للمولى الحق في أن يحل يمين العبد وَ هُوَ الْعَلِيمُ بمصالحكم الْحَكِيمُ فيما يأمر و ينهي، فإذا عرف الصلاح في شي ء كان كما أمر فشرب العسل حلالا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيه الحكمة و الصلاح.

[4] ثم يأتي السياق ليشير إلى طرف من القصة بقوله سبحانه: وَ اذكر يا رسول اللّه، و لعل ذلك لإفادة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف كان يؤذى من قبل أزواجه كما كان يؤذى من قبل أناس آخرين تفضيحا لهن في إيذائهن للرسول، إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً أي حدثها سرا لتحريم العسل على نفسه- و المراد ببعض الأزواج- عائشة- أو حفصة- و لعل إسرار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لأجل أن لا يقول الناس إنه يحرم شيئا على نفسه لمجرد رضى زوجته فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي أخبرت تلك الزوجة امرأة أخرى بذلك الحديث السري، فقد ورد عن طريق العامة إن الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر عائشة بحلفه و أمرها بالإسرار لكنها خالفت و أخبرت حفصة وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي أطلع اللّه نبيه على ما جرى منها في إفشاء سره عَرَّفَ الرسول «عائشة» بَعْضَهُ أي بعض ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 453

[سورة التحريم (66): آية 4]

إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)

ذكرت «لحفصة» أراد بذلك بيان أنها خالفته في إفشاء سره وَ أَعْرَضَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْ بَعْضٍ فإن من محامد الأخلاق أن لا يذكر الإنسان جميع جريمة المجرم و إنما يلمح إليها تلميحا تأديبا فإن التغافل من خلق الكرام.

فَلَمَّا نَبَّأَها أي أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عائشة بِهِ أي بما أعلمه اللّه سبحانه له من إفشائها سره عند «حفصة» قالَتْ «عائشة» متعجبة من علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإفشائها سره مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت سرك يا رسول اللّه قالَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جوابها نَبَّأَنِيَ أي أخبرني الْعَلِيمُ بجميع الأمور الْخَبِيرُ بدقائقها، فإن الخبير غالبا ما يطلق على العالم النحرير المطلع على دقائق الأمور.

[5] ثم توجه الخطاب إلى «عائشة» و «حفصة» اللتين دبرتا هذه المؤامرة مهددا لهما بقوله إِنْ تَتُوبا أيتها المرأتان إِلَى اللَّهِ بأن تستغفرا مما سلف منكما من إيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التظاهر ضده و الافتراء عليه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي مالت إلى الإثم و الباطل، من «صغى» بمعنى مال و

قد جرت القاعدة على أن التثنية إذا أضيفت إلى التثنية جاز في المضاف الجمع- نحو قلوبكما- و هو الأفضل و الإفراد، و هو الأوسط، و التثنية و هو الأدون.

وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ أي تتظاهرا، حذفت إحدى تائيه للقاعدة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 454

[سورة التحريم (66): آية 5]

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

باب المضارع إذا اجتمع في أوله تاءان، و التظاهر هو أن يقوّي بعض ظهر بعض بالتوحيد بينهم لمطالبة أمر، أو لمضادة أمر فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي ناصر الرسول يتولى حفظه و حياطته حتى لا يؤثر فيه المكر و المكيدة وَ جِبْرِيلُ معين للرسول، بإخباره عن قبل اللّه بما يراد ضده وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي خيار المؤمنين، و المراد ب «صالح» الجنس، يعني أنهم ينصرون الرسول ضد المؤامرات و المظاهرات وَ سائر الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما تقدم من نصرة اللّه و جبرئيل و المؤمنين ظَهِيرٌ للرسول يقوون ظهره، و الإتيان بالمفرد، و صفا للجمع باعتبار كل واحد واحد، نحو فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «1» و وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» و قد تقدم أن كلّا من المفرد و الجمع يقوم مقام الآخر، باعتبار بلاغي.

و قد حذف جواب الشرطين، و التقدير «أن تتوبا إلى اللّه كانت التوبة في موقعها إذ قد صغت» «و إن تظاهرا عليه، لا يضره التظاهر، إذ اللّه مولاه».

[6] ثم جاء السياق ليقلل من أهميتهما، فإن للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطلقهما، حتى تبوءا بعار المؤامرة و الطلاق و لا يبقى الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم بلا زوجة فإن اللّه يزوجه بمن هي خير منهما عَسى رَبُّهُ أي لعل اللّه سبحانه و لعل ليس للرجاء، بل بمعنى الاحتمال الراجح إِنْ طَلَّقَكُنَ المراد إما

______________________________

(1) البقرة: 260.

(2) النساء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 455

[سورة التحريم (66): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)

الاثنتان، أو الكل، أو من اشتركت في المؤامرة فإن الحديث تفشى في غيرهما أيضا أَنْ يُبْدِلَهُ أي يعوض للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ في الإيمان، و في مراعاة حقوق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم وصف تلك أزواجا بما فيه تعريض بهن مُسْلِماتٍ كاملات الإسلام مُؤْمِناتٍ مصدقات باللّه و الرسول، و الإسلام هو الاستسلام، فالإيمان أخص منه، كما قال قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «1». قانِتاتٍ مطيعات للّه، خاضعات للرسول تائِباتٍ عن المعاصي التي تصدر منهن أحيانا، فلا إصرار لهن على الذنب عابِداتٍ يعبدن اللّه سبحانه فوق القدر اللازم المفروض من العبادة سائِحاتٍ أي صائمات- كما

ورد:

سياحة أمتي الصوم

«2»- أو ماضيات في أمر اللّه و الرسول كالسائح الذي يضرب في الأرض ثَيِّباتٍ قد رأين الزوج قبل الرسول وَ أَبْكاراً أي عذارى لم يكن لهن أزواج- كما أنتن حين دخلتن بيت الرسول كنتن على قسمين-.

[7] ثم توجه السياق إلى الناس موجبا لهم تأديب نسائهم، قالوا و قد تدرجت الفريضة في البلاغ من النفس إلى العموم حسب الإمكان في خمس آيات و هي النفس أولا بقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا

يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ «3» و الأهل ثانيا بقوله: آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «4»

______________________________

(1) الحجرات: 15.

(2) مستدرك الوسائل: ج 16 ص 54.

(3) المائدة: 106.

(4) التحريم: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 456

و العشيرة ثالثا بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» و أهل البلدة رابعا بقوله وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ «2» و أهل العالم أجمع خامسا بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «3» و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسوة، و بقوله: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ «4».

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أمر للجمع المذكر، من «وقى» بمعنى حفظ، أي احفظوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ و هو عائلة الإنسان من أولاده و زوجته و أخوته و من شابههم ناراً عن نار جهنم التي هي بهذه الصفة وَقُودُهَا أي حطبها الموجب لإيقادها و إشعالها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ و هما يزيدان في قوة النار لدسومة الأول و صلابة الثاني عَلَيْها أي المأمورون على تلك النار مَلائِكَةٌ جمع ملك و أصله من الألوكة، بمعنى الرسالة لأن الملائكة رسل من قبله سبحانه إلى الأنبياء غِلاظٌ جمع غليظ و كأن المراد غليظ القلب فلا يرحم أحدا شِدادٌ جمع شديد، و كأن المراد شديد البنية و القوة، فما أراد تمكن منه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ من عذاب أهل النار، فلا يرتشون و لا يميلون نحو الكفار مخالفة للّه سبحانه وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من قبل اللّه سبحانه، و هذا تأكيد لما سبق بأنهم لا يعصون.

______________________________

(1) الشعراء: 215.

(2) التوبة: 122.

(3) سبأ: 29.

(4) آل عمران: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 457

[سورة التحريم (66): الآيات 7 الى 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا

تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8)

[8] و إذ دخل الكفار النار، أخذوا يعتذرون على سالف أعمالهم فيقال لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا في الدنيا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ و أنتم في النار إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهذه النار جزاء أعمالكم السالفة، و لا يفيد الاعتذار.

[9] و إذ قد سمعتم أيها المؤمنون بكيفية النار، فاللازم أن تتوبوا- و أنتم في الدنيا- عن معاصيكم لئلا تدخلوها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ من معاصيه و ارجعوا إلى طاعته، و تخصيص الخطاب بهم لأنهم المنتفعون به.

تَوْبَةً نَصُوحاً أي خالصة لوجه اللّه سبحانه، بمعنى بالغة في النصح و هو صفة التائب لأنه ينصح نفسه بالتوبة و إسناده إلى التوبة مجاز، فإن الإنسان نصوح في التوبة، و التوبة النصوح هي عبارة عن أن يندم الإنسان أشد الندم على المعصية و يعزم أقوى العزم على ترك مثلها في المستقبل، و يأتي بلوازم التوبة من القضاء و الكفارة ورد الحقوق و ما أشبه عَسى رَبُّكُمْ أي لعل اللّه سبحانه إذا تبتم أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ أي يستر و يمحي سَيِّئاتِكُمْ أي معاصيكم، و سمى العصيان سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و خمر و لبن و ماء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 458

[سورة التحريم (66): آية

9]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

و يكون إدخال التائب الجنة في يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي لا يذلهم بدخول النار، و كان الإتيان بهذه الجملة للترغيب في إدخال الإنسان نفسه في هذه الزمرة المفضلة.

نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ فإن وجوههم و أيديهم اليمنى- التي تحمل الكتاب- تشع نورا يخرق ظلمات المحشر، فإذا تحرك المؤمن كان النور يسبقه من أمامه و من طرفه الأيمن يَقُولُونَ مخاطبين للّه سبحانه رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا بأن يضاعف و يكثر، أو يستمر حتى آخر القيامة فلا يطفأ، أو هو دعاء منهم في الدنيا، بأن يوفقهم لما يكثر نورهم، و يبقيه فلا يزول عنهم بالكفر و العصيان وَ اغْفِرْ لَنا معاصينا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من إتمام نورنا و غفران ذنوبنا، و سائر ما تريده و هذا مدح له سبحانه في ضمن الدعاء، فإنّ الدعاء المتضمن على الثناء أقرب إلى القبول.

[10] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالقتال و المحاربة وَ الْمُنافِقِينَ بالزجر و الردع وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد عليهم في الجهاد و الزجر، فإن اللين إنما هو للمستقيم المعتدل، أما المنحرف فاللازم معه الشدة حتى يستقيم وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي مصيرهم، من «آوى» بمعنى اتخذ المنزل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 459

[سورة التحريم (66): آية 10]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى جهنم لهم، لما فيها من العذاب و النكال.

[11] ثم جاء السياق

ليضرب مثلا لأزواج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبينا أن صلاح الزوج لا ينفع الزوجة إذا كانت منحرفة، كما أن فساد الزوج لا يضر الزوجة إذا كانت مستقيمة، منقادة، على طاعة الرسول و عدم الهوى في مهوى العصيان و المخالفة ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا مبينا لهم أن صلاح أصحابهم و ذويهم لا ينفعهم امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ فقد كانَتا تَحْتَ إدارة و عيلولة عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا هما نوح و لوط صالِحَيْنِ فهما رسولان من قبل اللّه سبحانه و أي صلاح أشد من ذلك فَخانَتاهُما خيانة في الدين، إذ كانتا تنافقان و تؤذيان زوجيهما.

فَلَمْ يُغْنِيا أي لم ينفع نوح و لوط عَنْهُما أي عن الزوجتين مِنْ عذاب اللَّهِ شَيْئاً بأن يخفف عنهما، و لو بعض العذاب وَ قِيلَ للزوجتين حين ماتتا ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ فيها، فهما معذبتان مع كونهما زوجتا نبيين، و في هذا تعريض بعائشة و حفصة اللتين آذتا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 460

[سورة التحريم (66): الآيات 11 الى 12]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

[12] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا بيانا لأن الإيمان ينفع صاحبه و إن كان امرأة تحت أكفر الناس امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم التي آمنت بموسى و كان زوجها يدعي الربوبية، و يقول أنا ربكم الأعلى إِذْ قالَتْ في مناجاتها

للّه تعالى يا رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فإني لا أرغب في بيوت الدنيا و لا أعمل لها وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ فإنه كان يعمل بالكفر و العصيان وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أتباع فرعون و حاشيته، فاستجاب اللّه دعاءها، فقبضها و أدخلها الجنة، و لم يكن يضرها عمل زوجها.

[13] كما مثل سبحانه للمؤمنين بامرأة أخرى لم يضرها قول الناس فيها، بعد أن كانت طاهرة و نقية دلالة على أن عمل الغير و قوله السي ء لا يؤثر في المؤمن شيئا بعد أن كان هو بنفسه مؤمنا صالحا وَ ضرب اللّه مثلا للذين آمنوا مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظته من البغاء، و فيه تكذيب أعداء اللّه اليهود إذ قالوا فيها ما هم أحق به و أحرى.

فَنَفَخْنا فِيهِ أي في فرجها مِنْ رُوحِنا أي الروح المضاف إلينا- تشريفا- و ذلك كإضافة البيت إليه سبحانه، في قولنا «بيت اللّه» و المراد به المسيح عليه السّلام و كون النفخ فيه باعتبار خروج الولد منه، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 461

الضمير عائد إلى «الجسم» أي في جسمها أو «الجيب» أي في جيبها، المعلوم من الخارج، و قد كان النافخ فيه جبرئيل عليه السّلام بأمره سبحانه وَ صَدَّقَتْ مريم بِكَلِماتِ رَبِّها أي بما تكلم اللّه به و أوحاه إلى أنبيائه من الأصول و الفروع وَ كُتُبِهِ النازلة على الرسل وَ كانَتْ مِنَ جملة الْقانِتِينَ الخاضعين للّه سبحانه، فإنها كانت في بيت المقدس في جملة العباد و الزهاد و لذلك قال «القانتين» و لم يقل القانتات.

فعلى المرأة إن كانت ذات زوج أن تقتدي بامرأة فرعون، و إن لم تكن ذات زوج أن تقتدي بمريم

الصديقة عليهم السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 463

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء التاسع و العشرون من آية (1) سورة الملك إلى آية (51) سورة المرسلات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 464

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 465

67 سورة الملك مكية/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الملك»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة التحريم بكون الصلة لا تنفع و لا تضر و إنما النافع و الضار العمل، افتتحت هذه السورة بأن الإنسان في معرض الامتحان ليظهر المطيع من العاصي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه الذي هو الأول في الكون، الخالق لكل شي ء، ليطابق الابتداء باسمه كونه المبدأ و الأول الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد في الدنيا و في الآخرة بتكميل نواقصهم و غفران ذنبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 466

[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3)

[2] تَبارَكَ من «برك» أي دام في خير و مصدر خير، و منه البركة الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فهو المالك المطلق لكل شي ء في الكون و ملك ما عداه إنما هي بتمليكه إياه، و قوله «بيده» من باب تشبيه المعقول بالمحسوس وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قادر على إيجاده و

إفنائه و التصرف فيه كيف يشاء.

[3] الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ فإن الموت إما أمر وجودي، أو عدم ملكة، و كلاهما مخلوق، فإن عدم الملكة له حظ من الوجود كما تقرر في علم الكلام، و إنما خلق الموت و الحياة لِيَبْلُوَكُمْ من «بلاه» بمعنى اختبره، أي ليختبركم أيها البشر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من الآخر، و اللّه سبحانه عالم بالإنسان، و إنما الامتحان لتطبيق علمه على الخارج، و إلا فهو غني عن الاختبار، و تعليل الحياة و الموت للاختبار باعتبار أن الموت داع إلى حسن العمل و موجب لعدم الوثوق بالدنيا و لذاتها الفانية و الحياة توجب قدرة الإنسان على الأعمال الصالحة وَ هُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْغَفُورُ الذي يغفر لمن أذنب إذا تاب، فأنتم أيها البشر في قبضته بمقتضى كونه «عزيزا»، فاستغفروه يغفر لكم بمقتضى كونه «غفورا».

[4] و هو الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً واحدة فوق الأخرى مطابقة لها، بلا تفاوت و اعوجاج ما تَرى أيها الرائي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 467

[سورة الملك (67): الآيات 4 الى 5]

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)

فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ و اختلاف، من جهة أن الجميع مخلوقة بدقة و إتقان و كمال لائق به فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي رده إلى الكون، بعد أن كان سابقا إليه، و كأنه كان ناظرا بلا التفات إلى هذه الجهة، فقيل له رد بصرك بقصد التفحص و البحث هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟ أي شقوق و فوق كالبناء الذي ينفطر لخلل فيه، فهل في الكون خلل يدل على الوهن

و الضعف أم كل شي ء وضع في محله اللائق به حسب الحكمة و الصلاح؟

[5] ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرة بعد كرة و المراد مكررا إذ لعل البصر اشتبه في المرة الأولى فلم ير فتقا- فإن الإنسان إذا كرر النظر إلى شي ء أدرك خللّه- فانظر إلى الكون مرة أخرى فاحصا عن الخلل، لكن لا تجده بل يَنْقَلِبْ أي يرجع إِلَيْكَ أيها الإنسان الْبَصَرَ الذي سرحته في الكون خاسِئاً قد خسأ و طرد و عجز عما طلبه- من الفتق- وَ هُوَ حَسِيرٌ قد حسر، أي كلّ وعيّ و لم يجد خللا و وهنا و ما يوجد من الأمراض و ما أشبه إنما هو للامتحان و العبرة لا لنقص في الخلق.

[6] وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي جمّلنا السماء القريبة من الأرض- و هذا لا يدل على عدم تزيين سائر السماوات، إذ لا مفهوم للّقب و إنما التخصيص لأنه المدرك المشاهد- بِمَصابِيحَ جمع مصباح، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 468

[سورة الملك (67): الآيات 6 الى 8]

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)

به الكواكب وَ جَعَلْناها أي جعلنا تلك المصابيح رُجُوماً مراكز للرجم لِلشَّياطِينِ فإن الشيطان إذا اقترب من مراكز الملائكة في الملأ الأعلى ليسترق بعض الكلمات رجم بالشهب من النجوم، فإن النجوم مراصد ينظر منها إلى الشياطين حتى إذا اقتربوا رجموا، كما سبق في بعض السور وَ أَعْتَدْنا أي هيّأنا لَهُمْ أي للشياطين المسترقين للسمع عَذابَ السَّعِيرِ أي عذاب النار المستعرة الملتهبة، إما بالرجوم، و إما في

الآخرة في النار.

[7] و كما هيّأ العذاب للشياطين كذلك هيّأ للكفار وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ بأن أنكروه أو وصفوه بما لا يليق به عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ، خبره «للذين» وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي المآل و المرجع، اسم مكان من «صار».

[8] إِذا أُلْقُوا أي الكفار، ألقاهم الملائكة فِيها أي في جهنم سَمِعُوا لَها أي لجهنم شَهِيقاً أي صوتا فضيعا كصوت الحمار و إنما تشهق لتدخل في قلوب الكفار الهول و الرعب وَ هِيَ تَفُورُ فوران القدر إذا غلى، و ذلك مما يزيدها هولا.

[9] تَكادُ أي تقرب جهنم تَمَيَّزُ أي تتقطع مِنَ الْغَيْظِ أي شدة الغضب و كثرة اللّهب و الفوران، و هذا تمثيل لشدة اشتعالها، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 469

[سورة الملك (67): الآيات 9 الى 11]

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)

الإنسان إذا غضب يكاد ينفجر و يتشقق بعض جلده، و كذلك النار تكاد تتفرق لشدة استعارها كُلَّما أُلْقِيَ فِيها أي في جهنم فَوْجٌ أي جماعة من الكفار و العصاة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أي الملائكة الموكلون بالنار، جمع «خازن» أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها المجرمون نَذِيرٌ ينذركم و يخوفكم من هذه النار؟ و الاستفهام للتبكيت و التقريع.

[10] قالُوا أي أهل النار في جواب الخزنة بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ رسول أو مبلغ عن اللّه سبحانه فَكَذَّبْنا هذا اليوم و ما قاله النذير وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من كتاب أو تشريع إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المنذرون إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ حيث

تزعمون أنكم رسل اللّه، و إن اللّه أنزل إليكم الحكم و التشريع.

[11] ثم يعترف أهل النار بأنهم لم يعملوا عقولهم في الدنيا، حتى ابتلوا بهذا العذاب وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام المنذرين أَوْ نَعْقِلُ أي نعمل عقولنا لنميز بين الحق و الباطل بالإسماع، فإن الإنسان إذا أعمل عقله لا بد و أن يدرك الحق في الجملة و لو لم يسمع شيئا ما كُنَّا في هذا اليوم فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ اسم لجهنم لاستعار نارها.

[12] فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي أدخلهم النار، في الوقت الذي لا ينفع الإقرار فَسُحْقاً أي بعدا، و هذا دعاء عليهم أي أبعدهم اللّه بعدا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 470

[سورة الملك (67): الآيات 12 الى 14]

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

النجاة لِأَصْحابِ السَّعِيرِ الملازمين لها.

[13] أما المؤمن الذي عمل صالحا فهو في خير و سعادة إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يخافونه فلا يعصونه بِالْغَيْبِ في حالة كونه سبحانه غائبا عن حواسهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران لذنوبهم التي صدرت منهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ثواب جزيل.

[14] ثم يأتي السياق ليبين علم اللّه سبحانه بكل ما يصدر من الإنسان من قول سواء كان جهرا أو سرا وَ أَسِرُّوا أيها الناس قَوْلَكُمْ الذي يدور في صدوركم، بأن تقولونه سرا أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ف إِنَّهُ سبحانه يعلم ذلك قبل أن يخرج إلى عالم الألفاظ، إذ هو عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور في صدر الإنسان، و إنما قال «الصدور» لأن القول في القلب و القلب في الصدر، فمن يعلم ما

في الصدر لا يعلم اللفظ؟

[15] أَ لا يَعْلَمُ الخفايا و الظواهر مَنْ خَلَقَ الخلق؟ و هذا استفهام إنكاري، أي كيف لا يعلم اللّه الأشياء و هو الخالق وَ هُوَ اللَّطِيفُ أي العالم بما لطف و دق، و الشي ء اللطيف هو الذي ينفذ في الأشياء بسهولة و يسر، و توصيفه سبحانه به باعتبار نفوذ علمه و قدرته الْخَبِيرُ المطلع على الأشياء، و هو أدق معنى من «العالم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 471

[سورة الملك (67): الآيات 15 الى 16]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)

روى إن المشركين كانوا يقولون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأقوال السيئة و كان جبرئيل عليه السّلام يخبره بما قالوا، فإذا أراد أحدهم التحدث حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لئلا يطلع محمد، فنزلت هذه الآيات

«1».

[16] هُوَ اللّه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر الْأَرْضَ ذَلُولًا أي سهلة مسخرة، للبناء و الزرع و دفن الأموات و السير و إجراء الأنهر و القنوات، و غيرها، من «ذل» بمعنى خضع و لان فَامْشُوا أيها البشر فِي مَناكِبِها جمع منكب و المراد به الطريق وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الذي حصلتم عليه بالزرع و نحوه وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ أي إن بعثكم إليه سبحانه، فهو المبدأ و المآل، و معنى «إليه» إلى حسابه و جزائه.

[17] ثم بعد التذكير بنعم اللّه ليشكر البشر، جاء السياق للتهديد بأنهم إن بقوا في الكفر و العصيان كانوا مظنة للعذاب و النكال- و السائق للناس إلى الخير إما

النعمة أو النقمة- أَ أَمِنْتُمْ أي هل أمنتم أيها البشر من مَنْ فِي السَّماءِ من الملائكة الموكلين بأموركم من قبله سبحانه أَنْ يَخْسِفَ فاعله «من في السماء» بِكُمُ الْأَرْضَ حتى تنهار الأرض في الأعماق معكم، كما فعل بقارون و قوم لوط. و يحتمل أن يراد

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 472

[سورة الملك (67): الآيات 17 الى 19]

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19)

ب «من في السماء» اللّه سبحانه، و كونه في السماء باعتبار أن أمره إلى الأرض يصدر من هناك، كما قال سبحانه وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ «1» و قال وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ «2» فَإِذا هِيَ أي تفاجئون بأن الأرض تَمُورُ أي تضطرب و تتحرك، من «مار» بمعنى تحرك و اضطرب.

[18] أَمْ أَمِنْتُمْ أيها البشر، من مَنْ فِي السَّماءِ على أحد المعنيين أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ إن تماديتم في الكفر و العصيان حاصِباً أي ديما ذات حجارة، تحصبكم كما حوصب قوم لوط، و تذكير «حاصب» باعتبار تقدير «شيئا» فَسَتَعْلَمُونَ حين ذاك كَيْفَ نَذِيرِ أي كيف كان إنذاري بالعذاب صدقا.

[19] و ليس ذلك ببعيد من الكفار، ألم يعرفوا أن الأمم السابقة حيث كذبوا ابتلوا بمثل هذا العذاب وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و رسله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟ أي إنكاري عليهم حيث عذبوا بأنواع العذاب، من غرق و خسف و حصب و غيرها.

[20] و

كيف ينكر هؤلاء وجود اللّه أو قدرته و هم يرون الآيات الكونية بأعينهم؟ أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ في السماء

______________________________

(1) الزخرف: 85.

(2) الذاريات: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 473

[سورة الملك (67): آية 20]

أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)

صافَّاتٍ تصف أجنحتها فوق رؤوسهم في حال الطيران وَ يَقْبِضْنَ أجنحتهن بعد البسط، فذات مرة صافات، و ذات مرة يقبضن و هو الدفيف، و الطير جنس و لذا جي ء وصفه بالجمع، كما أن الجمع بالنون يأتي للعاقل و غيره كما مر سابقا.

ما يُمْسِكُهُنَ أي يحفظهن في الهواء في صفيف أو دفيف إِلَّا الرَّحْمنُ الذي يتفضل بالرحم لكل شي ء، فمن يا ترى أعطى الطير هذه القدرة، و أعطى الهواء قابلية الحمل غير اللّه سبحانه؟ إِنَّهُ سبحانه بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ فيعرف المناسب لكل شي ء و الصالح لكل شي ء فيعطي حسب الصلاح و الحكمة، و حسب بصيرته سبحانه أعطى الطير هذه القدرة و السماء هذه القابلية، و «بصير» هنا بمعنى الخبروية في الأمور لا بمعنى النظر.

[21] أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ «أم» منقطعة و «من» استفهام مبتدأ، و «هذا» مبتدأ ثان، و «الذي» خبره، و «هو جند لكم» مبتدأ و خبر، و المجموع صلة الذي يَنْصُرُكُمْ صفة «جند» و الاستفهام إنكاري، و المعنى من هو الذي تزعمونه جندا لكم ينصركم يوم القيامة من عذاب اللّه؟ ... و المراد أنه لا جند لكم هذه صفته مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ و كأنه يقال للكفار بأي قوة تعصون اللّه؟ أ لكم جند يدفع عذاب اللّه، حتى تعتمدون عليه في عصيانه؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 474

[سورة الملك (67): الآيات

21 الى 23]

أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23)

ثم يأتي السياق ليبين أنه لا جند للكفار، و إنما غرتهم الحياة الدنيا إِنِ الْكافِرُونَ أي ليس الكافرون إِلَّا فِي غُرُورٍ قد غرهم الشيطان بأنه لا عذاب و لا نكال، فاعتمدوا عليه في الكفر و العصيان.

[22] أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ فهل هناك أحد يعطيكم الرزق إِنْ أَمْسَكَ اللّه رِزْقَهُ حتى يقوم ذلك الرازق مقام اللّه في الإعطاء و إذ لا رازق غيره فكيف تعصون اللّه و لا تخافون أن يقطع رزقكم فتبقون بلا رزق و لا طعام بَلْ إنهم يعلمون أن لا رازق غيره، و إنما لَجُّوا أي استمروا في اللجاج و المخالفة فِي عُتُوٍّ أي تعد عن الحق، من «عتى» وَ نُفُورٍ أي تنفر عن الإسلام و الحق.

[23] أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى بأن يكون وجهه و بطنه على الأرض يمشي بكل صعوبة، هل هذا الشخص أحسن و أعلم بالطريق أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستويا مستقيما، على رجليه، و هو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق موصل إلى السعادة في أقصر مسافة، فالكافر كمن يمشي مكبا على وجهه، إذ طريقه وعر صعب لا يعرف الخلاص من المشاكل و المكاره، بخلاف المؤمن الذي يرى طريقه و يسهل عليه المشي و يصل إلى الغاية المتوخاة في أقرب وقت.

[24] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الجاحدين للّه، و الذين يجعلون معه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 475

[سورة الملك (67): الآيات

24 الى 26]

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)

شريكا هُوَ اللّه وحده الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم أيها البشر وَ جَعَلَ لَكُمُ أي لمنفعتكم السَّمْعَ أريد به الجنس وَ الْأَبْصارَ أي العيون وَ الْأَفْئِدَةَ جمع «فؤاد» و هو القلب، و كأن توحيد السمع و تجميع الأبصار و الأفئدة للتفنن في التعبير قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «ما» مصدرية، أي قليلا شكركم، بعد إعطائه سبحانه لكم هذه النعم العظام.

[25] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء هُوَ اللّه وحده الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم بالتناسل و التوالد فِي الْأَرْضِ و أسكنكم إياها وَ إِلَيْهِ أي إلى حساب اللّه و جناته تُحْشَرُونَ أي تبعثون و تجمعون في يوم القيامة فمنه المبدأ و إليه المعاد.

[26] وَ يَقُولُونَ أي الكفار المنكرون للمعاد مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان يكون البعث إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في أن هناك حشرا و جزاء؟

[27] قُلْ يا رسول اللّه في جواب هؤلاء السائلين عن وقت المعاد إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت القيامة عِنْدَ اللَّهِ فهو العالم به وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ لكم أنذركم و أخوفكم عن مجيئه حيث تعذبون إن بقيتم على الكفر و العصيان مُبِينٌ واضح ظاهر، أنذركم بكل وضوح و جلاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 476

[سورة الملك (67): الآيات 27 الى 28]

فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)

[28] فَلَمَّا رَأَوْهُ أي رأوا العذاب زُلْفَةً أي قريبا، من «زلف»

بمعنى قرب، و المراد من «رأوا» المستقبل، و إنما نزل منزلة الماضي لتحقق وقوعه، نحو وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ «1» سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي علت وجوههم الكآبة، و ظهرت عليها آثار الخوف و الحزن من «ساء» وَ قِيلَ للكفار، و القائل الملائكة و الرسل و المؤمنون حين يرى الكفار العذاب هذَا هو العذاب الَّذِي كُنْتُمْ أيها الكفار بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبون و تستعجلون من الدعاء، قالوا «تدعون» و «تدعون» بمعنى، فقد كان الكفار يقولون «مَتى هذَا الْوَعْدُ»؟ و يطلبون عجلة العذاب استهزاء.

[29] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أي أماتني وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين قبل تعذيبكم أَوْ رَحِمَنا بتأخير الموت عنا لنرى عذابكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي أن موتي لا ينفعكم في عدم نزول العذاب بكم، فقد كانوا يتمنون موت الرسول و المؤمنين ليستريحوا إلى كفرهم و أصنامهم، فجاء السياق ليبين أن موت الرسول لا يفيدهم في إجارتهم من عذاب اللّه الذي استحقوه بسبب الكفر و الآثام.

______________________________

(1) الكهف: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 477

[سورة الملك (67): الآيات 29 الى 30]

قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

[30] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار هُوَ الرَّحْمنُ الذي ندعو إليه آمَنَّا بِهِ و صدقنا وجوده و صفاته و أوامره و وعوده وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا و فوضنا إليه حوائجنا فَسَتَعْلَمُونَ أيها الكفار في يوم القيامة مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ و انحراف مُبِينٍ واضح؟ هل نحن أم أنتم؟

[31] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار، و

كيف تكفرون باللّه، و الحال أن «ماءكم» الذي به حياتكم تحت أمره و تصرفه حتى لو شاء قطعه عنكم لهلكتم عطشا؟ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا في الأرض بحيث لا تتمكنون من إخراجه فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي ظاهر للعيون، أو بمعنى جار سهل التناول؟ فهل هناك أحد غير اللّه يأتيكم بالماء؟ و إذ لا أحد إلا اللّه لذلك فكيف تعرضون عنه و تكفرون به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 478

68 سورة القلم مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «القلم»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث: الألوهية و الرسالة و المعاد، و إذا ختمت سورة «الملك» بذكر الكفار و تكذيبهم، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، فقد أجلّ القارئ «اللّه» سبحانه من أن يستعين به و إنما استعان باسمه، نحو «لاذ الفقراء بجنابك» فان «جناب» هو العتبة، كأنه سبحانه أجلّ من أن يلوذ به الفقراء، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل شي ء، و لكل أحد، فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 479

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

[2] ن من جنس هذا الحرف- و هي حروف التهجي- يتركب القرآن المعجز الذي لو اجتمعت الجن و الإنس على أن يأتوا بمثله لا يقدرون أو رمز بين اللّه و بين الرسول، و

في رواية أنها نهر في الجنة جمد فصار مدادا، و به و بالقلم كتب على اللوح المحفوظ

ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة

«1».

وَ الْقَلَمِ أي قسما بالقلم الذي يكتب الناس به، و إنما أقسم به لما تقدم من أن كل خلق من خلق اللّه جليل عظيم، و اللّه يحلف بمختلف صنوف خلقه، إشارة إلى العظمة الكامنة فيه، أو المراد القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ وَ ما يَسْطُرُونَ أي قسما بما يكتب الناس، أو الملائكة، من «سطر» بمعنى كتب.

[3] ما أَنْتَ يا رسول اللّه بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي بسبب نعمة اللّه عليك بالرسالة بِمَجْنُونٍ كما يزعم الكفار، فإنهم كانوا يرمونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجنون بسبب أن اللّه أنعم عليه بالرسالة.

[4] وَ إِنَّ لَكَ يا رسول اللّه لَأَجْراً و جزاء على قيامك بمهمة البلاغ غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع، فإنّ «منّ» بمعنى قطع.

[5] وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تحتمل المشاق و المتاعب في سبيل التبليغ بكل رحابة صدر، و قد أوذي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى

قال «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54 ص 368.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 480

[سورة القلم (68): الآيات 5 الى 9]

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

[6] فَسَتُبْصِرُ أي سترى أنت يا رسول اللّه وَ يُبْصِرُونَ أي يرون هؤلاء الكفار الذين يرمونك بالجنون.

[7] بِأَيِّكُمُ أنت أم هم الْمَفْتُونُ أي المجنون، أي هل حل الجنون بك أم حل بهم حتى أعرضوا عن الحق فهل المجنون الذي يترك نافعه و يأخذ ضاره؟ و المفتون مصدر أو اسم مفعول تشبيها بأن

شخصا مفتونا حل فيه- و هذا من بديع البلاغة.

[8] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ هل هو أنت- كما يقولون- أم هم- كما هو الواقع؟ و معنى الضلال عن سبيله الانحراف عن الطريقة التي قررها سبحانه للوصول إلى سعادة الدنيا و الآخرة وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين اهتدوا إلى السبيل الصحيح و هو سبيل الإسلام.

[9] و إذ قد تبين لك الطريق الواضح فَلا تُطِعِ يا رسول اللّه الْمُكَذِّبِينَ بتوحيدك و بشريعتك، بل ذرهم و شأنهم.

[10] وَدُّوا أي أحب هؤلاء الكفار لَوْ تُدْهِنُ أي تجامل الكفار و تلين لهم، فكأن المجامل يستعمل الدهن ليتلائم مع الطرف المقابل، كما يستعمل الدهن لتلائم الشيئين الخشنين حتى لا يصطدما و لا يصطكا بعنف فَيُدْهِنُونَ أي فيجاملونك و بذلك يخففوا من وقع التبليغ على أنفسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 481

[سورة القلم (68): الآيات 10 الى 13]

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13)

[11] وَ لا تُطِعْ يا رسول اللّه، و هو عطف على «فلا تطع» كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته مَهِينٍ أي ذليل من «هان» بمعنى ذلّ. و هذان من صفات الكفار لأنهم لما لا يجدون سبيلا إلى إثبات باطلهم يتمسكون بالحلف، و مثل هذا الإنسان يشعر في نفسه بذلة المغلوبية، و إن هرج و تشدّق و صاح و حلف.

[12] هَمَّازٍ كثير الهمز للناس، و الهمز هو الطعن في الغير بشدة مَشَّاءٍ كثير المشي بين الناس بِنَمِيمٍ أي بالنميمة و الفتنة و الإفساد ليضرب بعض الناس ببعض، و النميم و النميمة بمعنى واحد.

[13] مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للخير

فكلما رأى إرادة الإنسان للخير منعه، لدناءة نفسه مُعْتَدٍ أي مجاوز عن الحق، من اعتدى بمعنى تجاوز و ظلم أَثِيمٍ أي كثير الإثم و العصيان.

[14] عُتُلٍ جاف غليظ بَعْدَ ذلِكَ الذي ذكر له من الصفات زَنِيمٍ أي دعي ملصق إلى قوم ليس منهم بالنسب. قالوا: و المعنى بذلك «الوليد بن المغيرة» «1» و هذه غالبة في الأشرار الذين يصدون عن الحق، و يحضرون كل شر، و قد رأيناهم في عصرنا، إبان المد الأحمر- و كأن النفس إذا انحرفت عن جادة الهدى تجمعت فيها كل تلك الصفات.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 482

[سورة القلم (68): الآيات 14 الى 17]

أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17)

[15] أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ أي لأنا أعطيناه المال و البنين يكذب بآياتنا جزاء للإحسان بالإساءة، فهو متعلق بما يأتي في قوله «قال أساطير».

[16] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا تقرأ عليه آيات القرآن قالَ في شأنها أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديث الأقوام السابقين التي سطرت بلا أن يكون لها أصل، و «أساطير» جمع أسطورة، و هي القصة الخيالية الوهمية بلا أن يكون لها حقيقة. و من الغريب شباهة هذا القول من مكذبي عصر الرسول بما يقوله المكذبون في عصرنا، من أن الإسلام رجعية و ارتجاع.

[17] سَنَسِمُهُ أي سنعلمه يوم القيامة بعلامة يعرف بها أنه مجرم، فالسين للاستقبال، و «نسم» مضارع من «وسم» بمعنى نعلمه بعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على أنفه، و سمي خرطوما تشبيها بخرطوم الفيل تحقيرا له، كما أن الوسم على الخرطوم

من جهة أن الأنف مظهر الكبر و الإعراض.

[18] إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي اختبرنا أهل مكة كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أصحاب البستان الذي كان قرب صنعاء.

فقد قال الإمام الباقر عليه السّلام إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلى أصحاب الجنة

- و هي جنة كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال لها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 483

«الرضوان» على تسعة أميال من صنعاء «1»، و قصة أصحاب الجنة كما رواها القمي عن ابن عباس: انه كان شيخ له جنة، و كان لا يدخل بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه، فلما قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمسة من البنين، فحملت جنته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملت قبل ذلك، فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمر و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم، فلما نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا، و قال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاقد عهدا فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين «أي مسلمي زمانهم» في عامنا هذا شيئا حتى نستغني و تكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة.

فرضي بذلك أربعة و سخط الخامس، و هو الذي قال اللّه فيه «قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون» .. فقال لهم أوسطهم اتقوا اللّه و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا، فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرحا، فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا باللّه أن يصرموا إذا

أصبحوا و لم يقولوا «إن شاء اللّه»، فابتلاهم اللّه بذلك الذنب، و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه، فأخبر عنهم في الكتاب فقال «إنا بلوناهم» إلى آخر القصة- كما يأتي- و لعل تشبيه كفار مكة بأولئك الأخوة من حيث إنهم كفروا نعمة اللّه سبحانه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 382.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 484

[سورة القلم (68): الآيات 18 الى 21]

وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

فابتلاهم بالقحط و الجدب، كما أن الأخوة لما أرادوا منع الفقراء خلافا لأمره سبحانه ابتلاهم اللّه بالنار التي أحرقت جنتهم «1».

إِذْ أَقْسَمُوا أي حلفوا باللّه لَيَصْرِمُنَّها أي يقطعون ثمرها من «الصرم» بمعنى القطع مُصْبِحِينَ أي في حال كونهم داخلين في الصباح قبل أن يجلو النهار، ليخفوا الأمر على الفقراء و المساكين.

[19] وَ لا يَسْتَثْنُونَ أي لم يستثنوا عند الحلف بإتيان كلمة إن شاء اللّه، و إنما يقال لهذه الكلمة: الاستثناء، لأن القائل يقول أفعل كذا إلا أن يشاء اللّه منعي، و في معنى ذلك إن شاء اللّه، و بعدم الاستثناء كانوا قد أساؤوا أولا بنية المنع عن الفقراء، و ثانيا بعدم الاستثناء بالنسبة إلى ما عزموا عليه في المستقبل.

[20] فَطافَ عَلَيْها أي على الجنة طائِفٌ أي شي ء من العذاب طاف على البستان مِنْ قبل رَبِّكَ يا رسول اللّه وَ هُمْ نائِمُونَ بعد في فراشهم، قالوا بعث اللّه نارا على البستان فأحرقت.

[21] فَأَصْبَحَتْ الجنة كَالصَّرِيمِ أي كالمقطوع ثماره، من «صرم» بمعنى قطع، أو كالليل المظلم، و يقال الليل و النهار صريمان لانصرام أحدهما عن الآخر.

[22] فَتَنادَوْا أي الأخوة أصحاب الجنة، نادى بعضهم بعضا

______________________________

(1)

تفسير القمي: ج 2 ص 381.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 485

[سورة القلم (68): الآيات 22 الى 27]

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)

مُصْبِحِينَ أي حال كونهم داخلين في الصباح.

[23] و كان النداء من بعضهم لبعض أَنِ اغْدُوا أيها الأخوة، أي أسرعوا غدوة عَلى حَرْثِكُمْ أي زرعكم و ثمركم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ من «صرم» بمعنى قطع، أي إن تريدون قطع الثمار.

[24] فَانْطَلَقُوا مضوا إلى البستان وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتسارون بينهم، و أصله من خفت فلان نفسه، إذا أخفى نفسه لئلا يراه أحد، و منه يسمى مقابل الجهر إخفاتا.

[25] و كان التخافت بسبب أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا أي الجنة الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ أي في يوم الصرم و قطع الثمر مِسْكِينٌ فاعل يدخل.

[26] و هكذا ذهبوا حتى وصلوا إلى الجنة وَ غَدَوْا أي أصبحوا عَلى حَرْدٍ بمعنى المنع يقال حاردت السنة: إذا منعت قطرها قادِرِينَ أي قدروا على المنع عن الثمر لا على الثمر، و هذا كالاستهزاء بهم كما يقال فلان امتلأت كفه من الهواء عوض امتلائها من المال، يعني أنهم أصبحوا ممنوعين من الثمر، فقد قدروا على الحرد و الحرمان لا على الثمار و الأعناب.

[27] فَلَمَّا رَأَوْها أي رأوا الجنة على تلك الصفة قالُوا أي قال بعضهم لبعض إِنَّا لَضَالُّونَ أي ضللنا الطريق، فليست هذه جنتنا.

[28] و لما تأملوا و رأوا أنها جنتهم بعينها، أضربوا عن كلامهم الأول و قالوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 486

[سورة القلم (68): الآيات 28 الى 32]

قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا

تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عن الثمار و عن خير الجنة، فلقد احترقت.

[29] قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أعقلهم، و يقال للأعقل أوسط، لأنه لا إفراط في أمره و لا تفريط أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ حينما أردتم منع الفقراء لَوْ لا أي هلا تُسَبِّحُونَ و تنزهون اللّه سبحانه؟ فقد قال لهم حين ما تواطأوا على منع الفقراء: أيها الأخوة اذكروا اللّه و نزهوه عن القبيح فإنه منزه عن أن يعطي الأغنياء و يحرم الفقراء، لكنكم ركبتم رؤوسكم و أعرضتم عن النصح، فهذا جزاء نيتكم السيئة.

[30] و بعد انتهاء كل شي ء قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا فإنه تعالى ليس ظالما في إحراق بستاننا، بل إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ حيث قصدنا منع الحقوق عن الفقراء.

[31] فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض الأخوة عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا على ما سبق منهم من النية السيئة.

[32] قالُوا يا وَيْلَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك، و الويل هي الحالة السيئة إِنَّا كُنَّا طاغِينَ في عزمنا على منع الفقراء حقوقهم، و الطغيان هو الظلم المتجاوز حده.

[33] عَسى رَبُّنا أي لعل اللّه سبحانه أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي خيرا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 487

[سورة القلم (68): الآيات 33 الى 37]

كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)

هذه الجنة، بأن يتفضل علينا ببدلها و عوضها،

ف إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ نرغب إليه و نطلب غفرانه و نسأله أن يعوضنا بدل الجنة.

[34] كَذلِكَ الْعَذابُ أي كعذاب أصحاب الجنة، يكون عذاب العاصين في الدنيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا مقدار عذاب الآخرة، لعلموا أنه أكبر من عذاب الدنيا.

[35] و في مقابل هؤلاء المتقون إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي، بأن خافوا عقاب اللّه سبحانه عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة و كونه عند اللّه باعتبار القرب إلى رضاه لا القرب المكاني جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي بساتين يتنعمون فيها.

[36] أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ الذين أسلموا للّه سبحانه كَالْمُجْرِمِينَ الذين أذنبوا و عصوا اللّه سبحانه؟ و هذا استفهام إنكاري، أي كيف نجعل المسلم و المجرم- في الآخرة- سواء؟ و قد كان الكفار يقولون: إن كان بعث و جزاء لكان حالنا في الآخرة أفضل من أحوال محمد و أصحابه.

[37] ما لَكُمْ أيها الكفار؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ حكما جائرا في أن المجرم كالمسلم عند اللّه تعالى؟ و هل يعقل هذا الحكم؟

[38] أَمْ أي هل أن حكمكم بذلك ليس اعتباطا، بل لَكُمْ كِتابٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 488

[سورة القلم (68): الآيات 38 الى 41]

إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41)

سماوي نزل على الأنبياء السابقين فِيهِ تَدْرُسُونَ و تقرؤون مساواة المجرم و المسلم؟

[39] تدرسون ب إِنَّ لَكُمْ أنتم الكفار فِيهِ أي في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ أي للشي ء الذي تختارونه من الثواب في الآخرة، و جملة «إن لكم ...» أول الكلام على سبيل الاستهزاء، و

لذا كسرت همزة إن، و إن كان في الحقيقة من متعلقات «تدرسون» كما فسرنا.

[40] أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي عهود و مواثيق علينا بأن أخذتم منا عهودا بالِغَةٌ تلك العهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ تكون هي لكم جيلا بعد جيل إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ أي أن تلك العهود هي أن لكم أنتم كلما حكمتم من تساوي المؤمنين بكم، و إدخالكم الجنة؟

[41] سَلْهُمْ يا رسول اللّه، أصله «اسأل» حذفت الهمزة تخفيفا أَيُّهُمْ بِذلِكَ الذي ذكروا من أن لهم مثل ما للمسلمين زَعِيمٌ كفيل؟ فمن الكفيل بأن يكون لهم مثل ما للمسلمين؟ و إذ لا كتاب و لا إيمان، و لا كفيل فليعرفوا أن كلامهم فارغ خال من كل حجة و دليل.

[42] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي آلهة أخرى هم يعطون هؤلاء الكفار في الآخرة مثل ما يعطي اللّه المؤمنين؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ في يوم القيامة ليأخذوا منهم- و هذا استهزاء بهم- إِنْ كانُوا صادِقِينَ في كلامهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 489

[سورة القلم (68): الآيات 42 الى 44]

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)

إن لهم مثل ما للمؤمنين.

[43] فليأتوا بشركائهم في يَوْمَ القيامة الذي تظهر فيه الأهوال و الشدائد حتى أنه يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فإن الخوف إذا كان شديدا كشف الإنسان عن ساقه، بأن رفع ثوبه ليكون أسهل في الهرب، فلا يأخذ فاضل ثوبه رجله، و هذا كناية عن الهول- كما إن «كثير الرماد» كناية الجود وَ يُدْعَوْنَ هؤلاء الكفار في ذلك اليوم إِلَى السُّجُودِ فيقال لهم على

سبيل التقريع و التوبيخ «اسجدوا» فَلا يَسْتَطِيعُونَ لأن فقار ظهرهم تتداخل و تصلب حتى لا يتمكنون من الانحناء للسجود كما يظهر من الأحاديث.

