تقریب القرآن الی الاذهان المجلد 4

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

[تتمة سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 7

[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 22]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)

[22] وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا و هم الكفار المنكرون للبعث، الذين ليس لهم حتى الأمل و الرجاء في لقاء جزاء الله و حسابه لَوْ لا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ليخبرونا بأن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك، و يأمرنا بإطاعة الرسول و اتّباعه، فرد عليهم الله سبحانه بقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أي تكبروا، و كان الإتيان من باب الاستفعال لإفادة أنهم إنما طلبوا الكبر، مع أن نفوسهم كانت مذعنة، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1» فِي أَنْفُسِهِمْ أي في أمر أنفسهم حيث دفعوها إلى مستوى أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون اللّه وَ عَتَوْا أي طغوا عُتُوًّا كَبِيراً أي طغيانا عظيما و تمردوا غاية التمرد.

[23] إنهم لا بد و أن يروا الملائكة لكن في وقت لا فائدة في إيمانهم حينذاك يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ

عند قبض أرواحهم لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ إنما يبشرون بالجنة و الثواب في هذه الدنيا، قبل أن ينكشف لهم العالم الآخر، أما يوم الانكشاف عند قبض الروح، لا بشارة لهم، و إنما عذاب و نكال، و ذلك كناية عن رفع التكليف وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار في ذلك اليوم حِجْراً مَحْجُوراً كانت

______________________________

(1) النمل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 8

[سورة الفرقان (25): الآيات 23 الى 25]

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)

العرب إذا رأى أحدهم من يريد قتله يقول حجرا محجورا دماءنا، أي حراما محرما، و هم حين يرون الملائكة يظنون إن هذا القول ينفع، و لقد كانت هذه الكلمة كالاستعاذة عندنا حين نرى مكروها، فنقول «نعوذ بالله».

[24] وَ قَدِمْنا أي قصدنا و تعمدنا، من باب استعمال المسبب في السبب، فإن القاصد إلى عمل يتقدم إليه إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ كانوا يظنون إنه عمل خيري فَجَعَلْناهُ أي ذلك العمل الخيري للكفار هَباءً و هو الغبار الذي يرى إذا أشرقت الشمس من الكوّة، و مفرده هباءه مَنْثُوراً أي منتشرا، فكما أن الهباء لا ينتفع به و لا يمكن التحصيل عليه كذلك أعمال هؤلاء الكفار التي ظنوها حسنات لم ينتفعوا بها، إذ شرط القبول الإيمان، الذي فقدوه.

[25] أَصْحابُ الْجَنَّةِ و هم المؤمنون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي أفضل منزلا في الجنة، من أصحاب النار وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا أي موضع قائلة، و هي من القيلولة، و هو النوم قبل الظهر و الاستراحة فيه في وقت الحر، و قد كان هذا من

فعل كبرائهم، و استحب في الشريعة لما فيه من التنشيط للعمل بعده، و قوله «خير» و «أحسن» يراد بهما الفضل لا الأفضلية، إذ لا خير في مكان أهل النار.

[26] وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ يأتي متعلقه في قوله «الملك يومئذ» و المراد بتشقق السماء انقلاب أوضاعها، ففي يوم القيامة تنقلب أحوال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 9

[سورة الفرقان (25): الآيات 26 الى 27]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27)

الأرض و السماء، و لعلّ معنى التشقق أن الإنسان يرى كأنّ شقّا كبيرا أحدث في السماء، بأن ظهر لون غير اللون المرئي الآن، و لعل المراد بالغمام السحب التي تتراكم من الدخان و الأبخرة الحادثة من جراء الانقلابات الكونية، أو يأتي غمام يحمل الملائكة، و هو الذي يشقق السماء، و يكوّن لونا غير لون السماء، حتى يرى الإنسان فيها شقا وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا كما قال سبحانه «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ» و هذا حال يوجب الدهشة و الاضطراب لأهل الأرض، فقد عرفوا أن القيامة قد قامت، و أن الملائكة عمال الله سبحانه و تعالى للحساب و التنظيم و السيطرة على الموقف نزلوا.

[27] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي يوم تشقق السماء الْحَقُ أي الملك الذي هو الملك حقا، لا كملك ملوك الدنيا الذي يكون زائلا لِلرَّحْمنِ و إنما خص الملك به في ذلك اليوم، لأن في الدنيا يرى بعض أقسام الملك للناس، أما هناك فلا أحد يملك شيئا حتى ملكا ظاهريا وَ كانَ ذلك اليوم يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي صعبا لشدته و هوله و مشقته.

[28] وَ يَوْمَ عطف على «يوم تشقق»

يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أسفا و ندما لما سبق منه من الظلم، و العض هو الأخذ بالأسنان، و كأن النادم إنما يفعل ذلك لإرادة إيلام جسمه انتقاما لما صدر منه مما ألقاه في هذا النادم، و العض على اليدين في الندم الشديد يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي ليتني اتبعت محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتخذت معه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 10

[سورة الفرقان (25): الآيات 28 الى 29]

يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)

في سبيل الهداية حتى لا أبتلي بهذا اليوم العصيب.

[29] يا وَيْلَتى أي يا هلاكي احضر، أو يا قوم اطلبوا هلاكي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً أي الكافر الفلاني الذي أضلني خَلِيلًا أي صديقا حتى يقرأ في أذني و يضلني عن الرشاد، و المراد كل صديق يفسد الإنسان و يضله.

[30] لَقَدْ أَضَلَّنِي و أغواني و صرفني خليلي عَنِ الذِّكْرِ القرآن، أو الرسول بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و حال بيني و بين الإيمان وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي كثير الخذلان، يقال خذله إذا تركه في الشدة، و لم ينصره، و هذا أما من تتمة كلام الظالم، متحير لماذا تبع الشيطان حتى يخذله في القيامة، أو ابتداء من الله سبحانه للإلفات إلى وجوب عدم اتباع الشيطان، فإنه يخذل في أحرج الساعات.

قال ابن عباس نزل قوله «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ» في عقبة بن أبي معيط و أبيّ بن خلف، و كانا متخالين و ذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعى إليه أشراف قومه و كان يكثر مجالسة الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما و دعا الناس، فدعا رسول الله إلى طعامه فلما قرب الطعام قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسوله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله، فبلغ ذلك أبيّ بن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 11

[سورة الفرقان (25): آية 30]

وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)

خلف، فقال صبأت يا عقبة؟ قال: لا و الله ما صبأت و لكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي و لم يطعم فشهدت له فطعم. فقال أبي: ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبصق في وجهه، ففعل ذلك عقبة و ارتد و أخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا، و أما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد بيده في المبارزة

«1».

أقول: و بناء على هذا النزول يكون مصداق قوله «فلانا» «أبيّ» لأنه الذي كان خليلا مع عقبة، و

قد ورد في حديث آخر أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين بصق في وجهه احمرّ وجهه المبارك، و مسح البصاق بيده

، كما

ورد أن الرسول جاء شاكيا إلى أبي طالب، فأمر أبو طالب بعض خدمه أن يأخذ رحم دابة، و جاء بها حتى رأى عقبة

فأفرغها في رأسه، كما صنع بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[31] و قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك الموقف الهائل، شاكيا إلى قومه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي هجروا القرآن و ابتعدوا عنه، و المراد بالقوم، إما قريش أو مطلق الناس، لأن المراد بقوم الأنبياء، من أرسلوا إليهم و هذا يناسب قول الظالم «لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ» و الآية و إن كانت ظاهرة في الكفّار إلا أنها أعم،

قال الإمام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 69. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 12

[سورة الفرقان (25): الآيات 31 الى 32]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32)

الصادق عليه السّلام ليس رجل من قريش إلا و قد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنة أو تسوقه إلى نار، تجري فيمن بعده إن خيرا فخير، و إن شرا فشر

«1»، و على هذا فهجر القرآن- في هذا الزمان- ترك العمل بأحكامه و اتخاذ مناهج الكفار نظاما للحكم، دون دساتير القرآن.

[32] و يسلي الله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن ترك الأقوام للهدى إنما هو شي ء قديم، فقد كان للأنبياء أعداء يهجرونهم، و يعادونهم وَ كما لك أعداء يهجرون كتابك و ينصبون لك العداء كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا و معنى جعل الله سبحانه أنه لا يأخذهم حيث يعادون الأنبياء، و إنما يتركهم و شأنهم، ليبلغوا أجلهم، و ليرفع مقام النبي بالصبر على المكاره. يقال: جعل الملك اللص

في الطريق، إذا لم يضرب على يده و تركه يفعل ما يشاء مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي من الذين يأتون بالجرائم، و هي المعاصي وَ كَفى بِرَبِّكَ يا رسول الله هادِياً فإنه سبحانه يهدي الناس وَ نَصِيراً ينصر المؤمنين بالآخرة فلا يهمك أن يقف المجرم في طريق الدعوة و يكون له الغلب المؤقت.

[33] و بعد أن بين الله تعالى بعض كلمات الكفار حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن مثل «قالوا لو لا أنزل علينا الملائكة» ذكر بعض مناقشاتهم الأخر وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ أي على الرسول الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 89 ص 87، وردت عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 13

[سورة الفرقان (25): الآيات 33 الى 34]

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34)

لا منجما، فلو كان من عند الله كان قادرا على أن ينزله مرة واحدة كما أنزلت التوراة و الإنجيل من قبل جملة واحدة؟ و لعلهم كانوا يريدون بذلك تقوية افترائهم. أن الرسول إنما يتعلم القرآن من «عداس» و أضرابه، كما سبق منهم هذا الافتراء.

لكن جواب هذا أن القرآن إنما يأتي بالمناسبات، و التدرج خير لذلك من الإنزال جملة، و لذا يكون لكل آية شأن نزول، لا يجمل لو نزلت قبل ذلك، أو بعده بزمان كَذلِكَ أنزلناه متفرقا لِنُثَبِّتَ و نقوّي بِهِ أي بالقرآن فُؤادَكَ أي قلبك، فإن الوحي إذا جاء متدرجا في كل حادثة و كل أمر كان ذلك موجبا لتقوية قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أن

ينزل جملة واحدة، و هذا ضروري بالنسبة إلى البشر، و إن كان رسولا معصوما، أ رأيت أن المؤمن كامل الإيمان ليزداد قوة كلما مرّ عليه آي الكتاب وَ رَتَّلْناهُ أي رتلنا القرآن تَرْتِيلًا و هو التبيين من تثبيت و ترسّل.

[34] وَ لا يَأْتُونَكَ يا رسول الله، المشركون بِمَثَلٍ سيئ لك لإبطال أمرك، إذا أرادوا بذلك تشبيه الرسول بمن لا اتصال له بالوحي، حيث لا بد له أن يصنع الكلام تدريجا إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ في جواب ذلك المثل و دحضه وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً لعملك من تفسيرهم، فإنا نبيّن وجه عملك بما هو عليه، و ذلك أحسن من بيانهم الذين يريدون به إبطال أمرك.

[35] إن تفسير هؤلاء المقلوب، لأعمال الرسول، سيودي بهم إلى أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 14

[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 36]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36)

يحشروا مقلوبين على وجوههم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ و يساقون عَلى وُجُوهِهِمْ سحبا على الوجوه إِلى جَهَنَّمَ ليلاقوا جزاء أعمالهم الكافرة في الدنيا أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا من غيرهم وَ أَضَلُّ سَبِيلًا فإن سبيلهم يؤدي إلى الهلاك، بينما سبيل المؤمنين يؤدي إلى الجنان، و هذا في مقابل قولهم في المؤمنين «أنهم لضالون». و «شر» و «أضل» لا يراد بهما التفضيل حقيقة.

[36] ثم ذكر سبحانه قصص بعض الأنبياء عليهم السّلام الذين كذبهم الأقوام فكانت لهم العاقبة السيئة بسبب تكذيبهم، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنذار للمشركين وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً له يساعده في التبليغ

و الإرشاد.

[37] فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و هم فرعون و قومه، و المراد بتكذيبهم، إما بعد إتيانهما إليهم، و إما قبل ذلك حيث لم يقبل فرعون و قومه ما بقي من علوم الأنبياء عليهم السّلام و آثار المرسلين، و جاء موسى و أخوه إليهم و دعياهم إلى الله فلم يقبلوا فَدَمَّرْناهُمْ أي أهلكنا فرعون و قومه بالغرق تَدْمِيراً أي إهلاكا عظيما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 15

[سورة الفرقان (25): الآيات 37 الى 39]

وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)

[38] وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فإن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع رسل الله تعالى أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة و موعظة وَ أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر و المعاصي عَذاباً أَلِيماً سوى ما حل بهم في دار الدنيا، أو المراد العموم أي أن كل ظالم قد هيئ له عذاب مؤلم موجع.

[39] وَ أهلكنا عاداً قوم هود عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح وَ أَصْحابَ الرَّسِ ورد أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها «شاه درخت» و إنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوا بينهم في الأرض و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام فأهلكوا بريح عاصفة شديدة الحمرة تحيروا فيها و ذعروا منها و تضام بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار وَ

أهلكنا قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي بين هذه الأقوام الذين ذكروا من عاد و ثمود و قوم نوح و أصحاب الرس، و القرن هو الجيل، يقال لهم قرن لتقارن أعمارهم.

[40] وَ كُلًّا من تلك القرون و الأقوام التي أهلكناها بسبب كفرهم و فسادهم ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي ذكرنا لهم أنهم إن لم يؤمنوا عذبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 16

[سورة الفرقان (25): الآيات 40 الى 41]

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41)

كما عذب من سبقهم- و هذا كما نمثل لقوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- وَ كُلًّا من أولئك القرون و الأقوام تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا، يقال:

تبره بمعنى أهلكه.

[41] وَ لَقَدْ أَتَوْا أي مضوا و رأوا، و المراد كفار مكة عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني قرية لوط التي أمطرت عليها الحجارة، فإن قريته بين مكة و الشام، و قد كان أهل مكة يمرون عليها عند ذهابهم إلى الشام و لدى إيابهم أَ فَلَمْ يَكُونُوا هؤلاء الكفار يَرَوْنَها أي يرون تلك القرية؟ فلما ذا لا يخافون أن يصيبهم بتكذيبهم مثل ما أصاب تلك القرية؟ بَلْ رأوها، و لكنهم كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي أنهم إنما لم يعتبروا بها لأنهم لا يقرون بالبعث و الحساب، و من أنكر الآخرة و أنكر المبدأ، حمل كل شي ء على غير وجهه و لعلهم كانوا ينسبون قصة قوم لوط إلى الصدفة، كما نشاهد أمثالهم في أيامنا هذه.

[42] وَ إِذا رَأَوْكَ الكفار، يا رسول الله إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي لا يحسبونك

إِلَّا هُزُواً أي مهزوا به، كأنه أداة للسخرية و الاستهزاء، فيقولون على وجه السخرية أَ هذَا الرسول هو الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ إياه رَسُولًا أي كيف يمكن أن يكون هذا رسولا، و لم يكن استهزاءهم إلا عنادا و حسدا و كبرا، و إلا لم يكن لهم دليل و منطق على عدم رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 17

[سورة الفرقان (25): الآيات 42 الى 44]

إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

[43] إِنْ كادَ «إن» مخففة من الثقيلة، يعني إنه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا فقد قارب أن يأخذنا إلى طريق إلهه، فنضل طريق عبادة آلهتنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها أي لو لم يكن صبرنا على عبادتها، فإنه أزالنا عنها، بما يأتي به من الأدلة و الحجج، إنهم سموا طريق الله سبحانه ضلالا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ في الآخرة حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يحل بهم جزاء على شركهم و كفرهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا هل هم الضالون، أم الرسول و المؤمنون؟ و المعنى أنهم هناك يعرفون ضلال سبيلهم في الدنيا، حيث لا منجى و لا مهرب.

[44] أَ رَأَيْتَ يا رسول الله، استفهام للتهكم بالمشركين مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ فهو يعبد ما تشتهيه نفسه، لا ما أرشده العقل و الدليل، و قد كان الرجل منهم يعبد حجرا ثم إذا رأى حجرا أحسن منه رماه و اتخذ الثاني إلها، و هكذا أَ فَأَنْتَ

يا رسول الله تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا كفيلا تحفظه عن الضلال، و المعنى أنك لست عليه بوكيل حتى تحزن و تغتم لأجل انحرافه و ضلاله و إنما أنت مبلغ مرشد و قد بلغت و أرشدت.

[45] أَمْ تَحْسَبُ يا رسول الله، أي تظن أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و تعلم أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقوله و تقرأه عليهم؟ و هذا و إن كان بصورة الاستفهام لكنه بمعنى النفي، أي أن أكثر هؤلاء لا يستمعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 18

[سورة الفرقان (25): آية 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)

إليك للتفهم و لا يعطون ألبابهم و عقولهم للتدبير و إنما هم معاندون يريدون الإنكار إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي البهائم التي لا تسمع سماع تفهم، و لا عقل لها، و إنما تسمع النداء و الصوت فقط بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار أَضَلُّ سَبِيلًا فإن الأنعام تهتدي إلى مصالحها أما هؤلاء فلا يعقلون صالحهم عن غير الصالح لهم و لذا يعرضون عن الحق.

[46] ثم يأتي السياق للتذكير بجملة من الآيات الكونية التي توقظ الضمائر، و تلفت العقول إلى الله سبحانه أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الروية إِلى رَبِّكَ أي أ لم تعلم أن هذا الذي نذكره هو من فعل الله سبحانه لا مدخلية للغير في ذلك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ فإن الشمس إذا طلعت امتد لكل شي ء ظل طويل نحو المغرب، فمن يا ترى جعل للأجسام ظلال عند إشراق النور و الظل يوحي بالهدوء و البرد و الراحة، إنه الله الذي جعل هذه الظلال وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ

ساكِناً لا يتحرك بأن يوقف الشمس في مكانها حتى يبقى الظل في مكانه، لكنه سبحانه حسب الحكمة العليا جعل الظل متحركا بحركة الشمس فمن يا ترى جعل الشمس متحركة حتى يتبعها في الحركة الظل؟ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي على الظل دَلِيلًا فإنها هي التي تحدده و تعيّنه و تدل على ماهيته، إذ لو لا الشمس و إشراقها، لم يعرف الظل، و الأشياء تعرف بأضدادها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 19

[سورة الفرقان (25): الآيات 46 الى 48]

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48)

[47] ثُمَّ قَبَضْناهُ أي قبضنا الظل، بمعنى أخذناه إِلَيْنا تشبيه بالذي يقبض الشي ء إلى نفسه قَبْضاً يَسِيراً في يسر و سهولة، فإن الشمس كلما ارتفعت انتقص الظل حتى يعدم و لا يبقى منه شي ء، و القبض تدريجي كمن يقبض الشي ء بيسر لا عنف فيه و لا اندفاع.

[48] وَ هُوَ الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر اللَّيْلَ لِباساً فإنه يشتمل على الإنسان حتى يستره مثل اللباس يشتمل على الإنسان، و في الليل يقضي الإنسان من الأمور التي يحب سترها ما لا يقضي في النهار وَ النَّوْمَ سُباتاً أي راحة لأبدانكم و قطعا لأعمالكم، و السبات قطع العمل، و منه سبت رأسه إذا حلقه و يوم السبت لأنه كان يوم قطع العمل وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً لانتشاء الروح في البدن فلا نوم، و لانتشاء الناس في حوائجهم.

[49] وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً مبشرات، فإن المصدر يستعمل للمفرد و التثنية و الجمع بلفظ واحد بَيْنَ

يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته التي هي المطر، فإن الرياح تثير السحاب، فإذا جاءت الرياح في فصل المطر استبشر الناس بأن وراءها الأمطار، فيفرحون للمنافع المترتبة على المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً أي المطر طَهُوراً طاهرا في ذاته مطهرا لغيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 20

[سورة الفرقان (25): الآيات 49 الى 51]

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51)

[50] لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قد ماتت بالجدب و عدم الماء، و إحيائها بالماء، حيث ينبت بالمطر الزرع، و يسمن الحيوان، و يكون وسيلة لنمو حياة الإنسان و ازدهارها، و ذكر البلدة إنما هو لأن فائدة المطر تعود إليها، و إن كانت الحياة تظهر مظاهرها- غالبا- في الصحاري وَ نُسْقِيَهُ أي نسقي بذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً أي الحيوانات التي خلقناها وَ أَناسِيَ جمع إنسان جعل الياء عوضا عن النون كَثِيراً أي كثير من أفراد الناس، و لعل تأخير الإنسان لأن احتياج الأنعام إلى ماء المطر أكثر، فإن الإنسان يستخرج الماء إن لم يجده على ظاهر الأرض، و هكذا بالنسبة إلى النبات و الحيوان، فإن احتياج النبات أكثر.

[51] وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ أي صرفنا المطر بَيْنَهُمْ بأن أدرناه في جهات الأرض لانتفاع الكل، فلا يمطر مكانا دون مكان لِيَذَّكَّرُوا نعم الله سبحانه، بما أودع فيهم من الفطرة، أصله «تذكر» أدغمت التاء في الذال- على القاعدة- ثم جي ء بهمزة الوصل لئلا يمتنع الابتداء بالساكن فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للّه سبحانه و لفضله و إحسانه، و

يحتمل أن يكون الضمير في صرفناه عائدا إلى القرآن.

[52] وَ لَوْ شِئْنا بأن كانت المصلحة تقتضي ذلك لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 21

[سورة الفرقان (25): الآيات 52 الى 53]

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53)

ينذرهم و لكن توحيد الناس تحت لواء واحد بما في ذلك من فوائد التعاون اقتضى أن يرسل رسولا واحدا، ثم ينتشر البلاغ منه إلى سائر الناس، و هذا بالنسبة إلى وقت إرسال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا ينافي قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» و هذه الآية أنسب إلى كون الضمير في «صرفناه» للقرآن لا للمطر.

[53] فَلا تُطِعِ يا رسول الله الْكافِرِينَ فيما يدعونك من المداهنة و الإجابة إلى بعض رغباتهم و ترك التبليغ مدة من الزمان وَ جاهِدْهُمْ و المراد الكفاح معهم بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً فإن صبر الأعزل على الأذى أكبر من قتال المسلح مع الكفار في ميدان الحرب.

[54] ثم يرجع السياق إلى عدّ الآيات الكونية وَ هُوَ الله الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر المياه المالحة، و بحر المياه الحلوة فإن مياه البحار مالحة، و المياه التي تنزل من السماء فتسكن في أجواف الأرض كالبحار حلوة حتى تخرج من النفق الموجودة في الجبال، و الله سبحانه حيث جعل بحيث يتلاقى هذين البحرين إذ مياه الأنهر تصبّ في البحار المالحة، في جميع أطراف الأرض، حتى كان بعضها مختلط ببعض و مع ذلك لا يطغى البحر المالح على البحر العذب، حتى يفسده و يسقطه عن

الانتفاع في الزرع و الشرب.

هذا يعني أحد البحرين عَذْبٌ فُراتٌ أي طيب شديد الطيب

______________________________

(1) فاطر: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 22

[سورة الفرقان (25): الآيات 54 الى 55]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

سائغ شرابه وَ هذا أي البحر الثاني مِلْحٌ أي كالملح في الملوحة، و إنما قيل ملح مبالغة، مثل زيد عدل أُجاجٌ شديد الملوحة وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بين البحرين بَرْزَخاً أي حجابا أو حاجزا من قدرة الله وَ حِجْراً أي منعا مَحْجُوراً ممنوعا دخول بعض المياه إلى بعض، حتى يفسد العذب بالمالح، و هذا لتأكيد المبالغة في عدم اختلاطهما اختلاطا مفسدا، و إن «مرج» أخيرا بعد أخذ الأرض و الناس حاجتهما منه، و هذا من بديع القدرة حيث جعل قرار المياه العذبة فوق سطح البحر.

[55] وَ هُوَ الله الَّذِي خَلَقَ و أوجد مِنَ الْماءِ أي المنى، أو الماء المكون للنبات و الحيوان، حتى يأكلهما الإنسان، فيتحول في بدنه منيا بَشَراً أي إنسانا، قيل سمي بشرا، لظهور بشرته، بخلاف غالب الحيوانات المكسي جلدها بالريش أو الشعر أو ما أشبه فَجَعَلَهُ أي جعل البشر بكيفية يتلاقى بعضهم مع بعض بسببها نَسَباً وَ صِهْراً فالأولاد و الأحفاد يتلاقون بالمصاهرة و الزواج، و التقدير «جعله ذا نسب و صهر» و الصهر من صهر بمعنى قرب، و منه يقال للشي ء المذاب منصهر، لأنه يقترب بعضه إلى بعض وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً أي قادرا على كل شي ء، و لذا خلق هذه المخلوقات المدهشة، بهذا النظام و الكيفية العجيبين.

[56] إن الله سبحانه

هو الذي خلق كل شي ء، كما نشاهد في الآيات الكونية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 23

[سورة الفرقان (25): الآيات 56 الى 57]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)

وَ مع ذلك يَعْبُدُونَ أي هؤلاء المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه سبحانه ما لا يَنْفَعُهُمْ بذاته وَ لا يَضُرُّهُمْ فإن الأصنام أشياء جامدة لا تقدر على النفع و لا الضرر و المراد لا ينفعهم إن عبدوها، و لا يضرهم إن لم يعبدوها وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً الظهير العون، أي أن الكافر يعين الشيطان على ضد ربه و إلهه بينما اللازم على الإنسان العاقل أن يعين ربه على عدوه لا أن يعين عدوه ضد ربه.

[57] وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا مُبَشِّراً لمن آمن و أطاع بالثواب وَ نَذِيراً لمن كفر أو عصى بالعقاب، فليس عليك انحراف هؤلاء، و إنما أنت مبلغ و مرشد فمن قبل فلنفسه و من أبى فعليها.

[58] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ و ثمن تعطونه لي عوض تبليغي و أتعابي إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إما أن الاستثناء منقطع بمعنى أنه ما أسألكم إلا أن تتخذوا سبيلا إلى ربكم، و قد ذكرنا سابقا أن المستثنى منه لأنه مشتمل على أصل شي ء و قيده، فقد يستثني من الأصل و يكون الاستثناء حينئذ منقطعا و قد يستثني من مجموع القيد و المقيد فيكون الاستثناء متصلا، و إما أن الاستثناء متصل، و المراد أني لا أسألكم أجرا و لكني لا أمنع من إنفاق المال

في طلب مرضات الله سبحانه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 24

[سورة الفرقان (25): الآيات 58 الى 59]

وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)

و لا يخفى أن الخمس ليس أجرا، بل هو تعيين قسم من المال لقسم من الفقراء.

[59] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله، و معنى التوكل إيكال الأمر إلى الغير عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ فإنه خير من وكله الإنسان، إذ هو لا يموت فيضطرب أمر الوكالة، و قيد «الذي لا يموت» للتخصيص، إذ سائر الأحياء يموتون، توكل عليه، في أمر التبليغ و ما تلاقيه من العنت و الإرهاق في سبيل الدعوة وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي نزهه تنزيها بالثناء، فإن التنزيه يكون بنفي النقائص و قد يكون بإثبات الكمالات المستلزمة لنفي النقائص وَ كَفى بِهِ الضمير فاعل كفى، و أدخل حرف الجر على الفاعل، لأنه بمعنى اكتفى به بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي عالما، فإنه يعلم ما يذنب العباد و سيجازيهم عليه، فلا تهتم بكفر الكافرين فإن حسابهم على الله، و إنما أنت مبلغ تسبح بحمد الله، و تتوكل في أمرك عليه.

[60] ثم يبين السياق وصف الإله ليوقظ في الناس ما فطر فيهم من أنّ الكون لا بد له من خالق فرجعوا إلى ما غفلوا عنه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الملائكة و البشر و الحيوان و سائر المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و خصوصية ستة أيام لأجل أنه أحد أفراد التحديد، كما في خصوصية الإبطاء، مع أنه تعالى كان قادرا على

أن يخلقها في لمح البصر لما عليه سنّة الله من تدريجية تكوينه في هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 25

[سورة الفرقان (25): آية 60]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

الكون، كما نشاهد أن الزرع و الجنين و غيرهما بحاجة إلى زمان حتى وقت الإكمال ثُمَّ اسْتَوى أي استولى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى الإحاطة على الكون، و هذا كما يقال: بنى الملك المدينة ثم استقر على السرير، يراد أنه أحاط بالسلطة، لا أن هناك سريرا جلس عليه، و الإتيان ب «ثم» مع أن الاستيلاء كان من الأول، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و كأن الإتيان بهذا الكلام لإفادة أن مثل هذا الإله يلزم التوكل عليه، فإنه لا يخيب من فوض أمره إليه الرَّحْمنُ قالوا: بأنه خبر، ل «الذي» أي أنه هو الرحمن الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء فما أجدر بالإنسان أن يكل أموره إليه فَسْئَلْ يا رسول الله بِهِ أي بواسطته خَبِيراً و المعنى إن تسأله عن شي ء فإنه خبير بذلك الشي ء، و هذا كناية عن أنه عالم بكل شي ء فإخباره عن أي شي ء كان، مطابق للواقع، و قد ذكر أهل الأدب إن من البلاغة أن يتوهم الإنسان شيئا على وصفين، وصف الأصالة و وصف التوسط، ثم يقصد الأصيل بواسطة المتوسط، كما يقال: شربت به ماء، و الضمير للماء، أو قتلت به كافرا، أو وجدت به عالما متحدثا، و هكذا، و هذه الجملة لإفادة إن أخباره في أصل الخلقة هو الحق.

[61] وَ بعد هذه الآيات الكونية، و الإلفاتات الجمّة إِذا قِيلَ لَهُمُ أي للكفّار اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ و اخضعوا له، فإنه الخالق الراحم قالُوا على طريق

الكبر و الاستعلاء وَ مَا الرَّحْمنُ و قد أتوا بلفظ «ما» الذي هو لما لا يعقل استهزاء، فقد كانوا لا يعترفون بهذا «اللفظ» من جملة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 26

[سورة الفرقان (25): الآيات 61 الى 62]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً (61) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)

سخافاتهم الكثيرة أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا استفهام إنكار، أي نترك آلهتنا و نسجد لمن لا نعترف به وَ زادَهُمْ ذكر الرحمن نُفُوراً أي تنافرا عن الحق و الإيمان.

[62] و ارتد السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الكونية تَبارَكَ أي تعالى و تقدس الإله الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً من برج إذا ظهر، و هي البروج المعروفة الإثنى عشر، و هي منازل للكواكب السبع السيارة، أو يراد هنا بالبروج نفس الكواكب، لظهورها وَ جَعَلَ فِيها أي في السماء، و هي سماعي سِراجاً أي مصباحا هي الشمس وَ قَمَراً مُنِيراً أي مضيئا.

[63] وَ هُوَ الإله الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي يخلف أحدهما الآخر، فإن «خلفة» هي كل شي ء بعد شي ء، و تقديم الليل- في الكلام- لأنه أشبه بالأصل، إذ النور يشقه و يمحيه لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتفكر و يستدل بذلك على الإله، فإن الغاية من خلق الأشياء هو الإنسان، و الغاية من خلق الإنسان العبادة، و هي لا تتحقق إلا بالمعرفة، فصح أن يقال: خلقهما للتذكر، و سمي تذكرا لما أودع في فطرة الإنسان من الاعتراف، و إنما الأشياء مذكرات أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي أراد شكر النعمة فإنهما نعمتان عظيمتان و من أهم ما يوجب الشكر.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 4، ص: 27

[سورة الفرقان (25): الآيات 63 الى 65]

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)

[64] و بعد الإلفات إلى هذه الآيات نرى عباد الله العقلاء يخضعون لله سبحانه، و يعتدلون في سلوكهم، و ينتهجون المنهج المقرر لهم وَ عِبادُ الرَّحْمنِ في مقابل الذين كانوا ينفرون من اسم الرحمن الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً هذا خبر «عباد الرحمن» و المعنى مشيهم مشية المتواضع، فيمشون هينا بسكينة و وقار، و لا يمشون بكبرياء و تجبّر، فإن «هون» مصدر «هين» وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بخطاب يكره و يثقل على الإنسان قالُوا في جواب الجهال سَلاماً أي سدادا من القول، و ما يوجب السلامة، لا ما يوجب الخصام و النزاع، فليس المراد هذه اللفظة بالذات، بل المعنى الدفع بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «1».

[65] وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ من بات بمعنى أوصل الليل بالصباح لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً جمع ساجد و قائم، و إنما خص الليل، لأن العبادة فيه أشق و أبعد من الرياء و أقرب إلى فراغ القلب، و لعلّ تخصيص هذين الأمرين، لأنهما الأكثر في العبادة دون الركوع و الجلوس.

[66] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ بمعنى عدم الوقوع

______________________________

(1) فصلت: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 28

[سورة الفرقان (25): الآيات 66 الى 68]

إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ

قَواماً (67) وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68)

فيها، و كأن التعبير بلفظ الصرف، لأجل استحقاق الناس للنار بأعمالهم، فالمطلوب صرفها إِنَّ عَذابَها أي عذاب جهنم، فإنها مؤنثة سماعية كانَ غَراماً أي غرامة تلحق الإنسان أو لازما دائما، و إنما سمي الغريم غريما لملازمته و إلحاحه، و فلان مغرم بفلان أي ملازم له عاشق.

[67] إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي أن جهنم بئس موضع قرار و إقامة.

[68] وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا في سبيل الله لَمْ يُسْرِفُوا بأن يكون إنفاقهم في غير محله، أو زيادة لا يعترف بها الشرع وَ لَمْ يَقْتُرُوا من القتر، بمعنى البخس و عدم الإعطاء بقدر الحق الذي أمر به الشرع وَ كانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ الذي ذكر من الإسراف و الإقتار قَواماً و هو ما أقام الإنسان، أي إنفاقا يقيم الإنسان، فلا يدخله في المبذرين و لا في البخلاء، أو كان إنفاقا ذا قوام، وسطا بدون إسراف و تقتير.

[69] وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يجعلون له سبحانه شريكا، بل يوحّدونه، و يوجهون عبارتهم إليه وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ أي الإنسان الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها، و إتيان الضمير المؤنث، لأن النفس مؤنث سماعي إِلَّا بِالْحَقِ لأجل كونه كافرا حربيا، أو لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 29

[سورة الفرقان (25): الآيات 69 الى 70]

يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)

القصاص، أو الحد، أو ما

أشبه ذلك، و الاستثناء من الأصل، و قوله «حرم الله» تلميح إلى وجه عدم إقدامهم على القتل وَ لا يَزْنُونَ و هو الفجور بالمرأة وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكره من الشرك و القتل و الزنى، و إنما خص هذه الأمور، ليشرعها عند الجاهليين، بل و حتى الآن، و كونها من أعظم المعاصي الموجبة للفساد، في العقيدة، أو في الحياة يَلْقَ أَثاماً أي عقوبة و جزاء على ما عمل يقال: أثمه الله أي جازاه جزاء الإثم.

[70] يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ و لعلّ المراد المضاعفة بالنسبة إلى سائر المعاصي، يعني إن عذاب هؤلاء أكثر من عذاب غيرهم، و إن كان بقدر استحقاقهم وَ يَخْلُدْ أي يبقى دائما فِيهِ أي في العذاب مُهاناً في حال كون ذاك العذاب على وجه الإهانة، و من المعلوم أنّ الخلود بالنسبة إلى الكفار لا بالنسبة إلى المؤمن فإنه تدركه الشفاعة.

[71] إِلَّا مَنْ تابَ أي رجع إلى الله سبحانه عما اقترفه من الآثام وَ آمَنَ فإن الإيمان في أثر التوبة؟ و لذا ذكر بعقبها وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً المراد به الجنس، أي أتى بجنس العمل الصالح، الذي يصلح لإسعاد الإنسان فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي يمحي عنهم السيئات و يكتب مكانها حسنات، و من المحتمل أن يراد إعطاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 30

[سورة الفرقان (25): الآيات 71 الى 72]

وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72)

الثواب على نفس السيئة التي ارتكبها، بعد أن آمن و عمل صالحا و تاب، فمثلا كان قد زنى، فإنه إذا تاب توبة نصوحا، أعطاه سبحانه ثواب النكاح لزناه

ذلك- كما قال بذلك بعض- وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر الذنب لمن أذنب رَحِيماً يتفضّل عليهم، فليس غفرانا مجردا، بل مغفرة و فضلا.

[72] وَ مَنْ تابَ مما سلف عنه من المعاصي وَ عَمِلَ عملا صالِحاً بأن صحت عقيدته و عمله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي أنه هو الذي يرجع إلى الله مَتاباً أي رجوعا حقيقيا، أما من آمن و لم يعمل صالحا، أو عمل صالحا و لم يؤمن فإنه لم يرجع إليه حقيقة، إذ لو اعترف الإنسان بالله اعترافا عميقا لا بد و أن يؤمن و يعمل صالحا أو المراد أنه يرجع إليه مرجعا عظيما من قبيل فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ «1» و «المتاب» مصدر ميمي، من تاب بمعنى رجع.

[73] وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ شهادة الزُّورَ أي الكذب، و أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حق، من «زوّره تزويرا» وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي الباطل، أو الشامل له و لما لا فائدة فيه- كما هو الظاهر- مَرُّوا كِراماً جمع كريم، أي يفعلون عند مشاهدة الباطل، ما يفعله الإنسان الكريم الرفيع النفس، ففي مقام النهي ينهون، و في مقام السكوت

______________________________

(1) طه: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 31

[سورة الفرقان (25): الآيات 73 الى 74]

وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)

يسكتون، و في مقام التأديب يتأدبون، و هكذا، يقال: تكرم فلان عما يشينه أي تنزه، و أكرم فلان نفسه، أي لم يهو بها في مهوى المهانة و الانحطاط.

[74] وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا أي ذكرهم الناس، أو ذكرتهم الحياة، بأن رأوا صاعقة

تلفت الأنظار، أو زرعا جميلا يذكّر خالقه، و هكذا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وجوده و صفاته و سائر الشؤون المتعلقة به لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها أي لم يقعوا على تلك الآيات صُمًّا جمع أصم وَ عُمْياناً جمع أعمى، أي لم يطلعوا عليها اطلاع الأصم الأعمى الذي لا يرتب الأثر إذ لا يسمع و لا يبصر، فإن الإنسان إنما يرتب الأثر على الأشياء من جهة السماع أو الإبصار، و كأن الإنسان الأصم الأعمى يقع على الشي ء المرغوب فيه بلا استفادة منه، أو المنفور منه بلا فرار عنه، يخر على الأوراد، و على الكنيف، و هذا كناية عن عدم الاستفادة، بخلاف السميع البصير، فإن السميع يجلبه الترغيب و ينفّره الإنذار، و البصير يرى فيقدم أو يحجم، و المؤمن يسمع الآيات، و يشاهد الآثار، فيرتب الأثر، بخلاف الكافر.

[75] وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ من دعائهم، يا رَبَّنا هَبْ لَنا أي أعطنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا أي أولادنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي أولاد تقرّ بهم العين، و هو كناية عن الولد الصالح، فإن الإنسان إذا صلح ولده أو سرّ بشي ء آخر، قرّت عينه، بخلاف الإنسان المحزون الذي أصيب ببؤس أو ولد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 32

[سورة الفرقان (25): الآيات 75 الى 77]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

سيئ، فإنه يقلّب طرفه هنا و هناك ليجد ملجأ أو حيلة للتخلص، و قوله مِنْ أَزْواجِنا يراد الأولاد الصلبيين، و «ذرياتنا» الأحفاد وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي نكون أئمة أهل التقى، و ذلك لا للاستعلاء، بل لأن ينالوا تلك

الدرجات الرفيعة التي يحصل عليها الإنسان في الآخرة، إذا أرشد و أفاد إرشاده التقوى، إذ معنى الإمامة للمتقي أن يكون مصدرا للتقوى.

[76] أُوْلئِكَ الذين هذه صفاتهم يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة، فاللام في الغرفة، للعهد الذهني بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله سبحانه، و ثباتهم على أوامره و نواهيه وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية و السلام، كأن يقال لهم «حياكم الله حياة طيبة، و سلام عليكم» أو كناية عن الترحيب بهم.

[77] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في الغرفة- أي الجنة- فهم دائمون لا يزالون هناك في نعيم جسمي و روحي حَسُنَتْ تلك الغرفة مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً أي محل استقرار و إقامة، فالإنسان فيها مستقر غير متزلزل، باق غير متحول.

[78] و إذ بيّن سبحانه أدعية المؤمنين، بعد ما بين أنهم آمنوا و عملوا صالحا، قال قُلْ يا رسول الله، للناس ما يَعْبَؤُا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 33

بِكُمْ رَبِّي أي ما يبالي بكم الله، يقال لم يعبأ به أي لم يبال به، فكان وجوده و عدمه سواء لَوْ لا دُعاؤُكُمْ أي توجّهكم إلى اللّه سبحانه فإن البشر هيّن في جنب الله لا شأن له لو لا أن يتوجه إليه سبحانه فتكون له قيمة بهذا الترفع الذي يحصّله من جراء توجهه إلى الله تعالى فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكفار ما أخبرتكم به من المبدأ و العقيدة و المعاد فَسَوْفَ يَكُونُ التكذيب، أي جزائه المترتب عليه من النار و النكال لِزاماً أي ملازما لكم لا يفارقكم، و لا يخفى أن من مصاديق «دعاؤكم» هو الدعاء المعتاد الذي ندعو الله به لقضاء حوائجنا، و لذا جي ء بهذه الآية

هنا، حيث تقدم دعاء المؤمنين، و إن كان الظاهر أن قوله: «لو لا دعاؤكم» يراد به التوجه إلى الله سبحانه بالإيمان و العمل الصالح و الدعاء و غيرها- بصورة عامة- كما يناسب ذلك «فقد كذبتم»، و من هذا يعرف ما للدعاء من الأهمية، فقول بعض المنحرفين: إن الدعاء لا ثمره له إذ لو قدّر شي ء يكون، و لو لم يقدّر لا يفيد الدّعاء، هو غلط، إذ التقدير: أن يكون ذلك الشي ء بالدعاء كما أن التقدير أن يأكل الإنسان الشي ء و يحصّل على الشي ء بالعمل و الطلب، و الله الهادي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 34

26 سورة الشعراء مكية/ آياتها (228)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «الشعراء» و ما يتعلق بهم. و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، قالوا: إنها مكية إلا من قوله «و الشعراء .. إلى آخر السورة». و حيث ختمت سورة الفرقان بقصة تكذيب الكفار للرسول، جاء مفتتح هذه السورة تسلية للرسول أن لا يهتم بهم بعد الإنذار.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ شروع بذكر اسم الإله الذي له كل شي ء، و من أبرز صفاته الرحم، مما يحتاج إليه الإنسان في كل خطوة من خطى الحياة، فإن الإنسان مجموعة نواقص، فلو لا رحمه سبحانه لتكميله من آنات الحياة، لذهب عاطلا لا ينتفع و لا ينتفع به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 35

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)

[2] طسم «طاء» و «سين» و «ميم».

[3] تِلْكَ الحروف و ما يجانسها من حروف الهجاء آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الواضح الظاهر

الذي لا ريب فيه و لا غموض، فإن كان مكذوبا، فأتوا بمثله إذ هو مركب من لغتكم و حروفكم التي تلهجون بها طيلة أعماركم، و قد ذكرنا سابقا، إن الإتيان بحروف خاصة ك «طاء» و نحوها من باب الإشارة إلى حروف الهجاء و إن «تلك» و ما أشبه مما يقع بعد هذه «المقطعات» خبر لمبتدأ هو تلك الحروف المقطعة، هذا على أحد الأقوال في معنى «الحروف المقطعة» و في إعرابها، و هناك أقوال أخر.

[4] لَعَلَّكَ يا رسول الله باخِعٌ نَفْسَكَ من بخع بمعنى أهلك، أي مهلك نفسك حزنا و أسفا، ب أَلَّا يَكُونُوا هؤلاء الكفار مُؤْمِنِينَ فقد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحزن حزنا شديدا على عدم إيمانهم، فسلّاه الله سبحانه بذلك و «لعل» بمعنى «الاحتمال» و إنما يستعمل للترجّي، لأنه «احتمال المطلوب» و الجملة يراد بها النهي الإرشادي الإشفاقي، كما لا يخفى.

[5] إِنْ نَشَأْ جبر الناس على الهدى نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً أي معجزة مجبرة لهم على الإيمان فَظَلَّتْ أي صارت أَعْناقُهُمْ أي أعناق هؤلاء الكفار لَها لتلك الآية خاضِعِينَ و إنما نسب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 36

[سورة الشعراء (26): الآيات 5 الى 7]

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)

الخضوع إلى الأعناق لأنها أول ما يظهر عليها الخضوع تميل نحو الأرض، لكن الله سبحانه لا يشاء ذلك لأنه مخالف لكون الدنيا دار اختبار و امتحان، نعم وردت بعض الروايات الدالة على أنها تكون في زمان المهدي عليه السّلام

«1».

[6] وَ ما يَأْتِيهِمْ أي البشر مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ «من» زائد لتأكيد العموم، و لعل الإتيان بلفظة «الرحمن» للدلالة على أن المراد بذلك الذكر ما يسبب لهم الرحمة مُحْدَثٍ أي جديد، كالقرآن إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ يعرضون عنه، فقد اعتاد الناس على أن لا يخضعوا إلا للتقاليد و إن رأوا الحق و الصدق في الشي ء الجديد، فقد كانوا يتعاملون مع كل كتاب جديد هذه المعاملة، من غير فرق بين التوراة و الإنجيل و القرآن، و سائر الكتب.

[7] فَقَدْ كَذَّبُوا بالقرآن، و المراد كفار مكة، فَسَيَأْتِيهِمْ أي عند الموت، أو في يوم القيامة أَنْبؤُا أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و المراد عاقبة أعمالهم، و هذا كما تقول لمن تريد تهديده، سأخبرك بما كنت تعمل.

[8] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم ينظر هؤلاء الكفار إلى الآيات الكونية؟ فلينظروا

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 37

[سورة الشعراء (26): الآيات 8 الى 12]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)

إِلَى الْأَرْضِ ليروا كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي كل صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ حسن نافع جميل، و المعنى ذي كرامة و رفعة.

[9] إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات لَآيَةً دلالة على الإله و على صفاته وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بالله و بما يجب الإيمان به، عنادا و تقليدا لآبائهم.

[10] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لا يضره إعراض هؤلاء فإنه لَهُوَ الْعَزِيزُ له العزة و الغلبة الرَّحِيمُ فإنه يرحمهم مع قدرته كيما

يندموا و يعودوا عن غيهم.

[11] ثم بدأ السياق ليذكر فصلا من قصة موسى عليه السّلام فيها العبرة و الذكر و التسلية للرسول و التبشير للمؤمنين بغلبتهم على أعدائهم و لو بعد حين وَ اذكر يا رسول الله إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي اذهب إليهم.

[12] ثم بين المراد بالقوم الظالمين بقوله قَوْمَ فِرْعَوْنَ و المراد هو و قومه، كما هو الشائع في مثل هذا التعبير أَ لا يَتَّقُونَ أي أما آن لهم أن يتقوا الكفر و العصيان؟ و هذا تعجب في لفظ الاستفهام، حكاية لما قاله سبحانه لموسى عليه السّلام.

[13] قالَ موسى عليه السّلام يا رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي يكذبني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 38

[سورة الشعراء (26): الآيات 13 الى 15]

وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)

فرعون و قومه فيما أدعوهم إليه، و قد قال موسى ذلك تمهيدا لطلبه مؤازرته هارون له، و إلا لم يكن موسى عليه السّلام يريد بذلك الفرار عن حمل التبليغ.

[14] وَ يَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم المتوقع، و السبب أن الإنسان إذا كذب، هاج، و غلبته الحرارة فتنتفخ الرئة لجذب الهواء المبرّد للقلب، و بذلك يضيق الصدر الذي هو مكان الرئة وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي بالكلام، فقد كان في لسان موسى عليه السّلام عقدة قبل أن يرسله الله تعالى ثم حل العقدة من لسانه فَأَرْسِلْ يا رب إِلى هارُونَ أخي ليكون رسولا معي يؤازرني في الرسالة.

[15] وَ لَهُمْ أي لقوم فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ هم يعتبرونه ذنبا، و إن لم يكن ذنب حقيقي، فقد سبق أن

قتل موسى قبطيا حين تشاجر مع إسرائيلي، فعده آل فرعون ذنبا، و إن كان قتل موسى له بحق فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي يقتلني آل فرعون بمجرد ما يروني، قصاصا على قتيلهم.

[16] قالَ الله تعالى في جواب موسى كَلَّا لا تخف، فإنهم لا يتمكنون من إيذائك و قتلك، أما دعاءك بإطلاق لسانك فقد استجيب، و أما دعاءك أن نجعل هارون نبيا لك فقد قبلناه فَاذْهَبا أنت و أخوك إلى فرعون و ملأه بِآياتِنا أي الأدلة و المعاجز الدالة على التوحيد و الرسالة و المعاد إِنَّا مَعَكُمْ أي مع الجميع، أنتما و آل فرعون مُسْتَمِعُونَ فيكون ما يدار بينكم من الحديث بمسمع منّا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 39

[سورة الشعراء (26): الآيات 16 الى 19]

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)

و هذا تشجيع لهما، إذ الإنسان إذا علم أنه بمنظر و مسمع الملك كان أربط جأشا و أقوى احتجاجا.

[17] فَأْتِيا فِرْعَوْنَ أي اذهبا إليه فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إفراد لفظ «الرسول» باعتبار كل واحد واحد، أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته و طاعته و الإيمان بنا.

[18] و قد أمرك الله ب أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فإن فرعون كان قد سجن جمعا من بني إسرائيل و هم أحفاد يعقوب عليه السّلام، كما قد استعبد جماعة آخرين منهم، و كان هؤلاء لهم صبغة التوحيد، و عدم عبادة فرعون، و لذا أمر الله موسى عليه السّلام أن يقول لفرعون، بإطلاق سراح بني إسرائيل، ليقودهم موسى عليه السّلام إلى

حيث خيرهم و صلاحهم، بعد ما كانوا قلة مضطهدة.

[19] فأتى موسى و هارون فرعون، و بعد اللقاء، و بيان أنهما رسولان إليه، و أنّ الله يأمره بإطلاق سراح بني إسرائيل قالَ فرعون لموسى عليه السّلام أَ لَمْ نُرَبِّكَ يا موسى فِينا في منزلنا و محلنا وَلِيداً أي في حال كونك طفلا صغيرا أخذناك من البحر و ربيناك حتى صرت فتى قويا؟

وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي كنت في بلاطنا سنوات متعددة من عمرك، و هي اثنتي عشرة سنة، عل حديث، أو ثمانية عشر على قول؟

[20] وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ أي قتلت ذلك القبطي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 40

[سورة الشعراء (26): الآيات 20 الى 21]

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)

وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنا و بما أنعمنا عليك، فقد خالفت طريقتنا بعد تلك النعم و ذلك الاجرام.

[21] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون: فَعَلْتُها أي فعلت تلك الفعلة و هي القتل إِذاً في ذلك الزمان وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ يقال يضل لمن انحرف عن الطريق، سواء أريد بالطريق طريق الحق، أم طريق الباطل، كما قال سبحانه وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ «1» يريدون: ضالون عن طريقنا الذي هو كفر، و لعل مراد موسى عليه السّلام ذلك، أي أني ضال عن طريقتك يا فرعون، فلم يكن القتل إجراما كما تزعم أنت، و إنما كان ضلالا عن منهجك، و إلا فقد كان في موقعه حيث إنه قتل كافرا مهاجما على مسلم.

[22] فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ فإن موسى عليه السّلام لما قتل ذلك القبطي، قرر فرعون و ملأه

أن يقتصوا من موسى، فجاءه رجل قائلا إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «2» فخرج منها خائفا يترقب لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسي من القتل فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً بأن جعلني حاكما في الأرض فإن الحكومة ليست إلا لله و لمن وهبها له وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فقد أرسلني إليكم لأهديكم سبيل الرشاد.

______________________________

(1) المطففين: 33.

(2) القصص: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 41

[سورة الشعراء (26): الآيات 22 الى 25]

وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25)

[23] قدّم موسى عليه السّلام جواب قول فرعون «فعلت فعلتك» لأنه كان إلصاق تهمة القتل، و من البلاغة أن يقدم الإنسان جواب الأهم من كلمات الخصم، لئلا يبقى و لو لمدة تعمل أثر الكلمات في أدمغة السامعين فيذهب بالموقف عن يد المتهم، ثم رجع عليه السّلام ليجيب عن كلامه الأول و هو امتنانه عليه بأنه ربّاه في قصره، فقال وَ هل تِلْكَ التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ فإن تربيتك كانت من جهة أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي جعلتهم عبيدا مضطهدين، حتى اضطرت أمي لإلقائي في البحر لنجاتي من السفاكين الذين جعلتهم لقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل، إنها، بالأحرى، عليك لا لك، فلو لم تكن عبّدت بني إسرائيل لكفّلوني، و لم يكون لك سبيل إليّ.

[24] قالَ فِرْعَوْنُ بعد أن انقطع عن المحاورة مع موسى حول التربية و الجريمة وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ أيّ شي ء هذا الذي تدعوني إلى عبادته، و كأنه لم يقل «من» استخفافا.

[25] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون: رَبُّ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما وَ ما بَيْنَهُمَا من الإنسان و الملك و الحيوان و الجماد و غيرها إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم أصحاب يقين لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا، و كأن في مقابل ذلك، من لا يبالي و لا يهتم حتى لا يعلم الارتباط و أن لكل شي ء مؤثرا، ككثير من الجهال.

[26] قالَ فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من الوزراء و الحكام أَ لا تَسْتَمِعُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 42

[سورة الشعراء (26): الآيات 26 الى 28]

قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

إلى مقالة موسى؟ إني أسأله ما جنس الإله؟ و هو يجيب بما فعل و أبدع، و هذا الجواب ليس مرتبطا بالسؤال، لكن موسى عليه السّلام أراد بذلك أن يلقم فرعون الحجة، فهل يتمكن أحد أن ينكر أن للكون إلها؟ أما جنسه فهو غير مرتبط بهذا المقام.

[27] لكن موسى عليه السّلام لم يأبه لاستخفاف فرعون، و أخذ يسرد الحجج الدالة على وجوده سبحانه، كي يركّز الألوهية في الأذهان، و يتم الحجة ف قالَ ثانيا إن الله الذي أدعوا إليه رَبُّكُمْ أيها الملأ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و في هذا كان ردا على فرعون إذ كان يدعي أنه الرب، فمن كان رب آبائكم هل هو فرعون؟ و هذا ما لا يقول به، أم غيره؟ إذا ثبت بطلان ربوبية فرعون.

[28] و لما رأى فرعون أن موسى غلبه في الحجة، رماه بما يرمى به كل مصلح حين لا يقدر خصمه من إقامة المنطق ف قالَ فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ و الإضافة للاستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ

و ما يدعيه من الرسالة دعوى جنونية.

[29] لكن موسى عليه السّلام لم يهتم باتهام فرعون، بل أخذ يفيض في الكلام، مستدلا بالآيات الكونية على الله، موجها أنظار الملأ إليها ف قالَ موسى إن الله هو رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما من أصناف الخلق إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن أعملتم عقولكم لعلمتم أن لهذه الأشياء ربّا و خالقا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 43

[سورة الشعراء (26): الآيات 29 الى 34]

قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34)

[30] و هنا التجأ فرعون إلى التهديد ف قالَ مهددا لموسى عليه السّلام لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي بأن اعتقدت بإله آخر و دعوت إلى ذلك الإله لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أي أسجنك جزاء لهذه العقيدة.

[31] قالَ موسى عليه السّلام أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ أي هل تحبسني حتى إذا جئتك بدليل واضح دال على نبوّتي؟.

[32] قالَ فرعون فَأْتِ بِهِ أي جي ء بما تدعيه من الحجة و المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك النبوة.

[33] فَأَلْقى حينئذ موسى عليه السّلام على الأرض عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية عظيمة مُبِينٌ ظاهر واضح أنه ثعبان و ليس شعوذة و سحرا.

[34] وَ أدخل يده في جيبه، أو تحت إبطه ثم نَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من ذلك المكان فَإِذا هِيَ اليد بَيْضاءُ منيرة كنور الشمس لِلنَّاظِرِينَ إليها، و لم يكن حديثا يسمع، و إنما رأوها رأي العين.

[35] قالَ فرعون لِلْمَلَإِ أي الأشراف و

سموا ملأ لأنهم يملئون العيون هيبة حَوْلَهُ أي الذين كانوا حوله إِنَّ هذا الرجل، يعني موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر و الحيلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 44

[سورة الشعراء (26): الآيات 35 الى 38]

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

[36] و إنه إنما يدعي النبوة و يظهر السحر يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي مصر، لأنه لو سيطر، اضطر فرعون و الملأ أن يفروا منه، كما هي عادة الملوك لدى الانهزام بسبب سحره و هنا أراد فرعون أن يجلب انتباه الأشراف لئلا يميلوا إلى موسى، أليس يريد إخراجهم من أرضهم؟ فاللازم أن يقفوا صفا واحدا ضده فَما ذا تَأْمُرُونَ أيها الأشراف، أن نفعل ضد موسى؟

[37] قالُوا و قد خانوا موسى، و صدقوا مقالة فرعون أَرْجِهْ أخره، وَ أَخاهُ أي أبقهما عندك وَ ابْعَثْ أرسل فِي الْمَدائِنِ أي المدن المرتبطة بك جماعة حاشِرِينَ يحشرون و يجمعون لك السحرة، من «حشر» بمعنى جمع.

[38] يَأْتُوكَ أي الرسل الذين أرسلتهم لجمع السحرة، يأتون إليك بِكُلِّ سَحَّارٍ أي كثير السحر عَلِيمٍ في علم السحر، حتى يقابلوا موسى في سحره فإذا جاءوا و أظهروا تفوقا عليه بطل سحر موسى، و انفضح أمام الناس، و بطلت حجته، فلم يتبعه أحد حتى يخشى منه.

[39] و ذهبت الرسل إلى البلاد و أخبروا السحرة بأن فرعون يطلبهم و يدعوهم إلى أن يحضروا أرض مصر فَجُمِعَ السَّحَرَةُ جمع ساحر لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي لوقت يوم خاص، فإن «ميقات» اسم للزمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 45

[سورة الشعراء (26): الآيات 39

الى 42]

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

و للمكان، و المراد باليوم المعلوم، يوم الزينة، فقد كان لهم يوم عيد يخرج فيه الجميع خارج المدينة، للمعايدة.

[40] وَ قِيلَ أي قال فرعون و ملأه لِلنَّاسِ و هم أهل مصر هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ هذا طلب بصورة الاستفهام؟ نحو قوله (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) «1».

[41] لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي السحرة المعارضين لموسى، و المراد باتباعهم عدم ترك دينهم إلى دين موسى، فكنى عن ذلك باتباع السحرة، لتقابله مع أتباع موسى عليه السّلام إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على موسى و هارون.

[42] فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ و حضروا بين يدي فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً، هل لنا أجر و جزاء عندك إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ على موسى و هارون؟

[43] قالَ فرعون نَعَمْ لكم الأجر و الجزاء وَ إِنَّكُمْ بالإضافة إلى ما تعطون من الجزاء إِذاً أي إذا غلبتم عليهم لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي أقربكم إلى نفسي، حتى تكونوا من خواصي، فلكم المال و الجاه معا.

______________________________

(1) النازعات: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 46

[سورة الشعراء (26): الآيات 43 الى 46]

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46)

[44] و اجتمع الجميع في يوم الزينة، و اصطف الطرفان، فهنا موسى و هارون، و هناك فرعون بملئه و السحرة و سائر النظارة قالَ لَهُمْ أي للسحرة مُوسى أَلْقُوا

ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ تحداهم عليه السّلام بذلك، بأن يأتوا بما عندهم من أنواع السحر حتى يبطلها، و ليس هذا طلبا حتى يقال:

كيف يطلب النبي السحر و هو حرام؟

[45] فَأَلْقَوْا أي السحرة حِبالَهُمْ جمع حبل وَ عِصِيَّهُمْ جمع عصا، فقد صوروا الحبال و العصي بصورة الحيّات و لونوها و طلوها بالزئبق و غيره، بحيث تتحرك فيظن الناس أنها حيات و ثعابين وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ حلفوا بذلك، و أصل الحلف أن الإنسان يبدي ما في ضميره مبينا أنه مؤكد عنده بسبب ربط كلامه بشي ء عظيم واقعا، أو عند الاجتماع، و كأنه يريد أن يبين أن مسلمية ما يقول كمسلمية ذلك الشي ء العظيم، و العزة هي القوة و الغلبة إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ زعما منهم أن موسى لا يقدر على ما قدروا عليه.

[46] فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ أي ألقاها من يده فَإِذا هِيَ تنقلب حية عظيمة تَلْقَفُ أي تأكل بالتهام ما يَأْفِكُونَ أي إفكهم و هو الكذب، لأن حياتهم كانت مكذوبة لا حقيقة لها.

[47] فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فإنهم قد رأوا الحق في موسى عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 47

[سورة الشعراء (26): الآيات 47 الى 49]

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)

و عصاه، إذ هم أهل خبرة بالسحر، و علموا أن عصاه ليست بسحر، فاندهشوا بحيث ملكهم الأمر و ألقوا أنفسهم للسجود لله سبحانه إظهارا لاستسلامهم و خضوعهم، و الإتيان ب «ألقي» مجهولا، للدلالة على دهشتهم حتى كأنهم لم يسجدوا اختيارا، و إنما اضطرارا من أنفسهم، فقد حدث في حالة

ألقتهم إلى السجود.

[48] قالُوا أي السحرة آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ صدقنا بأنه الإله، لا فرعون و الأصنام.

[49] رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ و إنما عطفوا بذلك، لئلا يتوهم أن مرادهم برب العالمين هو «فرعون» إذ فرعون كان يقول أنا ربكم الأعلى.

[50] و عند ذلك سقط فرعون في يده، إذ ظهرت غلبة موسى أمام الجماهير فتوجه إلى السحرة مهددا لهم قالَ كيف آمَنْتُمْ لَهُ أي لرب العالمين، أو لموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ و قد كان فرعون يرى نفسه فوق الكل حتى أنه لو أراد أحد الإيمان كان اللازم أن يستأذنه، ثم أراد أن يموه الأمر على السذج فقال إِنَّهُ أي موسى لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فهو أستاذكم و معلمكم و قد تواطأتم أنتم و موسى على هذا الأمر، بأن يأتي هو بسحر فوق سحركم حتى تظهروا للناس أنه نبي و تسيطروا على الأمر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ العقاب الذي يحل عليكم، ثم فسر ما هدده بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي اليد من جانب و الرجل من جانب، و هذا أبلغ في التنكيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 48

[سورة الشعراء (26): الآيات 50 الى 52]

قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)

من قطعها من طرف واحد وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ و الصلب هو أن يعلق الجسم بعمود طويل إما بدق الجسم عليه بالأوتاد، أو بربطه بالحبل و نحوه، فيموت فورا أو بعد زمان.