[44] خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لا يرفعون نظرهم من الأرض ذلة و مهانة و وجلا تَرْهَقُهُمْ أي تغشاهم ذِلَّةٌ فإنها تظهر من حركاتهم و سكناتهم و وجناتهم وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ هؤلاء الكفار- في دار الدنيا- إِلَى السُّجُودِ و الخضوع للّه سبحانه وَ هُمْ سالِمُونَ فلا يسجدون، و لذا جوزوا بتلك الذلة، و بعدم تمكنهم من السجود يوم القيامة.

[45] فَذَرْنِي أي دعني يا رسول اللّه وَ مَنْ أي مع الكافر الذي يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي بحديث التوحيد و الرسالة و المعاد و هذا تهديد، معناه اني سأجازيهم، كما يقول القائل «دعني و إياه» أي اتركه فإني سوف أحاسبه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج هو طلب الشي ء درجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 490

[سورة القلم (68): الآيات 45 الى 47]

وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

درجة حتى يصل إلى النهاية المقصودة، أي نوجب على هؤلاء العقوبة بإعطائهم الحياة و المال حتى يتدرجوا في الكفر و العصيان، و يستحقوا بذلك أشد العذاب مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ إنه استدراج إلى العذاب و العقاب، بل يظنون إنها نعمة و صحة و مال و جاه.

[46] وَ أُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم، فإن الإملاء و الإمهال بمعنى واحد إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي ما أدبّره لعذاب الأشقياء متين مستحكم لا ينفصم و لا يدخله النقص و الخلل.

[47] ثم عطف على قوله «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ» قوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أي تسأل يا رسول اللّه من هؤلاء الكفار أَجْراً على أداء الرسالة و الدعاء إلى

الإسلام فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ أي من لزوم تلك الغرامة، و المال الذي تطلبه منهم مُثْقَلُونَ قد أثقلهم ذلك المطلوب، و لذا يريدون الفرار من تلك الغرامة، فعدم إيمانهم هل لأنهم يقولون لا فائدة في الإيمان، لأنهم مطمئنون، من كتاب قرءوه أنهم في الجنان مثل المسلمين- أم لأنهم يعرفون الفائدة في الإيمان، و أن الجنة تتوقف عليه، و لكن في الإيمان غرامة و هم يفرون من تلك الغرامة؟

[48] أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي أن الوحي ينزل عليهم بأن ما هم فيه من الكفر و العصيان هو الصحيح فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذلك الغيب و يعملون به، و لذا لا يرضخون للإسلام، لأن عندهم مثل ما عندك من الوحي و الكتاب؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 491

[سورة القلم (68): الآيات 48 الى 50]

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

[49] و إذ ترى يا رسول اللّه من الكفار الإعراض بلا حجة أو دليل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في إبلاغ الرسالة، و تحمل المشاق في سبيله وَ لا تَكُنْ يا رسول اللّه كَصاحِبِ الْحُوتِ أي يونس عليه السّلام الذي طلب العذاب لقومه، و خرج من بينهم، لما رأى عدم الفائدة في دعوتهم فقد كان عمله ذلك ترك الأولى بمثل مقام الرسالة إِذْ نادى اللّه سبحانه بإنزال العذاب على قومه وَ هُوَ مَكْظُومٌ قد كظم غيظه على القوم فهو مكظوم الغيظ، يقال كظم غيظه: إذا حبسه، أو المعنى نادى في بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» و هو محبوس في بطن الحوت،

لكن المعنى الأول أقرب إلى قوله «وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ».

[50] لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ بقبول توبته و استغفاره فان التوبة نعمة من اللّه سبحانه على العبد لَنُبِذَ يونس، أي طرح من بطن الحوت بِالْعَراءِ أي الأرض الجرداء الخالية عن الشجر و السقف حتى يهلك من الحر و البرد و الجوع وَ هُوَ مَذْمُومٌ لما ارتكبه من الدعاء على قومه، فقد كان ذلك تركا للأولى، و ذلك- و إن لم يكن عصيانا- إلا أنه ليس مناسبا لمقام الأنبياء، و لذا يحتاجون إلى التوبة و التطهير من ذلك.

[51] و إذا تداركته نعمة من ربه فاستغفر و تاب فَاجْتَباهُ أي اصطفاه

______________________________

(1) الأنبياء: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 492

[سورة القلم (68): الآيات 51 الى 52]

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

و اختاره رَبُّهُ بأن قبل توبته و أرجعه إلى مكانه الأول فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون لأداء رسالته سبحانه.

[52] فاصبر يا رسول اللّه لحكم ربك، و لا تكن كيونس، و اعلم بأن الكفار يريدون إزالتك عن دعوتك وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي أنه يقرب الكفار من أن يزلقوك، و «زلق» بمعنى لم يتماسك على الأرض بل وقع لتمايل رجله، أي يريد الكفار أن يوقعوك فلا تقوم للتبليغ، و هذا للتشبيه، فإن الذي يترك القيام بالبلاغ كالإنسان الذي وقع فلا وقوف له على رجليه بِأَبْصارِهِمْ أي بأعينهم، فقد كانوا ينظرون إلى الرسول شزرا، و النظر العدائي يوجب انقطاع الإنسان عما قام به، فإن الشخص إذ رأى الازدراء من السامع لم يتقدم بالكلام لَمَّا

سَمِعُوا أولئك الكفار الذِّكْرَ أي القرآن وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَمَجْنُونٌ قد خلط عقله و زال، فكلامه باطل لغو.

[53] وَ ما هُوَ و الحال أنه ليس هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يذكرهم ما أودع في فطرتهم من التوحيد و المعاد و ما أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 493

69 سورة الحاقة مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الحاقة»، و هي كسائر السور المكية تشتمل على معالجة قضايا العقيدة، و حيث تعرضت سورة «القلم» في أواخرها بقضايا القيامة و وعيد الكفار بها ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع باسم الإله الذي له ما في الكون، فاسمه الكريم أفضل شي ء يشرع به في الأمور، إنه يبارك على ما ابتدئ فيه باسمه، كما

ورد «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر»،

الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لمن سأله و لمن لم يسأله، و إن كان من سأله مورد عنايته و ألطافه الخاصة، بالإضافة إلى رحمته التي وسعت كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 494

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6)

[2] الْحَاقَّةُ هي من أسماء القيامة، و إنما سمي المحشر بها لأنها ساعة تحق و تتحقق، من «حق» بمعنى ثبت و صدق و وجب، و هي في الإعراب مبتدأ خبره:

[3] مَا الْحَاقَّةُ؟ كما تقول: زيد ما زيد؟ و هو استفهام معناه التفخيم، أي أيّ شي ء هي؟ و ما أكثر أهوالها و شدائدها.

[4] وَ ما

أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها الإنسان مَا الْحَاقَّةُ أيّ أيّ شي ء هي، فإنك إذا لم تعاينها لم تعلم شدائدها، و هذا ليس نفيا بعلم الرسول- لو كان الخطاب موجها إليه- بل كناية عن شدتها.

[5] ثم جاء السياق ليبين أحوال جملة من الأمم الماضية الذين كذبوا بالقيامة فأخذهم اللّه سبحانه و أهلكهم كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود، و هم قوم صالح عليه السّلام وَ قبيلة عادٌ قوم هود عليه السّلام بِالْقارِعَةِ أي بالقيامة، و تسمى «قارعة» لأنها تقرع الأشياء و تدكها و تقرع القلوب و تخفيفها.

[6] فَأَمَّا ثَمُودُ فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا بِالطَّاغِيَةِ أي بالصيحة الطاغية التي طغت عليهم فخلعت قلوبهم و أهلكتهم.

[7] وَ أَمَّا عادٌ فقد جوزوا على تكذيبهم بأنهم أهلكوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي باردة شديدة العصوف عاتِيَةٍ قد عتت عند حدها المألوف، و الريح مؤنث سماعي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 495

[سورة الحاقة (69): الآيات 7 الى 9]

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

[8] سَخَّرَها اللّه عَلَيْهِمْ بأن كانت مرسلة نحوهم سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ فكانت تهلكهم ببردها و صريرها حُسُوماً أي في حال كون تلك الليالي و الأيام ولاء متتابعة، مأخوذ من «حسم الداء بمتابعة الكي»، أو بمعنى أنها حسمتهم أي قطعت نسلهم بحيث لم يبق منهم أحد فَتَرَى أيها الرائي الْقَوْمَ أي قبيلة عاد فِيها أي في تلك الأيام صَرْعى مصروعين، جمع صريع، و هو الشخص الواقع ميتا كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ أي أصول نخل بالية، فإن أعجاز جمع عجز و هو

أصل النخل و الخاوي الخالي الذي لا شي ء في جوفه، و شبهوا بذلك لأن استطالة جسمهم و بقائهم في الأرض يشبه ذلك.

[9] فَهَلْ تَرى أيها الرائي لَهُمْ أي لأولئك الأقوام المكذبين مِنْ باقِيَةٍ أي من نفس باقية؟ و هذا استفهام للإيقاظ، أي لم يبق منهم أحد، و كذلك كل أمة كذبت لا بد لهم من الفناء حتى لا يبقى منهم أحد.

[10] وَ جاءَ فِرْعَوْنُ و قومه العاصون لموسى عليه السّلام وَ مَنْ قَبْلَهُ من قوم نوح عليه السّلام و نحوهم وَ الْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى لوط التي قلبت- من «ائتفك» أي انقلب- و المراد أهل تلك القرى بِالْخاطِئَةِ أي بالخطإ، فإنها مصدر «خطأ» أو المراد بالخصلة الخاطئة نسبت الخطأ إليها مجازا بعد ما كان منسوبا إلى القوم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 496

[سورة الحاقة (69): الآيات 10 الى 14]

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)

[11] فَعَصَوْا أولئك الأقوام رَسُولَ رَبِّهِمْ أي كل قوم رسوله، و المراد بالرسول الجنس لا الواحد- كما تقدم وجهه سابقا- فَأَخَذَهُمْ اللّه بالعقوبة أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في الشدة من «ربي» بمعنى زاد و طغى.

[12] لقد أخذنا الأقوام المكذبين و أنجينا المصدقين، كما إنا أنجينا المؤمنين بنوح عليه السّلام الذين هم أجدادكم أيها الناس إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي جاوز الحد المألوف حتى أغرق الأرض كلها حَمَلْناكُمْ إنما نسب الحمل إليهم باعتبار أنهم من أولاد من حملوا فِي الْجارِيَةِ أي في السفينة التي كانت تجري في تلك المياه الكثيرة.

[13] لِنَجْعَلَها

أي نجعل تلك الفعلة التي فعلنا بكم حين آمنتم لَكُمْ أيها الناس تَذْكِرَةً تتذكرون بها نعم اللّه سبحانه وَ تَعِيَها من «وعى» بمعنى أدرك، أي تحفظها و تدركها أُذُنٌ واعِيَةٌ أي أذن تعي المواعظ و تستمع للعبر بقصد التفهم و العمل.

[14] و إذا رأيتم عاقبة المكذبين و عاقبة المصدقين في الدنيا فاسمعوا عاقبتهما في الآخرة فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ إسرافيل في البوق لأجل إحياء البشر نفخته الثانية نَفْخَةٌ واحِدَةٌ بلا زيادة عليها إذ لا حاجة إلى أكثر منها، فإن البشر يحيون بمجرد النفخة.

[15] وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ أما حمل الأرض فباعتبار رفع منحدراتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 497

[سورة الحاقة (69): الآيات 15 الى 17]

فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)

حتى تستوي مع سائر بقاعها، و أما رفع الجبال فباعتبار أنها تنسف حتى تكون كالهباء لتستوي ظهر الأرض كلها بلا رفع و لا خفض، و تكون ساحة القيامة عليها فَدُكَّتا أي كسرتا و دك بعضها على بعض دَكَّةً واحِدَةً فإن «الدك» يشمل الأرض و الجبال مرة واحدة لا تدريجا.

[16] فَيَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي القيامة، و سميت «واقعة» لأنها تقع قطعا.

[17] وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ بمعنى انفرجت حتى ينظر الإنسان إليها فيراها متفطرة كانفطار الجدار و نحوه فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة واهِيَةٌ من «وهى» بمعنى ضعف، لأن نظامها يختل، و مداراتها تتداخل و تخرب.

[18] وَ يرى الْمَلَكُ النازل للحساب و سائر الأعمال عَلى أَرْجائِها أي على أطراف السماء و نواحيها، و «أرجاء» جمع «رجا» بمعنى الطرف و الناحية وَ يَحْمِلُ

عَرْشَ رَبِّكَ يا رسول اللّه، و هو محل سمي بالعرش يصدر منه أوامر اللّه سبحانه، كما أن البيت الحرام محل مضاف إليه سبحانه تشريفا فَوْقَهُمْ أي فوق أكتافهم يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ثَمانِيَةٌ من الملائكة العظام، و كل ذلك لتكثير الهول، و التناسب مع مدارك الإنسان الذي يرى العظمة و يشعر الخوف من هذه الأمور.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 498

[سورة الحاقة (69): الآيات 18 الى 21]

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21)

[19] يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم تُعْرَضُونَ أنتم أيها البشر في ذلك العرض الهائل الرهيب لا تَخْفى مِنْكُمْ نفس خافِيَةٌ فليس أحد هناك مخفيا لأنه لا محل للاختفاء، بل كلهم بارزون يراهم الناس معهم أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

[20] و هناك ينقسم الخلق إلى قسمين: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ أي صحيفة أعماله التي أدرج فيها الملائكة كل ما عمل في دار الدنيا بِيَمِينِهِ أي بيده اليمنى، و ذلك علامة الفلاح و النجاة فَيَقُولُ لأهل القيامة- في فرح و سرور- هاؤُمُ أي تعالوا و خذوا، اسم فعل أمر بصيغة الجمع، مفرده «ها» اقْرَؤُا كِتابِيَهْ و انظروا ما فيه من الحسنات، و الهاء في «كتابيه» و نحوه للسكت، يقرأ في الوقف و لا يقرأ في الوصل، و كأنه جي ء به للتنفس بأن لا يحبس النفس على الياء.

[21] إِنِّي ظَنَنْتُ في الدنيا أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ في الآخرة، و لذا عملت صالحا حتى حصلت على هذه المرتبة الرفيعة من الفلاح و النجاح و الإتيان ب «ظننت» لعله لإفادة أن مجرد الظن كاف

في العمل الصالح إذ رفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.

[22] فَهُوَ أي صاحب الكتاب الذي أعطي كتابه بيمينه فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ نسبة الرضا إلى العيش مجاز، فإن صاحب العيش هو الراضي أو أن اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول- كما قالوا في أن هذين يأتي كل واحد منهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 499

[سورة الحاقة (69): الآيات 22 الى 27]

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26)

يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)

في مكان الآخر، ف حِجاباً مَسْتُوراً «1» بمعنى ساترا كما تقدم-.

[23] فِي جَنَّةٍ أي بستان عالِيَةٍ رفيعة القدر و المكان.

[24] قُطُوفُها جمع «قطف» و هو ما يجتنى بسرعة، أي ثمارها الناضجة أو أن القطف و القطع دانِيَةٌ أي قريبة إلى الشخص، حتى لا يحتاج في قطفها إلى التجشم و التعب، فإذا أرادها قربت من يده ليقطعها.

[25] و يقال لهم- على وجه التكريم و الإجلال- كُلُوا من ثمار الجنة و لحومها و سائر مأكولاتها وَ اشْرَبُوا من أنهارها هَنِيئاً لكم أي تهنئون هنيئا، بلا داء و لا علة يوجبها الأكل و الشرب بسبب ما أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من أعمالكم الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية، و المراد بها أيام الدنيا التي خلت و مضت.

[26] و إذ رأينا أحوال أهل الجنة فلننظر إلى أحوال أهل النار وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ أي كتاب أعماله التي أدرجها الملائكة فيه بِشِمالِهِ أي بيساره، و ذلك علامة أهل النار فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ أي لم أعط كِتابِيَهْ حتى أرى ما

يسوؤني فيه.

[27] وَ لَمْ أَدْرِ أي يا ليتني لم أعرف ما حِسابِيَهْ أي أيّ شي ء حسابي.

[28] يا لَيْتَها أي ليت الموتة التي متها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ تقضي

______________________________

(1) الإسراء: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 549

[سورة الحاقة (69): الآيات 28 الى 33]

ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32)

إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)

على حياتي إلى الأبد فلم أبعث بعدها لأرى سيئات أعمالي و أبتلي بالخزي و العذاب.

[29] ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما دفع عني مالي من عذاب اللّه شيئا.

[30] هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ و سلطنتي و جاهي ذهبتا، فلا مال ينفع و لا سلطان ينجع- مما كرست حياتي و جهودي لهما-.

[31] ثم يأتي الخطاب من المصدر الأعلى للملائكة الموكلين بهذا المجرم خُذُوهُ فلا تتركوه يفر و يهرب فَغُلُّوهُ أي أوثقوه بالغل، و هو الحديد الذي يربط أعضاء الإنسان بعضها ببعض لئلا يتمكن من الفرار.

[32] ثُمَّ الْجَحِيمَ بعد إغلاله بالغل صَلُّوهُ أي أدخلوه فيها و الجحيم هي النار العظيمة.

[33] ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي طولها بالذراع سَبْعُونَ ذِراعاً و الطول لتشديد العذاب و الغم عليه فَاسْلُكُوهُ أي اربطوه بها، و قيل تدخل من حلقه و تخرج من دبره، و هذا هو سلكه فيها.

[34] ثم يأتي السياق ليبين علة هذه الأنواع من العذاب إِنَّهُ أي هذا المجرم كانَ في الدنيا لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مع عظمته سبحانه، كان يعاند و لا يؤمن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 501

[سورة الحاقة (69): الآيات 34 الى 39]

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ

لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38)

وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39)

[35] وَ لا يَحُضُ أي لا يحث الناس- من باب الأمر بالمعروف- أو هو كناية عن منعه بنفسه، لأن المانع لا يحث، فأتى بالمسبب و أريد السبب عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي إطعام الفقراء، الذين يجب الحض على إطعامهم لأنهم في معرض الهلكة.

[36] فَلَيْسَ لَهُ هذا الكافر الْيَوْمَ أي في يوم القيامة هاهُنا في المحشر حَمِيمٌ صديق ينفعه.

[37] وَ لا له طَعامٌ يأكله إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ و هو صديد قيح أهل النار، أي غسالتهم.

[38] لا يَأْكُلُهُ أي لا يأكل الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ الذين اخطأوا في الدنيا بالكفر و العصيان.

[39] و بعد استعراض أحوال المؤمنين و الكافرين في الآخرة يأتي السياق، ليستدل على الرسالة و ينفي مزاعم القوم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ أيها البشر.

[40] وَ ب ما لا تُبْصِرُونَ أي بالمشاهدات و المغيبات، و الإتيان ب «لا» للطيفة، هي الحلف، و إفادة أن الحلف لعظيم، فإذا أردت أن تحلف، و أردت أن تبين أن الحلف عظيم تقول «لا أقسم بحياتك إن الأمر كذا» فأنت لم تحلف مع الإلماع إلى الحلف، و على هذا ف «لا» للنفي، لا أنها زائدة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 502

[سورة الحاقة (69): الآيات 40 الى 45]

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)

[41] ثم بين متعلق الحلف بقوله: إِنَّهُ

أي إن القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ عند اللّه سبحانه، فهو من قبله، إذ الرسول لا يقول إلّا من عنده سبحانه.

[42] وَ ما هُوَ أي ليس القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ فقد كانوا يقولون: إن محمدا شاعر و القرآن شعر قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي قليل إيمانكم، أو يؤمن منكم بالرسول أشخاص قليلون، و هذا للاستنكار و التقريع، أي لم تكونون هكذا؟

[43] وَ لا القرآن بِقَوْلِ كاهِنٍ فقد كان بعضهم يقول: إن الرسول كاهن، و أن القرآن كهانة، و الكاهن من له اتصال بالشياطين فيأتون إليه بأخبار ملفقة مسجعة باطلها أكثر من حقّها قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ فلا تتذكرون الحق المودوع في فطرتكم إلّا قليلا، أو قليل منكم يتذكرون الحق.

[44] إنه تَنْزِيلٌ أي منزل مِنْ عند رَبِّ الْعالَمِينَ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[45] وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا أي افترى الرسول علينا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ المكذوبة، و التقوّل اختلاق القول و نسبته إلى من ليس منه.

[46] لَأَخَذْنا مِنْهُ أي من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْيَمِينِ أي بيمينه بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 503

[سورة الحاقة (69): الآيات 46 الى 49]

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)

قطعناها، لأن من يفسد في الأرض جزاؤه أن تقطع يده. و لا يخفى أن هذا الكلام للإنكار على الكفار، لأنه يمس ساحة قدس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا من قبيل وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ «1» كما سبق الكلام فيه.

[47] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ أي من الرسول الْوَتِينَ أي قطعنا عرق قلبه، و هو كناية عن

إهلاكه، أو المعنى لأخذنا يده اليمنى لنقتله كما يفعل الجلاد بالمجرم يأخذ يده ليسهل قتله.

[48] و لو كان كاذبا، و فعلنا به ذلك فَما مِنْكُمْ أيها البشر مِنْ أَحَدٍ «من» زيادة لتعميم النفي عَنْهُ أي عن الرسول حاجِزِينَ أي لا يقدر أحد منكم أن يدفعنا و يحجز بيننا و بين الرسول حتى لا تحل به عقوبتنا.

[49] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ مذكّر لما أودع في فطرتهم من التوحيد و سائر الأصول لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الآثام، فإن الإنسان المحافظ للحدود الذي يتقي و يخاف الزلة يتذكر بالقرآن، و التخصيص بهم لأنهم المنتفعون بالقرآن دون سواهم.

[50] وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ أيها الناس مُكَذِّبِينَ يكذبون باللّه و بالرسول، و بالمعاد، و بالقرآن. و هذا تهديد لهم بأنهم سوف يحاسبون و يعذبون بسبب تكذيبهم.

______________________________

(1) الأعراف: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 504

[سورة الحاقة (69): الآيات 50 الى 52]

وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

[51] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ يوجب الحسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به مع أنه في متناول أيديهم.

[52] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي هذا القسم من اليقين و هو اليقين البالغ درجة راقية لمطابقته للواقع، فإن هناك علم اليقين و هو ما يعلم بغير أن يشاهد، و حق اليقين و هو ما يعلم و يشاهد- و قد سبق المثال بالنار لذلك-.

[53] فَسَبِّحْ أي نزّه بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي سبح اللّه بذكر اسمه، و لا تعر للكفار بالا، بل امض في مسئوليتك، و التنويه بذكره سبحانه على نحو التنزيه عن الصفات السيئة و الشركاء- مما يزعمها الكفار و المشركون-.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 5، ص: 505

70 سورة المعارج مكية/ آياتها (45)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المعارج»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، إلّا مفتتحها فإنها مدنية و حيث ختمت سورة «الحاقة» بوعيد الكفار، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

و قد كان سبب نزول مفتتح السورة على ما

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال لما نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا يوم غدير خم و قال «من كنت مولاه فعلي مولاه» طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهري فقال: يا رسول اللّه أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنك رسول اللّه و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام- أي عليا عليه السّلام- فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و اللّه الذي لا إله إلّا هو إن هذا من اللّه. فولى النعمان بن الحرث و هو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله فأنزل اللّه «سَأَلَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 506

سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»

«1».

أقول: و إلى هذا أشير بقوله سبحانه وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه ليكون شروعا مباركا موصولا بالخير، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم بإصلاح النواقص دينا و دنيا و آخرة،

فإن الرحمة في غيره سبحانه معنى في القلب يبعث على الخير، و فيه سبحانه إعطاء الخير.

______________________________

(1) شواهد التنزيل: ج 2 ص 381.

(2) الأنفال: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 507

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

[2] سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ يعني استدعى مستدع و طلب العذاب، و قد عرفت أنه «الفهري»، و من المحتمل أن المراد به أعم منه ليشمل الكفار الذين كانوا يستعجلون بالعذاب- استهزاء-.

[3] لِلْكافِرينَ أي أن ذلك العذاب للكافرين، فهو واقع بهم سواء طلبوه أم لم يطلبوه لَيْسَ لَهُ أي لذلك العذاب دافِعٌ يدفعه.

[4] مِنَ اللَّهِ فإن العذاب من قبله سبحانه ذِي الْمَعارِجِ جمع «معراج» و هو محل العروج و الصعود، و لعل المراد بها السماوات التي هي معارج للملائكة و لأرواح المؤمنين، و هذا كناية عن علو شأنه سبحانه، فإذا أراد شيئا لا بد و أن يقع.

[5] ثم بين مقدار ارتفاع المعارج، حتى لا يتوهم أن مقدار ارتفاعها كالمألوف في الأذهان من الارتفاعات القليلة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ الذي هو أعظم الملائكة، أو المراد أرواح المؤمنين إِلَيْهِ أي إلى المحل الذي جعله سبحانه مصدرا لأمره و محلا لتشريفه، كالبيت الحرام الذي جعله محلا لعنايته- فإنه سبحانه منزه عن المكان- فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أي مقدار ذلك اليوم خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فطول ذلك اليوم- إذا سير فيه بالسير العادي- خمسون ألف سنة من سني الدنيا، و بمعرفة طول ذلك اليوم يعرف مقدار بعد محل تشريفاته سبحانه من الأرض.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 5، ص: 508

[سورة المعارج (70): الآيات 5 الى 11]

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)

و يحتمل في العبارة معنى آخر، و هو أن العروج إلى محل تشريفاته إنما هو في يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة، فهو إما لبيان مقدار بعد محل التشريفات عن الأرض و إما لبيان مقدار ذلك اليوم، و في الأحاديث كلا المعنيين.

[6] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه صَبْراً جَمِيلًا لا جزع فيه و لا شكوى مما تقاسيه من الأتعاب و تكذيب الكفار.

[7] إِنَّهُمْ أي الكفار يَرَوْنَهُ أي ذلك اليوم و هو يوم القيامة- بناء على المعنى الثاني- أو العذاب بَعِيداً و لذا يعملون بالكفر و المعاصي.

[8] وَ نَراهُ أي نعلمه نحن قَرِيباً فإن كل آت قريب، و إن طال الأمد في مقاييس الناس.

[9] ثم بين السياق وقت العذاب، أو وقت ذلك اليوم يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ أي الصفر المذاب، و كأنه للصب على الناس المجرمين.

[10] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المنفوش، فإنها تطير في الجو هباء، كما يطير الصوف.

[11] وَ لا يَسْئَلُ في ذلك اليوم حَمِيمٌ أي صديق حَمِيماً أي عن صديقه لشغل كل إنسان بنفسه.

[12] يُبَصَّرُونَهُمْ أي يرى بعض الأصدقاء بعضا و لكن لا يسألون عنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 509

[سورة المعارج (70): الآيات 12 الى 16]

وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16)

كيف أنتم؟ و الفعل مجهول من باب التفعيل،

كأنه يحصل منهم الإبصار قهرا، إشارة إلى أنهم لا يريدون أن يبصروا أصدقاءهم، و إنما تقع عينهم عليهم بدون إرادة يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى و يحب العاصي لَوْ يَفْتَدِي أي يعطي الفدية عن نفسه لينجيها مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي يوم القيامة بِبَنِيهِ بأن يدفع عوضه أولاده الذين هم أعز الناس عنده فينزل بهم العذاب دونه.

[13] وَ ب صاحِبَتِهِ أي يعطي زوجته للعذاب لينجو بنفسه وَ ب أَخِيهِ حتى ينجو.

[14] وَ يفتدي ب فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ أي عشيرته- التي انفصل منهم بالولادة- التي كانت تؤوي، أي تعطي المأوى لهذا الإنسان في الشدائد.

[15] وَ يفتدي ب مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي يعطي بدله جميع الخلائق ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الفداء عن العذاب.

[16] و هل يفيد الفداء- و لو فرضنا أنه تمكن من كل ذلك-؟ كَلَّا لا ينجيه شي ء و لا يفيده الفداء إِنَّها أي نار جهنم لَظى أي لهب خالص، و المعنى للمجرم اللهب فلا يفيده الفداء.

[17] في حال كونها نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي تنزع كثير الأطراف فلا تترك جلدا و لا لحما. «و شوى» الأكارع و الأطراف، و تسميتها بالشوى لأنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 510

[سورة المعارج (70): الآيات 17 الى 23]

تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)

إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)

تشوى بالنار.

[18] تَدْعُوا النار إلى نفسها، بالالتهاب و الالتهام مَنْ أَدْبَرَ عن الحق، أي أعطاه دبره ليعرض عنه وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الدين.

[19] وَ جَمَعَ المال فَأَوْعى أي أمسكه في الوعاء- كالصندوق و نحوه- فلم ينفقه في طاعة اللّه.

[20] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ

هَلُوعاً أي شديد الحرص، من «الهلع» و هو الحرص.

[21] ثم بين سبحانه معنى الهلوع بقوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي لامسة و نزل به شر من فقر و مرض و خوف و ما أشبه جَزُوعاً أي كان كثير الجزع، بدون أن يصبر و ينتظر الفرج.

[22] وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ أي لامسة و نزل به كالغنى و الصحة و الأمن و الجاه مَنُوعاً أي كان كثير المنع لخيره عن الناس و لا يقوم بواجب الشكر من بذل ماله و جاهه، و القيام في الخدمات بصحته و أمنه.

[23] إن ذلك طبيعة الإنسان و فطرته التي ركبت فيه إِلَّا الْمُصَلِّينَ الذين اتصلوا باللّه سبحانه و ارتفعوا عن مهاوي النفس، بالصلاة- و الإتيان بها لأنها تلازم الإيمان و سائر الصفات الحسنة-.

[24] الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ يقيمونها باستمرار، فإن إقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 511

[سورة المعارج (70): الآيات 24 الى 28]

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)

الصّلاة بصورة مستمرة توحي إلى النفس معاني الخير، لما يحصل من الإيماء المكرر الموجب لتهذيب النفس كما قال في آية أخرى وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ «1».

[25] وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ و هو مقدار منه يعطيه للفقراء، و قد ورد أن الحق المعلوم يراد به غير الزكاة مما يفرضه الرجل على نفسه فيخرجه من ماله في كل يوم أو في كل جمعة.

[26] لِلسَّائِلِ الذي يسأل لافتقاره و مسكنته وَ الْمَحْرُومِ و هو الفقير الذي حرم من الثروة و لا يسأل الناس لعفته.

[27] وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ

الدِّينِ أي يؤمنون بالقيامة الذي هو يوم الجزاء- إذ الدين بمعنى الجزاء، كما قال «و لا أنت ديّاني فتخزوني»- و لعل الإتيان من باب التفعيل لإفادة كثرة تصديقهم بكل ما يقع في ذلك اليوم.

[28] وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ في الدنيا و في الآخرة مُشْفِقُونَ أي خائفون، من «أشفق» بمعنى خاف.

[29] و إنما يخافون ف إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ بالكفار و العاصين غَيْرُ مَأْمُونٍ أي لا يؤمن حلوله، فلا ينبغي لأحد أن يأمن منه فيتمادى في الكفر

______________________________

(1) المؤمنون: 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 512

[سورة المعارج (70): الآيات 29 الى 33]

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)

و العصيان اغترارا.

[30] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ جمع «فرج» و هو القبل و الدبر و سمي بذلك لانفراج و انشقاق فيهما حافِظُونَ فلا يستحلونها في المعاصي.

[31] إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي زوجاتهم و يعرف العكس بالتلازم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي إمائهم، و نسب الملك إلى اليمين لأنها آلة اكتساب المال الموجبة لشراء الإماء، و المتعة و التحليل داخلان في الأزواج أو الثاني داخل في ما ملكت أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لا يلامون على استعمال فروجهم في هذا النوع الخاص من اللذة.

[32] فَمَنِ ابْتَغى أي طلب اللذة في وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر بأن استعمله في الحرام في زنى و لواط و سحق و استمناء فَأُولئِكَ المبتغون هُمُ العادُونَ الذين تعدوا الحق و حدود الشريعة، المستحقون بذلك النكال و العذاب.

[33] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ التي تودع عندهم وَ عَهْدِهِمْ

مع من عاهدوا راعُونَ فلا يخونون الأمانات، و لا ينقضون العهود.

[34] وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ أي يقومون بالشهادة التي تحمّلوها، فإذا صار موقع أن يشهدوا شهدوا بالحق لا بالباطل، و لا يهربون من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 513

[سورة المعارج (70): الآيات 34 الى 38]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)

الشهادة لخوف أو طمع.

[35] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ و كأن المحافظة أداؤها بحدودها و آدابها، «دائمون» الاستمرار عليها، أو

الآية السابقة في النوافل و هذه في الفرائض، كما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام.

[36] أُولئِكَ المؤمنون المتصفون بتلك الصفات فِي جَنَّاتٍ أي بساتين تجنها الأشجار و القصور مُكْرَمُونَ أي يكرمهم اللّه سبحانه و الملائكة، فهم في نعمة مادية و معنوية.

[37] و بعد وضوح الحق فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ يا رسول اللّه أي أيّ شي ء لهم و ما حملهم على أن يفعلوا ما فعلوا؟ مُهْطِعِينَ من «أهطع» إذا نظر ببصره إلى الشي ء لا يزيله عنه، و يكون ذلك عن حب أو عداوة، و المراد هنا الثاني، أي ما لهم ينظرون إليك شزرا نظر عداوة و شنآن؟

[38] عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ أي من طرف يمينك و طرف شمالك عِزِينَ جمع «عزة» أي جماعات متفرقين عصبة عصبة، فإن «عزة» بمعنى الجماعة، و هذا هو الغالب في الناس إذا ظهر فيهم مصطلح أو مبدع، فإنهم ينظرون إليه جماعات من كل صوب إذا كان في محل أو مر بمحل.

[39] أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من

هؤلاء الكفار أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 514

[سورة المعارج (70): الآيات 39 الى 42]

كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)

فما هذا الطمع السخيف بعد كفرهم و عنادهم؟ فكأنهم إذا أبغضوا الرسول و نظروا إليه نظرا شزرا توقعوا بذلك نيل رضى اللّه سبحانه و دخول جنته.

[40] كَلَّا لا يدخلون الجنة، ف إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ من نطفة قذرة، و هل من أصله نطفة صالح لدخول الجنة بدون الإيمان و العمل الصالح؟ فإن الشي ء إما بأصله أو بعمله، و هؤلاء أصلهم نطفة قذرة، و عملهم كفر و عصيان، فلا صلوح لهم لدخول الجنان.

[41] فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ «لا» للنفي، و هذا إلماع إلى حلف، في صورة عدم الحلف- كما سبق- و المشارق باعتبار شروق الشمس في كل يوم من نقطة من الفلك، و كذا المغارب بالنسبة إلى غروبها إِنَّا لَقادِرُونَ

[42] عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي أن نهلكهم و نأتي بدلهم خيرا منهم أناسا يؤمنون و لا يعصون وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بأن يسبقنا الكفار في الهرب، حتى نبقى وراءهم لا نلحق بهم فلا نتمكن من تعذيبهم كالحاكم الذي يبقى و يهرب منه المجرم فلا يتمكن من إنزال العقوبة به.

[43] فَذَرْهُمْ أي دع يا رسول اللّه هؤلاء الكفار يَخُوضُوا في باطلهم، و أصل الخوض الارتماس في الماء، و شبه به الإنسان الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 515

[سورة المعارج (70): الآيات 43 الى 44]

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى

نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

يتكلم و يعمل بالباطل، كأنه خائض فيه وَ يَلْعَبُوا أي يفعلوا فعل اللاعب الذي لا يريد غاية من عمله و إنما يقضي الوقت بذلك حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و هو يوم القيامة.

[44] ثم بين سبحانه ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث و هو القبر سِراعاً أي مسرعين، لشدة هولهم فإن الخائف يسرع في المشي ليجد مأمنا قبل أن ينزل به العذاب كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ جمع نصب كسقف جمع سقف، و هو الصنم يُوفِضُونَ أي يسرعون، فقد كانوا في الدنيا يسرعون إلى أصنامهم في مواسم شركهم و هناك كذلك يسرعون عند خروجهم من القبر.

[45] في حال كونهم خاشِعَةً أي خاضعة ذليلة أَبْصارُهُمْ فإن أثر الذلة يظهر في العين لا يستطيعون مدّ بصرهم خوفا و فزعا تَرْهَقُهُمْ أي تغشاهم و تحيط بهم ذِلَّةٌ لأنهم قد علموا جرمهم و أنهم محكوم عليهم بالعذاب ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في الدنيا فينكرونه و الآن قد وصلوا إليه و وجدوا عذابه و هوله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 516

71 سورة نوح مكية/ آياتها (29)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نوح» و قصته و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي. و حيث ختمت سورة المعارج بوعيد الكفار، افتتحت هذه السورة بذكر نوح عليه السّلام و ما لاقى من تكذيب قومه- تسلية للرسول و تخويفا للكفار-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في مهام الأمور، و في هذا الأمر الذي نشرع فيه- بصورة خاصة- الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحم على من طلب منه الرحم و تسهيل الأمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5،

ص: 517

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5)

[2] إِنَّا أَرْسَلْنا أي بعثنا نُوحاً رسولا إِلى قَوْمِهِ و أوحينا إليه أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ بأنهم إن تمادوا في الكفر و العصيان ابتلوا بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي موجع مؤلم.

[3] فامتثل نوح عليه السّلام و قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أنذركم و أخوفكم مُبِينٌ أي واضح ظاهر.

[4] أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فلا تكفروا به وَ اتَّقُوهُ فلا تعصوه وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من الشريعة، و أصله «أطيعوني» حذف الياء تخفيفا و تنسيقا.

[5] فإنكم إن عبدتموه و اتقيتم يَغْفِرْ اللّه لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي جنس ذنوبكم، ف «من» للجنس وَ يُؤَخِّرْكُمْ فلا يهلككم عاجلا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة قد سميت في كتابه، في مقابل الكافر الذي يعذبه بعذاب الاستئصال إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الأجل الذي عينه اللّه إِذا جاءَ وقته لا يُؤَخَّرُ فبادروا بالإيمان و التوبة قبل فوات الأوان لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو كنتم عاملين بالأمور لعلمتم بذلك.

[6] و دعا نوح قومه مدة مديدة بمثل تلك الإرشادات و النصائح، لكن دعاءه لم يكن ينفع فيهم، فتوجه إلى اللّه سبحانه داعيا قالَ نوح عليه السّلام: يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 518

[سورة نوح (71): الآيات 6 الى

9]

فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)

رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان لَيْلًا وَ نَهاراً أي في كل الأوقات.

[7] فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً فإن دعوتي صارت سببا لأن يرص الكفار صفوفهم، و يجاهروا بالكفر و الطغيان و الفرار من الحق.

[8] وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان و الطاعة لِتَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم إن آمنوا و أطاعوا جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ حتى لا يسمعوا كلامي وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا بها وجوههم و رؤوسهم لئلا يروني وَ أَصَرُّوا أي داموا على كفرهم و طغيانهم وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً أي تكبروا و أنفوا عن قبول الحق، و كأن الإتيان بصيغة الاستفعال لإفادة أنهم طلبوا الكبر، و إن لم يكونوا كبراء حقيقة.

[9] ثُمَ لترتيب الكلام لا لترتيب المطلب في الخارج إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أي جهرا بأعلى صوتي.

[10] ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ إعلانا بالدعوة وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي علانية و سرا، و المراد الدعوة بكل وجه محتمل، و الجهر قسم من الإعلان- فليس في ذكر الإعلان بعد الإجهار تكرارا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 519

[سورة نوح (71): الآيات 10 الى 14]

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

[11] فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا أيها القوم رَبَّكُمْ أي اطلبوا غفرانه بالإيمان و الطاعة إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً كثير المغفرة لمن استغفر.

[12] فإن

استغفرتم يُرْسِلِ اللّه السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثيرة الدرور بالمطر، قيل إن الغيث قد منع عنهم حتى ابتلوا بالقحط و لذا رغبهم نوح عليه السّلام في ذلك.

[13] وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ أي يكثر أموالكم و أولادكم الذكور وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين، بسبب المطر و الأموال وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً تسقون جناتكم، فإن المطر إذا كثر اختزن في الأرض ثم تفجر من العيون و جرى منها.

[14] ما لَكُمْ يا معاشر الكفار لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي لا تعظمون اللّه تعالى، فإن «الوقار» بمعنى العظمة، و الرجاء هو الطمع في شي ء مرغوب، فإن من لا يعرف عظمة شخص لا يرجوه، فكأنه قال: ما لكم لا ترجون اللّه، إذ لا تعترفون له بالوقار و العظمة؟

[15] وَ الحال أنكم ترون آثار عظمته في أنفسكم، إذ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً جمع «طور» فقد انتقلتم من حال إلى حال حتى وصلتم إلى هذا الحال الذي أنتم فيه، أو المراد خلقكم مختلفين، فكل واحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 520

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 19]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)

يختلف عن الآخر مما يدل على كمال القدرة.

[16] إن آثار عظمة اللّه سبحانه كما هي ظاهرة في أنفسكم كذلك هي ظاهرة في الكون أَ لَمْ تَرَوْا أيها الكفار كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ فإن علم الفلك معترف بوجود سبع مدارات للكواكب السيارة طِباقاً أي بعضها فوق الآخر؟

[17] وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ أي في تلك السماوات،

و يجوز الإتيان بضمير غير العاقل مفردا و جمعا نُوراً ينير الظلام بأشعته وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي مصباحا يشع ضياؤها حتى تنير الأكوان.

[18] وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ أيها البشر مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً فإن الإنسان ينبت من الأرض كما أن النبات ينبت منها، و لكن الفرق هو أن الأرض تتحول إلى النبات، و النبات يأكله الإنسان فيصير منيا ثم إنسانا و النبات ينبت ابتداء، و في الحقيقة أن الإنسان نبات الأرض المتحرك، كما أن النبات نباتها الساكن.

[19] ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض، فالميت لا يلبث أن يبلى و يكون ترابا كما كان سابقا وَ يُخْرِجُكُمْ من الأرض لدى البعث في يوم القيامة إِخْراجاً و إنما ذكر المصدر تأكيدا لبيان أنه كائن لا محالة.

[20] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مبسوطة لتتمكنوا من المشي عليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 521

[سورة نوح (71): الآيات 20 الى 22]

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)

و البناء فوقها، و تقضوا سائر مآربكم عليها.

[21] ثم أشار السياق إلى واحدة من النعم التي هيأها اللّه للإنسان على الأرض المنبسطة لِتَسْلُكُوا يقال سلك في الطريق إذا مشى فيه و سرى مِنْها أي من الأرض و المراد في بعض الأرض سُبُلًا أي طرقا، جمع «سبيل» فِجاجاً «الفجاج» هي الطرق المتسعة المتفرقة، واحدها «فج» يعني حتى تتمكنوا من السير في طرق الأرض المختلفة إلى حاجاتكم هنا و هنالك.

[22] و بعد كل هذه التذكيرات و الإلفات إلى هذه النعم العظام، لم يستجب القوم لدعوة نوح عليه السّلام، فتوجه نوح إلى ربه قالَ نُوحٌ يا رَبِّ

إِنَّهُمْ أي القوم عَصَوْنِي فلم يؤمنوا بك، و لم يطيعوا أمري وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي اتبعوا كبراء قومهم الذين هم رأس الفساد، فكلما ازدادوا مالا صرفوه في الشر و كلما ازدادوا ولدا حرفوه عن سنن الحق، فمالهم و ولدهم لا يزيدهم إلا خسارة و ضررا، مما يوجب كثرة عقوبتهم و زيادة عذابهم.

[23] وَ مَكَرُوا في قبال نوح مَكْراً كُبَّاراً أي كبيرا للغاية فإن إطفاء سنن الرسول يحتاج إلى التدابير الكثيرة، و إلا فالناس بطبيعتهم الساذجة يتبعون الحق. و فاعل المكر إما الكبار المشار إليهم ب «من» أو المراد القوم- في الجملة-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 522

[سورة نوح (71): الآيات 23 الى 25]

وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)

[24] وَ قالُوا أي الماكرون، لسائر الناس لا تَذَرُنَ أي لا تتركن آلِهَتَكُمْ الأصنام التي تعبدونها إطاعة لنوح في عبادة إله واحد، ثم خصوا جماعة من الآلهة كانت الأصنام الكبيرة لديهم وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ لا يَعُوقَ وَ لا نَسْراً و يغوث و يعوق غير منصرفين للعجمة و العلمية، أو للعلمية و التأنيث كما أن عدم إتيان «لا» على البعض للتفنن في الكلام الذي هو من فنون البلاغة، و هذه كانت أسامي أصنام لهم يعبدونها من دون اللّه سبحانه. و ذكر بعض أن هذه أسماء كانت لرجال صالحين، فلما ماتوا مثلوا لهم تمثالا يعظمونها باعتبار أنها

رموز لأولئك الصالحين، ثم عبدوها- بإغواء الشيطان-.

[25] وَ قَدْ أَضَلُّوا هذه الأصنام، يا رب كَثِيراً من الناس و نسبة الضلال إلى الأصنام باعتبار أنها الوسيلة في الإضلال، و الإتيان بضمير العاقل تماشيا لوحدة السياق بين كلام المؤمنين و الكافرين وَ لا تَزِدِ يا رب الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان و غيرهم بالإضلال و الإفساد إِلَّا ضَلالًا جزاء على عنادهم، و إزادة ضلالهم بمنع الألطاف الخفية عنهم، أو المعنى «لا تزد هذه الأصنام إلا ضلالا لهم» فعلى الأول نهي، و على الثاني نفي.

[26] ثم أتى السياق إلى بيان عاقبة هؤلاء الكفار بقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من جهة خطيئة هؤلاء الكفار، و «ما» زائدة و الزيادة هنا لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 523

[سورة نوح (71): الآيات 26 الى 28]

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

تزيين الكلام أُغْرِقُوا بالماء في الدنيا فَأُدْخِلُوا ناراً في الآخرة، فقد عوقبوا بعقوبتين متضادتين فَلَمْ يَجِدُوا أولئك الكفار لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه سبحانه أَنْصاراً فلم يكن هناك من يمنع عنهم عذاب اللّه تعالى، فقد ضل عنهم من كان يعدهم النصر.

[27] وَ قالَ نُوحٌ قبل أن يغرقوا- في دعائه عليهم- و إنما أخر ذلك عن الغرق، في الكلام، لتعجيل توصيل العقاب بالانحراف، حتى كأنه انحراف و عقاب بلا فاصلة، يا رَبِّ لا تَذَرْ أي لا تدع و لا تبق سالما عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أي أحدا يعمر الديار،

أو ينزل الدار، بل عمم عقابك على جميعهم.

[28] ثم بين عليه السّلام علة هذا الدعاء بقوله: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ من نسل المؤمنين وَ لا يَلِدُوا هم بأنفسهم إِلَّا فاجِراً يفجر و يعصي كَفَّاراً كثير الكفر، يعني أن أولادهم فاسد و العقيدة و العمل، فلا خير فيهم، و قد علم نوح عليه السّلام ذلك من طريق الوحي.

[29] يا رَبِّ اغْفِرْ لِي و قد سبق أن استغفار الأنبياء و الأئمة لما يصدر منهم من المباحات الضرورية، فإنهم يرون ذلك خلافا للأدب أمام اللّه الملك العظيم، كما أن من مدّ رجله- لمرض أو نحوه- أمام الملك رآه سوء أدب و إن كان مضطرا إليه، و اعتذر من فعله ذلك وَ لِوالِدَيَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 524

بغفران ذنوبهما وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً و كأن الدخول في البيت كناية عن الدخول في حوزته و أنصاره، فقد آمن به عليه السّلام عدة قليلة بين سبعين و ثمانين- على ما ذكروا- وَ اغفر لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ من سائر الأمم السابقين و اللاحقين وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا و خسارة، و ذلك بمنع الألطاف عنهم، حتى يكون بقاؤهم موجبا لزيادة عذابهم و خسارتهم جزاء لعنادهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 525

72 سورة الجن مكية/ آياتها (29)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الجن» و قصة منهم، كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أسلوب قصصي طريف جديد، و لما ختمت سورة نوح بالدعاء للمؤمنين و الهلاك للكافرين، ابتدأت هذه السورة بما يماثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الخالق المالك لكل شي ء، و الابتداء باسمه أولى من الابتداء بأي شي ء آخر، فإن الكفار كانوا يبتدئون باسم الأصنام،

و المسيحيين باسم «الأب و الابن و روح القدس»، و الديمقراطيون في زماننا يبتدئون باسم الشعب و الملكيون باسم جلالة الملك، و اللّه أحق من الكل بالابتداء باسمه، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 526

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3)

[2] قُلْ يا رسول اللّه للناس أُوحِيَ إِلَيَ و الوحي هو الإلهام إلى الرسول من قبله سبحانه بواسطة ملك أو إلقاء في القلب بلا واسطة، و يستعمل أيضا بمعنى مطلق الإلهام، كقوله وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1» و قوله وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «2» أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ أي استمع إلى القرآن طائفة من الجن- فإن نفر بمعنى الطائفة- و الجن مخلوقة من النار رقاق الأجسام كالهواء، و لها أن تتشكل في أبدان غليظة كأبدان الإنسان فَقالُوا بعضهم لبعض إِنَّا سَمِعْنا من الرسول قُرْآناً عَجَباً أي ما يدعو إلى التعجب، لأنه بأسلوب غريب في لفظه و معناه، و قد سبقت قصتهم في سورة الأحقاف.

[3] يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي يدل على الهدى الذي من سلكه رشد فَآمَنَّا نحن الجن بِهِ أي بذلك القرآن وَ لَنْ نُشْرِكَ بعد سماع القرآن بِرَبِّنا أَحَداً أي لم نجعل له شريكا.

[4] وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «الجد» هو الحظ، و المراد به هنا العظمة، أي تعالت و ارتفعت عظمته، من أن يكون له شريك أو زوجة أو أولاد مَا اتَّخَذَ

أي لم يتخذ اللّه سبحانه صاحِبَةً أي زوجة وَ لا وَلَداً فقد كان بعض الكفار يقولون أنه سبحانه اتخذ زوجة من الجن، كما قال

______________________________

(1) النحل: 69.

(2) القصص: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 527

[سورة الجن (72): الآيات 4 الى 6]

وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6)

سبحانه وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «1»، فنفت الجن هذا الكلام.

[5] وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي جاهلنا، و المراد به جنس الجهال منهم عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي كذبا و بعدا عن الحق، و كأن المراد بذلك ما شاع بينهم من أنه تزوج بالجنية، أو المراد «بسفيه منا» إبليس- لأنه من الجن- و المراد أقواله حول اللّه سبحانه، من نسبة الشريك إليه و ما أشبه.

[6] وَ أَنَّا ظهر لنا الآن كذب ذلك السفيه بعد ما كنا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ الإتيان بالفعل مؤنثا باعتبار «الجماعة» عَلَى اللَّهِ كَذِباً فقد كنا نحسب أن ما يقولون من أن له سبحانه صاحبة و شريكا و ولدا صدق، و الآن تبين لنا كذبه.

[7] وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ أي يعتصمون و يستجيرون، و كان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال «أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه» و

قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال في هذه الآية «كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول قل لشيطانك فلان قد عاذ بك»

«2» فَزادُوهُمْ أي زاد الجن

الإنس العائذين بهم رَهَقاً أي طغيانا

______________________________

(1) الصافات: 159.

(2) بحار الأنوار: ج 60 ص 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 528

[سورة الجن (72): الآيات 7 الى 9]

وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)

حيث إنهم رأوا الجن ظهيرا لهم، أو زاد الإنس الجن طغيانا حيث إنهم ظنوا أن لهم مدخلا في الأمور الكونية حتى استعاذ بهم الإنس، و أصل الرهق اللحوق، و منه غلام مراهق، فكأن الإثم و الطغيان يلحق الإنسان، و لذا قيل له رهق.

[8] وَ أَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أنتم معاشر الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً رسولا، و هذا من تتمة كلام الجن الذين آمنوا بالرسول.

[9] وَ أَنَّا معاشر الجن لَمَسْنَا السَّماءَ أي مسسناها بإرادة الصعود في طبقات الجو فَوَجَدْناها أي ألفينا السماء مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة من الملائكة شدادا، «و حرس» جمع حارس و هو الحافظ، و شديد باعتبار كل واحد من الحفظة وَ شُهُباً جمع «شهاب» و هو نور يمتد في السماء حتى يطفأ، أنها هيأت لرجم من يريد استراق السمع من الشياطين.

[10] وَ أَنَّا معاشر الجن كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي محلات قريبة من مراكز الملائكة لنستمع ما يدار بينهم من أخبار الأرض لنعلم الأخبار و نأتي بها إلى الكهنة، و هذا إلى قبل ميلاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بعثته فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ منا إلى كلام الملائكة يَجِدْ لَهُ أي لنفسه شِهاباً رَصَداً يرمى به و يرصد له، ففي

النجوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 529

[سورة الجن (72): آية 10]

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)

عيّن مواضع لحراسة السماء من الجن و الشياطين، فمن يتقدم منهم ليسترق الكلام قذف بالشهاب حتى يحترق أو يطرد.

و

قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال- في حديث يذكر فيه سبب إخبار الكاهن-: و أما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك، و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم و إنما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء و يلبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللّه لإثبات الحجة و نفي الشبهة، و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من اللّه في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده يختلط الحق بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو ما أداه إليه شيطانه مما سمعه، و ما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين من استراق السمع انقطعت الكهانة

«1».

[11] وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ حيث يرجم الشياطين، حتى تقطع الأخبار عن أهل الأرض بعذابهم، فيفاجئون بالعذاب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً بأن يبعث فيهم نبيا؟ و الحاصل أن رجم الشياطين لأحد أمرين إما لشر أو لخير؟ و هذا يؤيد كون المراد من الرجم وقت ولادة الرسول، و أن هذا الكلام من الجن حكاية حال ماضية، و إلا فقد عرفوا النبأ بعد فترة و خصوصا عند وصولهم إلى خدمة الرسول صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 60 ص 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 530

[سورة الجن (72): الآيات 11 الى 13]

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13)

[12] وَ أَنَّا معاشر الجن مِنَّا أي بعضنا الصَّالِحُونَ بالإيمان و العمل الصالح وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ الصلاح، و إنما عبر بهذا التعبير ليشمل الفرق المختلفة كُنَّا في السابق طَرائِقَ قِدَداً أي على طرائق مختلفة «و قدد» جمع قدة و هي القطعة، كأن لكل مذهب لونا مختلفا، فهم قطعة مخالفة لقطعة أخرى، و كأن هذه التفصيلات المنقولة من كلام الجن لبيان حقيقتهم، و توضيح ما يرتبط بهم من المزايا و الأحوال.

[13] وَ أَنَّا معاشر الجن ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ بأن نجمع جموعا و نهيئ قوى حتى يعجز سبحانه من التصرف فينا كيف يشاء، و إنما جاء بلفظ الظن، إما لأنهم ظنوا ذلك و لم يتيقنوا، أو لبيان أن الظن كاف في عدم إرادة المخالفة معه سبحانه وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي لا نتمكن من تعجيزه بهربنا من قدرته، فإن قدرته شاملة منبسطة لا يمكن الفرار منها.

[14] وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى حيث سمعنا قرآن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آمَنَّا بِهِ أي بالهدى و هو الإسلام فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ إيمانا صحيحا فإنه لا يَخافُ بَخْساً أي تنقيصا لحقه في الدنيا و في الآخرة وَ لا رَهَقاً أي ظلما و طغيانا بالنسبة إليه، فإنه سبحانه عادل

لا يظلم أحدا، أما غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 531

[سورة الجن (72): الآيات 14 الى 17]

وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)

المؤمن فإنه يخاف البخس، إذ حسناته تمحى بسبب سيئاته، و يخاف الرهق بمعنى تبعة الإثم- كما سبق في معنى الرهق.

[15] وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ الذين دخلوا في دين اللّه الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ من «قسط» بمعنى جار، أي الجائرون الحائدون عن طريق الحق فَمَنْ أَسْلَمَ أي دخل في الإسلام فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا أي طلبوا و التمسوا رَشَداً أي هداية و حقا فيه الرشد و العقل، و التحري هو التطلب و التماس الشي ء.

[16] وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ العادلون عن طريق الحق فَكانُوا أي يكونون- أو كان: لمجرد الربط- لِجَهَنَّمَ حَطَباً يلقون فيها فيوقدونها كما يوقد الحطب النار، كما قال سبحانه وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «1».

[17] وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا هؤلاء القاسطون عَلَى الطَّرِيقَةِ الحقة بأن لم يحيدوا عنها لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً يقال ماء غدق: أي كثير و هذا كناية عن الإفضال عليهم، و هذا ابتداء من كلام اللّه سبحانه.

[18] لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي كنا نسقيهم الماء الكثير لامتحانهم في ذلك السقي، فإن النعم للامتحان، كما أن النقم للاختبار، و ليس المقصود من

______________________________

(1) البقرة: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 532

[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 20]

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ

يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20)

الامتحان إلا ظهور السرائر، لتبيين مقادير الاستحقاق في الآخرة، أو أنه تعليل لمجي ء الهدى، أي أنا إنما أرسلنا الرسول و أنزلنا الهدى للامتحان وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ بأن اتخذ طريقة الكفر و العصيان يَسْلُكْهُ أي يدخله اللّه سبحانه عَذاباً صَعَداً أي عذابا يصعد عليه و يعلوه، بحيث يشمل جميع جسمه من قرنه إلى قدمه، أو عذابا غليظا صعبا.

[19] و إذ بين كون الهدى إنما هو للامتحان، جاء السياق ليبين أنه لا يحق لأحد أن يخضع لغير اللّه سبحانه وَ أَنَّ الْمَساجِدَ جمع «مسجد» و هو مواضع السجود من الوجه و الكفين و غيرهما لِلَّهِ فإنها مخلوقة له مملوكة لذاته المقدسة فَلا تَدْعُوا أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ أَحَداً و كيف تدعو غيره بعضو هو له؟ و يحتمل أن يكون المساجد أعم مما تقدم و من المساجد المبنية، و فيه نهي عن الدعاء لغيره سبحانه فيها، كما كان المشركون يدعون الأصنام في بيت اللّه تعالى.

[20] وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوهُ يدعو اللّه سبحانه وحده كادُوا أي الكفار يَكُونُونَ عَلَيْهِ على الرسول لِبَداً أي متكاثرين عليه ليمنعوه عن الدعوة، و الظاهر أن هذه الجمل كلها من كلام الجن، و أن قوله «لنفتنهم» معترضة.

[21] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار الذين كادوا يكونون لبدا عليك:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 533

[سورة الجن (72): الآيات 21 الى 23]

قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ

بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23)

إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وحده لا شريك له وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أي بربي أَحَداً فليس ذلك بدعا جديدا يوجب تكاثركم علي و إرادتكم منعي منه.

[22] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا بأن أضركم وَ لا أملك لكم رَشَداً بأن أرشدكم، و إنما الضرر و الإرشاد بيد اللّه، و أنه هو الذي أمرني بإرشادكم، فإن لم تقبلوا فهو الذي ينزل الضر بكم، و هذا لبيان أني رسول اللّه فقط لا شي ء بيدي سوى الهداية و الإرشاد.

[23] حتى أنا فليس ضري و خيري بيدي قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي أي لن يحفظني مِنَ تقدير اللَّهِ أَحَدٌ إذا أراد سبحانه بي ضررا وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ سبحانه مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه، من التحد بمعنى مال، و الإنسان الخائف دائما يطلب الملجأ في منعطفات الطريق.

[24] إني لا أملك شيئا إِلَّا بَلاغاً أي تبليغا مِنَ قبل اللَّهِ سبحانه بأن أبلغكم آياته وَ رِسالاتِهِ و هذا استثناء منقطع من «لا أملك» و ما بعده، و قد سبق أن الاستثناء المنقطع ينحل إلى ثلاث جمل، ففي المقام هكذا «لا أملك شيئا» «إلا بلاغا» «و لا أملك لكم أو لي ضرا أو خيرا» و كأنه قال «لا أملك كذا» و «أملك كذا»، و حق البلاغ منه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 534

[سورة الجن (72): الآيات 24 الى 25]

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25)

سبحانه حق

لا يكون لكل أحد، كما أن رسالاته سبحانه شي ء و الرسول يملك ذلك الحق كما يعرف الرسالات، فهما شيئان لا شي ء واحد حتى يقال: إن العطف للبيان.

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ بعدم إطاعة أوامره وَ رَسُولَهُ بعدم امتثاله فيما يأمر و ينهي فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ جزاء لعصيانه خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم دائمين في النار أَبَداً و توحيد الضمير في «له» باعتبار لفظ «من» و تجميعه في «خالدين» باعتبار معناه، و قد قالوا يجوز في ضمير «من و ما» مراعاة اللفظ و المعنى.

[25] لكن الكفار لا يبالون اليوم بالنار حَتَّى إِذا رَأَوْا هؤلاء الكفار ما يُوعَدُونَ أي العذاب الذي وعدوا به في الدنيا فَسَيَعْلَمُونَ إذا رأوا مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً هل ناصر الرسول أضعف أم ناصرهم وَ أَقَلُّ عَدَداً فهل جيش الرسول و أعوانه أقل أم جيشهم و أعوانهم، فقد كان الكفار يفتخرون على الرسول بكثرة جموعهم و ضعف أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى السياق ليبين أن في الآخرة تنقلب الكفة، و أنه يتبدد عددهم و يضعف ناصرهم، فلا يقوى من إنجائهم من عذاب اللّه سبحانه.

[26] و قد كان الكفار يستعجلون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إنزال العذاب بهم- استهزاء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- فجاء السياق لردهم بقوله: قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الكفار المستعجلين: إِنْ أَدْرِي أي ما أدري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 535

[سورة الجن (72): الآيات 26 الى 28]

عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ

بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)

أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أي هل قريب العذاب الذي وعدتم به لكفركم و عصيانكم أَمْ يَجْعَلُ لَهُ أي ل «ما توعدون» رَبِّي أَمَداً أي مدة، فهو بعيد عنكم؟ فإن عذاب القيامة مجهول الوقت إلا عنده سبحانه، فعنده علم الساعة.

[27] فإنه وحده عالِمُ الْغَيْبِ يعلم ما غاب عن الحواس فَلا يُظْهِرُ أي لا يعلم عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه هو أَحَداً من عباده، فإن علم الغيب خاص به.

[28] إِلَّا مَنِ ارْتَضى أي اختاره للاطلاع على الغيب مِنْ رَسُولٍ أو المعنى إلا من ارتضاه للرسالة من أفراد الرسل، فإنه تعالى يظهره على قدر من الغيب- حسب الحكمة و الصلاح- و التي يخبر الإمام أو سائر الناس بقدر ما أذن له في الإخبار، و إذ أعلمه اللّه سبحانه بالغيب أحاطه بجملة من الحفظة حتى يكونوا مراقبين عليه في البلاغ، مع أنه مأمون في نفسه، و أن اللّه عالم به، و لكن هذا للتشريفات، كما و كل بالعباد حفظة مع أنه عالم بما يصدر منهم.

فَإِنَّهُ سبحانه يَسْلُكُ أي يجعل في الطريق مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من أمام الرسول وَ مِنْ خَلْفِهِ أي ورائه رَصَداً من الملائكة يرصدونه في أعماله، تشريفا للغيب و الوحي الذي أعلم الرسول به.

[29] و إنما يرصد لِيَعْلَمَ اللّه سبحانه، و المراد ليقع متعلق علمه في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 536

الخارج، كقوله حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ «1» إلى غير ذلك أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أولئك الرسل الذين أطلعهم على علم الغيب رِسالاتِ رَبِّهِمْ فكل ما أوحي إليه رسالة، و مجموع الوحي رسالات وَ ذلك ليس لأنه لا يعلم- بل للتشريفات، كما ذكرنا- إذ قد أَحاطَ اللّه سبحانه بِما

لَدَيْهِمْ أي بما يفعله الأنبياء من تبليغ الرسالة وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً فعلم أعداد الأشياء كلها، فإحاطته بما لدى الأنبياء من مصاديق إحصائه سبحانه عدد كل شي ء من الخلائق و الأعمال و الأحوال.

هذا هو المعنى الذي استظهرته من الآيات المباركة حسب ما يظهر من السياق، و هناك قول آخر في معانيها ليس بهذا القرب إلى الظاهر، و اللّه سبحانه أعلم بمراده.

______________________________

(1) محمد: 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 537

73 سورة المزمّل مكية- مدنية/ آياتها (21)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المزمل»، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على النظام و العقيدة، و قيل هي مختلطة من المكية و المدنية. و حيث ختمت سورة الجن بذكر الرسل، ابتدأت هذه السورة بذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ في السورة باسم الإله، أي ملابسا مع هذا الاسم الكريم، الذي بيد مسماه الكون كله، الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء خلقا و تربية، حتى يصل كل شي ء إلى كماله اللائق به، و يرحم عبيده المؤمنين في الآخرة بالثواب و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 538

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)

[2] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أصله «المتزمل» من باب التفعيل، ثم أدغمت التاء في الزاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و معنى «تزمل» تلفف في ثوب و نحوه، فقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزمل بثوبه و ينام، فخوطب بهذا الخطاب لمناسبة

الحالة للأمر المتوجه إليه في قيام الليل.

[3] قُمِ في اللَّيْلَ لأداء صلاة الليل إِلَّا قَلِيلًا منه فلك أن تنام فيه.

[4] ثم بين سبحانه مقدار القليل الذي سمح للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنوم فيه بقوله:

نِصْفَهُ أي نم في مقدار نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي من النصف قَلِيلًا بأن تضيف على سهرك، فيكون نومك أقل من النصف.

[5] أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف، بأن تضيف على نومك فيكون نومك أكثر من النصف، و الحاصل أن المأمور به السهر بمقدار نصف الليل، أو أكثر من النصف، أو أقل من النصف- و المحور النصف- وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ أي اقرأه قراءة متوسطة لا بسرعة و لا ببطئ زائد تَرْتِيلًا تأكيد ل «رتل».

و قد سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية فقال: بيّنه بيانا و لا تهذه هذو الشعر «أي لا تسرعون في قراءته كما تسرعون في قراءة الشعر» و لا تنثره نثر الرمل «أي لا تفرقوا بعضه عن بعض كثير الرمل» و لكن أفزعوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة

«1».

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 614.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 539

[سورة المزمل (73): الآيات 5 الى 8]

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)

[6] إِنَّا سَنُلْقِي أي سنوحي عَلَيْكَ يا رسول اللّه قَوْلًا ثَقِيلًا أي كلاما يثقل عليك القيام به، و المراد به القرآن، فإنه يثقل على الإنسان العمل به، أو الرسالة فإنه يثقل أداؤها، أو القيام بالليل.

[7] كما فسر قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي

ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة، و المقصود العمل فيها أو المراد العبادة التي تنشأ في الليل. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي أكثر ثقلا و كلفة، لصعوبة القيام ليلا شتاء لبرد الهواء، و صيفا لقصر الليالي، و لعل المراد كونها أشد من ناشئة النهار وَ أَقْوَمُ قِيلًا أي قول الليل و عبادته أكثر قواما و استمساكا لأنه يؤدى بحضور القلب و توجه الذهن، و لأن أفضل الأعمال أحمزها.

[8] إِنَّ لَكَ يا رسول اللّه فِي النَّهارِ سَبْحاً «السبح» التقلب و منه يسمى المتقلب في الماء سابحا: أي تقلبا في أشغالك طَوِيلًا من إراءة الطريق، و الإرشاد، و سائر الأعمال فلا يتأتى منك أن تعبد كما ينبغي، و لذا جعل الليل للعبادة.

و قد روي إن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان يعمل طول النهار، و يعبد طول الليل، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا تهدأ؟ قال: إذا هدأت النهار كان فيه ضياع الأمة، و إذا هدأت الليل كان فيه ضياع نفسي.

[9] وَ اذْكُرِ يا رسول اللّه اسْمَ رَبِّكَ بأن تعبده و تخضع له وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «التبتل» هو الانقطاع إلى اللّه عزّ و جلّ و إخلاص العبادة له،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 540

[سورة المزمل (73): الآيات 9 الى 12]

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12)

من «بتل» بمعنى قطع، و إنما قال «إليه» لأن الانقطاع عن الخلق إليه، لا كون الانقطاع عنه.

[10] ثم بين «ربك» بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ هو كناية عن الكون، لأن من

بيده المشرق و المغرب كان بيده العالم كله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له كما يزعم المشركون، و لذا لا يحق العبادة لغيره فَاتَّخِذْهُ يا رسول اللّه وَكِيلًا أي حفيظا للقيام بأمرك و فوض إليه أمرك.

[11] وَ اصْبِرْ يا رسول اللّه في توحيدك و نبذ الأصنام عَلى ما يَقُولُونَ أي الكفار حولك من أنك ساحر أو كاهن أو مجنون أو ما أشبه ذلك وَ اهْجُرْهُمْ أي ابتعد عنهم هَجْراً جَمِيلًا بأن تدعوهم إلى الهدى في عين حالة الهجر، بالحكمة و الموعظة الحسنة و المجادلة بالتي هي أحسن.

[12] وَ ذَرْنِي أي دعني لهم فأنا أكفيك شرهم وَ الْمُكَذِّبِينَ برسالتك و ما جئت به أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب الثروة و غيرها من سائر النعم، فكل جزاءهم أليّ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي إنهم بعد قليل سيقعون في العذاب، عذاب الدنيا في قصة بدر، و عذاب الآخرة. و قوله «مهلهم» كناية عن الصبر معهم، و هذا تهديد للكفار.

[13] إِنَّ لَدَيْنا في الآخرة، و المراد ب «لدينا» لدى حسابنا و جزائنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 541

[سورة المزمل (73): الآيات 13 الى 15]

وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)

أَنْكالًا جمع «نكل»، و هي القيود و الأغلال وَ جَحِيماً أي نارا كثيرة، فإن جحيم بمعنى ذلك، و هي من أسماء جهنم.

[14] وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ «الغصة» تردد اللقمة في الحلق بحيث لا يتمكن الإنسان من إساغتها، أي أن أطعمة النار المهيئة لهم ذات غصة فلا يتمكن المجرم من إساغتها إلا بعد علاج و صعوبة وَ عَذاباً

أَلِيماً مؤلما موجعا.

[15] إن هذه الألوان من العذاب إنما هي في يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي تتحرك و تضطرب، فإن الزلزال من علائم القيامة، كما قال سبحانه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ «1» وَ الْجِبالُ لتكثير الهول وَ كانَتِ الْجِبالُ في ذلك اليوم كَثِيباً مَهِيلًا «الكثيب» الرمل المجتمع الكثير «و المهيل» هو السائل المتناثر، من هال: إذا حرك أسفله فتحرك و سال أعلاه، أي تكون الجبال هكذا سائلة في الأرض.

[16] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ أيها الكفار رَسُولًا يعني محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ بما تعملون من الاعتقاد و العمل، الصحيح أو الفاسد كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا و هو موسى عليه السّلام.

______________________________

(1) الحج: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 542

[سورة المزمل (73): الآيات 16 الى 19]

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

[17] فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ بأن لم يطع أوامره، بل خالفه و عانده فَأَخَذْناهُ أي أخذنا فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا بإغراقه في البحر، و هكذا أنتم إن لم تؤمنوا أخذناكم بصنوف العذاب.

[18] فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أيها الكفار، أي تجتنبون إِنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا يَوْماً أي من عذاب يوم- و هو مفعول «تتقون» يَجْعَلُ الْوِلْدانَ جمع ولد شِيباً جمع أشيب، و هو البالغ سن الشيب و الشيخوخة فإن يوم القيامة لشدة أهوالها يجعل الأولاد في صورة الشيوخ ببياض الشعر و نحوه، أي هل تتمكنون من الاتقاء عن عذاب يوم القيامة؟ و إذ لا تتمكنون فكيف تكفرون حتى تبتلوا به؟

[19] السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي بذلك اليوم، أي

أن السماء تنفطر بسبب أهوال ذلك اليوم، و السماء يجوز فيها التذكير و التأنيث، و لذا قال في مقام آخر إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» و الانفطار هو الانشقاق، بأن يرى السماء كالشي ء المنشق، لاختلال نظام المدارات، و لون الهواء و غير ذلك كانَ وَعْدُهُ سبحانه بمجي ء هذه الأمور مَفْعُولًا أي كأنه لا خلف فيه و لا تبديل.

[20] إِنَّ هذِهِ أي صفة الأمور التي ذكرناها لأهوال ذلك اليوم تَذْكِرَةٌ

______________________________

(1) الإنفطار: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 543

[سورة المزمل (73): آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

و موعظة لكم أيها البشر فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي سلك سبيلا يؤدي إلى رضوانه، و هو سبيل الدين و الإسلام.

[21] ثم عطف السياق نحو قيام الليل الذي ابتدأ به الكلام فقال إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي في الوقت الذي هو أقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ففي بعض الليالي كان الرسول يقوم قبل ثلثي الليل بأن كان الباقي إلى الفجر ثلثان، و في بعض الليالي قبل النصف، و في بعض الليالي قبل الثلث وَ تقوم

طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ من المؤمنين كالإمام المرتضى عليه السّلام و الصديقة الطاهرة عليهم السّلام و سائر الخواص.

وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي أن مقدار الليل و النهار بيده، فهو المقدر لها، و المقدر يعلم الأمور المرتبطة بما قدره، و لذا عَلِمَ اللّه سبحانه أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي لا تتمكنون من إحصاء الليل كله، بأن تقوموا فيه من أوله إلى آخره في العبادة و الطاعة فَتابَ عَلَيْكُمْ بأن لم يفرض القيام في الليل عليكم عطفا و تفضلا، مع أن المقتضي للإيجاب كان موجودا فَاقْرَؤُا في الليل ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي من الشي ء الذي يقرأ، و المراد به الصلاة و الدعاء و نحوهما، و المعنى أنه حيث لا تقدرون على القراءة كل الليل فاقرؤوا ما سهل عليكم و تيسر عندكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 544

ثم بين سبحانه حكمة التسهيل بقوله: عَلِمَ اللّه تعالى أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى جمع «مريض»، و المريض لا يقدر على قيام الليل وَ آخَرُونَ منكم يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي يسافرون يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون الفضل و التجارة وَ آخَرُونَ منكم يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و سبيل دينه، و المسافر و المحارب حيث تعبا في النهار لا يسهل عليهما قيام الليل، و لذا خفف سبحانه عنكم و لم يلزمكم بالقيام، أو بمقدار خاص كالنصف و الثلث و الثلثين فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ و سهل مِنْهُ أي من القرآن، و المراد به الصلاة و الدعاء و القرآن الحكيم فإن القرآن مطلق ما يقرأ، فإن هذه العلل الخاصة أوجبت تخفيفا عاما- على نحو الحكمة- وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ في أوقاتها كما فرض سبحانه وَ آتُوا الزَّكاةَ أي أعطوها واجبها و

مندوبها وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بإنفاق المال في مراضيه، بلا من أو رياء أو سمعة أو عجب، و كونه إقراضا باعتبار أنه سبحانه يرده على الإنسان في الدنيا و الآخرة أضعافا مضاعفة.

وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إلى الآخرة مِنْ خَيْرٍ أي طاعة و عبادة فإن ما يعمله الإنسان من الخير يقدم له إلى الجنة حتى إذا ذهب إليها وجد فيها ثواب ما عمل تَجِدُوهُ أي ذلك الخير عِنْدَ اللَّهِ في دار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 545

كرامته هُوَ أي تجدوه هو- بعينه بلا نقصان أو اختلاف- خَيْراً أي في حال كونه خيرا، أو بحذف «تجدوا» أي تجدوا خيرا، أو أنه بيان لهاء «تجدوه»، وَ في حال كونه أَعْظَمَ أَجْراً أي ثوابا مما كان هو، فثوابه في الآخرة أعظم من نفسه في الدنيا، إذا كان في الدنيا يساوي عشرة، فتجدون في الآخرة ثوابه مائة- مثلا- أو أعظم أجرا من الذي يبقى في الدنيا وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا غفرانه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ يتفضل بالرحمة فوق غفران الذنوب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 546

74 سورة المدثر مكيّة/ آياتها (57)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المدثر»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث ختمت سورة المزمل بالصلاة و القرآن و سائر أنواع الخير، افتتحت هذه السور بذكر بعض أنواعها الأخر من القيام بالتبليغ، و التكبير، و التطهير.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون لنا عونا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم و الفضل على العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 547

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ

ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)

[2] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المدثر أصله من «تدثر» باب التفعل، أدغمت التاء في الدال، وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و المدثر هو لابس الدثار، و الدثار هو ما يلبسه الإنسان فوق الثوب الملاصق لجسده لأجل التدفئة، و في مقابله الشعار و هو الثوب اللاصق بالبدن، يسمى به لأنه لاصق بشعر الإنسان.

و قد روي أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أوحي إليه أخذته الرعدة من الهيبة فقال لخديجة عليها السّلام: دثريني، فدثرته، فجاء النداء «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ».

[3] قُمْ من استراحتك فَأَنْذِرْ الناس و خوفهم من العقاب إن تمادوا في الكفر و العصيان.

[4] وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ أي كبر اللّه و عظمه- وحده دون الأصنام-.

[5] وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ فإن المسلم يجب عليه تطهير قلبه عن أدران الشرك بتكبير اللّه وحده، و تطهير ثيابه عن الأوساخ بتقصير ذيله حتى لا يتسخ، و تنظيفه من النجاسات. و قد روي في معنى الآية التطهير من النجاسة و التطهير بالتقصير- و ذلك لأن المراد هو الأعم منهما-

و في الحديث «قصر ثوبك يكون أتقى و أنقى و أبقى».

[6] وَ الرُّجْزَ أي القذارة بأقسامها الشاملة للأصنام و للنجاسات الظاهرية، و للرذائل فَاهْجُرْ أي ابتعد عنها.

[7] وَ لا تَمْنُنْ في العطاء تَسْتَكْثِرُ أي تطلب الكثير بعدم المنّة، فإن ما يراد به وجه اللّه يضاعف، أو

المعنى لا تعط العطية تلتمس أكثر منها-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 548

[سورة المدثر (74): الآيات 7 الى 13]

وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ

يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11)

وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13)

كما عن الباقر عليه السّلام «1»

- أو لا تمنن بعطائك، على الناس مستكثرا ما أعطيته.

[8] وَ لِرَبِّكَ أي لأجله سبحانه فَاصْبِرْ على أذى الكفار و المشركين.

[9] فإنه سيأتي يومهم الذي ينتقم فيه منهم فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصور، و النقر هو الضرب في الشي ء، و منه نقر الغراب، «و الناقور» فاعول، بمعنى البوق، لأنه ينقر فيه، فإن النفخ كالنقر.

[10] فَذلِكَ النقر يَوْمَئِذٍ أي يوم ينقر يَوْمٌ عَسِيرٌ صعب شديد.

[11] عَلَى الْكافِرِينَ باللّه و رسوله و ما جاء به من عنده غَيْرُ يَسِيرٍ أي غير سهل، فإن في ذلك اليوم يعذب الكافر. و هذه الجملة للتأكيد، و إفادة أن عسر ذلك اليوم إنما هو للكافر، لا للمؤمن التقي.

[12] ذَرْنِي أي دعني يا رسول اللّه وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي في حال كونه وحيدا لا مال له و لا أولاد، و المعنى انا أكفيك شره، و أنتقم منه جزاء لتكذيبه.

[13] وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي ذا مدّ و طول، فقد كان «وليد» الذي نزلت فيه هذه الآيات صاحب أموال كثيرة.

[14] وَ جعلت له بَنِينَ أي أولادا شُهُوداً أي حضورا عنده،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 93 ص 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 549

[سورة المدثر (74): الآيات 14 الى 17]

وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)

و هذه نعمة أخرى بأن يكون أولاد الإنسان عنده لا يغيبون عنه.

[15] وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي هيأت له الأمور تمهيدا، بأن صار ذات جاه في قومه، و مكانة في البلد، و

هيأت له الأسباب.

[16] ثُمَّ يَطْمَعُ هذا الشخص أَنْ أَزِيدَ ماله و أولاده.

[17] كَلَّا لا أزيد بعد ذلك شيئا له، فقد كفر بي، و أبدل مكان الشكر كفرانا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي معاندا لأدلتنا و حججنا لا يؤمن بها عنادا و مضادة.

[18] سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً أي سأكلفه مشقة من العذاب لا طاقة له بها، و الصعود هي العقبة الشاقة المصعد، فإن من يكلف صعودها يشق عليه، فقد شبه العذاب بذلك للتقريب إلى الذهن.

و قد ورد في سبب نزول هذه الآيات و ما بعدها ما ذكره القمي قال نزلت في الوليد بن المغيرة، و كان شيخا مجربا من دهاة العرب و كان من المستهزئين برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان رسول اللّه يقعد في الحجر و يقرأ القرآن، فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة، فقالوا:

يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه، فدنى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال:

يا محمد أنشدني من شعرك؟ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هو شعر، و لكنه كلام اللّه الذي ارتضته ملائكته و أنبياؤه و رسله. فقال: اتل علي منه شيئا، فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حم السجدة، فلما بلغ قوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 550

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 599

[سورة المدثر (74): الآيات 18 الى 19]

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ «1» قال: فاقشعر الوليد

و قامت كل شعرة في رأسه و لحيته، و مر إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك اليوم. فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إن أبا عبد شمس صبأ «أي مال إلى دين محمد» أما تراه لم يرجع إلينا؟ فغدا أبو جهل إلى الوليد، فقال له: يا عم نكست رؤوسنا و فضحتنا و أشمت بنا عدونا و صبوت إلى دين محمد؟ فقال: ما صبوت إلى دينه و لكن سمعت منه كلاما صعبا تقشعر منه الجلود، فقال له أبو جهل: أخطب هو؟ قال:

لا، إن الخطب كلام متصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضا.

قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أما إني لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه فلما كان من الغد قالوا له: يا أبا عبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا هو سحر فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه على رسوله في ذلك «ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» و إنما سمي وحيدا لأنه قال لقريش: أنا أتوحد بكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق و كان له عشرة بنين بمكة، و كانت له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها

«2».

[19] إِنَّهُ أي الوليد فَكَّرَ حول القرآن وَ قَدَّرَ القول في نفسه.

[20] فَقُتِلَ دعاء عليه، أي قتله اللّه كَيْفَ قَدَّرَ؟ تقديرا يوافق أهواء المكذبين و أذهان العامة، فإن الناس يسرعون إلى نسبة السحر إلى كل

______________________________

(1) فصلت: 14.

(2) تفسير القمي: ج 2 ص 393.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 551

[سورة المدثر (74): الآيات

20 الى 26]

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)

إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)

ما خرج عن طورهم، و هذا تعجب من تفكيره و تقديره.

[21] ثُمَ للتراخي في الكلام لا في الخارج قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير لشدة التعجب منه، و إعادة الدعاء عليه.

[22] ثُمَّ نَظَرَ في طلب ما يدفع به القرآن، و النظر هنا التفكر.

[23] ثُمَّ عَبَسَ أي قطب وجهه و كلحه، وَ بَسَرَ البسور بدو التكره في الوجه.

[24] ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الحق، و أن يقول في القرآن ما علمه منه وَ اسْتَكْبَرَ فقد منعه كبره عن القول بالحق.

[25] فَقالَ إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى عن السحرة.

[26] إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ فليس وحيا منزلا من السماء.

[27] ثم جاء السياق ليهدده لهذا الكلام المكذوب الذي افتراه، فإنه لو كان سحرا لقدر السحرة على الإتيان بمثله، و لقدر المشرعون في العالم أن يضعوا قوانين شبيهة به، لكنه كلام اللّه و قد علموا به و إنما منعهم عن ذلك كبرهم و تمردهم سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أي سأدخله جهنم، و ألزمه إياها، فإن «الإصلاء» إلزام موضع النار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 552

[سورة المدثر (74): الآيات 27 الى 31]

وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)

[28] وَ ما أَدْراكَ أيها السامع ما سَقَرُ أي أنت لا تدري ما هي لشدة عذابها، حتى كأن الإنسان لا يمكن أن يعرفها على حقيقتها.

[29] لا تُبْقِي شيئا مما يطرح فيها، بل تأكل اللحم و تحرق الجلد و العظم وَ لا تَذَرُ إما تأكيدا أو بمعنى أنها لا تدعهم يفنون حتى ينجوا من العذاب، بل تحرق و تعيد، و هكذا دواليك.

[30] لَوَّاحَةٌ من التلويح بمعنى تغيير اللون بواسطة الشمس و نحوها لِلْبَشَرِ أي أنها تغير الجلود، و «البشر» جمع بشرة، و هي ظاهر الجلد.

[31] عَلَيْها أي الملائكة الموكلون عليها تِسْعَةَ عَشَرَ و هذا أحد الأعداد الممكنة، و لا مجال لأن يقال: لماذا ليسوا أكثر و لا أقل؟ فإن أي عدد كان محل هذا السؤال، كما أن في سائر الأعداد أيضا لا إشكال، كثمانية أبواب للجنة، و سبعة للنار، و سبع سماوات طباقا و هكذا.

[32] وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي الموكلون بها إِلَّا مَلائِكَةً لأنهم أقوى، و لعدم رقتهم لأهل النار، بخلاف ما لو كانوا آدميين وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ أي تعدادهم بكونهم تسعة عشر إِلَّا فِتْنَةً و امتحانا لِلَّذِينَ كَفَرُوا حتى يتبين هل هم يؤمنون أم يضحكون من هذا العدد قائلين لا يكفي هذا العدد القليل لتعذيب الكثرة من الكفار و العصاة فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 553

مخلوقاته سبحانه موجبة للفتنة و الامتحان سواء كانت نعما أو نقما في الدنيا أو في الآخرة، و

سواء كان أصل الشي ء أو خصوصياته و مزاياه.

و قد ذكرنا عدد الملائكة في القرآن لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود و النصارى بأن الرسول حق، حيث يرون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر بما هو في كتبهم مما لا يعلمه أحد إلا هم فقط، فإخبار إنسان لا يطلع على كتبهم و لم يسمع منهم بذلك يوجب تعيينهم بأنه حق و إنما تعلم ذلك بالوحي وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا بالرسول إِيماناً حيث يرون تصديق أهل الكتاب- الذين هم أهل الفن- للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيوجب ذلك زيادة إيمانهم وَ لا يَرْتابَ أي لا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ في نبوة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا تأكيد للجملة السابقة، فإن المؤمن قلبا من أهل الكتاب، و المؤمن ظاهرا من سائر الناس بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في معرض الشك و الزوال، كما هو الشأن في كل ملكة إذا لم تقو، فإذا وجد هذا الشاهد تقوت الملكة، و لم يكن الإنسان معرضا للريب.

وَ لِيَقُولَ اللام للعاقبة، أي أن الغاية من تعريف عدد خزنة النار أمران: الأول زيادة إيمان المؤمنين، و حصول العلم لأهل الكتاب بصدق الرسول. الثاني شدة نفاق المنافق، و كفر الكافر، فيقول الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من المنافقين وَ الْكافِرُونَ بالرسول:

ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ فكأنهم زعموا أن هذا العدد الخاص من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 554

[سورة المدثر (74): آية 32]

كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32)

باب المثل، لا أنه حقيقة مطابق لعدد الموكلين بالنار، فأخذوا يستفسرون عن قصد هذا المثل، فشأن المعاند حيث يستفسر حول كل كلمة من كلمات

خصمه لأن التواء قلبه يوجب أن يرى كل شي ء متساويا.

ثم يأتي السياق ليبين جواب هؤلاء السائلين بقوله: كَذلِكَ أي ببيان الحقائق، كما بين عدد ملائكة النار يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فإنه إذا ذكر الحقيقة نفر عنها أناس، فذلك إضلال لهم وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إذ يتعلق بالإيمان أناس آخرون و ذلك هداية لهم، فإن إضلاله و هدايته ليسا بمعنى الجبر، بل بمعنى إنزال آية أو بيان حكم يوجب الضلال و الهدى ليمتحن الناس.

و بمناسبة بيان عدد جنوده الموكلين، بالنار جاء السياق ليقرر حقيقة عامة بقوله: وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ الموكلين بكل شي ء، المحافظين لكل خلق إِلَّا هُوَ سبحانه وحده، إلا إذا أعلم ذلك لبعض، فليس لأحد أن يقول: أن جند كذا أكثر أو أقل مما يخبر اللّه سبحانه وَ ما هِيَ أي سقر التي تقدم الكلام حولها إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي تذكرة لهم، بمعنى أن ذكرها يذكرهم بالعذاب فيقلعوا عن المعاصي، أو ان هذه السورة تذكرة لهم.

[33] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم هؤلاء الكفار من أنه لا حساب و لا جزاء وَ الْقَمَرِ أي قسما بالقمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 555

[سورة المدثر (74): الآيات 33 الى 38]

وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)

[34] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ولّى و ذهب ليأتي مكانه النهار.

[35] وَ قسما ب الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي إذا أضاء و جاء.

[36] إِنَّها أي «سقر» التي تقدم الكلام حولها لَإِحْدَى الآيات الْكُبَرِ جمع كبري، أي إحدى آيات اللّه العظمى، فإن من قدر على خلق تلك

الآيات من القمر و الليل و النهار، لقادر على خلق النار و سقر لتعذيب الكفار و غير المؤمنين، و لعل اختيار الحلف بهذه الأمور لإيحائها بالظلمة المختلطة بشي ء من الضياء، كالنار التي هي كذلك، كما أن سكون هذه الأمور يوحي بسكون أهل النار الشبيه بالموت بخلاف أهل الجنة الذين هم أحياء.

[37] في حال كونها نَذِيراً لِلْبَشَرِ تنذرهم بأنهم إن لم يؤمنوا بها ابتلوا بها، كما تقول: هذه السلاسل تنذر المجرمين.

[38] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيها البشر أَنْ يَتَقَدَّمَ إلى الخير لينجو أَوْ يَتَأَخَّرَ بالعصيان حتى يبتلي، فلكل إنسان أن يختار مصيره «إما إلى جنة و إما إلى النار».

[39] كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من الطاعة أو المعصية رَهِينَةٌ كالرهن الذي هو محبوس في مقابل الدين؛ فإن و في الدين فك و إلا لم يفك، و كذلك إذا وفى الإنسان بما عليه- من الإيمان و الطاعة- فك و حظي بالثواب، و إلا كان مصيره النار و البقاء في حبس الأبد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 556

[سورة المدثر (74): الآيات 39 الى 45]

إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45)

[40] إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ الذين يعطى كتابهم بأيمانهم، و يؤخذ بهم- يوم القيامة- ذات اليمين نحو الجنان، فإنهم قد فكوا أنفسهم من الرهن بأعمالهم الصالحة.

[41] فإنهم فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل بعضهم من بعض، أو من الملائكة، أو من نفس المجرمين.

[42] عَنِ الْمُجْرِمِينَ و على الأولين، يلتفتون بعد السؤال إلى المجرمين، كما قال سبحانه إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ .. إلى قوله: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ

الْجَحِيمِ* قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «1» و على الثالث يكون المسؤول ابتداء هو المجرم.

[43] فيقولون لهم: ما سَلَكَكُمْ أي ما أدخلكم أيها المجرمون فِي سَقَرَ في هذه النار العظيمة؟

[44] قالُوا أي المجرمون في جوابهم لَمْ نَكُ نحن في الدنيا مِنَ الْمُصَلِّينَ أي ما كنا نصلي الصلوات المفروضة.

[45] وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ إطعاما واجبا، بإعطاء الزكاة و نحوها.

[46] وَ كُنَّا نَخُوضُ في الباطل مَعَ الْخائِضِينَ أي مع الذين يخوضون في الباطل، و أصل «الخوض» الدخول في الشي ء بجميع الجسم فكأن

______________________________

(1) الصافات: 52- 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 557

[سورة المدثر (74): الآيات 46 الى 51]

وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)

الباطل شي ء يخاض فيه.

[47] وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ «الدين» هو الجزاء، أي لا نعترف بيوم القيامة، بل نقول أنه كذب لا يكون.

[48] حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت، بأن لم نتب قبل أن نموت و سمي الموت يقينا لأنه سبب لانكشاف ذلك العالم لدى الإنسان، حتى يتيقن بما هناك.

[49] و إذا كانوا كذلك في الدنيا فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ أي الذين يشفعون للمذنبين، من الأنبياء و الملائكة و العلماء و من أشبههم، إذ ذنبهم فوق حد الشفاعة، و هذا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا يشفع لهم أحد حتى تنفع.

[50] ثم يأتي السياق ليستغرب من عنادهم في الباطل فَما لَهُمْ أي ما لهؤلاء الكفار عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي لم أعرضوا عن القرآن الذي يذكرهم بالحقائق و بما فيه نفعهم؟ و أي خير لهم في هذا الإعراض؟

[51] كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع «حمار» مُسْتَنْفِرَةٌ

أي وحشية نافرة «و استنفر» بمعنى نفر، كأنها طلبت من نفسها الفرار، لما شاهدت من الخوف، و تشبيههم بالحمار لعدم إدراكهم و بلادتهم.

[52] فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي الأسد، فإن الحمار إذا شاهد الأسد فر منه، و كذلك الكفار يفرون من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 558

[سورة المدثر (74): الآيات 52 الى 56]

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

[53] بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى أي يعطى في يوم القيامة صُحُفاً مُنَشَّرَةً بأن يوحي إليه و ينزل عليه الكتاب من اللّه سبحانه كما قال سبحانه لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «1»؟ أو المراد أنهم مع هذا الإعراض عن الحق يريد أن يعطى كتابه يوم القيامة منشورا فيه الحسنات، إذ الكتاب إذا كان فيه سيئات يطوى لئلا يطلع عليه أحد، أما إذا كان فيه الحسنات ينشر على رؤوس الأشهاد للافتخار و المباهاة، و كأن الإتيان ب «بل» لإفادة أنهم مع الكفر يتوقعون هذا.

[54] كَلَّا لا يعطون كتابا منشورا، فإنهم لم يعملوا ما يستحقون به ذلك بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ حتى يدخلوا في زمرة المؤمنين الموجب لإعطاء كتاب منشور بأيديهم، أو المراد أنهم حيث لا يخافون الآخرة أعرضوا عن التذكرة.

[55] كَلَّا ليس الأمر على ما توهموا من أن إعراضهم خير لهم إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ أي القرآن يذكرهم.

[56] فَمَنْ شاءَ التذكرة و الاهتداء و الخير ذَكَرَهُ أي اتعظ به، و من لم يشأ فهو و شأنه.

[57] وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا

أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن التذكر له طرفان: إرادة اللّه

______________________________

(1) الفرقان: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 559

سبحانه بإرسال الرسول و إرشاد الناس، و تقبل الإنسان، فتذكرهم مرتبط بإرادة اللّه، و قد أراد سبحانه، و أرشد فبقي عليهم أن يقبلوا هُوَ سبحانه أَهْلُ التَّقْوى أي أهل لأن يتقى منه، إذ الإنسان إنما يتقي من العالم القادر الذي إذا خالفه الإنسان علم بالمخالفة و عاقب، و كل ذلك موجود فيه سبحانه وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي أهل لأن يغفر الذنب لمن اتقاه و جاء إلى الطريق، فاتقوه أيها الناس حتى يغفر لكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 560

75 سورة القيامة مكّية/ آياتها (41)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القيامة»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة «المدثر» بما يرتبط بالقيامة ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو الإله بالحق، و لا إله غيره، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 561

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)

[2] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «لا» للنفي، و قد سبق أن الإتيان بها لنكتة مليحة، هي أن الحالف يريد أن يبين و يؤكد المطلب غير حالف مع الإيماء إلى الحلف، كما تقول «لا أقسم بحياتك إلا أن الأمر كذا» تريد أن لا تحلف به- لأمر- مع الإلماع إلى الحلف لتحصل فائدة التأكيد.

[3] وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ و هي النفس اليقظة

التي تلوم صاحبها عن التقصير في خدمة اللّه سبحانه، و إن كان الإنسان في أرقى درجات الطاعة. و قيل أن جهة نفي القسم أن الكفار لم يكونوا يقرّون بالمقسمين، فكأنه قيل لا أحلف بهما لأنكم لا تقرون بذلك.

[4] أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي هل يظن أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد الموت لأن يحشر؟ و المعنى أ يظن أنه لا قيامة و لا معاد؟.