[51] قالُوا أي قالت السحرة المؤمنون في جواب فرعون لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا مما تفعله بنا، يقال: ضاره يضيره ضيرا، بمعنى

يضره ضررا، ف إِنَّا إِلى رَبِّنا الله مُنْقَلِبُونَ راجعون إلى ثوابه و لطفه فيجازينا على إيماننا و صبرنا بما هو خير لنا من الدنيا، و من المعلوم أن الإنسان لا يعد الألم القليل لفوائد كثيرة ضررا، قال بعض المفسرين:

إن فرعون لم يقدر على قتل أحد من السحرة، و قد ورد أن جمعا آمنوا بموسى فحبسهم مع السحرة، حتى أرسل الله على آل فرعون الجراد و القمل و الضفادع، فأطلق سراحهم.

[52] إِنَّا نَطْمَعُ أي نرجو أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا السالفة من الكفر و السحر و العصيان، حيث أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بموسى عليه السّلام و بما دعانا إليه، فإن أول الناس إيمانا أعظم أجرا، لما يتوجه إليه من الخطر و الضرر الذين لا يتوجهان إلى سائر المؤمنين من بعده.

[53] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما أطلق فرعون عن بني إسرائيل و سائر المؤمنين أَنْ أَسْرِ أي سر ليلا إلى خارج مصر بِعِبادِي أي مع عبادي المؤمنين إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي أن وجه الأمر بالسير ليلا، إنكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 49

[سورة الشعراء (26): الآيات 53 الى 57]

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57)

إن سرتم نهارا يتبعكم الطلب ليحولوا بينكم و بين الخروج من مصر، أو هذا إخبار بأن فرعون يتبعهم فليعلموا ذلك سلفا.

[54] و حيث تقابل قومي موسى و فرعون من حيث المؤمنين بالطرفين، تفكر فرعون لصد الناس عن الإيمان بجمع الجيش لمحاربة موسى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ جمع مدينة، أي البلاد التي كانت تحت سلطته حاشِرِينَ أي أناسا حاشرين، من حشر بمعنى جمع،

أي جماعة يجمعون المال و العسكر، لتهيئة حرب تبيد موسى و المؤمنين به معا.

[55] قال فرعون لمن حوله إِنَّ هؤُلاءِ أي موسى و المؤمنين به لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ أي عصابة من الناس قليلة، فإن شرذمة كل شي ء بقيته القليلة، و في بعض التفاسير أنهم كانوا ستمائة ألف، فقد أراد التقليل لهم و التنقيص من شأنهم.

[56] وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يقال غاظه أي أغضبه، أي أغضبونا حيث خالفوا معنا في الطريقة، و هكذا يقول المتكبرون دائما و كأنهم هم المحور حتى أن إغضابهم يوجب النكال و التدمير.

[57] وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ أي جماعة حاذِرُونَ أي خائفون شرهم، من «حذر» بمعنى خاف و استعمل الحزم في الأمور.

[58] و خرج موسى عليه السّلام و قومه ليلا من مصر، و اتبعهم فرعون بعد ما عرف خروجهم بجيشه الجرار، يريد حربهم أو إرجاعهم، و هكذا أخرج الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 50

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 99

[سورة الشعراء (26): الآيات 58 الى 61]

وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

فرعون من البلاد كما قال فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون و آله مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ جمع عين، أي: العيون الجارية في أراضيهم و بساتينهم.

[59] وَ كُنُوزٍ جمع كنز، و هو المال المخبأ، أي عن أموالهم الثمينة التي اختزنوها وَ مَقامٍ كَرِيمٍ مقامهم المتصف بالكرامة، لأنهم كانوا يكرمون في ذلك المقام.

[60] كَذلِكَ الأمر قد كان وَ أَوْرَثْناها أي تلك النعم من الجنات و العيون و الكنوز و المقام الكريم بَنِي إِسْرائِيلَ المؤمنين بالله، فإن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر و صاروا فيها سادة.

[61]

و بعد بيان تلك الخاتمة- فورا- يأتي السياق لبيان القصة كيف صار الطرفان، و هل تلاقيا فَأَتْبَعُوهُمْ أي أتبع فرعون و آله، لموسى و المؤمنين مُشْرِقِينَ أي حين شروق الشمس و ظهور ضوئها، بعد أن خرج موسى و المؤمنون، ليلا، و ساروا مسافة طويلة، و وصل موسى و المؤمنون إلى البحر، و ها هم يرون فرعون بجيشه يتبعهم، فما ذا يصنعون؟

[62] فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابل جمع موسى مع جمع فرعون، بحيث رأى كلّ صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى في خوف و اضطراب إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيدركنا جماعة فرعون و لا طاقة لنا بهم، فإنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 51

[سورة الشعراء (26): الآيات 62 الى 65]

قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)

يكونوا حملوا السلاح للمقاتلة.

[63] قالَ موسى عليه السّلام كَلَّا لا يدركونا، ثقة منه عليه السّلام بنصر الله تعالى إِنَّ مَعِي رَبِّي أي معي نصرته و لطفه سَيَهْدِينِ أي سيرشدني إلى طريق النجاة.

[64] فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ و هو البحر الأحمر الذي وصلوا إليه، فضرب موسى عصاه على البحر كما أمر الله سبحانه فَانْفَلَقَ البحر أي انشق، و ظهر فيه اثني عشر طريقا بين كل طريقين حاجز من الماء، و ظهر القعر يابسا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل قطعة من البحر، التي كانت حاجزة بين طريق و طريق كَالطَّوْدِ أي الجبل الْعَظِيمِ جبل من الماء ممتد عبر البحر، و طريق، ثم جبل و طريق، و هكذا إلى اثني عشر طريقا وسيعا جافا في

قلب البحر.

[65] وَ أَزْلَفْنا أي قربنا، من زلف بمعنى قرب ثَمَ أي هناك، نحو البحر الْآخَرِينَ أي فرعون و قومه، قربناهم إلى البحر، فإنهم اقتربوا ليحاربوا موسى و من معه، و نسبة الإزلاف إليه سبحانه، لأنه هو الذي أمر موسى بالخروج، فهو السبب الأول لإخراج فرعون.

[66] و لما وصل فرعون إلى البحر، و رأى أن موسى و أصحابه في وسطه، دخل البحر ليدرك موسى وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 52

[سورة الشعراء (26): الآيات 66 الى 70]

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70)

وصلوا إلى ساحل البحر سالمين، حين وصل فرعون بجيشه منتصف البحر.

[67] ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بأن أمرنا ماء البحر أن يرجع إلى محله، فتلاطم الماء و انصبّ على فرعون و جيشه فغرقوا.

[68] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من نصرة موسى على فرعون لَآيَةً أي دلالة على نصرة الله للمؤمنين على الكافرين، أو دلالة على الله و صفاته و سائر شؤونه وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الناس مُؤْمِنِينَ مصدقين بهذه الآيات، أو أن آل فرعون رأوا تلك الآية فما آمنوا، فلا تستوحش يا رسول الله من عدم إيمان قومك.

[69] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الغالب، كما غلب على فرعون و قومه الرَّحِيمُ بخلقه، و من رحمته سبحانه أنه، يمهلهم، مع كفرهم و معاصيهم، حتى إذا لم يبق أمل في إيمانهم أهلكهم، أو المراد أنه عزيز غالب على الأعداء، رحيم عطوف بالمؤمنين.

[70] وَ اتْلُ

يا رسول الله، أي اقرأ عَلَيْهِمْ أي على الناس نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره، و فيه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عظة للعرب الذين كانوا من نسله، حتى ينظروا إلى جدهم، و يتبعوا طريقته.

[71] إِذْ قالَ أي في زمان، و المراد تلاوة هذه القطعة من قصته لِأَبِيهِ آزر، و المراد عمه، فإن العرب تسمي العمّ أبا، لأنه بمنزلة الأب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 53

[سورة الشعراء (26): الآيات 71 الى 74]

قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74)

وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ قال ذلك على وجه الإنكار.

[72] قالُوا في جواب إبراهيم عليه السّلام نَعْبُدُ أَصْناماً جمع صنم فَنَظَلُّ لَها لتلك الأصنام عاكِفِينَ نعكف عليها و نقيم في عبادتها.

[73] قالَ إبراهيم عليه السّلام يريد إبطال عملهم، و أن عبادتهم لها في غير موقعها هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل تسمع هذه الأصنام كلامكم و دعاءكم؟ إِذْ تَدْعُونَ إياهم.

[74] أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بجلب خير لكم؟ أَوْ يَضُرُّونَ بإيقاع ضرر عليكم؟

و إذ كان الجواب على ذلك بالسلب و النفي، فلما ذا تعبدون ما لا يسمع و لا يضر و لا ينفع؟.

أقول: و لم يكن للقوم أن يقولوا: نعم، في الجواب، إذ ذلك يحتاج إلى دليل، كما أنه ليس للقوم النقض على إبراهيم بأن الله أيضا كذلك و يطلبوا الدليل، إذ الآثار تدل على المؤثر فهناك ما لا يحصى من الأدلّة على أن في الكون قوة خارقة تضر و تنفع و تخلق و تميت و تعطي و تمنع، و ما ذاك إلا

الله سبحانه.

[75] قالُوا في جواب إبراهيم، إنما ليس لنا دليل على ألوهية هؤلاء، و إنما نعبدها تقليدا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا و أجدادنا كَذلِكَ الذي نفعل من عبادة الأصنام يَفْعَلُونَ فقلدناهم الأمر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 54

[سورة الشعراء (26): الآيات 75 الى 79]

قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79)

[76] قالَ إبراهيم عليه السّلام معلنا براءته من الأصنام بعد أن اعترف القوم بأنهم لا دليل لهم أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من الأصنام.

[77] أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ المقدمون عليكم، «و أنتم» للماضي، أي الأصنام التي تعبدونها أنتم و كان آباؤكم يعبدونها.

[78] فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي فقد جعل الأصنام كالأعداء، لأنه كما يضر العدو، تضر الأصنام، فإن عبادتها تورث النار و الخزي، و الإتيان بضمير العاقل للأصنام بقوله «فإنهم» جريا على ما يراه القوم من عقلها، و تنسيقا للكلام الدائر بينه و بينهم إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ حيث إن قوله «ما كنتم» عام يشمل جميع معبوداتهم، و قد كانوا يعترفون بالإله، استثنى عليه السّلام عن قوله «عدو» الله سبحانه، فإنه الرحيم الخليل لإبراهيم دون سائر الأصنام.

[79] ثم أخذ عليه السّلام يصف الله سبحانه بالصفات التي هي له، و فيه تعريض بالقوم، بأنّ أصنامكم لا تضر و لا تنفع الَّذِي خَلَقَنِي أخرجني من العدم إلى الوجود فَهُوَ يَهْدِينِ أي يهديني طريق السعادة، كما خلقني، كما قال سبحانه (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «1» [80] وَ الَّذِي هُوَ لا غيره يُطْعِمُنِي أي يعطيني الطعام، و سائر الناس

______________________________

(1) طه: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4،

ص: 55

[سورة الشعراء (26): الآيات 80 الى 83]

وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)

وسائط، و إلا فالمطعم الحقيقي هو الله الذي خلق الطعام وَ يَسْقِينِ الماء إذا عطشت.

[81] وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أي يشفيني من المرض فهو الشافي حقيقة، و إنما الطبيب وسيلة.

[82] وَ الَّذِي يُمِيتُنِي إذا انقضى أجلي ثُمَّ يُحْيِينِ يوم القيامة للبعث و الحساب و سقوط ياء المتكلم في هذه الأفعال تخفيفا، لوضوحها بالإضافة إلى حصول التناسق بحذفها.

[83] وَ الَّذِي أَطْمَعُ أي أوجد أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي و الأنبياء معصومون، إلا أنهم يعدون حتى عملهم بالمباحات خطايا، إذا ما يعرفون من مقام الله و عظمته يقتضي أن يكونوا دائما في خدمته، حتى لا يشتغلوا بنوم أو أكل أو مباشرة، أ رأيت لو جاءك إنسان كبير، و أنت وسخ الثياب تعتذر منه و تخجل، و إن لم يكن ذلك سيئة، و كنت مضطرا إلى هذه الثياب؟ يَوْمَ الدِّينِ أي في يوم الجزاء.

[84] ثم توجه إبراهيم عليه السّلام إلى اللّه بالدعاء قائلا رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً فإن كون الإنسان حاكما في الأرض حكومة مشروعة لا يكون إلّا لله سبحانه، فإذا منحه لأحد كان حاكما شرعيا، و إن لم يمنحه كان غاصبا لا حق له فيه وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي اجعلني في زمرتهم و معهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 56

[سورة الشعراء (26): الآيات 84 الى 89]

وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي

يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88)

إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

[85] وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ أي ثناء جميلا صادقا فِي الْآخِرِينَ أي الأمم التي تأتي من بعدي، فيثنون عليّ ثناء صادقا، بأن أكون قدوة لهم، فالمراد باللسان الثناء، بعلاقة الحال و المحل، و المراد بالصدق أن يكون الثناء صدقا، في مقابل الثناء الكاذب و قد أجاب الله سبحانه دعاء إبراهيم، فقد مرت عشرات القرون، و الأمم كلهم يثنون على إبراهيم، و يذكرونه بتجلة و إكبار.

[86] وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي الذين يرثونها كالإرث الذي ينتقل إلى الإنسان.

[87] وَ اغْفِرْ لِأَبِي بأن تهديه إلى الحق حتى يستحق الغفران إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ المنحرفين الذي ضلوا الطريق، و المراد «بأبي» عمه آزر، و إلّا فقد كان أبوه عليه السّلام مؤمنا راشدا.

[88] وَ لا تُخْزِنِي من الخزي، و هو أن يترك الإنسان لشأنه حتى يذل يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة، و هذا أيضا كما تقدم في قوله عليه السّلام «خطيئتي».

[89] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ لإنجاء الإنسان من الهلكة، و إسعاده بالجنة وَ لا بَنُونَ يدافعون عن الإنسان، و يهيئون له المكان الحسن الوثير.

[90] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي لا ينفع شي ء إلا القلب السليم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 57

[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 94]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94)

و هذا استثناء منقطع، و قد ذكرنا وجهه سابقا، و أنه استثناء عن أصل المطلب، لا عن المطلب بقيوده، و المراد

بالقلب السليم، القلب السالم عن المعاصي و الآثام، و إنما نسب إلى القلب لأنه مبعث الخيرات و الشرور.

[91] وَ يوم أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت، إما قربا زمانيا، لأن أيام الدنيا انقضت، و جاء دور الآخرة، و إما قربا مكانيا، فإنّ الأرض تكون ساحة الحشر، و الجحيم تظهر في أطباقها، و الجنة- التي لا تبعد أن تكون في أعالي الفضاء- تقرّب إلى الأرض ليراها المؤمنون لِلْمُتَّقِينَ الذين كانوا يتقون المحارم في الدنيا.

[92] وَ بُرِّزَتِ أي أظهرت، و المظهر هو الله سبحانه الْجَحِيمُ و هي جهنم- مؤنثة سماعا- لِلْغاوِينَ من غوى، بمعنى ضل، أي الضالين الذين أغواهم الشيطان، فعملوا الكفر و العصيان.

[93] وَ قِيلَ لَهُمْ أي للغاوين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي أين ذهبت الأصنام التي كنتم تعبدونها؟

[94] مِنْ دُونِ اللَّهِ أي عوض عبادة الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم، في هذا اليوم أَوْ يَنْتَصِرُونَ هم لأنفسهم بأن لا يكونوا حصب جهنم.

[95] فَكُبْكِبُوا أي جمعوا، بمعنى دفعوا و طرح فيها بعضهم فوق بعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 58

[سورة الشعراء (26): الآيات 95 الى 100]

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100)

فِيها أي في الجحيم هُمْ أي الآلهة وَ الْغاوُونَ أي الكفار الضالون الذين كانوا يعبدونها، أو المراد ب «هم» هؤلاء عبدة الأصنام و سائر الغاوين كالطبيعيين و من إليهم.

[96] وَ كبكب فيها جُنُودُ إِبْلِيسَ من اتبعه من ولده و ولد آدم و عصاة الجن أَجْمَعُونَ حتى لا يبقى منهم أحد خارج النار.

[97] قالُوا أي قال هؤلاء الذين في النار وَ

الحال أن هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يخاصم بعضهم بعضا.

[98] تَاللَّهِ قسم بالله، و التاء تأتي غالبا لأمر مستنكر أو غريب إِنْ أي إنه، ف «إن» مخففة حذف اسمها كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي واضح ظاهر.

[99] إِذْ نُسَوِّيكُمْ الخطاب للأصنام، و الإتيان بضمير العاقل، باعتبار جعلهم مخاطبين بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمعنى إذ سويناكم بالله، و جعلناكم عدلا له، فعبدناكم من دونه، و هكذا يتبرّأ المشركون هناك من الأصنام.

[100] وَ ما أَضَلَّنا عن طريق الحق، إلى عبادتكم إِلَّا الْمُجْرِمُونَ أي كبرائنا الذين أجرموا فأغرونا عن الحق.

[101] ثم يتضرع المشركون إلى الناس كي ينقذوهم من العذاب قائلين في صورة استفهام و استعطاف فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا كي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 59

[سورة الشعراء (26): الآيات 101 الى 105]

وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)

ننجو من العذاب؟

[102] وَ لا صَدِيقٍ أي و لا من صديق حَمِيمٍ أي ذي قرابة فإن الحميم هو القريب الذي ترده و يردك؟ و المعنى هل ليس لنا شافع من الأباعد أو صديق من الأقارب؟

[103] فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً يتمنون أن يكون لهم رجوع إلى الدنيا، من «كرّ» إذا رجع فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حتى إذا متنا ثانيا فزنا بالنعيم و تخلصنا من الجحيم.

[104] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرناه من قصة إبراهيم عليه السّلام لَآيَةً أي دلالة على وحدة الله سبحانه و سائر صفاته و شؤونه و المعاد، أو حجة على هؤلاء القوم الذين يتمسكون بإبراهيم و يعتبرونه نبيا و جدا لهم وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ

أي أكثر هؤلاء الذين عاصروك يا رسول الله، أو أكثر أولئك الكفار في زمن إبراهيم مُؤْمِنِينَ مصدقين، و إنما راكبون رؤوسهم يعاندون في الأمر.

[105] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الغالب على أمره، و بعزته يأخذ الكفّار و ينتقم منهم الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين فينصرهم، أو رحيم بالكفار فلا يعاجلهم بالعقوبة.

[106] ثم انتقل السياق من قصة إبراهيم عليه السّلام إلى قصة نوح شيخ المرسلين فقال سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ و إنما دخلت التاء في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 60

[سورة الشعراء (26): الآيات 106 الى 110]

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110)

كذبت، باعتبار الجماعة، كما قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

ففي غير الجمع السالم يجوز إدخال التاء باعتبار الجماعة، و إنما قال «المرسلين» لأنّ تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الأنبياء.

[107] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ و سماه أخا، لأنه كان من قبيلتهم أَ لا تَتَّقُونَ عذاب الله؟ أي أ فلا تخافون من العذاب في تكذيبي و إصراركم على الكفر و العصيان؟

[108] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الله سبحانه أَمِينٌ على الرسالة فيما أقول لكم.

[109] فَاتَّقُوا اللَّهَ بتوحيده، و إطاعته وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم و أنهاكم.

[110] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ «من» زائدة دخلت لتعميم النفي أي لا أطلب منكم أجرا و جزاء على الرسالة إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو

الذي يعطيني جزائي و أجري.

[111] فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ كرّر تأكيدا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 61

[سورة الشعراء (26): الآيات 111 الى 115]

قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

[112] قالُوا أي قال الكفار في جواب نوح عليه السّلام أَ نُؤْمِنُ لَكَ أي كيف نصدقك وَ الحال أنه اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي سفلة الناس، و هو الحقير السافل، و المعنى أنا لا نستعد أن نردف أنفسنا بهؤلاء السفلة.

[113] قالَ نوح عليه السّلام في جوابهم وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا أعلم أعمالهم ما يصنعون، و هذا كناية عن عدم الارتباط بين إيمانهم و بين صنائعهم و أعمالهم، يقال: لا أعلم ماذا يقول فلان، و يراد لا أرتبط بقوله، فقد كان الأنبياء مكلّفين بالبلاغ و الإرشاد، أما أعمال الناس و ما كانوا في زمان كفرهم، فليس ذلك من مهمة الأنبياء.

[114] إِنْ حِسابُهُمْ أي ما حساب هؤلاء إِلَّا عَلى رَبِّي فهو الذي يحاسبهم على مهنهم و أعمالهم لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو كنتم تشعرون ذلك و تعلمون إن حساب الناس على الله، لما عبتموني بأن أتباعي أراذل.

[115] وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا أطردهم لإرضائكم، و قد كان دأب الكبراء دائما ذلك، حيث يأنفون أن يكونوا في صف الضعفاء، و لذا كانوا يشترطون على الأنبياء طرد أولئك حتى يؤمنوا، و هكذا قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[116] إِنْ أَنَا أي ما أنا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر لكم عن عذاب الله و نكاله، واضح

الإنذار و التخويف و هذا شأني أما أن أطرد بعضا لأقبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 62

[سورة الشعراء (26): الآيات 116 الى 120]

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120)

آخرين فلست بعامل ذلك.

[117] قالُوا أي القوم، لما انقطعوا عن الحجة لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن هذه الدعوة التي تدعونا بها لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي الذين يرجمون بالحجارة.

[118] هناك دعا نوح ربّه قالَ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ أي كذبوني فيما دعوتهم إليه.

[119] فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً و المراد النصر له عليهم، و قيل للنصر فتح، لأنه يفتح الطريق المسدود أمام الإنسان وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من هؤلاء الكفار، الذين لا يفيد فيهم النصح.

[120] فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من شحنه إذا ملأه، أي السفينة المملوءة من الإنسان و الحيوان، فقد أمر عليه السّلام بصنع سفينة و ركوبها و سائر المؤمنين و من كل حيوان يحمل زوجين اثنين- كما تقدم-.

[121] ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد أن ركب نوح و سائر المؤمنين السفينة الْباقِينَ الذين بقوا على الأرض و لم يركبوا السفينة، و هم الكفار الذين لم يؤمنوا، فقد أخذ الماء وجه الأرض حتى غرق كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 63

[سورة الشعراء (26): الآيات 121 الى 126]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ

هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126)

[122] إِنَّ فِي ذلِكَ الحوار بين نوح و قومه حول التوحيد و سائر المعارف لَآيَةً دلالة واضحة على وجوده سبحانه، أو في ذلك الغرق دلالة على نكال الله بالكافر وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بالله، أو المراد ما كان أكثر الكفار المعاصرين للرسول مؤمنين بهذه الآية التي هي غرق أعداء نوح عليه السّلام.

[123] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر، و بعزته أخذ أولئك بالغرق الرَّحِيمُ بالمؤمنين ينصرهم على أعدائهم بالآخرة أو يمهلهم رحمة منه حتى إذا سدوا أبواب الهدى على أنفسهم فلا رجاء فيهم أخذهم.

[124] و بعد تمام قصة نوح يأتي السياق لينقل قصة عاد قوم هود النبي عليه السّلام كَذَّبَتْ عادٌ أي قبيلة عاد الْمُرْسَلِينَ فإن تكذيب هؤلاء كان تكذيب لسائر الأنبياء عليهم السّلام، فمن لم يقبل نبيا فكأنه لم يقبل جميع الأنبياء.

[125] إِذْ قالَ أي كان التكذيب في زمان قال لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ النبي أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب المعاصي، و هل تخافون عقابه و نكاله؟

[126] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الله أَمِينٌ على تبليغ الرسالة.

[127] فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه و نكاله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 64

[سورة الشعراء (26): الآيات 127 الى 129]

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)

وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آتيتكم به من قبل الله سبحانه.

[128] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ فإني لا أريد الأجرة منكم حتى تخافون ذلك، فتعرضون عن رسالتي

إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري و جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنّه يجازيني على أتعابي و ما تحملته في سبيل الرسالة من المشاق.

[129] ثم ذكر المعصية البارزة من معاصيهم، كما هو عادة الأنبياء، أن يكثر من النهي عن المعصية البارزة من المعاصي، فقال أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ الريع هو الارتفاع من الأرض، و جمعه أرياع و ريعة أي تبنون في المحلات المرتفعة من الصحراء آيَةً أي ما يبدوا كأنها علامة للمارة، و لكنها ليست بعلامة، أو ما من شأنها أن تكون علامة لهداية المارة، و لكنكم لا تبنونها لذلك و إنما تَعْبَثُونَ أي عبثا و ترفا، فإن من عادة المترفين أن يصرفوا المال فيما هو مستغنى عنه و كذلك الحكومات المترفة.

[130] وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ و هي جمع مصنع، و كأنّ المراد مواضع صنع الآلات و الأسباب للأبنية و القصور، و سائر مرافق الحياة، فإن القوم يكونون دائما هكذا، لهم مصانع، و ليسوا كالبدائيين الذين يكون بناؤهم بسيطا، فلا يحتاج إلى معامل و مصانع لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي تظنون خلودكم بهذه الاستحكامات و التصنيعات، و لم يكن القوم يرجون البقاء الأبدي، و إنما كان حالهم حال من يرجو البقاء، لأنّهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 65

[سورة الشعراء (26): الآيات 130 الى 135]

وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134)

إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

كانوا يعملون أعمال الباقين إلى الأبد.

[131] وَ إِذا بَطَشْتُمْ أصل البطش هو الأخذ الأليم باليد، ثم استعمل في كل إنزال عقوبة، يعني إذا عاقبتم أحدا بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي عاقبتم عقوبة الجبابرة الذين

يتعدون عن الحدّ، بلا رأفة و حساب، و كل هذه الثلاثة من مظاهر البذخ و الكبر و نسيان الآخرة، و إذا رقت الحضارة و لم يرافقها الإيمان كانت كذلك، كما نرى هذه الأمور الثلاثة في زماننا جلية، و كانت عاد تسكن الأحقاف، و هي الجبال قرب حضرموت، من ناحية اليمن، و كانت ذات حضارة قديمة.

[132] فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا ترتكبوا معاصيه وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم به، و حذفت الياء تخفيفا.

[133] وَ اتَّقُوا الَّذِي أي الله الذي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي أعطاكم مددا، باستمرار، ما تعملون من أنواع الخير و الرفاه و مرافق العيش.

[134] أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ فأكثر لكم من الأولاد و الأنعام، و هي جمع نعم هو الحيوان ذو الأربع.

[135] وَ جَنَّاتٍ أي بساتين وَ عُيُونٍ جمع عين.

[136] إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن تماديتم في الغي و الطغيان عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 66

[سورة الشعراء (26): الآيات 136 الى 139]

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

و المراد إما العذاب الذي يأخذهم في الدنيا إن استمروا على كفرهم و شقاقهم، و إما عذاب يوم القيامة.

[137] قالُوا أي قالت عاد في جواب نبيهم هود سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنّ وعظك و عدم الوعظ متساويان عندنا، لا يؤثر الوعظ فينا شيئا.

[138] إِنْ هذا أي ما هذا الذي تقول إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي كذب السابقين أو عادة السابقين، فإن خلق يأتي بمعنى الكذب و بمعنى العادة، و هكذا المجرمون في كل

زمان ينسبون المصلحين إلى القدم، ففي زماننا يقولون «رجعية» و «ارتجاع» و بالفارسية «كهنه پرستى»، و في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانوا يقولون «أساطير الأولين» و في زمان هود قالوا «خلق الأولين»، و لعلّ المراد أن ما نبينه و نفعله عادة آبائنا، فلا نتركه لأجلك.

[139] وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فمن يقدر على عذابنا؟ أما ما تقولون من عذاب الله، فهو يحبنا، أليس قد أنعم علينا بهذه النعم؟ كما قال ذلك الكافر (وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) «1».

[140] فَكَذَّبُوهُ أي كذب عاد هودا فَأَهْلَكْناهُمْ بريح سخرت عليهم

______________________________

(1) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 67

[سورة الشعراء (26): الآيات 140 الى 145]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144)

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

فأماتهم جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ التبليغ لهم، أو الإهلاك لَآيَةً لأولئك، أو لقوم الرسول وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بذلك البلاغ، بالنسبة إلى أولئك، أو بذلك الإهلاك بالنسبة إلى هؤلاء.

[141] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على الكفّار الرَّحِيمُ بالمؤمنين، و قد تقدم تفصيله.

[142] كَذَّبَتْ ثَمُودُ أي قبيلة ثمود الْمُرْسَلِينَ فإنهم بتكذيبهم صالحا، كأنهم كذبوا جميع الأنبياء.

[143] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أي أن التكذيب كان في زمان قال لهم أخوهم في النسب صالح النبي عليه السّلام أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب الكفر و المعاصي.

[144] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من قبل الله أَمِينٌ على أداء الرسالة.

[145] فَاتَّقُوا اللَّهَ و خافوا عقابه،

و اتركوا معاصيه وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني فيما آمركم به.

[146] وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على الإرشاد و التبليغ مِنْ أَجْرٍ و جزاء، و «من» لتعميم النفي إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 68

[سورة الشعراء (26): الآيات 146 الى 150]

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150)

إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه هو الذي يجزيني.

[147] أَ تُتْرَكُونَ أي هل تظنون أنتم أنكم تتركون فِي ما هاهُنا أي في الأرض، و في هذه النعم الموجودة لديكم آمِنِينَ من الموت، و التغير؟ و هو استفهام استنكاري إلفاتي.

[148] فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ في بساتينكم و قرب عيون الماء الجارية.

[149] وَ زُرُوعٍ جمع زرع، و كأنّه النبات الذي لا ساق له وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ الطلع هو الشي ء الذي يخرج من النخل، و في وسطه صغار التمر، سمي طلعا لطلوعه، و «هضيم» بمعنى اللطيف الناضج الحسن.

[150] وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً في حال كونكم فارِهِينَ بسهولة، و يسر، من فره، أي هل تظنون أنكم تبقون في هذه النعم، فالجنات ملتفة، و العيون جارية، و النخيل في ثمر و طلع، و البيوت الفارهة المنحوتة، و كل الحياة تنحو نحو الخير و التقدم لكم، و أنتم آمنون؟

كلا! لا يكون هذا.

[151] فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا تخالفوا أوامره وَ أَطِيعُونِ أي أطيعوني في رسالتي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 69

[سورة الشعراء (26): الآيات 151 الى 155]

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما

أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

[152] وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الذين يسرفون في أعمالهم و حركاتهم، فإن لكل عمل مقياس وحد إذا جاوزه كان سرفا، و كان فاعله مسرفا.

[153] الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ و كأنه جي ء بهذا العطف لإفادة أنهم لا يأتي منهم إلا الفساد في العقيدة و المنهج و الأخلاق، لا كمن يأتي منه الصلاح و الفساد معا.

[154] قالُوا أي قالت ثمود في جواب صالح إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقد سحروك و ذهب عقلك- فإنّ الإنسان المسحور يختل عقله و إدراكه- و لذا تدعي النبوة و تقول هذه الكلمات، و لعلّ المراد أنك قد سحرت مرة بعد أخرى، و لذا جي ء من باب التفعيل الدال على التكثير.

[155] ما أَنْتَ يا صالح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فكيف تدعي النبوة؟ فَأْتِ بِآيَةٍ أي معجزة دالة على صدقك في دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنك نبي مبعوث من قبل الله تعالى.

[156] قالَ صالح عليه السّلام آتي بالآية، فما ذا تريدون؟ قالوا نريد أن تخرج من هذا الجبل ناقة كبيرة، فسأل الله صالح ذلك، فأخرج لهم من الجبل ناقة كبيرة فقال لهم هذِهِ ناقَةٌ كما طلبتم لَها شِرْبٌ أي حصة من الماء وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فليس لكم شرب كل يوم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 70

[سورة الشعراء (26): الآيات 156 الى 159]

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

و إنما تشرب هذه

الناقة ماء النهر كاملا، في يوم، و تعطيكم الحليب عوض الماء، و لكم ماء النهر في اليوم الآخر، لا تزاحمكم الناقة في الشرب.

[157] وَ لا تَمَسُّوها أي لا تمسوا الناقة بِسُوءٍ بشي ء سيئ كأن تؤذوها، أو تضربوها، أو تنحروها فإنكم إذا فعلتم ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عليكم، و إنما كان اليوم عظيما بعلاقة الحال و المحل، و إلا فإن العذاب الذي يحل فيه هو العظيم.

[158] لكن القوم عتوا، و قالوا لا نريد أن تشرب الناقة كل ماء النهر يوما بين كل يومين و لا نريد لبنها، فاللازم أن نقتلها لكي نتخلص منها فَعَقَرُوها أي أهلكوها، بالنحر، أو ضرب القوائم، و قسموا لحمها بينهم و إنما أسند العقر إليهم مع أن عاقرها كان واحدا لرضى كلهم بذلك فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ حين شاهدوا العذاب، فقد ندموا على كفرهم و معاصيهم و عقرهم للناقة.

[159] فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الذي خوفهم صالح عليه السّلام منه فقد خسفت أرضهم- كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام- إِنَّ فِي ذلِكَ البلاغ، أو العذاب لَآيَةً لهم، أو لقوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ من أولئك، أو هؤلاء- على تفصيل مضى- مُؤْمِنِينَ

[160] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 71

[سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 164]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

للأعداء الرَّحِيمُ بهم يمهلهم، لعلهم يرجعون، أو الرحيم بالمؤمنين ينصرهم على أعدائهم.

[161] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ

النبي عليه السّلام الْمُرْسَلِينَ فإن تكذيب لوط كان تكذيبا لجميع الأنبياء عليهم السّلام، أو المراد بالجمع الجنس- فقد ذكرنا سابقا- إن كلّا من الجمع و الجنس يحل محل الآخر، تقول: هكذا قال المفسرون، و تريد أن هذا الجنس قالوا كذلك، و لا تريد الجمع، بل الكلام صادق و إن كان واحد منهم تكلم بذلك الكلام، فإنه في قبال قال النحويون، و قال المتكلمون، لا في قبال قال مفسر واحد.

[162] إِذْ قالَ لَهُمْ أي كان التكذيب في زمان قال للقوم أَخُوهُمْ في النسب لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ الله باجتناب الكفر و العصيان.

[163] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من عند الله أَمِينٌ على أداء الرسالة لا أزيد فيها و لا أنقص.

[164] فَاتَّقُوا اللَّهَ باجتناب الكفر و المعاصي وَ أَطِيعُونِ أطيعوا أوامري، أو أطيعوا أوامر الله، فالمراد بالتقوى عدم الإتيان بالمنكرات و بالإطاعة الإتيان بالواجبات.

[165] وَ ما أَسْئَلُكُمْ أيها القوم عَلَيْهِ أي على الإرشاد و البلاغ مِنْ أَجْرٍ و جزاء، فلا تخافون إن آمنتم بي أن أرهقكم بالضرائب و الجزاء، إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 72

[سورة الشعراء (26): الآيات 165 الى 167]

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)

إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو يعطيني الجزاء.

[166] ثم بين المعصية الظاهرة فيهم، ناهيا لهم عنها فقال أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ على نحو الاستفهام الإنكاري أي كيف تصيبون الذكر، باللواط معهم مِنَ الْعالَمِينَ أي من جملة خلائق العالم، و لعلّ هذا التعبير لأنهم كانوا يفعلون الفاحشة بكل من وجدوه من أهل المدينة أو المسافرين.

[167] وَ

تَذَرُونَ أي تتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لأجل قضاء الوطر مِنْ أَزْواجِكُمْ و نسائكم، فقد عطلوا إتيان الأزواج، و تعاطوا إتيان الذكور، حتى اضطرت النساء إلى المساحقة لقضاء وطرهن، فإذن فليس ذلك لأجل أنكم تريدون قضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ ظالمون تتعدون الحلال إلى الحرام، و إلا فلو كنتم تريدون قضاء الوطر كانت أزواجكم حاضرة، و الإنسان المعتدي يكون هكذا، يضرب عن الحق الذي يكفيه الى الباطل، تجاوزا و اعتداء.

[168] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط عليه السّلام لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ و ذلك بأن لا تستمر في تبليغك و نصحك لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي نخرجك من بلادنا، كما في آية اخرى (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) «1».

______________________________

(1) الأعراف: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 73

[سورة الشعراء (26): الآيات 168 الى 173]

قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)

[169] قالَ لهم لوط عليه السّلام إِنِّي لِعَمَلِكُمْ هذا، و المراد به اللواط مِنَ الْقالِينَ يقال «قلى» أي كره و أبغض، أي فإني أعلمكم أني أكره و أبغض عملكم، فإن إظهار التنفر من الحرام، مرتبة من مراتب النهي عن المنكر.

[170] و لما استيأس منهم دعا اللّه سبحانه فقال، يا رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي أي و نجّ أهلي، و المراد بناته مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من عاقبة عملهم، أي العذاب الذي يحل بهم، أو المراد أن يبعده عنهم حتى لا يرى عملهم، فوضع «مما يعملون» مكان «منهم» لإفادة العلة في الدعاء.

[171] فَنَجَّيْناهُ أي نجينا لوطا وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ بأجمعهم

بحيث لم يبق منهم أحد.

[172] إِلَّا عَجُوزاً هي زوجته السيئة فِي الْغابِرِينَ كانت مع الباقين في المدينة ليأخذها العذاب معهم، فقد أمر لوط أن يسرى في المدينة بأهله ليلا، حتى لا يشمله العذاب الذي ينزل بالقوم.

[173] ثُمَ من بعد خروج لوط و آله عن القرية دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بالخسف و تقليب الأرض، بأن رفع أرضهم جبرائيل ثم قلبها.

[174] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً من الحجارة، و لعلّه كان قبل تقليبهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 74

[سورة الشعراء (26): الآيات 174 الى 178]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)

فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس مطر الحجارة الذي أمطر على الأشخاص الذين أنذروا فلم يقبلوا.

[175] إِنَّ فِي ذلِكَ البلاغ لهم لَآيَةً دالة على صدق لوط وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بلوط و ما جاء به من عند الله، أو المراد أن في ذلك التعذيب لهم لدلالة على مصير الكفّار، و لكن أكثر كفّار مكة لا يؤمنون و لا ينفع فيهم النذر.

[176] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ القاهر للكفّار الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[177] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هي الغيظة، مجتمع الشجر في مفيض ماء الْمُرْسَلِينَ و المراد به شعيب عليه السّلام، فقد أرسل إلى قبيلة «مدين» و لعلّ أنّ هناك بالقرب من مدينتهم كانت أيكة ذات أشجار فكانوا يعرفون بها، أو كما ورد أن شعيبا أرسل إلى أصحاب الأيكة، و إلى مدين.

[178] إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ قال بعض المفسرين: لم يقل «أخوهم شعيب» كالسياق السابق، لأنّ شعيبا لم يكن من قبيلتهم،

و إنما كان من قبيلة مدين أَ لا تَتَّقُونَ الله بإطاعة أوامره و اجتناب نواهيه؟

[179] إِنِّي لَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ من قبل الله سبحانه أَمِينٌ على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 75

[سورة الشعراء (26): الآيات 179 الى 183]

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)

أداء الرسالة.

[180] فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه في مخالفته وَ أَطِيعُونِ أي:

أطيعوني فيما أبلغكم.

[181] وَ ما أَسْئَلُكُمْ أيها القوم عَلَيْهِ أي على البلاغ و الإرشاد مِنْ أَجْرٍ أطلبه منكم إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري و جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه يتفضّل عليّ بالجزاء على تحمل المشاق، في سبيل التبليغ و الإرشاد.

[182] ثم أخذ ينبههم على العصيان الشائع بينهم، فقد كان من دأب الأنبياء- كما مرّ بنا جملة من ذلك- أن يركزوا اهتمامهم على نقطة الضعف في المجتمع أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أعطوا الكيل- في المعاملات- وافيا غير ناقص وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي ممن ينقص الكيل، و يدخل في الكيل جميع ما يحسب كالوزن و العدد و الزرع.

[183] وَ زِنُوا أمر من «وزن» حذف واوه بالإعلال، فالأمر منه «زن» و الواو عاطفة بِالْقِسْطاسِ أي الميزان الْمُسْتَقِيمِ العدل الذي لا حيف فيه، لا بالميزان الناقص.

[184] وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ البخس هو النقص فيما يجب على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 76

[سورة الشعراء (26): الآيات 184 الى 187]

وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَ ما أَنْتَ

إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)

الإنسان إعطائه، و المراد لا تعطوا للناس ناقصا، و إنما قال «أشياءهم» لأن المقدار المسروق لدى الكيل و الوزن، للغير و هو المشتري- مثلا- وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ أي لا تسعوا في الأرض بالفساد، فإن العثي أشد الفساد، و الإتيان بالمفسدين إما للتأكيد، و إما بمعنى عازمين الفساد قاصدين له.

[185] وَ اتَّقُوا أي خافوا الله الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خلق الْجِبِلَّةَ أي الخليقة الْأَوَّلِينَ فلا تخالفوا أوامره، و لا تأتوا بنواهيه.

[186] قالُوا في جواب شعيب إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ فقد سحروك مرة بعد مرة، حتى ذهب عقلك، فما دعواك النبوة إلا من جراء ذهاب عقلك و نقص إدراكك.

[187] وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في جميع المزايا فكيف تدّعي النبوة؟

وَ إِنْ مخففة من الثقيلة، أي أنّا نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فتكذب في دعواك النبوة، و المعنى أنّا نظنك كاذبا، في جملة من يكذب، و الإتيان بالظن، لعله لأن القوم أرادوا أن يظهروا أنفسهم بمظهر المنصف البري ء عن الكذب، حتى أنهم لا يقولون «نتيقن» بل «نظن».

[188] فإن كنت صادقا فيما تقول فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا، جمع كسفة بمعنى القطعة مِنَ السَّماءِ فإن النبي بيده أزمة الكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 77

[سورة الشعراء (26): الآيات 188 الى 190]

قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في ادعائك.

[189] قالَ شعيب عليه السّلام في جوابهم رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ فقد كان عليّ البلاغ، فعملت بما هو

تكليفي، أما أنتم- بعد ذلك- فحسابكم على من يعلم أعمالكم، و في هذا القول تهديد لهم، و تخويف من عذاب الله.

[190] فَكَذَّبُوهُ أخيرا، و لم ينجح فيهم الإرشاد و النصح فَأَخَذَهُمْ جزاء لتكذيبهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ سمي بذلك، لأنه جللتهم سحابة، و أظلتهم، و في المجمع: أصابهم حرّ شديد سبعة أيام و حبس عنهم الريح ثم غشيتهم سحابة فلما خرجوا إليها طلبا للبرد من شدة الحر الذي أصابهم، أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم فكان من أعظم الأيام في الدنيا عذابا «1»، ذلك إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف للعذاب، أو لليوم باعتبار علاقة الحال و المحل.

[191] إِنَّ فِي ذلِكَ العذاب لَآيَةً لكفار مكة وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ إذ لا يتدبرون الآيات، أو أن في بلاغ شعيب كان آية و لم يكن أكثر قومه مؤمنين به.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 350.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 78

[سورة الشعراء (26): الآيات 191 الى 196]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

[192] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر المنتقم من الأعداء الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

[193] وَ إِنَّهُ أي أن هذا القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ كما أنزل على من قبلك من الرسل.

[194] نَزَلَ بِهِ أي بالقرآن الرُّوحُ أي جبرائيل، و لعلّه إنما سمي روحا، لعدم وجود آثار الجسم فيه الْأَمِينُ في تبليغ الرسالة و الوحي.

[195] عَلى قَلْبِكَ يا رسول الله، و إنما جي ء بهذا اللفظ، لأن الشي ء يدخل القلب عن طريق الحواس لِتَكُونَ يا رسول الله مِنَ جملة الأنبياء الْمُنْذِرِينَ للكفار

و العصاة المنحرفين الذين لهم بأس الله و عذابه.

[196] و قد نزل بِلِسانٍ عَرَبِيٍ أي بلغة عربية هي لغة الجزيرة مُبِينٍ أي موضح للناس المعارف، أو ظاهر واضح، ليس فيه عجمة و غلط.

[197] وَ إِنَّهُ أي ذكر القرآن النازل عليك لَفِي زُبُرِ جمع زبور، و هو الكتاب، من «زبر» بمعنى كتب الْأَوَّلِينَ أي أن البشارة بالقرآن مذكورة في كتب الأنبياء السابقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 79

[سورة الشعراء (26): الآيات 197 الى 200]

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)

[198] أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار آيَةً و دليل على صدق القرآن، متصفة أَنْ يَعْلَمَهُ أي يعلم القرآن عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ

أليس التبشير بالقرآن موجودا في كتب بني إسرائيل حتى يعلموه و يصدقوا به؟ و في هذا تعريض بهم، أنهم كيف أنكروا و الحال أن الأدلة موجودة في كتبهم، و هي تدل على صدق القرآن.

[199] ثم سلا الله سبحانه نبيه بأن لا يغتم لإعراض هؤلاء فإنهم معاندون حتى لو أنزل الله القرآن على رجل أعجمي فقرأه عليهم لم يؤمنوا، لما في قلوبهم من الكبر و العناد وَ لَوْ نَزَّلْناهُ أي القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ جمع أعجم، و المراد به إما البهيمة، لأنها تسمى بالأعجم، و إما الرجل الأعجمي الذي لا يعرف التكلم بالعربية إطلاقا.

[200] فَقَرَأَهُ أي قرأ القرآن عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع ما في قراءة البهيمة أو الأعجمي من دلالة واضحة على أنه خارق، إن أناسا مثل هؤلاء معاندون، فلا يحزن الإنسان إذا

رأى إعراضهم عن الحق.

[201] كَذلِكَ الذي ذكر من أن القرآن بلسان عربي مبين سَلَكْناهُ و أدخلناه فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ العاصين حتى تتم عليهم الحجة و لكنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 80

[سورة الشعراء (26): الآيات 201 الى 206]

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205)

ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206)

[202] لا يُؤْمِنُونَ و لا يصدقون بِهِ بالقرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، بالموت، أو المراد عذاب الآخرة.

[203] فَيَأْتِيَهُمْ العذاب بَغْتَةً فجأة فلا مجال لهم للإيمان و العمل الصالح وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ لا يدركون وقت نزول العذاب.

[204] فَيَقُولُوا حينذاك في طلب و استعطاف هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي مؤخرون لنؤمن و نصدق و نعمل صالحا، لكنهم يجابون (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1».

[205] و قد كان الكفار يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب إن كان صادقا، فيأتي إليهم الاستفهام الإنكاري بقوله سبحانه أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي كيف يستعجل هؤلاء عذابنا؟ أ فلا يعلمون أن العذاب أليم شديد؟

[206] أَ فَرَأَيْتَ يا رسول الله إِنْ مَتَّعْناهُمْ في الدنيا سِنِينَ أي سنوات متعددة طويلة.

[207] ثُمَّ جاءَهُمْ لدى انقضاء مدتهم ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب.

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 81

[سورة الشعراء (26): الآيات 207 الى 211]

ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211)

[208] ما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي مدة متعتهم

و بقائهم في الحياة، و في هذا تنبيه على أنهم و إن أخّر عنهم العذاب لكن إذا أتاهم، لم يكونوا يأبهون بما متعوا به في الحياة، فإن النعيم إذا زال، كان كأن لم يكن، و لم تنفع تلك المدة الطويلة من التنعم في التخفيف من العذاب.

[209] وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ «من» لزيادة التعميم إِلَّا و لَها مُنْذِرُونَ فليخف هؤلاء أن يهلكهم الله سبحانه، إذ أرسلت إليهم النذر فلم يؤمنوا.

[210] فقد أرسلنا المنذرين ذِكْرى أي لأجل تذكرهم بفساد عقيدتهم و عصيانهم فلما أبوا الإطاعة أهلكناهم وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ لهم في عقابهم، بل لقوا جزاء كفرهم و ظلمهم.

[211] و قد كان المشركون يجعلون القرآن من قسم الكهانة التي تنزل بها الشياطين، فجاءت الآية في مقام ردّهم، إذ لو كانت كهانة لقدر على مثلها سائر الكهان وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ أي بالقرآن الشَّياطِينُ يقال تنزل به إذا نزل معه.

[212] وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ أي إنزال القرآن، إذ الشيطان يأمر بالفساد و الكفر و المنكر، فلا يلائمه الإصلاح و الإيمان و المعروف وَ ما يَسْتَطِيعُونَ لأنه خارج عن قدرة المخلوق، و الله سبحانه يحرس الإعجاز عن قدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 82

[سورة الشعراء (26): الآيات 212 الى 214]

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)

غيره تعالى، نعم يتمكن الشيطان أن يأتي بالخارقة المفضوحة كونها ليست آية، كما تفل مسيلمة في بئر- لينبع الماء- فجف.

[213] إِنَّهُمْ إن الشياطين عَنِ السَّمْعِ أي استماع القرآن و تلقيه من قبل الله سبحانه لَمَعْزُولُونَ فلا يتمكنون أن يتلقوه من الله ليأتوا به إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم بل الذي يسمعه هو جبرائيل، أو المراد أن الشيطان لا يسمح له باستماع ما في الملأ الأعلى، إذ يرصد هناك بالشهب، فكيف يتمكنون من تلقي القرآن و الإتيان به.

[214] و إذ قد تبين لك الحق فَلا تَدْعُ يا رسول الله، و لا بدع في توجه هذا الكلام إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن جميع الأوامر و النواهي متوجهة إليه بلا إشكال و في جملتها هذا النهي مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كما يفعله المشركون فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ أي تعذب بهذا العمل، و تكون في جملة من عذبوا.

[215] وَ أَنْذِرْ يا رسول الله عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ إليك، و إنما خصوا بالذكر، لأجل لزوم الاهتمام بالعشيرة أكثر من سائر الناس، فإنهم إن آمنوا كانوا عونا و مساعدين، و إن لم يؤمنوا كانوا أقوى الأعداء، و أشد الألداء،

و قد ورد أن هذه الآية نزلت بمكة فجمع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني هاشم و هم أربعون رجلا كل واحد منهم يأكل كثيرا و يشرب القربة فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنى القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا باسم الله، فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 83

[سورة الشعراء (26): الآيات 215 الى 218]

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)

ما سحركم به الرجل فسكت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ و لم يتكلم ثم دعاهم من

الغد على مثل ذلك الطعام و الشراب، ثم أنذرهم رسول الله فقال: يا بني عبد المطلب إني نذير إليكم من الله عز و جل و البشير فأسلموا و أطيعوني تهتدوا، ثم قال: من يؤازرني و يكون وصيي بعدي و خليفتي في أهلي و يقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا؟ كل ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ عليه السّلام أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت، فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب أطع ابنك، فقد أمّر عليك

«1».

[216] وَ اخْفِضْ جَناحَكَ أصل خفض الجناح، أن يسفل الطائر جناحه أمام والديه تواضعا و استعطافا. ثم استعمل بمعنى التواضع و اللين و حسن الخلق لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فتواضع لهم، و ألن جانبك نحوهم.

[217] فَإِنْ عَصَوْكَ أي خالفوك أقاربك و لم يؤمنوا فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة الأصنام و إتيانكم لسائر المعاصي و الآثام.

[218] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله، أي فوض أمرك عَلَى الْعَزِيزِ الغالب بعزته على الكفار الرَّحِيمِ بالمؤمنين، فلا يهونك إعراض قومك و عشيرتك عن الإيمان.

[219] الَّذِي يَراكَ أي يحيط علمه بك، أو ينظر إليك حِينَ تَقُومُ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 38 ص 220.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 84

[سورة الشعراء (26): الآيات 219 الى 222]

وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)

بالدعوة و تصدع بالبلاغ، فإنك على عينه، و من رعته عين الله سبحانه لا بد و أن ينجح في مرامه.

[220] وَ يرى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ أي تصرفك بالذهاب و المجي ء، و التنظيم و التحريض و التعليم في جماعة المؤمنين الذين يسجدون لله، و أتى بالسجود لأنه

غاية الخضوع، و هو من سمات المؤمنين، و

قد روي في تفسير هذه الآية عن الباقر عليه السّلام

الذي يراك حتى تقوم بالنبوة و تقلبك في الساجدين أي في أصلاب النبيين

«1».

و

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام قالا: في أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السّلام

«2».

[221] إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لأقوالك الْعَلِيمُ بأحوالك فتوكل عليه يكفيك كل مهمة.

[222] و حيث نفى سبحانه أن ينزل على الرسول الشيطان، أراد إثبات ذلك بالنسبة إلى الكفار المفترين عليه هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي هل أخبركم أيها الناس عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ للوسوسة و إلقاء الباطل.

[223] تَنَزَّلُ أصله «تتنزل» حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب المضارع إذا اجتمع عليه تاءان عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ مبالغة من الإفك، و هو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 229.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 203.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 85

[سورة الشعراء (26): الآيات 223 الى 225]

يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)

الكذب، أي كل إنسان يكذب كثيرا أَثِيمٍ آثم آت بالمعصية.

[224] يُلْقُونَ السَّمْعَ أي أن الشياطين يلقون ما يسمعونه من هنا و هناك إلى الكهنة و الأفاكين وَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الشياطين كاذِبُونَ لأنهم يكذبون عمدا، بالإضافة إلى أنهم يتلقون كلما وصل إليهم من صدق الأخبار و كذبها، فمثلا يسمع الشيطان من قصّاص في الروم قصة حول خلقة آدم، فيلقيها على الكاهن، و هكذا.

[225] و قد كان بعض الكفار يرمون الرسول بأنه شاعر، و لما أبطل السياق كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كاهنا- كما كان يقول

بعض- جاء لإبطال كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعرا وَ الرسول ليس بشاعر إذ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ من غوى بمعنى ضل، أي أن المنحرفين هم الذين يتبعون الشعراء، و لا يتبع الرسول إلا كل مؤمن مهتدي، فكيف يمكن أن يقال عنه: إنه شاعر؟

و هذا أبلغ من أن يقال: إن الشعراء أهل الغواية و الفساد و الهوى، إذ تبعية الغاوي لأحد، يدل على شدة الغواية في المتبوع.

[226] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الرؤية أَنَّهُمْ أي الشعراء فِي كُلِّ وادٍ أي في كل طريق من طرق الضلال و الهوى و الفسق و الفحش يَهِيمُونَ أي يذهبون هائمين، كالهائم الحيران في الصحراء الذي لا يعلم أين يذهب و ماذا يريد؟ و هكذا الشعراء، فمرة يمدحون، و مرة يذمون، و مرة يشببون، و مرة يكذبون في بطولاتهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 86

[سورة الشعراء (26): الآيات 226 الى 227]

وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

و فسقهم و مجونهم و هكذا.

[227] وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ حول بطولات و فسوق و ترغيب و تحريض و تنقير و إنذار ما لا يَفْعَلُونَ من تلك الأمور التي ينسبونها إلى أنفسهم، و الرسول بالعكس من ذلك كله فهو يمشي وفق منهج مستقيم ذي فضيلة و عدل و إحسان، و إنه لا يكذب و إنما يفعل ما يؤمر به، و ينتهي عما يزجر عنه.

[228] ثم استثنى سبحانه عن هذا العموم الشاعر الذي ليس كذلك، فإن الشعر ليس مذموما لذاته، و إنما هو مذموم

لهذه الاعتبارات المذكورة في الآية السابقة، و لذا قال سبحانه إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الشعراء وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً حتى لم يشغلهم الشعر إلى نسيان الله سبحانه، حتى يكذبوا و يفعلوا ما لا يليق بالمؤمنين وَ انْتَصَرُوا من المشركين، للرسول و المؤمنين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي ظلمهم الكفار بسبهم و هجائهم في الشعر و نحوه وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا عند الموت، أو في القيامة أَيَّ مُنْقَلَبٍ أي مرجع و يسمى المرجع و المصير المنقلب، لانقلاب الإنسان من حاله إلى ذلك المحل يَنْقَلِبُونَ و يصيرون إليه، و هذا تهديد لهم، و لذا كان أمير المؤمنين عليه السّلام و كثير من أولاد المعصومين عليهم السّلام يقولون الشعر، كما وردت بذلك متواتر الروايات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 87

27 سورة النمل مكيّة/ آياتها (94)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «النمل» و قصة منهم، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، و إذ كان موضوع القرآن، من أخريات مواضيع سورة الشعراء، افتتحت هذه السورة بذكر القرآن.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أستعين، أو نستعين باسم الإله، و تخصيص «الله» بالذكر، بأنه علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال، و ما أجدر أن يجعله الإنسان أول عمله، و أن يستعين به في أموره، فإنه هو الرحمن الرحيم، المتفضل بالرحم، و قد ذكر أهل المعنى أن التكرار في ذكر اسم من أسماء الله سبحانه، ليستعطف فضله في توصفه الإنسان بذلك القبيل من الوصف، فالمكرر لاسم «الغنيّ» يثرى، و لاسم العطوف يعطف، و هكذا، و هذا صحيح فإن علم النفس يقر إن للتكرار إيحاء على النفس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 88

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس

تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)

[2] طس «طاء» و «سين» و هما نموذج من حروف الهجاء تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ ف «طس» مبتدأ، و «تلك» خبره، و هذا أحد الأقوال في المسألة، أو هي رموز بين الله و بين خاتم الأنبياء، كما ورد على قول آخر، أو غير ذلك مما تقدمت الإشارة إلى بعضها وَ كِتابٍ مُبِينٍ أي واضح ظاهر لا غموض فيه و لا التواء، و إنما أتى بوصفين للدلالة على أنه يقرأ و يكتب، و لعلّه إشارة إلى لزوم الاحتفاء بالقرآن من جميع النواحي، فإنه للكتابة و القراءة.

[3] هُدىً أي في حال كونه هداية إلى طريق الحق وَ بُشْرى أي بشارة بالثواب و السعادة لِلْمُؤْمِنِينَ به فإنهم هم الهادون المبشرون أما غيرهم فإنهم ضالون منذرون.

[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بإتيانها في أوقاتها مع شرائطها و آدابها و يداومون عليها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعطونها، و المراد الزكاة المستحبة أي الصلاة و الصدقات، لأن السورة مكية و لم تفرض هناك الزكاة، أو المراد الأعم باعتبار التشريع مستقبلا وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالنشأة الآخرة من سؤال القبر و البعث و الجزاء و غيرها هُمْ يُوقِنُونَ أي لا يشكون، فهم معترفون بالمعاد، و تكرار «هم» لعلّه لإفادة أن غير مقيم الصلاة و مؤتي الزكاة لا يوقن بالآخرة، و إن اعترف لسانا بها.

[5] إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و أعرضوا عن قبول الإيمان، فإن الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 89

[سورة النمل (27): الآيات 5 الى 6]

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ

الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

بالآخرة يلازم الإيمان بسائر أصول الاعتقاد زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ بأن جعلنا الإنسان بحيث إذا تكرر منه شي ء زيّن في نظره للملكة الحاصلة له من التكرار، فإنهم لما وقفوا في الصف المقابل للمؤمنين و عملوا بالكفر و المعاصي و تمادوا فيها، حصلت لهم ملكة حسب أعمالهم تدريجيا، حتى ترسخت الرغبة قلوبهم، و من المعلوم أنّ اللّه خلق البشر هكذا، فيصبح نسبة التزيين إليه تعالى، باعتبار أنه الخالق و السبب الأول، أو باعتبار عدم الضرب على أيديهم، كما يقال أفسد الملك اللص الفلاني، بمعنى أنّه لم يضرب على يده و لم ينتقم منه، و من المعلوم أن التزين لأعمالهم في نظرهم لا ينافي أنهم يعلمون بطلان طريقتهم، كما نشاهد الفساق المنصفين يعترفون بأن أعمالهم باطلة، مع أن العمل مزين في نظرهم، حتى لا يتمكنون بسهولة من مفارقتها فَهُمْ يَعْمَهُونَ العمه عمى القلب، أي يمشون في المعاصي، كما يمشي الإنسان الأعمى في الطريق، لا يهتدي سبيلا.

[6] أُوْلئِكَ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالآخرة لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي العذاب السيئ و هو عذاب النار وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ أي في الدار الآخرة هُمُ الْأَخْسَرُونَ إذ لم يربحوا شيئا و قد خسروا أنفسهم، حيث ألقوها في العذاب و النار الأبدية، و المراد ب «الأخسر» إما التفضيل باعتبار أنهم أكثر خسارة من العصاة، و إما منسلخ عن معنى التفضيل في مقابل أهل الجنة، فالمعنى هم الخاسرون.

[7] وَ إِنَّكَ يا رسول الله، لست كما يقولون إن قرآنك شعر أو كهانة، بل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 90

[سورة النمل (27): آية 7]

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً

سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)

لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي لتعطى القرآن، و التلقي الأخذ مِنْ لَدُنْ أي من طرف إله حَكِيمٍ في أمره يفعل الأشياء حسب المصالح و يضع الأمور في مواضعها عَلِيمٍ عالم بالأشياء، و لا تلازم بين الوصفين خارجا، و لذا جي ء بهما، إذ رب عالم لا حكمة له، أو رب حكيم لا علم له.

[8] ثم يأتي السياق لينقل طرفا من قصة موسى عليه السّلام تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنبيها للكفّار على عاقبة المجرمين، و قد تكررت هذه القصة في القرآن الحكيم، لكن بمزايا و خصوصيات و ملامح مختلفة، فاذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي زوجته بنت شعيب لما رجع من بلاده يقصد مصر، و قد كان وحيدا في الصحراء في ليلة مظلمة، و أخذ زوجته الطلق، و ضل الطريق إِنِّي آنَسْتُ أي أبصرت، ما يؤنس و يفرح فقد رأيت ناراً فقد رأى من بعيد ما يشبه النار في شجرة سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ فالزموا مكانكم، حتى أذهب و أجي ء بخبر النار هل يمكن الاستفادة منها أم لا؟ و إنها لمن؟ لعلنا نتمكن أن نذهب إلى أصحابها ليعاونونا في مشكلتنا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة منها، و الشهاب قطعة منها و قبس بمعنى الشي ء الذي يؤخذ و يقتبس لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ و الاصطلاء الاستدفاء بالنار، من صلّى، و أصله «اصتلى» بالتاء، قلبت «طاء» على قاعدة باب التفعيل و إنما أتى بالضمائر جمعا، مع أن المراد زوجته فقط، إما تعظيما، أو لما سبق،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 91

[سورة النمل (27): الآيات 8 الى 9]

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ

مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

من أن كلا من الجمع و الجنس يقوم مقام الآخر، فيراد من الجمع الواحد فما فوق، و من الجنس، الجمع.

[9] فَلَمَّا جاءَها أي جاء موسى عليه السّلام نحو النار و وصل إليها نُودِيَ من قبل الله سبحانه، و المنادي إما هو الله سبحانه، بأن خلق صوتا سمعه موسى عليه السّلام، أو بعض الملائكة بإذنه سبحانه أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها و لم يكن ما رآه موسى عليه السّلام نارا، و إنما هو نور يتراءى كالنار، و الذين كانوا فيها هم الملائكة و الأرواح الطاهرة، و الذين كانوا حولها هم موسى و الملائكة الحافين بها و به عليه السّلام، و المراد بالبركة هي الخير الكثير، و المعنى أن موسى و الملائكة أنعموا- بتفضيل الله لهم- و منحوا الخير الكثير الدائم، و لعلّ ظهور النار لأجل الإشارة إلى الهداية، فكما يهدي الضياء الحائر إلى الطريق، كذلك تهدي الرسالة الناس إلى السعادة، و الظاهر أن قوله «أن بورك» دعاء بهذا اللفظ، و هو تبريك بالرسالة، كما يبارك الإنسان من يظفر بمنصب أو نعمة وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ سبحان منصوب على تقدير فعل محذوف أي أسبح و أنزه الله تنزيها، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، لإفادة أن أول الإيمان هو تنزيه الله من الشرك، أو لأجل دفع أن يتوهم أن الله جسم موجود في تلك النار، و هو الذي يتكلم بفمه و لسانه.

[10] يا مُوسى إِنَّهُ أي المتكلم أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه القاهر لأعدائه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء بالحكمة و الصلاح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص:

92

[سورة النمل (27): الآيات 10 الى 11]

وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)

[11] وَ أَلْقِ أي اطرح من يدك عَصاكَ فلقد كانت في يده عليه السّلام عصا، فألقاها فصارت حية فَلَمَّا رَآها موسى عليه السّلام، و إتيان الضمير مؤنثا، لكون العصي مؤنث سماعي تَهْتَزُّ أي تتحرك بشدة، كَأَنَّها جَانٌ و هي الحية الصغيرة، و المراد أنها في خفة حركتها- مع عظم جثتها- كالحيّة الصغيرة التي تتحرك بكل سرعة و خفّة وَلَّى موسى عليه السّلام مُدْبِراً فجعل يركض إلى الوراء خوفا منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع و لم يلتفت، فكأنّ الراجع و الملتفت يعقب الأمر السابق، بخلاف الماشي في طريقه الذي لا يلتفت، و لعلّ إلقاء هذا الخوف في قلب موسى عليه السّلام كان لحكمة التدريب على تحمل المشاق فإن الإنسان ينضج بسبب المخاوف و الأتعاب، فيكون أصلح لإدارة دفة الحياة.

و هناك خوطب بقوله سبحانه يا مُوسى لا تَخَفْ من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ فإنهم بعين الله سبحانه، و معنى «لديّ» لدى لطفي بهم و عنايتي لهم و هذا الكلام كان تمهيدا لتقوية قلب موسى حتى يلاقي المكذبين و المهددين برباطة جأش و قلب قويّ غير و جل.

[12] إِلَّا مَنْ ظَلَمَ استثناء منقطع، و قد ذكرنا أن مثل هذا الاستثناء إنما يؤتى به بملاحظة انسلاخ المستثنى منه عن القيد، فكأنه قال «إني لا يخاف لدي أحد» «إلّا من ظلم» «أما المرسلون فلا يخافون» ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي تاب- و هو حسن-

بعد العصيان- و هو سوء-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 93

[سورة النمل (27): آية 12]

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)

فإنه يخاف أن لا يغفر ذنبه، و خصص الخوف بهؤلاء، لأن من لم يسي ء، و من أساء و لم يتب، لا يخافان فإن الأول لا موجب لخوفه، و الثاني لا يعترف و إلّا تاب، و غير المعترف لا يخاف، و في الكلام انتقال من الخوف من الأسباب الخارجية- كالحيّة- إلى الخوف من عذاب الله و انتقامه و من تاب بعد العصيان فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أغفر ذنبه، و أتفضل عليه و هو فوق الغفران، فإنك قد تغفر للمذنب ثم تعطيه فوق ذلك دينارا، و كان هذا الكلام «إلا من ظلم ... إلى آخره» تمهيد لحال الكفار و العصاة الذين يرسل إليهم موسى عليه السّلام و تعليم لموسى بأنّ الله غفّار لمن تاب.

[13] وَ أَدْخِلْ يا موسى يَدَكَ فِي جَيْبِكَ و هو شق الثوب الأعلى طرف الحلق، فكان يدخل يده من الشق، و يجعلها تحت إبطه تَخْرُجْ اليد حين تخرجها بَيْضاءَ مشرقة كالشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير أن يكون البياض من أجل المرض و البرص، و هي آية أخرى زوّد بها موسى عليه السّلام حجة على نبوته فِي تِسْعِ آياتٍ أي إنا أرسلناك في تسع معجزات، و الإتيان ب «في» لتشبيه الإنسان الحائز لها، بالّذي في وسط الشي ء، لأنها تحيط بها و تحرسها و كأنّها مشتملة عليه كما يقال جاء فلان في جلالة إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ القبط الكافرين بالله و باليوم الآخر إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن

طاعة الله سبحانه، و أمره، من فسق بمعنى خرج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 94

[سورة النمل (27): الآيات 13 الى 14]

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

[14] فذهب موسى إلى فرعون بتلك الآيات، و أظهرها له فَلَمَّا جاءَتْهُمْ أي جاءت فرعون و قومه آياتُنا معاجزنا التي زودنا بها موسى عليه السّلام مُبْصِرَةً أي في حال كون تلك الآيات تبصّر عن العمى، و تهدي السبيل قالُوا هذا الذي جئت به يا موسى سِحْرٌ مُبِينٌ واضح ظاهر، فليس ما جئت به إعجازا، و إنما هو سحر.

[15] وَ جَحَدُوا أي أنكر آل فرعون بِها أي بالآيات و الباء في «بها» من قبيل «الباء» في (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) «1» كما تقدم في تفسير الآية وَ اسْتَيْقَنَتْها أي علموا أنها معاجز علم يقين أَنْفُسُهُمْ فاعل استيقنتها أي تيقنت نفوسهم بالآيات، و إنما جي ء بلفظ «أنفسهم» للدلالة على رسوخ اليقين و الاطمئنان في النفوس، و إنّما جحدوا بعد اليقين ظُلْماً على أنفسهم بالكفر، و على بني إسرائيل الذين اضطهدوهم وَ عُلُوًّا أي طلبا للعلو و الرفعة و تكبرا فَانْظُرْ يا رسول الله، أو كل من يتأتّى منه الرؤية، و المراد رؤية القلب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي فرعون و قومه الذين أفسدوا بالكفر و العصيان فقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله سبحانه في البحر، حتى لم تبق منهم باقية، و أورث أرض مصر بني إسرائيل، و جعل كلمته هي العليا، و كلمة الذين كفروا السفلى.

______________________________

(1) الفرقان: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 95

[سورة النمل (27): الآيات 15 الى 16]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ

عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)

[16] ثم يأتي السياق لبيان قصة داود و سليمان و هما من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، و إذ شاهدنا بعض قصص موسى فلنشاهد بعض قصص هذين النبيين العظيمين، مع الارتباط لما ذكر هنا بموضوع العقيدة ارتباطا وثيقا وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود عليهما السّلام عِلْماً أي علما عظيما، و من جملة علومهم كان علم الحكومة و الفصل في القضايا وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالرسالة و العلم و سائر الأمور عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ و إنما قالوا «على كثير» لأن جملة من عباد الله المؤمنين- و هم جماعة من الأنبياء- مساوون لهما أو أفضل منهما.

[17] وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ في الأمور المعنوية و المادية، و بهذه الآية استدلت الصديقة الطاهرة عليها السّلام، على أن الأنبياء عليهم السّلام يورثون في مقابل

الحديث المختلف الذي نسبوه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذبا و زورا ب «إنا 2 معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»

وَ قالَ سليمان عليه السّلام على وجه الشكر و الاعلام يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي نطقها، فإن الطيور تتكلم بعضها مع بعض، و قد منح الله سبحانه فهم نطقها لسليمان عليه السّلام و المنطق مصدر ميمي بمعنى النطق وَ أُوتِينا أي أعطينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ ما يحتاج إليه الأنبياء عليهم السّلام و الملوك، من العلم و القدرة و المال و الجاه

و غيرها إِنَّ هذا الذي منحنا الله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 96

[سورة النمل (27): الآيات 17 الى 19]

وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الظاهر الذي تفضل علينا به.

[18] وَ حُشِرَ أي جمع لِسُلَيْمانَ عليه السّلام، في ذات يوم جُنُودُهُ فقد أحضر الجميع بخدمته مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فقد كان الجميع مسخرين له بأمر الله سبحانه و قدرته فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يمنعون، و يحبس أولهم عن المضي ليلحقه الأخير من الجيش فيجتمعون، من وزع بمعنى منع، يقال ليس لفلان وازع، أي مانع يمنعه عن العمل الفاسد.

[19] حَتَّى إِذا أَتَوْا سليمان مع الجنود عَلى وادِ النَّمْلِ إضافة إلى النمل لكثرة النمل في ذلك الوادي قالَتْ نَمْلَةٌ و التاء للوحدة كتمرة و تمر، و شجرة و شجر يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ و جحوركم لا يَحْطِمَنَّكُمْ التحطيم التكسير و التهشيم أي لا يكسرنكم و لا يدوسكم بالأقدام سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و لا يلتفتون إلى تحطمكم فإن الإنسان لا يبالي بتحطيم النمل و صغار الحيوان، و يظهر من هذا أنهم كانوا ركبانا و مشاة، لا محمولين على الريح في الهواء.

[20] و شاء الله سبحانه أن يسمع سليمان كلام النملة فَتَبَسَّمَ سليمان ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها التبسم هو مقدمة الضحك، فإنه

ضحك خفيف، و الإتيان بضاحكا، لإفادة أنه عليه السّلام ضحك ضحكا كثيرا لكن على نحو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 97

[سورة النمل (27): آية 20]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)

التبسم لا على نحو القهقهة، و إنما ضحك عليه السّلام أن الإنسان إذا سمع أو رأى ما لا عهد له به أخذه التعجب ثم الضحك، ثم توجه إلى الله سبحانه شاكرا لهذه النعمة التي أنعمها عليه بتعريفه منطق الحيوانات وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني من وزع بمعنى كفّ و المعنى اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفّه و امنعه أن يذهب عني فلا أنفك عنه أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ و المراد بالنعمة الجنس فإن سماع كلام النملة ذكّره بنعم الله عليه، كما إن الإنسان إذا رأى نعمة تذكر سائر النعم وَ عَلى والِدَيَ فقد أكرمت أبي بالنبوة و الحكمة و فصل الخطاب و أن الحديد كان يلان في يده و أكرمت أمي بأن جعلتها زوجة نبي و والدة نبي بما كان لها من الطهارة و النزاهة وَ ألهمني أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد به الجنس، نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة، و السرّ في ذلك أن لفظ المفرد له جهتان جهة المادة و جهة الأفراد، فقد يراد الأولى فيفيد الجنس، و قد يراد الثانية مع الأولى فيفيد الفرد تَرْضاهُ بأن يكون صلاحه من هذا النوع الذي أنت ترضاه، لا صلاحا- بنظر الناس- و لكنك لا ترضاه وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ يا رب فِي عِبادِكَ أي في جملة الصَّالِحِينَ بأن أكون في جملتهم في الدنيا و الآخرة.

[21] ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى من قصص

سليمان عليه السّلام وَ في ذات يوم تَفَقَّدَ سليمان عليه السّلام الطَّيْرَ أي تعرّف على أحوال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 98

[سورة النمل (27): الآيات 21 الى 22]

لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)

الطيور ليرى أيها حاضر و أيها مفقود، فلم يجد الهدهد من بينها فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أي ما للهدهد لا أراه، و كان هذا تعبير مؤدّب، حتى كأن الإنسان أصابه شي ء- كغفلة أو ذهول أو جهل- حتى لا يرى ما يطلبه، و إن كان المطلوب حاضرا أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ فهو غائب حتى لم أره، و المعنى أني لا أراه مع حضوره، أم إنه غائب و لذا لا أراه؟

[22] لَأُعَذِّبَنَّهُ أي أعذبن الهدهد عَذاباً شَدِيداً كنتف ريشة أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ جزاء لغيبته بدون رخصة، فيعتبر بذلك أبناء جنسه أَوْ لَيَأْتِيَنِّي أي يجي ء إليّ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة ظاهرة تبين عذره في غيبته بدون رخصة، و إنما تسمى الحجة، سلطانا، لأنها تسيطر على الخصم فلا مفلت له منها.

[23] فَمَكَثَ أي لبث سليمان مكثا غَيْرَ بَعِيدٍ في المدة، أي انتظر زمانا يسيرا قليلا، و قد رأى الهدهد راجعا، فَقالَ لسليمان أَحَطْتُ أي علمت، و يقال للعلم إحاطة، لأنه يحيط بالمعلوم، و نسبة الإحاطة إلى الشخص من باب علاقة الحال و المحل، إذ الإنسان وعاء العلم بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أنت يا سليمان، و كأنّه أراد بذلك أن يبدي عذره في غيبته و أنه لم يشتغل بأمر نفسه، و إنما كانت غيبته لأجل الفحص و البحث في أطراف ملك سليمان، كجولة استطلاعية يريد

بها خير سليمان عليه السّلام لا خير نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 99

[سورة النمل (27): الآيات 23 الى 25]

إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25)

وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ و هي مدينة في اليمن، سميت باسم رجل كان يسمى «سبأ» لسكونة أولاده فيها «بنبإ» أي بخبر- متعلق ب «جئتك» يَقِينٍ لا كذب فيه.

[24] إِنِّي وَجَدْتُ في ذلك البلد امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي أنها ملكة عليهم، و مراده بالمرأة «بلقيس» و معنى تملكهم تتصرف فيهم تصرف الملّاك في أملاكهم وَ أُوتِيَتْ أي أعطيت مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الملوك، من المال و الجلال و الجاه و نفوذ الكلمة و ما أشبهها وَ لَها عَرْشٌ أي كرسي تجلس عليه عَظِيمٌ و بعد ما ذكر الهدهد ملكها بين دينها.

[25] قال وَجَدْتُها وَ قَوْمَها أي أتباعها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا يسجدون لله سبحانه، و إنما سجدتهم للشمس وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حيث أن الشيطان هو الذي يوحي و يوسوس إلى الكفار و العصاة بكفرهم و عصيانهم فَصَدَّهُمْ أي منعهم عَنِ السَّبِيلِ الحق، و هو سبيل الدين، و سبيل الله سبحانه فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ إلى السبيل حيث إن الشيطان منعهم عنه.

[26] فقد منعهم عن السبيل لكي أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 149

[سورة النمل (27): الآيات 26 الى 28]

اللَّهُ لا

إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28)

أي المخفي من الأشياء فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن المخلوقات كلها مخفية في كتم العدم و إنما يخرجها الله سبحانه إلى الوجود، و لعلّ توصيف الهدهد، لله سبحانه بهذا الوصف، لأجل أنه سبحانه زوده بنظر حادّ يرى به الماء تحت الأرض كما يرى الإنسان الماء في القارورة وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ في أنفسكم، و في أسراركم، و من مخابئ في الأرض وَ ما تُعْلِنُونَ من الكلام و من سائر الأشياء.

[27] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له، من شمس أو غيرها رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أي الملك العظيم، الذي وسع كرسيّه السماوات و الأرض، فما ذكرته من كون عرش بلقيس عظيم، إنما هو عظيم بالنسبة إلى عروش الدنيا، أما العرش العظيم الذي هو أعظم من كل شي ء فهو عرش الله سبحانه، و قد يحتمل أن يكون هذا من كلام سليمان، أو من كلامه تعالى في القرآن.

[28] و لما أخبر الهدهد سليمان عليه السّلام بهذا الخبر قالَ سليمان سَنَنْظُرُ في قولك و نبحث عن خبرك لنرى أَ صَدَقْتَ في مقالك أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي في جملتهم و منهم.

[29] ثم كتب سليمان عليه السّلام كتابا يأمر فيه بلقيس بالإيمان و بأن تسافر إليه و أعطاه إلى الهدهد ليوصله إليها و قال له اذْهَبْ يا هدهد بِكِتابِي هذا الذي كتبته فَأَلْقِهْ أي اطرحه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 101

[سورة النمل (27): الآيات 29 الى 32]

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ

وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)

إِلَيْهِمْ أي إلى أهل سبأ، و المراد إلى الملكة و قومها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض كأنك راجع، و استتر في محل تسمع كلامهم فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ أي ماذا يردون في جواب الكتاب، و يقولون بينهم عنه؟

[30] فمضى الهدهد بالكتاب و ألقاه في مجلس بلقيس، فأخذته و فضته و قرأته ثم قالَتْ لمن حضرها من الوزراء و الأشراف يا أَيُّهَا الْمَلَأُ و يسمى الأشراف ملأ لأنهم يملئون العيون جلالا و الصدور هيبة إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ أي رفيع، فإن الكتاب الرفيع يكرم و يحترم.

[31] إِنَّهُ أي الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ النبي وَ إِنَّهُ أي الشي ء المكتوب فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[32] أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ هاتان الجملتان كانتا كل ما في الكتاب الذي أرسله سليمان إلى بلقيس، و معناها، آمركم أن لا تظهروا الكبر و العلو عليّ، بعدم إطاعة أمري، و آمركم أن تسيروا- أي الملكة و من في حاشيتها- نحوي في حال كونكم مسلمين منقادين لي، أو مسلمين لله تعالى.

[33] و لما قرأت بلقيس الكتاب عليهم قالَتْ للأشراف و الوزراء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 102

[سورة النمل (27): الآيات 33 الى 34]

قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الجماعة أَفْتُونِي أي أشيروا عليّ فِي أَمْرِي أي الأمر المرتبط بي من التسليم لسليمان أو الحرب معه،

و الفتوى الحكم بالصواب أي احكموا بالصواب في هذه القضية ما كُنْتُ أنا قاطِعَةً أَمْراً أجزم فيه برأيي وحدي حَتَّى تَشْهَدُونِ أي تحضرون و تشيرون فعن رأيكم و مشورتكم أمضى في الأمر.

[34] قالُوا في جوابها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي أصحاب قوة و قدرة و سلاح و جيش وَ أُولُوا بَأْسٍ أي شجاعة شَدِيدٍ لا يغالبنا أحد فإن شئت أن لا تسلمي حاربنا و إن شئت أن تسلمي صالحنا وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ أي مفوض إليك في القتال و عدمه فَانْظُرِي و فكري في أمرك ما ذا تَأْمُرِينَ أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله؟

[35] قالَتْ في جوابهم، إن الأصلح أن لا نحاربهم، فإنا إذا حاربناهم و غلبوا علينا أذلّونا ف إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أي مدينة، و المراد دخلوها بالعنوة و الغلبة أَفْسَدُوها بالإهلاك و التدمير و السلب و النهب وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أهانوا أشرافها و كبراءها، لأن الأشراف لا يخضعون لهم، فلا بدّ لهم أن يذلوهم حتى يستقيم لهم الأمر وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ الظاهر إن هذا من تتمة كلام بلقيس، فإن الإنسان غالبا يؤكد الكلام بالتصديق الإجمالي، فإنك بعد أن تقص قصة تقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 103

[سورة النمل (27): الآيات 35 الى 36]

وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)

«هكذا كان» و بعد أن تأمر أمرا «هكذا فأفعل».

و قد أراد بعض الذين بهرتهم الديمقراطية الغربية أن يطبق هذه الآية عليها، بتقريب أن اللازم أن يكون للرئيس مجلس يراجعهم في شؤون الدول، و هم يظهرون ما لديهم من قوة و

مال و فكر و يكون المرجع الأخير هو الرئيس، و لكن لا ربط لهذه الآية بذلك، إذ إنما استشارت بلقيس الوزراء و الأشراف، و هذا هو المعتاد في كل حكومة ملكية و إن لم يكن لهم مجلس و برلمان بالإضافة إلى ذلك حكاية عن عمل جماعة من عبّاد الشمس الكافرين، و لا يدل على تقرير الله لهم.

[36] وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ أي إلى سليمان و قومه بِهَدِيَّةٍ لأصانعهم و أليّن جانبهم حتى لا يطمعوا في ملكي فَناظِرَةٌ أي أنظر و أنتظر بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أي بقبول أو ردّ- من جانب سليمان- يرجعون رسلي الذين أرسلهم مع الهدية.

[37] ثم أرسلت رسولا بهدية فَلَمَّا جاءَ الرسول سُلَيْمانَ عليه السّلام قالَ سليمان للرسول أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ على نحو الاستفهام الإنكاري؟ فإني لا أحتاج إلى مالكم، و «تمدون» جمع المخاطب من فعل المضارع، من باب الأفعال و الهمزة للاستفهام و النون الثانية للوقاية، و قد حذفت ياء المتكلم تخفيفا فَما آتانِيَ اللَّهُ أي أعطانيه من أنواع النبوة و الملك و الجاه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي أعطاكم من أموال الدنيا بَلْ أَنْتُمْ أي من لا حظ له كحظي بِهَدِيَّتِكُمْ أي هدية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 104

[سورة النمل (27): الآيات 37 الى 39]

ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)

بعضكم إلى بعض تَفْرَحُونَ أما مثلي فلا يفرح بالهدية.

[38] ارْجِعْ أيها الرسول إِلَيْهِمْ إلى بلقيس و قومها فقل لهم إن لم يسلموا فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ

بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طاقة لهم و لا قدرة لهم على دفعها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من مدينتهم، إن بقوا مصرين على الكفر أَذِلَّةً جمع ذليل، أي في حال كونهم أذلاء وَ هُمْ صاغِرُونَ أي صغيروا القدر.

[39] و رجع الرسول إلى بلقيس يخبرها بأمر سليمان عليه السّلام، و قد ذكر لها علائم كونه نبيّا، لا ملكا فقط و لذا تجهزت بلقيس للمسير إليه حسب أمره «و أتوني مسلمين»، و أخبر سليمان بأنها خرجت من اليمن مستعدة للسفر إليه حينذاك قالَ سليمان عليه السّلام يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا لمن حضر عنده من الأشراف و العظماء أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أي كرسي بلقيس، فلقد كان لها كرسي عظيم تجلس عليه قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي أي تأتي بلقيس و أشراف قومها إليّ، لأنها سافرت في عدّتها مُسْلِمِينَ أي في حال كونهم مسلمين، و لعلّ وجه طلب سليمان عرشها أنه أراد أن يريها مقدرته على مثل ذلك الأمر الخارق، حتى تذعن بنبوته، و تصدق دعوته، فكان من قبيل معاجز الأنبياء لإثبات الرسالة.

[40] قالَ في جواب سليمان عليه السّلام عِفْرِيتٌ أي قوّي مِنَ الْجِنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 105

[سورة النمل (27): آية 40]

قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

الذين كانوا بحضرة سليمان أَنَا آتِيكَ بِهِ أي أجي ء إليك بالعرش قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي مجلسك، فإنه من الطبيعي أن يمتد جلوس الملوك إلى وقت الظهر ثم يقومون من محلهم للصلاة و الراحة و

الغذاء- مثلا-.

و لقد كان ذلك العفريت يريد أن يطير فيأتي بالعرش بالطريق العادي لدى الجن وَ إِنِّي عَلَيْهِ أي على إتيان العرش لَقَوِيٌ قادر على حمله أَمِينٌ آتيك به بدون خيانة.

[41] قال سليمان عليه السّلام أريد أسرع من ذلك قالَ آصف بن برخيا و كان وزير سليمان و ابن أخته و يعرف الاسم الأعظم لله سبحانه الذي إذا دعا به أجاب الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و المراد الكتاب المخزون المكنون عند الله سبحانه، الذي لا يطلع عليه إلا من شاء من الأنبياء و الأئمة و الصالحين أَنَا آتِيكَ بِهِ بالطلب من الله سبحانه باسمه الأعظم قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ارتداد الطرف رجوعه بعد النظر إلى مكان ما، فإن الإنسان إذا نظر إلى مكان ثم أراد أن يأخذ نظره منه إلى أمام رجله، يقال ارتد إليه طرفه، لأن الطرف رجع إلى نفسه بعد أن كان إلى محل آخر، قال آصف هذا الكلام و دعا باسم الله الأعظم، و إذا يرى سليمان أن عرش بلقيس حاضر أمامه.

فَلَمَّا رَآهُ أي رأى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا في حال استقرار و ثبات عِنْدَهُ بعد أن ارتد طرفه إلى قرب محلّه قالَ هذا الإحضار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 106

[سورة النمل (27): الآيات 41 الى 42]

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ (42)

مِنْ فَضْلِ رَبِّي و نعمه إليّ حيث وهب لي خليفة كآصف يتمكن من هذا العمل العجيب و قد كان سليمان قادرا على أن يحضره هو بالذات، لكنه أراد إظهار فضل آصف على قومه، و

قد فضلني بهذا لِيَبْلُوَنِي البلاء الامتحان و الاختبار، أي ليمتحنني أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي هل أشكره سبحانه على النعمة، أم أكفر نعمته و لا أشكره؟ فإن الله سبحانه إذا منح أحدا نعمة كان اختبارا ليظهر هل أنه يشكر أم يكفر بالنعمة- لا ليعلم الله، فإنه عالم، بل- ليستحق المحسن الثواب و المسي ء العقاب وَ مَنْ شَكَرَ لله تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة الشكر تعود إليه بالذات وَ مَنْ كَفَرَ و لم يشكر النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ عن شكر الشاكرين كَرِيمٌ متفضل على عباده شاكرهم و كافرهم.

[42] قالَ سليمان عليه السّلام نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا سريرها إلى حالة تنكرها و لا تعرفها، إذا رأته، و قد قيل أنه عليه السّلام أراد بذلك اختبار عقلها و إنها هل تعرف أم لا، ل نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي إلى معرفة عرشها بفطنتها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ قيل فنزع ما كان على العرش من الفصوص و الجوهر و غيرت ألوان مواضعه الملونة، فجعل ما كان أحمر أخضر و هكذا.

[43] فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس إلى محلّ سليمان قِيلَ لها أَ هكَذا عَرْشُكِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 107

[سورة النمل (27): الآيات 43 الى 44]

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

أي هل أن عرشك مثل هذا العرش الموضوع ها هنا؟ قالَتْ و قد أدركت بفطنتها الحقيقة كَأَنَّهُ أي كأن هذا العرش الموضوع هُوَ العرش الذي لي و خلفته ورائي جئتم

به إلى هنا ثم قالت وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بقدرة الله سبحانه، و صحبة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها أي من قبل هذه الخارقة التي نشاهدها بالنسبة إلى العرش وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ بسليمان، فلا نعجب من إتيان العرش إلى هنا.

[44] ثم ذكر سبحانه، إنها إنما أسلمت بعد كتاب سليمان، و إلا فإنها كانت تعبد الشمس، كما قال «الهدهد» وَ صَدَّها أي منعها- سابقا- عن الإسلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي عبادتها للشمس، و إنما عبدت الشمس ل إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ أي نشأت فيهم و كانت منهم، و لذا اعتقدت كما كان يعتقد قومها، فإن للمحيط أثرا قاهرا على النساء.

[45] و قد أمر سليمان عليه السّلام أن يبني لها «صرح» أي موضع منبسط من قوارير كالقصر، و قد أجرى الماء تحت أرض الصرح بحيث كان يبدو أنه ماء واقف على الأرض، و لعلّه أراد بذلك اختبار عقلها أيضا، هل تعرف إنه صرح أم تظن أنه ماء، و قيل أن الشياطين خافت أن يكون لها ولد منه، فنفروا سليمان منها، قائلين إن رجلها كرجل حمار، فأراد سليمان أن يعرف صدق ذلك، أقول: و إن صدق هذا، لم يكن فيه دليل على إن سليمان أو بعض الرجال نظروا إلى ساقها، فلعلّ سليمان كان قد أحضر نساء للنظر إلى ساقيها، بدون أن يقلن لها اكشفي عن ساقك، كما أنه ليس دليل على إن قول الشياطين أثّر في سليمان، إذ هو عليه السّلام أعلم منهم، و إنما أراد الكشف للناس عن كذبهم بما تشهده النساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 108

[سورة النمل (27): آية 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ

(45)

و لما جاءت بلقيس قِيلَ لَهَا و القائل بعض الخدم ادْخُلِي الصَّرْحَ و هو المحلّ المعدّ لاستقبالها فَلَمَّا رَأَتْهُ أي رأت بلقيس الصرح حَسِبَتْهُ أي ظنته لُجَّةً من الماء، و اللجة معظم الماء، فاستعدت لخوضها بأرجلها وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها أي رفعت ثوبها عن رجليها، لتدخل الماء، و لا يبلل ثوبها قالَ سليمان، أو بعض الخدم إِنَّهُ أي ما ترين ليس ماء، و لعلهم أعلموا سليمان بأنها أخذت في كشف قدميها لخوض الماء- بظنها- صَرْحٌ أي قصر مُمَرَّدٌ قد مرّد و ملّس، و منه يقال لمن لا شعر له، أي هو مملّس مِنْ قَوارِيرَ جمع قارورة، و المراد بها الزجاج، و إذ دهشت الملكة من هذا الحادث جعلت تستغفر عن ذنبها، فإن من عادة الإنسان طلب الغفران حين يدهش و يصاب بكارثة، إذ يزول الكبرياء، حينذاك قالَتْ مناجية، يا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بعبادتي للشمس في سالف الزمان وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فالإسلام لله تعالى، لكنه مع سليمان النبي، و لعلّ الإتيان بهذه اللفظة، للاعتراف برسالته، و أرادت أن تبدي اعترافها بالمبدأ و الرسالة.

[46] و بعد تمام قصة سليمان، يأتي السياق ليبين طرفا من قصص سائر الأنبياء وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أي قبيلة ثمود أَخاهُمْ في النسب صالِحاً فقال لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له فَإِذا هُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 109

[سورة النمل (27): الآيات 46 الى 47]

قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

أي ثمود فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ مؤمنون، و كافرون، و كل يخاصم الفريق

الآخر يقول أنت على باطل و أنا على حق.

[47] قالَ صالح عليه السّلام لمن بقي في الكفر يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ فقد كانوا يقولون لصالح عجّل علينا بالعذاب الذي وعدتنا إن بقينا على الكفر،- على وجه الاستهزاء- فقال لهم صالح لم تطلبون عجلة العذاب قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل التوبة، و سمي العذاب سيئة لأنه يسي ء إلى الإنسان، و المراد ب «قبل الحسنة»، عوض طلبكم الحسنة، فإنه كثير ما يأتي قبل لا بمعنى الزمان، بل بمعنى العوض لَوْ لا أي هلّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تطلبون غفرانه بسبب الإيمان و العمل الصالح؟

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا بسبب الاستغفار.

[48] قالُوا في جواب صالح عليه السّلام اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ أي تشأمنا بك و بمن على دينك من المؤمنين فأنتم شؤم علينا تجلبون لنا الفقر و القحط و المشاكل، و أصل «اطير» تطير، أدغمت التاء في الطاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن قالَ لهم صالح طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي أن الشؤم أتاكم من عند الله حيث كفرتم و للكفر نكبة و مشاكل كما قال سبحانه (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و قد كانت الأمم تتشاءم بالطائر الخاص، كالبوم، و الغراب، لما كان عندهم

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 110

[سورة النمل (27): الآيات 48 الى 49]

وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (49)

مشهورا أن الإنسان إذا وقع نظره على الطائر الفلاني عند حاجة له فإنها لا تقتضي تأثّرا من ذلك الطائر، ثم سمى كل تشاؤم بالشر طائرا، و

إن كان تشاؤما من الشخص أو حيوان بري، و اشتق منه «التطير» بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تختبرون بالخير و الشر، فإن الفتنة بمعنى الاختبار، كما قال تعالى (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) «1» يعني ليس هذا الذي يصيبكم من المشاكل بسببي و إنما هي فتنة و امتحان لكم.

[49] وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ التي بها صالح، و هي «الحجر» تِسْعَةُ رَهْطٍ أي تسعة أشخاص يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بإلقاء الفتن و تدبير المكر وَ لا يُصْلِحُونَ لعلّ الإتيان بهذه الجملة لإفادة أنه لم يكن في عملهم إصلاح، و إنما فساد محض.

[50] قالُوا أي قال بعض هؤلاء الرهط المفسدون لبعضهم الآخر تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي ليحلف بعضكم لبعض، ف «تقاسموا» فعل أمر، من باب التفاعل لَنُبَيِّتَنَّهُ أي لنقتلن صالحا وَ أَهْلَهُ بياتا أي بالليل ثُمَّ لَنَقُولَنَ صباحا إذا ظهر قتله و رمينا بذلك- و إنما قالوا هذا لأنهم كانوا معروفين بالفساد فإذا حدث حادث رموا به فلا بد لهم من إحضار الجواب- لِوَلِيِّهِ أي ولي صالح الذي يطالب بدمه، و المراد إما الحكومة أو ذووا رحمه أو من أشبههما ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ

______________________________

(1) الأنفال: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 111

[سورة النمل (27): الآيات 50 الى 52]

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)

أي هلاك أهل صالح، و يطلق الأهل على العائلة حتى الرئيس، و مهلك مصدر ميمي، أو اسم زمان أي زمان هلاكهم أو اسم مكان أي مكان الهلاك وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما نقول، هكذا دبروا حيلة أن يفعلوا الفعلة

ثم يقولوا لوليه هذه الجملة ليبرّءوا ساحتهم من القتل.

[51] وَ مَكَرُوا هؤلاء مَكْراً بتدبير هذه الخطة وَ مَكَرْنا مَكْراً أي دبّرنا تدبيرا خفيا بحيث لم يعلموا به- فإن المكر هو التدبير الخفي لإلقاء الخصم إلى الهلاك- فقد أمر الله سبحانه بعذاب ثمود وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر الله لهم،

فقد روي أنهم لمّا أرادوا قتل صالح وقعت عليهم قطعة من الجبل فهلكوا جميعا و أنجى الله صالح من أيديهم

«1».

[52] فَانْظُرْ يا رسول الله أو كل من يتأتى منه النظر، و المراد اعلم و اعتبر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ فهل مكرهم نفذ أم ردّ إلى نحرهم؟ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أي أهلكناهم وَ قَوْمَهُمْ بأن صاح عليهم جبرائيل صيحة صاروا كهشيم المحتضر أَجْمَعِينَ حتى لم ينجح منهم أحد، و بقي صالح، و المؤمنون في سلامة و عافية.

[53] فَتِلْكَ التي يراها الرائي في طريقه من الحجاز إلى الشام و قد مرّ بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في غزوة تبوك بُيُوتُهُمْ و آثارها الباقية خاوِيَةً أي في

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 7 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 112

[سورة النمل (27): الآيات 53 الى 55]

وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)

حال كونها خاوية، أي خالية منهدمة بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر و العصيان إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً على بأس الله سبحانه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يعلمون الأمور، أما الجهّال فإنّهم لا يدركون العبر و العظات.

[54] أهلكنا الكفار وَ أَنْجَيْنَا من العذاب الَّذِينَ آمَنُوا بصالح وَ

كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي و الآثام.

[55] ثم يأتي السياق لبيان قصة لوط وَ اذكر يا رسول الله لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ منكرا عليهم العصيان أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ و المراد بها اللواط؟

أي كيف تلوطون، و الفاحشة، صفة لمقدر، أي الفعلة الفاحشة و سميت فاحشة لأنها تفحش و تتجاوز الحد، من فحش بمعنى تجاوز الحد وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي و الحال أنكم تعلمون أنها فاحشة.

[56] أَ إِنَّكُمْ أيها القوم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تعملون مع الرجال شَهْوَةً إما مفعول أو تمييز، و أصلها ما تشتهيه النفس مِنْ دُونِ النِّساءِ فقد تركوا نساءهم، و اشتغلوا بالرجال، إن ذلك ليس لقضاء الشهوة، و إلا كانت النساء أحسن بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ما في هذا العمل من الإثم و العقاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 113

تقريب القران الى الأذهان الجزء العشرون من آية (57) سورة النمل إلى آية (46) سورة العنكبوت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 114

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 115

[سورة النمل (27): الآيات 56 الى 59]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

[57] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ للوط إِلَّا أَنْ قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي لوط و آله- و قد مرّ إن «آل فلان» يطلق عليه و على آله، تغليبا- مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي

مدينتكم إِنَّهُمْ أُناسٌ أي جماعة يَتَطَهَّرُونَ عن إتيان أعمالنا، و كان هذا على وجه السخرية.

[58] فَأَنْجَيْناهُ أي أنجينا لوطا وَ أَهْلَهُ بناته اللاتي كنّ معه إِلَّا امْرَأَتَهُ التي كانت تساعد القوم على أعمالهم الفاسدة قَدَّرْناها أي هكذا جرى تقديرنا بالنسبة إليها إنها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في القرية لتعذب بعذابها.

[59] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على أهل القرية مَطَراً من الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي بئس المطر مطر الذين أنذروا فلم ينفع فيهم الإنذار.

[60] و بعد ذكر جملة من أحوال الأمم السالفة و كيف أن الله عذبهم لما تمردوا عن الأوامر يرجع السياق إلى الرسول و حاله مع قومه و كيفية تبليغهم قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي وفقنا للإيمان، و نجاة المؤمنين و هلاك الكافرين وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي تحية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 116

[سورة النمل (27): آية 60]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

على الرسل المتقدمين الذين اصطفاهم الله سبحانه و اختارهم لوحيه، و معنى «السلام» أن يكونوا سالمين في تلك الدار من الأخطار، و إن غلب معنى التحية عليه، عند العرف آللَّهُ خَيْرٌ هنا همزتان، أحدهما للاستفهام، و الثانية همزة «أل» و إذا اجتمعت همزتان جاز أن تخفف أحدهما في صورة مدّ، أي: هل الله خير أَمَّا يُشْرِكُونَ أي الأصنام التي يشركونها بالله تعالى؟ و قد تقدم أن الله كيف نجى المؤمنين، و أهلك من كان يعبد الأصنام، و على هذا فالجواب- الطبيعي- بعد تلك المشاهدات: أنّ الله خير.

[61] أَمَّنْ أصله «أم» «من» فأدغمت

إحدى الميمين في الثانية خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي ما تشركون خير أم خالق السماوات و الأرض وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً و هو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بذلك الماء، و هذا من الالتفات من الغيبة إلى التكلم و هو فن من فنون البلاغة حَدائِقَ جمع حديقة، و هي مجتمع الورود و الأشجار ذاتَ بَهْجَةٍ أي منظر حسن يبتهج به من رآه و يسر و يفرح ما كانَ لَكُمْ أيها الناس أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي أنتم لا تتمكنون من إنبات أشجارها، لو لا أن الله أنبتها فلا يزعم زاعم أنه هو الذي ينبت حيث يحرث و يكدّ و يسقي، إنه سبب ضعيف، و إنما الذي ينبت هو الله سبحانه أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي هل هنا لك في الكون إله آخر مع الله سبحانه؟ و هذا استفهام إنكاري، يأتي بعد الإلفات إلى صنع الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 117

[سورة النمل (27): الآيات 61 الى 62]

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62)

سبحانه بَلْ ليس معه إله و إنما هؤلاء المشركون هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يجعلون غير الله عدلا لله تعالى.

[62] أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي مستقرا لا تميل و لا تضطرب و تصلح للسكنى لما هيّئ فيها من الوسائل وَ جَعَلَ خِلالَها أي وسطها و في مسالكها أَنْهاراً من الماء تجري لسقي الأرض و الإنسان و الحيوان وَ جَعَلَ لَها أي للأرض رَواسِيَ

جمع راسية، و هي الجبال التي حفظت الأرض من التفكك و الاضطراب، فإن الأرض كرة تسبح في الجو، و لو لا الجبال التي هي كالأوتاد الحافظة للخشبات المتعددة من التفكك، لتفككت الأرض و انتشرت في الفضاء وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي بحر الملح و المراد به بحار الدنيا، و بحر العذب المراد به المياه الجارية العذبة حاجِزاً أي مانعا من شقوق الأرض حتى لا يختلط بعضها ببعض- كما تقدم في سورة الفرقان- أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ

صنع ذلك أو بعض ذلك، أم هو الله وحده؟ فلما ذا تشركون؟ بَلْ ليس إله مع الله و إنما أَكْثَرُهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ إنه ليس إله مع الله و لذا يشركون به.

[63] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اضطرّ فعل متعد، يقال اضطر زيد خالدا، فخالد مضطر بصيغة المفعول إِذا دَعاهُ و إنما جي ء باسم «المضطر»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 118

[سورة النمل (27): آية 63]

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)

مع إنه سبحانه يجيب كل من دعاه، لأن إجابة المضطر أوقع و ألزم حيث إنه لا علاج له و لا ملجأ يلجأ إليه، و المراد إجابة دعائه و كشف ضره و حاجته وَ يَكْشِفُ السُّوءَ النازل بالشخص من فقر و مرض و سجن و غيرها، ثم إما المراد كشف سوء المضطر، فيكون كعطف بيان، أو كشف مطلق الأسواء، فيكون تأسيسا لا تأكيدا، و هنا نكتة لا بأس بالتنبيه عليها، و هي أن بعض الأخيار، سلكوا هذه الجملة من الآية سلك الختوم تفؤلا، و اتباعا لما

ورد من «خذ القرآن ما شئت لما شئت»

فقراءتها

من باب التعريض، لا من باب الطلب، حتى يقال، إنها عدل لما يشركون، و لا دعائية لها، فليست مثل «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» «1» فهذا من قبيل ما لو قال أحد الكرماء: أنا الذي أطعم الجائع، فجاء جائع يريد إشباعه، فإنه يقول: «أنا الذي أطعم الجائع» يريد التعريض به حيث إن هذا الكلام صدر منه وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي تخلفون آباءكم في ديارهم و أعمالهم، فمن غير الله سبحانه يهلك قرنا و يخلف قرنا آخر مكانه، و يفني جيلا و يجعل جيلا آخر خلفا له؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ كلا! و لكن قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليل تذكركم و اتعاظكم، لأنكم لا تتفكرون و لا تعتبرون، و «ما» زائدة، لتأكيد القلة.

[64] أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ أي يرشدكم إلى طرقكم و مقاصدكم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حيث تقطعون الصحراء أو البحار في الليالي المظلمة. إنه

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 119

[سورة النمل (27): آية 64]

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

هو الله الذي يهديكم بما جعل للطرق من علائم بالكواكب، و القمر، و مهب الرياح، و معالم الجبال، و غيرها، و إنما خصّ الظلمات بالذكر، مع أن الهادي في النهار هو الله أيضا، لشدة الحاجة في الليل المظلم إلى الهادي، و هناك يدرك الإنسان حاجته إلى الاهتداء أكثر من إدراكه في النهار وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ الجامعة للسحاب و المثيرة له من أطراف السماء بُشْراً أي لأجل البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته التي هي المطر؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك بالاستقلال

أو بالإشراك؟

كلا! تَعالَى اللَّهُ أي أن الله أعلى- و ليس في الفعل معنى الماضوية، و إنما يفيد معنى المادة فقط- عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام التي يشركونها بالله، أو تنزّه عن شركهم، على أن «ما» مصدرية.

[65] أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشأ الخلق و يوجده من كتم العدم ثُمَ يميته ثم يُعِيدُهُ حيّا يوم القيامة للحساب و الجزاء؟ و قسم من الكفار و إن لم يكونوا يعترفون بالإعادة، لكن قسما آخر منهم كاليهود و النصارى يعترفون بذلك مع أنهم مشركون وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإدرار المطر وَ الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك؟ قُلْ يا رسول الله للمشركين هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هاتوا حجتكم على الشرك، و إن هناك إلها مع الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 120

[سورة النمل (27): الآيات 65 الى 66]

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)

في دعواكم تعدد الآلهة و إن الأصنام شريكة لله سبحانه في الألوهية.

[66] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء، إن كان هناك شريك مع الله لزم أن يعلم الغيب إذ لا يكون الإله جاهلا، لكن لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَ الْأَرْضِ من البشر الْغَيْبَ الذي غاب عن الحواس إِلَّا اللَّهُ وحده، و إنما يعلم الأنبياء و الأئمة و من إليهم بعض الغيب بإرادة الله و تعليم الله لهم، كما قال سبحانه (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) «1» و لا منافاة بين الأمرين بأن لا يعلم الغيب أحد إلا الله،

و أن يعلم غير الله الغيب بدلالة الله، أو يقال: إن المراد بالغيب في الآية مطلق الغيب- كما هو مقتضى كون «الغيب» جنسا محلى باللام- و هذا لا يعلمه أحد وَ ما يَشْعُرُونَ هذه المعبودات أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أيّ وقت بعثهم، فكيف يمكن أن يكون إلها ما لا يعلم الغيب، و ما لا يعلم وقت بعثه؟

[67] و بمناسبة الحديث عن عدم شعور المعبودات بالآخرة و وقت بعثها يأتي الكلام حول إنكار الكفار لها، كما ينكرون التوحيد، و الرسالة بَلِ إضراب عن الكلام الماضي الذي كان يدور حول الشرك و تعدد الآلهة إلى كلام مستأنف حول القيامة ادَّارَكَ أصله «تدارك» من باب «التفاعل» أدغمت «التاء» في «الدال» و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و التدارك هو متابعة الشي ء للشي ء، يقال: تدارك

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 121

[سورة النمل (27): الآيات 67 الى 68]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)

القوم أي تلاحقوا و جاء بعضهم إثر بعض، و المعنى تلاحق عِلْمُهُمْ و تتابع فِي باب الْآخِرَةِ فانتهى علو حدودها، و قصر عن الوصول إليها يقال هذا ما أدركه علمي أي بلغه و لم يلج فيه فهو منتهى العلم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من الآخرة، فكيف يعرفوا موعدها و خصوصياتها؟ بَلْ هُمْ مِنْها أي من الآخرة و معرفتها عَمُونَ جمع عمى، و هو أعمى القلب لتركه التدبر و النظر، و هذه مراتب ثلاث متدرجة في الشدة، فالأولى أن لا يعلمها إطلاقا، و الثانية أن يشك فيها، و الثالثة أن يكون

أعمى عنها حتى لا يكون قابلا لتعلمها، و حيث إن كل مرتبة أشد من سابقتها صحت الرتبة و الإضراب- و هذا هو الذي نستظهره من الآية، و الله العالم-.

[68] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و اليوم الآخر أَ إِذا كُنَّا تُراباً بأن متنا و تحولنا إلى التراب وَ آباؤُنا كانوا ترابا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ من القبور للبعث و الحساب؟ قالوا ذلك على وجه التعجب و الإنكار، لأنهم أنكروا أن يتحول التراب إنسانا كما كان.

[69] لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي البعث نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ فيما مضى على لسانك و لسان الأنبياء، و لم يظهر أثر لذلك إِنْ هذا أي ما هذا الوعد و الإخبار بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي إخباراتهم الخالية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 122

[سورة النمل (27): الآيات 69 الى 72]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)

عن الصحة، جمع أسطورة، و هي القصة الخيالية.

[70] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين، إن تماديتم في تكذيبكم و إنكاركم أصابكم مثل ما أصاب المكذبون السابقون و سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حتى تصلوا إلى بلاد الأقوام الذين أهلكوا بتكذيبهم الأنبياء فَانْظُرُوا بأعينكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا و عصوا، فإنكم ستشاهدون آثارهم الدراسة و بلادهم الخربة و لا ترون من نسلهم أحدا.

[71] وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يا رسول الله كيف أنهم يعصون حتى تكون النار مصيرهم وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ نفسي مِمَّا يَمْكُرُونَ أي يدبرون في أمرك، لإبطال دينك و قتلك، فإن

مكرهم سيرد إلى نحورهم، و الحزن على المعاند مما لا ينبغي.

[72] وَ يَقُولُونَ أي هؤلاء الكفار المنكرون للبعث مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان يكون العذاب أو بعث الأموات؟ إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون القائلون به صادِقِينَ بأنه يكون.

[73] قُلْ يا رسول الله عَسى أي لعل أَنْ يَكُونَ هذا الوعد بالبعث أو العذاب رَدِفَ لَكُمْ أي وراءكم رديفا لكم يلحقكم عن قريب، من الرديف الذي هو الإنسان الراكب على دابة ردف الآخر و خلفه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 123

[سورة النمل (27): الآيات 73 الى 76]

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74) وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)

بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب و البعث.

[74] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ و من فضله أنه يؤخّر عذاب هؤلاء، لعلهم يرجعون و يندمون فلا يلاقوا العذاب و المهانة وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله.

[75] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه صدورهم من الكفر و المكر و الرذيلة وَ ما يُعْلِنُونَ من أنواع الشرك و المعاصي، و مع ذلك يتفضل عليهم و يمهلهم.

[76] و ليس علمه سبحانه خاصا بما يفعله هؤلاء من الأسرار و الإعلان بل وَ ما مِنْ غائِبَةٍ أي خصلة، أو عين غائبة عن الحواس فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كتاب ظاهر لدينا، فإنّا نعلم كل شي ء غاب

عن الحواس.

[77] ثم عطف السياق- بعد الألوهية و المعاد- إلى ذكر القرآن فقال سبحانه إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و تخصيصهم بالذكر هنا، لأن هذه السورة تعرضت إلى ذكر جملة من قصصهم كقصة سليمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 124

[سورة النمل (27): الآيات 77 الى 79]

وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)

و موسى و داود عليهم السّلام و معنى القصة نقل الخبر أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من القصص و الأحكام، فقد حرفت كتبهم و لذا اختلفوا في القصص، و القرآن يبين الحق الواقع، و لذا ورد في وصفه قوله (وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ). «1» [78] وَ إِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً هداية ترشد الطريق الذي يوجب سعادة الإنسان في دنياه و عقباه وَ رَحْمَةٌ أي سببا لتفضل الله على البشر و رحمته بهم لِلْمُؤْمِنِينَ و إنما خصتهم، لأنهم هم المنتفعون به الفائزون بجزاء عمله على طبقه.

[79] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين من بني إسرائيل في قصص الأنبياء عليهم السّلام و جهات المبدأ و مزايا المعاد بِحُكْمِهِ أي على طبق حكمه الواقعي، لا على ما في كتبهم المحرفة، و المراد القضاء بينهم يوم القيامة ليجزي كلّا حسب ما عمل، كما يقول الحاكم: سأفصل بينكم، يريد الفصل مع الجزاء وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فيفعل ما يشاء الْعَلِيمُ بما فعل كل أحد، فيكون الجزاء طبق العمل بلا زيادة أو نقصان.

[80] و إذ كان الله سبحانه عزيزا عليما فَتَوَكَّلْ يا رسول الله عَلَى اللَّهِ و فوض أمورك إليه، فإنه غالب

______________________________

(1) المائدة:

49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 125

[سورة النمل (27): الآيات 80 الى 81]

إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

عالم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ أي الواضح، إنك على الحق، و تحت سيطرة إله غالب فلا يتمكن أحد من السوء بك، عالم فيجازيك بما لقيت من الأتعاب في سبيل التبليغ.

[81] أما هؤلاء الذين يعاندون، فلا تغتم لهم، و لا يلقون اليأس في نفسك، فإنهم كالأموات و كالأصم إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي سماعا نافعا، فإن الميت لا يتحرك و لا يتجه حسب ما وجهه الإنسان و هؤلاء المعاندون كالأموات في عدم تأثير الكلام فيهم و «موتى» جمع ميت وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَ جمع «أصم» و هو الفاقد لحاسة السمع الدُّعاءَ أي الدعوة و الكلام الذي تناديه به إِذا وَلَّوْا أي أعرضوا عنك مُدْبِرِينَ أي بحيث كان دبرهم نحو الإنسان، و هذا للمبالغة في عدم السماع، فإنه لا مطمع في إفهام الأصم المدبر، و إن كان كل أصم لا يسمع الكلام و إنما لو كان وجهه مقابلا أمكن إفهامه و إلّا لم يمكن.

[82] وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِهادِي الْعُمْيِ أي لا يمكنك يا رسول الله أن تهدي الأعمى من هؤلاء و المراد المعاند الأعمى القلب، شبّه بالأعمى بصرا الذي لا يهتدي إلى الطريق، إذ درك المعارف يتوقف على بصر القلب، كما أن درك الطريق يتوقف على بصر العين عَنْ ضَلالَتِهِمْ بأن تصرفهم عن ضلالتهم و انحرافهم إلى طريق الرشاد، إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع سماعا مفيدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي ليس معاندا إذا

سمع الحق قلبه فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي يسلمون أنفسهم لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 126

[سورة النمل (27): آية 82]

وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)

و الدين و ينقادون لأوامرك.

[83] و من علامات الساعة التي كان الكفار يكذبون بها إن الله سبحانه يظهر للناس «دابة» أي حيوانا مهولا يكلم الناس بلسان يفهمونه و لعل هذا من أهوال الساعة وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي وجب العذاب لهم، و ثبت وقت ما قلنا من أنهم يعذبون أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ و هل المراد بالإخراج أنها تخرج من الأرض كما يخرج النبات منها، أو المراد به ظهورها؟ و لفظة «من الأرض» في مقابل من السماء، و قد ورد في بعض الروايات، إن المراد بدابة الأرض حيوان مدهش «1»، كما ورد في روايات أخرى إن المراد بها الإمام المرتضى عليه السّلام «2»- و الدابة تطلق على كل ما يدب على وجه الأرض- كما أن خروج الدابة في بعض الروايات من أشراط الساعة، و في بعضها من علائم ظهور المهدي عليه السّلام «3» و لا منافاة بين الأمرين، في الموضعين، لتعدد الدابة و كون كل واحدة مصداقا، و لكون ظهور المهدي «عجل الله فرجه الشريف» أيضا من أشراط الساعة، بل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أيضا، من علائم الساعة تُكَلِّمُهُمْ أي تتكلم تلك الدابة مع الناس، و من كلامها معهم أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي بأدلتنا الدالة على وجودنا و سائر شؤوننا، و قد لاءمت هذه الآية جو السورة التي تعالج العقيدة، كما لاءمت مع تكلم الحيوانات و الجن مع

البشر، في قصة الهدهد،

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 6 ص 300.

(2) تأويل الآيات: ص 399.

(3) راجع تأويل الآيات: ص 400.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 127

[سورة النمل (27): الآيات 83 الى 85]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)

و النملة، و عفريت الجن، و هاهنا دابة تتكلم.

[84] وَ اذكر يا رسول الله لهؤلاء يَوْمَ نَحْشُرُ أي نجمع مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا، و إذ تقدم بعض علائم القيامة من خروج دابة الأرض، جاء السياق ليتم مشهد القيامة، و جاء ذكر المكذبين فقط لأنهم محل الكلام و محور البحث في تكذيب المعاد، فلننظر ماذا يكون مصيرهم؟ و قوله «ممن» بيان «فوجا» أي نجمع من كل أمة فوجا هم من الذين يكذبون بالآيات فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبسون، حتى يجتمعوا جميعا من «وزع» بمعنى «حبس» فإن أول الفوج يحبسون لآخر الفوج، حتى يجتمع الجميع.

[85] حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف الحساب قالَ الله تعالى لهم أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ الحال أنكم لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أي كيف كذبتم و ليس لكم علم بكذبها؟ و حيث إن المقام مقام أن يكذب الكفار قائلين لم نكذب بها، يأتي السياق ليقول لهم ثانيا- سادّا عليهم طريق الإنكار- أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إن لم تكونوا كذبتم بالآيات فما ذا كان عملكم؟ لكنهم لا يقدرون أن يقولوا كنا نعمل صالحا، و بهذا ينقطعوا عن الجواب، و لا يتمكنون من الإنكار.

[86] وَ وَقَعَ الْقَوْلُ أي ثبت القول الذي قلنا: إنهم

يعذبون جزاء كفرهم عَلَيْهِمْ فالعذاب يأخذهم بعد ذلك الحوار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 128

[سورة النمل (27): الآيات 86 الى 87]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)

بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ في هذا الموقف، و إن نطقوا في المواقف الأخر، و في جملة من الأحاديث تفسير «يوم نحشر»- إلى آخره- بزمان ظهور المهدي عليه السّلام، و ذلك من باب المصداق، فإن اللفظ عام مستعمل في الأمرين، القيامة، و ظهور الإمام عليه السّلام و إن لم نقل بالعموم و المصداق، نقول إنه من باب البطن، أو من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى و ذلك جائز لدى وجود القرينة، و القرينة هي الروايات المفسرة.

[87] أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء المنكرون للمبدأ و المعاد، آياتنا الدالة على وجودنا، و التي تدل على إله عليم حكيم، و تدل على القدرة الكاملة، التي لا يمتنع لديها إحياء الأموات؟ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ أي أوجدناه لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن الحركة و التعب وَ جعلنا النَّهارَ مُبْصِراً أي موجبا لبصر الإنسان، و هو من المجاز بنسبة ما للحال إلى الزمان، نحو «يا سارق الليلة»، كما أن جري النهر، من نسبة ما للحال إلى المكان إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ دلالات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم يستدلون منها على وجود الله العليم القدير، و الاختصاص بهم لأنهم هم الذي يستدلون، أما غيرهم، فإنهم معرضون غافلون.

[88] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ هو البوق الذي يشبه قرن

الحيوان ينفخ فيه إسرافيل عليه السّلام لإحياء الأموات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 129

[سورة النمل (27): الآيات 88 الى 89]

وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)

فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي خافوا جميعا من هول قيام الساعة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع و هم بعض الأنبياء و بعض الملائكة وَ كُلٌ من الأموات الذين أحيوا من النفخ أَتَوْهُ أي يأتون المحشر، أو يأتون الله سبحانه- و المراد من إتيان الله الإتيان إلى الموضع المعد لهم، نحو إني ذاهب إلى ربي- داخِرِينَ أي أذلاء صاغرين، من دخر بمعنى ذل.

[89] وَ تَرَى الْجِبالَ أيها الرائي، في ذلك اليوم، في حال كونك تَحْسَبُها و تظنها جامِدَةً في مكانها، كالسابق، واقفة غير متحركة، و الحال أنها وَ هِيَ تَمُرُّ و تسير مَرَّ السَّحابِ أي مثل مرور السحاب سيرا حثيثا سريعا، و قد صار الكل كالقطن المندوف، إن قلع الجبال و تسييرها إنما هو صُنْعَ اللَّهِ منصوب على المصدر أي صنع الله ذلك صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ فأتقن أهوال المعاد بقلع الجبال و تسييرها، كما أحيى الأموات و جعلهم هائمين يسيرون في فزع و خوف إِنَّهُ خَبِيرٌ أي عالم بِما تَفْعَلُونَ فيجازيكم عليها.

[90] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ المراد بها الجنس و هو الإيمان و العمل الصالح، نحو «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» فإن المراد بهما الجنس أيضا فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي يضاعف ثوابها عشرة أضعاف أو أكثر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 130

[سورة

النمل (27): الآيات 90 الى 92]

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)

وَ هُمْ أي الذين جاءوا بالحسنة مِنْ فَزَعٍ و خوف يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة آمِنُونَ فلا يفزع المؤمن حيث يفزع الناس.

[91] وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و المراد السيئة الكاملة التي لا حسنة معها، و هي الكفر و المعاصي، حتى صحّ أن يقال: إنه جاء بالسيئة فَكُبَّتْ الكب هو الإلقاء منكوسا وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقوا على وجوههم في النار، و يقال لهم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ استفهام في معنى النفي، أي ليس هذا إلا جزاء أعمالكم من الكفر و العصيان.

[92] قل يا رسول الله لهؤلاء الكفار بعد تهديدهم بالعذاب إِنَّما أُمِرْتُ أنا بأمر الله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أي رب مكة، لا الأصنام التي نحتّموها بأيديكم الَّذِي حَرَّمَها أي الله الذي حرم هذه البلدة بأن جعلها محترمة لا يحل فيها القتال، أو الدخول بدون الإحرام، أو الإتيان ببعض الأعمال كتنفير الصيد و قلع الشجر و نحوهما وَ لَهُ أي لله كُلُّ شَيْ ءٍ بيده وَ أُمِرْتُ من قبله سبحانه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ و هذا لا يدل على عدم كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسلما فيما قبل، إذ الأمر قد يكون للابتداء، و قد يكون للاستدامة نحو:

«اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

[93] وَ أمرت أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أقرأه على مسامعكم و أدعوكم لما فيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 131

[سورة النمل (27): آية 93]

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

فَمَنِ اهْتَدى إلى الحق و عمل بما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن فائدة هدايته تعود إلى نفسه حيث تسعد في الدنيا و الآخرة وَ مَنْ ضَلَ عن القرآن و انحرف عن أحكامه و أوامره فَقُلْ له يا رسول الله إن ضلالك لا يعود إليّ ف إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ الذين يخوّفون من عذاب الله، و قد خوفتك، فعدم عملك إنما يعود سيئه عليك.

[94] وَ قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هداني و جعلني منذرا سَيُرِيكُمْ أيها الناس آياتِهِ بإلفاتكم إليها، أو إيجادها لترونها فَتَعْرِفُونَها بأنها آيات الله و الأدلة على وجوده و سائر شؤونه وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أيها الناس، و في هذا التفات من المخاطب إلى غيره من سائر الناس لأن «كاف» تعود إلى الرسول و «تعملون» إلى الناس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 132

28 سورة القصص مكيّة/ آياتها (89)

سميت السورة بهذا لاسم لاشتمالها على قصص موسى عليه السّلام مع فرعون، و شعيب عليه السّلام و قارون و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة و لما ختمت سورة النمل بتلاوة الرسول للقرآن، جاءت هذه السورة مفتتحة بتلاوة بعض قصص القرآن، و هي قصة موسى و فرعون.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الذي يستعان به في كل حاجة، و هو الرحمن المتفضل بالرحم، الرحيم الذي يرحم العباد، بل كل شي ء، كما قال سبحانه (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» فإن الرحم هو التفضل، و قد تفضل سبحانه على الأشياء حيث خلقها من غير استحقاق و إن كان

فضله على الإنسان أكثر حيث إنه كلما زيدت النعم زيد الفضل.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 133

[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

[2] طسم «طاء» و «سين» و «ميم».

[3] تِلْكَ أي من هذه الحروف الهجائية التي تركبون منها كلماتكم أيها العرب العاجزون عن الإتيان بمثل القرآن آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ أي الظاهر الواضح الذي لا غموض فيه، فإن الكتاب قد يكون سريا، غير واضح، و قد يكون غامضا غير ظاهر المعنى و المراد، و قد يكون غير معلوم الانتساب، و كل ذلك مفقود في القرآن الحكيم، و في مقطعات السور، و إعرابها أقوال أخر تقدم بعضها.