[5] و قد كان زعم الإنسان بعدم الجمع، من جهة حسبانه انه تعالى غير قادر على ذلك، و لذا جاء السياق لدفع هذا الزعم الباطل بقوله: بَلى نجمع عظامه فإنّا نكون قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي رؤوس أصابعه، و هذا في غاية القدرة، لأن خطوط أصابع الناس يختلف بعضها مع بعض و إن كان البشر عشرات الآلاف من الملايين، و من يقدر على صنع و إعادة أدق أجزاء الإنسان قادر على إعادة غير ذلك من سائر أجزائه: قالوا: و أعجب ما في الإنسان أربعة: اختلاف الأصوات، و الوجوه، و خطوط البنان، و ذبذبات الخطوط حتى أنّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 562

[سورة القيامة (75): الآيات 5 الى 10]

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)

يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)

إنسانين لو خطّا كان من المستحيل عادة أن يتساوى خطهما، و إنما يعرف الاختلاف بالمجاهر و الآلات الحديثة:

[6] إن الإنسان لا يكفر بالمعاد، لأنه ينكر في قلبه قدرة اللّه سبحانه على البعث بَلْ إنما ينكر لأنه يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أي يعصي أَمامَهُ أي في مستقبل عمره، و حيث إن الاعتراف بالآخرة يمنع عن فجوره، ينكر حتى يكون

الطريق مفتوحا لفجوره، و إذ خوّف من الآخرة أنكرها ليسكت المنكر له:

[7] ف يَسْئَلُ سؤال منكر أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ أي متى يكون، بمعنى أنه لا يكون، و إلا فأين هو؟

[8] ثم يأتي السياق ليبين وقت يوم القيامة فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ أي شخص عند معاينة الأهوال، أو تقلب البرق، أو خرج منه البرق، فإن الإنسان لدى الاصطدام يخرج من عينه مثل البرق.

[9] وَ خَسَفَ الْقَمَرُ أي ذهب نوره، فظهر جرما كمدا بلا نور.

[10] وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بأن يختل نظامهما الفلكي فيرى كل واحد منهما بجنب الآخر.

[11] يَقُولُ الْإِنْسانُ المكذب بيوم القيامة يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم أَيْنَ الْمَفَرُّ أي إلى أين يمكن الفرار من هذه الأهوال؟ و هذا استفهام للإنكار، و التحسر، بأنه لا يمكن الفرار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 563

[سورة القيامة (75): الآيات 11 الى 16]

كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)

[12] كَلَّا فإنه لا يمكن الفرار لا وَزَرَ و هو ما يتحصن به الإنسان من جبل و نحوه، أي لا ملجأ للفرار و الهرب.

[13] إِلى حساب رَبِّكَ أيها الإنسان يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم الْمُسْتَقَرُّ أي المنتهى، فالصالحون إلى جنته، و الطالحون إلى ناره.

[14] يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ أي يخبر الإنسان، و المخبر هو اللّه سبحانه بواسطة الأنبياء و الشهداء يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة بِما قَدَّمَ إلى الآخرة في حياته، من الأعمال الصالحة وَ ما أَخَّرَ كما لو أوقف وقفا و مات فجرت الصدقة بعد مماته، و إنما يخبر بذلك للجزاء و الثواب، أو النكال

فإن المحسن أو المجرم، يقرأ أولا ما عمل ثم يجازى.

[15] و مهما اعتذر الإنسان بشتى الأعذار، فإنه مما لا تقبل منه بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ و ما عمل في الدنيا بَصِيرَةٌ التاء للمبالغة، أي كامل العلم و العرفان، أو التاء للتأنيث، أي حجة بصيرة، فإن الأعضاء تشهد بما صدر منه.

[16] وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي و لو اعتذر لم ينفعه عذره، أو يعلم ما صنع و إن اعتذر في ظاهر لفظه، فإن الإلقاء بمعنى الإعطاء، كما يقال فلان ألقى بحجته، «و معاذير» جمع معذرة، أو معذار.

[17] ثم يأتي السياق لتوجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كيفية تحمل القرآن إذا ما يوحى إليه، و لعل المناسبة الربط بين أحوال القيامة و بين العمل الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 564

[سورة القيامة (75): الآيات 17 الى 20]

إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)

يوجه إليه القرآن. قال ابن عباس: كان النبي إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينساه، و نحوه نقل عن سعيد بن جبير، أقول: و لعل هذا العمل كان منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أثناء هذه السورة، و لذا جاء هذا التوجيه في الأثناء لا تُحَرِّكْ يا رسول اللّه بِهِ أي بالقرآن لِسانَكَ بأن تقرأه كلمة كلمة بمجرد قراءة جبرئيل قبل أن يتم الوحي لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه.

[18] إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أن نجمعه و نؤلّفه وَ قُرْآنَهُ أي أن نقرأه عليك.

[19] فَإِذا قَرَأْناهُ و ذلك بقراءة جبرئيل لك

فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي قراءته.

[20] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي إيضاحه و تفسيره في مجملاته و متشابهاته فعلينا الجمع و القراءة و البيان، و عليك الرسالة و التبليغ. و في الحقيقة الأمر من المدهشات لو لا الرسالة، فإنه كيف يتسنى للشخص أن يحفظ هذا المقدار الكبير من الكلام بدون تكرار في القراءة عن كتاب. ألا ترى أن أبلغ الخطباء و أذكرهم إذا صعد المنبر و قرأ مقدار صفحتين، و كان عرفه على حفظه لم يتمكن من قراءته مرة ثانية كما قرأ أولا، لكن وعد اللّه سبحانه للرسول بقوله «فلا تنسى» هو الذي أوجب حفظه بمجرد قراءة جبرئيل، و لو كان الرسول غير صادق في دعواه- كما زعم الكفار- كيف تسنى له هذا الحفظ المدهش.

[21] ثم رجع السياق إلى الكلام السابق بقوله: كَلَّا لا تتدبرون القرآن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 565

[سورة القيامة (75): الآيات 21 الى 26]

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)

كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26)

و لا تتفكرون في المعاد «إرادة لأن تفجروا أمامكم» بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا الحاضرة.

[22] وَ تَذَرُونَ أي تتركون الْآخِرَةَ فلا تعملون لها.

[23] فاعلموا أن من عمل هنا للآخرة كان حاله هناك حسنا، و من لم يعمل كان حاله سيئا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ناضِرَةٌ أي ناعمة بهيجة حسنة و هي وجوه المؤمنين.

[24] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ أي إلى رحمته سبحانه و فضله و لطفه، و هذا كما تقول «أنظر إلى فلان» و هو بعيد عنك، تريد إلى فضله و رحمته، أو إلى حركاته و أعماله.

[25] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة

باسِرَةٌ شديدة العبوس و التقطيب، فإن الإنسان المحزون الخائف يبسر وجهه، و هي وجوه الكافرين و العصاة.

[26] تَظُنُ أصحاب تلك الوجوه، و نسبة الظن إلى الوجوه مجاز أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية تكسر فقار الظهر من شدتها، و إنما قال «تظن» لأن الإنسان مهما رأى العذاب قريبا لا يستعد لأن يعترف بنزوله عليه رجاء أن يدفع عنه، فهو ظان بالعذاب لا متيقن.

[27] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم الكفار من أنها دنيا بلا آخرة، فإنه سيظهر لهم كذب هذا الزعم إِذا بَلَغَتِ الروح التَّراقِيَ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 566

[سورة القيامة (75): الآيات 27 الى 33]

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31)

وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)

«ترقوة»، و هي العظام المكتنفة بالحلق، و هذا كناية عن الإشراف على الموت.

[28] وَ قِيلَ مَنْ راقٍ لعل المراد أن الملائكة تسأل بعضها بعضا من يرقى بروح هذا الشخص هل ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟

[29] وَ ظَنَ المحتضر أو من حضره أَنَّهُ الْفِراقُ أي أن الذي نزل به هو فراقه من الدنيا، و ابتعاده عن الأحبة.

[30] وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا كناية عن عدم الحيلة في إرجاعه إلى الدنيا، و شفائه من الموت، فإن الإنسان الذي تلتف رجليه، لا يتمكن من الهرب و الفرار عن المكروه.

[31] إِلى رَبِّكَ أيها الإنسان يَوْمَئِذٍ أي في يوم الاحتضار الْمَساقُ أي السوق، فلا علاج إلا الذهاب إليه، و قد تم عمرك في الدنيا.

[32] فهل عمل هذا الإنسان الكافر عملا ينجيه هناك؟ كلا فَلا صَدَّقَ ما

يجب التصديق به وَ لا صَلَّى للّه الصلوات المفروضات.

[33] وَ لكِنْ عوض ذلك كَذَّبَ باللّه و ما يجب الإيمان به وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الحق.

[34] ثُمَ لترتيب الكلام، لا لترتيب المطلب في الخارج ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي يتكبر افتخارا بتكذيبه، من المط و هو التمدد، فإن الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 567

[سورة القيامة (75): الآيات 34 الى 37]

أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37)

المتبختر يمدد بدنه، و لعل المراد ب «ذهب إلى أهله» أن المتبختر إنما يظهر معظم كبره لأهله حين يرجع إليهم من خارج البيت.

[35] أَوْلى لَكَ الحالة التي أنت عليها من الإيمان و الإطاعة، و الإتيان ب «لك» بمعنى أن المتكبر الطاغي أولى له حالته السيئة من الأمر الحسن الذي يدعى إليه، لأنها تجانسه لا الحسن فَأَوْلى أي أيضا نقول أولى لك تأكيدا لعدم قابليته للإيمان و الهداية.

[36] ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى للتأكيد.

و قد روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ ذات مرة بيد أبي جهل و قال له «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» فقال أبو جهل: بأي شي ء تهددني لا تستطيع أنت و لا ربك أن تفعلا بي شيئا و إني لأعز أهل هذا الوادي، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية

«1».

أقول: و قد تمكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ربه تعالى أن يفعلا به كل شي ء، فقد قتل أبو جهل في بدر، و التحق بالسعير. و لفظة «أولى لك» تهديد، أي إنك سترى عاقبة ما اخترت من الانحراف.

[37] أَ يَحْسَبُ

الْإِنْسانُ أي هل يظن الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا بلا أمر و لا نهي و لا حساب و لا جزاء؟ فإن «سدى» بمعنى «مهمل».

[38] أَ لَمْ يَكُ الإنسان نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى أي يصب و يراق ألا يستدل بذلك و بما اختلف عليه من الأطوار أن اللّه قادر على أن يعيده.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 168.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 568

[سورة القيامة (75): الآيات 38 الى 40]

ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

[39] ثُمَّ كانَ عَلَقَةً و هي القطعة من الدم المنعقد، فإن النطفة تتبدل إلى تلك فَخَلَقَ اللّه منها بشرا سويا فَسَوَّى أي سوى خلقه بإعطائه الآلات و الأجهزة و المشاعر و غير ذلك.

[40] فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى فمن يا ترى صنع كل ذلك غيره سبحانه؟

[41] أَ لَيْسَ ذلِكَ اللّه الذي فعل هذا بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى

فمن قدر على الابتداء قدر على الإعادة، فكيف ينكر الكافر قدرته سبحانه على البعث و النشور؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 569

76 سورة الإنسان مدنية/ آياتها (32)

و تسمى بسورة الدهر، سميت السورة بهذين الاسمين لاشتمالها على لفظي «الإنسان» و «الدهر»، و هي كسائر السور المدنية مشتملة على ما يرتبط بالنظام إلى جنب معالجتها لقضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة القيامة بذكر أحوال الإنسان من حين كونه نطفة إلى حين البعث، افتتحت هذه السورة بذكر ابتداء الإنسان، ليرتب عليه معاده و نشره.

نزلت هذه السورة في الخامس و العشرين من ذي الحجة في علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جارية لهم تسمى فضة،

و ذلك أنه مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فأعادهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جماعة من الصحابة، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا، فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما اللّه سبحانه. و نذرت فاطمة و كذلك فضة، فبرآ و ليس عندهم شي ء، فاستقرض على ثلاثة أصوع من شعير من يهودي فطحنت الزهراء عليها السّلام صاعا منها فاختبزته، و صلى علي المغرب و قربته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم و سألهم فأعطوه أقراصهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 570

جميعا و لم يفطروا إلا بالماء، فلما كان اليوم الثاني صاموا جميعا، و أخذت فاطمة عليها السّلام صاعا فطحنته و اختبزته، و لما كان المغرب قدمته للإفطار فإذا يتيم على الباب يستطعم، فأعطوه و لم يذوقوا إلا الماء في إفطارهم، فلما كان اليوم الثالث عمدت فاطمة عليها السّلام إلى الصاع الثالث فطحنته و اختبزته، و لما كان المغرب و أرادوا أن يفطروا فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه أقراصهم الخمسة و لم يفطروا إلا بالماء، فلما كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم أتى علي و معه الحسن و الحسين إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بهما ضعف، فبكى رسول اللّه مما رأى فيهما من الضعف، فنزل جبرئيل بسورة «هل أتى» «1».

و

في بعض الأحاديث أن اللّه سبحانه أنزل عليهم مائدة من السماء «2».

قالوا: و من غريب أمر هذه السورة أنها وصفت نعيم الجنة كله باستثناء ذكر «الحور» تكريما لفاطمة عليها السّلام.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو أول كل شي ء، فمن حسن الابتداء أن يبدأ باسمه الكريم في كل أمر، الرحمن الرحيم الذي

يتفضل بالرحم لكل ناقص، فيكمل نقصه و من تكميل النقص غفران الزلل حتى يكون الإنسان و كأنه لم يذنب.

______________________________

(1) تأويل الآيات الظاهرة: ص 724.

(2) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: ج 1 ص 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 571

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4)

[2] هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ استفهام للتقرير حتى يقر الإنسان بهذه الحقيقة، فيرتب عليه أنه إذا لم يكن ثم كان، كان مكوّنه قادرا على أن يعيده بعد أن يفنى و يهلك حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ أي زمان طويل من الأزمنة السالفة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي شيئا يذكر، بأن كان معدوما لا أثر له؟ و الجواب: أنه نعم كان كذلك، و هل لأحد أن ينكر هذه الحقيقة.

[3] إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ هي المني أَمْشاجٍ جمع «مشيج» من مشجت بمعنى خلطت، أي النطفة أخلاط مختلفة من ماء الرجل و ماء المرأة، و من الأجزاء المتجمعة من المأكولات المختلفة، و إنما خلقناه ل نَبْتَلِيهِ أي نمتحنه بما نكلفه من الأعمال، هل يحسن أم يسي ء؟

فَجَعَلْناهُ أي الإنسان سَمِيعاً بَصِيراً يسمع و يبصر ليتم عليه التكليف.

[4] إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي الطريق إلى الحق ببعث الأنبياء و إرسال الكتب، ف إِمَّا يكون شاكِراً لأنعم اللّه سبحانه بالإيمان و الإطاعة، وَ إِمَّا يكون كَفُوراً كثير الكفر، فإن كل كافر هو كفور باعتبار مختلف الأزمنة و الأحوال.

[5] إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ لأن

يجروا بها جمع سلسلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 572

[سورة الإنسان (76): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6)

و هي قطعات الحديد المتداخلة، و هي غير منصرفة، لأنها على وزن «مفاعل» وَ أَغْلالًا جمع غل لأن يقيدوا بها وَ سَعِيراً أي نارا مستعرة، أي ذات لهب و اتقاد، و المراد تهيؤ ذلك لهم في الآخرة.

[6] إِنَّ الْأَبْرارَ جمع برّ و هو المؤمن الصالح يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ و هي القدح التي تكون فيه الخمر، أو سائر أقسام المشروبات و لعل تقديم الشراب لمناسبته مع ما تقدم من «السعير» الموجبة لطلب الإنسان الماء- مناسبة الضد للضد- كانَ مِزاجُها أي ما يمزج بشرابها كافُوراً لبرودته و عذوبته و طيب عرفه، و إتيان الضمير مؤنثا لأن الكأس مؤنث سماعي.

و قد كانت العرب تمزج الخمر بالكافور حينا و بالزنجبيل حينا، و لذا ذكروا أن خمر الجنة كذلك، تماشيا مع مداركهم، و إن كان هناك ما لا يشبه أطعمة الدنيا و أشربتها، لذة و فضلا.

[7] عَيْناً أي أن تلك الكأس تملأ من عين، و كأنها منصوبة على تقدير الفعل، أي نبشركم أو نهنئكم يَشْرَبُ بِها أي منها- و الإتيان بالباء لنكتة بلاغية- عِبادُ اللَّهِ الذين عبدوا اللّه و أطاعوه حق طاعته يُفَجِّرُونَها أي يجرونها و يخرجونها حيث شاؤوا من منازلهم و قصورهم تَفْجِيراً و من المتعة أن يكون المنزل بحيث يمكن تفجير العين فيه، فإنه تلهي و تلذذ.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 573

[سورة الإنسان (76): الآيات 7 الى 9]

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً

(8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9)

[8] ثم وصف عباد اللّه بقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي كانوا في الدنيا بحيث إذا نذروا نذرا وفوا به و لم يغشّوا، و النذر هو أن يلتزم الإنسان على نفسه خيرا لأجله سبحانه، كأن ينذر الصيام أو الصدقة أو ما أشبه وَ يَخافُونَ يَوْماً أي من أهوال ذلك اليوم، و هو يوم القيامة كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي منتشرا في كل جهة، حتى يشمل كل كافر و آثم، و ليس كشرور الدنيا التي تكون خاصة بأرض أو إنسان أو محل.

[9] وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي لأجل اللّه سبحانه، و على حبه تعالى، أو بمعنى على أنهم يحبون الطعام لجوعهم مِسْكِيناً و هو الفقير الذي أسكن الفقر حركاته، فإن الغني يتحرك هنا و هناك أما الفقير فإنه يسكن لعدم مال له يصرفه في أموره وَ يَتِيماً و هو الطفل الذي مات أبوه، أو أبواه، و قد يطلق على من ماتت أمه وَ أَسِيراً الذي أسر في الحرب، و قد كان أهل البيت عليهم السّلام وفوا بالنذر و أطعموا الثلاثة- كما تقدم-.

[10] و قصدهم حين الإطعام هو إِنَّما نُطْعِمُكُمْ أيها الفقراء لِوَجْهِ اللَّهِ أي لذاته سبحانه و إنما جي ء ب «الوجه» كناية عن الاتجاه و القصد، تشبيها بوجه الإنسان الذي يتوجه الإنسان إليه حين طلب مرضاته لا نُرِيدُ مِنْكُمْ أيها الفقراء جَزاءً لنا، كأن تعملوا بعض أعمالنا جزاء تصدقنا لكم وَ لا شُكُوراً بأن تشكروننا و لو باللسان- و إنما الصدقة خالصة للّه سبحانه، للتقرب من رضوانه-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 574

[سورة الإنسان (76): الآيات 10 الى 14]

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13) وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)

[11] إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا لو عصيناه بأن لم نف بالنذر، أو لم نطعم المسكين لوجهه يَوْماً عَبُوساً أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه. و نسبة العبوس إلى اليوم من باب علاقة الحال و المحل، من قبيل «يا سارق الليلة» قَمْطَرِيراً أي صعبا شديدا.

[12] فَوَقاهُمُ اللَّهُ أي حفظهم و كفاهم شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي يوم القيامة وَ لَقَّاهُمْ أي استقبلهم و أعطاهم نَضْرَةً في الوجوه، و هي البهجة و الحسن وَ سُرُوراً في القلوب.

[13] وَ جَزاهُمْ أي كافأهم و أعطاهم جزاء بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم جَنَّةً وَ حَرِيراً مكانا للسكنى، و لباسا و أثاثا.

[14] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ أي مستريحين فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي سرير العروس في الحجلة لا يَرَوْنَ فِيها أي في تلك الجنة شَمْساً تحرقهم وَ لا زَمْهَرِيراً أي بردا يؤذيهم.

[15] وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها يعني أن ظل أشجار الجنة قريبة منهم فإن الضياء الموجود هناك و فيه شي ء من الحرارة محجوب بالأشجار و حيطان القصور و السقوف، و يكون الهواء في ظلالها أهنأ و أطيب، و إنما جعل كذلك لتطلب الإنسان تغيير الهواء من الظل إلى الحر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 575

[سورة الإنسان (76): الآيات 15 الى 17]

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)

و بالعكس، و «دانية» حال

عطف على «متكئين» وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها جمع قطف و هو الثمرة تَذْلِيلًا أي سهلت أخذ ثمارها باليد، لقربها و نضجها فتقطف بسرعة.

[16] وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ و الطائف هم الوالدان المخلدون بِآنِيَةٍ أي ظرف كأنها الإبريق و نحوه مما فيه الماء مِنْ فِضَّةٍ لعل فيها الشراب وَ أَكْوابٍ جمع كوب، و هو القدح الصغير، و ذلك لصب الشراب من الآنية في الأكواب لتناول الناس الأبرار كانَتْ تلك الأكواب قَوارِيرَا أي زجاجات.

[17] قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ فهي من زجاجة بلون الفضة لتجمع بين اللذتين في المشاهدة.

قال الصادق عليه السّلام ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ الزجاج

«1». أقول: فهي جامعة بين صفاء الزجاجة و شفيفها و بياض الفضة و لينها قَدَّرُوها أي قدروا تلك الأكواب تَقْدِيراً كأنها صنعت ب «الماكنة» في توحيد أشكالها و مزاياها، لا كالأواني المصنوعة باليد التي يراها الإنسان مختلفة تنبو عنها العين لاختلافها.

[18] وَ يُسْقَوْنَ فِيها أي في الجنة، و الفاعل هم الأبرار المقدم ذكرهم كَأْساً أي شرابا في الكأس- بعلاقة الحال و المحل- كانَ مِزاجُها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 576

[سورة الإنسان (76): الآيات 18 الى 21]

عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21)

أي مزج بشرابها زَنْجَبِيلًا أي ما يشبه الزنجبيل في الطعم و هو عقار معروف كانوا يخلطونه بالشراب- كما تقدم-.

[19] عَيْناً بدل من زنجيل، أو منصوب على تقدير الفعل كما ذكر سابقا فِيها أي في الجنة تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا

فالشراب الممزوج بالزنجبيل يؤخذ من تلك العين، و سميت «سلسبيلا» لسيلانه في الأنهار عذبا صافيا رقراقا، أو لأنه سائغ في الخلق لصفائه و خفته، فلا يتوهم أن الزنجبيل يوجب لذعا و حرقة.

[20] وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ معنى الطواف هو الذهاب من عند هذا إلى ذاك إلى ذلك، و هكذا حتى يرجع إلى الأول، و «الولدان» جمع ولد، و معنى مخلدون باقون في الجنة إلى الأبد، و هم قسيم للحور، فهم أولاد و تلكم بنات إِذا رَأَيْتَهُمْ أيها الإنسان حَسِبْتَهُمْ أي ظننتهم لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لصفاء ألوانهم و بريقها، و تفرقهم هنا و هناك يشبههم باللؤلؤ غير المنظوم، لانتشارهم في الخدمة.

[21] وَ إِذا رَأَيْتَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي ثَمَ أي الجنة، فإن ثم بمعنى هنا لك رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً أي وسيعا، فإنه يعطي لأقل أهل الجنة منزلة من القصور و الجنان ما يكفي لأن يضيف الثقلين في ضيافة واحدة.

[22] عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ أي يعلوهم، و المراد يلبسون ثيابا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 577

[سورة الإنسان (76): الآيات 22 الى 24]

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)

سندسا، و هو الحرير الأخضر الرقيق، وَ إِسْتَبْرَقٌ و هو الحرير الخشن و الرقيق أنعم للبدن، و الخشن أجمل في المنظر وَ حُلُّوا أي يحلّون بالزينة أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ جمع سوار، و هو ما يلبس في اليد من الحلي، و الفضة هنا أثمن من الذهب- كما قالوا- و قد كانت العادة في الملوك و الكبراء لبس السوار وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فليس كشراب الدنيا

نجسا أو موجبا للرذيلة من السكر و نحوه.

[23] و يقال لهم: إِنَّ هذا النعيم الذي أنتم فيه كانَ لَكُمْ جَزاءً على إيمانكم و أعمالكم الصالحة، «و كان» لمجرد الربط وَ كانَ سَعْيُكُمْ و تعبكم في الدنيا مَشْكُوراً شكره اللّه سبحانه و قدره، و لذا جزاكم بهذا الثواب.

[24] ثم يأتي السياق ليسلي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عملا يلاقيه من الأذى في سبيل الدعوة إلى مثل هذه الجنات، بعد ما بين جزاء العالمين إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا و التأكيد ب «نحن» لدفع كلمات الكفار حول القرآن، بأنه كهانة أو شعر أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك.

[25] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه في تبليغ القرآن لِحُكْمِ رَبِّكَ بأن تبلغ رسالاته في وسط هذا الموج العاتي من الإنكار و الإيذاء و الاستهزاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 578

[سورة الإنسان (76): الآيات 25 الى 27]

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)

وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ أي من هؤلاء آثِماً أي عاصيا أَوْ كَفُوراً أي كافرا، يعني لا تطع الآثم في إثمه و لا الكفور في كفره، بأن لا تبلغ الأصول أو الفروع إطاعة لها و جلبا لرضائها فقد ورد أن أبا جهل نهى الرسول عن الصلاة، كما أن عتبة و الوليد قالا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارجع عن هذا الأمر و نحن نرضيك بالمال و التزويج «1». و الآية عامة تشمل كل كافر يأمر بالكفر و آثم يأمر بالإثم.

[26] وَ اذْكُرِ يا رسول اللّه اسْمَ رَبِّكَ بالذكر

و الدعاء و الصلاة بُكْرَةً أي صباحا وَ أَصِيلًا أي عصرا، يعني استمر على شأنك و الدعاء إليه في طرفي النهار.

[27] وَ مِنَ اللَّيْلِ أي بعض الليل فَاسْجُدْ لَهُ أي للّه سبحانه و المراد بالسجود الصّلاة و العبادة، أي اخضع للّه سبحانه وَ سَبِّحْهُ أي سبح اللّه و نزهه عما لا يليق به لَيْلًا طَوِيلًا فإن الليل ربيع العباد يتخذون طوله وسيلة للضراعة و الاستكانة، فإن الخواطر الكامنة لا تجيش إلا بطول الضراعة و الابتهال. و قد ورد أن «بكرة» لصلاة الصبح و «أصيل» للظهرين و «اسجد له» للعشائين و «سبّحه» لصلاة الليل.

[28] إِنَّ هؤُلاءِ الكفار الذين تراهم معرضين عن اللّه مقبلين على شهواتهم يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا و الشهوات العاجلة وَ يَذَرُونَ

______________________________

(1) عين العبرة: ص 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 579

[سورة الإنسان (76): الآيات 28 الى 30]

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)

أي يتركون وَراءَهُمْ في مستقبلهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة الذي يثقل على الإنسان لما فيه من الأهوال و الشدائد، فلا يعملون لذلك اليوم.

[29] إنهم يكفرون باللّه الذي خلقهم و أعناقهم بيده نَحْنُ خَلَقْناهُمْ من العدم وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا خلقهم، بتنظيم الأجهزة، فإن «الأسر» أصله الشد، و منه سمي الأسير أسيرا، لأنه يشد بالحبال، فالمعنى أحكمنا شدهم في الخلقة، بحيث لا ينفصم جزء من جزء، بل الأجزاء كلها متماسكة مترابطة وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ مكانهم تَبْدِيلًا بأن أهلكنا هؤلاء و جئنا بدلهم مكانهم.

[30] إِنَّ هذِهِ السورة، أو هذه العظات

و العبر المذكورة في القرآن تَذْكِرَةٌ تذكر الناس بما أودع في فطرتهم، و إلفات لهم نحو الكون و آياته فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي مضى في طريق مرضاته سبحانه، بعد ما رأى الحق، و ميّز بين الصدق و الكذب.

[31] وَ ما تَشاؤُنَ أنتم أيها البشر الإيمان و الهداية، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ بأن يرسل الرسول و يوضح الطريق، إذ الهداية لها طرفان: طرف من جانبه بنصب الأدلة، و طرف من جانبكم بالاتباع و الاهتداء إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالحكم حَكِيماً فيما يفعل، فإن الحكمة وضع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 580

[سورة الإنسان (76): آية 31]

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

الأشياء موضعها، و اللّه لا يفعل شيئا إلا بالحكمة و المصلحة.

[32] يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في سعادة الدنيا و الآخرة و ليس الإدخال اعتباطا بل إنما يدخل سبحانه عباده الصالحين وَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو العصيان أَعَدَّ أي هيأ سبحانه لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، في الدنيا بعيشة ضنك و في الآخرة بالنار و النكال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 581

77 سورة المرسلات مكيّة/ آياتها (51)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المرسلات»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث ختمت سورة «الإنسان» بذكر القيامة، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع في السورة باسم اللّه الذي هو الإله بالحق، و ما دونه باطل، الرحمن الرحيم الذي يعطي كل شي ء خلقه، و يهديه إلى مصالحه، و يهيئ له المستقبل الحسن، فإن «الرحمن» و ما من قبيله من الصفات لا بد و أن يراد بها نتائج هذه الصفات

لاستحالة أمثالها في حقه تعالى بمعناها الجاري في حقنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 582

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)

[2] وَ الْمُرْسَلاتِ أي قسما بالملائكة التي أرسلت إرسالا- إلى الأرض- عُرْفاً أي في حال كونهم كعرف الفرس في تواليه و تتابعه، و هو شعرها النابت على رقبتها.

[3] فَالْعاصِفاتِ أي ثم قسما بالملائكة التي تعصف عصف الرياح في امتثال أمره سبحانه عَصْفاً مصدر تأكيدي.

[4] وَ قسما ب النَّاشِراتِ أي الملائكة التي تنشر الكتب و تبسطها، أو تنشر الآجال و الأرزاق و ما أمر اللّه بنشره نَشْراً مصدر تأكيدي، و أن الإتيان ب «الواو» للتفنن الذي هو من أنواع البلاغة.

[5] فَالْفارِقاتِ أي قسما بالملائكة التي تفرق بين الأشياء بأمر اللّه سبحانه فَرْقاً مصدر تأكيدي.

[6] فقسما بالملائكة الملقيات ذِكْراً أي تلقي الذكر إلى الأنبياء عليهم السّلام من قبل اللّه سبحانه.

[7] عُذْراً أَوْ نُذْراً أي لأجل إعذار اللّه سبحانه، و إنذاره للبشر على كفرهم و عصيانهم.

[8] قسما بهؤلاء الطوائف من الملائكة إِنَّ ما تُوعَدُونَ من أحوال القيامة و الجنة و النار لَواقِعٌ أي يقع لا محالة فلا خلف فيه.

[9] ثم بين علامة القيامة بقوله: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي ذهب نورها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 583

[سورة المرسلات (77): الآيات 9 الى 15]

وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)

وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

حتى صارت بلا ضياء أو

نور.

[10] وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي شقت و صدعت فصار فيها فروج و شقوق، لاختلال نظام المدارات.

[11] وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي قلعت من أماكنها، و صارت كالهباء سائرة في الفضاء.

[12] وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جمعت لوقتها في القيامة لتشهد على الأمم، و هو من الوقت، و إنما تبدل الواو همزة لكراهة ضم الواو- كما قالوا- [13] لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ هذا حكاية عن الحال، أي أن الحالة تقتضي أن يقال فيها: لأي يوم أجلت و أخرت الرسل؟ و لماذا يراد جمعهم و هذا تعظيم لليوم و تعجيب من هوله.

[14] و يأتي الجواب لِيَوْمِ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين أهل النار و أهل الجنة، و السعداء و الأشقياء.

[15] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي لا تدري أنت حقيقة هذا اليوم الهائل، و هذا تعبير للتهويل و الاستعظام.

[16] وَيْلٌ و هي كلمة تقال عند الهول و الشدة المتوجهة على أحد يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون باللّه و رسوله و المعاد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 584

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 22]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)

[17] ثم يأتي السياق لإنذار المكذبين بأنهم في معرض العذاب في الدنيا قبل الآخرة أَ لَمْ نُهْلِكِ الأمم الْأَوَّلِينَ الذي كذبوا أنبياءهم؟

[18] ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ أي أتبعنا الأولين ب الْآخِرِينَ فأهلكنا الأمم الآخرين أيضا لما كذبوا الرسل؟ و الأولون كقوم نوح و عاد و ثمود، و الآخرون كقوم لوط و فرعون و قومه.

[19] و

كَذلِكَ أي إهلاكا كإهلاك أولئك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان، فإن العذاب ينزل بهم، و هذا تهديد لكفار مكة.

[20] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون باللّه و آياته و سائر الأصول.

[21] ثم يأتي السياق لبيان جملة من نعم اللّه على البشر ليشكروه، بعد ما هددهم ليخافوا منه أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ أيها البشر مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي النطفة التي هي «مهين» أي حقير ذليل، من هان بمعنى ذلّ؟

[22] فَجَعَلْناهُ أي جعلنا ذلك الماء بعد خروجه من الصلب و الترائب فِي قَرارٍ أي مستقر مَكِينٍ أي مستحكم، و المراد به الرحم.

[23] إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار من الزمان معين، و هو مدة الحمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 585

[سورة المرسلات (77): الآيات 23 الى 29]

فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)

[24] فَقَدَرْنا على ذلك فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن إذ نقدر على كل شي ء، و بعد هذا هل ينكر الكافر قدرتنا على البعث و إعادة الأجسام بعد مماتها؟

[25] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ و تكرار هذه الجملة للتركيز و الإيحاء كما سبق في سورة «الرحمن» و غيرها.

[26] أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً يقال كفت الشي ء: إذا ضمّه، أي ضامة للعباد تكفتهم و تشمل عليهم.

[27] أَحْياءً وَ أَمْواتاً فتشمل أحياءهم بالبناء و الزرع و سائر لوازم الحياة، و تشمل أمواتهم في بطنها.

[28] وَ جَعَلْنا فِيها أي في الأرض رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل الشامخ شامِخاتٍ أي عاليات مرتفعات تحفظ الأرض عن

التصدع و الانهيار و التفرق في الهواء وَ أَسْقَيْناكُمْ أيها البشر ماءً فُراتاً أي عذبا سائغا؟ أ ليست كل هذه النعم شاهدة على إله واحد عالم قدير؟

و أ ليست هذه النعم موجبة لإيمانكم باللّه و تصديقكم لرسوله؟

[29] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنهم يلقون عذابا و نكالا.

[30] و إذا قامت القيامة يقال للمكذبين: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 586

[سورة المرسلات (77): الآيات 30 الى 34]

انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)

أي إلى النار التي كنتم تكذبون بها، و تقولون أنها غير كائنة.

[31] انْطَلِقُوا أي اذهبوا أيها الكفار إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لعل المراد بالظل النار التي فوقها الدخان، و كونه على ثلاث شعب لأنهم كانوا في الدنيا يطوفون بين الكفر و الإيمان و النفاق، و قيل: شعبة من فوقهم، و شعبة من يمينهم، و شعبة من يسارهم.

[32] لا ظَلِيلٍ أي لا يظل صاحبه من الحر وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ أي من لهب النار، و هو ما يعلوها باختلاط الهواء أحمر أو أصفر أو أزرق، فإن هذا الظل ليس كظلال السقوف يمنع الهواء الحار و لهب النار، كما أنهم كانوا يعيشون في الدنيا في ظل الكفر و العصيان.

[33] إِنَّها أي النار- التي فهمت من قوله سبحانه ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «1»- تَرْمِي أي تطرح و تطير بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ الشرر هو ما يتطاير من النار لشدة الحرارة، و خفة ذلك الشرر، و القصر هو

البيت الجميل من الحجارة، أو أصل الشجر، و الأول أظهر، و الثاني أنسب.

[34] كَأَنَّهُ أي الشرر المرمي جِمالَتٌ صُفْرٌ أي أن الشرارة كالجمل الأصفر في لونه، بعد ما كان بقدر القصر في حجمه، و التشبيه بالجمالة لتتابعها و تطايرها كالجمالات التي ترتع هنا و هناك، و نارهن شررها كيف يكون أصلها و محلها؟

[35] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين يكذبون بهذه الأمور

______________________________

(1) المرسلات: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 587

[سورة المرسلات (77): الآيات 35 الى 40]

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

كيف يلقون في النار، و يقاسون العذاب و النكال؟

[36] هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي المجرمون من شدة الهول و الفزع.

[37] وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ في الكلام فَيَعْتَذِرُونَ عن سالف أعمالهم و هذا إنما يكون في موقف من مواقف القيامة، و في موقف آخر يتكلمون و يعتذرون،

فللقيامة خمسون موقفا كل موقف يطول ألف سنة- كما ورد

«1».

[38] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا باللّه و بما أرسل.

[39] ثم يقال لهم: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين المحسنين و المجرمين، و يدخل كل إلى محله الذي هيأه لنفسه جَمَعْناكُمْ أيها الكفار وَ الْأَوَّلِينَ أي مع المكذبين الأولين السابقين عليكم من سائر الأمم.

[40] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ في خلاصكم من العقاب فَكِيدُونِ أي احتالوا و كيدوا لإنجاء أنفسكم، و هذا استهزاء بهم و تقريع لهم، فقد كانوا يكيدون للمؤمنين في الدنيا، فليكيدوا هنا إن كان لهم كيد و حيلة.

[41] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة، و أصله يوم إذ

كان كذا، حذفت

______________________________

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 12 ص 155.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 588

[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 46]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)

الجملة و قام التنوين مقامها لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا اليوم و بسائر ما جاء به الرسل.

[42] و إذا رأينا مقام الكفار، فلننظر إلى مقام الأخيار إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا الكفر و المعاصي فِي ظِلالٍ من أشجار الجنة، و ظلال قصورها وَ عُيُونٍ أي أنهم في أرض بين العيون، أو المراد أنهم يسبحون و يستحمون في نفس العيون.

[43] وَ في فَواكِهَ جمع فاكهة، و هي الثمرة أي أن الثمار تحيط من كل جوانبهم مِمَّا يَشْتَهُونَ أي من الأجناس التي يميلون إليها.

[44] و يقال لهم: كُلُوا من الثمار وَ اشْرَبُوا من العيون، و المراد بالأمر الإباحة، من قبيل وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» هَنِيئاً أي أكلا و شربا خاليا من الأذى، فإن الهني ء هو النفع الخالص من شائب الأذى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بمقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا.

[45] إِنَّا كَذلِكَ أي كالذي ذكرنا من الإنعام و الإفضال نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا بالإيمان و العمل الصالح.

[46] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كيف يرون أن هذه النعم أفلتت من أيديهم بسبب أعمالهم الفاسدة في الدنيا، و كم يتحسرون لذلك.

[47] ثم يأتي السياق ليخاطب المجرمين- في الدنيا- كُلُوا أيها الكفار

______________________________

(1) المائدة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 589

[سورة المرسلات (77): الآيات 47 الى 50]

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ

(49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

وَ تَمَتَّعُوا بمتاع الحياة الدنيا قَلِيلًا فإن أمد الدنيا قصير إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ و هل من فائدة للأكل و التمتع القليل لمن وراؤه عذاب شديد؟

[48] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا باللّه و بما جاء من عنده.

[49] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للمكذبين ارْكَعُوا و اخضعوا للّه سبحانه، فإن المراد بالركوع إما مطلق الخضوع، أو الركوع كناية عن الصّلاة لا يَرْكَعُونَ عنادا و استكبارا.

روى أنها نزلت في وفد ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلاة فقالوا: لا ننحني فإن ذلك مسبة علينا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود

«1». أقول: المراد ب «لا نحني» أي لا نعطف ظهورنا، فقد استقبحوا رفع عجيزتهم.

[50] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا بالأحكام، و لم يصدقوا بالركوع و سائر العبادات، فإنهم يلاقون جزاء ذلك.

[51] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ فإنهم إذا لا يؤمنون بالقرآن الذي هو أحسن الحديث من جميع النواحي، فهل هناك رجاء لإيمانهم بشي ء آخر؟ كلّا إنه الشقاء الأبدي الذي يشملهم إن لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 591

تقريب القرآن الى الأذهان الجزء الثلاثون من آية (1) سورة النبأ إلى آية (7) سورة الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 592

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 593

78 سورة النبأ مكيّة/ آياتها (41)

سميت هذه السورة بسورة النبأ و عم لاشتمالها على لفظة «النبأ» و «عم» و

حيث ختمت سورة المرسلات بذكر القيامة و وعيد الكفار بذلك، افتتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، الذي هو الأول قبل كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بإعطائهم ما يكملهم و بغفران ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 594

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)

[2] عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله «عن ما» مركبة من «عن» الجارة و «ما» الاستفهامية، ثم أدغمت النون في الميم لقرب مخرجهما، و حذفت الألف من «ما» على ما هي القاعدة من حذفها مطلقا إذا دخل على «ما» حرف الجر، فيقال «بم، و لم، و عم» و هكذا. و المعنى عما ذا يتساءل الكفار بعضهم عن بعض،

فقد قال في المجمع قالوا: لما بعث رسول اللّه و أخبرهم بتوحيد اللّه تعالى و بالبعث بعد الموت و تلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم- أي يسأل بعضهم بعضا على طريق الإنكار و التعجب- فيقولون: ماذا جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما الذي أتى به؟ فأنزل اللّه تعالى «عم يتساءلون»

«1».

أقول: و المراد بالاستفهام التفخيم، كما تقول: أية قصة هذه؟ إذا أردت تفخيمها، و ورد في جملة من الأحاديث: أن المراد بالنبإ العظيم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «2»، و هذا من باب المصداق- إن أريد بالآية الأعم، و من باب البطون إن أريد بها القيامة فقط.

[3] ثم جاء الجواب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ أي الخبر المهم، و هو ما يتعلق بالمبدأ و المعاد.

[4] الَّذِي أي النبأ الذي هُمْ أي هؤلاء الكفار فِيهِ أي في ذلك النبأ مُخْتَلِفُونَ فمن مصدق له باعتبار كونه

من أهل الكتاب أو من أشبههم، و من مكذب له.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 239.

(2) الكافي: ج 1 ص 207.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 595

[سورة النبإ (78): الآيات 4 الى 9]

كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8)

وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

[5] كَلَّا ليس الأمر كما قالوا و زعموا، حيث أنكروا التوحيد و الرسالة و المعاد سَيَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم و صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[6] ثُمَ لترتيب الكلام كَلَّا ليس الأمر كما زعموا سَيَعْلَمُونَ عند موتهم أو في يوم القيامة: إن الأمر كان كما أخبر الرسول، و إنهم كانوا في ضلال و انحراف، و هذا تهديد بعقب تهديد.

[7] ثم جاء السياق ليذكر طرفا من نعمه سبحانه الدالة على وجوده و سائر صفاته، حجة على المنكرين: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً؟ أي وطاء و قرارا مهيّأ للتصرف، كالمهد الذي يستقر فيه الطفل من غير أذية.

[8] وَ ألم نجعل الْجِبالَ أَوْتاداً جمع «وتد» و هو «المسمار» أي مسامير للأرض حتى لا تتشقق و لا تتبعثر في الهواء من جراء الحركة و الجاذبيات، كالوتد الذي يربط بعض ألواح الخشب ببعض حتى لا تنفصم.

[9] وَ خَلَقْناكُمْ أيها البشر أَزْواجاً جمع «زوج»، و هو الصنف، أي أصنافا و أشكالا، باختلاف ألوانكم، و ألسنتكم، و مدارككم إلى غير ذلك من الاختلافات.

[10] وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ أيها البشر سُباتاً أي قاطعا للعمل لأجل الاستراحة، و منه سبت أنفه: إذا قطعه، فمن يا ترى جعل هذه الأمور غير اللّه سبحانه؟!

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 596

[سورة النبإ (78): الآيات 10 الى 14]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً

(10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)

[11] وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً أي غطاء و سترة يستر كل شي ء كما يستر اللباس البدن، و ذلك لحكمة الاستراحة و الانصراف عن العمل، فإن الليل لو كان مثل النهار لم يهدأ الإنسان و لم يهنأ بالراحة، بالإضافة إلى أن ظلمة الليل تساعد على الراحة و النوم- كما قالت الأطباء-.

[12] وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً المعاش هو العيش، أي وقت العيش تتقلبون فيه لتحصيل أسباب العيش و البقاء، و هذا من الإسناد المجازي، فإن النهار زمان العيش لا نفسه.

[13] وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ أي خلقنا و صنعنا فوقكم أيها البشر سَبْعاً أي سبع سماوات، و المراد بها مدارات الكواكب السيارة، أو ما أشبه شِداداً جمع «شديد» أي محكمة الصنع متقنة الأسلوب و النظام.

[14] وَ جَعَلْنا في السماوات سِراجاً أي مصباحا، و المراد به الشمس وَهَّاجاً أي وقادا متلألأ بالنور، من «وهج» بمعنى أنار و أضاء.

[15] وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ بصيغة اسم الفاعل، و المراد بها السحائب، فإنها تعصر نفسها، بما أودع فيها من الطاقات العاصرة حتى تمطر، كالغسالة التي تعصر الثوب حتى تخرج قطرات الماء منه. أو المراد بالمعصرات الرياح التي تعصر السحائب، و معنى «من» نشوية ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا دفاعا في الصبابة، من «ثج» بمعنى انصب بكثرة، و المراد المطر الكثير الانصباب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 597

[سورة النبإ (78): الآيات 15 الى 19]

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)

[16]

و إنّا أنزلنا المطر لِنُخْرِجَ بِهِ أي بواسطة ماء المطر حَبًّا كالحنطة و نحوها وَ نَباتاً كل ما ينبت من أنواع المزروعات.

[17] وَ نخرج به جَنَّاتٍ أي بساتين أَلْفافاً أي ملتفة الشجر، و هو جمع «لف» يراد به الشجر الملتف بعضه ببعض، و يسمى البستان «جنة» لتسترها بالأشجار.

[18] ثم يأتي السياق لبيان المعاد، بعد ما ذكر جملة من أدلة الألوهية إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين الخلائق، ليجزي كل إنسان بما عمل من خير و شر، و هو يوم القيامة كانَ مِيقاتاً أي وقتا و زمانا لما وعد اللّه سبحانه من الحساب و الجزاء، فإن «الميقات» يستعمل بمعنى الزمان و بمعنى المكان- كمواقيت الحج-.

[19] ثم بين ذلك بقوله: يَوْمَ بدل من «يوم الفصل» يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي البوق، ينفخ فيه إسرافيل لحشر الخلائق و حياتهم بعد الموت، كما ينفخ النافخ في البوق لحركة القافلة أو الجيش أو من أشبه، و هذه هي النفخة الثانية فَتَأْتُونَ أيها البشر من قبوركم أحياء أَفْواجاً جمع «فوج»، أي جماعات جماعات، كأن كل جماعة تشتمل على المشاكلين في العمل.

[20] وَ فُتِحَتِ السَّماءُ أي انشقت و ظهرت فيها أبواب فَكانَتْ السماء أَبْواباً فإن كلما تتبدل بشكل أبواب تنزل الملائكة منها للحساب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 598

[سورة النبإ (78): الآيات 20 الى 23]

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)

و الجزاء و إطاعة الأوامر.

[21] وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ أي سارت عن أماكنها بعد أن انقلعت و إنما يسيرها اللّه سبحانه فَكانَتْ الجبال سَراباً أي كالسراب- الذي هو خيال الماء في الصحراء وقت الظهيرة- فإن الجبال إذا رآها الإنسان حسبها جامدة

كسابقها، بينما هي صارت كالهباء، ترى شيئا جامدا و ليس بجامد، كالضباب الذي يحسبه البعيد شيئا و ليس بشي ء.

[22] إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً كالمحل الذي يرصد فيه لحفظ الدار أو البستان أو ما أشبه، فإنها محل لرصد الملائكة للناس، حيث يرون منها أيّ إنسان يجرم حتى يستحق النار، و أيّا يحسن حتى لا يستحقها فإن «المرصاد» هو المكان الذي يراقب فيه العدو.

[23] لِلطَّاغِينَ أي الذين طغوا و جاوزوا حدود اللّه سبحانه مَآباً من «آب» بمعنى رجع، و المراد به المنزل، و يسمى المنزل «مآبا» لأن الإنسان كلما خرج منه رجع إليه.

[24] لابِثِينَ من «لبث» بمعنى بقي، أي يبقى الطاغون فِيها أي في جهنم أَحْقاباً جمع «حقب» على وزن عرف، و هو جمع «حقبة»، و المراد بها الزمان الطويل، أي يمكثون في جهنم دهورا طويلة. و قد

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال الأحقاب ثمانية حقب، و الحقب ثمانون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستون يوما، و اليوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 599

[سورة النبإ (78): الآيات 24 الى 28]

لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)

كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

«1» «2» أقول: أما المعاند من أهل الباطل فلا مخرج له منها.

و أما العصاة فإنهم يخرجون بعد أزمنة طويلة- حسب اختلاف عصيانهم-.

[25] لا يَذُوقُونَ فِيها أي في جهنم بَرْداً وَ لا شَراباً فلا هواء بارد، و لا طعام بارد، و لا شي ء بارد لهم هناك، و لا شراب يشربون ليروى عطشهم المتزايد.