[4] نَتْلُوا أي نقرأ عَلَيْكَ يا رسول الله مِنْ نَبَإِ أي خبر مُوسى وَ فِرْعَوْنَ أي بعض أطراف خبرهما، و لذا دخلت «من» بِالْحَقِ أي بالصدق، فإن خبر الله سبحانه عنهما حق لا كذب فيه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي أن ما نتلو عليك إنما هو لقوم مؤمنين أما غيرهم فلا يعتبرون بالقرآن، و لا يصدقون ما فيه من القصص و الأحكام.

[5] إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا أي ترفع و تكبر فِي الْأَرْضِ و المراد بها أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها أهل أرض مصر شِيَعاً أي طوائف، جمع شيعة، و هي الطائفة التي تتبع مسلكا خاصا، من شايعه إذا تابعه، و هذا دأب الطغاة دائما، إذ لو لم يجعلوا الناس طوائف متناحرة، حتى يشتغل بعضهم ببعض، خافوا من أن يتحدوا

ضدهم في حال كونه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 134

[سورة القصص (28): الآيات 5 الى 6]

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ و المراد بهم بني إسرائيل، فقد كان بعضهم ضعيفا في مصر، و لذا يؤذيهم و يسخرهم في الأعمال الشاقة، و يفعل بهم ما ذكره سبحانه يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ إنما جي ء من باب التفعيل للدلالة على التكثير، فإن هذا الباب يدل على ذلك، فإن فرعون كان يكثر القتل في أبناء إسرائيل، حينما سمع بأن زوال ملكه على يد رجل منهم يولد في ملكه، فقد وكّل بكل حامل إسرائيلية قابلة حتى إذا ولدت أخبرت الجلادين فيأتون و يقتلون الولد وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي يبقيهن أحياء، كأنه يطلب حياتهن لاستخدامهن في البيوت إِنَّهُ أي فرعون كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض بالكفر و المعاصي و الظلم.

[6] إن فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل و إفنائهم وَ نُرِيدُ نحن بعكس ذلك، و جي ء بفعل المضارع لأنه حكاية عن ذلك الوقت أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ أي نمن على بني إسرائيل الذين استضعفهم فرعون وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً في الحق، بأن يكونوا مقتدى الناس و ملوكهم وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لفرعون بأن يرثوا الأرض، و يكونوا خلفا لهم.

[7] وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي نجعل بني إسرائيل قادرين على أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 135

[سورة القصص (28): آية 7]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)

يتصرفوا في أرضي كيفما شاءوا وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وزيره وَ جُنُودَهُما من سائر الذين تعاونوا معهما على إيذاء بني إسرائيل مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي من طرف بني إسرائيل و على أيديهم، ما كانوا يخافون من الإفناء و الإبادة، و قد أصدق الله وعده فأهلك فرعون و هامان و جنودهما، و جعل بني إسرائيل ملوك الدنيا و سادتها، و بعث فيهم الأنبياء.

و قد ورد في جملة من الأحاديث تطبيق الآيتين الكريمتين على الشيعة و الأئمة عليهم السّلام، و أعدائهم «1»، و هذا مما لا مجال للشك فيه، فإن آيات القرآن الحكيم دائما مدى الدهر، تجري في اللاحقين كما جرت في السابقين، كما دل على ذلك العقل، و ورد به روايات كثيرة.

[8] ثم بين سبحانه كيف نصر بني إسرائيل و كيف أهلك فرعون و جنوده وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و الإيحاء هو الإلقاء في القلب، و نحوه قوله سبحانه (فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً) «2» و قوله (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) «3» أَنْ أَرْضِعِيهِ أي أعطيه اللبن في الفترة التي لم تخافي على موسى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من القتل، و في بعض التفاسير، المراد بذلك أن ذلك إذا أظهر الصوت فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ أي اطرحيه في البحر، بجعله في

______________________________

(1) مشكات الأنوار: ص 95 فصل 5.

(2) المائدة: 32.

(3) النحل: 69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 136

[سورة القصص (28): آية 8]

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)

صندوق و إلقائه فيه وَ لا تَخافِي عليه الغرق و الهلاك وَ لا تَحْزَنِي لمفارقته إِنَّا رَادُّوهُ أي نرد موسى إِلَيْكِ وَ

جاعِلُوهُ أي نجعله فيما بعد مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال في المجمع: و في هذه الآية أمران و نهيان و خبران و بشارتان، و حكي إن بعضهم سمع بدرية تنشد أبياتا فقال لها ما أفصحك؟ فقالت الفصاحة لله تعالى و ذكرت هذه الآية و ما فيها «1».

[9] فولدت أم موسى بموسى عليه السّلام، و جعلته في صندوق و ألقته في البحر، و قالت لأخت موسى اذهبي في أثره حتى ترين ماذا يصنع به، و جاء الصندوق تحمله الأمواج حتى ألقته في شط يمر بدار فرعون، فَالْتَقَطَهُ أي أخذه آلُ فِرْعَوْنَ أي حاشيته لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً هذه «اللام» تسمى لام العاقبة، لأنها بمعنى «كي تكون العاقبة» و ليست للعلة، نحو قوله «للقتل ما ولدوا للنهب ما جمعوا» أي كانت عاقبة الالتقاط أن يكون موسى لهم عدوا، و موجبا للحزن، لما كان الكلام موهما تعدي موسى عليهم، قال سبحانه إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما الذين تصافقوا على إذلال بني إسرائيل كانُوا خاطِئِينَ قد أخطئوا حيث اختاروا الكفر و العصيان، على الإطاعة و الإيمان، و لهذه الخطأ صار موسى عدوا لهم، و أهلكهم الله سبحانه.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 416.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 137

[سورة القصص (28): الآيات 9 الى 10]

وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

[10] و لما جي ء بموسى من الصندوق إلى فرعون و كان جالسا مع زوجته «آسية» أمر بفتح الصندوق، و إذ ما رأيا فيه غلاما

ألقى الله محبته في قلبهما، كما قال سبحانه (وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) «1» ثم أراد فرعون قتله لأنه علم أنه إسرائيلي، و لكن «آسية» حالت دون ذلك وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ أيها الملك إنه قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ أي يوجب هذا الولد قرار عيوننا، فإن الإنسان المسرور تقر عينه في مكانها، فلا تطير هنا و هناك طالبة المفزع و الملجأ، بخلاف الإنسان الواله و الخائف، و لم يكن لهما ولد و لذا طمعت في أن يكون موسى كالولد لهما. لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أي لعله ينفعنا في المستقبل، بأن نستخدمه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نجعله بمنزلة ولدنا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ إن هلاكهم على يده، و

قد روي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها.

[11] فلنرجع إلى أم موسى كيف صنعت بعد ما ألقت طفلها في البحر وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا من الاتزان كالإناء الفارغ الذي لا شي ء فيه، لما دهمتهما من المصيبة و الغم بفقد ولدها، كيف ألقت به في اليم؟ و كيف صنعت به هذا الصنع العجيب؟ و هل الولد في حضن الأم يخشى عليه، أما في اليم فلا يخشى عليه؟ إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ

______________________________

(1) طه: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 138

[سورة القصص (28): الآيات 11 الى 12]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12)

و «إن» مخففة، و اسمها محذوف، أي أنها-

و المراد أم موسى- كادت و قربت أن تظهر للمجتمع قصة ابنها، كما هو شأن النساء، إذا فجعن بفقد عزيز ينقلن الأمر للناس، ليجدن من يساعدهن في الغم و المصيبة لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بأن حفظناه حتى لا يظهر ما فيه من الهم و الألم، و لا تنتقل القصة إلى اللسان لتذيعه في الناس، و قد شبه قلبها بشي ء لا يستقر، فإذا ربط عليه برباط، استقر و لم يتحرك لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن إخبارها كان خلاف تصديقها بوعد الله «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» فربطنا على قلبها، لتكون من المصدقين بوعدنا، فإن ربط القلب بالثبات و الصبر كان سببا لإيمانها، و إلا فلو اضطرب قلبها و أبدى ما فيه لم تكون مصدقة بالوعد.

[12] وَ قالَتْ الأم لِأُخْتِهِ أي أخت موسى، و كانت صغيرة قُصِّيهِ أي اتبعي أثر موسى لنرى ماذا يصنع به البحر؟ من قص إذا اتبع الأثر، و منه سميت القصة قصة، لأنها تتبع المقصوص عنهم، و جاءت الأخت حتى دخلت دار فرعون، و كان كبلاط الملوك في السابق يدخل فيها كل أحد فَبَصُرَتْ الأخت بِهِ أي بموسى عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد، فإنها لم تدن، لئلا تعرف وَ هُمْ أي فرعون و أهله لا يَشْعُرُونَ بأنها أخت موسى، و جاءت لاستقاء الأخبار.

[13] و لما كان موسى طفلا، لم يصبر عن الثدي، و أخذ يطلب اللبن، فأمر فرعون بأن تؤجر له مرضعة، و جاءت النساء لتحوز هذا الفخر و لكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 139

[سورة القصص (28): آية 13]

فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)

موسى أبى أن يقبل

ثدي امرأة إطلاقا وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ جمع مرضعة، أي منعنا موسى عن الارتضاع من ثديهن، فلم يكن يميل إليهن، بل تأبى نفسه من الارتضاع منهن مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن يؤتى بهن، و ذلك بجعل نفسه أبيّة عنها.

فَقالَتْ الأخت و كانت تشاهد القصة هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ عائلة يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ يقبلون أن يرضعوا موسى و يقوموا بخدماته لأجلكم وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ أي تلك العائلة ناصحة لموسى لا تدّخر جهدا في القيام بخدماته؟

[14] و قد قبل فرعون ذلك و ذهبت الأخت إلى الأم و حكت لها القصة و جاءت الأم إلى بيت فرعون و لما أرضعت موسى قبل موسى الثدي بكل إصرار و شوق و سر فرعون و أهله بقبول موسى فَرَدَدْناهُ أي أرجعنا موسى إِلى أُمِّهِ حسب ما وعدناها «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي لأجل أن تسر و تفرح فتقر عينها عن الحركة و الاضطراب- كما تقدم- وَ لا تَحْزَنَ عليه في مقابل ما سبق منها حيث قال سبحانه «وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فقد و في سبحانه بوعده حيث أرجع إليها ابنها وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن وعد الله حق، و يظنون أن مواعيده تخلف، و ليس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 140

[سورة القصص (28): الآيات 14 الى 15]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ

هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)

هكذا، فإن الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

[15] و كبر موسى عليه السّلام في بيت فرعون يختلف إلى أمه فتفرح به وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ و قد ورد عن الصادق عليه السّلام: إن المراد بلوغه ثمانية عشر سنة «1» وَ اسْتَوى أي اعتدل قوامه آتَيْناهُ أي أعطيناه حُكْماً بأن يحكم الناس، فإن منصب الحكم خاص بالله سبحانه لا يجوز لأحد أن يستقل به إلا بإذنه سبحانه وَ عِلْماً أي علمناه علم الأشياء مما يليق بمقام النبوة وَ كَذلِكَ أي و كما جازينا موسى لصلاحه بهذا المنصب الخطير كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عقيدتهم و عملهم، بإعطائهم أجورهم.

[16] وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ أي مدينة من مدائن مصر عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت غفلة الناس عن تتبع الأمور و قد ورد أنه كان بين المغرب و العشاء، فإن في هذه الساعة حيث يسدل الظلام ستاره و الناس من حال إلى حال يكونون غافلين، غير ملتفتين إلى ما يقع فَوَجَدَ موسى عليه السّلام فِيها أي في تلك المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يختصمان، و لعل المراد القسم الخاص من الاختصام، و هو ما يؤدي إلى القتل هذا أي أحدهما مِنْ شِيعَتِهِ شيعة موسى، و قد كان إسرائيليا وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ أي من جملة أعدائه- و المراد بالعدو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 284.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 141

[سورة القصص (28): آية 16]

قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)

الجنس- فإنه كان قبطيا فَاسْتَغاثَهُ أي استغاث و استجار بموسى الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ و هو الإسرائيلي عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ بأن ينصره عليه

و يعينه فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفع القبطي بالوكز و هو اللكم، بجمع الكف فَقَضى موسى عَلَيْهِ أي أهلكه و أماته، ثم قالَ موسى عليه السّلام غاضبا على القبطي المقتول هذا الاختصام منه للإسرائيلي مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فإنه هو الذي أمره بالاختصام فيما لم يكن له الحق، حتى يؤدي به إلى هذه الحالة إِنَّهُ أي الشيطان عَدُوٌّ للإنسان مُضِلٌّ مُبِينٌ واضح العداء و الإضلال، و قد أضل القبطي حتى سبب له القتل.

[17] و لما قتل القبطي خاف من مكر فرعون و أن يقتص منه، و لذا تضرع إلى الله سبحانه في أن يستر له هذا الأمر حتى لا يؤخذ به عند فرعون قالَ موسى عليه السّلام، مناجيا، يا رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي و الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و منه يسمى التعدي ظلما، إذ هو أن يعمل الإنسان ما لا ينبغي، و المعنى إني وضعت نفسي في غير موضعها حيث جئت إلى هذه المدينة التي سببت لي هذه المشكلة فَاغْفِرْ لِي الغفران هو الستر، و منه تسمى المغفرة مغفرة لأنها تستر الذنب، و المعنى فاسترني من كيد فرعون فَغَفَرَ الله لَهُ بأن ستره عن كيد فرعون، و إن اطلع عليه، لكنه لم يتمكن أن يقتص منه إِنَّهُ سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 142

[سورة القصص (28): الآيات 17 الى 18]

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

هُوَ الْغَفُورُ الساتر كثيرا الرَّحِيمُ الذي يرحم الناس و يتفضل عليهم.

[18] و هناك شكى موسى ربه و قالَ يا رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ أي بما تفضلت علي من

القوة حتى تمكنت من قتل بعض أعدائك فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً و ناصرا لِلْمُجْرِمِينَ و إنما سمي الناصر ظهيرا لأنه يأخذ ظهره في مقابل الأعداء و المعنى أني أشكر نعمة قوتك لي بأن لا أصرفها في مناصرة المجرمين.

[19] و شاع قتل موسى للقبطي فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ التي قتل فيها القبطي خائِفاً من كيد فرعون يَتَرَقَّبُ أي ينتظر الأخبار حتى يعرف إلى أي مدى أثر هذا القتل، و ماذا يفعله القوم من عقاب موسى، و مرّ على مكان في المدينة فَإِذَا به يرى الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ أي الاسرائيلي الذي طلب نصرة موسى بِالْأَمْسِ في حين كان يختصم مع القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يطلب من موسى أن ينصره على قبطي آخر تخاصم معه، و المعنى أن الاسرائيلي يختصم مع شخص آخر و يطلب من موسى أن ينصره على عدوه كما نصره بالأمس على ذلك القبطي المقتول قالَ لَهُ أي للاسرائيلي مُوسى عليه السّلام محذرا له عن المخاصمة مع القبط الذين هم من الكثرة بمكان إِنَّكَ أيها الاسرائيلي لَغَوِيٌ أي ظاهر الغواية و الخسران إذ من يقاتل كل يوم قبطيا في حكومتهم يخسر- بالآخرة- و يقع في كيدهم، و الغواية كما تطلق على العاصي لأنه خسر الآخرة، كذلك تطلق على من يأتي بما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 143

[سورة القصص (28): الآيات 19 الى 20]

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ

(20)

لا يحمد عقباه، لأنه يخسر الدنيا مُبِينٌ أي ظاهر الغواية.

[20] و استعد موسى لتلبية الطلب و أن ينصر الاسرائيلي على القبطي فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى عليه السّلام أَنْ يَبْطِشَ بالضرب بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي بالقبطي الذي هو عدو لموسى و للاسرائيلي، ظن الاسرائيلي أن موسى يريد أن يبطش به، لا بالقبطي، حيث سبق منه أن قال «إنك لغوي» قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ حيث قتلت ذلك القبطي؟ قاله على نحو الاستفهام الإنكاري، و من المحتمل إن هذا قول القبطي حيث اشتهر الخبر و عرف أن موسى هو قاتل القبطي إِنْ تُرِيدُ أي ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً و هو الظالم، و سمي جبارا، لأنه يجبر الناس على المكروه فِي الْأَرْضِ كأن الإتيان بهذا اللفظ هنا لزيادة التشنيع، فليس جبارا في مدينة، أو محل خاص، و إنما جبارا في الأرض وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يا موسى مِنَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون بين الناس، و هذا تأكيد للجملة السابقة، فتلك عقد إيجابي و هذا عقد سلبي.

[21] و إذ قد انتشر خبر قتل موسى رجلا من القبط ائتمر فرعون برجاله و قرروا قتل موسى قصاصا لما فعل وَ جاءَ رَجُلٌ

قد ورد أنه كان خازن فرعون و كان مؤمنا بموسى يكتم إيمانه تقية

مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 144

[سورة القصص (28): الآيات 21 الى 22]

فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)

أي آخرها يَسْعى أي يسرع ليصل إلى موسى لئلّا يلحقه القبض قبل إعلامه بالواقعة قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أي الأشراف،

و هم فرعون و حاشيته يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورون فيك، و يأمر بعضهم بعضا لِيَقْتُلُوكَ قصاصا فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ و كأن الله سبحانه شاء ذلك لموسى حتى ينضج، فإن الرئيس يحتاج إلى أكبر قدر من النضج حتى يتمكن من إدارة الأمة.

[22] فَخَرَجَ موسى عليه السّلام مِنْها من مصر خائِفاً عن أن يلحقه الطلب يَتَرَقَّبُ خلفه هل يأتي ورائه أحد أم لا، من المراقبة و هي ملاحظة الأمر لئلا يقع ما يحذره الإنسان قالَ ضارعا إلى الله سبحانه يا رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، و هم فرعون و آله.

[23] وَ لَمَّا تَوَجَّهَ موسى عليه السّلام تِلْقاءَ أي حذاء و مقابل مَدْيَنَ أي صرف وجهه نحو «مدين» شعيب و هي مدينة سميت باسم أول من مدّنها و هو «مدين بن إبراهيم» و لم تكن تلك المدينة تحت سلطان فرعون و كان بينها و بين مصر ثلاثة أيام- كما ورد- قالَ عَسى رَبِّي أي لعل الله سبحانه أَنْ يَهْدِيَنِي و يرشدني سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي الموصل إلى المقصد، بأن لا أضل حيث المتاهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 145

[سورة القصص (28): الآيات 23 الى 24]

وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

و الهلاك، و كان هذا دعاء منه بلفظ الخبر.

[24] و طوي الليل و النهار حتى اقترب من المدينة وَ لَمَّا وَرَدَ وصل موسى عليه السّلام ماءَ

مَدْيَنَ بئر كانت لهم يستقون منها أنعامهم و مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أي على الماء أُمَّةً جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ أنعامهم و مواشيهم، و حذف مفعول السقي لأنه لا حاجة إليه في موضوع الكلام وَ وَجَدَ موسى عليه السّلام مِنْ دُونِهِمُ أي من خلفهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ذاد بمعنى منع، أي تمنعان أغنامهما عن الورود على الحوض فقد كرهتا الاشتراك مع الرجال، و أن تختلط مواشيهما بمواشي القوم، فكانتا تنتظران أن يذهب القوم ثم تسقيان الأغنام قالَ موسى عليه السّلام لهما ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما و ما العلة في عدم إسقاء أغنامكما مع القوم؟ قالَتا لا نَسْقِي عند المزاحمة مع الرجال حَتَّى يُصْدِرَ من أصدر إذا رجعت عن الماء ماشيتهم الرِّعاءُ جمع راع، و هو الذي يرعى الماشية، أي ننتظر حتى يرجع الرعاة مواشيهم، فيبقى فضول الماء في الحوض، فنسقي أغنامنا، ثم اعتذرتا عن إتيانهما و هما امرأتان قائلتين وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يطيق أن يخرج و يتولى السقي بنفسه، و لذا نحن نقوم مقامه.

[25] فَسَقى موسى عليه السّلام الغنم لَهُما أي لأجلهما، بأن ساق الغنم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 146

[سورة القصص (28): آية 25]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)

حتى شربت من الحوض، مع مواشي الناس ثُمَّ تَوَلَّى أي أعرض و رجع إِلَى الظِّلِ من حر الشمس، و جلس تحته و هو متعب جائع فَقالَ يا رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي إني فقير محتاج لما تنزله إلي من أقسام الخير، الطعام و المأوى و الكنف المطمئن، فقوله،

«لما» متعلق بقوله «فقير» و «من خير» للعموم، لأن الإنسان الغريب الفقير الخائف يريد كل شي ء ليهنأ و يستريح.

[26] و قد كانت البنتان ترجعان كل يوم بعد مدة، و قد رجعتا اليوم قبل الموعد المقرر، فتعجب أبوهما من ذلك و سأل السبب؟ فأخبرتاه بقصة موسى عليه السّلام فقال لإحداهما علي به فَجاءَتْهُ أي جاءت إلى موسى إِحْداهُما و في بعض التفاسير أنها الكبرى تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مستحية كما هي عادة النساء الخفرات إذا أردن الذهاب إلى رجل أجنبي للتكلم معه أو معاملته أو نحوهما، و لما وصلت إلى موسى قالَتْ له إِنَّ أَبِي شعيب يَدْعُوكَ أن تأتي إليه لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي ليعطيك جزاء سقيك لأغنامنا، و ذهب موسى معهما فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء موسى إلى شعيب وَ قَصَ موسى عليه السّلام عَلَيْهِ أي على شعيب الْقَصَصَ التي سبقت له من قتل القبطي و فراره من القوم لما أرادوا قتله و سائر أحواله في مصر قالَ شعيب له لا تَخَفْ بعد هذا، فقد نَجَوْتَ و تخلصت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 147

[سورة القصص (28): الآيات 26 الى 27]

قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)

مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، يريد فرعون و آله.

[27] قالَتْ إِحْداهُما أي أحدى البنتين، و

قد ورد إن اسمهما «صفوراء»

«1» يا أَبَتِ التاء عوض عن الياء، كما قال ابن مالك:

و في النداء أبت أمت عرض بعد النداء و من اليا،

التاء عوض

اسْتَأْجِرْهُ أي اتخذه أجيرا، و لعلها أرادت إيجاره ليكفي عنهما شأن السقي إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ أي أن خير الأجراء الذي يكون قويا يتمكن من العمل، أمينا لا يخون المستأجر، و هذا تعريض بأن موسى قوي أمين، كقولك: قبّل يد زيد إن خير يد تقبل يد العالم الورع، تريد العريض بأن زيدا عالم ورع،

قال الإمام الكاظم عليه السّلام قال لها شعيب يا بنية هذا قوي قد عرفته برفع الصخرة، و الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبت إني مشيت قدامه فقال: امشي من خلفي فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق فإنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء

«2».

[28] قالَ شعيب عليه السّلام لما عرف موسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ أي أزوجك إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ اللتين رأيت سوادهما عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 58.

(2) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 148

[سورة القصص (28): آية 28]

قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

أي تكون أجيري، فإن الأجير يؤجر نفسه للمستأجر في مقابل ثمن يأخذه، و الثمن هنا كان تزويج البنت، فقد جعل شعيب عليه السّلام مهر بنته عمل موسى عليه السّلام له ثَمانِيَ حِجَجٍ جمع حجة، و هي العام أي تعمل لي ثمان سنوات، و ثمان حجج ظرف زمان، أي تكون أجيري في هذه المدة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً بأن عملت لي عشر سنوات، مقابل تزويجي لك ابنتي فَمِنْ عِنْدِكَ أي أن السنتين الزائدتين تفضل من عندك، لا واجب عليك، و إن كنت راغبا في ذلك، و المعنى من عندك تفضلا لا من

عندي إلزاما وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ في هذه السنوات الثمان، بأن أكلفك ما يشق عليك من الخدمة سَتَجِدُنِي يا موسى لدى معاشرتك لي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في السيرة و المعاشرة، و قيل للصالح صالح، لأنه يصلح للدنيا و الآخرة، ثم إن الظاهر من الآية كون ذلك كان جائزا في شريعة شعيب، بأن يكون المهر للأب، و يحتمل أن يكون «على» بمعنى الشرط، و إنما كان المهر شيئا آخر، و على أي حال فقد كان ذلك لموسى عليه السّلام نعمة كبري حيث يجد الزوجة، و الأهل و المأوى، و المعيشة، و

قد ورد أن موسى و في بأبعد الأجلين، و إنها كانت هي التي ذهبت تدعوه إلى أبيها

«1».

[29] قالَ موسى عليه السّلام في جواب شعيب ذلِكَ التزويج، بمقابل عشر

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 13 ص 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 149

[سورة القصص (28): آية 29]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)

سنوات بَيْنِي بأن أعمل أنّا وَ بَيْنَكَ بأن تزوج أنت، و كأن هذه الجملة لإبرام العهد، بمعنى أنّا لا نخرج عن ذلك الذي قلنا، إذ لو خرج أحدهما عن الشرط فكأنه لم يصر بين الطرفين، و إنما طرف مربوط بالموفى، و طرف آخر مقطوع لا يرتبط بأحد أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أي المدتين و هما ثمان، و عشر سنوات قَضَيْتُ و عملت بطبقه فَلا عُدْوانَ عَلَيَ أي ليس ظلم علي بأن أكلف أكثر من ذلك الذي أريد، و لا أطالب بالزيادة وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي نكله في أن يشهد

المعاقدة بيننا، حتى نعلم أنه وسط و شاهد، فمن أراد الخلف كان خلفا مع الله، إذ هو الموكّل في الأمر، حسب توكيلنا له.

[30] و تزوج موسى عليه السّلام بالبنت، و خدم شعيب عشر سنوات فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و وفى بما وعد من خدمة شعيب، هاجت به العاطفة نحو أمه التي خلفها في مصر، فاستأذن شعيبا أن يزور أمه، فأذن له، فخرج من «مدين» وَ سارَ بِأَهْلِهِ أي مع زوجته، و لعلهما كانا يسيران في اختفاء لئلا يظفر بهما فرعون، و في ذات ليلة إذ الهواء بارد، و الليلة مظلمة، أخذ زوجته الطلق، فاحتاج إلى الغذاء و التدفئة و حينذاك آنَسَ أي رأى ما يوجب الأنس، و هو اطمئنان النفس و فرحها مِنْ جانِبِ الطُّورِ و هو صحراء في الشام ناراً تشتعل، فسر بذلك لأنه قصد أن يذهب إليها، ظانا إن لها أهلا، فيستعين بهم في حل مشكلته قالَ موسى عليه السّلام لِأَهْلِهِ أي لزوجته امْكُثُوا أي الزموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 199

[سورة القصص (28): الآيات 30 الى 31]

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)

مكانكم لا تسيروا منه، حتى إذا رجعت لا أضل محلكم، و الإتيان بضمير الجمع لقصد الاحترام، كما هو الشائع في كلام المتأدبين.

إِنِّي آنَسْتُ ناراً أرى هناك نارا تشتعل، أذهب إليها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها أي من النار بِخَبَرٍ لنذهب إلى أهلها، و نستعين بهم في أمرنا،

أو نسترشدهم الطريق أَوْ آتيكم ب جَذْوَةٍ أي قطعة مِنَ النَّارِ إذا لم يمكن السير إليها، لمحذور كعدم حسن الطريق أو ما أشبه لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون بها.

[31] فَلَمَّا أَتاها أي وصل موسى قرب النار نُودِيَ و المنادي هو الله سبحانه، بأن خلق الصوت فسمعه موسى عليه السّلام مِنْ شاطِئِ أي جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ صفة للشاطئ، أي الجانب الأيمن من وادي سيناء فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ أي القطعة من الأرض التي بوركت بنزول الوحي فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي كانت ثابتة هناك أَنْ يا مُوسى بيان ل «نودي» أي كان النداء هو؛ يا موسى إِنِّي المتكلم معك أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي خالقهم و مربيهم.

[32] وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ أي اطرحها على الأرض من يدك، و قد ورد أن عصاه كانت من الجنة، و أعطاها شعيب له حينما أراد السفر، فألقاها موسى من يده، و إذا بها انقلبت حية عظيمة تسرع في الحركة و القفز

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 151

[سورة القصص (28): آية 32]

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)

فَلَمَّا رَآها موسى عليه السّلام تَهْتَزُّ و تتحرك كَأَنَّها جَانٌ و هي الحية السريعة الحركة، و قد كان التشبيه بها- مع إنها كانت كبيرة- لأجل سرعة حركتها، فإن الحية الصغيرة أسرع حركة من الكبيرة- كما قالوا- وَلَّى أي أعرض عن الحية، و أخذ يسرع في الهرب منها مُدْبِراً فقد أعطاها قفاه و وجهه إلى جانب الصحراء، راكضا للفرار منها وَ لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع إليها، و لم ينظر، كما هو شأن الخائف الفار، إنه لا يرجع

و لا ينظر عقبه، لئلا يلحقه- في هذه الفترة- الطلب و حينذاك نودي يا مُوسى أَقْبِلْ إلى نحو الحية وَ لا تَخَفْ من ضررها إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من شرها، فإنها معجزة لك و ليست حية تؤذي.

[33] ثم نودي ثانيا اسْلُكْ أي أدخل يا موسى يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في شق ثوبك الأعلى من طرف النحر تَخْرُجْ اليد حين تخرجها بَيْضاءَ مشرقة كالشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي بدون أن يكون ذلك البياض من قبيل بياض البرص، و إنما قيد بهذا القيد لاعتياد أن بياض اليد، أو سائر الجسم إنما هو من البرص، و قد ورد إنه إذا أراد إرجاع الحية عصا، أخذها، و إذا أراد إرجاع اليد إلى حالتها السابقة، أدخلها ثانيا في جيبه، فإذا أخرجها صارت كالسابق وَ اضْمُمْ يا موسى إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ و قد أخذ يرتعد و يرتعش من خوف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 152

[سورة القصص (28): الآيات 33 الى 34]

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)

الموقف، فنودي أن يضم يديه إلى نفسه كالطائر الذي يضم جناحيه، فإن ذلك موجب لشدة الأعصاب فلا يرتعش الإنسان فالمراد من «جناحك» يدك، و معنى «من الرهب» لأجل الخوف الذي عرض عليك.

فَذانِكَ أي العصا، و اليد البيضاء، و إنما جي ء بالمذكر باعتبار المشار إليه، و هو «برهان» بُرْهانانِ اثنان، و خارقتان تدلان على نبوتك، و الكاف في «ذانك» للخطاب مِنْ رَبِّكَ أي من طرفه سبحانه إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي جماعته إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله، و لذا احتيج إلى بعث الرسول

إليهم، و تزويده بالخارقة ليكون أقرب إلى التصديق.

[34] قالَ موسى عليه السّلام يا رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً و هو القبطي الذي قتله حينما تخاصم مع الإسرائيلي فَأَخافُ إن ذهبت إليهم لأدعوهم أَنْ يَقْتُلُونِ أي يقتلونني قصاصا.

[35] وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فقد كانت في لسان موسى عقدة، من جراء أن جعل الجمر على لسانه في صغره- في قصة تقدمت- و قد دعا موسى عليه السّلام أن يزيلها بقوله: «وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» فأزالها سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رسولا رِدْءاً أي معينا لي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 153

[سورة القصص (28): الآيات 35 الى 36]

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)

على تبليغ رسالتك، يقال فلان ردء فلان، أي ظهره و معينه و ناصره يُصَدِّقُنِي فيما أؤديه من الرسالة إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أي يكذبونني فيما أدعيه من الرسالة، و الخوف يطلق على المقطوع، كما يطلق على المشكوك و المظنون.

[36] قالَ الله سبحانه، في جواب طلبه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ أي نقويك بِأَخِيكَ فنجعله نبيا معك، و هذه استعارة تشبيها بشد بعض الأشياء إلى بعض الموجب لتقوية الجمع حتى لا يؤثر فيها الكسر، و نسبة الشدّ إلى العضد لأن الإنسان يعمل بيده، و العضد مظهر القوة في اليد، و لو قيل سنشد يدك، كان بعيدا عن الذوق وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي سلطة و سيطرة على فرعون و قومه، بالحجة و البرهان، فَلا يَصِلُونَ أي فرعون و قومه إِلَيْكُما بالإيذاء بسبب ما تزودان به من

آياتنا الخارقة كالعصا، و اليد، و غيرهما، و هذا في جواب قول موسى «فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» أَنْتُما يا موسى و هارون وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا من المؤمنين الْغالِبُونَ على فرعون و أتباعه.

[37] و رجع موسى عليه السّلام إلى أهله يخبرهم بما كان من أمر النار، و قد سهل الله لهم الأمر، حتى سارا و وصلا إلى مصر، و أخبر هارون بقدوم موسى، إذ كان في ذلك الوقت في مصر، فأوحى الله إليه و جعله نبيّا، ثم جاءا إلى فرعون فَلَمَّا جاءَهُمْ أي فرعون و قومه مُوسى و أخوه بِآياتِنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 154

[سورة القصص (28): الآيات 37 الى 38]

وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38)

الدالة على نبوته بَيِّناتٍ أي واضحات ظاهرات قالُوا عن الآيات ما هذا الذي أتيت به من أنواع الخارقة إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي أنت اختلقته و نسبته إلى الله سبحانه، و ليس هناك إله أعطاك هذه الأمور وَ ما سَمِعْنا بِهذا الذي تقوله من وجود الإله، و ما أعطيته دليلا على نبوتك فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي لم يظهر فيهم بمثل هذا، حتى ينقل إلينا، و نسمعه، فهو أمر جديد مختلق.

[38] وَ قالَ مُوسى في جواب تكذيبهم رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فإن هذا من عند الله، و ليس افتراء، و هو هداية لا سحر، و الله يعلم ذلك، و لو كان افتراء و

ضلالا حال بيني و بينه حتى لا أكون سببا للإضلال وَ ربي أعلم ب مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ و هذا تعريض بهم بأن العاقبة الحسنة لنا لا لكم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يفوزوا بعاقبة الدار، و قوله عليه السّلام «و من تكون» تهديد، يعني إنكم إن لم تؤمنوا تكون عاقبتكم سيئة، و نسبة العاقبة إلى الدار من باب النسبة إلى المكان مجازا، و المراد عاقبة الإنسان في الدار، أو المراد آخر الدار، فالنسبة حقيقة.

[39] و لما انقطع فرعون عن الاحتجاج مع موسى التفت إلى قومه يحفظهم عن السير مع موسى و يقويهم ليبقوا على باطلهم وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 155

[سورة القصص (28): آية 39]

وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)

الأشراف من قومي ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فلا إله إلا أنا، ثم توجه إلى وزيره هامان فقال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي أجج النار و اصنع الآجر، فإن الطين سواء أو قد تحته أو فوقه طبخ و صار أقوى في البنيان فَاجْعَلْ لِي أي ابن لي صَرْحاً أي قصرا عظيما مشيدا من الآجر، ليكون أقوى استحكاما لَعَلِّي اصعد عليه و أَطَّلِعُ أي أشرف من فوق القصر إِلى إِلهِ مُوسى فقد أراد أن يلبس على العوام أن إله موسى في الأرض فإذا صعد الإنسان السطح العالي أشرف عليه حتى يراه و يعرف مزاياه وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ أي أظن موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في مقاله أن للكون إلها، و أنه رسوله، و الإتيان بلفظ «لأظنه»، للتلبيس على الناس بأنه منصف حتى أنه لا يقول الكلام الخشن،

بل الكلام المنصف المريد العثور على الواقع.

[40] وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ أي فرعون وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي ترفعوا أنفسهم فوق مقدارها بِغَيْرِ الْحَقِ أي ترفعا بالباطل، في مقابل ترفع الإنسان عن الدنايا، فإنه ترفع بالحق وَ ظَنُّوا بأن لم يكونوا متيقنين بل ظانين أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ في الحشر حتى نحاسبهم على أعمالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 156

[سورة القصص (28): الآيات 40 الى 41]

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41)

[41] فَأَخَذْناهُ تعظيم للعذاب، و تحقير له حتى كأنه يؤخذ باليد وَ جُنُودَهُ الذين ظاهروه على الكفر و الطغيان فَنَبَذْناهُمْ أي طرحناهم- بكل مهانة كمن يأخذ جرادة و يطرحها في مهلكة- فِي الْيَمِ أي في البحر، و هو البحر الأحمر في مصر الموجود إلى الآن فَانْظُرْ يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه النظر، و المراد بالنظر الاعتبار و العلم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، و هذا تصديق لقوله تعالى (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) «1».

[42] وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً جمع إمام، أي مقتدون للناس، و نسبة الجعل إليه سبحانه باعتبار أنه خلقهم و هيئ الأشياء و الأسباب لهم، و لم يمنعهم منعا تكوينا عن أعمالهم يَدْعُونَ الناس إِلَى النَّارِ فإن الدعوة إلى الكفر و المعاصي دعوة إلى النار، و هذا كما يقول الملك «جعلت فلانا مثالا للعصيان و محلا للمتمردين» يريد أنه لم يضرب على يده و لم يأخذه وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ عن النار، فإنهم يدخلونها أذلاء، كما لم ينصروا هنا عن الغرق، بل أغرقوا في

اليم، فليعلم أتباعهم إنهم معذبون في الدنيا و الآخرة.

______________________________

(1) الأنعام: 136.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 157

[سورة القصص (28): الآيات 42 الى 44]

وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)

[43] وَ أَتْبَعْناهُمْ أي أردفنا بعقبهم فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً بأن أمرنا المؤمنين بلعنهم و البراءة منهم، و جعلناهم بعداء عن الخير و السعادة طرداء عن الرحمة وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ فهنا لك لهم القبح و الخزي و العار و المقت و النار.

[44] ثم يأتي السياق ليؤكد سنّة الله في إهلاك الكافرين، كما أهلك فرعون و من قبله وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى حيث كذبوا أنبياءهم، مثل قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم و المراد بإتيان الكتاب: الإرسال، أي كان إرسال موسى بعد إهلاك المجموع المكذبين بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي في حال كون الكتاب براهين تبصر الناس أمور دينهم و دنياهم، و إنما أوتي بلفظ الجمع، باعتبار الجمل التي في الكتاب وَ هُدىً يهدي إلى الحق وَ رَحْمَةً موجبا لرحمة الناس، فإن من عمل بالكتاب يرحمه الله سبحانه لَعَلَّهُمْ أي لعل قوم موسى يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة حول الأصول و الآداب، فقد أودع في فطرة الإنسان المبدأ و المعاد و الرسالة- إجمالا- كما أودع فيه حسن الأشياء الحسنة و قبح الأشياء القبيحة.

[45] و إنك يا رسول الله إنما تنقل هذه

القصص بوحي من الله، و إلا لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 158

[سورة القصص (28): آية 45]

وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)

تكن حاضرا في تلك الأزمنة حتى تشاهدها بعينك، ثم تحكيها، و إنما هي دالة على أنك نبي، و إلا فمن أين يعلم من لم يقرأ و لم يكتب و لم يشهد وقت القصة، التفاصيل و المزايا؟ وَ ما كُنْتَ يا رسول الله بِجانِبِ الْغَرْبِيِ أي بجانب الجبل الواقع في طرف الغرب و هو جبل طور الذي كلم الله فيه موسى و أعطاه التوراة إِذْ قَضَيْنا أي أرسلنا و عهدنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ بإعطائه الكتاب و الشريعة وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين في ذلك الزمان مع بني إسرائيل لتعرف عن مشاهدة قضايا موسى عليه السّلام التي تنقلها في القرآن.

[46] و لكن إخبارك إنما هو عن الوحي، و إنما أوحينا إليك لأن الرسل قد انقطعوا، و رجعت الناس إلى الضلالة، فأرسلناك و أوحينا إليك بهذه الأخبار وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً و أجيالا جديدة بعد عهد النبوات السابقة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي ابتعد عنهم قضايا تلك الأزمنة السابقة، لأن تطاول عمر الأجيال يستلزم نسيان الأنباء القديمة التي تدل على نصرة الله للأنبياء و إهلاكه للظالمين، فقوله «تطاول» من باب إقامة السبب مقام المسبب، لأن المراد به «نسيان الأمور السابقة».

و حيث أن هذا الجيل المعاصر لك، لا يعلمون الأمور، و ينكرون الألوهية الصحيحة و المعاد و أرسلناك إليهم لتذكرهم، و تذكرتك عن الوحي، و إلا لم تكن أنت مع موسى، و لا مع قومه وَ ما كُنْتَ يا رسول الله

ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ شعيب، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 159

[سورة القصص (28): آية 46]

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)

تَتْلُوا عَلَيْهِمْ على أهل مكة آياتِنا التي سبقت في أهل مدين، حتى تكون أخبارك عن قضايا مدين لأنك شاهدتها بعينك و كنت مقيما في تلك المدينة في زمان شعيب وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك و بالوحي نعلمك تلك القضايا حتى تقرأها على قومك حجة على صدقك، و لقائل أن يقول فمن أين يعلم أهل مكة صدق الرسول؟ و الجواب إنهم يعلمون ذلك باستحضار الأخبار من أهل الكتاب، كما قال (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) «1».

[47] وَ ما كُنْتَ يا رسول الله بِجانِبِ الطُّورِ الذي صار موسى فيه نبيا إِذْ نادَيْنا موسى فقد كان لموسى ميقاتان، الأول حين أرسل رسولا إلى فرعون و الثاني حين أرسل إليه الكتاب بعد إهلاك فرعون و خروجهم من مصر وَ لكِنْ كان إخبارك عن تلك الأحوال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تفضل بها عليك حيث جعلك رسولا، و على أمتك حيث أرسلك إليهم لِتُنْذِرَ قَوْماً هم أهل مكة، تخوفهم من الكفر و المعاصي ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فإن جيل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعث فيهم نبي قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة فيرجعوا عن غيّهم و ضلالهم، بسبب القرآن الهادي لهم إلى ما

______________________________

(1) النحل: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 160

[سورة القصص (28): الآيات 47 الى 48]

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا

لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48)

أودع في فطرتهم.

[48] ثم قال سبحانه إنه لو لا عدم إتمام الحجة على هؤلاء من قومك لما أرسلناك إليهم، أما حيث إنهم ابتعدوا عن النبوات السابقة، و غمرهم الجهل، أرسلناك إليهم وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ أي تصيب قومك مُصِيبَةٌ من العقاب بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر و المعاصي فَيَقُولُوا محتجين على الله في أن عاقبهم بدون إتمام الحجة: يا رَبَّنا لَوْ لا أي هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إلى الحق حتى لا نعصي فنستحق العقاب فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و ما أنزلت و أمرت وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و جواب «لو لا» محذوف أي لو لا عدم تمام الحجة عليهم، لم نرسلك، أما و إنهم لم تتم الحجة عليهم لبعدهم عن الأنبياء، فقد أرسلناك و ها هم يعاندون و لا يؤمنون، و هناك قول آخر بأن جواب «لو لا» «لجعلنا لهم العقاب» إنهم كانوا يقولون هكذا لو لم نرسل، و عذبناهم، فها نحن قد أرسلنا، و لم يؤمنوا.

[49] فَلَمَّا جاءَهُمُ أي جاء أهل مكة الْحَقُ الذي هو الرسول و القرآن مِنْ عِنْدِنا حيث أرسلنا الرسول و أنزلنا القرآن قالُوا تبريرا لموقفهم ضد الرسول لَوْ لا أي هلا أُوتِيَ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى لو كان هذا نبيا لأتى بمثل معاجز موسى من فلق البحر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 161

[سورة القصص (28): آية 49]

قُلْ فَأْتُوا

بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49)

و العصا و اليد و غيرها.

فهل إنا لو أعطيناك مثل ما أعطينا موسى أ كانوا يقبلون؟ كلا! و الشاهد على ذلك إن الناس الذين هم من جنس هؤلاء كفروا بمعاجز موسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى من الخوارق و المعاجز؟ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إرسالك قالُوا سِحْرانِ مبالغة في كونهما ساحرين، مثل زيد عدل، أي قالوا إن موسى و هارون ساحران تَظاهَرا صار أحدهما ظهر الآخر و عونه وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍ منهما كافِرُونَ و لو فرض أن النبي جاء بمثل تلك المعاجز قالوا فيها ما قالوا لموسى و هارون، بالإضافة إلى أنهم لم يدركوا أن المعجزة يجب أن تلائم أهل الزمان، و لذا جاء موسى بتلك المعاجز حيث كثر في زمانه السحر، و جاء عيسى بالإحياء و الإبراء، حيث كثر في زمانه الطب، و جاء الرسول بالقرآن حيث كثر في زمانه الفصاحة و البلاغة- كما ذكر مفصلا في علم الكلام-.

[50] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين لا يقبلون منك القرآن و يريدون إعجازا مثل عصا موسى فَأْتُوا أي هاتوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي أكثر هداية من التوراة و القرآن حتى أَتَّبِعْهُ و آخذ بأحكامه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن لا يكفي للهداية، و إنما يجب أن يكون خارق حتى نهتدي بك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 162

[سورة القصص (28): الآيات 50 الى 52]

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ

(51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

[51] فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا أي هؤلاء الكفار لَكَ يا رسول الله، بأن لم يتمكنوا من إتيان كتاب هو أهدى من القرآن فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ فإنهم يكفرون بالقرآن عن هوى و ميل نفس لا عن حجة و برهان، فقد انسد عليهم باب البرهان وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أكثر ضلالا منه، حيث يترك أحكام الإله و يتبع الهوى، و قوله «بغير هدى» تأكيد، فهو جانب السلب من القصة و إذا أريد بالتأكيد جي ء بالجانبين، فيقال: زيد يسمع كلام الشيطان و لا يسمع كلام الرحمن- مثلا- و اعلم: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الإيمان الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين عاندوا الحق بعد ما رأوه، فإنه لا يلطف بهم الألطاف الخفية بل يتركهم و شأنهم.

[52] وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي جئنا بآية بعد أخرى، متصلة الآيات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة، فإن لدوام الوعظ و الإنذار أثرا في التذكير و الإيقاظ.

[53] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ إعطاء بسبب الأنبياء عليهم السّلام، و قد أخذوه حق الأخذ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الرسول، أو من قبل القرآن هُمْ بِهِ أي بالرسول أو بالقرآن يُؤْمِنُونَ لأنهم يعرفون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 163

[سورة القصص (28): الآيات 53 الى 54]

وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

الرسول، و قد تهيأت نفوسهم للإيمان حيث لا يتبعون الأهواء، أما من لا يؤمن من أهل الكتاب فكأنه لم يعط الكتاب،

إذ غير العامل به و الذي لم يعط على حد سواء، و

قد ورد أن الآية نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب

«1».

[54] وَ إِذا يُتْلى القرآن عَلَيْهِمْ أي على أهل الكتاب المؤمنين قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بالقرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ليس باطلا اختلقه الرسول كما يقول المشركون إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي قبل نزوله مُسْلِمِينَ حيث رأينا صفات النبي في التوراة و الإنجيل.

[55] أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أي يعطيهم الله أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة لتمسكهم بدينهم حتى جاء الرسول، و مرة لإيمانهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الإيمان بالكتاب الأول، و بالقرآن وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون بالأعمال الحسنة السيئات، إن هذا فوق الصبر فإنهم إذا رأوا سيئة، لم يصبروا عليها فحسب، بل دفعوها بالحسنة، كما قال سبحانه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «2» وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله سبحانه، و الرزق أعم من المال و العلم و الجاه و سائر ما أعطى الله الإنسان- و إن كان المنصرف هو المال-.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 64 ص 264.

(2) المؤمنون: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 164

[سورة القصص (28): الآيات 55 الى 56]

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

[56] وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي الهزء و السفه من الكلام و اللغو الذي لا فائدة منه أَعْرَضُوا عَنْهُ أي عن ذلك الكلام، و لم يقابلوه بالمثل، و لم يخوضوا مع اللاغين في اللغو وَ قالُوا لأولئك اللاغين لَنا أَعْمالُنا و

ديننا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و دينكم فكل منا يجازى على أعماله سَلامٌ عَلَيْكُمْ فأنتم في سلام و أمن من ناحيتنا لا نقابلكم بالمثل و لا نقصد لكم سوء لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي لا نطلب مجالستهم و معاونتهم و التخاصم معهم، و إنما هم فئة، و نحن فئة.

[57] و بعد ما بين السياق إن أهل الكتاب يؤمنون بهذا القرآن، بين إن الكفار الذين لا يؤمنون ليس على الرسول حسابهم، حتى يجهد نفسه لكي يهديهم، بل إنما عليه البلاغ إِنَّكَ يا رسول الله لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي لا تتمكن من هداية من تحب أن يهتدي من الناس، فإن الرسول كان يحب هداية عمه أبي لهب و غيره من أشراف قريش، بل الناس أجمعين، و لكنه لم يكن يتمكن من ذلك، و المراد بالهداية العمل الذي يجبرهم على الإسلام، لا مجرد إرائة الطريق، وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بأن يلطف به الألطاف الخفية حيث يراه مستعدا للإيمان مهيأ نفسه للإذعان، فإرائة الطريق من الله و الرسول، عامة لكل أحد أما الألطاف الخفية فالرسول لا يقدر عليها، و الله قادر عليها لكنه إنما يلطف بها على من أعد نفسه و أخذ يأتي في الطريق. و ممن تنطبق هذه الآية الكريمة عليه هو «سيد قطب» صاحب كتاب «في ظلال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 165

القرآن» الذي لم يهتد بنور الإيمان إذ ملأ قلبه بالحقد و الغل للرسول و آله و ذويه، فتراه في عرض تفسير و طوله، ينتقص من الرسول و عمه و سائر ذوي قرابته، في لفائف من الكلام المزيف، بالتقليد الأعمى عن الأمويين أعداء الله و الرسول، و الشجرة الملعونة في القرآن، فقد أخذ يطبق

هذه الآية الكريمة على أبي طالب، مع أنه قد ورد من طرق العامة و الخاصة أن أبي طالب من أول المؤمنين بالرسول، و هو القائل:

و لقد علمت بأن دين محمدمن خير أديان البرية دينا

و لو كان أبو طالب أبا لأحد كبرائهم لأهالوه بمقام الملائكة المكرمين، لكن ذنبه الوحيد أنه أبو علي أمير المؤمنين، و ماذا يقال في من يطبق آية «عبس و تولى» على رسول الله، ليبرئ ساحة عثمان الذي وردت فيه الآية عن التولي؟ و هكذا و هلم جرا، و قد صدق الله سبحانه حيث يقول «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ» و هل من محمل لعمل من يخوض دقائق الأمور، فيعرف الشعرة في الليل المظلم، ثم لا يرى الشمس الضاحية في وسط السماء، إلا العناد، و انه استحق عليه كلمة العذاب؟. و قد كنت أريد أن أنزه هذا السفر عن مثل هذه الأمور لكن غلو «قطب» جرني إلى ذلك فإنه أتى بكل ما لفقته الأموية النكراء، و لكن في لفائف حريرية، و قفازات براقة، فيظن الغير أنه برئ عن العصبية الجاهلية (وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) «1» «2» وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي القابلين للهداية، أو الذين

______________________________

(1) الشعراء: 228.

(2) راجع كتاب «مؤمن قريش» للاستاذ الخنيزي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 166

[سورة القصص (28): آية 57]

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)

اهتدوا فيجازيهم حسب علمه.

[58] و لقد كان من أعذار كفار مكة، في عدم إيمانهم، أنهم إن آمنوا بالرسول، يسلب مقامهم، لأن القبائل المجاورة، لا تخضع لهم بعد

ذلك، فيكونون مجبورين أن يخرجوا من هناك إلى حيث يتمكنون من العيش، و هذا هو الخطف، فإن الخاطف قد يكون إنسانا، و قد يكون تقديرا، كذا ذكر بعضهم، و ذكر بعض أنهم خافوا أن يختطفهم فارس و الروم إن علموا باختراع العرب دينا جديدا و منهجا جديدا، و

قد روي عن السجاد عليه السّلام إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: و الذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض و الأسود و من على رؤوس الجبال، و لجج البحار و لأدعون إليه فارس و الروم، فتجبّرت قريش و استكبرت و قالت لأبي طالب: أما تسمع إلى ابن أخيك ما يقول؟ و الله لو سمعت بهذا فارس و الروم لاختطفتنا من أرضنا و لقلعت الكعبة حجرا حجرا فأنزل الله تعالى هذه الآية

«1» وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ يا رسول الله بأن نؤمن كما تقول نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي نستلب من أرض مكة، فيأخذوننا الناس أسراء و لا طاقة لنا بهم أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً؟

أي ألم نجعل لهم مكانا آمنا هو الحرم، و هم كافرون، فمن يقدر على هذا يقدر على ان يأمنهم إذا أسلموا يُجْبى إِلَيْهِ أي يؤتى إليه و يجلب نحو محلهم ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من الفواكه، و الصنائع، و أنواع الأقمشة، و غيرها، فإن مكة حيث كانت مطافا للعرب، كانت تروج

______________________________

(1) روضة الواعظين: ج 1 ص 54.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 167

[سورة القصص (28): آية 58]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)

أسواقها بثمرات الجزيرة، و ثمرات الشام و اليمن، التي كانت ثمارها

أيضا تجبى- بدورها- من الهند و الصين و الروم و غيرها رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا نرزق به أهل مكة وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنا قدّرنا لهم هذا التقدير بأن جعلنا محلهم أمنا، و رزقهم وفرا. فإذا آمنوا كانوا أحق بذلك، و قد صدق الله سبحانه، فقد دل التاريخ- و الذي نشاهده الآن- إن أهل مكة منذ أن آمنوا قويت مكانتهم أكثر و صار الأمن و الرزق فيهم أوفر.

[59] أما إن بقوا على هذه الحالة ففي ذلك الوقت يختطفون بالهلاك و العذاب، و تقل أرزاقهم، كما كان كذلك القرى التي لم تؤمن، و انحرفت عن جادة الصواب وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية، بعلاقة الحالة و المحل، و لأن إهلاك الأهل مستلزم لإهلاك نفس القرية بخرابها بَطِرَتْ مَعِيشَتَها البطر هو الطغيان عند النعمة، أي طغت في المعيشة، فالمعيشة منصوبة بنزع الخفض و المعنى أعطيناهم المعيشة الواسعة، فجرتهم تلك إلى أن يكفروا من باب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي يمر عليها المارة في طرف الشام، و طرف اليمن، كأراضي لوط، و شعيب، و صالح لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا فقد انقرضوا بالهلاك، و باءت قراهم بالخراب، فلم يسكن في بلادهم إلا نفر قليل من الناس الذين جاءوا من بعدهم

______________________________

(1) العلق: 7 و 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 168

[سورة القصص (28): الآيات 59 الى 60]

وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ

فَلا تَعْقِلُونَ (60)

وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ لديارهم فلم يكن وارث يرث الأرض منهم، و لذا بقيت كسائر الأراضي لا مالك لها إلا الله سبحانه.

[60] وَ ما كانَ رَبُّكَ يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرى التي تكفر و تعصي الله حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها المركز لها رَسُولًا يقيم الحجة عليهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على المعارف و أصول الدين، فإذا أعرضوا عن الرسول، و لم يؤمنوا استحقوا الهلاك و النكال وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى أصله «مهلكين» حذف النون للإضافة إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ أنفسهم بالكفر و العصيان فالهلاك معلول لأمرين، الأول ظلم أهل القرية، و الثاني إتمام الحجة عليهم ببعث الرسول.

[61] فلا تغترّوا أيها الناس بالحياة الدنيا التي تصدكم عن الإيمان، لأجل المال و المنصب و التقليد و ما أشبه وَ ذلك لأن ما أُوتِيتُمْ أي أعطيتم مِنْ شَيْ ءٍ من الزخارف فهو متاع الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها أي هو شي ء تتمتعون به في هذه الحياة القريبة و تتزينون به وَ ما عِنْدَ اللَّهِ أي الجنة، و المراد بكونها عند الله، إن الله هيّأها للصالحين خَيْرٌ من هذه النعم وَ أَبْقى أي هي أكثر بقاء أَ فَلا تَعْقِلُونَ ألا تتفكرون بعقولكم حتى تميزوا بين الآخرة الباقية، و الدنيا الفانية؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 169

[سورة القصص (28): الآيات 61 الى 63]

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63)

[62] أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي الذي وعدناه بالجنة،

و هو المؤمن فَهُوَ لاقِيهِ أي نفي له بالوعد، فيلاقي الشي ء الحسن الموعود به كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي كالذي متع بمتاع هذه الحياة فقط ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أي يحضر للعقاب و الجزاء، فهل هذا و ذاك متساويان؟ فكما أن متع الحياة لا تتساوى مع ما عند الله كذلك لا يتساوى المؤمن الذي وعد بالخير، و غيره الذي يحضر لأجل العذاب، و إنما يطلق «المحضر» على من حاله سي ء إذ الذي علم أن حاله حسن لا يحتاج إلى الإحضار، بل يحضر هو بنفسه.

[63] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله الكفار و المراد يوم القيامة فَيَقُولُ الله لهم على نحو استفهام تقريعي أَيْنَ شُرَكائِيَ أي من جعلتموهم شركاء لي الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إنهم شركاء لي؟ لقد ذهب الشركاء، فلا شريك هناك، و عنت الوجوه للحي القيوم.

[64] و إذ يرى قادة الكفار إن ذنب أتباعهم يلقى على عواتقهم، يتبرءون منهم، قائلين إنهم لم يقسروهم على الكفر، و إنما هم تبعوهم في الغواية قالَ الكفار الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت عليهم قول الله سبحانه الذي وعد الكفار بالنار، و المراد ب «الذين» الرؤساء، يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 170

[سورة القصص (28): الآيات 64 الى 65]

وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)

رَبَّنا هؤُلاءِ أتباعنا الَّذِينَ أَغْوَيْنا هم عن الطريق و أضللناهم أَغْوَيْناهُمْ لا بقسر منا، بل كَما غَوَيْنا نحن بلا قسر أحد فليس تبعة أعمالهم علينا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و من أفعالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ فهؤلاء ليسوا عبّادا لنا، و

علينا تبعتهم، بل عبدوا الشياطين و أطاعوهم فلا قسرناهم، و لا عبدونا، و لذا لا نتحمل تبعة أعمالهم.

[65] وَ قِيلَ و القائل من جانب الله سبحانه ادْعُوا أيها الأتباع شُرَكاءَكُمْ أي الأصنام و القادة الذين جعلتموهم لله سبحانه شركاء، حتى ينجوكم من العذاب، و إنما أضيف الشركاء إليهم، لما تقرر من أنه يكفي في الإضافة أدنى ملابسة فَدَعَوْهُمْ و تضرعوا إليهم حتى ينجوهم من العذاب فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا أي المتبوعين لَهُمْ أي للأتباع وَ رَأَوُا الْعَذابَ بعد ما لم يجدوا ناصرا و شافعا لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في الدنيا، لم يروا العذاب، أو هو حكاية كلامهم هناك، فإن المستلزم من عمل و قد فات الأوان يقول: لو إني فعلت كذا، أي لم أقع في هذا المحذور.

[66] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ أي ينادي الله الكفار فَيَقُولُ لهم ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي ما كان جوابكم للذين أرسلوا إليكم من النبيين؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 171

[سورة القصص (28): الآيات 66 الى 68]

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

[67] فَعَمِيَتْ أي اختفت كالأعمى الذي يختفي عليه الطريق عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أي الأخبار، يعني صارت الأخبار كالعميان الذين لا يهتدون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة، حتى أنهم لا يدرون ماذا يقولون في جوابه سبحانه إن قالوا الصدق عوقبوا، و إن قالوا الكذب فضحوا؟ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب المنجي، إذ الإنسان المحسن يأتي بالجواب، و الشاك يتساءل، أما المجرم الذي

يعلم أن جرمه لا يخفى، و أن إقراره فضيحة، فهو لا يجيب و لا يتساءل عن زملائه كيف يجيب؟.

[68] هكذا حال المكذبين، رؤساء و أتباعا فَأَمَّا غيرهم ف مَنْ تابَ عن الكفر و العصيان وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا، بأن أطاع فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي لعله يكون فائزا، و إنما جي ء ب «عسى» لأن المؤمن العامل بالصالحات، لا يدري هل يبقى على الإيمان، أم تكون عاقبة أمره خسرا.

[69] و قد تقدم أن الكفار كانوا يقولون إن نتبع الهدى نتخطف من أرضنا، فهل لهم أن يختاروا طريق الأمن و السعادة، في الدنيا أو في الآخرة؟

كلا! إن الاختيار لله وحده، كما أنه ليس للكفار أن يختاروا قادة ضلّالا، فإن اختيار القادة بيد الله، و بأمره تنصب الرؤساء للدين و الدنيا، كما أن جميع النعم منه، فله كل حمد وَ رَبُّكَ يا رسول الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ و هذا تمهيد لقوله وَ يَخْتارُ فإن من له الخلق هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 172

[سورة القصص (28): الآيات 69 الى 71]

وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71)

الذي له الاختيار، إذ كيف يمكن أن يخلق و يملك شخص، و يكون الاختيار بيد غيره؟ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس للكفار أن يختاروا لأنفسهم، كما كانوا يختارون الكفر خوفا من الاختطاف، و الخيرة، اسم من الاختيار، أقيم مقام المصدر سُبْحانَ اللَّهِ

أي أنزه الله تنزيها عن أن يكون أعطى الاختيار بيد الناس، حتى يعملوا كيفما يشاءون وَ تَعالى أي ترفع، و المعنى أنه أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ فليست الأصنام شركاء له سبحانه، و ليس لهم أن يختاروها آلهة.

[70] وَ رَبُّكَ يا رسول الله يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ فهو الخالق الذي يختار العالم بالضمائر وَ ما يُعْلِنُونَ أي ما يخفون و ما يعلنون.

[71] وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له في خلق أو اختيار أو علم بما في الكون لَهُ الْحَمْدُ أي أنه هو المستحق الوحيد للحمد، إذ جميع النعم منه فِي الْأُولى أي الدنيا وَ الْآخِرَةِ لأن خيراتهما بيده لا بيد من سواه فيستحق بعض الحمد وَ لَهُ الْحُكْمُ أن يحكم و يشرع ما يشاء وَ إِلَيْهِ أي إلى جزائه تُرْجَعُونَ أيها البشر، بعد الموت، فكيف يتخذ غيره مما لا ميزة من هذه الميزات له إلها يعبد، و شريكا له في الألوهية؟.

[72] ثم ألفت السياق إلى جملة من الآيات الكونية التي يذعن الكفار أنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 173

[سورة القصص (28): آية 72]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72)

ليست مربوطة بالأصنام، ليبرهن بذلك لزوم التوحيد في العبادة، و بطلان الشرك قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار المشركين أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما أبدا، بحيث لم تطلع الشمس أبدا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن وقفت الأفلاك عن الحركة مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أي بنور يضي ء لكم الأرض كضوء الشمس أَ فَلا تَسْمَعُونَ أيها الكفار إلى هذا الأمر؟ و ماذا

جوابكم؟ و بالطبع يقولون لا إله سواه يأتي بالنهار، فلما ذا يجعلون غيره شريكا له؟.

[73] ثم قُلْ يا رسول الله لهم أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً أي باقيا دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن بقيت الشمس على أفقكم فلم تزل مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ بأن يزحزح الشمس حتى يأتي الليل تَسْكُنُونَ فِيهِ أي تستريحون فيه و تجعلونه وقتا لمنامكم و راحتكم أَ فَلا تُبْصِرُونَ أيها الكفار المشركون إلى هذه الآية العظيمة، ليل و نهار و كلاهما بيد الله؟ و هل من شركائكم من يقدر على ذلك؟ و إذ كان الجواب الطبيعي عدم قدرة أحد على ذلك فلما ذا اتخذتم شركاء لله، و هم لا يقدرون على شي ء؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 174

[سورة القصص (28): الآيات 73 الى 75]

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

[74] ثم من جعل الليل و النهار؟ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ تعالى، لا من أثر غيره من الآلهة الباطلة جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ بأن خلقهما، فإن الظلمة كسائر الأشياء مخلوقة، إلا أن يقال أنها عدم و العدم غير مخلوق، و إنما جعله بجعل ضده و هو النهار- بأن يكونا من باب العدم و الملكة- لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَ لِتَبْتَغُوا أي تطلبوا الرزق و المعاش مِنْ فَضْلِهِ تعالى، في النهار، أو أن «فيه» يرجع إليهما باعتبار كل واحد، و كذلك «لتبتغوا»، فإن الإنسان

ينام بعض النهار، كما يكتسب في بعض الليل وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعم الله سبحانه التي أعطاها لكم منّا و فضلا، و لا يخفى أن جعل الليل و النهار، غير تصريفهما بهذا الشكل المنظم، ففي الآية الأولى تذكير بالأمر الثاني، و في هذه تذكير بالأمر الأول.

[75] و إذ ذكر السياق جملة من النعم التي لا مناص للكفار من الإذعان بأنها من الله وحده، رجع إلى الكلام السابق حول شركهم وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله تعالى، و المراد به يوم القيامة فَيَقُولُ لهم أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء معي؟ لكن الشركاء هناك لا أثر لهم و لا عين، و هذا الاستفهام إنما هو للتقريع و التبكيت.

[76] و ليس لهم أن يقولوا إنا لم نكن نعلم وحدة الإله فهناك الشهداء- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 175

[سورة القصص (28): آية 76]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

الأنبياء و الأئمة و المرشدين- الذين يشهدون عليهم بأنهم بلّغوا لكنهم عصوا إلا الشرك و الكفر وَ نَزَعْنا أي أخرجنا و أظهرنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً يشهد عليكم بالتبليغ و الإرشاد فَقُلْنا للكفار هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي ائتوا بحجتكم التي تدل على تعدد الآلهة فَعَلِمُوا هناك أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وحده لا لشركائهم، لكن حيث لم ينفعهم العلم وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ذهب و تاه ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الكذب على الله حيث كانوا يقولون إن الله اتخذ لنفسه شريكا، إن آلهتهم بطلت، و لا برهان لهم، و الشهداء، شهدوا عليهم بالإنذار

و علموا صحة قولهم، فما هو جزاؤهم؟ ليس إلا النار و الخزي، حيث لا منجى و لا مهرب.

[77] و بعد إتمام قصة موسى مع فرعون، و تعقيب القصة بجملة من المشاهد في القيامة و بعض تعقيبات القصة، يأتي السياق لينقل حلقة أخرى من حياة موسى عليه السّلام، و هي حياته مع قارون الذي كان قريبا لموسى عليه السّلام و كان عالما حافظا للتوراة كثير المال، لكنه لما ظلم لم ينفعه علمه و ماله و قرابته و حفظه للكتاب، و فيه تنبيه لأهل الكتاب، كما في الآيات السابقة و تنبيه للكفار كي يعتبروا بما أصاب فرعون حيث قابل موسى بالكفر إِنَّ قارُونَ

و هو ابن خالة موسى عليه السّلام، كما ورد عن الصادق عليه السّلام

«1» كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى من بني إسرائيل المؤمنين به

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 7 ص 459.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 176

فَبَغى أي استطال و تكبر عَلَيْهِمْ أي على قوم موسى حيث اغتر بماله و كماله و قرابته وَ آتَيْناهُ أي أعطيناه مِنَ الْكُنُوزِ جمع كنز و هو المال المدخور في خابية أو صندوق أو نحوهما ما أي مقدارا كثيرا حتى إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مفتح، بمعنى المفتاح، يعني مفاتيح بيوت أمواله و صناديق ذهبه و فضته لَتَنُوأُ أي تثقل بِالْعُصْبَةِ أي جماعة الرجال أُولِي الْقُوَّةِ فما كانوا يتمكنون أن يحملوها إلا بمشقة، يقال: ناء بحمله إذا نهض به مع ثقله، و

قد ورد أن العصبة ما بين العشرة إلى تسعة عشر

«1»، و كان يحمل مفاتيح خزائنه بين هذين العددين من الرجال الأقوياء إذا أراد نقل المفاتيح من مكان إلى مكان، و لا بعد في ذلك، فإن المفتاح غالبا يصنع من الحديد

و لو قدرنا أن عشرة مفاتيح تعادل ال «كيلو» و إن عشرة كيلوات تثقل الإنسان، و إن الأموال كانت في صندوق ثم في غرفة، ثم في بيت، و لكلّ مفتاح خاص، لم يتجاوز المال من بضع ملايين، و في عصرنا في العراق من قدر ماله ب «ملايين الدنانير» إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ المؤمنون من بني إسرائيل، لا تَفْرَحْ بهذا المال فرحا يؤدّي إلى البطر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ جمع «فرح» و هو الذي يفرح من البطر و الكبرياء، و المراد ب «لا يحب» إنه يكرههم، إذا لا وساطة بين حب الله و كراهته، فإن الإنسان إذا كان طائعا أحبه الله، و إن كان عاصيا كرهه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 177

[سورة القصص (28): الآيات 77 الى 78]

وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

و لعل الإتيان ب «لا يحب» للتأدب.

[78] وَ ابْتَغِ أي اطلب يا قارون فِيما آتاكَ اللَّهُ أي ما أعطاك من الأموال الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تنفق منها في الخيرات و على الفقراء حتى تشتري الآخرة بها وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا إما بمعنى أطلب الدنيا بمالك كما تطلب الآخرة، و كان ذلك نهيا عن بذل جميع الأموال، كما قال سبحانه (وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) «1» أو المراد لا

تنس نصيبك من الدنيا التي أقبلت عليك لتحصّل بها الآخرة، فتكون الجملة تأكيدا للجملة السابقة، و إنما الفرق أنها للجانب السلبي، و الجملة الأولى للجانب الإيجابي وَ أَحْسِنْ إلى الناس، أو إلى نفسك بفعل الطاعات كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ بإعطائك المال و الجاه و سائر النعم وَ لا تَبْغِ أي لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إما بمنع الحقوق و الإنفاق، فإنه فساد و موجب لحرمان جماعة من الناس، و إما بصرف المال في المصارف المحرمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض، بمنع الحقوق، أو بتعاطي الفساد.

[79] قالَ قارون في جواب نصيحة القوم إِنَّما أُوتِيتُهُ أي أعطيت هذا المال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فما للناس يتحكمون بي فأنا حصّلته

______________________________

(1) الإسراء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 178

بعلمي؟، و هو إما بمعنى إن الله أعطاني ذلك بسبب علمي و فضلي، و إما بمعنى إن ذكائي و فطنتي هما ورّثاني هذا المال، فلا حق لأحد فيه، و حيث إني قد جمعته بفضلي فلي أن أعمل فيه بما أشاء، و إما بمعنى علمي بالكيمياء، كما قيل إنه كان يعلم بالكيمياء، و قد جمع ماله من تبديل الصفر ذهبا أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ قارون أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ و سمي القرن قرنا، لتقارن أعمار الأشخاص فيه بعضهم مع بعض مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ أي من قارون قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال، فليس المعيار أن يكون الإنسان جمع المال لعلمه و فضله و إنما المعيار كيفية التصرف في المال، فإن تصرف الإنسان في المال تصرفا حسنا بقي له، و إن تصرف تصرفا سيئا، فنى المال و أهلكه معه. إن قارون كان ينبغي أن يعلم

هذا، لا ما تكبر به حيث قال «أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي».

فمن تكبر و عتى، و تصرف في المال تصرفا سيئا، فإنه مجرم، مصيره الهلاك، و المجرم يؤخذ بغتة وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فلا يقال لهم ماذا فعلتم؟ إذا أريد إهلاكهم في الدنيا، و إن كان في الآخرة يسألون عن ذنوبهم لزيادة التقريع و التأنيب كما قال سبحانه: (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «1» و قال

______________________________

(1) الحجر: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 179

[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 80]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) «1».

[80] إن قارون لم ينفع فيه النصح، بل بقي على تطاوله و كبريائه فَخَرَجَ ذات يوم عَلى قَوْمِهِ مستعرضا ماله و ترفه فِي زِينَتِهِ و في أبّهة و جلال، يريد أن يري بني إسرائيل ثروته و عزته قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، من ضعفاء الإيمان- و هم كثيرون في المؤمنين دائما- يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من الأموال و الثروة و الزينة إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي نصيب وافر من الدنيا، فقد تمنوا مثل ماله و منزلته.

[81] وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ علم الآخرة و ما أعد الله فيها من الثواب للمؤمنين المتقين وَيْلَكُمْ أيها المتمنون ثروة قارون و جلاله، و «ويل» كلمة تستعمل بمعنى الدعاء على المقصود به، يعني «الهلاك لكم» أو «سوء الحال لكم» ثَوابُ اللَّهِ المعد للأخيار خَيْرٌ مما أوتي قارون لِمَنْ

آمَنَ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً فلا تتمنوا مثل أمواله، كي تبتلون بطغيانه و يفوتكم الثواب وَ لا يُلَقَّاها أي لا تعطى الجنة- المشار إليها بقوله «ثواب الله»- إِلَّا الصَّابِرُونَ الذين

______________________________

(1) الصافات: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 180

[سورة القصص (28): آية 81]

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81)

يصبرون في الحياة الدنيا عن الثروة إذا لم يجدوها فلا يحصلون عليها من الحرام.

[82] و قد صار مال قارون وبالا عليه فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَ بِدارِهِ التي فيها الأموال الْأَرْضَ أي انخسفت الأرض معهما، فذهب قارون هالكا، و ذهبت أمواله ضياعا. قال القمي: و كان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر و أنزلهم البادية أنزل الله عليهم المن و السلوى ففرض الله عليهم دخول مصر و حرمها عليهم أربعين سنة و كانوا يقومون من أول الليل و يأخذون في قراءة التوراة و الدعاء و البكاء و كان قارون منهم و كان يقرأ التوراة و لم يكن فيهم أحسن صوتا منه و كان يسمى «المنون» لحسن قراءته و كان يعمل الكيمياء، فلما طال الأمر على بني إسرائيل في التيه و التوبة و كان قارون قد امتنع من الدخول معهم في التوبة و كان موسى عليه السّلام يحبه فدخل عليه موسى فقال له: يا قارون قومك في التوبة و أنت قاعد هاهنا؟ ادخل معهم و إلا ينزل بك العذاب فاستهان به و استهزأ بقوله فخرج موسى من عنده مغتما فجلس في فناء قصره و عليه جبة شعر و في رجله نعلان من جلد حمار شراكهما من خيوط شعر و بيده

العصا فأمر قارون أن يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب عليه فغضب موسى غضبا شديدا و كان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه و قطر منها الدم فناجى موسى ربه فأوحى الله عز و جل إليه قد أمرت الأرض أن تعطيك فمرها بما شئت و قد كان قارون قد أمر أن يغلق باب القصر فأقبل موسى فأومأ إلى الأبواب فانفرجت و دخل عليه فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي بالعذاب فقال: يا موسى أسألك بالرحم الذي بيني و بينك فقال له موسى: يا بن لاوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 181

[سورة القصص (28): آية 82]

وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)

لا تزدني من كلامك. و قال عليه السّلام: يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض، و دخل قارون في الأرض إلى ركبتيه فبكى و حلفه بالرحم فقال له موسى: يا بن لاوي لا تزدني من كلامك يا أرض خذيه فابتلعته بقصره و خزائنه «1»، أقول: لقد كان موسى عليه السّلام في منتهى الحلم و الرقة و لكن انحراف بني إسرائيل الشديد، كان يسبب له في بعض الأحيان أن يغضب لله سبحانه، و الغضب لله تعالى من أفضل صفات الأنبياء، كما قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) «2».

فَما كانَ لَهُ أي لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة، و سميت الجماعة فئة، لأن الإنسان يعود و يرجع إليها كلما دهمه أمر، من «فاء» بمعنى: رجع يَنْصُرُونَهُ أي ينصرون قارون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله،

يعني أن الله وحده كان قادرا على دفع العذاب عنه أما غيره فلا أحد كان يقدر على ذلك. و هذا من قبيل الاستثناء المنقطع الذي مرّ الكلام في وجهه مكررا وَ ما كانَ قارون بنفسه مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي يقدر على أن ينصر نفسه.

[83] وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ حين خرج عليهم في زينته فقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يَقُولُونَ متعجبين مما نزل بقارون من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 251.

(2) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 182

[سورة القصص (28): آية 83]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

العذاب وي اسم فعل بمعنى «عجب» وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق على من يشاء من عباده، فإنهما تابعان لمصالح خفية لا لكرامة تقتضي البسط و لا لهوان يوجب النقص لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا حيث لم يوسع علينا حتى نطغى لَخَسَفَ الأرض بِنا كما خسف بقارون وي أعجب من هذه القصة كأنه لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فلا يفوزوا بثواب الله و لا ينجوا من عقابه، فالحمد لله الذي لم يعطنا ما أعطاه حتى نبتلي بما ابتلى به. و قارون لم يظهر الكفر، و إنما قالوا ذلك لأن فعله كان فعل الكافرين و لذا جوزي بجزائهم، و الإتيان ب «كأن» تعبير عرفي لمن يريد أن يتراجع عن كلامه السابق، فإذا قلت: إن فلانا زيد، ثم أردت أن ترجع عن كلامك بعد ما تبينته فرأيته عمروا تقول: كأنه عمرو، و ذلك للتدرج الحاصل للنفس من أحد الطرفين إلى الطرف الآخر.

[84] ثم بين سبحانه أن

الآخرة إنما هي لمن لا يريد الاستكبار و الفساد، في مقابل قارون الذي استكبر و طلب الفساد في الأرض، حتى يعلم المؤمن، أن الاستكبار و الفساد يباينان الإيمان بالعالم الآخر تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ يعني الجنة نَجْعَلُها و نقدرها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي استكبارا و تجبرا وَ لا فَساداً أي لا يريدون عملا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 183

[سورة القصص (28): الآيات 84 الى 85]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)

بالمعاصي وَ الْعاقِبَةُ الجميلة المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون عقاب الله، فلا يعصونه.

[85] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي بالصفة الحسنة، من الإيمان، و العمل الصالح فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها عند الله، فإنه يعطي عشرة أضعاف جزائه، فمثلا من تصدق بدينار أعطي عشرة دنانير وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ و تسمى سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بمقدار السيئة لا أزيد منها، و إنما أعد العذاب الشديد للسيئات لأنه بقدر جزائها حسب العقل و المنطق كما يجزي الساب للملك- مثلا- بالقتل.

[86] و إذ انتهت قصص موسى مع فرعون و بني إسرائيل و قارون، يتوجه السياق إلى الرسول، الذي كانت تلك القصص تسلية له، بقدر ما كانت تهديدا لكفار قريش فيقول إِنَ الله الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك العمل بأحكامه لَرادُّكَ أي يردك و يرجعك إِلى مَعادٍ أي محل العود و المراد به مكة، فلا تشرّد عن بلادك بدون أن ترجع إليها ظافرا منتصرا،

كما رجع موسى إلى أرض مصر- التي خرج منها خائفا يترقب- ظافرا منتصرا، و قد قالوا: إنها نزلت حين خروج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكة مهاجرا إلى المدينة، حينما أراد الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 184

[سورة القصص (28): الآيات 86 الى 87]

وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

قتله قُلْ يا رسول الله لهؤلاء رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى منا، و منكم، فقد كان الكفار يرون أنفسهم على حق و هدى، و يرون الرسول على باطل وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إنه يعلم ذلك و سينصر الهادي، و يخذل الضال، و هذا كلام من يرى أن لا أثر في الجدال مع المعاند يسلى نفسه و يهدد طرفه، بالعاقبة.

[87] إنك لا بد و أن ترجع إلى مدينتك، و إنك لا بد و أن تنتصر على الكفار، فإن رحمة الله لم تزل معك، ألم يلقي إليك الكتاب، و ما كنت ترجو ذلك لو لا رحمته؟ فإن رحمته التي أوجبت إلقاء الكتاب عليك هي التي تنصرك و تردك إلى وطنك وَ ما كُنْتَ يا رسول الله تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني إنه لم يكن رجاء لو لا الرحمة، و هذا صحيح، فلا يقال كيف لم يرج الرسول إلقاء الكتاب، و قد كان نبيا و آدم بين الماء و الطين؟ فَلا تَكُونَنَ يا رسول الله ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم، بل جانبهم و باعدهم و حاربهم، فإن الذي

رحمك في إلقاء الكتاب إليك، سيرحمك بنصرتك عليهم و إرجاعك إلى بلادك سيدا منتصرا.

[88] وَ لا يَصُدُّنَّكَ أي لا يمنعنك الكفار عَنْ آياتِ اللَّهِ أي اتباع آيات الله، و إبلاغها للناس بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ لا يمنعنّك عن تنفيذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 185

[سورة القصص (28): آية 88]

وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

رسالتك خوفك منهم، فإن الله ناصرك وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ بالإيمان به و اتباع أوامره وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يجعلون لله شريكا.

[89] وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ و كان الفرق بين «وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» و بين هذا أن الأول نهي عن مجرد الشرك و لو القلبي منه، و الثاني نهي عن الدعوة و الدعاء إلى إله آخر، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان منتهيا عن ذلك بدون نهي، و إنما جي ء تعريضا على المشركين، كما تقول لولدك المطيع: بني أطعني، تريد التعريض بخادمك الذي لا يطيعك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الله وحده لا شريك له، فهو الإله الأزلي كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فهو الإله الأبدي، و المراد بالوجه «الذات» يقال هذا وجه الرأي أو وجه الطريق، و يراد الرأي و الطريق، و لعل التعبير بالوجه للتنبيه على بقاء جهة الاتجاه إليه سبحانه، فليتوجه الإنسان إليه تعالى لأن وجهه باق أبدي، كلما أراد الإنسان أن يتجه إليه و يطلب منه الحاجة، قابله تعالى بوجهه، و هذا مجاز، و إلا فليس لله سبحانه وجه و سائر الأمور الجسمية و العرضية، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لَهُ الْحُكْمُ

فهو الحاكم في الكون، و لا يصدر شي ء إلّا عن حكمه و إرادته وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها البشر، في القيامة ليجزي كل إنسان بما عمل من شر أو خير، فهو واحد أزلي أبدي، بيده الحكم و إليه المرجع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 186

29 سورة العنكبوت مكية أو مدنية/ آياتها (70)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظة «عنكبوت» و هي كسائر السور المكية تبين موضوع العقيدة الدائرة بين المبدأ و المعاد و الرسالة، و لما ختمت سورة القصص بالوعد و الوعيد، افتتحت هذه السورة بذكر الامتحان الذي من خرج منه ناجحا نال الوعد، و من خرج منه ساقطا نال الوعيد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي هو بدأ التكوين و التشريع، فمن الجدير أن يجعل اسمه الكريم بدء كل حركة و سكون، و التوصيف له بالرحم- مكررا- للنيل من فيض رحمته الواسعة الموجبة للسعادة في الدنيا و الآخرة فلو لا رحمة الله سبحانه لهلك الإنسان جسدا و روحا، و بعد فإنه لو لا رحمته ابتداء لم يوجد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 187

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)

[2] الم «ألف» و «لام» و «ميم» من أمثالها تركّب سور القرآن، تركيبا يوجب الإعجاز حتى لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها، أو التقدير:

هذه «الم» فهو خبر مبتدأ محذوف، و قد تقدم التلميح إلى بعض الأقوال في «مقطعات السور» معنى، و إعرابا.

[3] أَ حَسِبَ النَّاسُ أي هل ظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا في أمن و راحة، مجرد أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا

ثم تدرّ عليهم الخيرات و البركات و يسعدوا في الآخرة و الأولى وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ أي لا يمتحنون بأنواع الشدائد، في طريق الإيمان، حتى يميز بين الصادق و الكاذب، و المجاهد و القاعد؟ هل ظنوا ذلك؟ إنهم أخطئوا إن ظنوا إن مجرد التلفظ بالإيمان كاف في نيل السعادة.

[4] و كيف يقتنع عنهم بمجرد التلفظ بالإيمان وَ الحال إنا لَقَدْ فَتَنَّا و امتحنا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المؤمنين الذين أظهروا الإيمان، في الأمم السابقة، امتحانهم بأنواع الشدائد و المحن، فكيف نترك هؤلاء بلا امتحان؟ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ أي يمتحن ليعلم بالتأكيد الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم حتى أنه لا يزول بالمصائب و المحن وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ الذين كذبوا في دعوى الإيمان، بل كان لقلقة لسان، و المراد بالعلم تعلق العلم بالمعلوم بوقوعه في الخارج، فإنه يقال «علم» لمن جهل ثم علم، كما يقال: «علم» لمن علم و لكن لم يكن معلومه خارجيا ثم أوجد المعلوم في الخارج، فإنّ العلم الفعلي إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 188

[سورة العنكبوت (29): الآيات 4 الى 6]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6)

يتحقق بتحقق المعلوم الفعلي.

[5] لقد كان ذلك للمؤمنين، أما الكافرون، فإن موقفنا معهم أشدّ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ «أم» منقطعة، أي: هل حسب و ظن العاملون بالمحرمات أَنْ يَسْبِقُونا أي يفوتوننا، فلا نلحقهم تشبيه بمن يلحق المجرم الذي فرّ، و قد سبقه في الفرار حتى لم يلحق به، إن من أجرم بالنسبة إلى أوامر الله، لا يفوت الله،

بل يدركه الطلب و إن فرّ إلى كهوف الجبال ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء الحكم حكمهم، الذي حكموا حسب ظنهم بأنّا لا ندركهم و لا ننتقم منهم، فالله سبحانه يمتحن، و من رسب في الامتحان يدركه و ينتقم منه، فليخش الناس مؤمنهم و كافرهم، و برهم و فاجرهم من عقاب الله سبحانه.

[6] أما من آمن و نجح في الامتحان فليطمئن بنصر الله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي يأمل ثوابه سبحانه، بأن آمن و عمل صالحا، فإنه هو الذي يرجو، أما غيره فقوله أنا راج، كذب، لأنه من قبيل من لم يبذر و يقول أنا راج ريع زرعي فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي الوقت الذي وقّته الله للقائه و ثوابه- و الإضافة لأدنى مناسبة- لَآتٍ أي يأتي قطعا، فلا خلف في وعده وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده الْعَلِيمُ بأعمالهم و نياتهم، فيكون جزائه عادلا لا ظلم فيه.

[7] وَ مَنْ جاهَدَ الشيطان و نفسه و الأعداء، و هو مشتق من «جهد» بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 189

[سورة العنكبوت (29): الآيات 7 الى 8]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

أتعب نفسه في دفاعه لأجل الإيمان فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة الجهاد تعود إليه إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فهو لا يحتاج إلى جهاد المؤمنين، و إنما المؤمنون يحتاجون إلى الجهاد لنيل السعادة لأنفسهم.

[8] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و ما جاء به الرسول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لعدم

السيئات لَنُكَفِّرَنَ أي نبطلنّ و نمحون عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها حتى يبقون بلا سيئة وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أي نعطيهم الجزاء ب أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ إما المراد أحسن جزاء أعمالهم، كأن يكون الجزاء مثلا للعمل الفلاني درجة واحدة فنعطيهم درجتين، و إما المراد يعطون جزاء أحسن أعمالهم، أما الأعمال السيئة التي توجب النكال، و الأعمال التي توجب خفة الإنسان و نزول رتبته في أعين الناس، فلا نجزيهم عليها.

[9] و حيث ذكر سبحانه جزاء من عمل الصالحات أشار إلى ما هو من أهمّ الأعمال الصالحة، الذي هو بر الوالدين فقال وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي أمرناه أن يعاشر والديه حُسْناً بإطاعتهما، و النزول عند رغبتهما.

وَ إِنْ جاهَداكَ أيها الإنسان، و ألزماك لِتُشْرِكَ بِي بأن تجعل لي شريكا، حيث كانا مشركين ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «ما» مفعول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 190

[سورة العنكبوت (29): الآيات 9 الى 10]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10)

«تشرك» أي تجعل شيئا شريكا لي، و ليس لك بذلك الشريك علم، من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ تعلم إنه ليس لي شريك، فلا شريك حتى تعلمه، كما يقال: لا يعلم الله لنفسه شريكا، يعني إنه لا شريك له حتى يعلمه فَلا تُطِعْهُما في الإشراك بي إِلَيَ أي إلى حسابي و جزائي مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم أيها البشر، و «مرجع» مصدر ميمي فلا تخالفوا أوامره حتى تبتلوا بالعقاب و النكال فَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و المراد بالإخبار الجزاء على العمل، كما تقول لمن تريد وعده أو إيعاده: سأخبرك بعملك.

[10] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ رجوع إلى ما سبق ليرتب عليه قوله لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في جملتهم و زمرتهم.

[11] و إذ قد سبق امتحان الله للمؤمنين و لزوم الجهاد في سبيله ذكر السياق من ليس كذلك ممن يظهر الإيمان و لا يجاهد و يرسب عند الامتحان وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ بمجرد قولة اللسان فَإِذا أُوذِيَ آذاه الكفار فِي اللَّهِ أي في جهة علاقته بالله و إيمانه به جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ و يظن أنه إن ترك الإيمان لا يعذّب بعذاب الله أكثر من هذا العذاب الذي يلقاه بواسطة إيمانه، و لذا يفكر في الرجوع عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 191

[سورة العنكبوت (29): الآيات 11 الى 12]

وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)

الدين، لأنّ عذاب الله آجل، و عذاب الناس له- المساوي في زعمه لعذاب الله- عاجل، و لم يعذّب نفسه عاجلا خوفا من عذاب آجل؟

هذا هو مقدار إيمانه في البلاء، فإنه لا يطيق و يسقط عند الامتحان، و إذ ذهب الإيذاء و جاء النصر، بسط ادعائه في وجه المؤمنين قائلا أنه كان معهم في ساعة الشدة ليجعل نفسه في مقدمة القافلة فيحوز الجاه العريض، بعد تلك الانتكاسة وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، لك و للمؤمنين، و ذهب أذى الكفار لَيَقُولُنَ ذلك الساقط في الامتحان المتراجع عند الإيذاء

إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أيها المؤمنون في ساعة العسرة أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإيمان و النفاق، و ألم يعلم سبحانه أن هذا كيف انتكس عند البلاء؟

فهيهات أن يجعل كالصابرين القانتين الصامدين أمام الإغراء و الإيذاء.

[12] وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الإيمان فدخل الإيمان قلوبهم حتى أن الافتتان لا يصرفهم عن حقيقة إيمانهم وَ لَيَعْلَمَنَ الله الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا ظاهرا، فإذا فتنوا جعلوا فتنة الناس كعذاب الله.

[13] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله لِلَّذِينَ آمَنُوا بحقيقة الإيمان اتَّبِعُوا سَبِيلَنا في الكفر و الطغيان وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فنحن نحمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 192

[سورة العنكبوت (29): الآيات 13 الى 14]

وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14)

آثامكم عنكم، و مرادهم بذلك أن لا إثم حقيقي في اتباع الكفر و العصيان، و إنما هو إثم خيالي، إذ لا بعث و لا نشور، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ إن كفروا و كذبوا مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا بذنب آخر، نعم إن على هؤلاء عقاب الإضلال، لكن ذلك لا يخفف من عقاب الأتباع شيئا، بل للمضل عقاب إضلاله، و لمن ضل عقاب ضلاله إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.

[14] وَ لَيَحْمِلُنَ هؤلاء الذين أضلوا أَثْقالَهُمْ أي أوزار أعمال أنفسهم وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي أوزار إضلالهم للناس وَ لَيُسْئَلُنَ يسألهم الله سبحانه يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أنه لا

ذنب للكفر و العصيان كما يقولون للمؤمنين يريدون إغواءهم، و المراد بسؤالهم منهم أنهم يسألون مقدمة للعقاب، فإن المجرم يسأل عنه سؤال تقرير ليعذّب حسب جوابه.

[15] ثم ينتقل السياق إلى بعض قصص الأنبياء لإنذار كفار مكة بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير الأقوام من قبلهم حيث كذبوا الرسل فأخذهم الله بعقاب كفرهم و عصيانهم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى الإيمان و الطاعة فَلَبِثَ فِيهِمْ أي مكث داعيا لهم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 193

[سورة العنكبوت (29): الآيات 15 الى 16]

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

الإيمان أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي تسعمائة و خمسين سنة فلم يجيبوه، و لم يؤمن إلا نفر قليل منهم، و مثل هذا العمر ممكن فقد وصل العلم الحديث إلى إمكان تمديد العمر بواسطة الأغذية و الأدوية فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ و هو أن نزل من السماء المطر و تفجرت الأرض عيونا، حتى علا الماء و أغرق الكل، و الطوفان الماء الكثير الغامر سمي طوفانا لأنه يطوف- بكثرته- في نواحي الأرض، أو في النواحي التي يقع الكلام فيها وَ هُمْ ظالِمُونَ قد ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان.

[16] فَأَنْجَيْناهُ أي خلصنا نوحا منهم و من الطوفان وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ فقد أمر نوح أن يصنع سفينة و يركبها هو و المؤمنون و ركبها و نجا من الغرق وَ جَعَلْناها أي السفينة، أو هذه القصة بكاملها آيَةً دالة على التوحيد، أو على عذاب المكذبين لِلْعالَمِينَ أي الخلائق الذين يأتون بعد ذلك.

[17] وَ لقد أرسلنا إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ و

لا تعبدوا سائر الآلهة الباطلة وَ اتَّقُوهُ بإتيان أوامره و اجتناب نواهيه ذلِكُمْ «ذلك» إشارة إلى ما ذكره من العبادة لله و التقوى و «كم» خطاب خَيْرٌ لَكُمْ من الكفر و العصيان، و التفصيل هنا منسلخ عن معنى الفضل، أو المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 194

[سورة العنكبوت (29): آية 17]

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

بالنسبة إلى الخير الذي هم فيه مع الكفر إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان لكم علم بالواقع لعلمتم أنّ الإيمان و التقوى خير.

[18] إِنَّما تَعْبُدُونَ أنتم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله أَوْثاناً جمع «وثن» و المراد به الصنم أي أنكم تعبدون حجارة لا تضر و لا تنفع وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً أي تقولون كذبا، في قولكم إنّ هذه الأوثان آلهة، و الكذب يسمى خلقا باعتبار أن الكاذب يخلقه و يأتي به من العدم إلى الوجود مع أنه لا حقيقة له، بخلاف الصدق الذي هو حكاية من الواقع و الخارج إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام، و إنما أتى بضمير العاقل، جريا على كلام القوم عند الحوار، كما قال الشاعر:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخةقلت اطبخوا لي جبة و قميصا

لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فليست أرزاقكم التي ترزقونها مملوكة لهذه الأصنام حتى تقولوا إنا نعبدها لما تهيئ لنا من الرزق، أو تقولوا إنما نعبدها لتدر علينا الأرزاق فَابْتَغُوا و اطلبوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فإنه هو المالك للرزق و المعطي له. و كم يقبح أن يتصرف الإنسان في رزق الله، و يعبد غيره، و

يطلب من لا يكون بيده الرزق و يترك الطلب ممن بيده الرزق؟ وَ اعْبُدُوهُ وحده وَ اشْكُرُوا لَهُ على ما أنعم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 195

[سورة العنكبوت (29): الآيات 18 الى 20]

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

عليكم، فهو الإله و هو المتنعم إِلَيْهِ تعالى تُرْجَعُونَ أي إلى حسابه و جزائه مرجعكم إذا متم و إذا قامت القيامة، فهو المبدئ، و هو المعيد، و هو المعطي لكم الرزق الآن.

[19] ثم قال لهم إبراهيم عليه السّلام وَ إِنْ تُكَذِّبُوا قولي و لم تؤمنوا بي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أنبياءهم، فلم يضر التكذيب الأنبياء وَ إنما ضر المكذبين إذ ما عَلَى الرَّسُولِ أي ليس عليه شي ء إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي أن يبلغ بلاغا ظاهرا واضحا، فإذا أنجز عمله فقد ترى من عهدة ما كلف و يلقى جزائه الحسن.

[20] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار، و هذا إما من تتمة كلام إبراهيم، أو هذه الآية و السابقة و اللواحق، معترضة بين أثناء الكلام، جي ء بها للإيقاظ و التنبيه كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من العدم إلى الوجود ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الإماتة، كما أنشأه من العدم، فإن من يقدر على الابتداء قادر على الإعادة إِنَّ ذلِكَ الإرجاع و الإعادة بعد الموت عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل هيّن، فكيف ينكرون البعث و هم يرون النشأة الأولى؟ كما أنهم كيف ينكرون وجود الله و هم

يرون آثاره؟ و كيف ينكرون الرسالة و قد رأوا المكذبين كيف أهلكوا؟.

[21] قُلْ يا رسول الله، للكفار سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بالسفر إلى البلاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 196

[سورة العنكبوت (29): الآيات 21 الى 22]

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22)

و المرور على الصحاري و القفار فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله الْخَلْقَ فإنّ الإنسان يألف الجو الذي ينشأ فيه و لذا يتفتح قلبه إلى مشاهد الخلقة الخارجية التي تظهر في الأولاد إذا ولدوا، و النبات إذا نبت، و هكذا أما إذا سار لفت نظره إلى رؤية البلاد، و تقلب الأحوال ثُمَّ اللَّهُ بعد إهلاك الناس أجمع يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ فإنه كما أنشأها ابتداء ينشأوها ثانيا، و معنى الإنشاء الإيجاد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فإنه سبحانه على الإنشاء و الإفناء و الإعادة قادر، فكيف ينكر هؤلاء المعاد؟.

[22] إنه يعيد الخلق ليجازيهم حسب أعمالهم ف يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن كفر و عصى، فإنّ الله سبحانه حكيم لا يفعل عبثا أو خلاف العدل وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ من آمن و أطاع وَ إِلَيْهِ أي إلى جزائه و حسابه تُقْلَبُونَ أيها البشر، و معنى تقلبون: ترجعون، لأن الرجوع هو انقلاب الإنسان من حال إلى حال.

[23] و إنكم أيّها الكفار لا تقدرون على الإفلات من عقاب الله سبحانه، فإن الإنسان تحت قدرة الله، يقلبه كيف يشاء، و يفعل به ما يشاء، سواء كان في الأرض أو في السماء وَ ما أَنْتُمْ أيّها الكفار بِمُعْجِزِينَ الله تعالى بأن تصنعوا صنعا يمنع من أخذكم و

العذاب على أعمالكم، سواء كنتم فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ على تقدير إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 197

[سورة العنكبوت (29): آية 23]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)

تمكنتم من الذهاب إليها، كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم* غلب الرجال فلم تنفعهم القلل

«1» وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم، فلا أحد يتولى شؤونكم، و لا أحذ ينصركم، فما تظنون من أن الأصنام تنفع فهو ظن باطل، إذن فأنتم بذاتكم لا تتمكنون من إعجازه سبحانه، و لا ناصر لكم حتى يقف ذلك الناصر دون بأس الله.

[24] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بأن كذبوا الآيات التكوينية و لم يعترفوا بدلالتها على وجود الله، و كذبوا بآيات الله المنزلة بأن قالوا إنّها ليست من قبل الله تعالى وَ لِقائِهِ فقالوا أن لا بعث و لا نشور، و المراد لقاء ثوابه و جزائه أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي فإنه لا عمل لهم حتى يستحقّوا الثواب، فيكون لهم رجاء، و المعنى إنهم يائسون حقيقة، و إن كان فيهم من لا يأس له، و هذا كقوله «لا رَيْبَ فِيهِ» حيث يراد فيه أنه ليس محلا للريب، و إن ارتاب فيه المبطلون، و هذا من تتمة قوله «وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ» حتى لا يزعم الكفار أنهم يدخلون في زمرة من يرحمهم الله، كما قال ذلك الكافر:

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السلام: ص 321.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 198

[سورة العنكبوت (29): الآيات 24 الى 25]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ

اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)

(وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) «1» وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في النار، و هذا بالتأكيد، فهو طرف الإيجاب، و يئسوا، طرف السلب.

[25] لقد كان إبراهيم عليه السّلام يحتج على قوله بأنواع الاحتجاج، كما سبق بعضه فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي قوم إبراهيم عليه السّلام و هم نمرود و سائر الكفار المعاصرون له إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أي اقتلوا إبراهيم جزاء على دعوته إلى التوحيد و تعييبه الأصنام أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار و أخيرا استقر رأيهم على إحراقه، و ألقوه في النار فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إذ قال سبحانه للنار: كوني بردا و سلاما على إبراهيم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من قصة إبراهيم: دعوته، و كيد الأعداء، و إنجائه لَآياتٍ دالة على أنه كيف ينصر الله أوليائه، و يخذل أعدائه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أن اللّه ينصر أولياءه، و يخذل أعداءه أما غيرهم فلا يعتبرون بهذه القصص، و لذا لا ينتفعون بهذه الآيات.

[26] وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام لقومه، إما بعد نجاته من النار، و إما قبل إلقائه في النار، و آخر السياق هذه الجملة، لاستعجال المخاطب أن يعرف كيف صارت النتيجة- كما هو الطبيعي في أمثال هذه القصص- إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ أيها القوم مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أي أصناما، لأجل

______________________________

(1) الكهف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 199

[سورة العنكبوت (29): آية 26]

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى

رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنّ الأصنام كانت تجمعهم على العقيدة الواحدة، فإذا أراد أحدهم الخروج عن عبادتها انفصمت مودته عن سائر أقربائه و أصدقائه، و لذا كان يحافظ على هذه المودة بالاستمرار في عبادتها، فاتخاذكم للأصنام للمجاملة لا للعقيدة، لكن هذه المودة تنقلب عداوة يوم القيامة ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ أي يتبرأ بعض الكفار من بعض، القادة من الأتباع و الأتباع من القادة وَ يَلْعَنُ و يسب بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيلعن الأتباع القادة الذين أضلوهم، و يلعن القادة الأتباع لئلّا يحملوا إثم الأتباع وَ مَأْواكُمُ أي مرجعكم و مصيركم النَّارُ جزاء لشرككم وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونكم و يدفعون العذاب عنكم.

[27] إنّ القوم لم يؤمنوا بإبراهيم، فَآمَنَ لَهُ أي لإبراهيم لُوطٌ النبي عليه السّلام، و هو ابن أخت إبراهيم و معنى آمن أنه صدقه في دعوته، و إن كان هو أيضا نبيا وَ لما أن رأي إبراهيم أنهم لا تنفع فيهم الدعوة قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ من بلادكم و قد كان قرب الكوفة إِلى رَبِّي أي إلى المكان الذي يختاره ربّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه، فلا يذل من نصره الْحَكِيمُ الذي يفعل الأشياء بالحكمة و الصواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 249

[سورة العنكبوت (29): الآيات 27 الى 28]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28)

[28] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ من سارة زوجته العقيمة، فقد كان

إعطائه الولد منها خارقا، أما إسماعيل عليه السّلام، فقد كان من الطريق المألوف وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق، جد بني إسرائيل وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي في ذرية إبراهيم عليه السّلام النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فقد بعث الله منهم أنبياء كثيرين و ما موسى و عيسى و محمد «صلوات الله عليهم أجمعين» إلا من ذريته عليه السّلام، و قد أعطي التوراة و الإنجيل و القرآن وَ آتَيْناهُ أي أعطينا إبراهيم أَجْرَهُ أي جزاء بلاغه و صموده في الدعوة فِي الدُّنْيا حيث رفعنا مقامه، و جعلنا له الذكر الحسن، و جعلنا السيادة و الملك و النبوة في أولاده و أحفاده وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ بأن يكون في زمرة الأنبياء العظام.

[29] وَ أرسلنا لُوطاً إلى قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ و يجوز أن يكون التقدير، و اذكر لوطا حين تكلمه مع قومه إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي لتعملون الخلة الفاحشة في الإثم، فإن فحش بمعنى تجاوز الحدّ، و اللواط إذ كان كبيرة جدا، يسمى بالفاحشة ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ فإنكم اخترعتموها، و من المعلوم أن البادئ في العمل القبيح أظلم، لأنه يعلّم غيره و يمهد السبيل لغيره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 201

[سورة العنكبوت (29): الآيات 29 الى 31]

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31)

[30] أَ إِنَّكُمْ أيها القوم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تفعلون معهم وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ فقد اشتهر

عملهم الفاحش في القرى المجاورة، و إن من يمر بهم يفعلون به، و لذا ترك الناس المرور بمدنهم، خوف الفضيحة وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ؟ النادي هو محل الاجتماع، مشتق من النداء، لأن بعض الناس ينادي بعضا آخر للاجتماع و الذهاب إليه، فقد كانوا يتحابقون في النادي بغير حشمة و احترام، و لعلّ أن نواديهم كانت مركزا لأنواع الفسوق، كما هو الطبيعي في مثل تلك الأمة، و نشاهد مثلها في زماننا هذا، و من المعلوم أن الاستفهام إنكاري فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي قوم لوط إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا و جي ء إلينا بِعَذابِ اللَّهِ الذي تعدنا على كفرنا و منكرنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك و ما تقول بأن البقاء على الكفر و العصيان موجب للعذاب.

[31] عند ذاك قالَ لوط عليه السّلام مناجيا ربه، يا رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بتعذيبهم، و نجاتي منهم، و قد دعا بذلك بعد ما يأس من اهتدائهم.

[32] و قد استجاب الله دعاء لوط، فأرسل جبرائيل و معه ملكين آخرين لتعذيب أهل القرية، و في طريقهم إلى بلاد لوط مرت الملائكة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 202

[سورة العنكبوت (29): الآيات 32 الى 33]

قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33)

إبراهيم عليه السّلام وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ جلسوا عنده في زيّ لم يعرفهم، ثم عرفهم، و زفّوا إليه بِالْبُشْرى أي البشارة بإسحاق، و إن الله يرزقه ولدا من

زوجته «سارة» بعد ذلك قالُوا أي الملائكة إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية قوم لوط، و قد كانت قريبة من محل إبراهيم عليه السّلام إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ كافرين مرتكبين للفواحش و المنكرات.

[33] قالَ إبراهيم عليه السّلام للرسل إِنَّ فِيها أي في القرية لُوطاً و هو عبد صالح، فكيف تهلكون القرية و هو فيها؟ قالُوا أي قالت الملائكة في جواب إبراهيم نَحْنُ أَعْلَمُ من غيرنا بِمَنْ فِيها فلا نريد إهلاك الجميع حتى لوط عليه السّلام لَنُنَجِّيَنَّهُ أي نخلص لوط وَ أَهْلَهُ المؤمنين بإخراجهم من القرية إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها تبقى لتعذب فيمن يعذّب لأنها فاسدة ظالمة كسائر القوم كانَتْ المرأة مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين لتعذب مع القوم، من «غبر» بمعنى مضى، كأنها تمضي فيمن يمضي.

[34] وَ تحركت الملائكة من عند إبراهيم قاصدين قرى لوط و لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة لُوطاً عليه السّلام سِي ءَ بِهِمْ أي ساء لوط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 203

[سورة العنكبوت (29): الآيات 34 الى 35]

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

مجي ء الرسل، فإنه لم يعرفهم ابتداء و ظنهم ضيوفا آدميين، و قد كانوا أصحاب جمال، فخاف لوط إن اطلع القوم أن يعملوا معهم الفاحشة وَ ضاقَ لوط بِهِمْ أي بسبب الرسل ذَرْعاً هذا تمييز ل «ضاق» أي ضاق من حيث الذرع، و هو الطاقة، و قد عرف القوم بمكان الضيوف، و جاءوا لأخذهم و عمل الفاحشة، فخاف لوط من الفضيحة، و هناك أظهر الرسل حقيقة أمرهم وَ قالُوا للوط لا تَخَفْ علينا و لا على نفسك وَ لا تَحْزَنْ بما نفعله بالقوم من العذاب،

أو لا تحزن علينا، فإنهم لن يصلوا إلينا و لا إليك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ أي ننجيك من العذاب الذي يشملهم إِلَّا امْرَأَتَكَ الكافرة فإنا لا ننجيها بل نذرها مع القوم كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من جملة الباقين لتعذب بعذابهم.

[35] إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ التي أنت بها، و هي «سدوم» رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم عن طاعة الله بالكفر و العصيان.

[36] ثم خرج لوط و المؤمنون ليلا، و نزل العذاب على أهل القرية وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي أبقينا من القرية آيَةً بَيِّنَةً أي علامة واضحة، و هي آثار منازلهم الخربة، و أرضهم التي لا تنبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 204

[سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 38]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإذا ذهب الإنسان من الحجاز إلى الشام، أو رجع رأى أرضهم اليباب في الطريق.

[37] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ اسم قبيلة سميت باسم جدهم الأعلى «مدين» أَخاهُمْ شُعَيْباً فإن شعيب كان من نفس تلك القبيلة فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له و لا تتخذوا الأصنام آلهة شركاء مع الله وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي اعتقدوا به، راجين لثوابه، و ذلك كناية عن طلبه لهم- فوق الاعتقاد بالقيامة- العمل الصالح لأجل لقائه وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يقال «عثى» إذا أفسد فسادا كثيرا،

و لعل التأكيد ب «مفسدين» لإفادة أن لا يكون فسادهم عن قصد و تعمد، أي لا تفسدوا في الأرض عامدين.

[38] فَكَذَّبُوهُ و قالوا له أنت تكذب في وحدة الإله، و وجود اليوم الآخر، و إنك رسول من قبل الله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ صاح بهم جبرائيل صيحة رجفت و اضطربت منها أجسامهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي ينبغي أن يكونوا في أمن و سلام فيها، فإن الإنسان يصاب بالمكروه في الأسفار لا في الديار جاثِمِينَ من جثم، بمعنى بقي بدون حركة، و هو كناية عن موتهم من تلك الصيحة.

[39] وَ أهلكنا أيضا عاداً بعد ما أنذرهم النبي هود عليه السّلام، فلم يقبلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 205

[سورة العنكبوت (29): آية 39]

وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39)

قوله وَ ثَمُودَ بعد ما أنذرهم النبي صالح فكذبوه وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ يا كفار قريش، بعض مِنْ مَساكِنِهِمْ الباقية في أطراف بلادكم، فكان «حجر» بلاد ثمود في طرف الشام، و الأحقاف بالقرب من حضرموت يمن بلاد عاد وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فكانت أعمالهم العصيانية مزينة في أعينهم، و المزين هو الشيطان، لأنه الذي يوسوس بالقبائح إلى الإنسان فَصَدَّهُمْ أي منعهم عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الله وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ يبصرون الأمور و يميزون بين الحق و الباطل، و مع ذلك ارتكبوا المعاصي فأهلكوا، و المراد بهذا أنهم، قد تمت عليهم الحجة.

[40] وَ أهلكنا قارُونَ الذي كان من قوم موسى، و مرت قصته في السورة السابقة وَ فِرْعَوْنَ الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى وَ هامانَ وزير فرعون وَ لَقَدْ جاءَهُمْ أي جاء إلى هؤلاء الثلاثة مُوسى النبي عليه

السّلام بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحات من العصا و اليد، و فلق البحر و غيرها فَاسْتَكْبَرُوا أي طلبوا الكبرياء فِي الْأَرْضِ و لم يخضعوا لأوامر موسى، لما قد ظنوا أن في ذلك منافاة لمقامهم و عظمتهم وَ ما كانُوا سابِقِينَ أي لم يفوتنا، تشبيه بمن يسبق الطالب في الفرار، فلا يتمكن من اللحاق به ليعاقبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 206

[سورة العنكبوت (29): الآيات 40 الى 41]

فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

[41] فَكُلًّا من تلك الأقوام، و أولئك الأفراد الذين عتوا عن الحق، و لم يطيعوا الأنبياء أَخَذْنا بِذَنْبِهِ أي عذبناه حسب معصيته فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و هي الحجارة، و هم قوم لوط الذين أمطروا بالحجارة وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ و هم ثمود، و أهل مدين، حيث صاح بهم جبرائيل فأهلكوا من شدة وقع الصيحة في قلوبهم و على أرواحهم وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ فذهب في الأعماق، و هو قارون وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا في البحر، و هو فرعون و هامان و قومهما وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ في تعذيبهم بهذه الأنواع من العذاب من غير ذنب، و بدون إتمام الحجة وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فقد ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان فرأوا جزاء أعمالهم.

[42] ألا فليعتبر كفار قريش بهذه العبر، و إلا أصابهم ما أصاب أولئك، و ماذا يتخذ الكفار من

الآلهة؟ فهل هؤلاء الأولياء يقاسون بالله؟ كلا إنها أوهن من بيت العنكبوت، و مثل هؤلاء الذين يتخذون الأصنام آلهة كمثل العنكبوت التي تبقى و تحرز نفسها بالبيت الضعيف الذي صنعته من خيوط واهية لا بقاء له، و لا يقيها من شر الأعداء مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ و هي الأصنام التي كان المشركون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 207

[سورة العنكبوت (29): الآيات 42 الى 43]

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)

يتولونها، و يجعلونها أولياء لهم عوض أن يتخذوا الله وليا كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها لتأوي إليه، و يقيها الكوارث، فكما أن بيت العنكبوت لا يفيدها شيئا، كذلك أولياء هؤلاء لا يفيدونهم شيئا و لا يضرونهم في الدنيا، و لا في الآخرة وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ التي تصنعها الحيوانات لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فإن بيتها يطير بنفح من وهنه و ضعفه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كان هؤلاء يدركون الواقع، لعلموا أن أولياءهم كبيت العنكبوت الذي لا يغني شيئا.

[43] فليعملوا ما شاءوا، و ليتخذوا من شاءوا أولياء، فهم بعلم الله، و سيجزيهم بما اقترفوا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي أنه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام، فهو يعلم دعوتهم، كما يعلم معبوداتهم، و هذا تهديد لهم، كما تقول: أنا أعلم من تجالس، تريد تهديده في هذه المجالسة وَ هُوَ الْعَزِيزُ سلطانه، فإذا أراد شيئا تمكن عليه الْحَكِيمُ لا يفعل شيئا إلا حسب المصلحة، فتأخير إهلاك هؤلاء، ليس عجزا، بل عن حكمة و صلاح.

[44] وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ الأشباه و النظائر التي

نشبه بها بعض الأمور، كتشبيه أولياء الكفار ببيت العنكبوت نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي نذكرها لهم، و قد سبق أنه يسمى «ضربا» باعتبار أنه يوجد اصطداما في الذهن، مما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 208

[سورة العنكبوت (29): الآيات 44 الى 45]

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

يسبب تركيز المطلب و بقائه وَ ما يَعْقِلُها أي ما يفهم الأمثال إِلَّا الْعالِمُونَ فإن العلماء هم الذين تهز مشاعرهم الأمثال، أما من سواهم، مما لا فكر له و لا تدبير، فيبقى جامدا لا حراك لذهنه.

[45] إن كل ما يذكره سبحانه للحق لا للهو، و منه ضرب المثل، فقد خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلم يكن خلقهما لأجل اللعب و اللهو، فكيف من يخلق الأشياء بالحق يأتي بالمثل لعبا؟ إذ فعل الواحد بعضه يشبه بعضا؟ إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلق الكون لَآيَةً دالة على وجود الله و صفاته لِلْمُؤْمِنِينَ لأنهم المنتفعون بهذه الآية، و إن كان كونه علامة عامة لجميع العقلاء، فكيف يتخذ الكفار من دونه أولياء؟

[46] اتْلُ أي أقرأ يا رسول الله ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي القرآن وَ أَقِمِ الصَّلاةَ أي أدّها بحدودها و آدابها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ الفحشاء صفة للمعصية المقدرة، و هي أعظم من المنكر لاعتبار كونها فاحشة في الحرمة متعدية للحدود تعديا كثيرا، من فحش بمعنى تعدى، و المنكر كل عصيان ينكره العقل و الشرع، و إنما كانت الصلاة ناهية عن المنكرات، لأنها- باستمرارها- تولد في الإنسان ملكة

الخوف من الله الموجب لاجتناب المعاصي وَ لَذِكْرُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 209

اللَّهِ بأن يكون الإنسان متذكر لله سبحانه دائم الأوقات، حتى لا يصدر منه عصيان إطلاقا، لخوفه منه تعالى أَكْبَرُ من الصلاة، لأن الصلاة من إحدى مصاديق الذكر و لوازمه وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ أيها البشر، فاعملوا الطاعات، و لا تعملوا المعاصي، فإنكم تحت اطلاعه و علمه، لا يفوته شي ء من أعمالكم، و لعل المراد بهذه الآية، إعلام النبي، بأنه يستمر في عمله و دعوته، فلا يهتم بما يفعله المشركون و العصاة، إنه مأمور بالسير فمن شاء تبعه، و من لم يشأ بقي في كفره و ضلاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 211

تقريب القران الى الأذهان الجزء الحادي و العشرون من آية (47) سورة العنكبوت إلى آية (31) سورة الأحزاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 212

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 213

[سورة العنكبوت (29): آية 46]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

[47] و لما ذكر سبحانه لزوم الدعوة إليه سبحانه، و تقدم قسم من الاحتجاجات مع المشركين، بين كيفية دعوة أهل الكتاب، و خصهم بالذكر لأنهم أكثر خطرا على الدعوة الإسلامية من المشركين، فإنهم إن ثارت حفيظتهم عملوا عملهم في هدم الإسلام، فقال سبحانه وَ لا تُجادِلُوا أيها المسلمون، و الجدال الاحتجاج مع الخصم في مطلب مختلف فيه أَهْلَ الْكِتابِ و هم اليهود و

النصارى و المجوس إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالطريقة التي هي أحسن الطرق، بأن تكون بعيدة عن آثار الغضب، قريبة إلى النصفة، قوية في الحجة، برفق و لين إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالاعتداء في البحث و الإفراط، فإن أخذ طرف اللين، و جانب الرفق، يوجب تقوية جانبهم، فإنه مباح أن تكون المجادلة حينئذ بالمثل وَ قُولُوا لهم عند الجدل آمَنَّا نحن المسلمين بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا و هو القرآن وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ و هو التوراة أو الإنجيل- مثلا- وَ إِلهُنا نحن المسلمين وَ إِلهُكُمْ أنتم أهل الكتاب واحِدٌ فلا نعبد إلها لا تعبدونه وَ نَحْنُ لَهُ لذلك الإله مُسْلِمُونَ قد خضعنا و أنقذنا، و إذ كان لنا و لكم أمور مشتركة، فلنجتمع عليها، و ندع الأمور المفرقة، ككون البشر الفلاني ابن الله، و نحو ذلك و هذا مثل قوله سبحانه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ) «1»

______________________________

(1) آل عمران: 65.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 214

[سورة العنكبوت (29): الآيات 47 الى 48]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

[48] وَ كَذلِكَ أي كما أنزلنا على موسى و عيسى عليهما السّلام الكتاب أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ الذي هو القرآن، فالكتب كلها منزلة من عند إله واحد، لغاية واحدة، و إنما التحريف حصل من أهواء قوم قد ضلوا أو أضلوا فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ بأن كانوا حقيقة من أهل الكتاب لا من أهل الأهواء و التعصب يُؤْمِنُونَ بِهِ أي

بهذا الكتاب الذي أنزل إليك وَ مِنْ هؤُلاءِ الكفار الذين في مكة مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها، و لا يعترف بها إِلَّا الْكافِرُونَ الذين كفروا بالله، و لا يريدون الحق، سواء كانوا في زي أهل الكتاب، أو في زي المشركين و إلا فالأدلة الدالة على صدق هذا الكتاب متوفرة، فما يمنعهم عن الإيمان، إلا بالكفر و الجحود؟

[49] و قد حفظنا هذا القرآن عن كل شبهة، لمن أراد الحق و الإنصاف، فقد جعلنا الرسول أميّا لم يختلف إلى معلم قط، فلم يكن القرآن محل شبهة أن يكون الرسول تعلم قبلا ثم جاء به وَ ما كُنْتَ يا رسول اللّه تَتْلُوا و تقرأ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن مِنْ كِتابٍ فلم يكن الرسول قارئ حسب الموازين الاجتماعية، و إن كان يعرف القراءة بإلهام الله تعالى وَ لا تَخُطُّهُ أي لم تكن تكتب الكتاب بِيَمِينِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 215

[سورة العنكبوت (29): الآيات 49 الى 50]

بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أي بيدك، و إنما خصّ اليمين، لأنه الغالب في الكتابة إِذاً أي لو كنت تقرأ أو تكتب لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لوجد المبطلون طريقا للتشكيك في القرآن، و لقالوا إنما جمعه مما تعلمه سابقا، و إنما قال «المبطلون» لأن الارتياب أيضا في ذلك الوقت كان في غير محله إذ إن الكاتب القارئ، لا يتمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.

[50] إذن لم يكن القرآن مجموعا من علوم سابقة تعلمها الرسول، ثم جاء

بها بهذه الصورة بَلْ هُوَ أي القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات في كونها خارقة من عند الله سبحانه، لا من صنع بشر، و تأليف إنسان فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فمن كان عالما، يعلم أن هذا القرآن، لا يمكن أن يأتي به بشر، فقوله «في صدور» متعلق ب «بينات» أي أنها واضحة عند أهل العلم، أما الجهّال، فإنهم لا يميزون بين المعجز، و بين المؤلف، كما لم يميزوا بين عصا موسى، و سحر السحرة، و بين إحياء عيسى و طب الأطباء وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا و ينكرها، بل يقول إنها مختلقة اختلقها الرسول إِلَّا الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن منهج الحق، فتمسكوا بالافتراء لإطفاء نور الإسلام.

[51] وَ قالُوا أي الكفار لَوْ لا أي هلّا، و لماذا ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ خارقة، كخارقة العصا، و اليد البيضاء؟ فإنه لو كان نبيا لأتى بمثل ما أتى موسى، فقد أعرضوا عن القرآن المعجز الباقي، إلى طلب معجزة مادية مؤقتة قُلْ يا رسول الله، في جوابهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 216

[سورة العنكبوت (29): آية 51]

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فإذا شاء أنزلها، و إن لم يشأ لم ينزلها، أما ما يكفي للحجة، فقد أتيتكم به، و أما للمعاند، فلا تكفي حتى تلك الآيات المادية وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر واضح إني من قبل الله تعالى، أما كيفية المعجزة، فهو سبحانه أعلم بمصالح العباد، و قد كان هؤلاء معاندون، و إلا ألم يكفر الناس بموسى (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) «1» ثم إن الله

خصّ كل نبي بآية تناسب زمانه، و زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان زمن الفصاحة و البلاغة، كان المناسب له الإتيان بهذا الجنس من الإعجاز- كما قرر ذلك في علم الكلام مفصلا-.

[52] أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أي ألا يكفي هؤلاء الكفار، دليلا على صدقك و نبوتك أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ الذي هو القرآن يُتْلى عَلَيْهِمْ و يقرأ لديهم، فلا يتمكنون من الإتيان بأقصر سورة منه، مع أنهم فصحاء بلغاء؟ إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال للكتاب لَرَحْمَةً حيث يقرر القرآن مناهج السعادة للبشر وَ ذِكْرى تذكر البشر، بما أودع فيهم من الفطرة بالنسبة إلى المعارف و الآداب، و أصول الاجتماع لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم، لأنهم هم المنتفعون بالقرآن، و إلا فالقرآن ذكرى لجميع البشر، و هل بعد هذا الكتاب العظيم، يطلب

______________________________

(1) القصص: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 217

[سورة العنكبوت (29): الآيات 52 الى 53]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53)

منك الكفار أن تأتيهم بآية مادية، لا تقرر للحياة منهجا، و لا تذكر الإنسان تذكيرا؟

[53] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يناقشون في نبوتك و يطلبون الخوارق المادية للإيمان برسالتك كَفى بِاللَّهِ أي كفى الله، و إنما جي ء بالباء، لأنه بمعنى اكتفى فلان بالله بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً فالنزاع الذي بيني و بينكم حول رسالتي، يشهد الله لي، و ذلك لأنه أجرى هذه الخارقة- و هو القرآن- على لساني، و لو كنت

كاذبا لتمكن كل فصيح أن يأتي بمثله، و لا مجال، لأن تقولوا إن الله لا يعلم بادعائك هذا، حتى يرد عليك و يمنعك، فإنه يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكيف لا يعلم بي، و بادعائي وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ بأن عبدوا الأصنام، و جعلوها آلهة وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ بأن أنكروه أو أشركوا به أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، فعوض أن يعطوا النفوس، ليحصلوا على الجنة، أعطوا النفوس فحصلوا على النار، حتى ابتليت نفوسهم، كالخاسر الذي يذهب رأس ماله، و حيث إن طرف كلام الرسول كان المشركين الذين ينكرون التوحيد، و الرسالة، و المعاد، جاءت الآيات معترضة لكل ذلك، فلا يقال أي ربط بإنكارهم للرسالة التي كان التعرض عليها في أول الآية، مع الذين آمنوا بالباطل؟

[54] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول الله بِالْعَذابِ أي يطلبون عجلة العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 218

[سورة العنكبوت (29): الآيات 54 الى 55]

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

لأنفسهم، فإنهم كانوا يقولون للرسول، إن كان حقا، فادع ربك أن ينزل علينا العذاب- استهزاء- لأن يقولوا، حيث لم تقدر على إنزال العذاب، فأنت كاذب، لا اتصال لك بالله وَ لَوْ لا أَجَلٌ و وقت قدّره الله لهم مُسَمًّى قد سمّي ذلك الوقت في اللوح المحفوظ لَجاءَهُمُ الْعَذابُ الذي استحقوه، فإنه سبحانه قدّر لهم أجلا، للامتحان، و لإيمان بعض الكافرين، لذا ترى أنه لو عجل على كفار مكة العقاب، فات إيمان جماعة منهم آمنوا بعد ذلك وَ لا يستبطئ الكفار العذاب، فإنهم إن بقوا على كفرهم لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب بَغْتَةً أي فجأة بدون سابق

إنذار، و ذلك عند مماتهم، أو عند حرب الرسول لهم، و قتلهم و أسرهم، أو ما أشبه، كما ابتلى جماعة منهم بأنواع الأمراض المهلكة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت إتيان العذاب حتى يأخذوا حذرهم.