[26] إِلَّا حَمِيماً و هو الماء الحار المغلي وَ غَسَّاقاً و هو صديد

أهل النار، و الاستثناء منقطع، أي لا يذوقون إلا الحميم و الغساق أما البرد و الشراب فليس لهم، أو متصل بقوله «شرابا».

[27] و إنما يجزون بذلك جَزاءً على كفرهم و عصيانهم وِفاقاً أي وفق أعمالهم و بقدرها.

[28] ثم يأتي البيان ليبين أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب:

إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا لا يَرْجُونَ حِساباً أي لم يكونوا يتوقعون القيامة، بل كانوا يكذّبون بها، و كأن لفظة «لا يرجون» باعتبار أن كل متوقع لشي ء إنما يحتمل النجاح فيه.

[29] وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي أقمناها على المبدأ و الرسالة و المعاد كِذَّاباً أي تكذيبا، فلم يكونوا يقبلون الآيات الدالة على الألوهية و الرسالة و المعاد.

______________________________

(1) معاني الأخبار: ص 220.

(2) الحج: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 651

[سورة النبإ (78): الآيات 29 الى 33]

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33)

[30] و هل زعم هؤلاء أن أعمالهم الباطلة لا تأخذهم؟ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ أي جميع ما عملوه جمعناه و عددناه و بيناه، كِتاباً أي إحصاء في الكتاب لا بالقول فقط.

[31] و هناك يقال لهم: فَذُوقُوا هذا العذاب و النكال جزاء على أعمالكم الباطلة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فليس الأمر محتمل النقص و الانقطاع، بل تزدادون عذابا و نكالا كل يوم و ساعة، و ذلك باعتبار أن كل يوم يضاف عذاب ذلك اليوم على الأيام السابقة- و إن كان بقدرة في الكيفية-.

[32] و إذا عرفنا أحوال المجرمين في الآخرة فلنتعرف بالمؤمنين إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً مصدر ميمي، أي أن لهم فوزا و فلاحا «و المتقي» هو المؤمن الذي

يتقي اللّه فلا يذنب.

[33] حَدائِقَ بدل من «مفاز» جمع حديقة و هي البستان الصغير المنظم، أو هي الجنة المحوطة بالسور و إن كانت كبيرة، من «حدق» بمعنى أحاط وَ أَعْناباً جمع «عنب» خصّ بالذكر مثالا، و لكثرة الالتذاذ به.

[34] وَ كَواعِبَ جمع «كاعبة»، و هي المرأة التي استدار ثديها لكونها في أول زمان رشدها أَتْراباً جمع «ترب»، عمر الواحدة بعمر الأخرى كأنهم أتراب بعضهن لبعض، أو بعضهن مع أزواجهن، فليس عمر إحداهن أقل من عمر الزوج أو أكثر، ليرى العنت و الصعوبة في معاشرتها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 601

[سورة النبإ (78): الآيات 34 الى 38]

وَ كَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38)

[35] وَ كَأْساً و هو إناء الشراب دِهاقاً أي مملوءة، من «الدهق» بمعنى شدة الضغط، كأنه لا مجال فيها للماء أو الشراب بعد ذلك.

[36] لا يَسْمَعُونَ أي المتقون فِيها أي في الجنة كلاما لَغْواً لا فائدة فيه وَ لا كِذَّاباً أي تكذيبا من بعضهم لبعض.

[37] و إنما يكون المتقون في هذا النعيم الأبدي جَزاءً مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه لهم، على أعمالهم الحسنة في الدنيا، في حال كون ذلك الجزاء عَطاءً حِساباً أي عطاء بالحساب، فليس الأمر اعتباطا.

[38] ثم بين ربك بما يدل على عظمته سبحانه بقوله: رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا فكل شي ء له خلقا و تربية الرَّحْمنِ وجي ء بهذا الوصف للدلالة على أنه سبحانه رحيم بعباده يتفضل عليهم بالمغفرة

و الرحمة، و أنهم إنما استحقوا الثواب برحمته لا بأعمالهم لا يَمْلِكُونَ أي البشر مِنْهُ تعالى خِطاباً فلا يقدر أحد أن يكلم اللّه سبحانه أو يشفع لأحد إلا بإذنه، فهو رحيم ذو هيبة و جلال، و ليس كرحيم الدنيا الذي إذا عطف قلبه على أحد يمكن التسلط عليه للين قلبه.

[39] ثم بين معنى «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» بقوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ و هو ملك عظيم كما ورد في الأحاديث «1» وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا كما يصطف

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 10 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 602

[سورة النبإ (78): الآيات 39 الى 40]

ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

الجيش أمام الملك، و ذلك مما يزيد القيامة هيبة و هولا لا يَتَكَلَّمُونَ أي أولئك الملائكة و الروح، أو أيّ متكلم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بالكلام، في أي شأن من الشؤون وَ قالَ صَواباً و كأن هذا في بعض المواقف، و في بعض المواقف الأخر يتكلم كل أحد بما يريد من صدق و كذب كما قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» أو المراد بالتكلم- الشفاعة-.

[40] ذلِكَ الْيَوْمُ الذي وصف هو اليوم الْحَقُ الكائن لا محالة، فلا كذب في الإخبار به. قالوا: إذا طابق الخبر الواقع فباعتبار كونه مطابقا للواقع يسمى صدقا، و باعتبار مطابقة الواقع له يسمى حقا فَمَنْ شاءَ منكم أيها الناس اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ أي إلى رضاه و ثوابه مَآباً، بالإيمان و الطاعة، كأن المؤمن اتخذ إلى ربه مآبا، و الكافر اتخذ إلى ربه غيره مآبا، حيث يبتعد عن

لطفه و رحمته بسبب الكفر و العصيان فليس مآبه إليه.

[41] إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ أيها الناس عَذاباً قَرِيباً فإن الآخرة قريبة و إن ظنها الناس بعيدة، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَ نَراهُ قَرِيباً «2».

ثم بيّن وقت ذلك العذاب بقوله: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ

______________________________

(1) الأنعام: 25.

(2) المعارج: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 603

أي يرى جزاء أعماله و يلاقيه. و نسبة التقديم إلى اليد لكونها العضو الفعال في الأمور المرتبطة بالإنسان وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً لهول ما يرى من العذاب، فإنه يتمنى أن كان في الدنيا ترابا، و لم يكن إنسانا حتى يكفر فيبتلي بذلك العذاب العظيم. لكن تمنيه هناك لا ينفع، كما لا ينفع تمني كل مجرم إذا وقع في مخالب الجزاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 604

79 سورة النازعات مكيّة/ آياتها (47)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «النازعات»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، ألوهية، و رسالة، و معادا. و لما ختمت سورة النبأ بذكر أحوال القيامة افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه المالك لكل شي ء و المتصرف الوحيد في الكون، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحمة المكررة في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 605

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)

[2] وَ النَّازِعاتِ أي قسما بالنازعات، و هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار عن أبدانهم بشدة غَرْقاً أي إغراقا في النزع، كما يغرق النازع في القوس فيبلغ به غاية مدّ الوتر.

[3] وَ النَّاشِطاتِ

نَشْطاً أي قسما بالملائكة الناشطات التي تنشط في قبض أرواح الكفار نشاطا، أو تنشط في الذهاب بأرواحهم نحو الهاوية بعد نزعها.

[4] وَ السَّابِحاتِ أي قسما بالملائكة التي تسبح في الفضاء بعد قبض الأرواح، و «السبح» هي الحركة بسهولة كحركة السابح في الماء سَبْحاً مصدر تأكيدي.

و روي: أن المراد بذلك الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين يسلّونها سلّا رقيقا.

[5] فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً أي قسما بالملائكة التي تسبق بالأرواح- أو بأرواح المؤمنين- نحو الملأ الأعلى، و الإتيان بالفاء هنا و بالواو قبله للتفنن في الكلام الذي هو نوع من البلاغة.

[6] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً أي قسما بالملائكة التي تدبر الأمور بإذن اللّه سبحانه.

[7] قسما بأولئك الطوائف من الملائكة أن ما يأتي من أهوال القيامة و أخبار الجنة و النار صدق مطابق للواقع. و قد حذف هذا في الكلام لدلالة الآيات التالية عليه، أذكر يا رسول اللّه يَوْمَ تَرْجُفُ أي تتحرك و تضطرب الرَّاجِفَةُ أي الأرض، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 606

[سورة النازعات (79): الآيات 7 الى 11]

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11)

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ «1».

[8] تَتْبَعُهَا أي تتبع رجفة الأرض الرَّادِفَةُ أي التي تردف و تتبع الأرض في اختلال النظام و الاضطراب، و هي السماء، أو المراد بالراجفة النفخة الأولى، و بالرادفة النفخة الثانية.

[9] قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم، و هو يوم القيامة واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب.

[10] أَبْصارُها أي الأبصار المنسوبة إلى تلك القلوب، أو أبصار أصحابها خاشِعَةٌ أي ذليلة، لا تنظر إلا من طرف خفي خشية و رهبة و خوفا و خجلا.

[11] يَقُولُونَ أصحاب تلك القلوب

أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي الطريقة التي جئنا فيها، فإن «الحافرة» هي الطريقة التي مرّ فيها الإنسان، تسمى بذلك باعتبار أنه حفرها بتأثير أقدامه فيها. و هذا حكاية عن أولئك، حال كونهم في الدنيا حيث يتساءلون: هل نحن نرجع إلى الحياة بعد الموت حتى نكون كالسابق؟ و هذا استفهام إنكاري منهم للمعاد.

[12] أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً أي وقت كنا عظاما بالية، من «نخر»: إذا

______________________________

(1) المزمل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 607

[سورة النازعات (79): الآيات 12 الى 15]

قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15)

بلى. أي كيف نرجع إلى حالتنا الأولى بعد أن متنا و صرنا عظاما؟.

[13] قالُوا هؤلاء المنكرون للمعاد تِلْكَ أي تلك الرجعة التي تقولون بها أنتم المؤمنون إِذاً أي إذا كانت كما تقولون كَرَّةٌ أي رجعة إلى الدنيا خاسِرَةٌ فإن الإنسان خاسر في تلك الكرة، و إنما أسندت الخسارة إلى الكرة مجازا، بعلاقة الظرف و المظروف. و قد قال الكفار ذلك على وجه الاستهزاء، لأنهم لم يكونوا يرضون بذلك.

[14] و جاء الردّ عليهم بقوله: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي أن الكرة ليست صعبة على اللّه سبحانه، و إنما الكرة هي صيحة واحدة يصيح بها إسرافيل في الصور- في النفخة الثانية- و سميت الصيحة «زجرة» لأنها تزجر و تردع المخاطب عن سيره الأول إلى نحو السير الثاني.

[15] فَإِذا هُمْ أي البشر كلهم بِالسَّاهِرَةِ أي راجعون عن بطون الأرض إلى ظاهرها، فإن «الساهرة» هي وجه الأرض، و إنما سميت بذلك لأن الإنسان يسهر عليها و لا ينام- إذا كان في صحراء- خوفا من العدو و السبع- بعلاقة الحال و المحل،

فإن الإنسان يسهر في الأرض، لكن السهر نسب إلى المحل. و فيه إشارة إلى أن المحشر يكون في أرض مستوية كالفلات لا اعوجاج فيها و لا بناء و لا شجر.

[16] ثم يأتي السياق ليبين طرفا من قصة موسى و فرعون ليعتبر الكفار كيف عوقب فرعون لما لم يؤمن هَلْ أَتاكَ أي هل جاءك و هل سمعت حَدِيثُ مُوسى أي قصته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 608

[سورة النازعات (79): الآيات 16 الى 22]

إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20)

فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22)

[17] إِذْ أي في حين ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أول ما أوحى سبحانه إليه عند مرجعه من «مدين» شعيب إلى أرض مصر طُوىً اسم للوادي الذي كلّم اللّه فيه موسى، و أوحى إليه بالنبوة.

[18] قائلا له اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ الملك الطاغي إِنَّهُ طَغى أي تجاوز الحد في الكفر و العصيان.

[19] فَقُلْ يا موسى له هَلْ لَكَ طلب بصورة الاستفهام تأدبا إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك رغبة في أن تسلم، و تطهر نفسك عن الكفر و العصيان؟

[20] وَ هل لك أن أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أدلك عليه، فإن الإنسان لا يعرف مزاياه سبحانه إلا بعد الإرشاد و الهداية فَتَخْشى أي تخشاه باجتناب الكفر و العصيان، إذ الخشية إنما تكون بعد المعرفة.

[21] فَأَراهُ أي أرى موسى عليه السّلام فرعون الْآيَةَ أي المعجزة الْكُبْرى و هي العصا، أو المراد جنس الآية من جميع آياته التسع.

[22] فَكَذَّبَ فرعون بالآيات وَ عَصى موسى فلم يتمثل أمره في الإذعان للّه سبحانه.

[23] ثُمَّ أَدْبَرَ

فرعون، أي ولّى الدبر يَسْعى و يجتهد ليطلب ما يكسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 609

[سورة النازعات (79): الآيات 23 الى 27]

فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27)

به حجة موسى، و يبطل به نبوته.

[24] فَحَشَرَ فرعون، أي جمع حاشيته و جنوده فَنادى و خطب فيهم.

[25] فَقالَ لهم: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فإن الأصنام تحت ألوهيتي، و إنما الرب الأعلى- الذي لا رب فوقه- هو أنا، لا كما يزعم موسى بأن لي إلها فوقي.

[26] فَأَخَذَهُ اللَّهُ بالعذاب، و هو إغراقه و جنوده في البحر و إدخاله النار نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى «النكال» هو العقوبة، و هو مصدر تأكيدي، لأن معنى «أخذ» نكل به، أي عاقبه سبحانه عقوبة الآخرة في النار، و عقوبة الأولى بالغرق، أي عذبه بالصنفين من العذاب.

[27] إِنَّ فِي ذلِكَ النكال الذي حلّ بفرعون لَعِبْرَةً أي لعظة و اعتبارا لِمَنْ يَخْشى النكال و العقاب، كي يعتبر به و يعلم أن الكفر عاقبته العقاب و النكال.

[28] و بعد ما أتم قصة فرعون- في سرعة موقظة- يأتي السياق ليحدد من اعتزاز الكفار بقوتهم أمام أمر اللّه سبحانه، مبينا أنهم لا شي ء قبال خلق اللّه سبحانه، فكيف بهم في قبال أمره سبحانه؟ أَ أَنْتُمْ أيها البشر، أو يا كفار مكة أَشَدُّ خَلْقاً و أقوى استحكاما أَمِ السَّماءُ و لا شك أن الجواب: كون السماء أشد. و هذا لا ينافي كون الإنسان ألطف و أدق و أجمل خلقا، لأن الكلام في الشدة لا في الجمال و الدقة بَناها اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 610

[سورة

النازعات (79): الآيات 28 الى 32]

رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31) وَ الْجِبالَ أَرْساها (32)

سبحانه، و باني السماء لا يصعب عليه شي ء، و لا تعادل قوته قوة.

[29] رَفَعَ اللّه سَمْكَها أي سقفها، فإن السمك هو الارتفاع أي أنه سبحانه رفع كثيرا السماوات في جهة الطول فَسَوَّاها أي عدلها بلا شقوق و لا فطور و لا فساد و خلل.

[30] وَ أَغْطَشَ لَيْلَها أي أظلمها وَ أَخْرَجَ ضُحاها أي أظهر ضياءها.

و إنما نسب الأمران إلى السماء لأنها مصدرهما، بطلوع الشمس و غروبها.

[31] وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد خلق السماوات و تنظيم أمورها دَحاها أي بسطها، فإنه سبحانه أولا خلق الأرض غير مدحوة، ثم خلق السماوات، ثم دحى الأرض، و «الدحو» هو البسط، و قد استدلّ علماء الفلك بهذه الآية على حركة الأرض، لأن الدحو هو الرمي المستلزم للحركة، و لذا يقال للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «داحي الباب» كذا استدلوا بقوله أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً «1» من كفت الطير: إذ طار و اللّه العالم.

[32] أَخْرَجَ مِنْها أي من الأرض ماءَها بأن فجّر العيون و فلق البحار وَ مَرْعاها أي مروجها التي هي محل رعي الحيوانات و البهائم و ذلك بمعنى أنه سبحانه خلق فيها الأعشاب و النبات.

[33] وَ الْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها في أطراف الأرض لئلا تتزلزل

______________________________

(1) المرسلات: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 611

[سورة النازعات (79): الآيات 33 الى 38]

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37)

وَ آثَرَ

الْحَياةَ الدُّنْيا (38)

الأرض و تضطرب.

[34] و إنما فعل كل ذلك مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ أي لأجل تمتعكم و منفعتكم أنتم البشر، و تمتع أنعامكم بالسكون في الأرض، و تحصيلكم المعايش و رعي البهائم، «و أنعام» جمع نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم.

[35] فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ هي القيامة، سميت بذلك لأنها تطم أي تعلو و تغلب على كل شي ء، يقال «طم الطائر الشجرة» أي علاها و تسمى الداهية «طامة» لأنها تعلو الشي ء و تغلبه الْكُبْرى لأنها أكبر من كل داهية هائلة.

[36] و ذلك يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي ما عمله من خير و شر، فإن الإنسان في ذلك اليوم يتذكر كل عمل عمله إما ذكرا في الخاطر، و إما ذكرا من مطالعة كتابه الذي كتبه الملكان الموكلان به.

[37] وَ يوم بُرِّزَتِ أي أظهرت، و المظهر لها هو اللّه سبحانه الْجَحِيمُ هي جهنم لِمَنْ يَرى أي لكل من تأتي منه الرؤية، فإنهم يرونها ظاهرة مكشوفة، و جواب «إذا» محذوف، أي كان الناس قسمين، و إنما حذف لدلالة ما بعده عليه.

[38] فَأَمَّا مَنْ طَغى أي تكبر و تجاوز الحد في كفره و عصيانه.

[39] وَ آثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا على الحياة الآخرة، بأن كانت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 612

[سورة النازعات (79): الآيات 39 الى 43]

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)

أعماله للدنيا و لم يعمل شيئا للآخرة.

[40] فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى له، «و المأوى» من آوى، بمعنى اتخذ المنزل، أي أن مصيره إلى النار الكثيرة- فإن الجحيم

بمعنى ذلك.

[41] وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي المقام المربوط بالرب تعالى و هو يوم القيامة، و الإضافة تشريفية، من قبيل «بيت اللّه» بمعنى خاف عذاب الآخرة وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي نهى نفسه و حفظها من أن يتبع هواها و مشتهياتها في ارتكاب المحرمات و ترك الواجبات.

[42] فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له، فإنه يصير إليها.

[43] و حيث كان الكلام في القيامة أتى السياق لجواب سؤال الناس عن وقت القيامة يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة أَيَّانَ مُرْساها أي متى يكون قيامها، من «الإرساء» و هو الثبوت و الاستقرار.

[44] فِيمَ أَنْتَ أي فيما ذا أنت يا رسول اللّه مِنْ ذِكْراها أي من تذكر الساعة فإنك لا تعلم وقت قيامها، كأن الإنسان إذا كان داخلا في شي ء علم مزاياه، أما إذا كان خارجا لا يعلم خصوصياته، و «فيم أنت» للإنكار، أي لست من ذكراها في شي ء حتى تعلمها فإنما علمها خاص باللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 613

[سورة النازعات (79): الآيات 44 الى 46]

إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

[45] إِلى رَبِّكَ يا رسول اللّه مُنْتَهاها أي انتهاء علم الساعة إلى اللّه سبحانه، فإذا سئل شخص عن الساعة حوّله المسئول عنه إلى غيره و غيره إلى آخر، و هكذا حتى ينتهي إلى اللّه الذي هو عالم بوقتها، و المنتهى أضيف إلى الساعة، و المراد بها وقتها- بعلاقة الملابسة-.

[46] و ليس علم وقت الساعة مربوطا بك، ف إِنَّما أَنْتَ يا رسول اللّه مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي شأنك الإنذار لمن يخشى من الساعة، و إنما خص الإنذار بهم لأنهم المنتفعون

بالإنذار دون سواهم.

[47] ثم جاء السياق لينذر الناس و يذكرهم بأن لبثهم في الدنيا قليل حتى كَأَنَّهُمْ أي الناس يَوْمَ يَرَوْنَها أي يرون الساعة، فيما إذا قامت عليهم لَمْ يَلْبَثُوا أي لم يمكثوا و لم يبقوا في الدنيا إِلَّا عَشِيَّةً أي مقدار عصر يوم أَوْ ضُحاها أو صبح تلك العشية، و المعنى يظنون أنهم لم يكونوا في الدنيا إلا نصف يوم صباحا أو مساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 614

80 سورة عبس مكيّة/ آياتها (43)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عبس»، و هي كسائر السور المكية مشتملة على معالجة قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «النازعات» بإنذار من يخشى، افتتحت هذه السورة بإنذار شخص خاص.

«عبس و تولى» و قد نزلت هذه السورة في «عثمان بن عفان»، حيث كان عند الرسول مع جملة من أصحابه، فجاء أعمى و جلس قرب عثمان، فعبس عثمان وجهه و تولى عنه و جمع ثيابه، و أقبل على بعض الجالسين الآخرين الذين كان لهم ثراء، فنزلت الآيات «1».

و من غريب الأمر أن بعض بني أمية المبغضين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نسب هذا الأمر إلى الرسول لتبرئة ساحة قريبهم «عثمان» و قال: إن الرسول هو الذي عبس و تولى، مخالفا بذلك نص القرآن العظيم وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «2» و عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» و غيرها.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 85.

(2) القلم: 5.

(3) التوبة: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 615

ثم جاء جماعة من الوهابيين فأخذوا يلحسون قصاع الأمويين في نسبة هذه السبة إلى الرسول، بتزويقات و زخارف من القول، و قد صار ذلك حرابا في أيدي الصليبيين في الهجوم على الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم حتى أن بعض كراريسهم كتبت: أيهما خير المسيح أو محمد، فإن الأول كان يبرئ الأعمى- بنص كتابكم وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ «1» و الثاني كان يعبس و يتولى إذا جاءه الأعمى بنص كتابكم؟

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له ما في السماوات و الأرض، فهو أحق بالابتداء باسمه من غيره، إذ هو المبدأ الذي بيده كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد، و يتفضل عليهم بما يكمل نقصهم.

______________________________

(1) آل عمران: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 616

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)

[2] عَبَسَ عثمان بن عفان، أي قطّب وجهه وَ تَوَلَّى أي أعرض.

[3] أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى أي بسبب أن جاءه شخص أعمى. قالوا و كان الأعمى ابن أم مكتوم.

[4] ثم أخذ السياق لتأنيب عثمان بما فعله موجها الخطاب معه، كما هو دأب القرآن في توجيه الخطاب إلى الناس، نحو أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً «1» وَ ما يُدْرِيكَ أيها العابس لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي لعل الأعمى يتطهر بالعمل الصالح؟ فيكون الإعراض عنه إثما، حيث إنه إعراض عن الزاكي الطاهر.

[5] أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتذكر بسبب الوعظ و الإرشاد، أصله «تذكر» ثم أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجهما، فجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى و الفرق بين الآيتين أن الأولى «زكاة» من نفسه، و الثانية «زكاة» بواسطة التذكير.

[6] أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي كان غنيا بالمال، و الإتيان من باب الاستفعال، من جهة أن الشخص يطلب الغنى.

[7]

فَأَنْتَ يا عابس لَهُ تَصَدَّى أي تتعرض، أصله «تتصدى» حذفت إحدى تائيه على القاعدة، أي تقبل عليه و تحاوره.

______________________________

(1) النازعات: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 617

[سورة عبس (80): الآيات 7 الى 14]

وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَ هُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11)

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

[8] وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا تبالي هل هو زكي أم لا؟ فإن المال هو الذي يعظم في نفسك لا الدين، و لذا لا تبالي بالدين إذا كان الشخص ذا مال.

[9] وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ساعيا لأجل الخير و الرشد كابن أم مكتوم.

[10] وَ هُوَ يَخْشى اللّه عزّ و جلّ.

[11] فَأَنْتَ أيها العابس عَنْهُ عن ذلك الساعي تَلَهَّى أي تتلهى- على غرار تصدى- أي تتغافل و تشتغل بغيره، لأنه فقير معدوم.

[12] كَلَّا ليس الأمر على ما زعمت: من أن المال خير من الدين إِنَّها أي هذه الآيات تَذْكِرَةٌ مذكرة بالحسن و القبيح الكامن في النفس و الفطرة.

[13] فَمَنْ شاءَ الخير و السعادة ذَكَرَهُ أي ذكر ما أودع في نفسه و فطرته، بأن عمل بالوعظ و الإرشاد.

[14] إن هذه التذكرة هي فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ عند اللّه سبحانه، و المراد «بالصحف» اللوح المحفوظ و سائر الألواح الموجودة في الملأ الأعلى.

[15] مَرْفُوعَةٍ في السماء- حسا- أو معظمة مجللة- معنى- مُطَهَّرَةٍ أي منزهة من الخطأ و النقائص و ما أشبهها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 618

[سورة عبس (80): الآيات 15 الى 20]

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ

(19)

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)

[16] بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي إن تلك الصحف إنما هي بأيدي الملائكة الكرام، فإن «سفرة» جمع «سافر» و هو الكاتب، أو السفير.

[17] كِرامٍ جمع كريم، أي ذوي مقامات رفيعة بَرَرَةٍ جمع «بارّ»، و هو المحسن.

[18] ثم يأتي السياق ليتعجب من الكافر كيف يكفر بهذا الكتاب العظيم، المنزل من عند اللّه سبحانه الذي هو الخالق و بيده أزمّة كل شي ء قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه، أي اللهم أقتله، و المراد به الجنس المنحرف بدلالة القرائن الآتية ما أَكْفَرَهُ تعجب من كفره و ضلاله بعد وضوح الحجة و تمام المحجة.

[19] مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ اللّه تعالى؟ أي ألا ينظر إلى أصل خلقه كيف خلقه تعالى من ماء مهين، حتى جعله إنسانا بهذه الغرابة في الدقة و الأجهزة و الآلات؟

[20] مِنْ نُطْفَةٍ أي قطرة من المني خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي قدر مزاياه و خصوصياته من حواسه و مشاعره و آلاته و أجهزته و كمه و كيفه و طوله و عرضه و غير ذلك.

[21] ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي يسر و سهل له سبيل الحياة، بأن هيأ له الأسباب و الوسائل و أرشده إلى خيره و سعادته، و الأصل يسر له السبيل ثم حذف الجر- على قاعدة القطع و التوصيل-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 619

[سورة عبس (80): الآيات 21 الى 28]

ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25)

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)

[22] ثُمَ بعد أن انتهى أمده في الحياة أَماتَهُ بأن قبض روحه فَأَقْبَرَهُ أي أدخله القبر، و هو المحل الذي يشتمل

على جسمه بعد الموت، و إن كان البحر أو نحوه، أو من باب الغلبة.

[23] ثُمَّ إِذا شاءَ و أراد سبحانه قيام القيامة أَنْشَرَهُ أي بعثه حيا سويا.

[24] فهل تراه تهيأ للنشور و استعد لذلك اليوم العظيم بالإيمان و العمل الصالح؟ كَلَّا إنه في غفلة و سبات و لَمَّا يَقْضِ أي لم يأت بعد ب ما أَمَرَهُ اللّه سبحانه من الإيمان و العمل الصالح.

[25] ثم يأتي السياق لتذكير الإنسان بجملة من الآيات الكونية تدليلا على وجوده سبحانه بالآيات الآفاقية بعد أن ذكره الآيات الأنفسية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ الذي يأكله، ليتذكر أصل الخلقة، و من خلقها، ليرعوي عن غيّه و ضلاله.

[26] أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ المطر من السماء صَبًّا أي إنزالا.

[27] ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بإخراج النبات منها شَقًّا حتى أن النبات الضعيف خرج من الأرض الصلبة.

[28] فَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض حَبًّا أي جنس الحبوب من الحنطة و الشعير و أمثالهما.

[29] وَ أنبتنا فيها عِنَباً خص بالذكر لكثرته و لذته و عظم فائدته وَ قَضْباً و هو القت الرطب الذي يقضب و يقطع مرة بعد أخرى لعلف الدواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 620

[سورة عبس (80): الآيات 29 الى 34]

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)

[30] وَ زَيْتُوناً و هو ما يعصر منه الزيت وَ نَخْلًا و هو الشجرة التي تعطي التمر.

[31] وَ حَدائِقَ جمع «حديقة»، و هو البستان المحوّط بالسور أو البستان الصغير ذو الأشجار و الأوراد غُلْباً جمع «غلباء» و هي الحديقة العظيمة الملتفة الأشجار، كأنه مأخوذ من التغالب، لتغالب أشجارها في الارتفاع للاستفادة

من الهواء و الضياء.

[32] وَ فاكِهَةً أي سائر ألوان الفواكه وَ أَبًّا و هو المرعى من الحشيش و غيره الذي يرعاه الحيوان.

[33] و إنما أنبتنا كل ذلك مَتاعاً لَكُمْ أي لأجل متاعكم و عيشكم وَ لِأَنْعامِكُمْ أي بهائمكم. قالوا: الفاكهة لكم، و الأبّ لأنعامكم.

[34] ثم ينتقل السياق من المبدأ إلى المعاد بقوله تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ و هي من أسامى القيامة، بمعنى الصاكة، لأنها تصك الأسماع، أي تبالغ في إسماعها، من أصواتها الشديدة، كصوت النفخة، و صوت النار، و أصوات الملائكة، و ما أشبه. و الجواب محذوف، أي يكون الناس يومئذ قسمين، و قد دل على الجواب ما يأتي في قوله «وجوه».

[35] ثم بين وقت مجيئها بقوله: و ذلك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ أي كل أحد مِنْ أَخِيهِ خوفا بأن يبتلى به، بأن يطلب منه شيئا، أو يلقى عليه بعض تبعته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 621

[سورة عبس (80): الآيات 35 الى 41]

وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41)

[36] وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ حذرا من أن يكون قصر في حقهما، أو يطالبانه بشي ء.

[37] وَ صاحِبَتِهِ أي زوجته، و هو من باب المثال، و إلا فالزوجة أيضا تفر من زوجها وَ بَنِيهِ أي أولاده، و المراد إنه يفر من أعز أقربائه و عشرائه.

[38] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الفارين، أو كل من حضر في القيامة يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ أي أمر عظيم يُغْنِيهِ عن شؤون غيره لأنه مبتلى بحساب نفسه يشغله عن الاهتمام بالآخرين.

[39] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، و هي وجوه المؤمنين

مُسْفِرَةٌ أي مشرقة مضيئة، «من أسفر» بمعنى ظهر فإنها تظهر عليها آثار الفرح و السرور.

[40] ضاحِكَةٌ من السرور مُسْتَبْشِرَةٌ استبشرت بالخير و الثواب أي فرحت و تهللت.

[41] وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، و المراد بها وجوه الكفار و العصاة عَلَيْها غَبَرَةٌ أي سواد و كآبة و حزن، مشتق من الغبار و هو التراب المتصاعد الذي يعلو الأشياء.

[42] تَرْهَقُها أي تعلو تلك الوجوه و تغشاها قَتَرَةٌ و هي ظلمة الدخان، فالغبار و الدخان و عبوس النفس كلها تظهر على وجوههم، و لا يجليها رضوان اللّه و رحمته، كما يجلي وجوه المؤمنين، لو فرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 622

[سورة عبس (80): آية 42]

أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

مرورها من محلات القيامة المغبرة.

[43] أُولئِكَ الذين وصفوا بتلك الأوصاف السيئة هُمُ الْكَفَرَةُ جمع كافر الْفَجَرَةُ جمع فاجر أي العاصي، يعني أن الكفار و الفجار هم الذين تكون على وجوههم غبرة و قترة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 623

81 سورة التكوير مكية/ آياتها (30)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من هذا المصدر، و هو قوله «كورت» و هي كسائر السور المكية تبين قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، و حيث ختمت سورة «عبس» بذكر القيامة، افتتحت هذه السورة بذكر علاماتها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو المبدأ لكل شي ء، فمنه سبحانه جاء الكون، و إليه مصير الخلق، الرحمن الرحيم بكل شي ء خلقا و تربية و لطفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 624

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6)

وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)

[2] إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي ذهب نورها فأظلمت، و التكوير هو اللف، كأن المراد لف ضوؤها، فذهب انبساطها في الآفاق، فتصير سوداء مظلمة.

[3] وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ بأن يذهب نورها و ضياؤها، من الكدرة.

[4] وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ قلعها اللّه عن مكانها، و سيرها كالهباء في الفضاء.

[5] وَ إِذَا الْعِشارُ و هي النوق الحوامل، جمع «عشراء» و هي الناقة الحامل، و الناقة التي وضعت لتمام عُطِّلَتْ أي تركت هملا بلا راع و لا محافظ، و ذلك كناية عن أن أهوال ذلك اليوم بحيث توجب أن يذهل الإنسان عن أعز ماله.

[6] وَ إِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش، و هو الحيوان البري الذي لا يأنس، أو مطلق الحيوان حُشِرَتْ أي جمعت في ذلك اليوم ليقتص للمظلوم منها من الظالم.

[7] وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي حولت إلى النيران، و منه تسجير التنور، بإيقاد النار فيه.

[8] وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ بأن قرنت كل نفس إلى من يشاكلها فالمؤمن مع المؤمن، و الكافر مع الكافر، أو زوجت نفوس المؤمنين بحور العين و نفوس الكافرين بالشياطين، أو زوجت النفوس بالأحباء، بعد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 625

[سورة التكوير (81): الآيات 8 الى 14]

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

مفارقتها عنها في حال الموت.

[9] وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ من وئد بمعنى دفن الشي ء حيا، فقد كانت العرب تئد البنات خوف الفقر و العار سُئِلَتْ أي يسأل عنها.

[10] بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يسأل عن الذين و أدوا بناتهم: بأي ذنب صدر منهن قتلتموهن، و هن

بريئات لا ذنب لهن؟

[11] وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحائف أعمال الناس تنشر ليقرأها أصحابها و يطلعوا على ما فيها من خير و شر حتى يجازون بما عملوا.

[12] وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ الكشط هو القلع عن شدة، كأن السماء جلد يكشط و يقلع عن الكون، و ذلك كناية عن تبدل الأنظمة العلوية حتى يرى الإنسان السماء غير السماء كما يرى البدن المكشوط جلده بغير شكله السابق.

[13] وَ إِذَا الْجَحِيمُ أي النار سُعِّرَتْ أي أوقدت، بأن ترتفع نارها و لهيبها لتشتد و تزداد حرارة و هولا.

[14] وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت، كأنها في محل بعيد في الفضاء ثم تدنى إلى الأرض التي هي المحشر و الموقف، أو المراد قربت إلى المؤمنين قربا زمانيا.

[15] إذا كانت هذه الأمور عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي عرفت أعمالها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 626

[سورة التكوير (81): الآيات 15 الى 19]

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

التي عملتها في دار الدنيا من خير و شر و سعادة و شقاء و التي أحضرتها ليوم القيامة، فإنها تعرف بأعمالها لتجازى عليها.

[16] ثم جاء السياق لتثبيت أمر الرسالة و بيان أن القرآن ليس كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يزعم الكفار- فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ قد سبق أن «لا» للنفي، و إنما يؤتى بها لنكتة هي إرادة تعظيم القسم و الإشعار به مع عدم الحلف واقعا. كما تقوم لرجل عظيم «لا أقسم بحياتك لكن الأمر كذا». و «الخنس» جمع الخانس، و هو الذي يستتر و يرجع، و المراد بها الكواكب، أي لا أقسم بالكواكب التي

تستتر عند مغيبها في المغرب، أو لضياء النهار.

[17] الْجَوارِ جمع جارية، لأن الكواكب تجري و تسير في السماء الْكُنَّسِ جمع «كانس» و هو الذي يستتر في محله، كالضبي الذي يأوى إلى كناسه أي منزله، و كأن المعنى لا أقسم بالكواكب السيارة التي ترجع في دورتها الفلكية و تجري و تختفي في أماكنها، فإن أول الليل يرى الإنسان الكواكب رجعت عن مغيبها، ثم يرى جريانها ثم اختفاءها عند المغرب أو عند إضاءة الصباح.

[18] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل، أو بمعنى أدبر.

[19] وَ قسما ب الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أسفر و أضاء.

[20] ثم جاء متعلق الحلف بقوله: إِنَّهُ أي إن هذا القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ المراد به جبرئيل عليه السّلام، في مقابل أن يكون من مخترعات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 627

[سورة التكوير (81): الآيات 20 الى 25]

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25)

الرسول- كما زعم الكفار- و كونه قول جبرئيل يراد به حكايته لذلك عن اللّه سبحانه، لا إنه قوله الاستقلالي- كما لا يخفى-.

[21] ذِي قُوَّةٍ جسدية و عقلية، فيتمكن من النزول من السماء إلى الأرض، و يبلغ رسالة اللّه إلى الرسول كاملة بلا زيادة أو نقصان عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي له مكان عظيم عند اللّه سبحانه- الذي هو صاحب العرش، المالك للكون كله، كما يقال للملك «صاحب العرش» كناية عن كونه ملكا- و «مكين» بمعنى متمكن.

[22] و هو مُطاعٍ للملائكة، أي يطيعونه الملائكة لكبر مقامه ثَمَ أي هناك في الملأ الأعلى أَمِينٍ

على الوحي فلا يزيد فيه و لا ينقص.

[23] فالقرآن إذا كلام اللّه تعالى، أما الرسول وَ ما صاحِبُكُمْ أيها الكفار- و المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي صحبهم- بِمَجْنُونٍ قد خلط عقله كما تتقوّلون عليه.

[24] وَ لَقَدْ رَآهُ أي رأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ في ناحية المشرق عند الأفق الواضح، فلم يكن وهما أو إلقاء من الشياطين أو ما أشبه- كما تزعمون-.

[25] وَ ما هُوَ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى الْغَيْبِ أي وحي اللّه سبحانه له بِضَنِينٍ بمتهم، من «الضنة» بمعنى التهمة، أو ببخيل.

[26] وَ ما هُوَ أي ليس القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم أي مطرود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 628

[سورة التكوير (81): الآيات 26 الى 29]

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

باللعن، كسائر الكهانات التي هي أقوال الشياطين تلقى على الكهنة.

[27] فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أيها الكفار؟ و كيف لا تؤمنون و القرآن شاهد صدق على نفسه، بأنه ليس كلام مجنون، و لا كلام شيطان، و لا ما زيد فيه أو نقص لبخل الرسول بإعطاء الوحي كاملا، فإنه من طرف المنزل، و هو اللّه، و من طرف المنزل إليه و هو الرسول، أحسن كتاب للهداية.

[28] إِنْ هُوَ أي ليس القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي لجميع الأجيال و العوالم، عالم الإنس و عالم الجن، يذكرهم بما أودع في فطرتهم من الأمور المرتبطة بالألوهية و الرسالة و المعاد، و الأخلاق و ما أشبه ذلك.

[29] لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أيها المكلفون أَنْ يَسْتَقِيمَ في

عقيدته و عمله، بأن لا ينحرف يمينا أو شمالا، و إنما خصهم لأنهم المنتفعون بالذكر، كما تقول «هذا معلم لمن شاء أن يتلمذ عنده» تعني أن المريد هو المستفيد منه، و إن كان هو مستعد لتعليم كل فرد.

[30] وَ ما تَشاؤُنَ أنتم الاستقامة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإن الإنسان لا يتمكن على الاهتداء إلا بعد مشيئة اللّه بنصب الأدلة و قد شاء سبحانه ذلك، و أرسل الرسول، و أنزل الكتاب، فلم يبق إلا مشيئة البشر أن يقبلوا الهدى و يتبعوا السبيل. و في هذا تحريض العباد على المشيئة إذ اللّه رب العالمين قد شاء، فهل يحق للبشر أن لا يشاء؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 629

82 سورة الإنفطار مكيّة/ آياتها (20)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على فعل المصدر و هو قوله «انفطرت»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و حيث كانت سورة «التكوير» لبيان أهوال القيامة، جاءت هذه السورة مؤكدة لتلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع في السورة باسم الإله الذي له كل شي ء، فإن اللّه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بتكميل نواقصهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 630

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)

[2] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت و ظهر فيها أثر الانفطار حتى إذا شاهدها الإنسان رآها كالحائط المنفطر.

[3] وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تهافتت و اختلفت أمكنتها و بطل نظامها الحالي، من النثر و

هو التبعثر.

[4] وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ كما تتفجر العيون، بأن أخذت تغلي بالماء أو باللهب.

[5] وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي قلب ترابها لخروج الأموات منها، و الشي ء المبعثر هو المتفرق.

[6] إذا صار كل ذلك، فقد قامت القيامة و عَلِمَتْ كل نَفْسٌ و المراد بالنفس الجنس، و لذا أدخلنا عليها «كل» ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ أي يعرف كل إنسان- بالنظر إلى صحيفة عمله- ما قدم إلى الآخرة في حال كونه في الدنيا و ما أخر إلى الآخرة بعد وفاته، بما خلف من صدقات جارية و كتب علم و دين أو أشياء ضارة و ما أشبه ذلك، فإنه يعرف بكل ذلك ليجزي حسب ما عمل إن حسنا فحسن، و إن سيئا فسي ء.

[7] ثم يأتي السياق لإيقاظ الإنسان من نومه، بقوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي أيّ شي ء خدعك بربك حتى صرت تعصيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 631

[سورة الانفطار (82): الآيات 7 الى 10]

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10)

و تخالفه، آمنا من عذابه و عقابه؟ و هل كان من العدل أن تقابل كرمه بالعصيان؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟-

و في حديث أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما تلا هذه الآية قال: غره جهله

«1».

[8] الَّذِي خَلَقَكَ بأن أوجدك منيا فَسَوَّاكَ جعل أجهزتك سليمة معدة لمنافعها فَعَدَلَكَ أي جعل بعض أعضائك عدل بعض كعينين و يدين و رجلين و ما أشبه بحيث يتناسب أحدهما مع الآخر دون كبر في بعض و صغر في بعض.

[9] فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ «ما» زائدة لتأكيد

اختلاف الصور رَكَّبَكَ أي ركبك في أية صورة شاء من أنواع الصور الحسنة و القبيحة و المليحة أو غيرها و هكذا، فإن بسائط الجسم من لحم و عظم و شحم و دم و غيرها ركب سبحانه منها صورة كل إنسان بشكل خاص.

[10] فهل بعد ذلك كله تنكرون وجود اللّه، أو قدرته على البعث كَلَّا ليس الأمر على ما تزعمون بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي بالجزاء لا تؤمنون، بل تكذبون.

[11] و تظنون أن لا حساب وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ أيها الناس لَحافِظِينَ من الملائكة، يحفظون أعمالكم بكتابتها في دواوين لتجزون عليها يوم القيامة، و «حافظين» اسم «إنّ».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 632

[سورة الانفطار (82): الآيات 11 الى 18]

كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15)

وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18)

[12] كِراماً أي ملائكة كراما ذوي رفعة و مكانة رفيعة كاتِبِينَ يكتبون أعمال بني آدم.

[13] و لا يسقط من حسابهم شي ء، بل يَعْلَمُونَ كل ما تَفْعَلُونَ من طاعة و معصية و خير و شر.

[14] ثم في يوم القيامة يجازى كل حسب ما عمل إِنَّ الْأَبْرارَ جمع «بر» و هو المحسن في العقيدة و العمل لَفِي نَعِيمٍ الجنان و رفاهها و خيرها.

[15] وَ إِنَّ الْفُجَّارَ جمع «فاجر» و هو العامل بالمعاصي، كفرا كان أو غيره لَفِي جَحِيمٍ اسم من أسامي جهنم، و هي النار الكثيرة.

[16] يَصْلَوْنَها أي يدخلونها ملازمين لها يَوْمَ الدِّينِ أي يوم القيامة.

[17] وَ ما هُمْ أي الفجار عَنْها أي عن الجحيم بِغائِبِينَ

بأن يغيبوا عن النار في بعض الأوقات، بل إنهم مؤبدون فيها بلا انقطاع.

[18] و إذا تقدم ذكر يوم القيامة جاء السياق لتهويل شأنه وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان ما يَوْمُ الدِّينِ أي أيّ شي ء هو؟ فإن أهوالها لا تدرك، حتى يراها الإنسان رأي العين.

[19] ثُمَ لترتيب الكلام و تكثير التهويل ما أَدْراكَ أيها الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 633

[سورة الانفطار (82): آية 19]

يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

ما يَوْمُ الدِّينِ أي ما هو الجزاء.

[20] إنه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً، فلا يقدر أحد الدفاع عن غيره، أو إنقاذه بسائر الوسائل وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم لِلَّهِ وحده، و لا ينفع للنجاة إلا العمل الصادر للّه تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 634

83 سورة المطفّفين مكيّة- مدنيّة/ آياتها (37)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «المطففين»، و لعل السورة مركبة من المدنية و المكية لاشتمالها على ما يشبه النظام إلى جنب قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة الانفطار بذكر القيامة و أحوال الناس فيها، ذكر في هذه السورة ذلك أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له الملك و هو الأول لكل شي ء، فما أجدر أن يبتدأ باسم الكريم، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على العباد و يكمل نقص كل إنسان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 635

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)

[2] وَيْلٌ و هي كلمة تقال بمعنى سوء الحال، أي أن سوء الحال لِلْمُطَفِّفِينَ و «التطفيف»

هو نقص الكيل و الميزان.

[3] ثم فسره سبحانه بقوله: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم، كما لو دفعوا مالا لاشتراء من من الحنطة، فإذا كالوها يَسْتَوْفُونَ أي يأخذون بمقدار حقهم وافيا، و لما كان الكيل و الوزن من جنس واحد اكتفى بأحدهما عن ذكر الآخر.

[4] وَ إِذا كالُوهُمْ أي كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي وزنوا لهم، بأن أرادوا بيع من من الحنطة مثلا للناس و قبض الثمن لأنفسهم يُخْسِرُونَ أي ينقصون فيما يعطون، فمثلا ينقصون من المنّ حقة. و لا يخفى أن العمل الأول ليس محرما، و إنما يكون بشعا إذا قيس بالعمل الثاني، كما أن إطراء الناس في وجههم ليس محرما، و لكن إذا ضم إلى ذمهم في قفاهم صار بشعا، و سمي الفاعل لذلك ذا لسانين، و كان له يوم القيامة لسانان من نار- كما ورد-.

[5] ثم يأتي السياق ليهددهم بقوله: أَ لا يَظُنُ و الإتيان بلفظ الظن لإفادة أن مجرد الظن كاف في الانقطاع، فكيف بالعلم أُولئِكَ المطففون أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أي يبعثون.

[6] لِيَوْمٍ عَظِيمٍ في يوم القيامة الذي يحاسب فيه كل إنسان بما عمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 636

[سورة المطففين (83): الآيات 6 الى 11]

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)

[7] و هو يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لحسابه و جزائه.

[8] كَلَّا ليس الأمر على ما زعمتم من أنه لا حساب و لا جزاء، بل هناك يجازي كل إنسان بما عمل، ف إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ جمع فاجر، و

هو العاصي للّه سبحانه، سواء كان بالكفر أو الإثم، و المراد بكتابهم ما أدرج فيه أسماؤهم و خصوصياتهم لَفِي سِجِّينٍ و هو السجل على جهة التخليد فيه، يعني أنه قرر لهم السجن الأبدي، و هكذا سجل أسماؤهم بأنهم في سجين، كما تقول:

«كتاب فلان في المجرمين» أي أنه كتب مجرما في ضمن سائر المجرمين.

[9] ثم جاء السياق لتهويل أمر سجين بقوله: وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما سِجِّينٌ فما أعلمك به، بل أنتم لا تدرون به.

[10] إنما هو كِتابٌ مَرْقُومٌ قد رقم و كتب و فرغ منه، فلا يمكن تبديله و تغييره، بأن يمحي اسم الفاجر منه، ليدرج في كتاب الأبرار.

[11] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لِلْمُكَذِّبِينَ

[12] ثم حدد معنى المكذبين، و المراد بهم بقوله: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم القيامة، فإن الدين بمعنى الجزاء، و التكذيب بيوم القيامة يلازم التكذيب بسائر الأصول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 637

[سورة المطففين (83): الآيات 12 الى 15]

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)

[13] وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ أي بيوم القيامة إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ يعتدي و يظلم و يتجاوز عن الحد أَثِيمٍ يأثم و يعصي في كثرة و يبالغ في الاعتداء.