[55] يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي إن هؤلاء، إنما يطلبونك يا رسول الله، بأن تجعل لهم العذاب في الدنيا، فلنأخذ أنهم لم يعذبوا هنا- لبعض المصالح- فهل لهم إفلات عن عذاب جهنم؟ كلا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مشتملة عليهم بحيث لا مفرّ لأحد منهم، منها، و سيلاقونها و يعذبون فيها بأنواع العذاب.

[56] إن عذاب جهنم ليحيط بهم في يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ و يسترهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 219

[سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 57]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)

مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فهم في وسط النار المحيطة بهم وَ يَقُولُ الله لهم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء أعمالكم فقد أسند ما للمسبب إلى السبب، إذ العمل سبب العذاب.

[57] و إذ رأينا جزاء الكافرين فلننظر إلى المؤمنين كيف يجازون، و قد كان الكفار يؤذونهم و هم في مكة، و يخاف المؤمنون إن بقوا هناك أن يقتلوهم- كما قتلوا ياسرا و سمية- و إن خرجوا أن يقتلوهم، لئلا ينشروا الدعوة خارج البلاد، و لذا عقّبوا جعفرا حين ذهب إلى الحبشة، فخاطبهم سبحانه بقوله يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فأنتم عبادي، و هذه أرضي واسعة أمامكم فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ و لا تشركوا بي شيئا، فإن تمكنتم من عبادتي في بلادكم، فهو، و إلا فاخرجوا منها إلى حيث تتمكنون من عبادتي فيها.

[58] و إن خفتم من القتل و الموت

عند الهجرة؟ فهوّنوا على أنفسكم ذلك، أليس مصير كل إنسان إلى الفناء؟ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تذوق الموت حتما «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» فلا تخافوا من الموت، إن احتملتم لقائه في هجرتكم ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم على حسن أعمالكم، و هذان سببان محفّزان لعدم مبالاة المؤمن بالموت، الأول، أن الموت يدرك الإنسان لا محالة، و الثاني، أنه يرجع إلى الله الذي أعد له كل ثواب و جزاء حسن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 220

[سورة العنكبوت (29): الآيات 58 الى 60]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

[59] و هناك الجنة التي فيها ما تشتهي الأنفس، و تلذ الأعين وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ بأن عملوا بالأوامر، و اجتنبوا النواهي لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً يتخذونها مبوّء، و محلّا لسكناهم، و غرف جمع غرفة، و هي العالية من البناء المشرفة على الأرض تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فإنها جارية على الأرض، فهم فوقها خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم دائمين في تلك الجنة و النعمة نِعْمَ ذلك أَجْرُ الْعامِلِينَ الذين عملوا بالطاعة، و اجتنبوا المعصية، أي أنه أجر حسن.

[60] ثم وصف العاملين بأهم الصفات التي يحتاج إليها الإنسان الذي وقع في فتنة و اختبار الَّذِينَ صَبَرُوا على دينهم، و إن لاقوا صنوف الأذى وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم إليه، و يوكلونه في مهامهم.

[61] و إذ أمر المسلمين

بالهجرة، و ذكر لهم أن خوفهم من الموت- المحتمل للمهاجر- لا ينبغي أن يعبأ به، بيّن أن ما يخافه المهاجر، من اختلال أمر معيشته- حيث إن الإنسان في غربته عن وطنه، لا يتمكن من تحصيل المعاش- أيضا مما لا ينبغي أن يعتنى به، أليس الله هو الرازق للدواب التي لا تعرف تحصيل الرزق؟ فهو قادر على أن يرزق المهاجرين، حينما ينقطعون عن موارد أرزاقهم، التي كانت مهيأة في أوطانهم وَ كَأَيِّنْ هي بمعنى «كم» الخبرية، أي و كم مِنْ دَابَّةٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 221

[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 62]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62)

تدب على وجه الأرض لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تقدر على حمل و تحصيل رزقها لضعفها، و عدم شعورها على التحمل و الطلب اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ أي يرزق تلك الدابة الضعيفة و يرزقكم وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بنياتكم، فلا تقولوا و لا تنووا شيئا ينافي إيمانكم.

[62] ثم يرجع السياق إلى المحاورة مع الكفار المنكرين للتوحيد و الرسالة و المعاد، فيقول سبحانه وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت الكفار، يا رسول الله، أو أيها السائل مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بأن أنشأها و أخرجهما من العدم إلى الوجود وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذللهما حتى يسيران بهذا السير المنظّم لمنافع العباد لَيَقُولُنَ في جواب ذلك اللَّهُ هو الخالق المسخّر، إذ لا يتمكنون أن يقولوا صنع كل ذلك الصنم فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي بعد هذا الاعتراف، كيف يصرفون من عبادة الإله، إلى

عبادة الأصنام؟ من أفك بمعنى صرف، و يسمى الكذب إفكا، لأنه صرف الكلام عن الحقيقة نحو خلاف الواقع.

[63] اللَّهُ هو الخالق المسخر، و هو الرازق المقدر، فلما ذا يعبدون الأصنام؟ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أن يوسّع عليه وَ يَقْدِرُ لَهُ أي يضيق الرزق لمن يشاء من عباده، من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 222

[سورة العنكبوت (29): الآيات 63 الى 64]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)

«قدر» بمعنى ضيق، و الظاهر أن لفظ «له» عائد إلى لفظ «من يشاء» لا إلى معناه حتى يستلزم التناقص، و يحتاج في جوابه إلى التزام تعدد الوقت إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم مصالح العباد، و طبق ذلك العلم الواسع يوسع في الرزق لبعض، و يضيق فيه لبعض.

[64] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت الكفار العابدين للأصنام مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر فَأَحْيا بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بأن أوجد فيها حركة تقتضي إنبات النبات مِنْ بَعْدِ مَوْتِها حيث لا حركة لها و لا إنماء- أو إن الإحياء للنبات، و نسب إلى الأرض بعلاقة الحال و المحل- لَيَقُولُنَ في الجواب اللَّهُ يحيي الأرض بعد موتها قُلِ يا رسول الله، بعد ما سمعت هذا الاعتراف منهم الْحَمْدُ لِلَّهِ فقد اعترفتم بأن الله هو الوحيد في إدارة الكون، كما اعترفتم من قبل بأنه هو الوحيد في الخلق و الرزق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ توحيد الإله مع إقرارهم بأنه الخالق

الرازق المصرف.

[65] إنهم بعد أن اعترفوا بالإله، يلفتهم السياق إلى المعاد وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ موجبة لأن يلهو الإنسان، و ينسى الحقائق و الغرض الأصلي من الخلقة وَ لَعِبٌ كلعب الأطفال يشغل الإنسان مدة ثم يزول و ينصرم وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الحقيقية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 223

[سورة العنكبوت (29): الآيات 65 الى 66]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

التي يصح أن يقال لها حياة، و حياة و حيوان، بمعنى واحد، يقال حيي حياة و حيوانا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا الفرق بين الحياتين لرغبوا في تلك، و زهدوا في هذه.

[66] إن هؤلاء الذين يشركون بالله، قد دلت فطرتهم على وحدة الإله، حتى أنهم ليتوسلون في المشاكل إليه وحده، أما إذا انحلت المشكلة، رجعوا إلى كفرهم، جريا حسب المألوف عندهم، و التقليد فَإِذا رَكِبُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْفُلْكِ أي السفينة، و اضطربت بهم الأمواج دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي توسلوا إليه في حال كونهم يخلصون له الطريقة و الدعوة، فلم يدعوا الشركاء لأنهم يعلمون أن لا منجي إلا الله سبحانه فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ بأن لم يهلكوا و أتوا إلى البر سالمين بفضله سبحانه إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي عادوا إلى شركهم، كما كانوا سابقا، و كان الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المبالغة، فإنه كان من التوقع منهم أن يبقوا موحدين بعد تلك الكارثة، فإذا بهم يفاجئون الناس بالشرك.

[67] لِيَكْفُرُوا لعل اللام لام الأمر، جي ء للتهديد نحو «افعل ما شئت» أي فليكفر هؤلاء بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من

الحياة، و الصحة و الغنى و سائر الخيرات وَ لِيَتَمَتَّعُوا بمتاع الحياة من مأكل و مشرب، و ملبس و منكح و مركب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، و هي النار و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 224

[سورة العنكبوت (29): الآيات 67 الى 69]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

[68] و من عجيب أمر هؤلاء، أن الله قد أنعم عليهم، و هم يبدلون نعمة الله كفرا، فقد أعطاهم حرما آمنا، ثم هم يجعلون الحرم مركزا للأصنام، فمن يا ترى جعل الحرم آمنا غير الله؟ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم هؤلاء الكفار أَنَّا جَعَلْنا لهم حَرَماً آمِناً يحترم فيه دماءهم و أموالهم من القتل و الغارة وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختطفهم أعداءهم، فالقبائل تغير بعضها على بعض، فيقتلوا و يأسروا، أليس هذا يقتضي أن يشكروا الله على هذه النعمة و يوحدوه؟ أَ فَبِالْباطِلِ و هي الأصنام يُؤْمِنُونَ فيجعلونها آلهة؟ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ التي أنعمها عليهم يَكْفُرُونَ فيجعلون الحرم الذي هو نعمة الله عليهم، محلا للأصنام و الأوثان، فإن كفران النعمة أن تصرف في معصية الله.

[69] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي لا أظلم من هكذا إنسان- و الحصر إضافي- مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ككفار مكة الذين جعلوا لله شركاء افتراء و كذبا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ أي كذّب بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن لَمَّا جاءَهُ

يريد إرشاده و هدايته أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي محل ثوى و إقامة لِلْكافِرِينَ فليعملوا ما يشاءون، فإن مصيرهم إلى النار، و هل هناك كفر أعظم من الشرك و تكذيب الرسل؟

[70] إن في وسط هذا الزحام الخانق، و الجو الكافر، من يجاهد في الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 225

بالإيمان، و الأعمال الصالحة، فإنه يهتدي إلى طريق الحق، الموصل له إلى سعادة الدنيا و الآخرة وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي من أجلنا، و ابتغاء مرضاتنا و طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا جمع سبيل و هو الطريق الذي قررنا لأجل الرشاد و الصلاح و الخير و السعادة، و هذا عام، فكل من جاهد في طريق فتح أمامه باب الحق و الصدق وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في نياتهم و أقوالهم و أعمالهم، فإنه تعالى معهم بالنصرة و الغلبة و السعادة في الدارين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 226

30 سورة الروم مكيّة/ آياتها (61)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الروم» و إشارة إلى قصة لهم مع الفرس، و هي كسائر السور المكية، تطرق طرفا من العقيدة و التوحيد و الرسالة و المعاد، قال في المجمع: أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين، ثم فصل في هذه السورة، فقال.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شي ء، كان الشي ء مطبوعا بطابع الإيمان، فله سمة المؤمنين في الظاهر، و عليه رعاية الله في الباطن، فإن من هتف باسم شخص جعله ظهيرا لنفسه، أليس أبدى إنه من جمعه و حزبه؟ و استمداد من الرحمة المطلقة و الفيض العميم الذي وسع كل شي ء، لتشمله الرحمة الخاصة، و اللطف المخصوص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 227

[سورة الروم (30): الآيات 1

الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

[2] الم رمز بين الله و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو المراد، إن هذا الكتاب من جنس «ألف» «لام» «ميم» أو غير ذلك من الأقوال البالغة نيفا و عشرين، و هو خبر مبتدأ محذوف، أي «هذا: الم» حذف خبره، أي «الم: هذا الكتاب».

[3] غُلِبَتِ الرُّومُ فقد كان بين الروم، و هم المسيحيون، و كانوا في طرف غرب الجزيرة، تقريبا، و بين الفرس، و هم المجوس، و كانوا في شرق الجزيرة، تقريبا حروب دامية على طول الخط، فتارة يغلب هؤلاء على هؤلاء، و أخرى بالعكس، و اتفقت إحدى حروبهم في بدء الإسلام حين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بمكة، فغلبت الفرس على الروم، حتى أخذت الفرس مركز المسيحيين «بيت المقدس» و فرح الكفار بذلك، لأن الفرس كانت مثلهم في عدم الاعتقاد بالإله، كما حزن المسلمون، لأن الروم كانت ذات دين و كتاب و اعتقاد، و كانت بينهم و بين المسلمين جهات مشتركة، و لذا سلّى الله سبحانه المسلمين، بأن مغلوبية الروم لا تدوم، و إنما هم يغلبون بعد سنوات قلائل.

[4] فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقرب أرضهم من أرض الجزيرة في بيت المقدس وَ هُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلبة الفرس عليهم، في هذه الحادثة سَيَغْلِبُونَ و ينتصرون عليهم بإرجاع بلادهم منهم.

[5] و إنما يغلب الروم الفرس فِي بِضْعِ سِنِينَ بضع القطعة من العدد ما بين الثلاثة إلى العشرة، يقال بضع و عشرون،

أي أن فوق عشرين عدد، هو ما بين الثلاثة إلى العشرة، و هذا من أخبار القرآن الغيبية، و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 228

[سورة الروم (30): الآيات 5 الى 6]

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)

أكثرها، فقد كان كذلك، إذ وقعت حرب أخرى بين الطرفين، فغلبت روم الفرس، و استردت ما أخذوا منها من البلاد لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ أي من قبل الغلب، و من بعد الغلب، فلا يقع شي ء إلا بإذنه، و في هذا تسلية للمؤمنين، بأنه إن غلبت فارس، فليس ذلك موجبا لحزنهم، إذ الأمور بيد الله الذي هو وليهم و ناصرهم، كما تقول لابنك: إن رأيت غلبة بعض أعدائك، فلا يهمك، إني أريد ذلك، و الحاصل أن غلبة الفرس، ليست انتصار للكفر على الإيمان، و إنما شي ء مؤقت بقضاء الله و قدره، و الله لا يترك الإيمان حتى يغلبه الكفر وَ يَوْمَئِذٍ أي يوم غلبة الروم على الفرس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ المعتقدون بالرسول.

[6] بِنَصْرِ اللَّهِ للإيمان على الكفر- و إن كان نصر الله إنما هو للإيمان المسيحي- فإن كل مرتبة من مراتب الإيمان خير مما يقابلها من الكفر يَنْصُرُ الله مَنْ يَشاءُ فيمن توفرت فيه شروط النصرة، كما أمر، و كما أجرى أسباب الكون وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه، فلا يغلبه أحد الرَّحِيمُ بعباده المؤمنين، فلا يتركهم نهب الكفار يفعلون بهم ما يشاءون.

[7] وَعْدَ اللَّهِ أي وعد الله ذلك وعدا، فهو مصدر تأكيدي لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بغلبة الروم على الفرس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 229

[سورة الروم (30): الآيات

7 الى 8]

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8)

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ الذين لا يؤمنون بالله، و لا يصدقون كلامه لا يَعْلَمُونَ صحة وعد الله، و إنه لا خلف فيه، فإن الذي يخلف وعده إما لعجز أو لجهل أو لخبث، و الله سبحانه منزه عن ذلك كله.

[8] إنهم لا يقدرون الأشياء حق قدرها، فيزعمون أن لا قوة خارقة غيبية تسير الكون، بل يظنون أن كل الأمر كائن فيما يشاهد من القوى الظاهرة يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا من قواها و أسبابها و مسبباتها، و سائر الخصوصيات الظاهرة وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ و بهذه الغفلة تختل مقاييسهم للأمور، فلا يصدقون بوعد الله و لا يرقبون جزاءه، و لا يقدرون قوته الغيبية، الخاضعة لها الأشياء، و كان إقامة هذه الجملة مقام «و هم عن الله غافلون» لأجل إفادة، أن منكر المعاد، منكر الله سبحانه، فهو من إقامة المسبب مقام السبب، فإن سبب الغفلة عن المعاد، هو الغفلة عن الله تعالى، و الإتيان بلفظ «هم» مكررا، للتأكيد في غفلة هؤلاء.

[9] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا أي هؤلاء الغافلون عن الآخرة، الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في حالة خلوتهم بأنفسهم حيث لا جدال و لا إنكار- لو ظهر الحق- فإن الإنسان بينه، و بين نفسه يعترف، بما لا يعترف به عند الملأ خوفا، أو استكبارا ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من الإنسان و الحيوان و النبات

و الهواء و غيرها إِلَّا بِالْحَقِ فلو لم يكن هناك إله، كما يزعمون، فمن يا ترى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 230

[سورة الروم (30): آية 9]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

خلق كل هذه الأمور؟ و معنى «بالحق» إن الخلق لغاية و غرض، مما يدل على الإله العليم الحكيم القدير المريد وَ أَجَلٍ مُسَمًّى أي و لمدة محدودة، قد سميت تلك المدة عنده، فليست الأشياء بقاؤها اعتباطا، بل تبقى بمقدار قدر الله لها من المدة، فإن الإنسان إذا علم إن جملة من الأشياء، لغاية و مقصود علم بذلك إن سائر الأشياء كذلك، ألا ترى إنك إذا نظرت إلى «الساعة» فعلمت إن بعض آلاتها لماذا، تعتقد إن كل الآلات لها إنما حكمت و صنعت عن قصد، و إن كنت لا تعلم الحكمة فيها، و إما عرفان الأجل المسمى، فلما يرى الإنسان أن الأشياء تحدد بحدود معنية، حتى أن كل محاولة لنفيها قبل المدة عبث، كما أن كل محاولة لإبقائها بعد المدة لغو وَ مع ذلك إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء جزائه و حسابه لَكافِرُونَ غير معترفين، مع أن إحكام الصنع، يدل على أنه، لا بد أن يكون هناك حساب و جزاء، و إلا كان الخلق لغوا، و تمكين الظالم من الظلم خلاف الحكمة.

[10] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء المكذبون فِي الْأَرْضِ فإن السير يوجب اطلاع الإنسان على مساكن الذين ظلموا، فأهلكوا، كمدائن عاد و ثمود، و قوم لوط، و

قوم نوح فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي يعلموا ذلك بالاستخبار عمن في أطراف تلك البلاد، فإن كل أمة تحفظ أطراف تلك البلاد، و إن كل أمة تحفظ أخبار أسلافها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 231

[سورة الروم (30): آية 10]

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فقد وصلت حضارتهم إلى حدود مدهشة، كما يحدث التاريخ بذلك وَ أَثارُوا الْأَرْضَ من الإثارة بمعنى التقليب، لأجل الزرع و الإنبات وَ عَمَرُوها بالبيوت و ما أشبه أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء، فقد كانت وسائلهم، أكثر، و لذا كانت عمارتهم أجمل و أكثر وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة البينة الواضحة، فجحدوا الرسل، و كذبوا بما قالوا، فأهلكهم الله سبحانه فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ حين أهلكهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان، فأخذهم وبال أعمالهم، و هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول، إن كذبوا أهلكوا، فإنهم أقل قوة، و أقل عمارة و زراعة من أولئك.

[11] ثُمَ بعد تلك الحضارة و العمار كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا بالكفر و العصيان السُّواى اسم كان، أي كانت الخلة، و العاقبة السوء- أي السيئة- عاقبة الذين أساءوا، فإنهم بالكفر، فعوقبوا بما أساءهم من الهلاك و الدمار: على أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فلم يقبلوها وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ و منها يضحكون، و يحتمل أن يكون «أن كذبوا» اسم «كان» و معنى أساءوا السّوءى، عملوا السّوءى من باب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 232

[سورة الروم (30): الآيات 11 الى 13]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ

كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13)

المصدر التأكيدي، نحو ضرب الضرب، فيكون المعنى: كان التكذيب بآيات الله عاقبة الذين عملوا بالمعاصي، فإن الإنسان يتدرج من المعاصي إلى الكفر، و على هذا المعنى، ف «ثم» للعطف لفظا، لا معنى.

[12] و كيف يكذب الكافر بآيات الله، و بالمعاد، و هو يرى أن الخلق كيف يبتدأ مما يدل على إله عليم قدير، قادر على الإعادة، كما قدر على الإنشاء اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يخلقهم ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت، ليحيي من جديد للحساب و الجزاء ثُمَّ إِلَيْهِ أي إلى جزائه و حسابه تُرْجَعُونَ أيها البشر.

[13] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ من بلس بمعنى يئس من الخير، فإنهم ييأسون من الرحمة، و ينقطعون من الجواب.

[14] وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ أي لا يشفع لهم الأصنام، التي جعلوها شركاء اللّه سبحانه، و أضيف الشركاء إليهم، لأنهم اخترعوها وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ إذ يظهر الحق هناك، و قد كانوا عبدوها في الدنيا قائلين (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1»، و هناك يتبين إنها لا تنقذ أنفسها، فإنها تصبح حصب جهنم، فكيف تتمكن من شفاعتهم.

______________________________

(1) الزمر: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 233

[سورة الروم (30): الآيات 14 الى 17]

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17)

[15] وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ و تأتي القيامة يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم يَتَفَرَّقُونَ أي يتميز المؤمنون عن الكفار، فالمؤمنون واقفون في طرف اليمين، بالبشر و السرور، و الكفار

في طرف الشمال بالحزن و التقطيب.

[16] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من التوحيد و الرسالة و المعاد، و سائر ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ الملازم لترك السيئات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ و هي الجنة يُحْبَرُونَ الحبرة المسرة، أي يسرون سرورا يظهر أثره على وجوههم، من النعيم الذي هم فيه.

[17] وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا التي نصبناها للدلالة علينا، و على الرسالة وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ بأن ينكروا البعث و المعاد فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي يحضرون إلى العذاب، كالمجرم الذي يحضر إلى السجن و التعذيب، و لا يأتي هو برجله.

[18] ثم ينتقل السياق من العالم الآخر إلى هذا العالم ليشهد الإنسان، دلائل الكون، التي كان الكفار بها يكذبون حتى صاروا إلى ذلك المصير الهائل فَسُبْحانَ اللَّهِ مصدر منصوب بفعل مقدر من سبّح، أي أنزه الله تنزيها، و الفاء للتعقيب على تلك الخاتمة، أي و إذا كان لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 234

[سورة الروم (30): الآيات 18 الى 19]

وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

تلك الخاتمة أسبحه تسبيحا حِينَ تُمْسُونَ أي تدخلون المساء، و هو الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ أي تدخلون الصباح، فهو منزه دائم الأوقات، لا كالملوك الذين لا يستحقون الحمد و الثناء، في بعض أحوالهم لعدم رعايتهم الأمور في تلك الأوقات.

[19] وَ لَهُ الْحَمْدُ الثناء الجميل، لما عمله من الجميل فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المستحق للحمد في جميع الكون

وَ عَشِيًّا أي له الحمد في وقت العصر وَ حِينَ تُظْهِرُونَ أي تدخلون في الظهيرة، و هي وقت الظهر، فإنه المحمود المنزّه في جميع الأكوان، و كافة الأوقات، و هذا من بلاغة القرآن العجيب، حيث ذكر هذا الموضوع، في هذه الجملات الحية النديّة، التي تفتح الذهن، و تسير بالنفس إلى الآثار الكونية، و الأوقات الزمنية.

[20] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالنبات من النوات الميتة، و الطير من البيضة الميتة، و الإنسان من الأرض الميتة، بواسطة النبات وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالفضلات الميتة من الإنسان و الحيوان الحي، و البيضة الميتة من الطير الحيّ و هكذا وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بنمو النبت بَعْدَ مَوْتِها حيث تكون غبراء قاحلة لا نمو فيها و لا نبات وَ كَذلِكَ أي تحيى الأرض تُخْرَجُونَ أنتم أيها البشر من قبوركم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 235

[سورة الروم (30): الآيات 20 الى 21]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

بعد الموت للحساب و الجزاء.

[21] وَ مِنْ آياتِهِ أي أدلته الدالة على وجوده، و سائر صفاته أَنْ خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فالتراب ينقلب نباتا، و حيوانا، يأكلهما الإنسان، فيصيران منيا، ثم جنينا إنسانا ثُمَ بعد أن كنتم ترابا إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ في الأرض تسيرون و تتّجرون، و تعملون، و إذا للمفاجات، فكيف صار التراب اليابس الراكد، بشرا سميعا بصيرا، ينتشر و يتصرف في مختلف الشؤون؟

[22] وَ مِنْ آياتِهِ أي أدلة الله سبحانه الدالة على وجوده، و سائر أوصافه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أيها

البشر مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من هذا الجنس أَزْواجاً للرجال نساء، و للنساء رجالا، فإن كون الزوجين من جنس واحد أكثر هنأة و لطفا لِتَسْكُنُوا أي لتطمئنوا، و لتألفوا إِلَيْها أي إلى تلك الأزواج- و هذه قرينة- على أن المراد بالأزواج: الزوجات.

وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ أيها البشر، أي بين الرجال و النساء مَوَدَّةً يود بها بعضكم بعضا، و يحب أحدكم الآخر وَ رَحْمَةً فيرحم بها أحدكم الآخر، مما يهنئ العيش و يسعد الحياة إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق للأزواج، و جعل المودة و الرقة لَآياتٍ أي أدلة على وجود الله تعالى، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذه الأمور، و إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 236

[سورة الروم (30): الآيات 22 الى 23]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

خصهم، لأنهم هم الذين يدركون هذه الآيات، و إلا فهي آيات لكل أحد، و قد يزعم البعض، إن الصفات النفسية، من قبيل المودة و الرحمة، و الشجاعة و الجبن و السخاء، و ما إليها، ليست أمورا مخلوقة، لكنها نظر سطحي، و إلا فمن أين هذه الظواهر؟ إنها ألوان للنفس، لا تدرك إلا بآثارها، و إلا فكيف هذا يكون مقداما سخيا، و كيف ذاك الذي على شكله يكون جبانا بخيلا؟ و قد ذكر في أول كتاب «البحار» جنود العقل و الجهل، و إنها مخلوقات له سبحانه.

[23] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمن خلق المدارات و الكواكب؟ و من خلق الأرض، و ما فيها؟ إن

الخالق هو الله العليم القدير الحكيم وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ جمع لسان، و المراد به اللغة فإنه تعالى، لو لم يفعل ذلك، من كان يقدر على منح هذا الاختلاف من عربي، و فارسي، و تركي، و هندي، و غيرها؟ بالإضافة إلى الاختلاف، في النغمة و الصوت و الخشونة و النعومة و غيرها وَ اختلاف أَلْوانِكُمْ من أبيض و أحمر و أسود، و بنّي و حنطي، و غيرها، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ بالإضافة إلى مزايا كل إنسان في لونه و شكله، حتى يعرف كل أحد من غيره إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلاف لَآياتٍ لأن كل لون، و كل نعمة آية لِلْعالِمِينَ أي العلماء، فإنهم هم الذين يتدبرون في هذه الآيات، و ينشغلون منها، إلى من أوجدها و صنعها.

[24] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على توحيده، و سائر أوصافه تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 237

[سورة الروم (30): آية 24]

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

مَنامُكُمْ مصدر ميمي، بمعنى نومكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ فما هو النوم؟ و من خلفه؟ إنه من خلق الله سبحانه، سواء كان عدما بإخراج بعض الأرواح عن الإنسان موقتا، أم وجودا بإضافة شي ء على بدنه يوجب له هذه الحالة وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فقد جعل فيكم صفات أوجبت، أن تطلبوا الرزق فمن يا ترى جعل هذه الصفات في الإنسان؟

إِنَّ فِي ذلِكَ المنام و الابتغاء لَآياتٍ أي أدلة دالة على الله سبحانه، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ و المراد أنهم يسمعون الآيات، فيتدبرونها، و يتفكرون فيها، لا أن يعرضوا عنها، كما قال سبحانه (وَ كَأَيِّنْ مِنْ

آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) «1».

[25] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده، و سائر صفاته، أن يُرِيكُمُ الْبَرْقَ في خلال السحاب، و هو كما قالوا: يحدث من اصطكاك السحب بعضها ببعض، فيتولد فيها الكهرباء، و لا ينافي هذا كونه، صوت ملك، كما لا يخفى خَوْفاً من الصاعقة، و إنزال المطر المضر وَ طَمَعاً في إنزال المطر المفيد، و نصب هذين، بتقدير اللام، أي لتخافوا خوفا، و لتطمعوا طمعا وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي جهة العلو ماءً هو المطر فَيُحْيِي بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

______________________________

(1) يوسف: 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 238

[سورة الروم (30): الآيات 25 الى 26]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)

بالجدب، و عدم النبات إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور سابقا لَآياتٍ لأن كل واحد من الأمور المذكورة، آية دالة على الله و على صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم، فينتقلون من الأثر إلى المؤثر.

[26] وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده تعالى، و سائر أوصافه أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فإن بقاء السماء بهذه الكيفية المنظمة، و بقاء الأرض بهذا الترتيب العجيب الدائم، لا يكون إلا بقدرة الله سبحانه، و أمره التكويني، و إلا فمن يدير الكون، بهذا النحو المنظم المدهش؟

ثُمَ إن الله سبحانه الذي رأيتم قدرته و آياته إِذا متم ثم دَعاكُمْ دَعْوَةً و طلبكم طلبا مِنَ الْأَرْضِ التي دفنتم فيها إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أحياء كما كنتم سابقا، و ذكر هذا للتركيز على المعاد، بعد بيان آياته الدالة على عمله و

قدرته، و نفوذ إرادته، فمن يقدر على تلك، يقدر على هذا.

[27] وَ لَهُ أي لله سبحانه بالملكية المطلقة مَنْ فِي السَّماواتِ وَ من في الْأَرْضِ من العقلاء، و غيرهم، و غلب العقلاء، و لذا، جي ء ب «من» كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي خاضعون مطيعون، فهل يتمكن أعظم الملوك، أن يخالف أوامر الله التكوينية، بأن لا يموت، أو لا يشيب أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 239

[سورة الروم (30): آية 27]

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

يبقى إلى أمد يحبه؟ كلا، نعم قد أعطى الله سبحانه، زمام الإرادة بيد الإنسان ليختبره، أما الأزمة التكوينية، حتى دورة الدم، في بدن الإنسان، و حركة الأجهزة الباطنية، و القوى الظاهرة، فهي كلها تحت قدرته و إرادته.

[28] وَ هُوَ الله سبحانه الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإنشائه بعد العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى الحياة- بعد الموت- للجزاء و الحساب وَ هُوَ أي «أن يعيد» أَهْوَنُ و أسهل في قياس البشر عَلَيْهِ أي على الله سبحانه، فإن الإنسان في مقاييسه، يرى إن إعادة الشي ء، أسهل من ابتدائه، و مع ذلك فكيف يظن، إن الإعادة عسيرة عليه تعالى، و إنما قلنا «في قياس البشر» لأن الله سبحانه كل شي ء لديه سواء ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) «1» لا يقال: كلا! إن الإعادة ليست أهون، فإن من يصنع شيئا، قد يكون لا يقدر على إعادته إذا هدم، قلنا: إن عدم القدرة منه، لعدم علمه، أو لتعبه، أو أشباه ذلك، أما من توفرت فيه الشروط، فالإعادة عليه أيسر من جهة أن في ذهنه مثالا لذلك

المصنوع، مما يسهل صنعه ثانيا وَ لَهُ سبحانه الْمَثَلُ الْأَعْلى المثل هو الشبيه للشي ء الذي يؤتى به لمعرفة ذلك الشي ء، و الله سبحانه لا يمثل له، فلا مثل له، من جميع الجهات، كما قال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) «2»، و إنما قد يمثل له بأمثلة تقريبية، لاستيناس

______________________________

(1) يس: 83.

(2) النحل: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 240

[سورة الروم (30): آية 28]

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

الذهن، كما قال تعالى (مَثَلُ نُورِهِ) «1» و إذا أريد المثل، فله أعلى الأمثلة و أحسنها، كأن يمثل لنوره بالمصباح النيّر، أو يمثل بملكه بملك أعظم الملوك، و هكذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ففي كل مكان أريد أن يضرب له المثل، لا بد و أن يكون له المثل الأعلى، و ليس كالملك، في قطر خاص، الذي له أعلى الأمثلة في قطره، أما في خارج قطره، فليس له أعلى الأمثلة، ففي قطره يقال إن مثله، كمثل أعظم الناس ملكا، أما في خارج قطره يقال، إنه كمثل الملك الآخر، أو المالك الكذائي وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل شي ء لا يغلبه أحد الْحَكِيمُ فكل ما يفعل، إنما هو بالحكمة و الصواب.

[29] ثم ضرب سبحانه مثلا لعدم الشريك له، و ذلك بالاستفهام، عن هؤلاء المشركين، أنهم هل يقارنون بين السيد و العبد، و إذا قالوا: لا قبل لهم، فلم تقارنون- في الألوهية- بين الله، و بين الأصنام؟ مع أن البون بينهما أبعد من البون بين السادة و العبيد ضَرَبَ لَكُمْ أيها المشركون، و الذي ضرب المثل هو الله سبحانه مَثَلًا

مِنْ أَنْفُسِكُمْ بيّن لكم شبها في حال كونه من أنفسكم، فليس مثلا، من الملائكة، أو الجن، و النبات، و الحيوان، و الجماد هَلْ لَكُمْ أيها المشركون مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي عبيدكم، و إمائكم، و إنما نسبت الملكية إلى اليد، لأنها العاملة المحصلة للمال الذي به يشتري العبد

______________________________

(1) النور: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 241

[سورة الروم (30): آية 29]

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ بأن يشترك العبيد معكم في أموالكم التي هي لكم، و رزقكم الله إياها فتكونون أنتم و العبيد فِيهِ أي فيما رزقناكم سَواءٌ بأن تكون الأموال لكم و لهم على حد سواء تَخافُونَهُمْ أي تخافون عبيدكم، إذا أردتم التصرف في أموالكم، لأنهم شركاؤكم، و الشريك يخاف من شريكه، إذا أراد أن يستقل في التصرف بالمال المشترك كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما تخافون سائر شركاؤكم الأحرار، هل عبيدكم شركاء لكم؟ و إذا أجبتم بالنفي، و إن العبيد لا يشتركون معنا في أموالنا، حتى نخافهم خوف الحر شريكه الحر، قيل لكم، فكيف جعلتم الأصنام التي هي مملوكة لله، و مخلوقة له شركاء لله في الألوهية؟ كَذلِكَ أي كما بينا هذا المثل، لأن يردعكم عن عبادة الأصنام نُفَصِّلُ الْآياتِ نذكرها مفصلة حتى تظهر، لا مجملة حتى تكون غامضة، لا تعرف لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم، ليدركوا، و إنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم المنتفعون بالمثل و الآية، أما من لا يعتني فهو لا يدرك، و لا يعلم.

[30] إن إشراك هؤلاء، ليس لأنهم لا يعلمون بَلِ لأنهم يتبعون الهوى و إن علموا ببطلان أعمالهم، فقد اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك بالله، و أتى

بهذا الوصف مكان الضمير، لبيان أنهم بشركهم، قد ظلموا أنفسهم أَهْواءَهُمْ التقليدية بِغَيْرِ عِلْمٍ فليس عملهم مستندا إلى العلم، و إنما هو مستند إلى الهوى، و لذا ابتعدوا عن الهدى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 242

[سورة الروم (30): آية 30]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تركه يعمل ما يشاء، بعد أن رأى الهدى، فأعرض عنه، و قد ذكرنا سابقا إن نسبة الإضلال إليه سبحانه، باعتبار، أنه تركه حتى يضل، و لم يلطف به اللطف الخفي وَ ما لَهُمْ أي لهؤلاء المشركين الضالين مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب الله و نكاله في يوم القيامة، و هذا في مقابل زعمهم إن الأصنام تنصرهم و تشفع لهم.

[31] و إذ انحرفت نفوس عن هذا الدين فَأَقِمْ أنت يا رسول الله، أو أيها الإنسان العاقل وَجْهَكَ و نسبة الإقامة إلى الوجه، لأنه العضو الذي يبين اتجاه الإنسان، و ميله الكامن في نفسه لِلدِّينِ فتوجه نحو دين الإسلام، لا إلى سائر المبادئ و الأديان حَنِيفاً في حال كونك مستقيما، غير مائلا إلى هنا أو هناك، أو في حال كون الدين مستقيما، لا يزيغ نحو الباطل و الانحراف، و اتبع فِطْرَتَ اللَّهِ أي الكيفية التي خلقها الله سبحانه، فإنه خلق الإنسان بحيث لا يصلحه، إلّا الدين الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي خلق الناس على تلك الفطرة، فالدين، كالمنهاج للبشر الذين خلقوا على نحو لا تستقيم أمورهم، إلا إذا ساروا على هذا المنهاج، و هكذا كما لو صنع شخص «جهازا» ثم كتب «كتابا» فيه كيفية عمل الجهاز، فإنه يقول:

اتبع هذا الكتاب، فإن الجهاز ركبّ هكذا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا يتغير الخلق عن تلك الفطرة، حتى يلائمهم منهاج آخر، غير منهاج الإسلام و الدين ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 243

[سورة الروم (30): الآيات 31 الى 32]

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

إن الدين الذي يلائم الفطرة، هو الدين صاحب القوام، الذي به قوام البشر و سعادتهم، أما سائر الأديان، فإنها لا تلائم الفطرة، مثلا إن الإنسان ركب بحيث، إذا اغتسل من الجنابة، سلم بدنه من الأمراض، أما إذا لم يغتسل، ابتلى بمختلف العاهات، فالدين الذي يأمر به، هو الدين الذي به قوام الإنسان، و سواه لا يتمكن من التحفظ على صحة الإنسان، و هكذا سائر التشريعات وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة ذلك، و يظنون الدين، إنما هو منهج من بين مئات المناهج، فأيها اتبعها الإنسان، كان كافيا في إقامة الحياة.

[32] و حيث إن قوله «أقم» عام لكل المكلفين، إما من باب الأسوة بالرسول المخاطب ب «أقم» و إما من باب كون الخطاب عاما- ابتداء- جاء الحال لفاعل «أقم» بلفظ الجمع، فقال سبحانه مُنِيبِينَ أناب، بمعنى رجع، أي في حال كونكم أيها البشر راجعين إِلَيْهِ أي إلى الله، عن الطرق التي كنتم تسيرون فيها، مما تخالف الدين وَ اتَّقُوهُ أي خافوا عقابه وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بالاستمرار في إتيانها بآدابها و شرائطها، فإنها توجب التقوى و الاستقامة وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذي يجعلون لله سبحانه شريكا.

[33] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فلم يتبعوا دينا واحدا، أنزله الله سبحانه،

بل اتبع كل فئة دينا، و هكذا تكون التفرقة، إذا عملت الأهواء في الناس وَ كانُوا شِيَعاً جمع شيعة، و هي الفئة التابعة لمسلك خاص، أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 244

[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 34]

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

كان كل طائفة منهم، شيعة لمسلك و مبدأ كُلُّ حِزْبٍ و شيعة بِما لَدَيْهِمْ من الدين و المسلك فَرِحُونَ إذ يعتبرون دينهم، أحسن الأديان، و طريقتهم خير الطرق.

[34] و من متناقضات المشركين ما بينه سبحانه بقوله وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي لامسهم و نزل بهم ضرر مالي أو جسمي، أو ما أشبه دَعَوْا رَبَّهُمْ لكشف ذلك الضر، و لا يدعون الشركاء، لأنهم يعلمون إن الكاشف للضر، هو الله وحده دون شركائهم مُنِيبِينَ أي راجعين إِلَيْهِ وحده، بدون الرجوع إلى الشركاء معه ثُمَّ إِذا لبّى دعاءهم، و كشف ضرّهم و أَذاقَهُمْ مِنْهُ أي من قبله تعالى رَحْمَةً و فضلا كأن يغنيهم من فقرهم، أو يأمنهم من خوفهم، أو ما أشبه ذلك إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي جماعة من أولئك الذين مسهم الضرّ، فأنابوا إلى ربهم، فأذاقهم منه رحمة بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فيجعلون له شريكا، و الإتيان ب «إذا» لبيان المفاجآت، و إن هذا الإشراك لم يكن مترقبا، بعد تلك الأمور.

[35] فقد أشركوا بقصد الكفران لنعم الله لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من النعم، أو أن اللام للعاقبة، أي كانت عاقبة إذاقة هؤلاء الرحمة، كفرانهم، أو كفرهم فَتَمَتَّعُوا أيها المشركون، و هذا أمر للتهديد، أي تلذذوا، و خذوا متع الحياة مدة يسيرة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 245

[سورة الروم (30): الآيات 35 الى 37]

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

عاقبة كفركم، و هذا تهديد لهم، بأنهم سيجازون بالعذاب، و النكال.

[36] ثم يأتي السياق للتفهيم منهم استفهام عارف، ليعرفهم خطأهم، فهل كفر هؤلاء بلا حجة و برهان أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أي حجة، و دليلا، يدل على تعدد الآلهة؟ فَهُوَ أي فذلك البرهان يَتَكَلَّمُ المراد يظهر و يبين ذلك البرهان بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ كلا: لم ينزل سلطان عليهم، و إنما كفروا و أشركوا، بلا حجة و برهان.

[37] إن المؤمن لا ييأس عند الشدة، و لا يبطر عند النعمة، أما الكافر، و من ضعف إيمانه، فإنه- لخفة نفسه و عدم اتزان روحه- إن أعطي بطر، و إن منع يئس وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي أتيناهم نعمة و فضلا فَرِحُوا بِها أي بتلك الرحمة بطروا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء و مصيبة، و سمي ذلك سيئة لأنها تسي ء إلى الإنسان بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب بعض أعمالهم التي عملوها، و إنما نسب التقديم إلى اليد، لأنها الغالبة في مزاولة الأعمال إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ و ييأسون عن روح الله المفرّج لهذه السيئة.

[38] أَ وَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الذين يبطرون بالنعمة، و يقنطون بالسيئة أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ مما اقتضت المصلحة توسعته وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء من «قدر» بمعنى

«ضيّق» فليست

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 246

[سورة الروم (30): آية 38]

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

التوسعة دليلا على إكرام الله، حتى تسبب البطر، و لا التضييق دليلا على إذلال الله، حتى يسبب اليأس، كما أنهم إن وسّع عليهم لزم أن يشكروا، و إن ضيق عليهم، وجب أن يصبروا، و يدعوا، لا أن يقنطوا، ف (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) «1» إِنَّ فِي ذلِكَ البسط و التضييق لَآياتٍ دلالات على أن ذلك من الله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالله إذ:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا.

[39] و إذ تقدم الكلام، في أن توسعة الرزق منه سبحانه، كما أن تضييقه منه تعالى، فلينفق الإنسان حسب المستطاع، فإن الإنفاق لا يضر، كما أن الإمساك لا ينفع، كما قال:

إذا قبل الدنيا عليك فجد بهاعلى الناس طرا قبل أن تتفلت

فلا الجود مفنيها إذا هي أقبلت و لا البخل مبقيها إذا هي ولت

فَآتِ أي أعط يا رسول الله ذَا الْقُرْبى أي صاحب القرابة حَقَّهُ أي حقه الذي قرره الله له، من الصلة و الإنفاق و غيرها، و هذه الآية، و إن كانت عامة تشمل إعطاء كل أحد قرابته، ما جعل الله له من حق، إما بأن يكون «آت» خطابا لكل مسلم، أو خطابا للرسول

______________________________

(1) يوسف: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 247

[سورة الروم (30): آية 39]

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

و عمومه من باب الأسوة إلا أنه وردت روايات

خاصة صحيحة في أنها نزلت بالنسبة إلى إعطاء فاطمة عليها السّلام «فدكا» «1» و لا منافاة، فإن ذلك من باب المصداق وَ آت الْمِسْكِينَ و هو الفقير وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو الذي سافر، ثم لا نفقة له لمصرفه، أو لعوده، و ذلك بأن يعطيهما الإنسان حقهما الواجب من الزكاة و الخمس، أو الأعم حتى يشمل كل مساعدة لهما، و لو من غير الزكاة و الخمس ذلِكَ الإعطاء لهؤلاء حقوقهم خَيْرٌ من عدم الإعطاء لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يعطون قربة إلى الله، لا رياء و سمعة، فإن المنع يوفر على الإنسان المال، و الإعطاء يوفر على الإنسان السعادة في الدارين، و السعادة خير من ذلك المال القليل وَ أُولئِكَ الذين يعطون هذه الحقوق هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بثواب الله تعالى، في الدنيا و الآخرة، فإنهم يقوّمون بذلك الاجتماع، و تقوية الاجتماع عائدة إلى تقوية نفس الشخص أيضا، كما أن ذلك موجب لجزيل الأجر في الآخرة.

[40] و قد كان بعض أصحاب الأموال يعطي الهدية أو نحوها لغيره، ليعوض عنها بالأزيد، فبين سبحانه، أن هذه الكيفية لا تسبب الزيادة و النمو، و إنما تسبب الزيادة و النمو، الزكاة و الصلاة وَ ما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ رِباً «الربا» هو الزيادة من «ربي» بمعنى زاد، و منه «الرابية» بمعنى الأرض العالية، و سمي ما يعطي الإنسان «ربا» لأنه زيادة في الإعطاء، و ليس حقا واجبا لِيَرْبُوَا ذلك الربا فِي أَمْوالِ النَّاسِ

______________________________

(1) راجع الكافي: ج 1 ص 543.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 248

أي ينمو ذلك الذي أعطيتموه في أموال المهدي إليهم، و المعنى يجعل عليه، و يردّ إليكم، فكأنه زاد في أموالهم، حيث إنه إنما ضوعف، حين

اختلط بمالهم، و هذا النحو من الإعطاء ليس حراما، و لكنه لا أجر له فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ و لا يعطي الله أجرا على هذه الهدية المراد بها أن تزاد و ترد، هكذا وردت الروايات في تفسير الآية، و هناك احتمال آخر، و هو أن يكون هذا منعا لإعطاء المقترض الربا، و المعنى إن الربا الذي تعطونه بزعم إنه يزاد، في أموال المقترضين، إنما هو مجرد زعم، و إلا فالله سبحانه لا يجعله سببا للزيادة، من قبيل (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) «1» و إنما توجه النهي نحو المقترض، لأنه إن أبى لم يجد المقرض وسيلة لاقتراف هذا الحرام، من قبيل

قوله عليه السّلام لا تكن عبد غيرك، و قد جعلك الله حرا

«2»، و على هذا، فلام «ليربوا» لام العاقبة وَ ما آتَيْتُمْ أي أعطيتم مِنْ زَكاةٍ واجبة أو مندوبة، و إن كان الأنسب- بكون السورة مكية- إرادة المندوبة تُرِيدُونَ بإعطائها وَجْهَ اللَّهِ لا الرياء و السمعة، و إنما قال «وجه الله» لأن إرضاء شخص يوجب أن يوجّه وجهه إلى المرضي، فالمعنى من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، للتقريب إلى الذهن فَأُولئِكَ المزكون هُمُ الْمُضْعِفُونَ أي الذين يضعفون أموالهم، كما قال سبحانه (وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ) «3» و قد دلّ العلم، على أن إعطاء الصدقات،

______________________________

(1) البقرة: 277.

(2) تحف العقول: ص 76.

(3) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 249

[سورة الروم (30): الآيات 40 الى 41]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

توجب زيادة المال، بالإضافة

إلى دلالة العقل على ذلك.

[41] و بعد ذكر بعض الأمور المرتبطة بالإنفاق، و ما إليه- بالمناسبة- يرتد السياق إلى ذكر ما صيغ لأجله الكلام، و هو نفي الشرك اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم من العدم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أعطاكم أنواع الرزق ثُمَّ يُمِيتُكُمْ لدى انقضاء أجلكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ لأجل الحساب و الجزاء هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أيها المشركون أي الذين جعلتموهم شركاء لله مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الأمور، و «كم» للخطاب مِنْ شَيْ ءٍ؟ و طبعا يكون جوابهم بالنفي سُبْحانَهُ أي أن الله منزه عن الشريك وَ تَعالى أي أنه أرفع من أن يمكن أن يكون له شريك عَمَّا يُشْرِكُونَ عن الأصنام التي يشركونها مع الله.

[42] إن شرك هؤلاء لم يسبب انحرافا في عقيدتهم فحسب، بل انحرافا في جميع مرافق الحياة إذ إنّ الشرك لا يتخذ المنهج من الله سبحانه، و إنما يسير على نهج منحرف، و ذلك يوجب الفساد ظَهَرَ الْفَسادُ من القتل، و هتك الأعراض، و نهب الأموال، و سائر المشاكل فِي الْبَرِّ و المراد به الأعمّ من البلد و الصحراء وَ الْبَحْرِ فإن السفن السائرة في البحر، يظهر عليها أثر الفساد، بالحروب فيما بينها و الخوف الناشئ من الاضطراب في البلاد إلى غير ذلك بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 299

[سورة الروم (30): الآيات 42 الى 43]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

فليس ذلك ظلما منه سبحانه، بل تابعا لما عملته الناس بأنفسهم، و النسبة إلى اليد من باب

علاقة الكل بالجزء، لأنها العنصر الفعال في الحياة و الاكتساب، و إنما ترك الله سبحانه الناس حتى يظهر فيهم الفساد لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي جزاء بعض أعمالهم، من باب علاقة السبب و المسبب، فإن الذي عملوا سبب للعقوبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن غيهم و ضلالهم و يتخذوا، منهج الله سبحانه، الملازم للتوحيد، و عدم الشرك.

[43] قُلْ يا رسول الله، مهددا لهؤلاء المشركين، بأنهم إن بقوا على شركهم و انحرافهم، أصابهم مثل ما أصاب المشركين من قبل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لتصلوا إلى بلاد الأمم الهالكة، التي ترون آثارها في مسيركم إلى الشام، و إلى اليمن فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ العصاة الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ أي كانوا من قبلكم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فجوزوا على شركهم بالنكال و الدمار، فإن ذلك يسبب لهؤلاء الإقلاع عن الشرك و الانحراف.

[44] و إذ تبين لك ما يسببه الشرك و الانحراف من المآسي، و الويلات فَأَقِمْ يا رسول الله، أو خطاب عام، إما لفظا، أو للأسوة، بأن يكون من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ فلا تنحرف عنه، و قد سبق معنى الآية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 251

[سورة الروم (30): الآيات 44 الى 45]

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ المرد مصدر ميمي، أي لا رد له، و المراد بذلك اليوم و هو يوم نزول العذاب، أو الموت، أو القيامة، فإن الأمر بالاستقامة، إنما هو لأجل أن لا يقع الإنسان في مشكلة لا دفع لها مِنَ اللَّهِ إي إن ذلك اليوم،

من قبل الله، أو إنه لا رد لما يكون فيه، مما يأتى من قبل الله تعالى يَوْمَئِذٍ في ذلك يَصَّدَّعُونَ أي يتفرقون، فالمؤمنون في الجنة و الكفار في النار، من «اصدّع» أصله «تصدع» من باب «التفعل» أدغمت التاء في الصاد، فجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و معنى الصدع، هو الكسر و التفريق، كما قال (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) «1».

[45] و هل يضر كفر أحد إلّا نفسه؟ فمن كفر ليعلم إنه يضر بذلك نفسه مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي أن ضرر كفره، ليعود عليه، و لا يعاقب أحد بسبب كفره وَ مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ من مهد، بمعنى وطئ منزله، ليكون مريحا، أي أنهم يجعلون أنفسهم حسنا.

[46] و إنما قرر سبحانه الجزاء الحسن للمؤمن، و الجزاء السيئ للكافر لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بالأصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ فإنما قرر للإنجاز، كما تقول: قررت دينارا لزيد لأعطيه مِنْ فَضْلِهِ فليس الجزاء استحقاقا، بل فضلا و إحسانا، و إلا فما أعطاه الله

______________________________

(1) الحشر: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 252

[سورة الروم (30): الآيات 46 الى 47]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

للإنسان في دار الدنيا هو أكثر من استحقاقه بسبب أعماله، و ل إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فقد قرر «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» و المراد بعدم الحب الكراهة، لأنه لا واسطة بينهما، بالنسبة إليه سبحانه، و يحتمل أن يكون، لام «ليجزي» للعاقبة، أي أن عاقبة الكفر عدم الحب و

عاقبة الايمان الجزاء الحسن.

[47] ثم يعطف السياق إلى الأدلة، الدالة على وجوده سبحانه، بعد ما أخذ شوطا حول المعاد، و هكذا عادة القرآن، أن يفنن في الكلام، لئلا يورث الضجر و الكسل من المطلب الرتيب الواحد، وَ مِنْ آياتِهِ الدالة على وجوده و سائر صفاته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ فإن الرياح في موسم المطر، تبشر بالسحاب و المطر، لأنها تجمع السحب من هنا، و هناك، حتى إذا اغتمت السماء أمطرت وَ لِيُذِيقَكُمْ الله مِنْ رَحْمَتِهِ فإنه يرسل الرياح للبشارة و التفضل وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفينة في البحار بسبب الرياح بِأَمْرِهِ تعالى، فإن جريان الفلك، يحتاج إلى أمر الله تعالى، بالإضافة إلى الرياح وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة في السفن و بالزراعة، و باستعمال المياه في الحوائج وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا فضله عليكم.

[48] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ بالهداية و الإرشاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 253

[سورة الروم (30): آية 48]

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ إي الأدلة الواضحات الباهرات، و إذ لم يؤمن بهم المجرمون المعاندون فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالبقاء على الكفر و العصيان، و المعنى عاقبتهم بتكذيبهم و كفرهم بالعذاب و النكال، و فيه تهديد لمعاصري الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنهم إن بقوا على إجرامهم كان مصيرهم مصير أولئك وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ بدفع أعدائهم، و إعلاء كلمتهم.

[49] و بمناسبة ما تقدم من إرسال الرياح، و إنزال المطر، يأتي السياق ليفصّل الأمر في صورة أخرى اللَّهُ

هو الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ و إرسالها، إما بخلقها، و إما بتحريكها من مكان إلى مكان، و قد ذكر علماء الفلك تفصيلا، في كيفية خلق الرياح فَتُثِيرُ أي تهيج الرياح سَحاباً المراد بالسحاب الجنس، فإن الرياح تأتي بالسحب، من هنا و هناك فَيَبْسُطُهُ أي يبسط الله السحاب فِي السَّماءِ أي جهة العلو كَيْفَ يَشاءُ عرضا و طولا و ارتفاعا، و في أي موضع شاء، وَ يَجْعَلُهُ يجعل الله السحاب كِسَفاً قطعا متراكبة بعضها على بعض، حتى يغلظ، و يثخن فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر، و الخطاب إما للرسول، و إما لكل من يرى يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي خلال السحاب و ثناياه فَإِذا أَصابَ الله بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 254

[سورة الروم (30): الآيات 49 الى 51]

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

نزل المطر في أرضهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون و يبشر بعضهم بعضا، حيث يوجب الرخص بكثرة النبات و تسمين الأنعام.

[50] وَ إِنْ كانُوا أولئك الذين أصاب المطر أرضهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ المطر عَلَيْهِمْ و على بلادهم مِنْ قَبْلِهِ للتأكيد، أو المراد به، من قبل إثارة الرياح للسحاب لَمُبْلِسِينَ أي قانطين آيسين متحيرين، لا يدرون ماذا يصنعون بزرعهم و ضرعهم.

[51] فَانْظُرْ يا رسول الله، أو أيها الناظر إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ و المراد بها النبات المتنوع، و الأنهار الجارية، و الأشجار النظرة، التي غسلها المطر، فإنها آثار المطر الذي هو

رحمة الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد أن كانت مواتا يابسة، لا حركة فيها، و لا نبات، و لا ماء إِنَّ ذلِكَ الله الذي أحيى الأرض بعد موتها لهو محيي الْمَوْتى يحييهم، بعد أن ماتوا، للحساب و الجزاء وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فكما قدر على إحياء الأرض، يقدر على إحياء الأموات، و هذا ردّ على منكري البعث، كيف ينكرون ذلك، و قد رأوا إحياء الأرض.

[52] لكن هل هذا الإنسان الذي يستبشر بالرحمة، هو مؤمن بالله من أعماق نفسه، و راض بقضائه حتى أنه يصبر على بلائه كما يشكر على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 255

[سورة الروم (30): آية 52]

فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)

نعمائه؟ كلا! إنهم قد عبدوه على حرف، فإن أصابهم خيرا اطمئنوا به و إن أصابتهم فتنة، انقلبوا على أعقابهم وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا عوض الريح المثيرة للسحاب رِيحاً هوجاء فَرَأَوْهُ أي رأوا النبت مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إرسال الريح الهوجاء الموجبة لاصفرار النبات، و هلاكه يَكْفُرُونَ بقضاء الله و قدره، قائلين: لماذا فعل الله بزرعنا هذا؟

[53] و ليس كون هؤلاء الناس، هكذا لا يصبرون عند البلاء، لعدم كمال البلاغ، و إنما لعدم لياقة أنفسهم فَإِنَّكَ يا رسول الله لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فكما أن الميت، لا يسمع سماعا مفيدا يرتب الأثر عليه كذلك، إن هؤلاء الذين هم بمنزلة الأموات، في عدم حصول الخير منهم، لا يسمعون العظة سماعا مفيدا، حتى إذا رأوا بلاء صبروا و لم يكفروا وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَ جمع أصم، و هو الفاقد لحاسة السمع الدُّعاءَ أي إذا ما دعوته ليقبل إليك إِذا وَلَّوْا أولئك الصم، بأن

كانوا مُدْبِرِينَ فإن الأصم، و إن كان لا يسمع، و إن كان وجهه في طرف الداعي، إلا أنه يفهم الإشارة، فيرتب الأثر، أما إذا أدبر، فلا يسمع، و لا يرتب الأثر، و هو للمبالغة، في عدم إمكان إفهامه، و هذا تشبيه إثر تشبيه لحال الكفار الذين لا يؤثر فيهم البلاغ و الإرشاد، و كأنه للترقي نزولا عند رغبة المخاطب، إيهاما بأن هناك مخاطبا، يستبعد أن يكونوا كالأموات فإنهم أحياء؟ فيأتي السياق ليقول: سلمنا إنهم ليسوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 256

[سورة الروم (30): الآيات 53 الى 54]

وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

بأحداث، إلا أنهم كالأصم الذي ولى دبره، حيث لا ينتفع بالعظة و الإرشاد.

[54] وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِهادِ الْعُمْيِ أي بقادر على أن تهدي إلى الطريق الذين هم عميان البصيرة عَنْ ضَلالَتِهِمْ متعلق ب «هادي» أي لا تقدر على هدايتهم عن ضلالتهم، لأن مثلهم مثل الأعمى الذي كلما أراد الإنسان أن يريه الطريق، لا يهتدي و لا يعرف إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إسماعا مفيدا أحد من الناس إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي بأدلتنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، فإن من سلك طريق الهداية، سمع أقوالك سماعا نافعا فَهُمْ مُسْلِمُونَ لك منقادون لأوامرك.

[55] و كيف يكفر هؤلاء بالله، و قد علموا أنه هو الذي خلقهم، و يقلبهم من حال إلى حال اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ من نطف ضعيفة، أو أطفالا ضعافا، و هذا

من باب المجاز، إذ جعل ذو الضعف، و كأنه قطعة من الضعف، مثل زيد عدل، و (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) «1» ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كان فيكم قُوَّةً الحياة، و قوّة الشباب ثُمَّ جَعَلَ لكم مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً حتى يرتد الإنسان إلى

______________________________

(1) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 257

[سورة الروم (30): الآيات 55 الى 56]

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56)

حالته الأولية، و المراد الشيبة، حالة الشيخوخة يَخْلُقُ ما يَشاءُ من قوي و ضعيف، و قوة و ضعف، فهما خلقان من خلقه وَ هُوَ الْعَلِيمُ عليم بمصالح عباده، و لذا يصرفهم من حال إلى حال الْقَدِيرُ على ما يريد.

[56] إن هذا الإتقان في الخلق و التقليب في الخلقة، من عليم قدير، لا بد و أن تكون له نهاية متقنة، و غرض مقصود، هي القيامة، فليستعد الإنسان لها، أما من أجرم، فيذهب عمره هباء، و كأنه لم يلبث في الدنيا، إلّا يسيرا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف الذين أجرموا في الدنيا بأنهم ما لَبِثُوا و لم يبقوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ واحدة، حيث يستضئلون أيام الدنيا، كما قال (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) «1» كَذلِكَ أي كما صرفوا هناك عن الصدق، في مدة بقائهم كذلك كانُوا في الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الصدق، بالنسبة إلى الألوهية، و الرسالة و المعاد.

[57] و كان هذا الكلام من الكفار، إنما هو بحضور المؤمنين، فيقول لهم المؤمنون، و أية

فائدة في هذا الكلام: هل طويل كان عمر الدنيا أم قصير، و إنما المقصود، كان العمل لأجل هذا اليوم، و قد فاتكم وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ أي أعطوا علما بالمعارف، و إيمانا

______________________________

(1) المؤمنون: 114.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 258

[سورة الروم (30): الآيات 57 الى 58]

فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)

بالألوهية و الرسالة و المعاد- فهم كما كانوا في الدنيا علماء مؤمنين، لا يفارقهم هذان هناك- لَقَدْ لَبِثْتُمْ و بقيتم فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علم الله و قضائه، و ما كتبه لكم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ و هذا كما يقول الإنسان لمن ينازع في مدة بقائه في سفر سافره: إنك في ما سجلت، أنا بقيت عشرة أيام، فإن بقاءكم إلى يوم البعث، هو المهم، أما أنه طويل أو قصير، فليس بمهم، فقد أبقاكم الله في الدنيا للعمل الصالح، و لم تعملوا فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم تنكرونه وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك في الدنيا، و لذا وقعتم في العذاب هنا.

[58] فَيَوْمَئِذٍ أي في القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان مَعْذِرَتُهُمْ أي اعتذارهم، بما يظهرون من أنواع العذر، بأنهم ما علموا، أو أضلهم الرؤساء، أو أرجعونا نعمل صالحا، أو ما أشبه وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم الإعتاب و الرجوع إلى الحق، كما كان يطلب منهم في الدنيا.

[59] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينفع في إيقاظ الناس عن جهلهم و غيهم، كتمثيلهم بالأموات، و الصم،

و تمثيل آلهتهم ببيت العنكبوت، إلى غير ذلك وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ يا رسول الله بِآيَةٍ لإرشادهم، مشتملة على مثل أو غير مثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 259

[سورة الروم (30): الآيات 59 الى 60]

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا للذين آمنوا إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم إِلَّا مُبْطِلُونَ أي أصحاب أباطيل، يقال أبطل، إذا جاء بالباطل.

[60] كَذلِكَ أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء الكفار، بعد أن أعرضوا عن الحق، و قد سبق، أن معنى الطبع، هو أن يترك الله الإنسان حتى ينحرف و يقسو قلبه، بعد أن أرشده إلى الطريق فلم يقبل، و إنما نسب الطبع إليه، كما ينسب الإفساد إلى الوالد، فيقال أفسد فلان ابنه، إذا تركه «بعد أن أرشده، فلم يقبل» حتى فسد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ التوحيد و الرسالة و المعاد، بأن تركوا التعلم حتى جهلوها.

[61] فَاصْبِرْ يا رسول اللّه، على أذى هؤلاء الكفار، و كفرهم و عنادهم، فسيأتيك المدد إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ فسينصرك و يخذلهم وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ أي لا يستفزنك، يقال استخفه، إذا طلب خفته، بأن يستعتبه لنفسه الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بالله و اليوم الآخر، بأن تترك مهمتك، أو تداهنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 260

31 سورة لقمان مكية/ آياتها (35)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر «لقمان» الحكيم، و بعض وصاياه، و هي كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة بأصولها المختلفة، من توحيد، و رسالة، و معاد، و لوازمها، و بعض الأمور الأخلاقية، و لما اختتمت سورة الروم، بذكر القرآن، ابتدأت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم

الله، و لا منافاة بين تقدير الابتداء و الاستعانة معا، بإشراب أحد الفعلين معنى الفعل الآخر، كما إن الاستعانة باسم الإله، تنافي التعظيم، كما قال بعض متوهما لزوم أن يكون اسم الإله آلة من قبيل كتبت بالقلم، فقد قال سبحانه (وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ) «1» و هو الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحمة المكثرة، لمن استعان به، و طلب رحمته.

______________________________

(1) يوسف: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 261

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

[2] الم من جنس «ألف» و «لام» و «ميم» هذا القرآن المعجز الذي لا يتمكن الجن و الإنس على الإتيان بمثله، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أو إنها رموز بين الله و رسوله، و فائدته لنا، إن الرسول يسر به إلى من يعلمه أهلا لذلك.

[3] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ خبر لقوله «الم» و كون الكتاب حكيما، بمعنى أنه قرر منهجا محكما، لا يدخله زيغ و فساد، فإن الحكمة، وضع الأشياء موضعها اللائق بها.

[4] في حال كون هذا الكتاب هُدىً أي هداية و إرشادا وَ رَحْمَةً موجبة للرحم و التفضل، فإن الله سبحانه، لم ينزل هذا القرآن، إلا لأن يرحم العباد لِلْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عقيدتهم و عملهم، و تخصيصهم بالذكر، لأنهم هم المنتفعون به، و إن كان في القرآن صلاحية الهداية و الرحمة للجميع.

[5] ثم وصف سبحانه المؤمنين بقوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بإتيانها دائما حسب آدابها و شرائطها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون الأموال الموجبة لطهارة الأموال و تزكيتها، و الظاهر أن المراد بها، الصدقة المستحبة،

إذ لم تجب الزكاة المفروضة في مكة وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي يعتقدون، و الإتيان ب «هم» مكررا للتأكيد، و لإفادة، إن المصلي المزكي، هو المعتقد بالآخرة، أما غيره ممن يدعي ذلك، و لا يقوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 262

[سورة لقمان (31): الآيات 5 الى 6]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)

بهذين الأمرين، فإنما كلامه لقلقة لسان، لا خارج من أعماق الجنان.

[6] أُولئِكَ المتصفون بتلك الأوصاف عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ كأنّ الهدى جادة، و الضلال جادة، فمن عمل بما ذكر، كان سائرا على تلك الجادة المسماة بالهدى، و أن الهدى من ناحية إلههم و خالقهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و الآخرة.

[7] ثم ذكر سبحانه من يقابل طائفة المؤمنين، و هم طائفة الكفار و المنافقين وَ مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ فإنه ينفق عمره في سبيل الأحاديث الملهية الباطلة، و هذا عام ليشمل كل الأحاديث الملهية و من جملة ذلك «الغناء» و لذا ورد تفسير الآية به لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يضل الناس عن طريق الهداية فإنه يحدثهم ليجمعهم حوله، فلا يجتمعوا حول الهدى، و قد ورد، أنها نزلت في النضر بن حارث، كان يتّجر فيخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم، و يحدث بها قريشا، و يقول لهم: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد و ثمود، و أنا أحدثكم بحديث رستم و اسفنديار، و أخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه، و يتركون استماع القرآن «1» بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن العاصي جاهل، و إن كان عالما حسب

الظاهر، إذ لو علم بحقيقة العلم ما يجره إلى نفسه من النار و النكال لم يقترب إلى المعصية أبدا، كما قال:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 263

[سورة لقمان (31): الآيات 7 الى 8]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)

(مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) «1» وَ يَتَّخِذَها أي يتخذ سبيل الله- فإن السبيل مؤنث مجازي- هُزُواً آلة استهزاء و سخرية، فإن الإنسان، إذا أراد الاستهزاء، جعل شيئا محور استهزائه أُولئِكَ الذين صفتهم ما تقدم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي يهينهم ذلك العذاب، و يذلهم في مقابل ما كانوا يستكبرون و يتعاظمون في الدنيا.

[8] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي تقرأ عليه آيات القرآن الحكيم وَلَّى و أعرض مُسْتَكْبِراً أي في حالة كبر و استعلاء يرى نفسه أكبر من أن يخضع لآيات القرآن كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها و إلا فالإنسان العاقل إذا سمع الهدى و الرشاد اتبعه و اقترب منه و خضع له كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «الوقر» الحمل الثقيل، أي كان في مسامعه حمل ثقيل يمنعه عن الاستماع، حتى يهتدي فَبَشِّرْهُ يا رسول الله، و تسميته التخويف بشارة، استهزاء، كما كان يستهزأ بآيات القرآن بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع في القيامة.

[9] و في مقابلهم المؤمنون إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من المعارف و الاعتقادات وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ بأن أتوا

______________________________

(1) الأنعام: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 264

[سورة لقمان (31): الآيات 9 الى 10]

خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى

فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

بالواجبات، و تركوا المحرمات، فإنه لا يقال، فلان يعمل صالحا، إلا إذا كان آتيا بالواجب تاركا للمحرم لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي بساتين يتنعمون فيها في الآخرة، في مقابل العذاب الأليم الذي للكفار.

[10] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي دائمين لا زوال لهم عنها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعد الله ذلك وعدا حقا يتحقق في الخارج، لا خلف فيه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره، فما أراده، من تعذيب الكفار، و تنعيم المؤمنين عمله الْحَكِيمُ يفعل الأشياء بالحكمة و المصلحة.

[11] إن الكفار الذين لا يعترفون بالإله لينظروا إلى آثاره، و المشركون الذين يجعلون له شريكا، فليأتوا بدليل من الخلق، يدل على شريكهم خَلَقَ السَّماواتِ و هي مدارات الكواكب، أو أجسام هنالك، لم يصل إليها العلم، و سير البشر المحدود في الفضاء بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عمود، أي لا عماد للسماوات تَرَوْنَها أي ترون أن لا عماد للسماوات، و إنما تدور الكواكب، و تسير بقدرته سبحانه، أو المراد، إن السماوات ثابتة بدون أعمدة مرئية، و إنما عمادها الجاذبية، التي خلقها الله فيها، مما لا يراها الإنسان وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا راسية ثابتة تمنع الأرض عن التحرك و الاضطراب و التفكك، فهي كأوتاد الأخشاب، و إلا جذبتها جاذبية النيران، كما تجذب ماء البحار- فيحدث المد و الجزر- أو تفككت في سيرها السريع، و انتثرت في الفضاء، و إنما ألقى في الأرض رواسي: كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ من «ماد» بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 265

[سورة لقمان (31): آية 11]

هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي

ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

اضطرب، أي لئلا تضطرب الأرض معكم أيها البشر وَ بَثَ أي نشر، و فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من جميع أنواع الدواب المختلفة الأشكال، و الألوان و الحجوم و المزايا وَ أَنْزَلْنا على قاعدة الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو من أقسام البلاغة مِنَ السَّماءِ من جهة العلو ماءً هو المطر فَأَنْبَتْنا فِيها في الأرض بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف من أصناف النبات كَرِيمٍ أي مكرّم محترم، لما فيه من الفوائد و الخواص.

[12] هذا الذي ذكر من صنوف الخلق خَلْقُ اللَّهِ فإنه سبحانه، هو الموجد لهذا كله فَأَرُونِي أيها المشركون القائلون بأن لله شريكا ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الآلهة الذين هم غير الله، و الإتيان ب «الذين» للمجاراة مع عبّاد تلك الأصنام، في المكالمة و المخاطبة ليتناسق التعبير أخذا و عطاء، و ليس لأحد من المشركين، أن ينسب بعض تلك المخلوقات إلى آلهتهم، كما نسب الثنوية المضار إلى إله الشر، إذ توحيد النظام، و التنسيق دال على توحيد الخالق، فإن النظام الواحد لا يصدر، إلا من المنظم الواحد، ثم ماذا يقيمون من الأدلة، على أن الشي ء الفلاني من الله، و الشي ء الفلاني من الشركاء؟ إلا الادعاء، و إن شئت قلت: إن هناك مخلوقات، تدل على خالق واحد، فمن يقول بالأكثر، فعليه الدليل بَلِ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 266

[سورة لقمان (31): آية 12]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

بالكفر و الشرك و

العصيان، لا دليل لهم على تعدد الآلهة، و إنما هم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح.

[13] و إذ كان الكلام حول التوحيد و الشرك، ينتقل السياق إلى قصة «لقمان» الحكيم الذي كان يأمر بالتوحيد، و ينهى عن الشرك وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و هو معرفة مواضع الأشياء، و علم الارتباط بين الأسباب و المسببات، بحيث يعلم كيف ينهج الإنسان، حتى يسعد في الحياة،

عن الصادق عليه السّلام إنه سئل عن لقمان و حكمته التي ذكرها الله عز و جل فقال: أما و الله، ما أوتي لقمان الحكمة بحسب و لا مال و لا أهل، و لا بسط في جسم، و لا جمال، و لكنه، كان رجلا قويا في أمر الله متورعا في الله ساكتا سكّيتا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغني بالعبر، لم ينم نهارا قط، و لم يتك في مجلس قط، و لم يتفل في مجلس قط، و لم يعبث بشي ء قط، و لم يره أحد من الناس على بول و لا غائط، و لا اغتسال لشدة تستره، و عمق نظره، و تحفظه في أمره، و لم يضحك من شي ء قط، مخافة الإثم في دينه، و لم يغضب قط، و لم يمازح إنسانا قط، و لم يفرح بشي ء، بما أتاه من الدينا، إن أتاه من أمرها، و لا حزن منها على شي ء قط، و قد نكح من النساء، و ولد له الأولاد الكثير، و قدم أكثرهم إفراطا، فما بكى على موت أحد منهم، و لم يمر برجلين يختصمان، أو يقتتلان إلا أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتى تحابا، و لم يسمع قولا قط عن أحد استحسنه إلا سأله عن تفسيره،

و عن من أخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء و الحكماء، و كان يغشي للقضاة و الملوك، و السلاطين، فيرثي القضاة مما ابتلوا به، و يرحم الملوك و السلاطين، لعزتهم بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 267

و طمأنينتهم في ذلك، فيعتبر و يتعلم ما يغلب به نفسه، و يجاهد به هواه، و يحترز به من الشيطان، و كان يداوي قلبه بالتفكر، و يداوي نفسه بالعبر، و كان لا يصغي إلا فيما ينفعه، و لا ينظر إلا فيما يعنيه، فبذلك أوتي الحكمة، و منح العصمة- أي الاعتصام من الزلل- و إن الله تبارك و تعالى، أمر طوائف من الملائكة، حين انتصف النهار، و هدأت العيون بالقائلة، فنادوا لقمان حيث يسمع، و لا يراهم، فقالوا: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض، تحكم بين الناس؟

فقال لقمان: إن أمرني ربي بذلك، فالسمع و الطاعة، لأنه إن فعل بي ذلك، أعانني عليه، و علّمني و عصمني، و إن هو خيّرني قبلت العافية، فقالت الملائكة: يا لقمان لم قلت ذلك، قال: لأن الحكم بين الناس بأشد المنازل من الدين، و أكثر فتنا و بلاء ما يخذل، و لا يعان، و يغشاه الظلم من كل مكان، و صاحبه منه بين أمرين، إن أصاب فيه الحق، فبالحري أن يسلم، و إن أخطأ أخطأه طريق الجنة، و من يكن في الدنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد، من أن يكون فيها حكما سريا شريفا، و من اختار الدنيا على تلك الآخرة يخسرهما كلتيهما، تزول هذه، و لا يدرك تلك، قال: فعجبت الملائكة من حكمته، و استحسن الرحمن منطقه، فلما أمسى، و أخذ مضجعه من الليل، أنزل الله عليه الحكمة،

فغشاه بها من قرنه، إلى قدمه، و هو نائم، و غطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ، و هو أحكم الناس في زمانه، و خرج على الناس، ينطق بالحكمة و يبثها فيهم

«1»، و قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فيما أعطاك، و الشكر هو صرف النعمة، فيما أمر الله سبحانه وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 409- 411.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 268

[سورة لقمان (31): الآيات 13 الى 14]

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

فإن فائدة شكره تعود على نفسه، فإن الشكر يوجب الزيادة في النعم و الثواب في الآخرة وَ مَنْ كَفَرَ بأن لم يشكر، و صرف النعم في معصية الله، كأن يصرف نفسه و ماله في الكفر و الشرك و الفسوق و العصيان فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن شكر الشاكرين، و التقدير، و من كفر فليعلم إنه لا يضر الله، لأنه سبحانه غني حَمِيدٌ محمود على أفعاله، فإن ترك هذا الإنسان للحمد و الشكر، لا يخرج الله عن كونه محمودا في السماوات و الأرض.

[14] ثم ذكر سبحانه جملة من حكمة لقمان، و ما كان يبثه بين الناس، من المواعظ و النصائح وَ أذكر يا رسول الله إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ و الحال إنه كان هُوَ يَعِظُهُ أي يؤدبه بالأخلاق الحسنة و يعلمه الخير و الرشد يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ أي لا تجعل له شريكا ف إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ و هل هناك ظلم أعظم، من أن

يربط الإنسان أعمال الإله، بمخلوق له، ما يسبب فساد دينه و دنياه، و فساد دنيا و دين من اتبعه؟

[15] و بهذه المناسبة، يأتي السياق ليبين جملة من كلام الله سبحانه حول الإنسان، من جهة أبويه، فإن احترام الوالدين في طول إطاعة الله، فكما يجب امتثال أوامر الله، لأنه الخالق، كذلك يلزم الإحسان إليهما، لما تعباه في تكوين الأولاد و تربيتهما وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي أمرناه، بإطاعة الوالدين و شكرهما، و الإحسان إليهما، ثم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 269

[سورة لقمان (31): آية 15]

وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

ألمع السياق إلى بعض أسباب لزوم الاحترام للأم، فقد حَمَلَتْهُ أي حملت الإنسان أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي في حال كون الإنسان الجنين، يوجب لها ضعفا فوق ضعف، فلم تزل تضعف كل يوم أكثر من الضعف في اليوم السابق، حتى تلد، فقد أطلق «وهن» على «الموهن» كأنه قطعة، من قبيل «زيد عدل» وَ فِصالُهُ أي أن مدة فصال الإنسان عن الرضاع، بعد الولادة فِي عامَيْنِ فإن الرضاع الكامل، إنما هو عامان، و يفصل عن اللبن عند تمامها، كما قال سبحانه، (وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) «1» أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ هذا تفسير قوله «و وصينا» مع الزيادة، و هو لفظة «لي» أي كانت وصيّنا للإنسان، أن يشكر لله و لوالديه، و كان الإتيان ب «لي» لإفادة كون شكر الوالدين، في عرض شكره سبحانه إِلَيَّ الْمَصِيرُ فمن تكاسل في الشكر، عوقب بالنكال، كما

أن من عمل بالأمر جوزي بالجنة.

[16] وَ إِنْ جاهَداكَ أي جاهد معك الأبوان، بأن أتعبا أنفسهما مع الولد عَلى أَنْ تُشْرِكَ أيها الإنسان بِي بأن تجعل لي شريكا، فيما كان هما مشركين، و أرادا جرّ الأولاد إلى دينهما و طريقتهما ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي تجعل الصنم الذي ليس علم لك بكون ذلك الصنم شريكا

______________________________

(1) البقرة: 234.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 270

[سورة لقمان (31): آية 16]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

لي، و هذا لأجل أن ما لا يكون، لا يتعلق به علم، و إن تعلق به القطع، فهو جهل مركب فَلا تُطِعْهُما في الإشراك بي وَ لكن صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي أحسن إليهما، و أرفق بهما، في سائر الأمور ما دامت في الدنيا، فإن شركهما لا يسبب قطع الصلة عنهما، و معروفا منصوب لكونه صفة، لمصدر محذوف، أي مصاحبة معروفة، مقابل المصاحبة المنكرة وَ أما في الأمور الدينية، ف اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ أي رجع إليّ بالإطاعة و الامتثال، و إنما سمي الامتثال إنابة، باعتبار أنّ الكفار قد أعرضوا عن الله، فإذا جاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع جماعة منهم، و من أولادهم إلى الله بعد الإعراض منهم، أو من آبائهم ثُمَّ إِلَيَ أي إلى جزائي و حسابي مَرْجِعُكُمْ جميعا الأبوين المشركين، و الأولاد المؤمنين، و المرجع مصدر ميمي، بمعنى الرجوع فَأُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا، لأجازيكم عليه، و الإخبار إنما هو للتذكير، حيث لا يحسب الإنسان الجزاء ظلما أو عبثا.

[17] ثم رجع

السياق إلى كلام لقمان مع أبيه، و قد كان من دأب القرآن الحكيم، أن يأتي بالجمل المعترضة، في أواسط الكلام، مما لها ربط به، لتنشيط الذهن بالتفنن في الكلام يا بُنَيَّ إِنَّها أي فعلة الإنسان المفهوم من قوله «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي كان ثقل النمل في عالم المعنويات، مقدار ثقل حبة خردل من عالم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 271

[سورة لقمان (31): آية 17]

يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

الماديات فَتَكُنْ تلك الخردلة، أو تلك الفعلة فِي صَخْرَةٍ حيث إن الحبة المخفية في صخرة صماء صعب الاطلاع عليها و استخراجها من الصخرة أَوْ فِي السَّماواتِ فإن الحبة إذا أضيفت في السماوات الوسيعة، لا يقدر على العثور عليها أحد لسعة السماوات أَوْ فِي الْأَرْضِ و هل توجد حبة ضاعت في الأرض، فهل يعلم أنها في أي مكان منها؟ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي بتلك الفعلة، و هذا لإيقاظ الإنسان، أن لا يترك خيرا صغيرا بعيدا عن الأنظار بزعم أنه لا يطلع عليه أحد، فلما ذا يعمله؟ أو يفعل شرا صغيرا بعيدا عن الأنظار، بزعم أنه لا يراه أحد، فيجتنب عنه؟ إن العمل مهما كان صغيرا، في أرض كان أو سماء، أو في كهف جبل، أو في أعماق البحار، فإن الله مطلع عليه، و يأتي بحسابه يوم القيامة، أو يأتي بنفسه- إن قيل بتجسيم الأعمال- إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ فيعلم الأشياء اللطيفة الدقيقة خَبِيرٌ عالم بالأشياء، و اللطيف أخص من الخبير، و جي ء به هنا للمناسبة مع كون العمل صغيرا مضاعا في السماوات أو الأرض، أو

مخفيا في جوف صخرة صماء.

[18] يا بُنَيَ هو تصغير «ابن» و قد أضيف إلى ياء المتكلم، و جي ء بالتصغير لطفا و شفقة، لا تحقيرا و إهانة أَقِمِ الصَّلاةَ بآدابها و أركانها وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ و هو كل شي ء حسن عقلا، أو شرعا، و سمي معروفا، لأنهم يعرفونه، و لا ينكرونه وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل قبيح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 272

[سورة لقمان (31): الآيات 18 الى 19]

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

يستقل به عقل أو شرع، و سمي منكرا لأن الناس ينكرونه وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الأذى في سبيل الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، أو كل ما أصابك من مكاره الدنيا، فلا تجزع و لا تخرج عن نطاق الأدب و الشريعة في المكاره إِنَّ ذلِكَ الصبر على ما أصابك، أو كل ما سبق مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ العزم، هو عقد القلب على شي ء، أصله بمعنى القطع، كأن من نوى شيئا، فقد قطع هذا الطرف من الأمر ليسير عليه، و من يتصف، بأنه يتمكن أن يقطع الأمور، و يبنى على الطرف منها، فقد اتصف بصفة كبري، حيث لم يعط للشك مجالا لتهديم استقامته، و صبره و صموده فيما يريد.

[19] وَ لا تُصَعِّرْ من «صعر» بمعنى أمال خَدَّكَ أي صفحة وجهك لِلنَّاسِ بأن تتكبّر عليهم، فتعرض عنهم بوجهك حين يطلبون منك حاجة، أو يواجهونك بكلام وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي مشيا مرحا، و هو مشي الكبر و الخيلاء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ

كُلَّ مُخْتالٍ من اختال بمعنى تكبر فَخُورٍ يفخر على الناس، و معنى لا يحب يكره، لما سبق من التلازم بين عدم حب الله لشي ء، و كراهته له، و لعل التعبير ب «لا يحب» لإفادة أن مجرد عدم محبة الله، كاف في ترك الإنسان لشي ء، فكيف إذا كرهه؟.

[20] وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ القصد في كل شي ء هو حد الوسط فيه بدون إفراط أو تفريط، أي ليكن مشيا متوسطا، لا بسرعة تذهب بالبهاء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 273

[سورة لقمان (31): آية 20]

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)

و لا ببطء من الخيلاء، أو المراد من المشي الأعم من الحركة، يقال فلان حسن المشي، فيما كانت سيرته حسنة، فيكون المراد بالآية، القصد في كل شي ء من إنفاق، و مأكل، و سيرة، و عشرة، و غيرها وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي اخفض بعض صوتك، بأن لا تظهر كل الصوت عند التكلم، بل تنقّص بعضه، فإن الأدب في التكلم، أن يتكلم الإنسان كلاما هادئا، بدون جهر شديد، و صياح، ثم استدل لقمان لقبح الصوت الرفيع، بقوله إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ حين ينهق، فإن صوته يزعج السامع، و ليس ذلك إلا لأجل رفعه، و الجهر الشديد به، فإذا أزعج الإنسان صوت الحمار، فليتأدب عند إخراج صوت نفسه، كما روي إنه قيل لأحد الحكماء: ممن تعلمت الأدب؟ قال:

ممن لا أدب له، حيث رأيت قبح عمله، فتركته.

[21] ثم انتقل السياق للحوار مع المنكرين لله، و الجاعلين له شريكا، الذين من

أجلهم سيق قصة لقمان أَ لَمْ تَرَوْا أيها المنكرون له، أو المعترفون به الجاعلون معه شريكا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم، فإنها تسير لمصالحكم، و منافعكم، و كذلك الهواء و الحساب و غيرها وَ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوان، و النبات، و المياه، و المعادن، و غيرها فقد جعلها تحت اختياركم، و لمنافعكم وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ أي أوسع عليكم نِعَمَهُ جمع نعمة كالغنى، و الصحة، و الأمن، و غيرها ظاهِرَةً وَ باطِنَةً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 274

[سورة لقمان (31): آية 21]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)

فالظاهرة كالخلق و الحياة، و ما ينتفع منها الإنسان، في حياته و عيشه، و الباطنة، ما وهب الله للإنسان من الإدراك، و العقل، الذي به يسيّر حياته حسب المصلحة و الخير، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ و من النعم الباطنة، الرسل، و الأئمة و الإسلام، و من الناس من ينسب كل هذه النعم إلى الصدفة أو الطبيعة، فلنسأل: هل لهاتين من عقل و تدبير؟ فإن قال: نعم، قلنا: ما تسميه الصدفة و الطبيعة مما له إدراك و تدبير، و تقدير، و علم، و حكمة- إلى غيرها مما يستلزمها هذه المخلوقات- هو ما نسميه نحن «الله» إذن فالنزاع في اللفظ، و إن قال: لا، قلنا من ذلك يلزم، ما لا عقل له عقل، فكيف لا يقدر جميع الأقوياء من الأطباء أن يصنعوا عينا لأعمى، أو عقلا لمجنون، و الطبيعة الجاهلة العاجزة، تصنع ملايين العيون و العقول؟ وَ بعد هذه الأدلة القاطعة مِنَ

النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في أصل وجوده سبحانه، أو وحدته، بأن يعطل الكون عن الإله، أو يجعل له شريكا بِغَيْرِ عِلْمٍ فلا علم له قطعي بما يقول، و إنما هو ظن و تقليد وَ لا هُدىً أدلة قطعية عقلية وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أي كتاب واضح، ظاهر يوجب تنوير الفكر بالبراهين، و الحجج، و الحاصل إنه لا دليل عقلي لهم، و لا دليل نقلي، و لا لهم علم، بما يقولون، و إنما ظنون و أهواء و تقاليد.

[22] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فهذا كتاب منير عوض العلم، و الدليل العقلي، الذين يفقدونهما في باب المبدأ و المعاد قالُوا في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 275

[سورة لقمان (31): آية 22]

وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

جواب ذلك بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فإنا نقلدهم، فيما كانوا يقولون من أمر المبدأ و الإله، و المعاد، و سائر هذه الشؤون الأصولية أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ بسبب هذا التقليد إِلى عَذابِ السَّعِيرِ الهمزة للاستفهام، و الواو للعطف، و الاستفهام إنكاري، أي إنهم يقلدون آباءهم، حتى إذا كان التقليد من دعوة الشيطان الموجبة، لأن يدخل الإنسان النار في خاتمة المطاف، و السعير اسم من أسامي جهنم، سميت به لاستعارها و اشتعالها.

[23] هذا حال الكفار المجادلون المقلدون لآبائهم، أما وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن يخضع له، و نسبة التسليم إلى الوجه، باعتبار أن الإنسان الخاضع نفسه، يظهر آثار الخضوع على وجهه وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله، بأن كانت عقيدته، و عمله صحيحتين فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي تمسك و أخذ

بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فقد شبهت الحياة، بمحل مهول لا ينجو منه، إلا من تمسك بشي ء، كالعروة، فمن الناس من يتمسك بعروة واهية تنقطع، و تنفصل، و منهم من تمسك بعروة وثقى- مؤنث أوثق- التي لا تنفصم، حتى ينجو الإنسان عن الأهوال وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فهو في الحياة مستمسك بأقوى العرى، و مصيره إلى الله، الذي عمل لأجله، و حسب أمره في الحياة، و لا بد أن تكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 276

[سورة لقمان (31): الآيات 23 الى 25]

وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25)

عاقبته حسنة، فأواخر الأمور و هي جزاؤها مربوطة بالله، فمن أحسن، جزاه بالخير، و من أساء أخزاه بالشر، فكان كل أمر له ابتداء هو ما يعمله الإنسان، و انتهاء هو جزاءه الذي يحصّله من جزاء عمله.

[24] و إذ تبين الحق، فلا يحزن الإنسان لمن عاند، حتى وصل إلى العذاب وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ يا رسول الله كُفْرُهُ فإن الإنسان لا يحزن للمعاند إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي إلى جزائنا رجوعهم، و هناك فَنُنَبِّئُهُمْ أي نخبرهم بِما عَمِلُوا من الكفر و العصيان، و معنى الإخبار، بيان ما عملوا، حتى يعرفوا، أنهم استحقوا العذاب، الذي يراد بهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما يجول فيها من الكفر و العصيان، فلا يفوته شي ء، و يكون إخباره إخبار عالم، و جزائه جزاء عادل، لا ينقص من عذابهم شيئا، و لا يزيد فيه شيئا.

[25] و إنما نمهلهم في

الدنيا للاختبار و الامتحان نُمَتِّعُهُمْ أي نعطيهم من متع الحياة الدنيا قَلِيلًا فإن أيام الدنيا قليلة، و إن طالت عشرات السنوات، بالنسبة إلى الآخرة الباقية، التي لا فناء لها ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ أي ندخلهم في الآخرة بكره منهم و اضطرار، و اضطر فعل متعد، و لذا يأخذ المفعول بلا واسطة، أصله «اضتر» من باب الافتعال، قلبت التاء «طاء» على القاعدة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي شديد، يغلظ عليهم و يصعب.

[26] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت هؤلاء المشركين الذين يشركون بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 277

[سورة لقمان (31): الآيات 26 الى 27]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

الأصنام مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل الله خلقها، أم الأصنام، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقها، إذ لا يتجرأ أحدهم، أن ينسب هذا الخلق العظيم، إلى أصنام من الطين و الحجارة، أو سائر المعادن و الأشجار قُلِ يا رسول الله، إذا قالوا ذلك، و تمت عليهم الحجة، في أصنام هي باطلة الْحَمْدُ لِلَّهِ إذ اعترفوا بوحدة الخالق، و أقروا بما يلزم بطلان آلهتهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن اعترافهم بوحدة الخالق، موجب لوحدة الإله، إذ لو لم يكن لأصنامهم شراكة في الخلق، فما ذا أوجب أن تكون آلهة؟

[27] و إذن فباعتراف الطرفين لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المتفرد بالخلق و الملك، إذ الخالق هو المالك إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عما سواه من الشركاء، إذ له كل شي ء إلى من ليس له شي ء؟ الْحَمِيدُ المستحق للحمد، وحده بدون شريك،

إذ من يعطي كل شي ء، هو المستحق للحمد دون من لا يعطي.

[28] و لا يظن ظان، أن ما في السماوات و الأرض، أمور معدودة تحيط بها الكتابة و التسجيل، ليستدل بذلك على محدودية خلق الله، إن ما خلقه الله سبحانه، لا يحيط به كتاب، و إن كانت الأشجار أقلاما، و البحار و أصفافها مدادا، و هذا هو الإله الحق، أما الأصنام، فمن المضحك أن يتفوه الإنسان، بأنها في عداد الإله؟ وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 278

[سورة لقمان (31): آية 28]

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

على كثرتها المدهشة أَقْلامٌ للكتابة، و البحار كلها مداد و حبر- لا هذه البحار فحسب- بل وَ الْبَحْرُ و المراد به الجنس يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي سواه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أخرى، و الإتيان بلفظ السبعة، لا للخصوصية، بل هذا العدد، كان كناية عن الكثرة، نحو «السبعين» كما قال (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) «1» ثم أخذ الكتّاب، يكتبون بتلك الأقلام، و ذلك المداد الهائلين- كثرة- نعم الله سبحانه و مخلوقاته ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي لم تخلص بحيث تحيط بها الكتابة، و الكلمة تطلق على المخلوق، باعتبار، أنه يخرج، بالإرادة الأزلية من العدم إلى الوجود، كما يخرج اللفظ من الفم إلى الخارج، فإن الله سبحانه، حيث كان لا يتناهى، كانت مخلوقاته الطويلة أيضا، لا تتناهى، فلا يحيط ما يتناهى بما لا يتناهى، و هذا لا يدل على أن الكلمات المخلوقة فعلا، لا تتناهى، حتى يقال: قد دلت الأدلة على استحالة ما لا يتناهى في عالم الماديات؟ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره، يفعل ما يشاء حَكِيمٌ فكل

ما يخلق، إنما هو حسب الحكمة و المصلحة.

[29] و لا يظن ظان أن هذه الخلقة المدهشة، توجب تعبا على الخالق، فإن الله يخلق ملايين العوالم بالإرادة، و لا فرق لديه بين خلق شي ء واحد و ملايين العوالم ما خَلْقُكُمْ أيها البشر

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 279

[سورة لقمان (31): آية 29]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)

وَ لا بَعْثُكُمْ بعد الموت إِلَّا كخلق و بعث نفس واحِدَةٍ فالأمران: خلق الواحد، أو الجميع، و بعثه، عنده سبحانه سيّان إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم بَصِيرٌ بنياتكم، فقد كانت قريش تقول: إن الله خلقنا أطوارا نطفة فعلقة فمضغة، فلحما، فكيف يعيدنا جميعا، في ساعة واحدة؟ و كانت هذه الآية تدمغهم.

[30] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو كل من منه الرؤية، قدرة الله العظيمة، فكيف يقول أناس: إنه لا يقدر على البعث، أو ينكرون وجوده؟ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ بأن ينقص من النهار، ليزيد على الليل، أو يدخل ليلة كل يوم نهارها، حتى إن غابت الشمس، توجه جند الليل من ناحية المشرق، ليغزوا النهار المنتشر في السماء، و الإيلاج هو الإدخال وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ على أحد المعنيين السابقين وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذللهما حتى أنهما يسيران طوع أمره و إرادته كُلٌّ يَجْرِي في فلكه بصورة مستمرة دائمة لينتهي إِلى أَجَلٍ و مدة مُسَمًّى قد سمي ذلك عنده سبحانه، فليس سيرهما اعتباطا، بلا تحديد و تقدير وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ و قد أدرج هذا الأمر المعنوي إلى

ذينك الأمرين الحسيين لإفادة من يخلق و يتصرف بما تقدم، لا بد و أن يعلم أعمال الخلائق، و لذا صح عطفه على قوله «أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 280

[سورة لقمان (31): الآيات 30 الى 31]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

الله يولج» و على هذا، فالمراد بالرؤية المعنى الجامع بين البصر و البصيرة.

[31] ذلِكَ الذي تقدم من التصرف في الليل و النهار، و الشمس و القمر، و العلم بأعمال العباد، إنما كان من شأن الله بسبب أن اللَّهَ هُوَ الإله الْحَقُ و الإله الحق يتأتى منه كل ذلك وَ لازم كون الله حقا أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام الْباطِلُ فليست تلك بآلهة وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ الرفيع الْكَبِيرُ العظيم، و إن التصرفات الكونية، و العلم الشامل، إنما هي من شأن الإله العلي الكبير، فهل يتمكن أحد، أن ينسب إلى الأصنام هذه الصفات، أو تلك الأمور التكوينية؟

[32] ثم ينتقل السياق إلى إلفات هؤلاء نحو خارقة كونية أخرى، لا محيص لهم عن الاعتراف، بأنها لله، لا لأصنامهم أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو لكل من يتأتى منه الرؤية أَنَّ الْفُلْكَ أي السفينة تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ فقد أنعم على البشر بإجراء السفينة في البحار لنقلهم من هنا إلى هناك، و تسهيل تجارتهم بسببها، و لِيُرِيَكُمْ الله في هذا المسير مِنْ آياتِهِ أي بعض آياته الدالة على عظم قدره، و جلالة شأنه، فإن في البحار عجائب صنع الله

سبحانه، مما يراها من ركب البحر، و قوله «ليريكم» بيان لإحدى علل إجراء السفينة في البحر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 281

[سورة لقمان (31): آية 32]

وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

فإن إجراءها للسفر و التجارة، و رؤية الآيات إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء في البحر لَآياتٍ دالة على الله و صفاته لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر عند البلاء شَكُورٍ يشكر عند الرخاء، و كان الإتيان بهاتين الصفتين هنا، لما يطرأ على الإنسان، من هاتين الحالتين، عند ركوب البحر من الأهوال المحتاجة إلى الصبر، و الإنجاء المحتاج إلى الشكر، فإن الصابر الشاكر- و هو المعترف بالله- هو الذي يدرك الآيات، أما الجاهل المضطرب النفس، فلا يدرك الآيات، و لا يعيرها أهمية.

[33] وَ إِذا ركب الناس السفينة و غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فإن الموج أحيانا يركب على السفينة، كالظلة التي تلقى عليها، فيدخل فيها قسم من ماء الموج، و إنما جاء بالجمع في قوله «كالظلل» و هو جمع ظلة، لأن للموج طبقات، تعلو طبقة على طبقة دَعَوُا اللَّهَ أي الركاب، في حال خوفهم من الموج أن يغرق السفينة بمن فيها، في حال كونهم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي قد أخلصوا له الطريقة، بأن صار توجههم إليه وحده، و انصرف المشركون من الراكبين عن آلهتهم فَلَمَّا ذهب الموج، و أمنوا الخطر، و نَجَّاهُمْ الله إِلَى الْبَرِّ بأن خرجوا من السفينة بسلام فَمِنْهُمْ أي بعض أولئك الراكبين مُقْتَصِدٌ، أخذ طريق القصد و العدل، فيبقى على إيمانه بالله وَ منهم راجع إلى كفره و شركه، و ما يَجْحَدُ بِآياتِنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، و

من تلك الآيات الإنجاء، من أهوال البحر إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 282

[سورة لقمان (31): آية 33]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

من ختر، بمعنى غدر بالعهد كَفُورٍ لله سبحانه، في المجمع: قيل إن هذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل، و هو إخلاصهم الدعاء في البحر، فقد روي السدّي عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله، الناس، إلا أربعة نفر، قال: اقتلوهم، و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة بن أبي جهل، و عبد الله بن أخطل، و قيس بن صبابة، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأما عكرمة، فركب البحر، فأصابته ريح عاصفة، فقال أهل السفينة أخلصوا، فإن آلهتكم، لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر، إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره؟ اللهم إن لك علي عهدا، إن أنت عافيتني مما أنا فيه، أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما، فجاء فأسلم «1» ... و قد قبل النبي إسلامه، و من طريف الأمر إن الإنسان كلما وقع في مشكلة، لا بد و أن يعرف ما ينجيه، و ما لا ينجيه، ثم إذا ارتفعت المشكلة، رجع إلى تقاليده البالية، و ما يفرضه العرف و الاجتماع عليه.

[34] و إذا أتم الاحتجاج مع الناس حول الألوهية و المعاد، جاء السياق لتخويفهم عاقبة أمرهم، بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي خافوا عقابه وَ اخْشَوْا

يَوْماً هو يوم القيامة لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يغني أحد أحدا، حتى أن الأب الرؤوف بأولاده لا يتمكن من

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 95.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 283

[سورة لقمان (31): آية 34]

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

خلاصهم وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً و الابن لا يغني عن أباه، حتى الشي ء القليل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الجزاء حَقٌ آت لا ريب فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تصرفكم زهرتها عن الإيمان حتى تذوقوا العذاب يوم القيامة وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي لا يجرأنكم على عصيان الله، الشيطان الْغَرُورُ الذي يغر كثيرا.

[35] إِنَّ اللَّهَ هو العالم القادر، هو عالم بما تعملون، و قادر على البعث و الجزاء، ألا ترون إلى آثار علمه و قدرته عندكم، فإنه سبحانه عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ بمعنى، في أي وقت تقوم القيامة وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر الدال على كمال قدرته وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أرحام النساء، من ذكر و أنثى، صحيح أو سقيم، جميل أو قبيح، و هكذا، و لو لم يعلم ذلك لم يتمكن من صنعه بهذه الدقة المدهشة، أما أنتم أيها البشر، فأسرعوا في التوبة و الرجوع، إلى هذا الإله العالم القادر، و العمل الصالح وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، فلا تسوّفوا التوبة و العمل لغد، فلعلّ ما أردتم فيه، لم تتمكنوا من إنجازه وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فلعله مات

في نفس مكانه، لم يقدر على الجري، ليصلح شأنه، إن سوّف التوبة، و العمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 284

الصالح، فيبادر الإنسان في زمانه، و مكانه إلى الرجوع إليه سبحانه، قبل أن يتحسر و يندم، و لات ساعة مندم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأعمالكم و ضمائركم خَبِيرٌ و لعل الفرق بين الوصفين، إن الثاني أدق من الأول، في إفادة المراد، لدى اجتماعهما، فالخبير، من يعلم كنه الأشياء، و جميع مزاياها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 285

32 سورة السجدة مكيّة/ آياتها (31)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على مادة السجدة، في قوله «خروا سجدا» و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة بشعبها المختلفة، قال في المجمع: ختم الله سبحانه السورة التي قبلها بدلائل الربوبية، و افتتح هذه السورة أيضا بها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله الذي يرحم العباد، نبتدئ السورة، لكي نجعله عنوانا لنا، و شعارا لأمورنا، و نسترحم لطفه، و عنايته، بتذكر اسمه الرحمن الرحيم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 286

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

[2] الم «ألف» و «لام» و «ميم» جنس لحروف هذه السور، التي عجز البشر من الإتيان بمثلها، أو إنها رموز بين الله و الرسول، أو لأن المشركين، كانوا يصيحون حين يبدأ الرسول بالقرآن، ليمنعوا الناس عن سماع صوته و إيقاعه في الغلط، فكانت تنزل المقطعات لتوجب الدهشة فيهم فينصتوا استغرابا و هناك يلقّنوا القرآن، أو غيرها من الأقوال.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر، ل «الم» و اللام في «الكتاب» للعهد، أي

أن «الم» أو هذه الآيات، تنزيل الكتاب الذي وعدتم به من قبل، على لسان الأنبياء، أو لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد وضع المصدر، و هو «تنزيل» موضع المفعول، فهذه الآيات، هو الكتاب المنزل، أو «الم» هو الكتاب المنزل، كما وضع المصدر موضع الفاعل في «زيد عدل» أي عادل لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس الكتاب محل ارتياب، و إن ارتاب فيه المبطلون، كما تقول: لا ريب في أن وقت طلوع الشمس أو الصبح، يعني ليس محل ارتياب، و إن كان هناك «سوفسطائيون» ينكرون ذلك، أو يشكون فيه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و إلا فلو لم يكن من رب العالمين، فلما ذا لا يتمكن البشر من الإتيان كمثله.

[4] أَمْ يَقُولُونَ أي بل يقول هؤلاء الكفار افْتَراهُ أي نسب الرسول القرآن إلى الله كذبا، و ليس الأمر كما يقولون بَلْ هُوَ الْحَقُ المطابق للواقع مِنْ رَبِّكَ أي من طرفه سبحانه، و ليس مفترى على الله تعالى، كما زعموا، و قد أنزله سبحانه لِتُنْذِرَ يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 287

[سورة السجده (32): آية 4]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)

قَوْماً بأنهم إن بقوا على الكفر، و عملوا بالمعاصي، كان مصيرهم إلى النار ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فإن كفار مكة، لم يأتهم رسول ينذرهم قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لكي يهتدوا إلى طريق الله سبحانه.

[5] ثم بين سبحانه «رب العالمين» بقوله أنه هو اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ

الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الحيوان، و الإنسان و النبات، و الهواء، و الملائكة، و غيرها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و قد جرت عادته سبحانه على التدريج في الخلق، كما نشاهد في خلق الإنسان، و النبات، و الحيوان، و على هذا الناموس العام، كان خلق الكون تدريجيا في ستة أيام و السر في هذا العدد الخاص، هو السر، في أي عدد كان، و هو السر في تسعة أشهر للحمل، و المدة الفلانية في النبات، و الحيوان، و هكذا، فهو أحد مصاديق التدريج، و الظاهر، أن المراد مقدار ستة أيام، و إلا فقبل الشمس، لم يكن نهار و ليل ثُمَّ اسْتَوى سبحانه عَلَى الْعَرْشِ أي استولى عليه، و هذا معنى كنائي، كما يقال:

استوى الملك على سرير الملك، يراد أنه، أخذ زمام السلطة بيده، و إن لم يكن هناك سرير، و الإتيان بثم مع أنه سبحانه، كان قائما على كل شي ء، لأنه لم يكن قبل خلق الكون شي ء، حتى يقال: استولى عليه، فتحقق الاستيلاء، إنما هو بتحقق المستولى عليه ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها البشر مِنْ دُونِهِ أي سواه سبحانه مِنْ وَلِيٍ يلي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 288

[سورة السجده (32): آية 5]

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

أموركم، و يقدر و يدبر شؤونكم، فإن الأصنام مخلوقة، لا تملك لنفسها شيئا، فكيف تملك لكم؟ وَ لا شَفِيعٍ في إنجائكم من الهلكات الدنيوية، و الأخروية، فإن الخلق، و الولاية، و الشفاعة، كلها له وحده، فإن أراد إنقاذ أحد أشار هو بشفاعة نبي أو عظيم ليشفع له، كما قال (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى

«1» أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ أيها البشر، ما أودع فيكم من الفطرة الدالة على أن للكون إلها قويا يسيّره، و ليس ذلك لهذه الأصنام، أو ما أشبهها؟

[6] و هو سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي جنس الأمر المرتبط بهذا العالم، فيأتي مِنَ السَّماءِ و إنما جعل سبحانه تدبير أمر الأرض في السماء، حسب حكمته البالغة، كما قال (وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ) «2» و إلا لم يكن له حاجة إلى ذلك، و ليس ذلك، لأنه تعالى أقرب إلى السماء منه إلى الأرض، بل الجميع لدى عظمته سواء، و لا مكان له و لا جسمية، حتى يكون أقرب إلى بعض من بعض إِلَى الْأَرْضِ أي تدبيرا ينتهي إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ أي يصعد الأمر إِلَيْهِ تعالى، و الظاهر، أن التعبير، ب «يعرج» باعتبار ارتفاع مقام الله سبحانه، كما إذا سألت أحدا من أعضاء الحكومة أمرا، يقول: «أراجع فوقي» يريد فوقه في الرتبة، لا في المكان، و معنى صعود الأمر إليه، أن النتائج و الآثار التي ظهرت من الأمر، يكون بنظره سبحانه، أو أن العروج،

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

(2) الذاريات: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 289

[سورة السجده (32): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7)

و النزول، باعتبار، أن تقديرات الأرض تكون في السماء، ثم تصعد الآثار إلى السماء فِي يَوْمٍ أي أن النزول و العروج منسوبان إلى يوم، فإن «في» بمعنى النسبة كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فهما في زمان يسير، لكن المسافة الحقيقة، هي تقطع في ألف سنة، خمسمائة سنة نزولا، و خمسمائة سنة صعودا، أو أن المراد، أن نتائج الأعمال،

إنما ترفع إلى مقام جلال الله سبحانه، في يوم القيامة، الذي يعادل ألف سنة.

[7] ذلِكَ الذي خلق السماوات و الأرض بتلك الأوصاف عالِمُ الْغَيْبِ أي يعلم ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ الأشياء، التي يشاهدها الإنسان بإحدى حواسه الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الرَّحِيمُ الذي يرحم الخلق، و يتفضل عليهم بأنواع النعم.

[8] الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ بأن أتى بأحسن المزايا و الخصوصيات، التي يمكن أن يكون الخلق عليها، على نحو يقتضي الحكمة و الصلاح، فحتى الإنسان الأعمى أحسن الله في خلقه غاية الإحسان، فإن العمى، و إن كان نقصا في ذاته، إلا أنه جعله عبرة و عظة، و ما أعدّ له من الثواب، إن صبر و عمل صالحا، يردفه في جملة ما حسّن خلقه وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ فإن آدم خلق من الطين، الذي هو تراب مخلوط بالماء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 290

[سورة السجده (32): الآيات 8 الى 10]

ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)

[9] ثُمَّ جَعَلَ الله سبحانه نَسْلَهُ أي ولده و ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي صفوة، قد سلّت من غيرها، و يسمى ماء الرجل سلالة، لانسلاله من صلبه مِنْ ماءٍ مَهِينٍ أي حقير، من هان، بمعنى حقر، و المراد به «المني» فإنه حقير مهان لرائحته و قذارته.

[10] ثُمَّ سَوَّاهُ أي جعله بشرا سويا، بإعطائه الآلات و الحواس و الأعضاء وَ نَفَخَ فِيهِ أي في ذلك الماء الذي سواه مِنْ رُوحِهِ أي

الروح الذي خلقه، و الإضافة تشريفية، كإضافة البيت إلى الله سبحانه في قولنا «بيت الله» للكعبة و المسجد، و حيث أن الروح جوهر لطيف عبر بالنفخ، كما ينفخ الهواء في الزق وَ جَعَلَ الله لَكُمُ أيها البشر السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد، و هو القلب، و تخصيص هذه الأعضاء بالذكر، لما يشاهد لها من الفوائد الجمة، كما أن الإتيان بالسمع مفردا مرادا به الجنس، بخلاف الأبصار و الأفئدة، جمعا للتفنن في الكلام، الذي هو من أبواب البلاغة قَلِيلًا ما «ما» زائدة لتأكيد «قليلا» تَشْكُرُونَ نعم الله سبحانه.

[11] و بعد ذكر المبدأ، أتى السياق، لذكر المعاد وَ قالُوا أي من أنكروا البعث أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ بأن صرنا ترابا، و تفرقت أجزاؤنا، بحيث لا يقدر على تميزها من غيرها، من أراد التمييز أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 291

[سورة السجده (32): الآيات 11 الى 12]

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)

بأن نرجع إلى الحياة؟ إن هذا لا يمكن أبدا، فإن تمييز أجزائنا عن غيرها، لا يمكن، فكيف بجمعها و صنعها إنسانا من جديد بَلْ هُمْ أي هؤلاء الكفار بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي لقاء جزائه و حسابه كافِرُونَ و إلا فلم يدل دليل على امتناع ذلك، و المعنى أن قولهم هذا ناشئ من كفرهم، لا عن دليل دلّهم على استحالة الإعادة.

[12] قُلْ يا رسول الله لهم يَتَوَفَّاكُمْ أي يميتكم مَلَكُ الْمَوْتِ أي الملك الموكل بإماتة الناس، و هو عزرائيل عليه السّلام الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ وكله الله سبحانه،

لوفاتكم، فالوفاة هكذا، و ليست اعتباطا، كما يزعم الجاهلون، فإنهم حيث لا يرون أحدا يظنون أن الأسباب الظاهرة، هي العلة التامة للوفاة ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ إلى حسابه و جزائه رجوعكم.

[13] و هناك يأتي المجرمون نادمين على ما فرطوا في دار الدنيا من الكفر و العصيان وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه الرؤية، و جواب «لو» محذوف، و التقدير «لرأيت أمرا فظيعا» إِذِ الْمُجْرِمُونَ الذين أذنبوا ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ قد طأطؤوها حياء، و ندما، و ذلا عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موقف الحساب، و هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و عند ذلك يقولون: يا رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا نعمى عنه، في دار الدنيا وَ سَمِعْنا ما كنا نصم عنه في الحياة فَارْجِعْنا إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 292

[سورة السجده (32): الآيات 13 الى 14]

وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً كما تأمر إِنَّا مُوقِنُونَ قد تيقنا صدق كلامك و وعدك، و لكن هل يرجعون؟ كلا! و هل يصدقون في أنهم لو رجعوا عملوا صالحا؟ كلا! إنها كلمة هو قائلها.

[14] وَ لَوْ شِئْنا أن نجبر الناس على الهداية لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي أعطيناهم الهداية بالجبر، بأن نلجأهم إلى الإيمان، و العمل الصالح، و لكن ذلك يبطل التكليف، كما يبطل الثواب و العقاب، و يكون الناس حينئذ، كالحجارة، التي لا مدح لها و لا ذم، فإنما تفعل، ما تفعل بالطبع و القسوة لا بالاختيار و الرغبة وَ لكِنْ لأن

شاء ذلك، و قد حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت و لزم ما قلته سابقا، من إعطاء الاختيار للناس، حتى يذهب بعض إلى الجنة، ممن أطاع و آمن، و لَأَمْلَأَنَ من ملأ بمعنى الإكثار من المظروف حتى يمتلئ الظرف، و لا يكون له بعد مجال لأخذ الزائد جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ أي الجن وَ النَّاسِ الكفار و العصاة أَجْمَعِينَ و إنما ذكر هذا الشق، من شقي الناس و الجان، لأنه محل الكلام، فإن الحديث بالنسبة إلى المجرمين.

[15] و إذ يدخل النار الكفار، من الصنفين يخاطبون من قبل الله سبحانه فَذُوقُوا العذاب، و المذوق هو الإدراك بحاسة اللسان، أو حاسة اللمس، أو مطلق الحواس بِما نَسِيتُمْ أي بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 293

[سورة السجده (32): آية 15]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)

و التعبير بالنسيان، باعتبار جعل الإنذار مهملا غير معتنى به، كالناسي للشي ء، و المراد باليوم القيامة إِنَّا نَسِيناكُمْ أي أهملناكم، و لم نعتن بكم، لننقذكم من العذاب، و إنما استعمل النسيان في الإهمال، لعلاقة المشابهة وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الذي هو خالد، لا زوال له بسبب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من أنواع الكفر و العصيان.

[16] لقد رأينا الكفار، و ما صاروا إليه من العذاب الدائم، فلنعطف النظر إلى المؤمنين و مصيرهم الكريم، فمن هو المؤمن، و ما مصيره؟ إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا يصدق بها، و يتفكّر فيها، ليستدل بها على الصانع و صفاته الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها بأن ذكرهم الرسول، أو بعض المؤمنين بتلك الآيات، بأن أروهم الآيات الكونية، أو الآيات القرآنية، ثارت فيهم غريزة الإيمان ف خَرُّوا سُجَّداً جمع

ساجد، أي ألقوا بأنفسهم على الأرض، في هيئة الساجد بوضع جباههم على التراب تعظيما لله سبحانه، و شكرا لنعمه وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي نزهوه عن النقائص، بنحو الحمد و الثناء الجميل، فإن التنزيه، قد يؤدى بالنحو السلبي، كأن يقال: «فلان ليس بجبان»، و قد يؤدى بالنحو الإيجابي، كأن يقال: «فلان شجاع» فإنه تنزيه و حمد، و الأول، لا يلازم الثاني، بخلاف الثاني، فإنه حمد و تسبيح وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن التواضع لله، عملا بالسجود، و لسانا بالحمد و الثناء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 294

[سورة السجده (32): الآيات 16 الى 18]

تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)

[17] و من صفاتهم أنهم تَتَجافى من التجافي، و هو الابتعاد، أي تبتعد و ترتفع جُنُوبُهُمْ جمع جنب عَنِ الْمَضاجِعِ جمع مضجع، و هو محل النوم، أي أنهم يقومون بالليل لأداء الصلاة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يناجونه خَوْفاً أي لأجل الخوف من عذابه وَ طَمَعاً في ثوابه وَ هم مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله، و «مما رزقنا» عام يشمل العلم، و المال، و الجاه، و غيرها. و هاتان الآيتان، مشتملتان على السجدة الواجبة، فإذا تلاهما الإنسان، أو سمعها، وجب أن يسجد.

[18] إن المؤمنين هم أولئك الذين ذكرت أوصافهم، فلننظر إلى مصيرهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مؤمنة بالله، عاملة للصالحات ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي ما خبأ الله لهم من النعيم، الذي يسبب قرة أعينهم، الموجب لاستقرار العين، رضا و طمأنينة، في مقابل الإنسان الخائف الذي

تتحرك عينه هنا و هناك، ليجد ملجأ و ملاذا، و

قد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال إن الله يقول أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و إنما أخفي للمؤمنين هذا النعيم العظيم

جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإيمان بالأصول، و الصالحات فإن الإيمان أيضا عمل، أو على تغليب العمل على العقيدة، لأنه أكثر منها عددا.

[19] ثم بين سبحانه، إن التفاوت في الجزاء، إنما هو للتفاوت بين الأعمال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 295

[سورة السجده (32): الآيات 19 الى 20]

أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ و هذا استفهام للتقرير، أي ليس المؤمن كالفاسق، و المراد به أعم من الفسق في العقيدة، أو في العمل لا يَسْتَوُونَ أي لا يعادل أحدهما مع الآخر، و لذا اختلف جزاءهما.

[20] أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله و برسوله، و بما جاء به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي هي الإتيان بالفرائض، و اجتناب الرذائل فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى «و مأوى» اسم مكان من آوى، بمعنى اتخذ المنزل، و المسكن، و المراد الجنات، التي هي مسكن للمؤمنين نُزُلًا هو ما يعد للضيف، أو ينزلهم الله فيها نزلا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم، التي عملوها في دار الدنيا.

[21] وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن طاعة الله، إما بالكفر أو العصيان فَمَأْواهُمُ أي مصيرهم، الذي يأوون إليه النَّارُ

في جهنم كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي كلما هموا بالخروج من شدة العذاب و ألم النار أُعِيدُوا أي ردتهم الملائكة الموكلة بهم فِيها فلا مخلص لهم من العذاب وَ قِيلَ لَهُمْ إهانة و ازدراء بهم ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فقد كانوا يكذبون بالنار تكذيبا عقيديا كالكفار،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 296

[سورة السجده (32): الآيات 21 الى 23]

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23)

أو عمليا كالفساق.

[22] وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ أي الفساق مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى

و هو ضنك العيش في الدنيا، و عذاب القبر، و من مصاديق العذاب الأدنى، ما يلاقيه المجرمون زمن ظهور الإمام الثاني عشر، كما ورد في الحديث

«1» دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي قبل أن نذيقهم من العذاب الأكبر في الآخرة، و هي جهنم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن كفرهم و عصيانهم، فإن الإنسان، إذا رأى الأذى، و العذاب جاش في نفسه حب الخير، و العمل الصالح.

[23] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي أيّ شخص أكثر ظلما مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ذكره الأنبياء و الأوصياء و المرشدون ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها و لم يقبلها؟

و المعنى لا أحد أظلم من هذا الشخص- و ذلك إضافي، كما مر غير مرة- و لا يظن مثل هذا الشخص، إنه لا يرى وبال إعراضه، ف إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان مُنْتَقِمُونَ بإحلال العقاب بهم.

[24] ثم يأتي السياق ليسلّي الرسول فيما يتحمله من الأذى، و يسلي المؤمنين بأن

لهم العاقبة المحمودة، فإن حال الرسول حال موسى-

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 8 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 297

[سورة السجده (32): آية 24]

وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)

فإنهما يتلاقيان في الأصول و الفروع، إلا في اختلافات، لا ترجع إلى جوهر الدين- و حال المؤمنين بالرسول، حال بني إسرائيل، فكما نصرنا موسى عليه السّلام و بني إسرائيل على أعدائهم، ننصر الرسول و المؤمنين به على أعدائهم وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة، و هذا كناية عن إرساله إلى القوم لهدايتهم فَلا تَكُنْ يا رسول الله فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْ لِقائِهِ أي من الالتقاء بموسى في العقيدة و الشريعة. و هذا كما يقال يتلاقى فلان و فلان في العقيدة، و هذه الجملة كناية عن أول طريق الرسول طريق موسى، فمصيره كمصيره، في النصرة و الغلبة على الأعداء وَ جَعَلْناهُ أي الكتاب هُدىً أي هداية و إرشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ فإنهم اهتدوا بالتوراة عن الضلالة و الانحراف.

[25] وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل أَئِمَّةً جمع إمام، و هو المقدم في الدين يَهْدُونَ بِأَمْرِنا و إذننا لهم في الهداية، فإنه لا يحق لأحد أن ينصب نفسه علما للهداية، إلّا بإذن لَمَّا صَبَرُوا أي أن جعلهم أئمة، بسبب صبرهم على المكاره و أذى الجهال، و صمودهم في تطبيق أوامرنا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لا يشكون فيها، اللازم لو أن يعملوا على طبقها، فإن صاحب اليقين يعمل صالحا، و يترك السيئ، و هذا تعريض بالمؤمنين بالرسول، بأنهم إن صبروا و جعلناهم أئمة، كما تقول لأحد ولدك: لقد أمرت ابني فلانا بكذا، و أنت في نفس طريقه،

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 4، ص: 298

[سورة السجده (32): الآيات 25 الى 26]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26)

و أعطيته المال و جعلت جماعة يتبعونه، تريد التعريض بهذا الولد المخاطب، بأن عاقبته كعاقبة ذلك الابن الأول.

[26] و حيث ينتهي الكلام إلى هنا يختلج في ذهن السامع، أن يسأل، فما بال هؤلاء اليهود الذين نراهم ليسوا كذلك؟ و يأتي الجواب، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي بين بني إسرائيل الصالحين منهم، و الطالحين يَوْمَ الْقِيامَةِ فصلا يؤدي إلى إعطاء كلّ ما يستحق من النعيم أو الجحيم فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فإن بعضهم غيّروا شريعة موسى، و لعبت أهواؤهم بها، و بعضهم بقوا على الشريعة، بلا تغيير أو تحوير.

[27] ثم يرجع السياق إلى قصة الكفار أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ استفهام إنكاري، أي كيف لم يبصرهم كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ و الأجيال، التي كانت تكذب بآيات الله، و تعصي أحكام الله يَمْشُونَ أي هؤلاء الكفار فِي مَساكِنِهِمْ أي في مساكن أولئك، فإنهم في رحلتهم الشتائية، إلى اليمن، و الصيفية إلى الشام، كانوا يمرون بمساكن عاد و ثمود، و قوم لوط، و غيرهم إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لأولئك الكفار لَآياتٍ دلالات دالة على وجود الله، و علمه و قدرته، و انتقامه من الظالمين أَ فَلا يَسْمَعُونَ أي ألا يسمع هؤلاء الكفار تلك الآيات سماعا يؤدي إلى رجوعهم، عن غيّهم إلى الحق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 299

[سورة السجده (32): الآيات 27 الى 29]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ

الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)

[28] و كيف يكفر هؤلاء الكفار بالله، مع أنهم يرون آياته، و آثاره؟ و حيث هددهم في الآية السابقة بالعذاب، ذكر لهم نعم الله عليهم، لعلهم يشكرونه، فالعذاب و الرحمة، كلاهما ماثلان أمام أعينهم، ليؤمنوا رهبة أو رغبة أَ وَ لَمْ يَرَوْا استفهام إنكاري، أي كيف لا يرون هذه النعمة، ليؤدوا شكرها؟ أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بواسطة المطر أو الأنهار إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ و هي الأرض اليابسة، التي ليس فيها نبات، من قولهم سيف جراز، أي قطاع لا يبقي شيئا إلا قطعة، فالأرض قد جرز نباتها، أي قطع و أزيل، فلا نبات لها فَنُخْرِجُ بِهِ أي بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ مما يعود بالخير إليهم أَ فَلا يُبْصِرُونَ نعم الله عليهم؟ ليشكرون.

[29] وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار مَتى هذَا الْفَتْحُ الذي تقول يا محمد، أنت تفتح البلاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أيها المسلمون في ادعائكم، إنكم ستفتحون البلاد؟ ففي أي وقت يكون؟ و لماذا لم يتحقق إلى الآن؟.

[30] قُلْ يا رسول الله لهم يَوْمَ الْفَتْحِ الذي نفتح فيه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ بعد الفتح، و وقوعهم أسرى في أيدي المسلمين، فإن ذلك لا يفك أسرهم، أو المراد بالفتح، يوم مدتهم، حيث يقولون للملائكة، أمهلونا، حتى نؤمن، فلا يمهلونهم، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 349

[سورة السجده (32): آية 30]

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

(وَ لَيْسَتِ

التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1» وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون.