[14] إِذا تُتْلى عَلَيْهِ أي تقرأ على ذلك المعتدي آياتُنا الدالة على الألوهية و التوحيد و سائر الأصول، أو المراد بها القرآن قالَ هذه التي تتلونها هي أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ حكاياتهم و كلماتهم الخرافية، جمع «أسطورة» و هي القصة الخيالية التي لا حقيقة لها، و في

هذا اليوم يسمون الدين «رجعية» عبارة أخرى عن «أساطير الأولين».

[15] كَلَّا ليست الآيات أساطير بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ «الرين» في الأصل بمعنى الغلبة، أي غلب عليها ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الذنوب و الآثام، حتى أن عصيانهم سبّب تحجّر قلبهم، فلا يرون الحق إلا باطلا، و الآيات إلا أساطير.

قال الصادق عليه السّلام يصدأ القلب، فإذا ذكرته باللّه انجلى

«1».

[16] كَلَّا لا يبقى هؤلاء في خير و نعيم إلى الأبد، كما يظن الكفار بأنهم هناك أيضا يحظون بكرامة اللّه و إحسانه قائلين وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «2» إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ أي عن لطفه و رحمته يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لَمَحْجُوبُونَ ممنوعون، و هذا كما

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 293.

(2) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 638

[سورة المطففين (83): الآيات 16 الى 21]

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)

يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

تقول «حجبني فلان عن الملك» أي منع لطفه عني.

[17] ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد أن حجبوا عن فضل اللّه و لطفه لَصالُوا الْجَحِيمِ أي داخلون فيها ملازمون لها.

[18] ثُمَّ يُقالُ لهم بعد أن دخلوا الجحيم على وجه التقريع و التوبيخ هذَا الَّذِي ذقتموه من العذاب و النكال كُنْتُمْ بِهِ في الدنيا تُكَذِّبُونَ و تقولون: لا جنة، و لا نار، و لا حساب، و لا جزاء.

[19] كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم من أنكم أهل كرامة اللّه، إن الكرامة ليست لكم، و إنما هي للأبرار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ أي الكتاب الذي أدرج فيه أسماؤهم و عين فيه مقاماتهم، و «أبرار» جمع

برّ و هو المحسن عقيدة و عملا لَفِي عِلِّيِّينَ أي مراتب عالية، فإنهم مكتوبون في سجلهم أن مقامهم هناك.

[20] ثم جاء السياق لتعظيم مقامهم بقوله: وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه ما هي عِلِّيُّونَ

[21] إنه كِتابٌ مَرْقُومٌ قد رقم و سجل فلا يمحى عنه أسماء الأبرار.

[22] يَشْهَدُهُ أي يعرفه و يعلم مزاياه الْمُقَرَّبُونَ أي الملائكة المقربون، و في ذلك كرامة أخرى للأبرار، لأن الإنسان يجب أن يطلع الناس و غيرهم على أعماله الحسنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 639

[سورة المطففين (83): الآيات 22 الى 26]

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)

[23] ثم جاء القياس يعين مكان الأبرار الذي كتب في كتابهم أنهم في عليين إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ في الملاذ و المشتهيات.

[24] و هم جالسون عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي كرسي العروس الذي تجلس عليه يَنْظُرُونَ إلى هنا و هناك ليلتذوا بالنظر كما التذوا بسائر أنواع الحواس.

[25] تَعْرِفُ أيها الإنسان، إذا نظرت إلى أولئك الأبرار فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بريقه و حسنه و جماله، فإن الإنسان الذي في نعمة و راحة يظهر على وجهه بريق و لمعان و نضارة.

[26] يُسْقَوْنَ و الساقي هم الملائكة بأمره سبحانه مِنْ رَحِيقٍ هو الشراب الخالص من كل كدورة و فساد مَخْتُومٍ قد ختم على آنيته بعد أن سد رأسه، لئلا يصيبه الأذى من الخارج، كالمربيات و الأشربة التي تقفل و تختم في العلب في الدنيا.

[27] خِتامُهُ مِسْكٌ فإن المداد الذي يختم به على أواني الرحيق من المسك المذاب، و في ذلك تشويق

و أناقة و دلالة على النعيم و كثرة الرفاه وَ فِي ذلِكَ النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه سبحانه، و أصل التنافس التزاحم على الشي ء، إن نعيم الجنة هو القابل لأن يتزاحم فيه الناس، و ذلك بأن يبادر إلى كل الأعمال الصالحة لينالها، لا أن يتنازعوا في ملذات الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 640

[سورة المطففين (83): الآيات 27 الى 30]

وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)

فإنها زائلة فانية.

[28] وَ مِزاجُهُ أي الشي ء الذي مزج بذلك الرحيق مِنْ عين تسمى بال تَسْنِيمٍ و هي عين جيدة، سميت بالتسنيم لارتفاعها، من سنم بمعنى ارتفع.

[29] في حال كون ذلك التسنيم عَيْناً أو منصوب على المدح يَشْرَبُ بِهَا أي منها الْمُقَرَّبُونَ الذين قربوا إلى رضوان اللّه تعالى بأعمالهم الصالحة.

[30] ثم يأتي ليبين أن ما يراه المجرم و المحسن هناك إنما هو جزاء أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي فعلوا الجرائم و الآثام في دار الدنيا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ على وجه السخرية بهم و الاستهزاء لهم، و «من» ابتدائية، كأن ضحكهم كان يبتدئ و ينشأ من طرف المؤمنين، و هذا حكاية عن أحوالهم و هم في الدنيا و كأن الحكاية في الآخرة حين يعاتب المجرمين و يثاب المحسنون.

[31] وَ إِذا مَرُّوا أي المؤمنون بِهِمْ أي بالمجرمين يَتَغامَزُونَ بأن يشير بعضهم إلى بعض بالعين و الحاجب استهزاء بالمؤمنين، و من المعلوم أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كان ممن يتغامز به المنافقون و لذا ورد في بعض الروايات تفسير الآية بذلك «1»، و هو من باب المصداق.

______________________________

(1)

بحار الأنوار: ج 18 ص 172.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 641

[سورة المطففين (83): الآيات 31 الى 36]

وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35)

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

[32] وَ إِذَا انْقَلَبُوا أي رجع أولئك المجرمون إِلى أَهْلِهِمُ أي إلى بيوتهم انْقَلَبُوا و رجعوا في حال كونهم فَكِهِينَ الفكه هو المرح الأشر، أي متلذذين بالسخرية منهم، كما هو شأن الجهلاء دائما.

[33] وَ إِذا رَأَوْهُمْ أي رأى المجرمون، المؤمنين قالُوا أي قال بعضهم لبعض إِنَّ هؤُلاءِ المؤمنين لَضالُّونَ عن طريق الصواب حيث تركوا نعيم الدنيا، بزعم نعيم الآخرة «و هل عاقل باع الوجود بدين»؟

[34] وَ الحال أن الكفار ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين حافِظِينَ أعمالهم و يشهدون برشدهم و ضلالهم.

[35] فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ جزاء وفاقا كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، فإن بعض الأحوال السيئة لشخص يوجب ضحك الطرف المقابل.

[36] عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هو الكرسي المعد لجلوس العروس يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى الكفار، و هم في النار يتقلبون.

[37] ثم يأتي بالمستهزئين جزاء استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ أي أثيبوا و جوزوا ما كانُوا يَفْعَلُونَ في الدنيا؟ نعم أثيبوا و ها هم في النار يتقلبون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 642

84 سورة الانشقاق مكيّة/ آياتها (26)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من هذا المصدر، و هو «انشقت»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة المطففين بذكر القيامة، ابتدأت هذه السورة بذكر أهوالها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نستعين باسم اللّه، ليكون سبحانه عونا لنا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على الأشياء كلها كما قال وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1»، و هو أن يفعل بالشي ء ما يخرجه من النقص إلى الكمال.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 643

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6)

[2] إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تصدّعت و انفرجت، كما ينشق الحائط فيظهر للعين في السماء لون الانفطار و الانشقاق، و تتناثر النجوم لاختلال النظام.

[3] وَ أَذِنَتْ السماء لِرَبِّها أي خالقها، و المراد انقادت للّه سبحانه، و أصل الإذن الاستماع، يقال «أذن فلان لأمري» أي استمع، و استعمل مجازا بمعنى الانقياد بعلاقة السبب و المسبب وَ حُقَّتْ أي و حق لها أن تأذن و تنقاد، و إنما جي ء بالمجهول لأن المعنى أنها جعلت حقيقة بالانقياد، بأن خلقت بكيفية تنقاد و تطيع الأمر.

[4] وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي بسطت باندكاك جبالها حتى تصير كالصحيفة الملساء فتوسع لأنه لا عوج فيها و لا أمت.

[5] وَ أَلْقَتْ ما فِيها أي أخرجت ما في جوفها من الكنوز و المعادن و الأموات وَ تَخَلَّتْ أي خلت فلم يبق في بطنها شي ء.

[6] وَ أَذِنَتْ أي انقادت الأرض لِرَبِّها اللّه سبحانه وَ حُقَّتْ لها أن تأذن بالإطاعة و الانقياد، و الجواب ل «إذا» محذوف، أي انقسم الناس إلى قسمين ناج و هالك، يدل على ذلك قوله «فأما من» الآتية.

[7] ثم توجه الخطاب إلى الإنسان

ليستعد لهذا اليوم المهول يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً «الكدح» هو السعي الشديد في الأمر، أي سعى إلى ربّه- أي إلى جزائه و حسابه- سعيا شديدا، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 644

[سورة الانشقاق (84): الآيات 7 الى 12]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11)

وَ يَصْلى سَعِيراً (12)

الإنسان لا يزال يسعى في الأرض بجهد و شدة- إذ الدنيا دار تعب و عناء- حتى ينتهي إلى حساب اللّه سبحانه فَمُلاقِيهِ أي تلاقي كدحك- بمعنى جزاء عملك- عند ما صرت إلى حساب ربك.

[8] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ أي أعطي كِتابَهُ الذي كتبه الملكان، المدروج فيه أعماله بِيَمِينِهِ أي بيده اليمنى، و ذلك دليل السعادة و الفلاح.

[9] فَسَوْفَ بعده بمدة يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا بلا أتعاب و نقاش، و لعل المدة بين إعطاء الكتاب و بين الحساب طويل و لذا جي ء ب «سوف».

[10] وَ يَنْقَلِبُ أي يرجع من محل المحاسبة إِلى أَهْلِهِ الذين حوسبوا قبله و انتظروا مقدمه، أو المراد حور العين التي أعدت له مَسْرُوراً فرحا.

[11] وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ بأن يأخذ الملائكة بيده اليسرى إلى وراء ظهره ثم يعطى كتابه هناك، تكثيرا للخزي و الفضاحة و إيذانا بأنه من أهل النار و العذاب.

[12] فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً أي هلاكا، إذا قرأ كتابه فيقول «وا ثبوراه» أي يا هلاك احضر فهذا وقتك.

[13] وَ يَصْلى سَعِيراً أي يدخل النار المستعرة الملتهبة، ملازما لها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 645

[سورة الانشقاق (84): الآيات 13 الى 19]

إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ

ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17)

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)

[14] إِنَّهُ أي هذا المجرم كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً بما أوتي من أمور الدنيا فلا يهتم بأمر الآخرة، بخلاف من يهتم بأمر الآخرة فإنه حزين لأنه لا يدري ماذا يصنع به، و ما تكون عاقبته.

[15] إِنَّهُ ظَنَ في الدنيا أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لن يرجع إلى حال الحياة بعد الموت، من حار: بمعنى رجع.

[16] بَلى يرجع، و ظنه فاسد إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً يرى أعماله فيجازيه عليها و لا يتركه سدى هملا.

[17] فَلا أُقْسِمُ أي أقسم، أو أن «لا» للنفي كما اخترنا سابقا بِالشَّفَقِ و هي الحمرة التي تبقى في الأفق عند الغروب.

[18] وَ لا أقسم ب اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ أي ما جمع و ضم مما كان منتشرا بالنهار من أقسام الحيوان، و أفراد الإنسان، يقال وسقه:

إذا جمعه.

[19] وَ لا أقسم ب الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي إذا تكامل بدرا فإنه يجتمع حينئذ، افتعال من «وسق».

[20] لَتَرْكَبُنَ أي لتشاهدون، و تعانون طَبَقاً أي حالا عَنْ طَبَقٍ أي بعد حال سابقة، مما قدر لكم من الأحوال، و الإتيان ب «عن» لأنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 646

[سورة الانشقاق (84): الآيات 20 الى 23]

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)

للتجاوز، أي تركبن حالا مجاوزين عن حال سابقة، و إنما سمي الحال طبقا لأنه يطابق الإنسان، و المعنى أنكم تسيرون في أحوالكم المختلفة سيرا حتى تنتهون إلى يوم

القيامة، كما قال في أول السورة «إنك كادح» و هذا هو جواب «لا أقسم»، و كأن هذه الجمل للتنبيه على تغير أحوال الدنيا، فلا يغتر الإنسان بحالها الحسن و ينسى الآخرة حتى تفوته دنياه و آخرته.

[21] و إذا كانت الدنيا معرض زوال و فناء، و أحوالها معرض تبدل و انقلاب فَما لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار لا يُؤْمِنُونَ باللّه حتى ينجون من عذاب الآخرة الباقية؟

[22] وَ ما لهم إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي لا يخضعون للّه سبحانه، بعد أن تتلى عليهم آياته، و تتم عليهم الحجة بقراءة القرآن عليهم؟

[23] بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا عوض أن يخضعوا يُكَذِّبُونَ باللّه و الرسول و اليوم الآخر.

[24] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد حتى من أنفسهم بِما يُوعُونَ هؤلاء المكذبون، و المعنى بما يضمرون في صدورهم من الكفر و النوايا السيئة، من «وعي» بمعنى تقبل و جمع، يقال «فلان يعي الكلام» أي يتقبله و يحفظه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 647

[سورة الانشقاق (84): الآيات 24 الى 25]

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

[25] فَبَشِّرْهُمْ يا رسول اللّه، و الإتيان بلفظ البشارة للاستهزاء بهم- بعلاقة الضد- بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع لهم.

[26] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و الرسول و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لعدم الإتيان بالسيئات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع، لأن نعيم الآخرة دائم لا نفاد له، و الظاهر أن الاستثناء منقطع، و قد سبق أن ذكرنا وجه الاستثناء المنقطع في مثل هذه المقامات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 648

85 سورة البروج مكيّة/ آياتها (23)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «البروج»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و

حيث ختمت سورة الانشقاق بذكر المؤمنين، ابتدأت هذه السورة بذكرهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو المبدأ لكل شي ء، و لا أحق بالابتداء منه، ليطابق الابتداء في الكلام للابتداء في الخارج، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بإعطائهم ما يحتاجون، و يتفضل عليهم بغفران ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 649

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)

[2] وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي قسما بالسماء التي هي صاحبة البروج، جمع برج و هو القطعة من السماء، سميت برجا لظهوره، من برج: إذا ظهر، و البروج هي الحمل و الثور و الجوزاء و السرطان و الأسد و السنبلة و الميزان و العقرب و القوس و الجدي و الدلو و الحوت، و القمر في سيره النفسي يقطع كل برج في ظرف يومين و نصف، و الشمس تقطعه في ظرف شهر.

[3] وَ قسما ب الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ و هو يوم القيامة، الذي وعد به الخلق.

[4] وَ قسما ب شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ في ذلك اليوم، أو كل شاهد و مشهود.

و هذا الأقرب بالعموم، و إن أورد في التفسير معاني مختلفة لهما.

[5] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ هو الشق العظيم في الأرض، أي قتل اللّه أصحاب الأخدود الكفار الذين حفروا الأخاديد في الأرض لتعذيب المؤمنين، و هذا دعاء على أولئك الكفار، و كان من قصتهم على ما نقله القمي: إن الذي هيج الحبشة على غزو اليمن ذو نواس، و هو آخر من ملك من حمير تهود و اجتمعت معه حمير على اليهودية، و سمى نفسه يوسف، و أقام على ذلك حينا

من الدهر، ثم أخبر أن بنجران بقايا قوم على دين النصرانية و كانوا على دين عيسى و على حكم الإنجيل، و رأس ذلك الدين عبد اللّه بن برياس، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم و يحملهم على اليهودية و يدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية و الدخول فيه فأبوا عليه، فجادلهم و عرض عليهم و حرص الحرص كله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 650

[سورة البروج (85): الآيات 5 الى 8]

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

فأبوا عليه و امتنعوا من اليهودية و الدخول فيها و اختاروا القتل، فاتخذ لهم أخدودا و جمع فيه من الحطب و أشعل فيه النار، فمنهم من أحرق بالنار و منهم من قتل بالسيف و مثلّ بهم كل مثلة فبلغ عدد من قتل و أحرق بالنار عشرين ألفا و أفلت رجل منهم يدعى «دوس» «1».

[6] النَّارِ بدل عن أخدود أي أصحاب النار ذاتِ الْوَقُودِ الكثير، إشارة إلى عظم تلك النار، و الوقود: هو الحطب الذي توقد به النار.

[7] إِذْ هُمْ أي أولئك الأصحاب الكفار عَلَيْها أي على حوالي النار قُعُودٌ جمع قاعد، أي كان الكفار قاعدين أطراف النار يشاهدون ما يفعل بالمؤمنين من رميهم فيها.

[8] وَ هُمْ الملك الكافر و أصحابه عَلى ما يَفْعَلُونَ جلاوزتهم بِالْمُؤْمِنِينَ من إلقائهم في النار شُهُودٌ جمع شاهد، أي حاضرون مشاهدون، و هذا ذم لهم كيف رضوا و سمحت لهم أنفسهم بأن يشاهدوا هذا النحو من التعذيب البشع.

[9] وَ ما نَقَمُوا

مِنْهُمْ أي ما كره الملك و أصحابه من المؤمنين إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ و يتركوا دين الملك الباطل الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه الْحَمِيدِ المجرد في أفعاله، إشارة إلى أن الغلب كان للمؤمنين،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 413.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 651

[سورة البروج (85): الآيات 9 الى 11]

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)

و إن صال الملك و جال أياما، كما أن ما فعل بالمؤمنين كان لحكمة و صلاح لهم لعلو درجاتهم.

[10] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق لهما وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي حاضر عالم، فلم يغب عنه ما فعلوا بالمؤمنين فسينتقم منهم.

[11] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ أي عذبوهم و أحرقوهم بنار الأخدود، من أصحاب ذلك الملك الطاغي ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا بعد ذلك بالإيمان و الطاعة فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخرة بكفرهم وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، و كأن المراد بعذاب جهنم سائر أنواع عذابها من لدغ السامات و أكل الزقوم، و شرب الغسلين و ما أشبه، و «حريق» اسم النار، و لذا أضيف إليه «عذاب».

[12] و في مقابل أولئك المؤمنون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ أي بساتين، و سميت جنة لتستر أرضها بالأشجار و القصور تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ من عسل و لبن و خمر و ماء

و غيرها ذلِكَ التنعم بتلك الجنات الْفَوْزُ و الفلاح الْكَبِيرُ الذي ليس فوقه فوز. و لعل المراد ب «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا»، و

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 652

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 698

[سورة البروج (85): الآيات 12 الى 17]

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا»، مطلق الكفار و المؤمنين، لا خصوص الكافر و المؤمن من أصحاب الأخدود، أو أصحاب الرسول و معاصريه.

[13] إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا رسول اللّه، أي أخذه للكافرين و انتقامه منهم لَشَدِيدٌ فانه إذا بطش بأحد يغشاه العذاب، بمختلف ألوانه و صنوفه، فليحذر الكفار و العصاة بطشه.

[14] إِنَّهُ سبحانه هُوَ يُبْدِئُ الخلق، بأن يعطيهم الحياة من العدم أولا وَ يُعِيدُ للخلق بعد الممات أحياء.

[15] وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب و آمن، أي كثير المغفرة الْوَدُودُ الذي يحب الناس فلا يريد تعذيبهم إلا إذا تمادوا في الكفر و العصيان.

[16] ذُو الْعَرْشِ و هو كناية عن أن له الملك، يقال للملك «صاحب العرش» كناية عن سلطانه، و إن لم يكن له كرسي يجلس عليه الْمَجِيدُ الموصوف بالمجد و العظمة.

[17] فَعَّالٌ أي كثير الفعل لِما يُرِيدُ فكل شي ء أراده فعله لا يمتنع عليه شي ء، و هذه الآيات للإلماع إلى وجوب رجاء البشر إياه، و خوفهم منه، لأن له الملك و العظمة و أنه يفعل ما يشاء فعله.

[18] ثم جاء السياق لبيان شاهد على ما تقدم من أنه سبحانه يفعل ما يريد، ليرجوه المؤمن و يخافه الكافر هَلْ أَتاكَ يا رسول اللّه أو أيها السامع حَدِيثُ الْجُنُودِ أي هل بلغك خبر

الذين تجندوا على خلاف اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 653

[سورة البروج (85): الآيات 18 الى 22]

فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

و محاربة أنبيائه، لتعرف كيف صنع اللّه بهم؟

[19] فِرْعَوْنَ و جنده، الذين أرسل إليهم موسى عليه السّلام وَ ثَمُودَ الذين أرسل إليهم صالح عليه السّلام، فإنهم لما كذبوا الأنبياء عذبهم اللّه سبحانه، و هكذا عادة اللّه سبحانه مع المكذبين.

[20] إن كفار مكة لا يرعوون عن كفرهم و عصيانهم بهذه الأمثال و القصص بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله فِي تَكْذِيبٍ للإسلام و القرآن، أي مشغولون عنه، و معرضون عن الحق.

[21] وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ أي من جوانبهم مُحِيطٌ كأنهم في دائرة علم اللّه سبحانه الشامل، و قدرته الواسعة فيعلم ماذا يصنعون، و هم في قبضة قدرته، يقول الملك «أنا محيط بفلان» يريد إحاطة علمه و قدرته لا إحاطة الجسم.

[22] و ليس كما ذكر الكفار إن القرآن شعر أو كهانة أو ما أشبه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، ذو مجد و عظمة لأنه من قبله سبحانه.

[23] فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من التغيير و التبديل، فهو محفوظ باق و إن اجتهد الكفار لمحوه و إبطاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 654

86 سورة الطارق مكيّة/ آياتها (18)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الطارق»، و هي كسائر السور المكية مشتملة على قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة البروج بتهديد المكذبين، افتتحت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال، فهو شعار للمسلم الذي يصفه أول كل حركة و سكون له ليصبغ بهذه الصبغة، الرحمن الرحيم، إعلاما

لكونه إلها رحيما، لا قاسيا غليظا، كما كانت بعض آلهة الكفار توصف بالقسوة و الخشونة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 655

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6)

[2] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء وَ الطَّارِقِ أي قسما بالطارق و هو الذي يأتي ليلا، سمي طارقا لأنه يطرق الباب، أما في النهار فقد كانت العادة الجارية لديهم أن تفتح الأبواب، فإذا جاء أحد استأذن و دخل، و المراد به هنا النجم الذي يطلع ليلا.

[3] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو أيها الرسول ما هو الطَّارِقُ

و ذلك لتعظيم شأنه.

[4] هو النَّجْمُ الثَّاقِبُ الذي يثقب السماوات بنوره، و من يعرف عظم النجوم و كثرة بعدها حتى أنها تحتاج إلى سنوات ضوئية حتى توصل نورها إلى الأرض يعرف عظم هذا القسم. و الظاهر أن المراد بالنجم الجنس لا خصوص نجم واحد، و ما ذكر له في التفسير من المصداق فهو من باب المثال.

[5] إِنْ كُلُّ نَفْسٍ أي ما كل إنسان لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي إلّا عليها حافظ من قبل اللّه سبحانه، و هم الملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك كما يحفظون أعمالهم، و هذا هو متعلق القسم.

[6] و إذا كان الإنسان في شكّ من الإله فليفكر في أصله و نشأته فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ أي ليفكر و يتدبر مِمَّ خُلِقَ أي مما ذا خلق؟ و ما هو أصله؟

[7] خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي ماء يدفق، و الدفق هو الصب الذي فيه دفع و قوة، فإن المني يخرج هكذا.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 656

[سورة الطارق (86): الآيات 7 الى 12]

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10) وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11)

وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)

[8] يَخْرُجُ ذلك الماء الذي هو مبدأ الإنسان مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ للرجل، و هو العظم الذي في ظهره مركز المني وَ التَّرائِبِ نواحي الصدر، واحدتها تريبة، فإن مني المرأة مركزه هناك.

[9] إن اللّه خلق الإنسان بهذه الكيفية إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ أي إرجاعه إلى الحياة بعد الموت لَقادِرٌ كما قدر على ابتداء خلقه حين لم يكن شيئا مذكورا.

[10] قادر على رجعه في يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تختبر الضمائر، فإن «سرائر» جمع سريره، و هي المحل الكامن في الإنسان، فإن يوم القيامة تظهر بواطن الناس و ما انطووا عليه من خير و شر.

[11] فَما لَهُ أي للإنسان مِنْ قُوَّةٍ يدفع بها العذاب وَ لا ناصِرٍ ينصره من تلك الأهوال، فليخش و ليحذر أن يخالف اللّه سبحانه حتى لا يبتلي بالعذاب.

[12] وَ السَّماءِ أي قسما بالسماء ذاتِ الرَّجْعِ التي ترجع في كل دورة إلى مكانها الأول، أو ذات المطر، و سمي المطر رجعا لأنه يرجع كل نفسه، أو لأنه يرجع إلى الأرض بعد التصاعد منها بالأبخرة.

[13] وَ الْأَرْضِ أي قسما بالأرض ذاتِ الصَّدْعِ التي تتصدع و تتشقق فيخرج منها النبات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 657

[سورة الطارق (86): الآيات 13 الى 17]

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

[14] إِنَّهُ أي القرآن، أو ما ذكره من رجوع الخلق بعد الموت

و تشقق الأرض عنهم، و هذا هو المناسب للآيتين السابقتين لَقَوْلٌ فَصْلٌ يفصل بين الحق و الباطل.

[15] وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ أي اللعب، فإنه كلام واقعي لا أنه قيل على وجه اللعب و الهزل.

[16] إِنَّهُمْ أي الكفار يَكِيدُونَ و يحتالون لإبطال هذا الكلام الذي هو قول فصل كَيْداً بقولهم إنه شعر و سحر و كهانة و ما أشبه ذلك.

[17] وَ أَكِيدُ أي أريد أمرا آخر ضد ما يريدون، و سمي كيدا للمشابهة كَيْداً كما أنهم يكيدون.

[18] فَمَهِّلِ يا رسول اللّه الْكافِرِينَ أي انتظر بهم قليلا فلا تشغل نفسك بهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي زمانا قليلا حتى ترى بأس اللّه فيهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 658

87 سورة الأعلى مكيّة/ آياتها (20)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الأعلى»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان العقيدة في أصولها، و إذ ختمت سورة «الطارق» بكيد اللّه سبحانه للكافرين افتتحت هذه السورة بأنه تعالى «أعلى» تأكيدا لما ذكر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له الخلق و الأمر، و هو الأول و الآخر، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على كل شي ء بالرحمة، فضلا منه و امتنانا، و ذكره تعالى بهذه الصفة يدر الرحم على الذاكر، فإنه شاكر لمن شكره، و ذاكر لمن ذكره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 659

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)

[2] سَبِّحِ أي نزّه يا رسول اللّه، أو أيها المخاطب اسْمَ رَبِّكَ عما لا يليق به من الشرك و الولد، فلا تنسب إليه شيئا ينافي مقام الألوهية و ذكر «اسم» للتعظيم، فمن

يجب أن يسبح اسمه يجب أن يسبح هو بالأولى الْأَعْلَى أي الأرفع من كل شي ء، فلا شي ء أرفع منه في العلم أو القدرة أو الخلق أو الرزق أو غير ذلك من سائر صفات الذات و صفات الفعل.

[3] الَّذِي خَلَقَ الخلق كلهم فَسَوَّى بينهم في الإحكام و الإتقان و الدقة، فليس بعض الخلق متقنا و بعضه غير متقن، كما سوّى خلق كل شي ء فأعطاه ما يصل به إلى الكمال اللائق به من الأجهزة و الآلات.

[4] وَ الَّذِي قَدَّرَ و التقدير هو التخطيط، كما يقدر المهندس البناء ثم يبنيه فَهَدى كل ذي روح إلى مصالحه، فهو خلق، و إعطاء أجهزة، و تقدير للحياة، و هداية.

[5] وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت الحشيش الذي ترعاه الحيوانات من الأرض.

[6] فَجَعَلَهُ أي المرعى بعد الخضرة غُثاءً أي هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق السيل، بمعنى المجتمع من هنا و هناك بلا علاقة و ارتباط و مشابهة أَحْوى أي أسود بعد الخضرة، فإن الحوة بمعنى السواد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 660

[سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 8]

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)

[7] و من هدايته سبحانه أنه أنزل القرآن على الرسول،

و قد قال ابن عباس

كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أنزل عليه جبرئيل بالوحي يقرأه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرئيل من آخر الوحي حتى يشرع الرسول في القراءة.

فأنزل اللّه تعالى عليه هذه الآية

«1» سَنُقْرِئُكَ القرآن، أي نتلو عليك لتقرأه فَلا تَنْسى منه شيئا، فقد شاءت إرادته سبحانه أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزّها عن النسيان،

و كذلك سائر الأنبياء عليهم السّلام. أما قوله «تنسى» فهو من قبيل إِنَّا نَسِيناكُمْ «2»، و لعل العمل كان تعليما للمسلمين فيما بعد بأن يحرصوا على القرآن مثل هذا الحرص.

[8] إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه، و فيه دلالة على أن عدم نسيانه إنما هو من اللّه سبحانه، حتى أنه إذا شاء غيره قدر عليه، قالوا: و دخول المشيئة في هذه الآية للدلالة على أن النبي مهما بلغ من العظمة فإن جميع أموره بيده تعالى إِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ الْجَهْرَ من الكلام وَ ما يَخْفى كالسر و النجوى، فكل ذلك من الإقراء و عدم النسيان إلا بمشيئته تابع لعلمه الواسع الذي يشمل كل شي ء، و بما علّمه من الصلاح جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث لا ينسى، و إلا فلو كان ينسى لم يؤمن على التبليغ، لتطرق احتمال النسيان في كل شي ء من أقواله و أفعاله.

[9] وَ نُيَسِّرُكَ يا رسول اللّه، أي نوفقك لِلْيُسْرى أي الطريقة اليسرى

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 329.

(2) السجدة: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 661

[سورة الأعلى (87): الآيات 9 الى 14]

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (13)

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)

في جميع الأمور، فإن أحكامه سبحانه توصل إلى السعادة بأيسر الطرق و أسهلها.

[10] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بما أودع فيهم من الفطرة الدالة على الألوهية و المعاد و ما أشبه إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي إن كان الذكر في معرض النفع و لو إتمام الحجة، أما إذا علم الرسول أن ذكره لا ينفع إطلاقا في الهداية

لليأس، و لا في إتمام الحجة لتمام الحجة على المخاطبين سابقا، فلا لزوم للتذكير. و قيل «إن» بمعنى «قد» أي قد نفعت الذكرى، بمعنى قد تنفع.

[11] سَيَذَّكَّرُ أصله «يتذكر» أدغمت التاء في الذال و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن مَنْ يَخْشى أي سيتعظ بالقرآن و بكلامك من يخشى عقاب اللّه سبحانه.

[12] وَ يَتَجَنَّبُهَا أي يبتعد عن الموعظة و الذكرى الْأَشْقَى أي الأكثر شقوة، فإن الكافر المجتنب للذكرى أكثر شقاء من العاصي.

[13] الَّذِي يَصْلَى أي يدخل و يلازم النَّارَ الْكُبْرى و هي نار جهنم.

[14] ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها أي في تلك النار ليستريح وَ لا يَحْيى حياة هادئة مريحة.

[15] قَدْ أَفْلَحَ أي فاز و نجح مَنْ تَزَكَّى أي تطهر باجتناب الرذائل، و التحلي بالفضائل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 662

[سورة الأعلى (87): الآيات 15 الى 19]

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19)

[16] وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي تذكر اللّه سبحانه بقلبه، و الإتيان ب «اسم» للتعظيم فَصَلَّى للّه، أي خضع و خشع، أو أتى بالصلاة فإنها دليل خشوع الإنسان و تذكره للّه تعالى. و في بعض الروايات أن المراد بها زكاة الفطرة و صلاة العيد، و الظاهر أنها من باب المصداق، و انطباق الكلي على مصاديقه يمكن أن يكون بعد مدة- عند وجود المصداق فلا يقال: كيف يصح و السورة مكية و لم يكن هناك زكاة فطرة و لا صلاة عيد؟

[17] بَلْ أنتم أيها الناس لا تفعلون ذلك، و إنما تُؤْثِرُونَ أي تختارون الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، تختارونها على الآخرة فتصرفون أموالكم و

أوقاتكم في ملاذّها، لا في الزكاة و الصلاة.

[18] وَ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ من الدنيا، لأن نعيمها أكثر و لا يشوبها كدر وَ أَبْقى لأنها دائمة مستمرة، بخلاف الدنيا فإنها فانية زائلة.

[19] إِنَّ هذا الذي ذكر من فلاح المتزكي المصلي، أو سائر ما ذكر في هذه السورة لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى فكل كتب اللّه المنزلة تحرض على الزكاة و الصلاة و سائر الخيرات، و ليس هذا بدعا من القرآن.

[20] صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى و ذكر هذين النبيين من باب المثال، و إلا فكل الأنبياء كانوا يدعون إلى التزكي و التطهر و الصلاة و الزكاة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 663

88 سورة الغاشية مكيّة/ آياتها (27)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الغاشية»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث تضمنت سورة الأعلى انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين، جاءت هذه السورة لمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المالك لكل شي ء فهو أفضل شي ء يبتدأ به، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة على كل العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 664

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6)

[2] هَلْ أَتاكَ أيها الإنسان، أو يا رسول اللّه حَدِيثُ الْغاشِيَةِ أي خبر القيامة؟ و تسمى بالغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها، و الاستفهام للإلفات و الإيقاظ.

[3] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة خاشِعَةٌ ذليلة بسبب ما عملت من الكفر و الآثام، و إنما نسب الخشوع إلى الوجوه لظهوره فيها.

[4] عامِلَةٌ قد عملت في النار و كدت ناصِبَةٌ و تعبت، فإن

النصب بمعنى التعب، و لكنها لم تنتفع بأعمالها و أتعابها، بل بالعكس صارت دنياه سببا للعذاب و العقاب.

[5] تَصْلى ناراً أي تدخل تلك الوجوه النار و تلازمها حامِيَةً قد حميت حتى تناهت في الحرّ.

[6] تُسْقى أي أصحاب تلك الوجوه، و قد أطلق الوجوه على أصحابها بعلاقة الجزء و الكل، من قبيل إطلاق «الرقبة» على الإنسان مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ قد بلغت حرارتها و أناها إلى منتهى الدرجة، فإن آنية بمعنى البالغة أشد درجات الحرارة.

[7] ذاك شرابهم، فما هو طعامهم؟ لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ و هو نبت يضر و لا ينفع.

و في حديث عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه شي ء يكون في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشد حرّا من النار

«1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 336.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 665

[سورة الغاشية (88): الآيات 7 الى 14]

لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)

فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)

[8] لا يُسْمِنُ أكله وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فآكله يحس بالجوع بعد أكله كما يحس بالجوع قبل أكله.

[9] ذلك أحوال العصاة فلننظر إلى أحوال المتقين وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة ناعِمَةٌ منعمة في أنواع اللذات ظاهر عليها أثر النعمة و السرور.

[10] لِسَعْيِها في الدنيا و ما عملت سابقا راضِيَةٌ حيث قد حصلت على الجنة بسببها.

[11] فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة المكان و القدر، فإن قصورها و مكانها في أعالي الجو.

[12] لا تَسْمَعُ أولئك الأشخاص أصحاب الوجوه الناعمة فِيها في الجنة لاغِيَةً أي

كلمة ساقطة لا فائدة فيها.

[13] فِيها أي في تلك الجنة عَيْنٌ جارِيَةٌ تجري حتى يتناول الماء كل إنسان يمر بها، و الماء الجاري أطيب ذوقا و أجمل في النظر.

[14] فِيها أي في تلك الجنة سُرُرٌ جمع سرير، و هو الكرسي مَرْفُوعَةٌ في المكان، و في القيمة، و في القدر.

[15] وَ أَكْوابٌ جمع كوب، و هو قدح صغير جميل مَوْضُوعَةٌ على حافات الأنهر للاستقاء و الشرب، و في تقابل «موضوعة» ل «مرفوعة»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 666

[سورة الغاشية (88): الآيات 15 الى 19]

وَ نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)

بلاغة بديعة.

[16] وَ نَمارِقُ جمع نمرقة، و هي الوسادة التي يتكأ عليها مَصْفُوفَةٌ قد صف بعضها إلى جانب البعض.

[17] وَ زَرابِيُ جمع زربي، و هو البساط مَبْثُوثَةٌ أي منتشرة مفروشة للجلوس عليها.

[18] و إذ ذكر سبحانه بعض أحوال الجنة و النار عطف السياق نحو الأدلة الدالة على الألوهية، تعبئة للناس نحو السعادة الأبدية أَ فَلا يَنْظُرُونَ هؤلاء المنكرون للخالق إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ في إحكام و تدقيق، و ليس لأي حيوان بالذات خصوصية، في التذكير باللّه سبحانه و الدلالة عليه، إذ كل حيوان آية دالة على وجود اللّه و سائر صفاته، و إنما ذكر الإبل لأنها إحدى الآيات الأليفة للعرب، مع مناسبة لها بسائر ما ذكر في الآيات التالية فإن السماء المرفوعة و الأرض المسطوحة الوسيعة و الجبال المرفوعة إنما تلائمها الإبل السائرة عبر الصحاري حيث لا شي ء إلا الأرض و الجبال و السماء.

[19] وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ و المراد بها الكواكب، أو المدارات،

أو ما يرى من الهواء الملون.

[20] وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض كالأوتاد لئلّا تزول و تتحرك و تضطرب؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 667

[سورة الغاشية (88): الآيات 20 الى 26]

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

[21] وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت لتصلح طرائق للناس، و المراد أ فلا يتفكرون في هذه المخلوقات حتى يستدلوا بها على وجوده سبحانه و سائر صفاته؟ و الاستفهام للتوبيخ و التقريع.

[22] فَذَكِّرْ يا رسول اللّه الناس بهذه الآيات إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ تبين لهم الحقائق ليتذكروا ما أودع في فطرتهم من الألوهية و المعاد و ما أشبه.

[23] لَسْتَ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء القوم بِمُصَيْطِرٍ أي بمسلط، حتى تكون مسئولا عن انحرافهم، و إنما شأن الأنبياء التذكير و الوعظ، فمن شاء اهتدى و من شاء انحرف.

[24] فَذَكِّرْ، فإن الذكرى تنفع إِلَّا في مَنْ تَوَلَّى أي من أعرض عن الحق وَ كَفَرَ باللّه و اليوم الآخر، و ذلك لا يفلت من قبضة اللّه سبحانه.

[25] فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ و هو عذاب الآخرة.

[26] إِنَّ إِلَيْنا أي إلى جزائنا و حسابنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم بعد الموت، من «آب» بمعنى رجع.

[27] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بعد الإياب حِسابَهُمْ فيحاسب كل بما عمل، و يعطى جزاؤه إن شرا فشر و إن خيرا فخير.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 668

89 سورة الفجر مكيّة/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفجر»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و لما ختمت سورة الغاشية بذكر عذاب «من تولى»

في الآخرة ابتدأت هذه السورة بذكر تعذيبهم في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه الذي بيده كل شي ء، و هو المبدأ و المعاد، و هل شي ء أولى بالابتداء من اسم اللّه تعالى؟

الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة على العباد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 669

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7)

[2] وَ الْفَجْرِ أي قسما بالفجر، و هو انفجار الصبح قبل طلوع الشمس، فإن النور يظهر ممتدا في جانب المشرق قبل ساعة و نصف من الطلوع.

[3] وَ لَيالٍ عَشْرٍ أي قسما بالليالي العشر من ذي الحجة- على ما ذكروا- و كأن الحلف هنا بما ينشأ منه الخير، فإن الفجر ينشأ منه الضياء، و هذه الليالي محل الأعمال و الطاعات.

[4] وَ قسما ب الشَّفْعِ ركعتا صلاة الليل وَ الْوَتْرِ الركعة الأخيرة منها، أو الشفع يوم تروية، و الوتر يوم عرفة- كما روي-.

[5] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي يمضي، كقوله: وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «1» و أصله «يسري» حذف الياء للسياق، و المقسم له محذوف، تقديره لنعاقب الكفار، دلّ عليه قوله «ألم تر ..».

[6] هَلْ فِي ذلِكَ الذي تقدم من الأيمان قَسَمٌ يكن لِذِي حِجْرٍ أي ذي عقل؟ فإن «الحجر» من أسماء العقل، سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عن الإتيان بما لا يليق به، و الاستفهام للتأنيب، بمعنى كيف لا تصدقون بما نقول بعد هذه الأيمان؟.

[7] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها السامع، و

المراد بالرؤية العلم، أي ألم تعلم كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ أي بقبيلة عاد؟

[8] إِرَمَ عطف بيان ل «عاد»، و هي اسم أرض بنت عاد عليها أبنية فخمة

______________________________

(1) المدثر: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 670

[سورة الفجر (89): الآيات 8 الى 10]

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)

جميلة، و إنما مع أن تكون «إرم» عطف بيان، لأن «عادا» اسم لقبيلتين «عاد» الأولى و «عاد» الثانية، فالأولى كانت صاحبة «إرم» و التقدير «عاد إرم»، و هذا كما تقول «مررت ببني هاشم، المدينة المنورة» ذاتِ الْعِمادِ جمعه عمد، أي أبنية إرم التي كانت لها أعمدة، و يستعمل العماد في القوة و الشرف، يقال «فلان رفيع العماد».

فقد قالوا إن «شداد» من أبناء «عاد» توسع سلطانه، و عظم أمره، و كان كافرا باللّه، فسمع بالجنة و أوصافها، فقال نبني في الأرض مثلها، فبناها في «إرم» و سميت بهذا الاسم، و كانت عظيمة فخمة جميلة ذات قصور و حدائق و أثاث و رياش، فلما أن أراد هو و قومه و جيشه دخولها أهلكهم اللّه سبحانه، بأن بعث عليهم صيحة عظيمة فهلكوا جميعا.

[9] الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أي مثل قبيلة عاد- في القوة و الثروة و ما أشبه- أو مثل «إرم» في الفخامة و الضخامة و الجمال فِي الْبِلادِ و الظاهر أن المراد عدم خلق مثلها في تلك الأزمنة، لا مطلقا.

[10] وَ ألم تر كيف فعل ربك ب ثَمُودَ قوم صالح الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوا الصخور من الجبال، و جاؤوا بها بِالْوادِ أي وادي قرى، و هو مسكنهم فبنوا بها البيوت الصخرية؟

[11] وَ ألم تر كيف فعل ربك ب

فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ جمع «وتد» الذي كان يدق في جسم مخالفيه الوتد، و يذره حتى يموت- كما قيل-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 671

[سورة الفجر (89): الآيات 11 الى 15]

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)

و المراد به فرعون موسى عليه السّلام و قد مثل اللّه سبحانه بأقوى الأمم في زمانهم، ليبين أنهم حيث عتوا و خالفوا أوامر اللّه سبحانه أهلكهم سبحانه و لم تنفعهم قوتهم شيئا و مصير هؤلاء الكفار- الذين هم أضعف من أولئك- مصير أولئك لو تمادوا في الكفر و الطغيان.

[12] الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ أي تجبروا على أنبياء اللّه، و عملوا بالكفر و المعاصي.

[13] فَأَكْثَرُوا فِيهَا أي في البلاد الْفَسادَ بالقتل و الفجور و غيرهما.

[14] فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ و إنما عبر عن العذاب بالسوط لشدة إيلامه، و نسب إليه الصب لأن السوط حيث فيه لين يأتي إلى الجسم تدريجيا مشابها للصب، الذي يأتي على الجسم بتدريج- و في هذا التعبير من البلاغة ما لا يخفى-.

[15] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَبِالْمِرْصادِ هو المحل الذي يجلس الإنسان ليرصد و يراقب أحوال غيره- من حيث لا يرونه- و هذا كناية عن أنه سبحانه مطلع على الناس، فمن كفر و أساء مراقب من قبله تعالى، لا يفوته.

[16] و هكذا يطغي الإنسان- ليكون له ذلك المصير- إذا لم يسترشد بإرشادات اللّه تعالى فَأَمَّا الْإِنْسانُ و المراد به الذي لم يهتد بنور الإيمان إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي امتحنه و اختبره، و «ما» مزيدة جيئت

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 5، ص: 672

[سورة الفجر (89): الآيات 16 الى 17]

وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)

للتأكيد، و لعل النكتة في زيادتها الإلماع إلى أن «ابتلاءه» ليس بابتلاء حقيقة، و إنما هو شي ء طفيف يصيبه و مع ذلك لا ينجح في الامتحان فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ بأن جعل له مكانا كريما ذا شرافة، و نعمة وافرة، ليختبره هل يعمل بوظيفته في الثروة و الجاه أم لا؟ فيفرح بذلك و يظنه ثوابا له و جزاء على عمله، و أنه باستحقاق أوتي ما أوتي و يقول رَبِّي أَكْرَمَنِ حذفت الياء تخفيفا، أي أن هذا لكرامتي على اللّه، و لا يعتبره امتحانا.

[17] وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ أي امتحنه اللّه سبحانه بالفقر و الضعة فَقَدَرَ أي ضيق عَلَيْهِ أي على الإنسان رِزْقَهُ فجعله فقيرا مملقا فيحزن لذلك و يظن أن ذلك هوان من اللّه عليه، و يقول رَبِّي أَهانَنِ أي أهانني، و لا يعتبر ذلك ابتلاء، و هذا بخلاف الإنسان المؤمن الذي يرى كل شي ء يصيبه اختبارا و امتحانا، فيخاف من النعمة لئلا يعصي اللّه فيها فلا يشكره، و لا يحزن من الفقر لأنه يعتبره امتحانا له إن صبر كان رفعا لدرجته.

[18] كَلَّا ليس الأمر كما ظن هذا الإنسان، فإن التنعيم ليس لكرامة، و الإفقار ليس لإهانة بل كل ذلك مختلف، و المجموع للابتلاء و الاختبار بَلْ إنهم غافلون عن حكمة الإعطاء و المنع، ذاهلون أن كل ذلك للابتلاء، و لذا لا يقومون بواجب العطاء- و لم يذكر القيام بواجب الفقر من الصبر، لأن الكلام كان موجها نحو الأغنياء من الناس الذين مثل لهم بمصارع عاد و ثمود و فرعون-

ف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 673

[سورة الفجر (89): الآيات 18 الى 21]

وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)

لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ الذي مات أبواه، بإيوائه و إعطائه.

[19] وَ لا تَحَاضُّونَ من الحض- و هو الحث- أي لا يحث بعضكم بعضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي الفقير الذي أسكنه فقره عن الحركة في الأمور.

[20] وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث أَكْلًا لَمًّا شديدا تلمون جميعه في الأكل، بلا إعطاء حقوق الميت، و حقوق اللّه، و حقوق سائر ذوي الميراث، فإنهم كانوا يحرمون النساء و الصبيان و الضعفاء من الورثة، فلا يعطونهم من حقهم شيئا، و هذا دليل الشرة نحو المال و إنهم لا يجعلون المال دليلا للابتلاء، بل دليلا لتكريم اللّه لهم.

[21] وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي حبا كثيرا شديدا، حتى أنهم لا ينفقونه فيما يجب أو يستحب إنفاقه، كما هو شأن من لا يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و لا يجعل المال دليل الابتلاء ليعمل فيه بأمر اللّه و يخشى مغبته.

[22] كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم بأنه لا عواقب و خيمة لأعمالكم هذه، فإن من يظن تكريم اللّه له يسهل عليه العمل بالوظائف في أموره و شؤونه ف إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ أي كسر كل شي ء على ظهرها دَكًّا دَكًّا كسرا كسرا، من جبال و مرتفعات و أنصبة و أشباهها، و ذلك لأن الأرض تسوى حتى لا يبقى على ظهرها عوج و لا أمت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 674

[سورة الفجر (89): الآيات 22 الى 25]

وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)

[23] وَ جاءَ رَبُّكَ أي أمر ربك، كما يظهر ملوك الدنيا في هيبة و جلال، فإن الهيبة و الجلال التي تظهر يوم القيامة للّه سبحانه تكون بمثابة مجي ء اللّه سبحانه، لكنه حيث كان منزها عن الجسم و لوازمه، يجي ء آثار جلاله وَ جاء الْمَلَكُ المربطون بذلك اليوم في حال كونهم صَفًّا صَفًّا أي مصطفين صفوفا متعددة.

[24] وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة بِجَهَنَّمَ بأن تمتد نيرانها إلى المحشر بعد ما كانت مبتعدة مستعدة لالتهام الكفار و العاصين يَوْمَئِذٍ أي في هذا اليوم- و أصله يوم إذ كان كذا- يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي يتعظ و يخاف و يهتدي وَ لكن أَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي من أين ينفعه التذكر في ذلك اليوم، فقد مضى وقت نفع التذكر، و إنما هناك جزاء فقط لا عمل.

[25] يَقُولُ الإنسان العاصي، يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ عملا صالحا لِحَياتِي هذه التي تبقى إلى الأبد، و لكن لا ينفعه التمني، كما يقول المثل «ندم زيد و لما ينفعه الندم».

[26] فَيَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذب مثل عذاب اللّه أحد، فإن عذابه ليس كسائر أنواع عذاب الناس بعضهم لبعض، و إنما هو عذاب غريب عجيب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 675

[سورة الفجر (89): الآيات 26 الى 30]

وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

[27] وَ يومئذ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أي مثل وثاقه سبحانه و تعالى أَحَدٌ و الوثاق هو الشد، يقال أوثقته أي شددته.

[28]

ثم يخاطب المؤمنون بقوله سبحانه يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ من أهوال ذلك اليوم، لما عملت في الدنيا من الإيمان و الإطاعة.

[29] ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ثوابه و جزائه في حال كونك راضِيَةً عن اللّه سبحانه مَرْضِيَّةً له تعالى، فإنه سبحانه راض عنك بسبب إيمانك و أعمالك.

[30] فَادْخُلِي فِي زمرة عِبادِي الصالحين.

[31] وَ ادْخُلِي جَنَّتِي فأنت في رضاي و في جنتي، و كأن الخطاب للنفس لزيادة التكريم، حتى كأنها هي التي تحملت أتعاب الجسد، فاستحقت أن تكون هي صاحبة المثوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 676

90 سورة البلد مكيّة/ آياتها (21)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «بلد»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة و تحتج عليها، و حيث كانت السورة السابقة لتقسيم الناس إلى صالحين و طالحين جاءت هذه السورة لتبين ذلك بوجه آخر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم اللّه، و إنما جاء بالاسم لأنه هو المبدوء به لا الذات، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم و إبلاغهم الكمال الممكن فيهم تكوينا و إرشادا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 677

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)

[2] لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ و المراد به مكة، و «لا» إما للنفي جي ء بها للتلويح إلى القسم مع تعظيم المقسم به، و إما زائدة، فالمعنى أقسم بهذا البلد، و الآية الثانية تناسب الأمرين باعتبارين.

[3] وَ أَنْتَ يا رسول اللّه حِلٌ أي مقيم قد حللت بِهذَا الْبَلَدِ فإنه قد تشرف بك، فإن شرف المنزل بشرف

النازل، و «الحل» بمعنى الحال، و كلاهما بمعنى الساكن، فهذا البلد إنما يقسم به لشرفه بك أو يعظم فلا يقسم به لشرفه بك.

[4] وَ قسما ب والِدٍ وَ ما وَلَدَ أي كل والد و كل ولد، أو المراد آدم عليه السّلام و أولاده، فإن كل خلق اللّه عظيم يصح أن يجعل في معرض القسم. نعم ليس لنا أن نحلف بكل شي ء، لما

ورد من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

«من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليسكت»

«1».

[5] و جواب القسم قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في تعب و مشقة، فإنه يكابد الشدائد و المصائب و المتاعب، فإن «الكبد» لغة بمعنى شدة الأمر، و المعنى أنه لا يزال يكابد الأتعاب- بما قدر اللّه له و للكون من الأنظمة- و لذا

قال تعالى في حديث قدسي «إني ما جعلت الراحة في الدنيا و الناس يطلبونها فيها فلا يجدوها».

[6] إن الإنسان الذي خلق في عناء و مشقة، ليدل ذلك على ضعفه و عجزه إذا رأى بعض القوة في ذاته عتا و تكبر و زعم أنه لا قادر عليه

______________________________

(1) متشابه القرآن و مختلفه: ج 2 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 678

[سورة البلد (90): الآيات 6 الى 9]

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)

أَ يَحْسَبُ أي هل يظن و يزعم الإنسان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بسلبه القوة و الثروة و الحياة و ما أشبه؟

[7] و إذا قيل له: ابتغ مرضاة اللّه ببذل الأموال في سبيله لأنك عبد عاجز ضعيف له سبحانه، و هو قادر على تقليبك كيف يشاء

يَقُولُ في الجواب: أَهْلَكْتُ في الإنفاق مالًا لُبَداً أي كثيرا، مأخوذ من تلبد الشي ء إذا تراكم بعضه على بعضه، و حسبي ما أنفقت- كما أن هذا هو منطق الأثرياء غالبا-.

[8] أَ يَحْسَبُ أي يزعم أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حيث أنفق؟ بل إنّ اللّه رآه و عرف قدر إنفاقه و لم يكن ما أنفق كثيرا بالنسبة إلى أمواله و بالنسبة إلى مقابلته بالثواب المرجو في الآخرة للمنفقين. قيل: إنها نزلت في الحرث، و ذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه؟ فأمره أن يكفر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات و النفقات منذ دخلت في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[9] إنه يبخل عن بذل بعض ماله في سبيل اللّه الذي أودع فيه القوى التي لا تثمن بثمن فلم يؤدّ شكرها، و لم يبصر بسببها طريق الرشاد أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ليبصر بهما و يرى طريقه؟

[10] وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ لينطق به و يتجمل بالشفة لعدم قبح منظره بفغر الفم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 679

[سورة البلد (90): الآيات 10 الى 15]

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)

[11] وَ هَدَيْناهُ أي أرشدناه النَّجْدَيْنِ أي سبيل الخير و سبيل الشر، و أصل «النجد» هو العلو، و كأن الطريق موجب لارتفاع الإنسان ارتفاعا معنويا بوصوله إلى حاجته، أو لظهور الطريق سمي نجدا تشبيها بالمرتفع من الأرض.

[12] فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «الاقتحام» هو الدخول في الشي ء بشدة، و «عقبة» هي الطريق الصعب في الجبل، أي أن الإنسان لم يشكر تلك النعم التي أعطيناها إياه باقتحام

الأمور الحسنة و العمل بها، و سميت عقبة لشدة أمرها على الإنسان.

[13] وَ ما أَدْراكَ أيها السامع مَا الْعَقَبَةُ أي ما هي العقبة؟ و هذا التعبير لتعظيم أمرها و الإجلال لها، ثم فسرت العقبة بأنه عتق العبد و الإطعام.

[14] العقبة هي فَكُّ رَقَبَةٍ أي تحرير العبد من إسار الرق، و إنما أطلق على الإنسان «الرقبة» بعلاقة الجزء و الكل- كما قرر في البلاغة.

[15] أَوْ إِطْعامٌ «أو» بمعنى الواو، يعني أن من أفراد «العقبة» إطعام الناس فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ «السغب» هو الجوع، و المسغبة المجاعة.

[16] يَتِيماً مفعول «إطعام» أي ليطعم الطفل الذي مات أبوه ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة من المطعم، فإن الإحسان إلى الأقرباء أفضل من الإحسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 680

[سورة البلد (90): الآيات 16 الى 18]

أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)

إلى غيرهم، كما

قال عليه السّلام «لا صدقة و ذو رحم كاشح»

«1».

[17] أَوْ مِسْكِيناً و هو الفقير الذي أسكنه الفقر، فإن الأغنياء يتحركون في مختلف حوائجهم، أما الفقراء فإنهم حيث لا مال لهم لا يتمكنون من التصرف في الشؤون ذا مَتْرَبَةٍ بمعنى الحاجة الشديدة من قولهم «ترب الرجل» إذا افتقر، و أصله من التراب، لأن الفقر يلازم التراب، لعدم فراش له ليقيه منه، فالمعنى قد لصق بالتراب من شدة فقره.

[18] ثُمَ لترتيب الكلمة لا ترتيب المطلب كانَ ذلك الإنسان الذي لم يقتحم العقبة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و ما جاء به، و هذا عطف على النفي، أي لم يقتحم العقبة مع كونه مؤمنا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي أوصى بعضهم بعضا بأن يصبر على

الشدائد، طاعة كانت أو معصية أو مصيبة، بأن يعمل الأول، و يترك الثاني، و لا يجزع في الثالث وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي برحم الناس و العطف عليهم، فإن «مرحمة» مصدر ميمي بمعنى الرحم.

[19] أُولئِكَ المتصفون بفك الرقاب و إطعام الطعام و التواصي بالصبر و المرحمة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يؤخذ بهم- في القيامة- ناحية اليمين نحو الجنان، و يعطون كتابهم بأيمانهم، أو أنهم أصحاب يمن و بركة.

______________________________

(1) راجع من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 68، وردت كلمة محتاج بدل كاشح في الحديث.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 681

[سورة البلد (90): الآيات 19 الى 20]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

[20] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا حججنا الدالة على التوحيد و سائر الأصول هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ فإنهم كانوا أصحاب شؤم على أنفسهم.

[21] عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي أن أبواب النار عليهم مسدودة مطبقة، من أوصد الباب: إذا سدّه و غلقه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 682

91 سورة الشمس مكيّة/ آياتها (16)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الشمس»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و هي مثل السورة السابقة تصنف الناس صنفين: صنفا للنار، و صنفا للجنة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي هو خير معين لمن استعان، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و العطف لكل خلق كما قال سبحانه وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 683

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6)

وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7)

[2] وَ الشَّمْسِ أي قسما بالشمس وَ قسما ب ضُحاها أي انبساط ضوءها في الآفاق.

[3] وَ قسما ب الْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبع الشمس، فأخذ من ضوئها و سار في عقبها.

[4] وَ قسما ب النَّهارِ إِذا جَلَّاها أي جلى الشمس و أظهرها و فيه لطف حيث أسند تجلية الشمس إلى النهار من باب «القلب»، فكأن النهار لشدة ضوئه يوضح الشمس و يظهرها، كما قال أهل البلاغة في قوله «كما طينت بالفدن السياعا».

[5] وَ قسما ب اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغشي الشمس فيغطيها عن الأبصار و يخفيها.

[6] وَ قسما ب السَّماءِ وَ ما بَناها أي «و قسما بمن بنى السماء» و المراد به اللّه تعالى، أو «ما» مصدرية، أي و بنائها المحكم المتقن.

[7] وَ قسما ب الْأَرْضِ وَ ما طَحاها «الطحو» بمعنى البسط، أي و من بسطها و هو اللّه، أو طحوها، على أن تكون «ما» مصدرية- كما سبق-.

[8] وَ نَفْسٍ أي قسما بكل نفس، و الإتيان بها نكرة للتفنن و البلاغة وَ ما سَوَّاها أي الذي صنعها، و كون «ما» موصولة- هنا- أقرب، بقرينة الآية التالية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 684

[سورة الشمس (91): الآيات 8 الى 12]

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)

[9] فَأَلْهَمَها أي عرّفها بطريق الإلقاء في القلب فُجُورَها أي عصيانها وَ تَقْواها أي إطاعتها، فإن كل إنسان يميز بين الخير و الشر و الطاعة و العصيان، و هذه الأقسام في هذه السورة و غيرها إنما تلفت الأنظار إلى هذه الآيات و المعارف، بالإضافة إلى كونها حلفا، فلا يقال: أية

حاجة لهذه الأيمان؟

[10] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها هذا هو المقسم له، أي فاز من زكى نفسه و طهرها من الآثام و الكفر.

[11] وَ قَدْ خابَ أي خسر مَنْ دَسَّاها أي أخملها و أخفى محلها بالكفر و العصيان، فإن «دس» نقيض «زكى».

[12] ثم جاء السياق ليهدد الذين يدسون أنفسهم بأن مصيرهم مصير أولئك الأقوام المكذبين من قبلهم كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود و هم قوم صالح عليه السّلام بِطَغْواها أي بسبب طغيانها، فإن الطغيان يوجب التكذيب و الكفر كما قال سبحانه ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1». و «طغوى» و «طغيان» بمعنى واحد، و هو مجاوزة الحد في العصيان.

[13] إِذِ انْبَعَثَ فقد بعثه الأشقياء لارتكاب هذه الجناية، فانبعث أَشْقاها أي أشقى ثمود، بمعنى الفرد الذي هو أكثر شقوة من غيره

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 685

[سورة الشمس (91): الآيات 13 الى 15]

فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

من أفراد القبيلة، و هو «قدار»، و هو الذي عقر الناقة.

[14] فَقالَ لَهُمْ تفريع على «كذبت» لا على «انبعث»، و الضمير عائد إلى قبيلة ثمود رَسُولُ اللَّهِ و المراد به صالح عليه السّلام: احذروا ناقَةَ اللَّهِ بأن تمسوها بسوء وَ احذروا سُقْياها أي شربها من الماء فلا تزجروها في شربها، فقد كان هناك نهر، و قرر صالح أن يكون ماء النهر يوما للناقة و تعطي بعوضه اللبن بقدر احتياج القبيلة، و يوما للناس، و قال لهم: إن مسستم الناقة بسوء أخذكم العذاب- كما تقدم تفصيل القصة-.

[15] فَكَذَّبُوهُ أي كذب أهل قبيلة ثمود صالحا عليه السّلام- المتقدم

باسم «رسول اللّه»- فَعَقَرُوها أي نحروا الناقة و ضربوا يديها و رجليها بالسيف، و العاقر كان واحدا لكن تآمرهم على ذلك و رضاهم به أوجب إسناد الفعل إلى جميعهم فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي دمر عليهم اللّه تعالى، فإن الدمدمة ترديد الحال المستكره بمضاعفة ما فيه المشقة بِذَنْبِهِمْ أي بسبب ذنبهم بعقر الناقة فَسَوَّاها أي سوى اللّه الدمدمة عليهم أجمعين بحيث لم يفلت منها أحد، أو سوّى اللّه أرضهم بحيث استوت فلا شي ء فيها.

[16] وَ لا يَخافُ اللّه سبحانه عُقْباها أي عاقبة الدمدمة، فإنه هو السلطان المطلق الذي لا معقب لأمره، و ليس كأفراد البشر- الذين يخافون عاقبة بعض أعمالهم- و إن بلغوا ما بلغوا من السلطة و الشوكة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 686

92 سورة الليل مكيّة/ آياتها (22)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الليل»، و هي كسائر السور المكية تشتمل على قضايا العقيدة، و يظهر من القصة الآتية أنها مدنية أو بعضها، و هذه السورة كالسورة السابقة بصدد تصنيف الناس إلى صنفين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو أول كل شي ء، و كما هو الأول في الكون كان من الجدير أن يبدأ به في أول كل أمر، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بسد خللهم و غفران زللهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 687

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)

[2] وَ اللَّيْلِ أي قسما بالليل إِذا يَغْشى أي يحيط بظلمته على الأشياء، و تخصيص بعض الأقسام بأمور خاصة، من

باب التفنن في البلاغة.

[3] وَ قسما ب النَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر و بان و أضاء.

[4] وَ قسما ب ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «ما» إما موصولة، أي الذي خلق، و المراد به اللّه سبحانه، و إنما جي ء ب «ما» دون «من» لأن «من» في الغالب يستعمل للبشر و نحوهم، و إما مصدرية أي قسما يخلق الصنفين.

[5] إِنَّ سَعْيَكُمْ أيها الناس، في الأمور، و تطلبكم للأشياء لَشَتَّى جمع شتيت كمرضى جمع مريض، أي أنه مختلف، فمن طالب دنيا و من طالب آخرة، و الحلف على ذلك باعتبار ما يعقبه من النتائج، أو لتبديد أوهام الزاعمين بأن السعي ليس إلا للدنيا فحسب، إذ ليس هناك آخرة.

[6] فَأَمَّا مَنْ أَعْطى المال في سبيل اللّه وَ اتَّقى الكفر و المعاصي.

[7] وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنى، و هي الشهادتان، و حيث إن المقام كان في الإعطاء تقدم، ثم ذكر التقوى لأنه من أقسام الإعطاء، ثم جاء دور العقيدة بعد ذين الأمرين.

[8] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي سنهوّن عليه الطريقة اليسرى، و هي طريقة الطاعة، أو نيسره للحياة اليسرى، أي الأسهل، فإن من تبع نهج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 688

[سورة الليل (92): الآيات 8 الى 11]

وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)

الإسلام سهلت عليه الأمور لما في الإسلام من المناهج السهلة الموجبة للسعادة و الرفاه يقال «يسره» إذا سهل عليه، و «يسرى» مؤنث «أيسر» بمعنى الأسهل.

[9] وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله فلم ينفقه في سبيل اللّه وَ اسْتَغْنى أي طلب الغنى بجمع المال و البخل من إنفاقه.

[10] وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنة، و

هي كلمة الشهادتين أو المراد في الموضعين «العدة الحسنى» و هي الثواب و الجنة.

[11] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي سنهون عليه الطريقة الأعسر و هي طريقة الكفر، و هذا على سبيل المزاوجة في الكلام- من قبيل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ «1»، إذ اللّه سبحانه لا يسهل على أحد سبيل العسر، و إنما المراد أنه سبحانه يخلي بينه و بين ما يعمل-.

[12] وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي لا يفيده ماله الذي بخل به إِذا تَرَدَّى أي هلك و سقط في الهاوية.

روي أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال و كان الرجل إذا جاء فدخل الدار و صعد النخلة ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بما يلقى من صاحب النخلة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اذهب، و لقي رسول اللّه

______________________________

(1) البقرة: 195. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 689

[سورة الليل (92): الآيات 12 الى 13]

إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13)

صاحب النخلة فقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان و لك بها نخلة في الجنة؟ فقال له الرجل: إن لي نخلا كثيرا و ما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللّه- و قيل اسمه أبو دحداح-: يا رسول اللّه أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم.

فذهب

الرجل و لقي صاحب النخلة فساومها منه، فقال له:

أشعرت أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرها و إن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلى تمرة منها. فقال له الآخر أ تريد بيعها؟ فقال: لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى؟ قال: فما هناك؟ قال: أربعون نخلة، فقال الرجل: جئت بعظيم تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة، ثم سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة، فقال له: اشهد إن كنت صادقا، فمر إلى أناس، فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إن النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللّه إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك و لعيالك، فأنزل اللّه تعالى «و الليل» فمن أعطى «أبو دحداح» و من بخل «صاحب النخلة»

«1».

[13] إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي أن اللازم على اللّه سبحانه- بقاعدة اللطف- أن ينصب الأدلة و يرسل الرسل، أما الاتباع و الاهتداء فعلى الناس من شاء اهتدى و من شاء بقي على ضلاله.

[14] وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى أي الدنيا، فمن اهتدى منحناه السعادة في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 690

[سورة الليل (92): الآيات 14 الى 19]

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)

وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)

الدارين، و من بقي على كفره حرم من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[15] فَأَنْذَرْتُكُمْ أيها الناس ناراً تَلَظَّى أي تتلظى- حذفت إحدى

تائيه لقاعدة اجتماع التائين على رأس المضارع- و معنى التلظي المتلهب و المتوقد و هذه النار عذابها أشد.

[16] لا يَصْلاها أي لا يدخلها ملازما لها إِلَّا الْأَشْقَى أي الأكثر شقوة، و هو الكافر، مقابل العاصي الذي هو أقل شقوة فإنه و إن دخل النار لكنه لا يلازمها.

[17] الَّذِي كَذَّبَ بآيات اللّه تعالى، و كفر به وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الحق.

[18] وَ سَيُجَنَّبُهَا أي سيجنب النار، و يجعل منها على جانب، و دخول «السين» لكون القيامة في المستقبل الْأَتْقَى أي الأكثر تقوى و هو المؤمن المطيع، و أما المؤمن غير المطيع فإنه يدخل فيها و إن خرج بعد مدة.

[19] الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي ينفق ماله في سبيل اللّه تعالى يَتَزَكَّى أي يطلب الزكاة و الطهارة بإعطاء ماله، فإن الإنفاق يطهر القلب من الرذائل.

[20] وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي لا يعطي الأتقى ماله لأن لأحد عليه إحسانا، يريد بهذا الإنفاق جزاء ذلك المحسن، و «من» لنفي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 691

[سورة الليل (92): الآيات 20 الى 21]

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21)

الجنس ... و المراد أنه لا يعطي جزاء لإحسان، و إنما عطاؤه لوجه اللّه سبحانه.

[21] إِلَّا ابْتِغاءَ أي طلب رضى وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي رضاه سبحانه، و إنما أضيف إلى «وجه» لأنه الذي يظهر عليه أثر الرضا في الإنسان، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و الاستثناء منقطع، و التقدير لا يعطي ماله جزاء، بل إنما يعطي قربة إلى اللّه سبحانه.

[22] وَ لَسَوْفَ في الآخرة، يعطيه اللّه من الثواب و الأجر ما به يَرْضى فقد ورد ما معناه أن الإنسان يعطى في الجنة بما لم يخطر

على قلبه كمّا و كيفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 692

93 سورة الضحى مكيّة/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الضحى»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، مع تركيز خاص بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حيث ختمت سورة الليل بأن الأتقى يعطى حتى يرضى، جاءت هذه السورة تبين ترضية اللّه سبحانه لنبيه بما يعطيه من الأجر و الثواب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد بتكميل نواقصهم و غفران معاصيهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 693

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)

[2] وَ الضُّحى أي قسما بالضحى، و هو وقت ارتفاع الشمس في كبد السماء بحيث يعم نورها، و الواو في مثل هذه المواضع استئنافية لتمليح الكلام و توحيد السياق.

[3] وَ اللَّيْلِ أي قسما بالليل إِذا سَجى أي سكن و استقر ظلامه، فإن «السجو» بمعنى السكون.

[4] ما وَدَّعَكَ يا رسول اللّه رَبُّكَ أي ما ترك عنك الوحي توديعا لك، بأن يكون كالمفارق الذي يودع صديقه وَ ما قَلى أي ما قلاك، بمعنى ما أبغضك، فإن القلى بمعنى المبغض.

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام إن جبرئيل أبطأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنه كانت أول سورة نزلت «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» ثم أبطأ عليه، فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك؟ فأنزل اللّه تبارك

و تعالى «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى

«1».

[5] وَ لَلْآخِرَةُ «اللام» للتأكيد خَيْرٌ لَكَ يا رسول اللّه مِنَ الْأُولى أي الدنيا، فقد أعد لك الخير هناك، فكيف يتركك و يقلاك في منتصف الطريق؟

[6] وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ يا رسول اللّه، في الآخرة رَبُّكَ بما تشاء فَتَرْضى من كثرة فضله و إحسانه، و من جملة ما يعطى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة- كما لا يخفى.

[7] ثم أخذ السياق يعدد بعض نعم اللّه سبحانه عليه سابقا ليؤكد أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 428.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 694

[سورة الضحى (93): الآيات 7 الى 11]

وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

الآن في وسط الطريق بين نعمة سبقت و نعمة تأتي فكيف يقلاه بعد ذلك؟ أَ لَمْ يَجِدْكَ اللّه يَتِيماً قد مات أبوك فَآوى أي آواك، و أعطاك مأوى و منزلا و عشيرة تأوي إليهم، في حين أن اليتيم كان ذليلا مهانا لدى أهل الجاهلية؟

[8] وَ وَجَدَكَ يا رسول اللّه ضَالًّا قد تفردت في أناس جاهليين كالشي ء الثمين الذي يضل في صحراء مقفرة فَهَدى الناس إليك فأخرجك عن الوحشة و التفرد حيث لا يهتدي الناس؟

[9] وَ وَجَدَكَ اللّه عائِلًا أي فقيرا لا مال لك فَأَغْنى أغناك بالمال، كمال خديجة عليها السّلام و غيره.

[10] و إذ قد ذاق الرسول مرارة اليتم و الضلال و الفقر، فليحن على البائسين و يعطف على المنكوبين فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تقهره يا رسول اللّه، بأن تزعجه و تظلمه. و

الرسول و إن كان منزها عن ذلك لكن الأوامر و النواهي شاملة له كشمولها لغيره من سائر المكلفين.

[11] وَ أَمَّا السَّائِلَ الذي يسأل المال، و هو الفقير و من أشبهه فَلا تَنْهَرْ أي لا تطرده خائبا، بل أعطه شيئا، أورده ردا جميلا.

[12] وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي أنعمها عليك، و المراد بها جنس النعمة- و من أعظمها الهداية- فَحَدِّثْ للناس، حتى تظهر فضله سبحانه فإنه بالإضافة إلى كونه شكرا، فهو تعليم للناس بأن لا يستروا النعم، كما جرت عادة الكثيرين، بأن يذكروا نواقص حياتهم، و لا يذكرون فضائله سبحانه عليهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 695

94 سورة الشرح مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «نشرح» كما تسمى سورة «ألم نشرح» و «الانشراح» أيضا، و هي كسائر السور المكية بصدد الأمور المرتبطة بالعقيدة مع تركيز خاص بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالسورة السابقة، و حيث كانت سورة «الضحى» بصدد الأمر المتعلق بالرسول، جاءت هذه السورة معقبة لتلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع باسم الإله الذي هو خير شعار للمعتقد به سبحانه، و هل شي ء أحسن من جعله تعالى شعارا في أول كل أمر؟ الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، كما قال تعالى وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 696

[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

[2] أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ يا رسول اللّه صَدْرَكَ و شرح الصدر توسعته بالأخلاق الفاضلة، فكأن صدر من لم يكن حليما أو سخيا أو عالما- أو

ما أشبه- ضيق كالإناء الضيق الذي لا يحتوي إلا على شي ء قليل، و النسبة إلى الصدر لأن القلب الذي هو محل الفضائل في الصدر، و لعل وجه ذلك أن الإنسان إذا ضاق بأمر حمى قلبه، فيحتاج إلى هواء أكثر لتبريد القلب، فتنتفخ الرئة انتفاخا كثيرا مما يضيق الصدر حسا، ثم أن في الاستفهام حلاوة ليس في الإخبار.

[3] وَ وَضَعْنا أي حططنا عَنْكَ يا رسول اللّه وِزْرَكَ أي حملك الثقيل، فإن «الوزر» هو الحمل، و ذلك بشرح صدرك حتى لا يثقل عليك حمل التبليغ، و هذا ما يحسه كل إنسان مرشد، فإنه في أول أمره يرى حملا ثقيلا عليه من جراء الإرشاد، ثم يتسع صدره- بفضله سبحانه- و يحس كأنه وضع عنه الثقل، حتى يشعر أحيانا بأنه لا حمل إطلاقا.

[4] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ من ثقله، و «أنقض» بمعنى أسمع الصوت فإن الإنسان إذا حمل حملا ثقيلا سمع لظهره فرقعة، و هذا هو الإنقاض- و ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس-.

[5] وَ رَفَعْنا لَكَ يا رسول اللّه ذِكْرَكَ حتى يعرفك كل أحد بالصدق و الأمانة و ما أشبه ذلك، هذا بالإضافة إلى ما رفعه سبحانه- بعد ذلك- من ذكره في المآذن و غيرها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 697

[سورة الشرح (94): الآيات 5 الى 6]

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)

[6] و إذ تقدم بيان أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صار في اليسر بعد ما كان في العسر، جاء السياق يؤكد هذه الحقيقة في مختلف أدوار الحياة لكل إنسان فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فإذا عسر الأمر على الإنسان و اشتد كان لا بد و أن يأتي بعده يسر و سهولة.

[7]

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً هذا للتأكيد، مع أن فيه تأسيسا، و هو كون «يسر» الثاني غير «يسر» الأول لأنه منكر، بخلاف «العسر» في الموضعين فإنه واحد، لكون اللام- سواء كان للعهد أو الجنس- توجب الإشارة إلى الحصة المعهودة، و لذا لو قلت «اشتريت فرسا ثم بعت الفرس» فهم ان المبيع هو المشترى و لو قلت «اشتريت فرسا ثم بعت فرسا» فهم أن المبيع غير المشترى.

و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج مسرورا فرحا و هو يضحك و يقول:

لن يغلب عسر يسرين فان مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا

«1».

أقول: و قد نظم الشاعر ذلك بقوله:

إذا ضاقت بك الدنيا تفكر في ألم نشرح تجد يسرين مع عسر إذا ذكرتها تفرح

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 ص 390.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 698

[سورة الشرح (94): الآيات 7 الى 8]

فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

[8] فَإِذا فَرَغْتَ يا رسول اللّه من أمورك الخاصة فَانْصَبْ في الدعاء و العبادة، من «النصب» بمعنى التعب، أي أتعب نفسك في الاشتغال باللّه سبحانه.

[9] وَ إِلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ أي اجعل رغبتك فيما عند اللّه سبحانه، فإنه هو الذي سهل عليك الأمر، و يسر الحمل الثقيل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 699

95 سورة التين مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بذلك، لاشتمالها على لفظة «التين»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان الأمور المرتبطة بالعقيدة، و حيث ختمت سورة «الإنشراح» بالرغبة إليه سبحانه جاءت هذه السورة لتؤكد بأن اللّه هو أحكم الحاكمين و أن بيده الأمور، فالرغبة إليه توجب حسن الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي

يتفضل بالرحمة لكل عباده، ترغيبا لهم في أن يطلبوا من واسع فضله و رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 700

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 5 763

[سورة التين (95): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)

[2] وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ أي قسما بهاتين الفاكهتين، و إنما جاء الحلف بهما لكثرتهما في الشام و حواليها المباركة- التي يراد التلميح إليها لكونها مبعث الأنبياء و مهبط ملائكة السماء-.

[3] وَ قسما ب طُورِ سِينِينَ يعني الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى و «سينين» و «سيناء» لغتان فيه فالقسم برزق اللّه المادي الفواكه، و فضله المعنوي الرسالات.

[4] وَ قسما ب هذَا الْبَلَدِ و هو مكة الْأَمِينِ الذي يأمن فيه الخائف، فكأنه لا يخون وارده بإهلاك و إيذاء.

[5] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ هذا جواب القسم، و التقويم بمعنى تصيير الشي ء على ما ينبغي أن يكون عليه من التأليف و التعديل يعني الإنسان مخلوق في أحسن طراز من جهة حواسه و ظواهره، و من جهة مشاعره و أجهزته، و هذا يناسب القسم، لأن الكل إحسان و إفضال ففاكهة، و وحي، و إنسان ينتفع بهما في مادياته و معنوياته.

[6] ثُمَّ رَدَدْناهُ أي أرجعنا الإنسان أَسْفَلَ سافِلِينَ أي تركناه و لم نلطف به الألطاف الخفية حتى تردى في أبعد مهوى، و صار في أسفل من كل إنسان، و المعنى أن الإنسان له شأنية هذا النحو من التردي إذا أعرض عن الإيمان و الهدى و اتبع الأهواء و الشهوات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 701

[سورة التين (95):

الآيات 6 الى 8]

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

[7] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازمة لاجتناب السيئات فَلَهُمْ أَجْرٌ و ثواب في الآخرة غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع بل متواصل دائم إلى الأبد، من «منّ» بمعنى قطع.

[8] فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بَعْدُ أي بعد هذه الحجج و الآيات و بيان طرفي الإنسان صعودا و هبوطا بِالدِّينِ أي بالجزاء، و المعنى ما الذي يسبب أن تكذب بالجزاء بعد أن عرفت الرفعة و الانحطاط في الإنسان، كما لو بين الأستاذ مضرة الرسوب و منفعة النجاح يتساءل ما الذي يوجب للتلميذ أن يترك درسه؟

[9] أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أحسن حكما من كل حاكم، حيث قرر للإنسان هذين النوعين من الجزاء، فمن أحسن له أجر غير ممنون و من أساء فهو يتردى في مهاوي الانحطاط.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 702

96 سورة العلق مكيّة/ آياتها (20)

و هي أول سورة نزلت على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكة على المشهور، و سميت بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «علق»، و هي كسائر السور المكية بصدد الأمور المرتبطة بالعقيدة و ما إليها، و إذ تقدم في تلك السورة ذكر خلق الإنسان في أحسن تقويم، جاءت هذه السورة مؤكدة لذلك.

و لا يخفى أن ترتيب السور- كما ورد- إنما كان بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أن إدخال كل آية في سورة خاصة كان كذلك، و تسميتها بأسامي خاصة أيضا بأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا لا ينافي النزول على

غير هذا الترتيب.

و أما ما صنعه «أبو بكر» و «عثمان» حتى اشتهر بأنهما جمعا القرآن، فإنما كان كل إنسان كتب بعض القرآن في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمقدار ما سمع، فهما ردا الجميع إلى أصل واحد هو المنظم المرتب على ترتيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما لو فرضنا أن كتاب أحد المؤلفين قسم إلى أجزاء و بيد كل شخص جزء، ثم جاء شخص، و جمع الكل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 703

نسق كتابه، و جاء بعده آخر فأحرق الناقصات و أمر بلزوم أن يكون الكتاب المتداول بلا زيادة أو نقصان- و للكلام تفصيل ذكرناه في بعض ما كتبناه-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه، الذي لا أحق بالابتداء منه، فإن بيده الابتداء و الانتهاء، و هو المبدئ و المعيد، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل إنسان و لكل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 704

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6)

[2] اقْرَأْ يا رسول اللّه، القرآن مصاحبا قراءتك بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فإذا قرأ كل إنسان ما يقرأ بدون اسم اللّه، فأنت اقرأ مع اسم اللّه،

و في الحديث أن جبرئيل نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جبل «حراء» بمكة.

فقال: «اقرأ» قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أقرأ و لست أنا بقارئ فقال عليه السّلام:

«اقرأ ...»

«1».

[3] خَلَقَ الْإِنْسانَ تخصيص بعد التعميم، فإن «خلق» الأول

حيث حذف متعلقة أفاد العموم مِنْ عَلَقٍ و العلق هو الدم المنجمد الذي ينقلب المني إليه، بعد استقراره في الرحم، و هذا هو بدء الإنسان.

[4] اقْرَأْ للتأكيد في القراءة وَ رَبُّكَ يا رسول اللّه هو الْأَكْرَمُ من كل كريم، و من كرمه خلق الإنسان من تلك العلقة القذرة، و أوصله إلى المقامات الرفيعة.

[5] الَّذِي عَلَّمَ الإنسان المعارف أو العلوم بسبب القلم فلو لا خلقه للقلم و تعليمه للإنسان الكتابة لبقي الإنسان في دياجير الجهل و الرذيلة، فمنه سبحانه «القراءة» ف «اقرأ ...» و منه الكتابة فعلم «بالقلم» و منه البدء «من علق» و منه الإيصال إلى الكمال.

[6] عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من أنواع العلوم و المعارف.

[7] و هل يشكر الإنسان هذا الفضل العظيم للّه سبحانه، حيث أوجده من

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 705

[سورة العلق (96): الآيات 7 الى 10]

أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)

العدم إلى أن أبلغه إلى غاية الكمال الجسدي، و قد كان جاهلا ضالا فأبلغه رتبة العلم و الهدى؟ كَلَّا لا يشكر الإنسان، ف إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى يتجاوز حدوده و يتكبر على ربه.

[8] ل أَنْ رَآهُ أي حين رأى نفسه اسْتَغْنى في جسمه و ماله و يظن أنه غني بعد ذلك فلا يحتاج إلى ربه.

[9] إِنَّ إِلى رَبِّكَ يا رسول اللّه الرُّجْعى مصدر «رجع»، أي رجوع الخلق، و يرجع إليه تعالى- أي إلى جزائه و حسابه- فيمن يرجع هذا الطاغي الذي طغى على اللّه سبحانه.

[10] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه الَّذِي طغى على اللّه، حتى أنه يَنْهى

[11] عَبْداً إِذا صَلَّى

فإنه لم يكتف بطغيانه على اللّه في تركه الصّلاة- بنفسه- حتى أصبح ينهى سائر العباد إذا قاموا للصلاة؟ أ رأيت هذا الإنسان يا رسول اللّه؟ و هذا استفهام لتوبيخ ذلك الشخص الناهي و تهديده.

قال القمي: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصّلاة و أن يطاع اللّه و رسوله، فنزلت هذه الآية «1».

و في رواية أخرى أن أبا جهل قال: هل يغير محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فقيل: ها هو ذلك يصلي، فانطلق ليطأ على رقبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فما جاءهم إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال:

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 430. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 706

[سورة العلق (96): الآيات 11 الى 15]

أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)

رأيت بيني و بينه خندقا من نار و هولا و أجنحة، و قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و الذي نفسي بيده لو دنى مني لا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا «1»، فأنزل سبحانه «أ رأيت ...»

و كأن التقدير أ رأيت المانع عن الصّلاة؟

و هل علمت ماذا يكون جزاؤه؟ لبيان عظمة هذا العمل من حيث الإثم.

[12] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه إِنْ كانَ العبد الذي صلى- و هو الرسول- عَلَى الْهُدى و كانت صلاته حسب أمر اللّه سبحانه؟

[13] أَوْ أَمَرَ ذلك العبد بِالتَّقْوى و المخافة من اللّه سبحانه باجتناب نواهيه؟ ماذا

كان مصير ذلك له؟ أليس مصيره إلى العذاب و النكال؟

[14] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه إِنْ كَذَّبَ ذلك الناهي- و هو أبو جهل أو الوليد- بآيات اللّه و رسوله وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الحق، ما هي عاقبته؟

[15] أَ لَمْ يَعْلَمْ ذلك الناهي بِأَنَّ اللَّهَ يَرى عمله و نهيه عن الصّلاة و كذبه و توليه؟ و لم يعلم جزاء هذه السيئات؟ فإنه كيف ينهى و يكفر و يعصي، و جزاء من يفعل ذلك النار و النكال؟

[16] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم من أنه لا جزاء على أعماله السيئة لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ هذا الناهي عن أعماله و سيئاته لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنجرنّه بناصيته إلى النار، من «سفع» بمعنى جذب الشي ء جذبا شديدا، «و الناصية» هي شعر مقدم الرأس، فإنه أسهل للأخذ و أوجب لانقياد المأخوذ.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 707

[سورة العلق (96): الآيات 16 الى 19]

ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

[17] ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ نسبة الكذب و الخطأ إلى الناصية مجاز باعتبار علاقة الجزء و الكل، كما أن نسبة الإيمان إلى الرقبة في قوله رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ «1» كذلك و المراد أن صاحب الناصية كاذب في أقواله خاطئ في أعماله.

[18] فَلْيَدْعُ ذلك الإنسان الناهي نادِيَهُ أي أهل مجلسه و أصدقائه، فإن «النادي» هو محل الاجتماع، الذي ينادي بعضهم بعضا إليه، و نسبة النداء إليه مجاز من باب «اسأل القرية» يعني يدعوهم لخلاصه فهل يتمكنون إنقاذه من بطش اللّه سبحانه؟

قال ابن عباس لما أتى أبو جهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انتهره الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال أبو جهل: أ تنتهرني يا محمد فو اللّه لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

[19] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يعني إنا ندعو الملائكة الموكلين بالنار لقبض ذلك الشخص الناهي، و ليدع هو ناديه، حتى يظهر أينا يغلب الآخر. و هذا تهديد له بأنه لا منقذ له من بطشه سبحانه، و «الزبانية» جمع «زبينة» و هي النفس التي تدفع، من «الزين» بمعنى الدفع، فإن الملائكة يدفعون المجرمين إلى النار دفعا.

[20] كَلَّا ليس الأمر كما زعم هذا الناهي، ف لا تُطِعْهُ يا رسول اللّه في ترك الصّلاة التي ينهى عنها وَ اسْجُدْ للّه سبحانه، أو بمعنى أخضع له بالصلاة و نحوها وَ اقْتَرِبْ من رضوان اللّه بطاعته و عبادته من «القرب». و سورة اقرأ إحدى «العزائم» الأربع، و هذه هي آية السجدة.

______________________________

(1) النساء: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 708

97 سورة القدر مكية أو مدنية/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القدر»، و هي إما مكية- كما يظهر من سياقها- أو مدنية، و على أي حال ترتبط بقضايا العقيدة و إذ ختمت سورة «العلق» بذكر الاقتراب منه سبحانه، بينت في هذه السورة إن الاقتراب إليه في ليلة القدر أفضل من الاقتراب إليه سبحانه في سائر الأوقات.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله، ليكون عونا لنا في أمورنا، الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بما يستر زللهم و يسد خللهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 709

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)

[2] إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن- المعلوم من السياق- و الإتيان بلفظ

الجمع في «إنّا» و «أنزلنا» باعتبار التعظيم، فقد كان المتعارف أن يتكلم كل رئيس عن نفسه و عن أتباعه، ثم أستعير «الجمع» في كل تعظيم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ و هي «التاسعة عشرة» أو «الواحدة و العشرون» أو «الثالثة و العشرون» من شهر رمضان المبارك، فقد نزل القرآن بجملته إلى البيت المعمور- في السماء الرابعة- في إحدى هذه الليالي الثلاث، ثم نزل منجما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ظرف ثلاث و عشرين سنة، أو المراد أن إنزاله على قلب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في هذه الليلة، و إنما إتيان جبرئيل به أقساطا من السماء- بمناسبات- كان في ظرف ثلاث و عشرين سنة، و سميت الليلة ب «القدر» لتقدير أعمال العباد في هذه الليلة.

و قد ورد في الأحاديث ان في هذه الليلة من كل سنة تنزل أفواج من الملائكة بالتقديرات لتلك السنة، إلى الإمام الحي من الأئمة الإثني عشر عليهم السّلام بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيعلم الإمام بما قدر اللّه سبحانه للخلائق من الآجال و الأرزاق و الأعمال و سائر الأمور المرتبطة بهم «1»، و هذا لا يعني أنهم كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نزول الوحي، فقد نزل جبرئيل على مريم و ليست رسولا، بل هو تشريف من اللّه سبحانه للإمام الذي هو خليفة في أرضه بعد الرسول، و في دورنا تنزل الملائكة بالتقديرات- في ليلة القدر- على الإمام المهدي المنتظر «عجل اللّه فرجه».

[3] وَ ما أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها السامع ما هي لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟

و هذا لتعظيم شأنها.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 82 ص 52.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 710

[سورة القدر (97): الآيات 3 الى 5]

لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

[4] لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني أن الأعمال الصالحة في ليلة القدر خير من العمل الصالح في ألف شهر- التي هي أكثر من ثمانين سنة- فإن الأزمان إنما تفضل بعضها على بعض بما يقع فيها من الأعمال أو المعنى أن تلك الليلة التي نزل فيها القرآن، خير من ألف شهر لما حدث فيه من أمر عظيم هو نزول القرآن.

[5] تَنَزَّلُ أصله «تتنزل» حذفت إحدى تائيه على القاعدة- كما سبق- الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ و هو ملك عظيم، أو جبرئيل عليه السّلام فِيها أي في تلك الليلة بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإن اللّه يأذن لهم في النزول على الرسول و الإمام لبيان مقدرات العباد في تلك السنة مِنْ كُلِّ أَمْرٍ فقد جاء جبرئيل و سائر الملائكة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الليلة و معهم كل أمر مربوط بالأرض من الهداية و الإرشاد، و التنظيم و التقنين و السعادة و الخير؟ و كذلك يأتون في كل سنة إلى الإمام الحي بذلك كله.

[6] سَلامٌ هِيَ أي تلك الليلة، فقد قدر فيها منهاج السّلام العام للعالم، سلامة الروح عن الأوضار، و سلامة الجسم عن الأمراض، و سلامة المجتمع عن المفاسد، و سلامة العقل عن الخرافة. أو المعنى أن الليلة هي سلام، بمعنى كونها سالمة عن البلايا و الآفات، فلا يقدر فيها إلا السّلام حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ فإذا طلع الفجر انتهى تنزل الملائكة، و يتم الأمر، كما حين طلع الفجر من

ليلة نزول القرآن انتهى تنزل الملائكة و قدر الأمر. و من المستحب الدعاء و الضراعة في هذه الليلة، تذكرا لابتداء الوحي، و طلبا لأن يقدر فيها الخير، بالنسبة إلى السنة المقبلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 711

98 سورة البيّنة مدنية أو مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «البينة» و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و هناك قول آخر بأنها مدنية، و فيها بعض إماراتها. و حيث بينت سورة القدر أن القرآن نزل في ليلة القدر، جاءت هذه السورة تبين أن الكفار لم يزالوا على كفرهم و ضلالهم، حتى أتاهم القرآن، فاهتدى بعضهم به.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو الذات المستحق لكل تجلة و إعظام، الرحمن الرحيم، الذي يرحم كل شي ء بإعطائه خلقه ثم هدايته إلى طريق حياته، و يرحم الإنسان بصورة خاصة بإرشاده و غفران خطأه إن تاب و أناب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 712

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)

[2] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود و النصارى و المجوس، و الوصف ليس للتصنيف بل للبيان، فإن كل أهل الكتاب قد كفروا بنسبتهم إلى اللّه الولد و الشريك و توصيفهم له بما لا يليق بجلال شأنه وَ من الْمُشْرِكِينَ الذين أشركوا باللّه و عبدوا الأصنام معه مُنْفَكِّينَ أي منتهين عن كفرهم، من «انفك» بمعنى زال عنه، و ابتعد حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة الظاهرة- و هو القرآن الكريم، و الرسول العظيم- إذ لا مجال لهم في عرفان الحقائق بعد

ما حرّفوا كتبهم و بدلوا دينهم.

[3] ثم بين المراد بالبينة بقوله: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ أي من طرفه سبحانه يَتْلُوا و يقرأ عليهم صُحُفاً مُطَهَّرَةً هي صحائف القرآن الحكيم التي طهرت عن الكفر و الشرك و نسبة ما لا يليق إلى اللّه و إلى أنبيائه، فإن النبي و إن كان يتلو عن ظهر القلب لكنه كان يقرأ عن اللوح المحفوظ عكس كتاب العهدين.

[4] فِيها أي في تلك الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ «الكتاب» يستعمل بمعنى الموضوع، كما يقال: كتاب الصلاة، و كتاب الحج، يراد موضوعهما- و لذا نرى كتاب الصلاة، مثلا في ضمن كتاب «شرائع الإسلام للمحقق»، أو أن الكتاب بمعنى المكتوب، و هو في الصحيفة، يعني أن تلك الصحف تشتمل على موضوعات ذات قيمة و ثمن، أو بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 713

[سورة البينة (98): الآيات 4 الى 6]

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)

ذات استقامة، فإن القيمة بمعنى المستمرة في جهة الصواب.

[5] وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب السماوي إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي الحجة الواضحة، و المعنى أن أهل الكتاب إنما اختلفوا- في أمر الرسول أو أمر دينهم السابق بأن صار لكل فئة مذهب و طريقة- بعد أن تمت عليهم الحجة و عرفوا الصواب، و إنما اختلفوا بغيا و حسدا.

[6] وَ الحال أن اللّه لم يأمرهم إلا بعبادته و اتباع طريقته، فإنهم ما

أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وحده في حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي يخلصون الطريقة للّه سبحانه، بلا زيادة أو نقصان، أو شرك أو انحراف، في حال كونهم حُنَفاءَ جمع حنيف، أي مائلين عن الأديان الباطلة و الطرائق الزائفة، من «حنف» بمعنى مال وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ أي يداوموا على إقامة الصّلاة وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ أي يعطوها، و المراد بها إما مطلق الإعطاء، أو الزكاة المفروضة. فقد فرضت الزكاة في الأديان السابقة- وَ ذلِكَ الدين المشتمل على هذه الأمور المذكورة دِينُ الْقَيِّمَةِ أي دين الكتب القيمة- التي تقدم ذكرها- بمعنى أنه الدين المذكور في تلك الكتب.

[7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ استمروا على كفرهم فلم يؤمنوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 714

[سورة البينة (98): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ من الْمُشْرِكِينَ بأن استمروا في شركهم يكونون فِي نارِ جَهَنَّمَ في الآخرة حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في النار إلى الأبد أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي شر الخلق، فإن البرية هي الخليقة، من برأ بمعنى خلق و أنشأ.

[8] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و اليوم الآخر وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، الملازمة لعدم الإتيان بالأعمال الفاسدة أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أي الأفضل من جميع الخلق، و في مقابلهم من آمن و عصى، فإنه ليس بذلك الشر و لا بذلك الخير.

[9] جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي المحل الذي أعده للحساب و الجزاء فإنه سبحانه لا مكان له

جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة، من «عدن» بالمكان إذا أقام فيه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها، أنهار من عسل و خمر و لبن و ماء خالِدِينَ فِيها أي في تلك الجنات أَبَداً دائما لا يزولون عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حيث عبدوه و أطاعوه وَ رَضُوا عَنْهُ حيث أكرمهم و تفضل عليهم بالخير و السعادة ذلِكَ الثواب و الفضل لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه فلم يعصه و لم يرتكب ما يخالف أوامره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 715

99 سورة الزلزلة مدنية أو مكيّة/ آياتها (9)

و تسمى سورة «الزلزال» أيضا، لاشتمالها على كلمة «زلزلت»، و في كونها مدنية أو مكية خلاف لكنها تعالج قضايا العقيدة، و هي التي تؤكد كونها مكية، و حيث ختمت سورة «البينة» بجزاء المطيعين في الجنان، و العاصين بالنيران، افتتحت هذه السورة بذكر أشراط الساعة، و علائم القيامة، التي هي يوم الفصل و الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي هو الأول، فلا شي ء قبله و معه، تطابقا للشروع في الشي ء مع الخارج، بجعل اسم اللّه سبحانه شعارا، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لمن استرحمه، و لمن لم يسترحمه، و إن كان فرق بينهما في زيادة التفضل و المثوبة و ما أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 716

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)

[2] إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي حركت تحركها الشديد، و اضطربت اضطرابا عظيما.

[3] وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها كل ما فيها من الأشياء الثقيلة، من معادن

و دفائن و أموات و أشباه ذلك، فإنها تلقيها على ظهرها عند قيام الساعة.

[4] وَ قالَ الْإِنْسانُ متعجبا من هذه الحوادث: ما لَها أي ما للأرض تتزلزل و تضطرب و تخرج ما في بطنها؟! [5] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم- و هو يوم القيامة- تُحَدِّثُ الأرض أَخْبارَها

ورد عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال أ تدرون ما أخبارها؟ قالوا:

اللّه و رسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها.

[6] كل ذلك الزلزال و الإخراج و الحديث يصدر من الأرض بسبب أن رَبَّكَ يا رسول اللّه أَوْحى لَها أي للأرض بأن تعمل ذلك، و السماء و الأرض مطيعتان للّه سبحانه فيما يأمر، كما قال سبحانه (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «1».

[7] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم يَصْدُرُ النَّاسُ أي يرجع الناس من قبورهم إلى المحشر أَشْتاتاً جمع «شتيت» أي متفرقين، بعضهم

______________________________

(1) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 717

[سورة الزلزلة (99): الآيات 7 الى 8]

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

لعاقبة حسنة و بعضهم لعاقبة سيئة لِيُرَوْا- على البناء للمفعول- أي حتى يريهم اللّه أَعْمالَهُمْ التي عملوها و يجازي كل على عمله.

[8] فَمَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي بقدر ثقل ذرة- و هي الهباءة التي ترى في الشمس إذا دخلت من الكوة في المحل المظلم- خَيْراً يَرَهُ أي يرى جزاء ذلك الخير، في ذلك اليوم.

[9] وَ مَنْ يَعْمَلْ في الدنيا مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من الكفر و العصيان يَرَهُ في ذلك اليوم، و لا يظلم أحد شيئا، إلا أن يدرك عامل الشر شفاعة، إن كان من أهلها، أو عامل الخير

إحباطا، لأنه أتى بسيئة تحبط أعماله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 718

100 سورة العاديات مدنيّة أو مكيّة/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «العاديات»، و هي كسائر السور المدنية تلمح إلى الأمور المرتبطة بالنظام إلى جنب العقيدة، و هذه السورة نظير السورة السابقة في ذكر الجزاء.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نشرع باسم اللّه، ليكون شروعا مباركا، فإنه لا يبدأ شي ء باسم اللّه إلا كان الخير قرينة بلطفه و فضله، الرحمن الرحيم، الذي يرحم العباد و يتفضل عليهم بالسعادة و الإحسان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 719

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)

[2] وَ الْعادِياتِ أي قسما بالأفراس التي تعدو في سبيل اللّه للجهاد ضَبْحاً أي تضبح ضبحا، «و الضبح» هو صوت الجوف الذي يسمع من الخيل حين تعدو.

[3] فَالْمُورِياتِ أي قسما بالموريات، و الفاء للترتيب في الكلام أي الخيل التي تورى النار و تظهرها، بوطء حوافرها على الأحجار قَدْحاً مثل نار الزناد إذا قدح، تقدح قدحا أي تضرب ضربا يقال أورى القادح النار: إذا أظهرها.

[4] فقسما بالمغيرات أي الأفراس التي أغارت على العدو صُبْحاً بعد أن سار المجاهدون ليلا، حتى إذا أصبحوا أغاروا.

[5] فَأَثَرْنَ تلك الأفراس بِهِ أي بذلك المكان- المعلوم من السياق- نَقْعاً أي غبارا، يعني أن تلك الخيل أثارت بذلك المكان الغبار الكثير لمطاردتها الأعداء، و «نون» جمع المؤنث يأتي للعاقلة و غير العاقلة- كما سبق-.

[6] فَوَسَطْنَ تلك الأفراس بِهِ أي بذلك المكان جَمْعاً أي صرن في وسط ذلك المكان، حتى فتحوا على العدو، إذ حصلوا في وسطهم و أحدثوا الفوضى و الاضطراب فيهم على حين غرة،

و هذه الآيات نزلت في «غزوة ذات السلاسل». و هي كما في كتاب «قادة الإسلام» «1» اشتركت قبائل من «لخم» و «جذام» و «بلقين» و «بهر» و

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 720

«بلى» و «طي» و «عذرة» و غيرها في حرب «مؤتة» و ساعدت الكفار على المسلمين، و بعد وقعة «مؤتة» تجمعت قوى هؤلاء لمحاربة المسلمين و كان عددها اثني عشر ألف مقاتل، فأراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يؤدبهم و يأخذ بثأر المسلمين الذين استشهدوا في «مؤتة»، فجهز جيشا من أربعة آلاف نفر، برئاسة «أبي بكر» و أمرهم بالذهاب إلى الكفار و مقاتلتهم، و توجه أبو بكر إلى تلك المنطقة، فلما رأوه خرجوا إليه و حذروه من محاربتهم، فخاف أبو بكر و رجع، و اغتاظ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من رجوعه، ثم أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «عمر» على الجيش فأرسلهم و حذرهم من الجبن، لكن عمر جبن كأخيه من قبل، «و آب بخفي حنين» ثم أمر الرسول «عمرو بن العاص» و أرسلهم لكنهم أيضا رجعوا حينئذ عقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اللواء بقيادة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و وصاه بما أوصى به أولئك ثم

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنه لا بد و أن يفتح اللّه على يديك ... جاء الإمام عليه السّلام حتى وصل إلى قرب معسكر الكفار بحيث يرونه و يراهم، فانحاز من معسكرهم مائتا رجل، و كلموا الإمام فدعاهم الإمام إلى الإسلام، لكنهم أبوا و قالوا:

إنا لنقتلكم جميعا و ضربوا الموعد يوم غد، و انصرفوا إلى معسكرهم ينتظرون

غدا.

أمر الإمام جيشه أن يستعدوا، فأخذوا كامل استعدادهم في الليل فلما أصبح الصباح وصلوا صلاة الصبح، أمر الإمام الجيش بالهجوم على القوم، فهجم جيش المسلمين يقدمهم الإمام عليه السّلام على الكفار و هم نائمون إلا قليلا منهم، و أولئك القليل لم يكونوا مستعدين للقتال فانهزموا أمام الجيش الإسلامي، و قد أكثر فيهم الجيش من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 721

[سورة العاديات (100): الآيات 6 الى 10]

إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10)

القتل و الأسر، و لم تطلع الشمس إلا و الجيش الإسلامي يحملون الأسرى و الغنائم، ليعودوا إلى المدينة منتصرين، و استقبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون الإمام عليه السّلام و جيشه، و هنا نزلت سورة العاديات

«1».

[7] قسما بتلك الأقسام المتقدمة إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور، و منه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئا، و الأصل فيه منع الحق.

[8] وَ إِنَّهُ أي الإنسان عَلى ذلِكَ الكفر لَشَهِيدٌ أي يشهد بذلك، فإن الإنسان يعلم ما له و ما عليه، و إن لم يعترف بما عليه، أو المعنى أنه يشهد بذلك يوم القيامة، حيث يختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون.

[9] وَ إِنَّهُ أي الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ فإنه شديد في حب كل خير لنفسه، هذا طبع الإنسان، لو لم يخرجه الإيمان.

[10] أَ فَلا يَعْلَمُ الإنسان إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بعث الموتى و أخرجوا من قبورهم، منتشرين مبعثرين هنا و هناك؟

[11] وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ بأن ظهرت

نوايا الناس و ما أضمروه من خير و شر؟ ليجازي كل حسب ما نواه و أضمره و عمله و أتى به. ألا

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفي: ص 591.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 722

[سورة العاديات (100): آية 11]

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

يعلم ماذا يكون مصيره يومذاك؟ فكيف يعصي و يكند؟ كما تقول لمن يعصي: ألا تعترف بالحساب؟ تريد بذلك تهديده.

[12] إِنَّ رَبَّهُمْ أي اللّه الذي خلقهم و رباهم بِهِمْ أي بالناس يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة لَخَبِيرٌ عالم مطلع، فيجازي كل إنسان حسب عمله و نيته، و قوله «يومئذ» من جهة أن الجزاء في ذلك اليوم، و إلا فكونه سبحانه خبيرا عام لكل الأزمان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 723

101 سورة القارعة مكية أو مدنية/ آياتها (12)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «القارعة»، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «العاديات» بتهديد العصاة، جاءت هذه السورة لتبين علائم القيامة، موعد التهديد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نبتدئ باسم «اللّه» الذي هو المستجمع لجميع صفات الكمال، لنجعله شعارا لنا في أعمالنا و أمورنا، إذ لا شي ء أفضل منه في أن يكون شعارا لمعترف بربه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحمة و الغفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 724

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6)

[2] الْقارِعَةُ هي من أسماء القيامة، لأنها تقرع القلوب بالخوف و تقرع الناس بالعذاب، و تقرع الجبال فتجعلها دكا دكا.

[3] مَا الْقارِعَةُ أي ما هي القارعة؟ و ذلك لتفخيم شأنها و تعظيم أمرها،

و «القارعة» الأولى مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثان، و «القارعة» الثانية خبر «ما»، و الجملة خبر «قارعة» الأولى.

[4] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان أو أيها الناس مَا الْقارِعَةُ؟ هذه الجملة لتفخيم شأنها، يعني أنها من الهول بحيث لا تعلمها و لا تدركها، إلا بعد أن تراها.

[5] يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ و هو الغوغاء من الجراد الذي ينفرش و يركب بعضها فوق بعض الْمَبْثُوثِ أي المنتشر، فإن الناس يكونون مثل الفراش في الكثرة و الاضطراب و الانتشار.

[6] وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف الملون الْمَنْفُوشِ أي المندوف، فإنها تقلع عن أماكنها و تحطم حتى تكون كالصوف ذي الألوان الخفيف اليسير، و ألوانها، لاختلاف ألوان الجبال فإنها بيض و حمر و سود و غيرها.

[7] فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي رجحت حسناته و كثرت و الإتيان بالجمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 725

[سورة القارعة (101): الآيات 7 الى 11]

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

لأن لكل عمل حسن ميزان فميزان للصلاة، و ميزان لبر الوالدين، و هكذا. و هل المراد بالميزان هو المعهود في الدنيا- كما هو الظاهر- أو غيره احتمالان؟

[8] فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي عيشة ذات رضى يرضاها صاحبها و نسبة الرضى إليها- مع كون الراضي هو الذي يعيش- مجاز.

[9] وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن قلت حسناته، و كثرت سيئاته.

[10] فَأُمُّهُ أي مأواه هاوِيَةٌ أي جهنم، و المعنى أن محله النار، فكما أن الولد يأوي إلى أمه كذلك يأوي العاصي إلى جهنم، و إنما سميت بالهاوية لهوى الشخص فيها.

[11] وَ ما أَدْراكَ يا رسول اللّه، أو أيها الإنسان

ما هِيَهْ هذا تفخيم لعذاب النار، حتى أن الرسول- أو السامع- لا يدرك حقيقتها و تفصيلها لهولها، و الهاء للسكت.

[12] إنها نارٌ حامِيَةٌ قد بلغت آخر شدتها في الحرارة و الالتهاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 726

102 سورة التكاثر مكيّة/ آياتها (9)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «التكاثر»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف، و هي تعالج قضايا العقيدة، و حيث اختتمت سورة «القارعة» بذكر النار، افتتحت هذه السورة بغفلة الناس عنها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له كل شي ء و لا أحق بالابتداء منه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحمة تفضلا و امتنانا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 727

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

[2] أَلْهاكُمُ أي أشغلكم عن طاعة اللّه و عبادته، أيها الناس التَّكاثُرُ بالأموال و الأولاد و الأمور المرتبطة بالدنيا، و التفاخر بكثرتها يقال تكاثر إذا تباهي بالكثرة.

[3] حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي ذهبتم إلى القبور لزيارتها، فإن هناك ينتبه الإنسان إلى فناء الدنيا، و عدم الفائدة في التباهي و التفاخر بكثرة الأمور المرتبطة بها، أو المعنى حتى أدركتم الموت، و كني عن ذلك بزيارة المقابر دلالة على عدم بقاء الإنسان فيها أيضا، فإنه ينتقل منها إلى الدار الآخرة.

[4] كَلَّا ليس الأمر كما أنتم عليه من التكاثر سَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة الاشتغال بالدنيا، و الغفلة عن الآخرة، و هذا تهديد لهم.

[5] ثُمَ لترتب الكلام كَلَّا ليس الأمر على ما أنتم عليه سَوْفَ تَعْلَمُونَ كرّر للتكريز و الإيحاء بالارتداع عن التكاثر لو خامة عاقبته.

[6]

كَلَّا ليس الأمر كما زعمتم لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينيا، بحيث تتيقنون بالآخرة- لا علما استدلاليا فقط- أي لو تعلمون لعلمتم أن التباهي و التكاثر لا ينبغي، و إنما الاشتغال بالآخرة هو الأمر اللازم.

[7] لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ رؤية بالقلوب، حتى كأنكم تشاهدونها، فتخافون من الاشتغال عن أمرها، بما لا فائدة فيه من التباهي و التفاخر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 728

[سورة التكاثر (102): الآيات 7 الى 8]

ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

[8] ثُمَ بعد كثرة التفكير في الجحيم و رؤيتها بالقلب لَتَرَوُنَّها أي الجحيم عَيْنَ الْيَقِينِ أي اليقين الذي هو كالمعاينة، كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون»

فأولى المراتب العلم الاستدلالي، ثم ذوق القلب باليقين الصادق ثم استيلاء اليقين على القلب حتى كأن الإنسان يشاهد الشي ء المعلوم.

[9] ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ أيها الناس يَوْمَئِذٍ يوم زاد يقينكم حتى صار عين اليقين عَنِ النَّعِيمِ فإن الإنسان إذا زاد يقينه أخذ يبحث في أموره حتى لا يكون فيها حرام أو مشتبه، فيسأل من أين جاء بهذا المال و الولد؟

و من أين له هذا الجاه و المقام؟ أمن حل أو من حرام؟ و ما أشبه ذلك، فهو كالمسؤول الذي تسأله نفسه عن تلك الأمور، و يحتمل أن يراد كون السؤال هناك في الآخرة، و كذلك رؤية الجحيم- كما في بعض الأحاديث.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 729

103 سورة العصر مكية/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظ «العصر»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان قضية العقيدة، و حيث ختمت سورة «التكاثر» بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتحت هذه السورة

بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم اللّه الذي له كل شي ء و يقدر على جميع أنواع الإعانة، الرحمن الرحيم الذي يرحم كل شي ء بخلقه و تكميله، و يرحم الإنسان بغفران ذنبه و جبر كسره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 730

[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

[2] وَ الْعَصْرِ قسما بالعصر، أي عصر النبوة، أو عصر الدهر، أو عصر الحجة عليه السّلام، أو العصر مقابل الصبح، كما حلف سبحانه ب «الضحى» و ما أشبه- و قد سبق الوجه في هذه الأقسام-.

[3] إِنَّ الْإِنْسانَ بطبيعته لَفِي خُسْرٍ أي خسارة مستمرة، إذ يتدرج نحو الفناء، كما تتدرج أخلاقه في الانحطاط، فإن الإنسان كلما دخل في الدنيا أكثر، زاد تكالبه و رذائله، بالإضافة إلى أن كل ساعة تذهب و لم يعمل الإنسان فيها صالحا كان خاسرا، إذ ذهب من رأس ماله- الذي تمكن به من تحصيل أرقى الدرجات- هباء هدرا، و لو لم يحصل على المعصية في تلك الساعة فرضا.

[4] إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي لا يشوبها السيئات وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ بأن أوصى بعضهم بعضا، بأن يلازم الحق و يعمل به وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ بأن يصبروا على مكاره الدنيا، و ذلك بالصبر على الطاعة، و الصبر على المعصية، و الصبر في الرزية. و خصص السياق هذين الأمرين، بعد دخولهما في مطلق الأعمال الصالحة، لشدة الاحتياج إليهما، في تلازم العمل الصالح فإنهما عمادان له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 731

104 سورة الهمزة مكيّة/ آياتها (10)

سميت السورة بهذا الاسم

لاشتمالها على لفظة «الهمزة»، و هي كسائر السور المكية بصدد بيان قضايا العقيدة و ما إليها، و حيث ذكر في السورة السابقة كون الإنسان في الخسر، أتت هذه السورة لتبين بعض أسبابها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو الأول قبل كل شي ء، الرحمن الرحيم، ذو الرحمة المكررة المؤكدة التي وسعت كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 732

[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)

[2] وَيْلٌ هي كلمة تقال لبيان سوء حال المقولة فيه لِكُلِّ هُمَزَةٍ هو الكثير الطعن على الناس بغير حق العائب لهم، و أصل الهمز الكسر، فكأن العائب يكسر الشخص و يهدم شوكته لُمَزَةٍ هو المغتاب للناس، و هما وصفان بمعنى «همّاز» و «لمّاز».

[3] الَّذِي جَمَعَ مالًا من هنا و هناك وَ عَدَّدَهُ أي أحصاه، ليرى كم زاد، و هذه صورة للإنسان الشره المنحط النفس الذي يدأب في جمع المال، و يعيب الناس كلهم بلا استثناء.

[4] يَحْسَبُ أي يظن أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يقيه في الدنيا و يمنعه من الحوادث، فإن كل حادث ينوبه يدفع بالمال رشوة، أو إنفاقا لدفع جريمة عملها، أو مرض جاء إليه، أو ما أشبه. و المراد أن فعله فعل من يحسب ذلك و إن كان كل إنسان يعلم بالموت، و يدري أنه لا مفر له منه.

[5] كَلَّا ليس الأمر على ما توهم، من أنه ذو مال مرح إلى الأبد، و أنه خالد بماله لَيُنْبَذَنَ أي يطرحن هذا الهمزة اللمزة طرحا بدون مبالاة و اعتناء فِي الْحُطَمَةِ

اسم من أسامي جهنم، سميت بها لأنها تحطم كل شي ء و تكسره فتحطم النار كيانه و كبرياءه.

[6] وَ ما أَدْراكَ أيها الإنسان، أو أيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَا الْحُطَمَةُ؟ و هذه لتفخيم شأنها و أنها لا تدرك إلا إذا شاهدها الإنسان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 733

[سورة الهمزة (104): الآيات 6 الى 9]

نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

[7] ثم جاء البيان لها بقوله: هي نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ و كم يقدر الإنسان عظمة النار التي يوقدها و يؤججها اللّه سبحانه الذي هو أقدر القادرين للنكال و العقاب.

[8] الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ جمع فؤاد، أي تشرف على القلوب لتحرق مكان انبعاث السخرية و حب المال و تعداده بلا إنفاقه في سبيل اللّه و في وجوه الخير.

[9] إِنَّها أي الحطمة عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المجرمين مُؤْصَدَةٌ فتغلق أبوابها عليهم لييئسوا من الخروج، من أوصد الباب: بمعنى أغلقه.

[10] فِي عَمَدٍ جمع عمود مُمَدَّدَةٍ أي موثقين في أعمدة ممدودة، فقد اعتاد الملوك السابقون أن يربطوا رجل المجرم بعمود ممدود مبني في الأرض أو في الحائط لئلا يفر، و هذا لزيادة النكال و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 734

105 سورة الفيل مكيّة/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفيل»، و هي كسائر السور المكية لمعالجة قضية العقيدة، و حيث تقدمت في السورة السابقة نكال اللّه بالكافرين في الآخرة، ذكر في هذه السورة نكاله بهم في الدنيا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة لكل أحد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 735

[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ

اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

[2] أَ لَمْ تَرَ أي ألم تسمع يا رسول اللّه، أو أيها السامع كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ من العذاب و النكال بِأَصْحابِ الْفِيلِ الذين جاؤوا به لهدم الكعبة؟

[3] أَ لَمْ يَجْعَلْ اللّه كَيْدَهُمْ الذي كادوا لهدم البيت و احتالوا لإطفاء نور اللّه فِي تَضْلِيلٍ أي في تضييع و إبطال، فكأن كيدهم عوض أن يهدي إلى مقصدهم أضلهم و أورث هلاكهم و دمارهم.

[4] وَ أَرْسَلَ اللّه عَلَيْهِمْ طَيْراً يسمى أَبابِيلَ و هو الخطاف أو بمعنى جماعات، فإن أبابيل في اللغة بمعنى جماعات في تفرقة أي جماعة جماعة.

[5] تَرْمِيهِمْ تلك الأسراب من الطير- فإن المراد بالطير الجنس بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ أي تقذفهم بأحجار صغار صلبة هي من طين متحجر، و هو معرّب «سنك كل»، و ذلك أشد و أصلب و أوجع إذا أصاب الإنسان.

[6] فَجَعَلَهُمْ أي جعل اللّه أولئك الأصحاب كَعَصْفٍ أي زرع مَأْكُولٍ قد أكل ثمره فبقي خاليا خاويا، فقد كان الحجر إذا أصاب أحدهم، جعله خاليا، كأنه تبن بلا حب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 736

و كان الأصل في ذلك أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر، و في حقف من أحقافها بيعة من بيع النصارى تسميها قريش «الهيكل»، فنزل القوم فجمعوا حطبا ثم أججوا نارا و شووا لحما، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فذهبت الرياح بالنار فاضطرم الهيكل نارا، فغضب النجاشي لذلك فبعث أبرهة لهدم الكعبة، فجاء أبرهة بالفيل مع الجيش،

فلما أدنوه من باب المسجد قال له عبد المطلب: أ تدري يا فيل أين يؤم بك؟ قال برأسه: لا. قال: أتوا بك لتهدم كعبة اللّه أ تفعل ذلك؟ فقال برأسه: لا، فجهدت به الجند ليدخل المسجد فامتنع، فحملوا عليه بالسيوف و قطعوه فأرسل اللّه إليهم طيرا أبابيل بعضها إثر بعض، ترميهم، فكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، و حجران في مخالبه، و كانت ترفرف على رؤوسهم و ترمي الحجر بدماغهم، فيدخل الحجر في أدمغتهم و يخرج من أدبارهم فتنتقض أبدانهم «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 632.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 737

106 سورة قريش مكيّة/ آياتها (5)

سميت ب «لإيلاف» أيضا، لاشتمالها على اللفظتين، و هي كسائر السور المكية بصدد معالجة قضية العقيدة، و لما ذكر سبحانه دفعه الأعداء عنهم، ألحق بذلك لطفه عليهم بإطعامهم و تهيئة أسباب العيش لهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الأول قبل كل شي ء، ليكون شعارا للمسلم المعترف بذلك، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة المتكررة في الدنيا و الآخرة على عباده.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 738

[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

[2] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ من «آلف» نقيض «أوحش» يعني من أجل أن جعل اللّه الحرم و طرقه آمنا حتى ألف قريش أن يذهب إلى الشام و إلى اليمن، في أمن و دعة، بلا استيحاش و خوف.

[3] إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ أي رواحهم في الشتاء إلى اليمين لأجل التجارة وَ الصَّيْفِ أي رواحهم في الصيف إلى الشام لأجل التجارة، و هذا توضيح لقوله «لإيلاف

قريش».

[4] فَلْيَعْبُدُوا هذا متعلق «لإيلاف» أي ليعبد قريش رَبَّ هذَا الْبَيْتِ إله الحرم لأجل ما صنع لهم من الألفة و الأمن، حتى ألفوا السفر في كل سنة بلا خوف و لا وحشة، فقوله «لإيلاف» متعلق بقوله «فليعبدوا».

[5] ثم بين بعض أوصافه سبحانه مما تخصهم بقوله: الرب الَّذِي أَطْعَمَهُمْ أي طعم مِنْ جُوعٍ بما سبب لهم من الأرزاق في رحلتي الشتاء و الصيف وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ بما هيأ لهم حرما آمنا، لا يلقون فيه إلا الأمن حيث يختطف الناس من حولهم، و معنى «من»: بعد، أي أطعمهم بعد الجوع، و آمنهم بعد الخوف، أو بمعنى «من حيث» أي من هاتين الناحيتين- و هذا أقرب بالنسبة إلى الموضوع- قال القمي: نزلت في قريش، لأنه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكة الأدم و اللب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 739

و غيره، فيشترون من الشام الثياب و الدرمك «و هو دقيق الحبوب» و الحبوب، و كانوا يتألفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كل خرجة رئيسا من رؤساء قريش، و كان معاشهم من ذلك، فلما بعث اللّه نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استغنوا عن ذلك، لأن الناس وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حجوا إلى البيت «1».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 444.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 740

107 سورة الماعون مكيّة أو مدنيّة/ آياتها (8)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «الماعون»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف، و على كل فهي بصدد بيان العقيدة و ما إليها،

و إذ تقدم في السورة السابقة نعمة اللّه على قريش، جاءت هذه السور لتردعهم عن الكفر و العصيان. بعد إسباغ تلك النعم الجليلة عليهم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم «اللّه» ليكون سبحانه عونا لنا في مهام الحياة، و في ما بعد الممات، ذي الرحمة الشاملة التي وسعت كل شي ء، فتعم الأشياء عامة، و المؤمنين خاصة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 741

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5)

[2] أَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أي بيوم القيامة. فإن «الدين» بمعنى الجزاء، أو المراد بدين الإسلام و هذا استفهام تعجبي. يعني كيف أنه يكذب مع كثرة الآيات الدالة على صحة الدين و وقوعه.

[3] فَذلِكَ الإنسان المكذب بالدين، هو الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ «الدع» هو الدفع بشدة، أي يدفع اليتيم فلا يحسن إليه، فإن التكذيب بالدين يلازم الأعمال البشعة القاسية.

[4] وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي لا يحث الناس على إطعام الفقراء الذين أسكنهم الفقر عن الحركة و العمل، و «الحض» و إن لم يكن واجبا- في غير مورد الأمر بالمعروف و ما أشبه- إلا أن ذلك دليل القساوة و نضوب معين الفضيلة من القلب، مما لا يكون إلا من ملازمات الكفر، و قد ورد إن بعض كفار قريش كان كذلك إذا جاءه يتيم يطلب رفده طرده بقساوة، و هكذا كان بالنسبة إلى المساكين.

[5] و إذا كان «دعّ اليتيم» و «عدم الحض على طعام المساكين» موجبا للذم و التوبيخ، فمن يعمل باسم الإسلام

و هو بعيد عنه كان أولى بالذم و التوبيخ، إذ المنافق أسوأ حالا من الكافر فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ

[6] الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون غير مبالين بها إذ عدم المبالاة يلازم السهو.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 742

[سورة الماعون (107): الآيات 6 الى 7]

الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

[7] الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ فإذا صلوها صلوا للرياء لا للّه سبحانه. و قال بعض: إن المعنى أنهم إن لم يكن أحد لم يصلوا، و إن كان أحد صلوها ليراؤوه.

[8] وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ و هو كل ما فيه منفعة للناس، أي يمنعون خيرهم و رفدهم- و ذلك مما يلازم عدم الإيمان الراسخ في القلب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 743

108 سورة الكوثر مكية أو مدنية/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الكوثر»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف و هي موجهة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لعل المناسبة بين السورتين التحدث عن «الماعون» و «الكوثر»، فهم يمنعون الماعون و اللّه سبحانه يعطي الخير الكثير، أو المناسبة أنهم يسهون عن الصلاة، و يمنعون الخير، و الرسول مأمور بالصلاة و الخير.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه الذي ما ابتدأ به شي ء إلا بورك فيه، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة و الغفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 744

[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

[2] إِنَّا أَعْطَيْناكَ يا رسول اللّه الْكَوْثَرَ مشتق من الكثرة، بمعنى الخير الكثير. قالوا: إن السورة نزلت في العاص بن وائل السهمي، و ذلك أنه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم و تحدث مع الرسول، و صناديد قريش جالسون، فلما أن دخل قالوا له مع من كنت تتحدث؟ قال: مع الأبتر- يعني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-، و قد كانت قريش تسمي من لا ولد له «أبتر» من البتر بمعنى القطع، كأنه مقطوع ليس له ولد حتى يبقى ذكره، و قد كان مات «عبد اللّه» ابن رسول اللّه من خديجة عليها السّلام، فنزلت هذه السورة «1»، و لذا كان من جملة الأقوال في معنى كوثر أن المراد بها «فاطمة» عليها السّلام التي سببت كثرة النسل للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حيث إن «الكوثر» بمعنى الخير الكثير، و هو عام، كان شاملا للنبوة و العلم، و النسل، و حوض الكوثر في الآخرة، و غيرها من سائر المعاني التي يشملها لفظ «الكوثر» بعمومه.

[3] فَصَلِ يا رسول اللّه لِرَبِّكَ شكرا على هذه النعمة العظمى.

وَ انْحَرْ الإبل لإطعام الناس، فإن اللّه سبحانه يحب إطعام الطعام، أو المراد ارفع يديك إلى نحرك عند التكبير- كما ورد «2»- فإن في ذلك خضوعا للّه سبحانه، يلائم الشكر على نعمته بإعطائه الكوثر.

[4] إِنَّ شانِئَكَ أي مبغضك الذي ينسبك إلى «البتر» هُوَ الْأَبْتَرُ المقطوع عن الخير، الخامل الذكر، لا أنت كما نسب إليك- و هذه السورة على صغرها إحدى معاجز الرسول، و أدلة معجزية القرآن الحكيم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 203.

(2) راجع من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 303.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 745

109 سورة الكافرون مكيّة أو مدنيّة/ آياتها (7)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الكافرون»، و حيث إن «الكافرون» علم لها لا يتغير في الإعراب، كما يقال «دعاء أبو

حمزة»، و في كون السورة مكية أو مدنية خلاف، و على كل فإنها تعالج قضايا العقيدة، و حيث ختمت سورة «الكوثر» بذكر شانئ الرسول، جاءت هذه السورة لتبين مباينة الرسول معهم في الطريقة، فلا أنه يتبعهم، و لا أنهم يتبعونه- كفرا و عنادا-.

و قد ورد إن جماعة من قريش قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد، و تعبد ما نعبد، فنشترك نحن و أنت في الأمر، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه، و إن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه فنزلت السورة

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 746

و في حديث عن الصادق عليه السّلام أنهم قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعبد إلهنا سنة و نعبد إلهك سنة، و تعبد إلهنا سنة، و نعبد إلهك سنة. فأجابهم اللّه بمثل ما قالوا- أي مكررا

«1»-.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع في السورة مصاحبا باسم اللّه ليكون شعارا للشارع، و عونا في مهمات الحياة، الرحمن الرحيم الذي يتلطف بالرحمة الخاصة على من يشاء من عباده، و رحمته العامة وسعت كل شي ء.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 253.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 747

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

[2] قُلْ يا رسول اللّه، مخاطبا للكافرين يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ النزول و إن كان خاصا لكن المراد

عام لكل كافر معاند لا يتزحزح عن كفره و طغيانه.

[3] لا أَعْبُدُ أنا ما تَعْبُدُونَ أنتم من الأصنام و الأوثان، و المعنى لا أعبد في الحال ما تعبدونه الآن.

[4] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ أي تعبدون ما أَعْبُدُ إذ عاندتم و كابرتم الحق، و هذا إخبار عن الواقع، و إن كانوا مأمورين بالعبادة حسب الشرع و العقل.

[5] وَ لا أَنا عابِدٌ في المستقبل ما عَبَدْتُّمْ من الأصنام.

[6] وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ في المستقبل ما أَعْبُدُ أنا، و حيث إن الجملة الاسمية تدل على الدوام و الثبوت فسرنا الآيتين ب «المستقبل»، بخلاف الجملة الأولى حيث كانت فعلا و ظاهر الفعل «الحال» و عطفنا عليه الجملة الثانية سياقا.

[7] لَكُمْ دِينُكُمْ فالزموه حتى ترون جزاءه السي ء وَ لِيَ دِينِ و هذا إجمال لما فصل أولا، و الأصل «ديني» حذف ياء المتكلم للتخفيف و دلالة الكسرة عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 748

110 سورة النصر مدنيّة/ آياتها (4)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «النصر»، و هي كسائر السور المدنية تبين الفتح المرتبط بالنظام و الدولة، و إذ كان ختم سورة «الكافرون» ذكر الدين، جاءت هذه السورة لظهور الدين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو الأول في الكون، فيبدأ باسمه في أول كل شي ء، الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحمة خاصة و عامة لعباده المؤمنين، الذين يبدءون باسمه و يؤمنون به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 749

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

[2]

لقد نزلت هذه السورة بعد حجة الوداع حين أخذت القبائل تدخل في

الدين أفواجا حيث رأوا سلطان الإسلام يعم الجزيرة، فلما نزلت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعيت إليّ نفسي

«1».

قالوا: و ذلك لأنها دلت على تمام مهمة الرسول إِذا جاءَ يا رسول اللّه نَصْرُ اللَّهِ لدينه على سائر الأديان، و للمسلمين على الكفار وَ الْفَتْحُ أي جاء فتح مكة، بأن فتحت عاصمة الوثنية و الشرك في الجزيرة، مما أخضع الجزيرة فتحها.

[3] وَ رَأَيْتَ يا رسول اللّه النَّاسَ القبائل و غيرهم يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الإسلام أَفْواجاً أي فوجا بعد فوج، و جماعة بعد جماعة.

[4] فَسَبِّحْ يا رسول اللّه بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن النقائص بذكر الحمد، فإن الحمد تنزيه و تحميد، لأن ذكر الجميل مدح مطابقي و تنزيه التزامي- كما سبق-، و التسبيح و التحميد إنما ذلك للشكر على النصر و الفتح وَ اسْتَغْفِرْهُ هضما للنفس، حتى لا تتعالى و تظن أن النصر إنما هو بالأتعاب، و الرسول و إن كان منزها عن ذلك، و إنما هو تعليم، بالإضافة إلى ما تقدم: من أن الأعمال الضرورية المباحة لدى الكاملين العارفين باللّه مما يعدونها ابتعادا عن ساحة قربه سبحانه، فتوجب الاستغفار إِنَّهُ سبحانه كانَ تَوَّاباً أي كثير الرجوع من «تاب» إذا رجع، بمعنى أن العبد مهما أذنب ثم تاب تاب اللّه عليه.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 750

111 سورة المسد مكية/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «مسد»، كما أنها تسمى بسورة «أبي لهب» و هي كسائر السور المكية ترتبط بقضية العقيدة، و إذ تقدم في سورة النصر نصر اللّه للرسول جاءت هذه السورة لبيان ما كفاه سبحانه من أمر أعدائه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله

المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 751

[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

[2] لقد كان أبو لهب عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جملة من يرمي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحجارة و يؤذيه، و كانت زوجته أم جميل تحمل الشوك في الليل فتنشره في طريق الرسول، حتى إذا أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخروج من منزله نغزت الأشواك رجله الكريمة، فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ أي خسرت يداه، و هذا من جهة أن ما ارتكبه من الإثم كان بيديه، كما

قال الرسول لعروة «بارك اللّه في صفقة يمينك»

حين كان البيع بيده، و تَبَ الثاني تأكيد للأول، أي خسرت يداه و خسرت.

[3] ما أَغْنى عَنْهُ أي عن أبي لهب مالُهُ أي ما نفعه في دفع العذاب عنه وَ ما كَسَبَ أي ما عمل من الكفر و الآثام و إيذاء الرسول، و «ما» موصولة عائدها محذوف، أي ما كسبها.

[4] سَيَصْلى في الآخرة، أي يدخل النار ملازما لها ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي اشتعال و توقد، كما كان هو «أبا لهب»، باعتبار أن وجنتيه محمرتان كأنهما ملتهبتان من شدة البريق.

[5] وَ امْرَأَتُهُ أي تبت و خسرت امرأته، أعني حَمَّالَةَ الْحَطَبِ و سميت بهذا الاسم لأنها كانت تحمل الشوك كما تقدم، و نصب «حمالة» على الذم، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع إن يكن معينا بدونها

أو بعضها اقطع معلنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 752

[سورة المسد (111): آية 5]

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

و ارفع أو انصب إن قطعت مضمرا مبتدءا أو ناصبا لن يظهرا [6] فِي جِيدِها أي جيد امرأته أم جميل، و كانت أخت «أبي سفيان» المعروف حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ هو «الليف»، فقد كانت تعلق الحبل المشدود على الأشواك بعنقها، و يحتمل أن يكون «و امرأته» مبتدأ و «في جيدها» خبره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 753

112 سورة الإخلاص مكية أو مدنية/ آياتها (5)

و تسمى بسورة «التوحيد»، سميت ب «الإخلاص» لأن فيها إخلاص المبدأ من الشريك، و سميت ب «التوحيد» لاشتمالها على توحيد اللّه سبحانه، في قوله «اللّه أحد»، و في كونها مكية أو مدنية خلاف، و على أي حال فإنها ترتبط بقضايا العقيدة، و حيث كانت السورة السابقة مرتبطة بالرسول، جاءت هذه السورة مرتبطة بالمرسل.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي له ما في السماوات و الأرض، و هو الواحد المنفرد في الكون بالألوهية، الرحمن الرحيم الذي يتفضل على العباد بالرحم و اللطف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 754

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

[2]

ورد إن اليهود جاؤوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوا منه ما نسبة ربك؟

فأنزل اللّه سبحانه هذه السورة

«1» قُلْ يا رسول اللّه هُوَ ربي الذي أدعو إليه اللَّهُ أَحَدٌ لا شريك له و لا جزء.

[3] اللَّهُ الصَّمَدُ «الصمد» لغة: بمعنى السيد المقصود الذي لا يقضي أمر إلا بإذنه، يعني أنه السيد المطلق الذي بيده كل شي ء، فلا يقع

أمر في الكون إلا بإذنه و أمره.

[4] لَمْ يَلِدْ أحدا، فليست الملائكة بناته- كما زعم الكفار- و لا المسيح و عزير و اليهود و النصارى أبناؤه- كما زعم أهل الكتاب- وَ لَمْ يُولَدْ من أحد، فلا أب له و لا أم.

[5] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً خبر كان، أي مثلا و نظيرا أَحَدٌ اسم كان، أي ليس أحد كفوه بمعنى نظيره و مثله، فهو المتفرد الذي لا شبيه له و لا نظير.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 10 ص 485.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 755

113 سورة الفلق مدنيّة/ آياتها (6)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الفلق»، و السورة مدنية، و إن كانت بصدد بعض الأمور المرتبطة بالإنسان حين يصدم بمكروه، و حيث كانت سورة الإخلاص إقرارا بالإله الواحد، كانت هذه السورة استعاذة به.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة و اللطف على جميع الخلق ابتداء و تربية، و تكميلا للنواقص و النقائض.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 756

[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

[2] قُلْ يا رسول اللّه أَعُوذُ أي أعتصم و أستجير من المكاره بِرَبِّ الْفَلَقِ «الفلق» هو الصبح، و أصله الشق، لأن الظلمة تنشق عنه.

[3] مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي شر كل ما خلقه اللّه سبحانه من المؤذيات، إنسانا كان أو جنا أو حيوانا أو جمادا كالسيل و العواصف.

[4] وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ أي الليل، من «الغسق» بمعنى الظلمة إِذا وَقَبَ أي إذا دخل،

فإن كثيرا من الشرور يتوجه إلى الإنسان في الليل و في ظلامه، حيث العيون نائمة، و الظلام مخيم.

[5] وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ جمع «نفاثة» و هي المرأة الساحرة التي تنفث- أي تنفخ- في الشي ء الذي عقد السحر به، و «عقد» جمع عقدة، فإن الساحرة تعقد الخيط بقصد عقد حظ أحد، أو عقده عن زوجته، ثم تنفث في تلك العقدة بسحرها و أورادها، و السحر له أثر، كما ثبت في علم النفس، و دلت على ذلك التجربة.

[6] وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ فإن الإنسان إذا حسد غيره أورثه حسده على أن يؤذيه بلسانه و يده، و لعل معنى إذا حسد: إذا ظهر حسده، و عمل بمقتضاه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 757

114 سورة الناس مدنيّة/ آياتها (7)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «الناس»، و هي مدنية، و تعالج بعض الأمور المرتبطة بالإنسان، و هي نظير السورة السابقة في الاستعاذة باللّه، من بعض أقسام الشرور.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم «اللّه» الذي هو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، و هل هناك أحق بالابتداء منه، الرحمن الرحيم، الذي يتفضل على العباد بالرحم و الفضل، فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 758

[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)

[2] قُلْ يا رسول اللّه أَعُوذُ أي أستجير و أعتصم من الشرور بِرَبِّ النَّاسِ خالقهم و مربيهم.

[3] مَلِكِ النَّاسِ فهو المالك المطلق لهم، لا ملك غيره و سائر الملوك إنما هم صوريون، لا حقيقة لملوكيتهم إلا الاعتبار.

[4] إِلهِ النَّاسِ الذي هو إلههم،

فليست الأصنام آلهة كما يزعم الكفار، فهو «رب» و «ملك» و «إله» فتربية الناس منه، و سيدهم المالك لهم هو، و معبودهم الذي لا معبود سواه هو سبحانه.

[5] مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي أعوذ باللّه من شر الشي ء الذي يوسوس للإنسان، ليلقيه في الكفر و العصيان، و أصله من «الوسوسة» و هي الصوت الخفي، فإن من يريد الإغواء من إنس أو شيطان يخفي الصوت في أذن الشخص أو صدره، حتى يضله و يلقيه في المعصية الْخَنَّاسِ من «خنس» بمعنى اختفى، و ذلك لأن من يريد الإضلال كثير الاختفاء، أما الشيطان فواضح، و أما الإنسان فإنه إذا أراد الإضلال يخفي نفسه لئلا يراه أحد فيحبط وسوسته، و تظهر مكيدته للناس فيزدرونه و يطردونه.

[6] الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ أما وسوسة الشيطان في الصدر فواضح، و كونه في الصدر لأن الوسوسة في القلب و القلب في الصدر، و أما وسوسة الإنسان فيه فلأنه يلقي الكلام إلى القلب- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 759

[سورة الناس (114): آية 6]

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

الأذن- و القلب في الصدر.

[7] مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ بيان للوسواس، أي الوسواس الذي هو من جنس الجن- أي الشياطين فإنهم قسم من الأجنة- أو من جنس الإنس.

وقانا اللّه جميعا من شر كل شر بمحمد و آله الطاهرين سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» و صلى اللّه على محمد و آله الطيبين الميامين.

تم على يد مؤلفه محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي سنة 1384 هجرية بكربلاء المقدسة

______________________________

(1) الصافات: 181- 183.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 761

المصادر و المراجع

1- الاحتجاج، أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، نشر المرتضى- مشهد،

1403 ه. ق.

2- الاقتصاد. الشهيد السيد حسن الحسيني الشيرازي، مؤسسة الوفاء، لبنان، 1980 م.

3- الإسلام يتحدى.

4- الأمالي، الشيخ الطوسي، دار الثقافة للنشر- قم، 1414 ه. ق.

5- الأمالي، الشيخ الصدوق، المكتبة الإسلامية، 1404 ه. ق.

6- أنيس الأعلام، الشيخ محمد صادق فخر الإسلام.

7- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت لبنان، 1404 ه. ق.

8- بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

9- تأويل الآيات الظاهرة، السيد شرف الدين الحسيني، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1409 ه. ق.

10- التحصين، السيد علي بن طاوس الحلي، مؤسسة دار الكتاب- قم، 1413 ه. ق.

11- تفسير الإمام العسكري، المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام، مدرسة الإمام المهدي- قم، 1409 ه. ق.

12- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، المطبعة العلمية- طهران،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 762

1380 ه. ق.

13- تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، مؤسسة الطبع و النشر، 1410 ه. ق.

14- تفسير القمي، علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، دار الكتاب- قم، 1404 ه. ق.

15- التهذيب، الشيخ الطوسي، دار الكتب الإسلامية- طهران، 1365 ه. ش.

16- تنزيه الأنبياء، السيد المرتضى علم الهدى، دار الشريف الرضي- قم 17- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، دار الرضي للنشر- قم، 1406 ه. ق.

18- جواهر الكلام، محمد حسن النجفي.

19- حرية الفكر، سلامة موسى 20- الخصال، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1403 ه. ق.

21- دائرة المعارف، وجدي.

22- دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري، دار الذخائر للمطبوعات- قم 23- ديوان الإمام علي، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، دار نداء الإسلام للنشر- قم، 1411 ه. ق.

24- رسول اللّه في المدينة (سلسلة قادة الإسلام)، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مطبعة الآداب، النجف

الأشرف.

25- روضة الواعظين، محمد بن الحسن الفتال، دار الرضي- قم 26- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

27- شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني، مؤسسة الطبع و النشر، 1411 ه. ق.

28- الطرائف، السيد علي بن طاوس الحلي، مطبعة الخيام- قم، 1400 ه. ق.

29- عبادات الإسلام، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الفكر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 763

الإسلامي، لبنان بيروت، 1993 م.

30- العدالة الإسلامية، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، مطبعة الغري، النجف الأشرف، 1380 ه. ق.

31- عدة الداعي، أحمد بن فهد الحلي، دار الكتاب الإسلامي، 1407 ه. ق.

32- على حافة العالم، الاثيري 33- عوالي اللآلئ، ابن أبي جمهور الأحسائي، دار سيد الشهداء قم، 1405 ه. ق.

34- عين العبرة، أحمد بن موسى بن طاووس الحلي، دار الشهاب- قم 35- الفلسفة و الكلام 36- الفقه حول القرآن الكريم، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، لبنان، 1987 م 37- فقه القرآن، قطب الدين الراوندي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1405 ه. ق.

38- الفقه (الموسوعة الاستدلالية)، الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم، لبنان، 1987 م.

39- قصص الأنبياء، قطب الدين الراوندي، مؤسسة البحوث الإسلامية- مشهد، 1409 ه. ق.

40- قصص الأنبياء، السيد نعمة اللّه الجزائري، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1404 ه. ق.

41- الكافي، ثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية- طهران، 1365 ه. ش.

42- كامل الزيارات، ابن قولويه القمي، دار المرتضوية- النجف الأشرف، 1356 ه. ق.

43- كنز العمال، للمتقي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 5، ص: 764

44- اللهوف، السيد علي بن طاووس الحلي، دار العالم (جهان)- طهران، 1348 ه. ش.

45- متشابه القرآن، ابن شهر آشوب المازندراني، دار بيدار للنشر، 1369 ه. ق.

46- مجمع البيان في

تفسير القرآن، الطبرسي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، لبنان، 2000 م.

47- مستدرك الوسائل، المحدث النوري، مؤسسة آل البيت- قم، 1408 ه. ق.

48- المس الروحي، عبد الرزق نوفل 49- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1403 ه. ق.

50- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، دار العلوم، لبنان، 2003 م 51- مفتاح الفلاح، الشيخ البهائي، دار الأضواء- بيروت، 1405 ه. ق.

52- مناقب آل أبي طالب، محمد بن شهر آشوب المازندراني، مؤسسة العلامة للنشر، قم، 1379 ه، ش.

53- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1413 ه. ق.

54- نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، دار الهجرة للنشر- قم.

55- الهيئة و الإسلام، للعلامة الشهرستاني.

56- وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت- قم، 1409 ه. ق.

57- الوسيلة، ابن حمزة الطوسي، مكتبة آية اللّه المرعشي- قم، 1408 ه. ق.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.