[31] فَأَعْرِضْ يا رسول الله عَنْهُمْ اتركهم و شأنهم بعد ما لم يؤثر النصح، و التهديد، و الترغيب فيهم وَ انْتَظِرْ موعد الفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ و هذا تسلية للرسول و وعيد لهم، و المراد ينتظر الفريقان، حتى يرون الجميع لمن العاقبة الحسنة؟ و لمن العاقبة السيئة؟ و قد كان كما أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد انتصر المسلمون، و فتح الله لهم.

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 301

33 سورة الأحزاب مدنيّة/ آياتها (74)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على لفظة «الأحزاب» و طرفا من قصتهم، و هي كسائر السور المدنية، تشتمل على الأحكام و النظام، و الحرب، و غيرها، و إذا ختمت تلك السورة، بانتظار الرسول يوم الفتح، جاءت السورة مفتتحة لسير النبي في طريقه المرسوم له، بلا أن يحرفه الكفار و المنافقين، حتى يصل العاقبة المحمودة؟

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي إن ابتدأ به شي ء باركه و أتمه، كما ورد كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله، فهو أبتر- المفهوم منه، إنه إن بدأ بالبسملة كان غير أبتر- و هو الرحمن الرحيم، المتصف بالرحمة المتزائدة، فإن تكثير الوصف يوجب تكثير الصفة، كيف لا، و لو لم تدرك الرحمة الإنسان (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) «1»

______________________________

(1) فاطر: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 302

[سورة الأحزاب (33): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1)

[2] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ بإطاعة أوامره، و اجتناب نواهيه، و

الرسول، إنما كان مؤدبا بتعليم الله، الذي منه هذا الأمر، فلا يقال إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان متقيا، فكان الأمر لغوا؟ و بالإضافة إلى أن معنى ذلك أدم على تقواك نحو اهدنا الصراط المستقيم وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ و المنافق هو الذي يظهر الإيمان، و يبطن الكفر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالحكم و المصالح حَكِيماً فلا يأمر إلا بالصالح، و لا ينهى إلا عن الضار، فإن بين العلم و الحكمة عموما وجه، كما هو واضح، فمن الممكن أن يكون العالم غير حكيم، أو الحكيم غير عالم،

قال في مجمع البيان

إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، و عكرمة بن أبي جهل، و أبي الأعور السلمي، قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكلموه، فقاموا، و قام معهم عبد الله ابن أبيّ، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح، و طعمة بن أبيرق، فدخلوا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا يا محمد، أرفض ذكر آلهتنا، اللات، و العزى، و منات، و قل أن لها شفاعة لمن عبدها، و ندعك و ربك، فشق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان، و أصر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخرجوا من المدينة، و نزلت الآية، «وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ» من أهل مكة، أبا سفيان، و أبا الأعور، و عكرمة، و المنافقين، ابن أبيّ، و ابن سعد، و طعمة

«1»، و قيل: نزلت في

أناس من ثقيف، قدموا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فطلبوا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 303

[سورة الأحزاب (33): الآيات 2 الى 4]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

منه أن يمتعهم باللات، و العزى سنة، قالوا لتعلم قريش منزلتنا منك.

[3] وَ اتَّبِعْ يا رسول الله ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من الأحكام و الشرائع إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ أي أنت و أمتك، و يأتي خطاب الرجل العظيم بالجمع، باعتبار أتباعه معه خَبِيراً فيعلم من اتبع أمره ليجازيه عليه.

[4] وَ تَوَكَّلْ يا رسول الله عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه، حتى لا يتمكن الأعداء من الوصول إليك، و لا تخاف أحدا، و لا ترجو أحدا وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فإنه قائم بأمرك و حفظك، و حيث إن معنى «كفى» «اكتف» جاء متعديا إلى الفاعل بالباء.

[5] و بمناسبة لزوم اتباع الوحي، و عدم اتباع الكفار، يأتي السياق ليقرر، أنه لا يمكن للإنسان اتجاهان، فليس له قلبان حتى يتجه بكل قلب إلى وجهة مضادة للوجهة الأخرى، و لهذه العلة التي تقرر عدم إمكان اتجاهين يقرر السياق، أن لا يمكن الجمع بين كون امرأة زوجة و أما، أو كون رجل أجنبيا و ولدا، و بهذا يبطل أقوال و عادات جاهلية، قال في المجمع: و قوله: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ

مِنْ قَلْبَيْنِ» نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب النهري، و كان لبيبا حافظا لما يسمع، و كان يقول: إن في جوفي لقلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، و كانت قريش تسميه ذا القلبين، فلما كان يوم بدر، و هزم المشركون، و فيهم أبو معمر، و تلقاه أبو سفيان بن حرث، و هو آخذ بيده إحدى نعليه، و الأخرى في رجله، فقال له يا أبا معمر: ما حال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 304

الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك و الأخرى في رجلك، فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنها في رجلي، فعرفوا يومئذ أنه لم يكن له إلا قلب واحد، لما نسي نعله في يده «1» ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فإن كل إنسان له قلب واحد، و ذكر الرجل من باب المثال، و إلا فالمرأة و الطفل كذلك فلا يمكن أن يكون للإنسان اتجاهان، اتجاه نحو الإيمان، و اتجاه نحو الكفر، فيطيع الكفار و يطيع الله في آن واحد وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي جمع التي، و المراد بالأزواج الزوجات، فإن زوج يطلق على الرجل، و المرأة تُظاهِرُونَ مِنْهُنَ أي تقولون لهن «أنت عليّ كظهر أمي» فقد كانت العرب تطلق نساءها بهذا اللفظ، فلما جاء الإسلام أبطل الطلاق به، و إنما جعله موجبا للكفارة كما سيأتي تفصيله، و كأنهم كانوا يقصدون أن الزوجة صارت كالأم، فكما تحرم الأم تحرم الزوجة، التي قيل لها هذا اللفظ أُمَّهاتِكُمْ فالزوجة لا تكون أما، و إن قيل لها ألف لفظ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ جمع دعي، و هو ما كان مرسوما عند العرب، أن

يتخذ الرجل الرجل ابنا له فكان له ما للأب و الابن في جميع المزايا الاجتماعية أَبْناءَكُمْ فإن التبني لا يجعل الأجنبي ابنا، و إن تعارف الاجتماع على ذلك، و قد أبطلت هذه الآية الكريمة عادتين، كانتا عند العرب لم يرتض بهما الإسلام، في أنظمته

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 305

و تشريعاته،

قال في المجمع نزلت في زيد بن شراحيل الكلبي من بني عبد ود، تبناه النبي قبل الوحي، و كان قد وقع عليه السبي، فاشتراه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسوق عكاظ، فلما نبي ء رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعاه إلى الإسلام، فأسلم و قدم أبو حارثة مكة، و أتى أبا طالب، و قال سل ابن أخيك، فإما أن يبيعه، و إما أن يعتقه، فلما قال ذلك أبو طالب، لرسول الله. قال: هو حر، فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول الله، فقال حارثة: يا معشر قريش اشهدوا إنه ليس ابني، فقال رسول الله: اشهدوا إنه ابني فكان يدعى زيدا بن محمد، فلما تزوج النبي زينب بنت جحش، و كانت تحت زيد بن حارثة، قالت اليهود و المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، و هو ينهي الناس عنها؟ فقال رسول الله: ما جعل الله من تدعونه ولدا، و هو ثابت النسب من غيركم ولدا لكم.

«1» ذلِكُمْ «كم» خطاب، و «ذلك» إما إشارة إلى كل واحد من الأمرين «الظهار» و «التبني» أو إلى الأمر الثاني فقط قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فهو لفظ تقولونه، لا يوجب حقيقة و واقعا وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ في أنه لا تصبح الزوجة أمّا، و الأجنبي ولدا بمجرد هذا

اللفظ، و لم يكن تبني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزيد بمعناه الجاهلي، حتى يقال:

كيف يمكن أن يعمل الرسول شيئا غير ممضي من قبل الله سبحانه؟ بل للتشريف، كما

قال الإمام المرتضى «محمد ابني من صلب أبي بكر»

«2» و هذا كان في مقابل طرد أبيه، و سلبه شرفه الانتسابي، فشرفه الرسول بالنسبة إلى نفسه من قبيل

«سلمان منا أهل البيت»

«3» وَ هُوَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 172.

(2) بحار الأنوار: ج 42 ص 162.

(3) بحار الأنوار: ج 11 ص 313.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 306

[سورة الأحزاب (33): الآيات 5 الى 6]

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

سبحانه يَهْدِي السَّبِيلَ أي يرشد إلى الطريق الحق، و يدل عليه.

[6] ادْعُوهُمْ أي ادعوا الأولاد لِآبائِهِمْ فقولوا «زيد بن حارثة» لا «زيد ابن محمد» هُوَ أَقْسَطُ أي أقرب إلى العدل، و أفعل منسلخ عن معنى التفضيل، و إنما يأتي بهذه الصورة، لما يزعم البعض من أن طرفه الثاني، عدل أيضا عِنْدَ اللَّهِ و إن كان عندكم لا قسط فيه، أو العكس هو الأقسط فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أي تعرفوا آباءَهُمْ بأعيانهم و أسمائهم، حتى تنسبوهم إليهم، فقولوا يا أخ فإنهم إخوانكم فِي الدِّينِ إذ الآخرة هي العلقة الحاصلة بين طرفين، بقرابة، أو لسان، أو وطن، أو دين،

أو ما أشبه وَ مَوالِيكُمْ أي عبيدكم، إذا كانوا في الرق، فقولوا يا مولاي، و هذا مولى فلان وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و حرج، إذا قلتم «فلان ابني» للدعي فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ سهوا و خطأ، بعد النهي عن ذلك وَ لكِنْ الجناح إنما يكون في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بأن قصدتم هذا القول قصدا، بعد أن نهى الله سبحانه عنه وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن عصى، ثم ندم و تاب رَحِيماً بكم يتفضل عليكم بالرحم مضافا إلى الغفران.

[7] ثم يأتي السياق ليقرر الولاية العامة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يحيط أزواجه بهالة من الأمومة الروحية و من ثم يقرر ولاية بعض الأقرباء لبعض، بمناسبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 307

ما تقدم من ذكر بعض الروابط الاجتماعية، التي كانت قبل الإسلام بالنسبة إلى بنوّة الدعي، و أمومة المظاهر منها، فالدعي ليس ابنا، و إنما الأمة أبناء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المظاهر منها ليست أمّا، و إنّما زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمهات النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فكما يحق للإنسان أن يتصرف في شؤون نفسه المباحة، كأن يبقى، و يذهب، و يعمل، و غيرها، كذلك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الحق، بل أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولى فإذا أمر الرسول بشي ء، و أراد الإنسان شيئا آخر لزم تنفيذ أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من هذه الآية الكريمة، استنبط الفقهاء القاعدة الفقهية «الناس مسلطون على أنفسهم» وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فما للأم من الاحترام و الإكرام ثابت لزوجات الرسول صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم و من تلك حرمة نكاحهن بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من المعلوم أن هذه الشرافة تتبع طاعة الله سبحانه فإذا خرجت بعضهن إلى معصيته تعالى لم يبق لها ذلك الشرف، و لذا

ورد إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السّلام يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق ما دمن على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلقها في الأزواج، و أسقطها من تشريف الأمهات، و من شرف أمومة المؤمنين ..

ثم إن من المعلوم، إن ذلك شرف خاص، فلا يتعدى إلى أقربائهن، حتى يكون هناك جد المؤمنين و عم المؤمنين، و خال المؤمنين، و خالة المؤمنين، و هكذا وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي أن فيما كتبه الله سبحانه على المؤمنين، أن أصحاب الرحم، و هم الأقرباء بعضهم أولى ببعض، في الإرث و الولاية، و سائر الأمور، فلا توارث، و لا ولاية، إلا للأرحام،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 308

[سورة الأحزاب (33): آية 7]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7)

إلا بقدر ما بيّنه الشارع، كولاية السادة، و الإمام، و ضامن الجريرة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فلا ولاية غير النصرة الإسلامية، بين المؤمنين، بأن يرث بعضهم بعضا، سواء كانوا مهاجرين أم لا، قال بعض المفسرين: إن المهاجرين لما ذهبوا إلى المدينة، كان بعضهم، إذا مات قسمت تركته بين سائر المؤمنين و هذه الآية جاءت لتمنع عن ذلك، أقول: لم يعلم أن ذلك كان من باب الإرث، بل يحتمل أنه

كان من باب ولاية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العامة، و إلا فلم يدل دليل، على أن الوارث المسلم، لم يكن يرث ليرث المهاجر المسلم، حتى تكون هذه الآية ناسخة قوله «من المؤمنين» و الله العالم، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا أيها المؤمنين إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً و هذا استثناء منقطع، و المعنى، إن الولاية للأقرباء، إلا أن يفعل بعض المؤمنين بأصدقائه المؤمنين معروفا، بأن يوصي لهم بشي ء من ماله، أو يوصي إلى أحدهم بأيتامه، فإنه تنفذ هذه الوصية في الحدود المقررة في الشريعة كانَ ذلِكَ الحكم بأن أولي الأرحام، أولى إلا أن يفعل الإنسان إلى أوليائه معروفا فِي الْكِتابِ المحفوظ عند الله سبحانه مَسْطُوراً قد كتب و قرر.

[8] و بمناسبة ما كتب في الكتاب من حكم الولاية بين أولي الأرحام، يأتي ما سطر فيه من أخذ الميثاق عن النبيين، و عن المؤمنين، فإن هذا الحكم- و هو أولوية أولي الأرحام- من مصاديق ذلك الميثاق العام، فمن أعطى ذلك الميثاق العام، لزم عليه الوفاء بهذا الميثاق وَ اذكر يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 309

[سورة الأحزاب (33): آية 8]

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)

إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ و المراد به العهد الأكيد بالقيام بالدعوة و التبليغ، و بعد ذكر هذا العموم يأتي ذكر بعض الأنبياء المعروفين وَ مِنْكَ يا رسول الله وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ و هؤلاء الخمسة هم أولوا العزم من الأنبياء الذين بعثوا إلى شرق الأرض و غربها، و قد خصصوا بالذكر، ليعلم أنهم مع جلالة قدرهم و عظم شأنهم، قد أخذ منهم الميثاق في العمل بما يأمر

الله سبحانه، و أخذ الميثاق، إنما كان قبل تحميلهم حمل الرسالة في عالم الذر وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً شديدا بالوفاء و القيام، و ذلك لأهمية هذا المنصب الخطير، الذي لا يساويه منصب مهما عظم.

[9] و قد فعل الله ذلك، ليكون الناس مقطوعي العذر، قد تمت عليهم الحجة، حتى يكون الصادق من الناس، معرضا للثواب، و الكافر معرضا للعقاب، و هذا كما تقول: قد أخذت من المعاون العهد الأكيد بالقيام على مهمة المدرسة، لأنجح الطلاب العاملين، و أطرد الخاملين منهم، تريد أن هذا العهد، إنما كان ليقوم المعاون بالمهمة، فتم الحجة على الطلاب لِيَسْئَلَ الله الصَّادِقِينَ في الإيمان و المنهج، فإن المؤمن صادق، و المطيع صادق إذ من يجعل مع الله شريكا، أو يكفر به، فقد كذب في عقيدته، و قوله، كما أن من يعصي، قد كذب في عمله- فإن الكذب هو الخروج عن الحقيقة، في قول أو عمل- عَنْ صِدْقِهِمْ أي عن عقيدتهم، و قولهم و عملهم، فيجازيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 310

[سورة الأحزاب (33): الآيات 9 الى 10]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

بالجنات، فإن السؤال، إنما هو للجزاء وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ بعد أن يسأل عنهم عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، و قد تفنن السياق، بذكر السؤال عن المؤمن و العقاب للكافر، و حذف في الأول النتيجة، و في الثاني السؤال.

[10] ثم يذكّر الله سبحانه المؤمنين ببعض نعمه عليهم، مما يقوي فيهم

روح الإيمان و يستمروا على الصدق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إما خاص بمن كان في الواقعة، و إما عام شامل لكل المؤمنين باعتبار، أن ذلك النصر عاد على الجميع بالخير اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ في قصة غزوة الأحزاب إِذْ جاءَتْكُمْ أيها المؤمنون جُنُودٌ من الكفار لتدميرهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً هبت عليهم حتى أكفأت قدورهم، و نزعت فساطيطهم، و رمت بالرمل و الحصباء في وجوههم وَ أرسلنا جُنُوداً من الملائكة لإلقاء الرعب في قلوبهم لَمْ تَرَوْها بأعينكم وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً فإنه سبحانه أبصر أتعابكم و أعمالكم في حفر الخندق، و تنظيم الجيش و العمل لأجل إنجاح المؤمنين، و غير ذلك.

[11] و اذكروا إِذْ جاؤُكُمْ أي جاءكم جنود الكافرين مِنْ فَوْقِكُمْ أي فوق الوادي قبل المشرق، و هم قريظة و نضير و غطفان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 311

[سورة الأحزاب (33): آية 11]

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)

وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من قبل المغرب من ناحية مكة، أبو سفيان في قريش، و من تبعه وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ من المؤمنين خوفا، و زيغ البصر ميله عن كل اتجاه نحو اتجاه العدو، فلا يكون كالبصر العادي يتحرك هنا و هناك وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ جمع حنجرة، و هي منتهى الحلق، و ذلك لأن الإنسان الخائف تنفتح رئته فتضغط على قلبه، فيصعد قلبه نحو الحنجرة وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي الظنون السيئة، أو المراد الظنون المختلفة، فظن المؤمنون النصر، و المنافقون الهزيمة.

[12] هُنالِكَ في تلك الوقعة ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ امتحنوا و اختبروا ليظهر الصادق منهم من الكاذب، و الصابر و الجازع وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي حركوا بسبب الخوف تحريكا عنيفا، في معتقدهم و

أقوالهم، و أعمالهم، فكما أن الزلزلة تحرك الأجسام، فالحوادث تحرك الأشخاص، و مختصر القصة «1»

في غزوة الأحزاب و تسمى الخندق يئس المشركون و اليهود و القبائل من إمكان القضاء على الإسلام بانفرادهم فتفكروا في تجميع قواهم لضرب الإسلام فتجمعت عشرة آلاف مقاتل من قريش، و بني سليم و أسد، و فزارة، و أشجع، و غطفان، عدا يهود بني قريظة، و لما علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالأمر استشار أصحابه في الأمر؟ فإن هذه القوة الهائلة، لا يمكن الصمود أمامها،

______________________________

(1) قادة الإسلام للمؤلف. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 312

و أخيرا قرر الرسول عدم الخروج من المدينة- بإشارة سلمان الفارسي- بأن يحفر خندق حولها، و يجعل للخندق جهة خاصة للقتال، لئلا يحيط العسكر بالمسلمين، فيبيدوهم عن آخرهم، و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عهد بحسن الجوار، مع بني قريضة، و هم يهود قرب المدينة، لكن «الأحزاب» تمكنت من استمالة بني قريظة، لنقض العهد، و بذلك دخل في قلوب المسلمين رعب عظيم، و بعد أن فرغ المسلمين من حفر الخندق، أتتهم الجيوش كالسيل، كما وصفها الله سبحانه «إذ جاءوكم .. إلى آخره» و بعد ما تم حفر الخندق، خرج الرسول في ثلاثة آلاف من المسلمين، ليواجهون الأحزاب و بينهما الخندق، و طال الأمر بين الطرفين بضعا و عشرين ليلة، لم يكن بينهما إلا الرمي، فإن الأحزاب لم يقدروا على العبور، و المسلمين لم يشاءوا ذلك و بعدها، جاء عمرو بن عبد ود، و عكرمة بن أبي جهل، و جماعة آخرون، من أقوى شجعان الأحزاب، فعبروا الخندق من مضيق كان فيه، ثم أخذوا يجولون، و يصولون، يطلبون المبارزة من

المسلمين، لكن المسلمين قد أخذتهم الرهبة فلم يجرأ أحد منهم على الإقدام، فأنشأ عمرو بن عبد ود، و لقد بححت من النداء* بجمعكم هل من مبارز إلى آخر الأبيات، و هنا قام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، يستأذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمبارزته، و لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يأذن له ليمتحن بعض المسلمين، و أخيرا أذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للإمام، فخرج الإمام من معسكر المسلمين، يريد مبارزة عمرو و أنشد يقول في جوابه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 313

لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز* ذو نية و بصيرة، و الصدق منجي كل فائز إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز* من ضربة نجلاء يبقى صوتها بعد الهزاهز و لما تقابل الإمام، و عمرو، قال له الإمام: إنك كنت تقول في الجاهلية، لا يدعوني أحد إلى ثلاث، إلا قبلت واحدة منها؟ قال عمرو: أجل، قال الإمام، فإني أدعوك إلى الشهادتين، قال عمرو: يا ابن أخي أخر هذه عني، قال الإمام: و الثاني، أن ترجع من حيث أتيت «أي تترك الحرب و ترجع إلى أهلك» قال عمرو: و لا تحدث قريش بهذا أبدا، قال الإمام: و الثالثة أن تنزل من على فرسك، فتقاتلني، فقبل عمرو ذلك، لكن امتلأ عمرو رعبا من الإمام و تبادلا السيف، فأصاب سيف عمرو رأس الإمام فشجه، فغضب الإمام، و ضرب عمرو ضربة أسقط رجليه، فخر على الأرض، و علت الغبرة، و مدّ الطرفان أعناقهما، ليروا الغالب من المغلوب و لما انجلت الغبرة، رأوا الإمام جالسا على صدر عمرو، و كبّر الإمام تكبيرة عالية، و بهذا

المنظر و التكبير، قويت قلوب المسلمين، و تزلزلت قلوب الكافرين، ثم قطع الإمام رأس عمرو، و أقبل به إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قتل بعض آخر ممن اقتحم الخندق، و فرّ الباقون، و تشتت كلمة الأحزاب، و ألقي الرعب في قلوبهم، و لم يطيقوا إدامة الحصار، و تخلت عنهم الأعراب، و بنو قريظة، و لذا تفرقوا من أطراف المدينة إلى مكة، و سائر محالهم، و قد كان قتلى المسلمين ستة، و قتلى الكفار دون العشرة، و مرّ الأمر بسلام، و زادت قوة المسلمين المعنوية، إلى حد هائل ممّا يئس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 314

[سورة الأحزاب (33): الآيات 12 الى 13]

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)

الكفار، من النيل منهم بعد ذلك.

[13] وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الذين أظهروا الإسلام، و أبطنوا الكفر وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و المراد بهم ضعاف الإيمان، و إن لم يصلوا إلى حد النفاق، و المراد بالقلوب «النفوس» فإن الأخلاق المنحرفة، ضعف و مرض في القلب، كما أن أنواع العاهات ضعف و مرض في البدن ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من النصرة على الأعداء إِلَّا غُرُوراً من «غار» و إنما سمي غرورا مبالغة، كأن الوعد قطعة من الغرور، من قبيل «زيد عدل»، قال ابن عباس: إن المنافقين قالوا: يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى و قيصر، و نحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء

هذا و الله الغرور «1».

[14] و إذ قد اشتد الخوف بالمسلمين، قال عبد الله بن أبيّ المنافق لأصحابه: ليس لكم هنا محل، فقوموا نرجع إلى المدينة، و جاء بعضهم إلى الرسول يستأذنوه معتذرين، بأن بيوتهم في المدينة، ليست بحريزة، فيخافون عليها اللصوص وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من المنافقين، و الذين في قلوبهم مرض يا أَهْلَ يَثْرِبَ فقد كانت المدينة تسمى «يثربا» قبل هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم سميت بمدينة الرسول، ثم «المدينة» لا مُقامَ لَكُمْ أي لا محل لإقامتكم هنا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20 ص 193.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 315

[سورة الأحزاب (33): آية 14]

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)

خارج المدينة بتوقع الظفر على الكفار فَارْجِعُوا إلى المدينة، حتى لا يصيبكم ما يصيب محمدا و المسلمين من الكفار، فقد زعموا أن الكفار يغلبون المسلمين لا محالة وَ يَسْتَأْذِنُ أي يطلب الإذن، في الرجوع إلى المدينة فَرِيقٌ مِنْهُمُ أي من أولئك المنافقين النَّبِيَ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم بنو حارثة، و بنو سلمة يَقُولُونَ للرسول في عذرهم للانصراف إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ليست حصينة، من عور إذا نقص، و منه الأعور، و يقول الله سبحانه في تكذيب عذرهم وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي كذبوا في عذرهم، إن بيوتهم لم تكن عورة يخشى عليها من اللصوص و الأعداء، فقد كانت حريزة حصينة إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريد هؤلاء المستأذنون إِلَّا فِراراً من الحرب و هربا من القتال و أتعابه.

[15] ثم يمثل الله سبحانه نفسية هؤلاء المنافقين، بأنهم كانوا بحيث إذا دخل الأعداء

المدينة ثم طلبوا من هؤلاء الشرك، و أن يكونوا معهم في صف واحد مقابل المسلمين، لأسرعوا في إجابتهم، فكيف لم تكن بيوتهم عورة، حينذاك، و بيوتهم عورة، حين كانوا مع المسلمين؟

وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة، أو البيوت عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المنافقين مِنْ أَقْطارِها أي من جوانبها، بأن ظفر الكفار، و دخلوا بيوت هؤلاء من جوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي سأل الكفار الغازون هؤلاء المنافقين، أن يشركوا و يكونوا معهم في صف قبال الرسول و أصحابه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 316

[سورة الأحزاب (33): الآيات 15 الى 16]

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)

لَآتَوْها أي لأعطوا هؤلاء المنافقون الكفار ما أرادوا من الفتنة، و انضموا تحت لوائهم وَ ما تَلَبَّثُوا بِها أي ما مكثوا و تريثوا في قبول الفتنة، كأنهم باقون فيها، لم يرفضوا و لم يقبلوا كالإنسان الماكث بالمدينة، في مقابل من خرج من الفتنة بالجزم، إما بالقبول أو الرفض إِلَّا يَسِيراً فإنهم لم يكونوا يترددون في قبول الفتنة، إلا في زمان قليل، ثم يفتتنون بقبول الشرك و الدخول في صف الأحزاب المشركة.

[16] و كيف يولي هؤلاء الدبر، و يرون الفرار من الجهاد وَ الحال أنهم لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ فإنهم لما بايعوا النبي حلفوا أن ينصروه و أن يقفوا في صفه، و أن لا يسلموه لعدوه وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا أي يسأل عنه يوم القيامة، ماذا فعلوا بعهده، هل وفوا أم نقضوا؟

[17] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء

المنافقين الذين يريدون الفرار خوف القتل لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ في تأخير آجالكم إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ بأن خفتم الموت خوفا أَوِ الْقَتْلِ بأن يغلب الأعداء فيقتلوكم، فإن آجالكم إن حضرتم أخذتكم و لو في غير ساحة القتال، و إن لم تحضر لم يأخذكم الأجل، و لو في ساحة القتال وَ إِذاً أي إذا فررتم من الموت أو القتل لا تُمَتَّعُونَ في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا فإن مدة الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 317

[سورة الأحزاب (33): الآيات 17 الى 18]

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18)

قليلة تنقضي و تنصرم بسرعة.

[18] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون الفرار إن فراركم غير مفيد، فإن أراد الله بكم سوءا جاءكم، و لو في بيوتكم، و إن أراد بكم رحمة جاءتكم الرحمة، و لو في ساحة القتال، فما فائدة الفرار؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ أي يحفظكم من أمره و بأسه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً موتا أو قتلا أو عذابا؟ أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً من ذا الذي يتمكن أن يحول بينكم و بين الرحمة، التي يريدها الله بكم؟ فكل شي ء من طرفه سبحانه، و لا يتمكن أحد من تغيير أمره وَ لا يَجِدُونَ أي هؤلاء الذين يريدون الفرار لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه وَلِيًّا يلي أمورهم و يتولى شؤونهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم، و يغلبهم على أعدائهم.

[19] ثم هدد الله سبحانه الذين يثبطون غيرهم عن الجهاد بقوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ

و قد، إما للتحقيق، قالوا فإنها تدخل- أحيانا- على المضارع، بمعنى التحقيق، لا التقليل الذي هو الأصل فيه، و إما للتقليل للإشارة إلى أن احتمال علم الله بتعويقهم كاف، في أن ينتهوا، كما تقول لمن تريد تهديده: يمكن أن أعلم عملك، تريد أن الإمكان كاف في انقلاعه عن عمله السيئ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ و المعوق هو المثبط غيره عن الجهاد بتخويفه من الأعداء وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ أحزابهم من المنافقين هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا نتنحى عن القتال ناحية، و لا نوقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 318

[سورة الأحزاب (33): آية 19]

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)

أنفسنا في التهلكة وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي يحضرون القتال إِلَّا قَلِيلًا فيما إذا أجبروا و خافوا على سمعتهم، أو حضروه، رياء، بخلاف المؤمنين، فإنهم أسرع شي ء إلى القتال، و كيف لا يحضرون، و هم يعلمون إن قتلوا أو قتلوا كان جزاءهم الجنة؟

[20] و إن هؤلاء المنافقين الذين يعوقون الناس، و لا يحضرون الحرب، يكونون أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون الصادقون، و أشحة جمع شحيح، بمعنى البخيل، أي أنهم بالنسبة إليكم بخلاء، لا يبذلون مالا و لا نفسا فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ بأن تجمعت الأعداء، و وجب الجهاد رَأَيْتَهُمْ أيها الرسول، أو أيها الرائي يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي تتقلب من هنا و هناك كما هي عادة الخائف، يدور بعينه ليجد ملجأ و ملاذا، و إنما يكفي النظر إلى الرسول، أو إلى المؤمنين، ليرى ماذا يأمر، و يقولون: هل ما ينفعهم

حتى يستريحوا؟ أم ما يزيد خوفهم؟

حتى يفكروا في النجاة و الخلاص، فيكثرون النظر، لئلا يفوتهم شي ء كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و هو الذي قرب موته و غشيته أسبابه، فإنه يكثر النظر هنا و هناك يتطلب علاجا و مناصا فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و جاء الأمن و الغنيمة سَلَقُوكُمْ أيها المؤمنون، و سلق، بمعنى صاح و رفع صوته بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي أنهم تكلموا معكم حول جهادهم المزعوم، و حول حصتهم من الغنائم، و حديد ضد الكليل أي ألسنة ذرية بليغة، في جهر و صياح و جرأة، كأنهم كانوا كل شي ء، و هكذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 319

[سورة الأحزاب (33): آية 20]

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)

دائما الجبناء يعملون قليلا و يقولون كثيرا أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي الغنيمة، فهم بخلاء غاية البخل، أن يذهب و يفوتهم شي ء من الغنيمة، التي ما اشتركوا فيها أُولئِكَ الذين تلك صفاتهم، و هم المنافقون في كل زمان لَمْ يُؤْمِنُوا إيمانا من الأعماق، و إنما تظاهروا بالإيمان نفاقا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أبطل ما عملوا من الأعمال الظاهرية، لأنها لم تصدر من الإيمان وَ كانَ ذلِكَ الإحباط لأعمالهم عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فإنه لا يجازيهم، لا يتمكن أحد منهم من معارضته، كما كانوا يتمكنون من معارضة المؤمنين في الدنيا.

[21] إن هؤلاء المنافقين يَحْسَبُونَ أي يظنون الْأَحْزابَ التي جاءت لقتال المسلمين لَمْ يَذْهَبُوا و لم يرجعوا، و قد ظنوا ذلك لجبنهم، فإن الإنسان الجبان يخيل إليه أن الخوف بعد باق لم ينكشف وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ مرة ثانية، بأن يرجعوا إلى القتال يَوَدُّوا

أي هؤلاء المنافقون لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ أي يكونون في البادية مع الأعراب، و معنى «بادون» ظاهرون، فكأن الإنسان الذي في المدينة مستور أما في الصحراء، فهو ظاهر باد يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ أي أخباركم هل غلب المؤمنون أم الكفار؟ و هكذا يكون الأناس الجبناء يحبون أن يكونوا بمعزل عن الحوادث، و إنما يجترون بالأخبار، لقتل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 320

[سورة الأحزاب (33): الآيات 21 الى 22]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22)

الوقت، و إملاء فراغ حياتهم، بعكس الشجعان و العاملين الذين لا يحبون إلا المعارك و المقام وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ حين رجوع الأحزاب، و يكونون هم- حسب رغبتهم- في البادية ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا أي قتالا قليلا لمجرد الرياء و السمعة، لا عن إيمان و عقيدة.

[22] و اللازم على المؤمن أن يقتدي بالرسول، كيف يجاهد و يصبر في المعارك لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المسلمون فِي رَسُولِ اللَّهِ أي في سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صبره و عنائه في الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ مقتدى صالحا، بحيث يراه الناس فيعملون كما يعمل، و الأسوة من الاتساء «كما أن القدوة من الاقتداء» بمعنى الاقتداء، و المتابعة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله و نعيمه، و يرجو أن يكون في اليوم الآخر من الفائزين، و «لمن» بدل من «لكم» و الرسول أسوة حسنة لمطلق الناس، و إنما من

كان يرجو الله يتأسى، فكان أسوة له، إذ الانتفاع بهذا المقتدى عائدا إليه وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً فإن من ذكره سبحانه ترسخ في كيانه، الخوف من الله سبحانه، فيطيع أوامره، و يقتدي برسوله، فيما عمل و سار.

[23] وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ الذين تحزبوا لقتال الرسول، و إبادة الإسلام قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ

فقد روي إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 321

[سورة الأحزاب (33): آية 23]

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)

قال سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم

«1»، و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما سائرون إليكم بعد تسع أو عشر

، و لذا لما رآهم المؤمنون، قالوا: هذا ما وعدنا الله و رسوله وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ فيما أخبرنا من المبدأ و العاقبة، و الإتيان باسم الله، لأن الرسول كان ينقل ما يقول عن الله سبحانه وَ ما زادَهُمْ لقاء عدوهم إِلَّا إِيماناً فإن الإنسان كلما كثر عنده شواهد الإيمان قويت ملكته، و اشتدت حالته النفسية في العلاقة و الانقياد وَ تَسْلِيماً لأوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[24] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ صدقوا في كلامهم و عهدهم مع الله، إن يصبروا و يثبتوا أمام الأعداء فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ النحب النذر، و يقال للموت، نحب، لأنه كنذر ثابت لازم في ذمة الإنسان و على رقبته، و المراد منهم من قد قتل و استشهد في سبيل إنجاز عهده وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الاستشهاد وَ

ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا أي ما غيروا العهد الذي عاهدوا الله عليه، بأن يفروا من الميدان، كالمنافقين الذين ورد فيهم (وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) «2» و

قد ورد أن من قضى نحبه، حمزة و جعفر بن أبي طالب، و من ينتظر علي عليه السّلام

«3»، و هذا من باب أظهر المصاديق، و إلا فالآية عامة، كما لا يخفى.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 144.

(2) الأحزاب: 16.

(3) بحار الأنوار: ج 22 ص 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 322

[سورة الأحزاب (33): الآيات 24 الى 25]

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)

[25] و إنما ابتلى الله المؤمنين بهذا الابتلاء الذي زلزلوا فيه زلزالا شديدا، لإظهار كوامن المسلمين لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ من المؤمنين، في عهدهم بسبب صدقهم في الثبات و الصبر وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض عهدهم و فرارهم و خذلانهم إِنْ شاءَ إن بقوا على النفاق، فإن مشيئته سبحانه معلقة على ذلك أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا، و هذا ليس مما دخله «اللام» المقدر في «ليعذب» و إنما بيان لأمر خارجي إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لمن استغفر و أناب رَحِيماً فيتفضل على التائب فوق الغفران بالفضل و الإحسان.

[26] وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أرجع الأحزاب، لما ألقى في قلوبهم من الرعب بِغَيْظِهِمْ أي بدون أن ينالوا من المسلمين، و يستشفوا غيظ قلوبهم الكامن على المسلمين و الإسلام، و الباء بمعنى «مع» لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي مالا، بأن يقتلوا المسلمين، و ينهبوا أموالهم، و المال يسمى

خيرا، لأنه سبب للخير و الإحسان و الضيافة، و غيرهما، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) «1» و قال (وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) «2» وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فلم يقع قتال يؤذي المسلمين و إنما كفاهم الله

______________________________

(1) البقرة: 181.

(2) العاديات: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 323

[سورة الأحزاب (33): آية 26]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26)

سبحانه بواسطة الإمام أمير المؤمنين الذي قتل «عمروهم»، و بدد جمعهم بما ألقى في قلوبهم من الرعب وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا قادرا على ما يشاء من نصر المؤمنين، و هزيمة الكفار عَزِيزاً غالبا في سلطانه لا يغلبه أحد.

[27] و قد كانت بين المسلمين و بين بني قريظة معاهدة حسن الجوار، و لما جاء الأحزاب ذهب بعضهم إلى بني قريظة، يستميلهم في حرب الرسول، حتى نقضوا العهد، و جاءوا مع الأحزاب للقتال، مما أوسع المجال للرسول، أن يعاقبهم بعد الفراغ من غزوة الأحزاب، حيث ابتدءوا بالاعتداء على المؤمنين، في أحرج الساعات، و قصتهم، كما في «قادة الإسلام» «1» إن هؤلاء اليهود غدروا بالمسلمين في أشد أحوالهم، في حال حرب الأحزاب، و لو فرض أن غدرهم كان ينجح، لكان معناه إبادة المسلمين جميعا، و لذا

نزل جبرائيل عليه السّلام على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: وضعت السلاح، و لم يضعه أهل السماء؟ انهض إلى إخوانهم من أهل الكتاب، فو الله لأدقهم دق البيضة على الصخرة، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يصلي الناس العصر، إلا عند بني قريظة، و أعطى اللواء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، و

معه المهاجرون، و انهالت قطعات الجيش الإسلامي صوب قريظة، حتى اكتملت ثلاثة آلاف، و لم يظلم ليل ذلك اليوم، إلا و المسلمون قد طوقوا الحصون، و انهارت أعصاب اليهود رعبا و خوفا، فها هم المسلمون الذين انتصروا يوم أمس على الأحزاب بكثرة عددها و عددها، و لذا استشاروا فيما

______________________________

(1) للمؤلف. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 324

بينهم حول الأمر؟ قال قائل منهم: أسلموا، لكنهم أبوا، و لم يرضخوا للإسلام، فقالوا انزلوا للحرب، لكنهم خافوا بأس المسلمين مع توفر السلاح و العتاد و المال و الطعام و الماء لديهم، و أخيرا أرسلوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستأذنونه الخروج، إلى «أذرعات» الشام؟ لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبى، و بعد فكر و استشارة، و تداول رأى، أرسلوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يطلبون منه أن يفوض أمرهم إلى «سعد» فما شاء فعل فيهم، و قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قام «سعد» بالتحكيم، بعد ما أخذ العهود على الجانبين، ثم أمر أن ينزل قريظة عن حصونهم، و أن يضعوا السلاح

«1» ...، و لما نزلوا، حكم بقتل رجالهم الذين تآمروا على سلالة الإسلام و المسلمين، جزاء وفاقا، و قسمت الغنائم بين المسلمين وَ أَنْزَلَ الله الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي اليهود الذين صاروا عونا و ظهرا للأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بيان الذين- و هم اليهود قبيلة بني قريظة- مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم، فقد أمر سعد أن ينزلوا من الحصون، و الصياصي جمع «صيصية» و هو الحصن الممتنع وَ قَذَفَ أي ألقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف من الرسول صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم حتى لم يتمكنوا من المحاربة فَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ أنتم أيها المسلمون، و هم الرجال وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً و هم الأطفال و النساء.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 159- 160.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 325

[سورة الأحزاب (33): الآيات 27 الى 28]

وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28)

[28] وَ أَوْرَثَكُمْ أي أعطاكم الله إرثا أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ أي حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ وَ أورثكم أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي لم تأخذونها بالقتال، فإن الوطء هو الذهاب في الأرض، و لعلها كانت أرضا لبني قريظة خارج حصونهم، أو المراد أرض خيبر، أو مكة، أو غيرها، مما صارت بعد ذلك للمسلمين و لم يطأها بعد في هذا الحادث وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً و بقدرته أظفركم على هؤلاء اليهود بهذه السهولة و اليسر.

[29] و بمناسبة قصة الفتح و الغنيمة يأتي السياق ليشير إلى قصة وقعت بعد فتح خيبر،

قالوا لما رجع رسول الله من غزوة خيبر، أصاب كنز آل أبي الحقيق، فقلن أزواجه: أعطينا ما أصبت، فقال لهن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قسمة بين المسلمين على ما أمر الله عز و جل، فغضبن من ذلك، و قالت بعضهن: لعلك ترى، إنك إن طلقتنا، أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟ فلم يقع هذا الكلام من الرسول موقعا حسنا، فاعتزلهن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مشربة أم إبراهيم تسعة و عشرين يوما، ثم أنزل

الله هذه الآية- و هي آية التخيير

«1»-.

فقامت أم سلمة أول من قامت، فقالت: قد اخترت الله و رسوله، فقمن كلهن، و قلن كما قالت أم سلمة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 189.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 326

[سورة الأحزاب (33): الآيات 29 الى 30]

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

أي نساءك إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها أي سعة العيش، و كثر المال، و سائر زينة الدنيا فَتَعالَيْنَ أي هلمن إلي، ل أُمَتِّعْكُنَ و هي ما يعطى للمرأة عند طلاقها جبرا لكسر خاطرها بالطلاق وَ أُسَرِّحْكُنَ أي أطلقكن، فإن الطلاق تسريح للمرأة عن قيد الزواج سَراحاً جَمِيلًا و السراح الجميل، هو الطلاق من غير خصومة، و لا أكل حق لها.

[30] وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ ثواب اللَّهَ وَ تردن عشرة رَسُولَهُ بدون إرادتكن زينة الحياة الدنيا، زائدة على القدر اللائق بالرسول وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ و إرادتها عبارة عن العمل الصالح لأجلها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ و إنما جاء بهذا، لأن مجرد الإرادة، لا تكفي للثواب، و إنما تحتاج إلى العمل أَجْراً عَظِيماً يعطيه لكنّ في الآخرة.

[31] يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي معصية ظاهرة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضِعْفَيْنِ ضعف للعصيان، و ضعف لأنها أسوة للنساء، و لمكانها من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 327

بالضعف المثل وَ كانَ ذلِكَ التعذيب ضعفين عَلَى اللَّهِ يَسِيراً

فإن الأمر بيده، و يفعل كيفما يشاء مما تقتضيه الحكمة و الصلاح، و تقديم «الفاحشة» على «القنوت» لأن الكلام كان حول معصيتهن، بمخاشنة الكلام مع الرسول، كما أن الإتيان بلفظ «الفاحشة» التي هي المعصية المجاوزة للحد، و تأكيدها ب «المبينة» بمناسبة الموضوع، فإن عصيان النساء للرسول، كان من أعظم المعاصي، و إلا فكل معصية، أتين بها ظاهرة تكون كذلك، أما المعصية الخفية، فهل عذابها مضاعف أم لا، احتمالان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 329

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثاني و العشرون من آية (32) سورة الأحزاب إلى آية (28) سورة يس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 330

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 331

[سورة الأحزاب (33): الآيات 31 الى 32]

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)

[32] وَ مَنْ يَقْنُتْ و القنوت هو الطاعة و الخضوع مِنْكُنَ يا نساء النبي لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن تطع أوامرهما وَ تَعْمَلْ صالِحاً أي تأتي بهذا النوع من العمل، و هو الصالح دون الطالح، و كأن القنوت مقدمة على العمل، إذ هو الخضوع نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مرة في الدنيا بالإعظام و الإكرام، و مرة بالآخرة بجنات النعيم، أو المراد نعطيها أجرين و ثوابين في الآخرة بمقابلة «يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» وَ أَعْتَدْنا أي هيئنا في الآخرة لَها رِزْقاً كَرِيماً نرزقها بإكرام و إعظام، و

قيل الكريم ما سلم من كل آفة و نقص.

[33] يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَ أنتنّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أي كسائر النساء، فإنكن أعظم شأنا، و أعلى منزلة لمكانكن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنِ اتَّقَيْتُنَ أي إن كنتن متقيات خائفات من الله سبحانه فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي إذا أردتنّ الكلام في محضر حضره الأجنبي، فلا ترققن الكلام و لا تلن في الحديث، و الخضوع عبارة عن الكيفية، و إن كان مفهوم الآية شامل لمادة الكلام أيضا، بأن لا يكون مثيرا مهيجا فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ و هو من انحرفت نفسه عن الجادة، حتى إذا سمع الكلام الرقيق، هاجت نفسه طمعا، و إن لم يكن يريد شيئا وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً جميلا حسنا، لا غزلا و تشبيبا، بريئا من كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 332

[سورة الأحزاب (33): آية 33]

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)

التواء و انحراف.

و لا يخفى أن نساء النبي، حيث أنهن كن أسوة للنساء- أسوة طبيعية- كانت الآيات موجهة إليهن، و إلا فما اشتملت عليه هذه الآيات، عامة لكل النساء، و إن كان في حقهن أكثر إلا ما خرج بالدليل ككون نسائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمهات المؤمنين، أما قوله «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» فإنما هو للترغيب و التحريض، و بيان أن منزلتهن تقتضي التحفظ بهذه الوصايا أكثر، كما يقول العالم لولده: إنك لست كسائر الناس، فلا تقامر، و لا تشرب الخمر، و هكذا.

[34] وَ قَرْنَ أي أقررن

و استقررن فِي بُيُوتِكُنَ أي منازلكن، فلا تخرجن للحرب و ما أشبه وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي لا تخرجن من البيوت باديات الزينة، كما كانت نساء الجاهلية تفعل، فإنّ برج، بمعنى ظهر، و منه تسمى البارجة، و برج السور، و بروج الكواكب، لبروجها أي ظهورها، و من مصاديق التبرج، إلقاء المرأة عباءتها بين الرجال، كما كانت تفعله نساء الجاهلية وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ بالمداومة عليها بآدابها و شرائطها وَ آتِينَ الزَّكاةَ أي أعطين الزكاة المفروضة، أو مطلق الصلة وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمران به إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ هذا من قبيل الالتفات المذكور في علم البلاغة، الذي هو من محاسن الكلام، فإن المراد بأهل البيت «الرسول و علي و فاطمة و الحسن و الحسين» عليهم السّلام، بإجماع المفسرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 333

[سورة الأحزاب (33): آية 34]

وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)

المنصفين من العامة و الخاصة، كما وردت بذلك روايات متواترة «1»، و قد مر بنا غير مرة، إن من فنون البلاغة في القرآن الكريم، أن يوسّط كلاما جديدا، بين الجمل المتناسقة، اتقاء عن ملالة السامع من كلام رتيب، و المراد بأهل البيت عليهم السّلام، بيت الرسول، و الذي يشهد أن المراد بالآية، ليست النساء، تغيير الأسلوب، فإن الخطاب كان بلفظ الجمع المؤنث «لستن» «اتقيتن» «لا تبرجن» و هكذا، و كذلك ما بعد الآية «و اذكرن» «في بيوتكن» حتى إذا وصل إلى هذا قال «عنكم» «يطهركم» و لا يخفى أن الأئمة عليهم السّلام داخلون في أهل البيت بالنصوص المتواترة وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و معنى الإرادة،

الإرادة التكوينية، و هي الموجبة للعصمة، و هي المراد بالطهارة، و إلا فالإرادة التشريعية عامة للجميع، كما أن الطهارة عن القذارة الظاهرية عامة لا تختص حتى المسلمين، و لذا استدل علماؤنا بهذه الآية على عصمة الرسول و الصديقة و الأئمة الاثنى عشر (صلوات الله عليهم أجمعين)، و معنى العصمة أن يكون في الإنسان- بلطف الله سبحانه- وازع يمنعه عن العصيان مطلقا بدون أن ينافي ذلك اختياره، كالأم الحنون التي فيها وازع يمنعها عن قتل ولدها، و هذا الوازع من قبله سبحانه، و لا ينافي اختيارها و محل تفصيل الكلام في علم الكلام.

[35] وَ اذْكُرْنَ يا نساء النبي ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ أي ما يقرأ، و القارئ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الإتيان بلفظ في «بيوتكن» لعله للحث و التحريض، فإن ما يتلى في بيت الإنسان من القرآن يزيده شرفا و عزا،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 1 ص 424.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 334

[سورة الأحزاب (33): آية 35]

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

فمن الجدير أن يستمسك بعزه و فخره مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَ الْحِكْمَةِ لعل المراد بها كلمات الرسول و حكمه، و المراد بالذكر، إما التحفظ و القراءة، و إما التذكر إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً ذا فضل و من لطفه و فضله، خصكن بهذه الكرامة خَبِيراً يعلم ما تصنعن من الأمور، فيجازيكن على أعمالكن.

[36]

ثم ذكر الله سبحانه استواء الرجال و النساء في أحكام الإيمان- إلا ما خرج بالدليل.

روي في المجمع عن مقاتل بن حيان، أنه قال: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة و خسار، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و مم ذلك؟ فقالت: لأنهن لا يذكرن بخير، كما يذكر الرجال، فانزل الله هذه الآية

«1» إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ و المسلم هو الذي سلّم لأوامر الله و الرسول، سواء دخل الإيمان قلبه أم لا، كما قال سبحانه: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) «2» وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و المؤمن هو الذي دخل التصديق قلبه، و التزم بأحكام الإسلام وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 158.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 335

و القنوت، هو الخضوع لله سبحانه، فإن الخضوع رتبة فوق الإيمان أو المراد بالقانت المداوم على الطاعة، أو الداعي وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ و الصادق هو الذي يصدق في عقيدة و قول و عمل، فالشرك كذب و قول لا إله للكون كذب، و العمل الريائي كذب وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ و الصبر إما على الطاعة، و إما عن المعصية، و إما في المصيبة، بأن يحفظ الإنسان نفسه، فلا يترك الطاعة، أو يعمل بالمعصية أو يلقي نفسه في الجزع وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ الخشوع

هو الخضوع أو الخوف وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ التصدق هو إخراج الصدقات و الزكوات وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ بالإمساك عن المفطرات، قربة إلى الله تعالى، بشرائطه و آدابه، و لعل عدم ذكر الصلاة و الزكاة، لأنهما داخلات في الإسلام وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ عن الزنا و اللواط و السحق و الاستمناء، و ما أشبه، وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً بدوام تذكر الله سبحانه حتى لا يصدر من الإنسان ما يخالف رضاه وَ الذَّاكِراتِ لله كثيرا، و قد حذف المتعلق لدلالة الكلام عليه، و كذا في «و الحافظات» أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي للمتصفين بهذه الصفات مَغْفِرَةً مصدر ميمي بمعنى الغفران، أي غفرانا لذنوبهم وَ أَجْراً عَظِيماً و ثوابا جزيلا في الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 336

[سورة الأحزاب (33): آية 36]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36)

[37] و إذ تقدمت قصة زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أردن منه أموال خيبر، و امتنع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن إعطائهن، جاء السياق ليذكر الناس عامة، بأنه ليس لأحد أن يحكم بخلاف حكم الرسول وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً بأن أمرا بشي ء، أو نهيا عن شي ء أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي الاختيار مِنْ أَمْرِهِمْ أي من جهة أمر أنفسهم، بعد أوامر الله و الرسول وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بمخالفة أوامرهما، فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً أي انحرف عن طريق الهدى انحرافا واضحا،

قال في المجمع «نزلت في زينب

بنت جحش الأسدية، و كانت أمها أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخطبها رسول الله على مولاه، زيد بن حارثة، و رأت أنه يخطبها على نفسه، فلما علمت أنه يخطبها على زيد، أبت و أنكرت، و قالت: أنا ابنة عمتك، فلم أكن لأفعل، و كذلك قال أخوها، عبد الله بن جحش، فنزل، و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة ..

الآية، يعني عبد الله بن جحش و أخته زينب، فلما نزلت الآية، قالت:

رضيت يا رسول الله، و جعلت أمرها بيد رسول الله، و كذلك أخوها، فأنكحها رسول الله زيدا، فدخل بها، و ساق إليها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة دنانير و ستين درهما مهرا، و خمارا ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من الطعام، و ثلاثين صاعا من تمر»

«1»، أقول و قد هدم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 337

[سورة الأحزاب (33): آية 37]

وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)

بذلك، ما كان مرسوما في الجاهلية من تكافؤ الدماء القبلي.

[38] لقد تزوج زيد زينب، ثم أراد الله سبحانه، أن يزيل العقبة التي كانت بعد أمام المسلمين في أمر التزوج بنساء أدعيائهم، فقد كانوا يرون أن ذلك من قبيل نكاح

الأب زوجة ابنه، و لذا لما طلق زيد زينبا- و لعله كان لما نقل أنها كانت حادة المزاج، فلم يتلاءم الزوجان- نكحها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تتميما للتشريع الذي سبق في أول السورة «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» و من غريب الأمر، أن جماعة من الناس اختلقوا حول هذه القصة روايات تنافي أصول الإسلام و العقيدة، حتى أن علي بن إبراهيم القمي، على جلالته لم يسلم من الوقوع ضحية ذلك الاختلاف، كما لم يسلم من الوقوع ضحية قول المعاندين في أن آية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) «1» نزلت في أبي طالب عم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فسبحان من لم يخلق الإنسان معصوما إلا الأنبياء و الأئمة، و من إليهم وَ اذكر يا رسول الله إِذْ تَقُولُ لزيد بن حارثة الذي دعوته ابنا لك قبل نزول آية «وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام و الإيمان، و مصاحبة الرسول وَ أَنْعَمْتَ أنت عَلَيْهِ بالكفاية و التربية و التحرير و التعليم، و تزويجه بزينب الشريفة الهاشمية أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ و لا تطلقها، فقد وقعت بينهما المشاجرة، فأراد زيد طلاقها- و قد تقدم أنها كانت ذات حدة في أخلاقها، كما ذكروا- و الإتيان بلفظ عليك، لما في الإمساك من الثقل، حتى كأنه

______________________________

(1) القصص: 57.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 338

حمل على الإنسان وَ اتَّقِ اللَّهَ يا زيد في مفارقتها و مضارتها، و معاشرتها، فلا تعاشرها إلا حسنا جميلا وَ قد كان الله سبحانه أخبر الرسول أنه سيطلق زينبا، و أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتزوجها لرفع قاعدة «البنوة» الجاهلية، و

لما كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم ما يحدثه هذا العمل من الضجة، في ذلك المجتمع الجديد العهد بالإسلام، خشي إظهاره، و لذا قال سبحانه له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تُخْفِي فِي نَفْسِكَ يا رسول الله، إرادتك زواجها بأمر الله بعد طلاقها مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي الشي ء الذي يظهره الله بعد ذلك وَ تَخْشَى النَّاسَ و قد قال بعض: كيف يخشى النبي الناس؟ فلنقل:

هل كان النبي يخشى من العقرب أن تلدغه، أو السبع أن يفترسه؟ فإن قالوا نعم، قلنا: ما الفرق حتى أجزتم تلك الخشية، و لم تجوزوا هذه الخشية، من كلام الناس و طعنهم؟ و إن قالوا: لا، قلنا: فأيّ دليل على أن الخشية من المضر أو المؤذي ينافي مقام العصمة، فإن ما ثبت، أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معصوم، لا إنه مسلوب عنه صفات البشرية من خشية و اضطراب، و جوع و عطش، كما في قصة موسى عليه السّلام (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) «1» (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً) «2»، و في قصة يعقوب (وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ) «3»، و أما قوله وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فهو من باب الجناس المليح، نحو قوله (وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) «4» و

قول الرضا عليه السّلام «إن كنت باكيا لشي ء، فابك للحسين عليه

______________________________

(1) طه: 46.

(2) القصص: 22.

(3) يوسف: 14.

(4) الروم 56. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 339

[سورة الأحزاب (33): آية 38]

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)

السلام»

«1» فإن الإنسان

إذا هاج به وصف نفسي، قيل له، وجّه هذا الوصف إلى جهة أصلح، فمن هاجت به العاطفة نحو جاره، قلنا له:

اعطف على ولدك، أو نقول: إن ولدك أحق بالعطف، و لا نريد بذلك، أن العاطفة نحو الجار غير حسنة، و إنما نريد توجيهه نحو ما هو الأصلح بحاله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها أي من زوجته زينب وَطَراً أي حاجة، بأن تم حاجته فيها، و طلقها، حيث لم يتلاءما زَوَّجْناكَها أي أمرنا بتزويج زينب لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ أي لتكون أنت أول من ينقض هذه العادة الجاهلية عملا حتى لا يتحرج المؤمنون بعدك من الزواج بزوجة المتبنى لهم إِذا قَضَوْا أولئك الأدعياء مِنْهُنَ أي من زوجاتهم وَطَراً أي حاجة، بأن طلقوهن، فإن الطلاق لا يكون إلا بعد عدم الرغبة، و الحاجة في الزوجة وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا أي أن الشي ء الذي يريده الله، لا بد و أن يفعل و يؤتى في الخارج، فتزوجها رسول الله و ضمها إلى نسائه.

[39] و إذ أثار هذا الأمر ضجة كبري بين الناس، جاء السياق ليردها، فقال سبحانه ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي عسر و ضيق و غضاضة فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي في الحكم الذي أثبته الله للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14 ص 502.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 340

[سورة الأحزاب (33): آية 39]

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)

و الإتيان بلفظ «له» لأنه كان لنفع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا مثل سائر الواجبات، التي هي «عليه» فيها مشقة و

كلفة سُنَّةَ اللَّهِ منصوب على المصدر، أي سنّ الله ذلك سنة، أي إن هذا التحليل، كان كسائر سنن الله في الأنبياء عليهم السّلام، و الأمم الماضين فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد كان سبحانه، يرفع الحرج عنهم، و يحل لهم ما فيه الصلاح وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً أي بقدر و قضاء مَقْدُوراً قد قدّر و حكم به ان ينفذ، فليس اعتباطا و ارتجالا،

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام أن زينب مكثت عند زيد ما شاء الله، ثم أنهما تشاجرا في شي ء إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاستأذن زيد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في طلاقها، و قال أن فيها كبرا، و أنها لتؤذيني بلسانها، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اتق الله، و أمسك عليك زوجك، و أحسن إليها، ثم أن زيدا طلقها، و انقضت عدتها، فأنزل الله سبحانه نكاحها على رسوله»

«1».

[40] و من هم الذين خلوا من قبل؟ هم الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ أي يؤدّونها إلى الناس كاملة، و باعتبار أن كل حكم رسالة، سميت الشريعة رسالات وَ يَخْشَوْنَهُ سبحانه، فيما أمر و نهى وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي لا يتركون حكما من أحكام الله خشية أحد، فإنهم لا يخشون إلا الله وحده، نعم من الممكن، أن يخشون الناس في أمر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 218.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 341

[سورة الأحزاب (33): الآيات 40 الى 41]

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ

شَيْ ءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41)

آخر، كما قال (وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) «1» وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي حافظا لأعمال خلقه، و محاسبا و مجازيا عليها.

[41] و لما تزوج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زينب، جعلت الألسنة المنافقة تلوك، بأن الرسول تزوج زوجة ابنه، فقال سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ فهو ليس أبا لزيد حتى يكون التزويج بزوجته تزويجا بزوجة الابن، و في الآية أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليس أبا لرجالهم- و زيد من رجالهم- و ليس فيها أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس أبا لأحد، فإن القاسم و الطيب و الطاهر، و إبراهيم، كانوا أبناءه الصلبيين، و الإمامين الحسن و الحسين عليهما السّلام، كانوا أبناءه بواسطة سيدة نساء العالمين وَ لكِنْ كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَسُولَ اللَّهِ فينفّذ ما أمره الله سبحانه وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم، قد ختمت به النبوة، و لذا يلزم عليه أن يبطل كل ما يخالف الصلاح العام، و ليس كالأنبياء الذين تقدموا، إن لم يمكن لهم إبطال أمر، جاء بعدهم نبي أخر ليبطله، و لذا كانت شرائعهم تتناسخ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً لا يخفى عليه المصالح و المفاسد، فلذا يأمر بالصالح، و لا يخفى عليه قول المنافقين في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[42] و يأتي السياق بعد ذلك يربط القلوب بالله سبحانه، حتى لا يتحرجوا من حكم يفرضه مهما كان خلاف المألوف لديهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ

______________________________

(1) الأنفال: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 342

[سورة الأحزاب

(33): الآيات 42 الى 44]

وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)

هو تذكرة عند الأعمال، حتى لا يزيغ الإنسان في قول، أو عمل، أو نيّة، ذِكْراً كَثِيراً في مختلف أحوالكم و شؤونكم.

[43] وَ سَبِّحُوهُ و التسبيح هو التنزيه له سبحانه لفظا أو قلبا أو عملا بُكْرَةً صباحا وَ أَصِيلًا عصرا، و لعل ذلك كناية عن دوام التسبيح و استمراره.

[44] إن الله سبحانه يلطف بكم و يهديكم السبيل، فمن اللازم أن تقابلوه بالمثل، تذكروه و تسبحوه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ و الصلاة في اللغة العطف و الميل، كما قال الشاعر «صلّى على جسم الحسين سيوفهم» و من المعلوم، أن صلاته سبحانه، الرحمة بالناس، و المغفرة لهم وَ مَلائِكَتُهُ أي تصلي ملائكته عليكم- و لا يكون ذلك إلا بإذنه- فالفضل يعود إليه تعالى أيضا، و صلاة الملائكة عطفهم نحو البشر بطلب المغفرة و الرحمة لهم و حفظهم عن الأخطار، بقدر ما يأذن الله لهم لِيُخْرِجَكُمْ الله، أيها المؤمنون مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن دروب الحياة مظلمة لا يراها الإنسان حتى يسير فيها بسلام، و إنما يقع في المشاكل و الاضطرابات كالإنسان الذي يسير في الظلمة يقع في الحفيرة، و يصطدم بالجدران، و صلاته سبحانه، و صلاة ملائكته، توجب إنارة الطريق، لأنه يرحم و برحمته يحفظ الإنسان من الزلّة وَ كانَ الله بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً يرحمهم و يلطف بهم.

[45] هذا للمؤمنين في الدنيا أما تَحِيَّتُهُمْ إذ يحييهم الله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 343

[سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 47]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا

أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47)

يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاءه و ثوابه، فهو سَلامٌ لفظي إذ يسلم الملائكة عليهم، و يبعث الله من يقول للمؤمن، إن ربك يقرؤك السلام، و معنوي فإن لهم السلامة من جميع الآفات و الأخطاء، إلى الأبد وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي ثوابا جزيلا يكرمهم.

[46] ثم يخاطب القرآن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلطف به في مقابل ذلك العمل الشاق الذي قام به من زواج زينب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ على الناس شاهِداً تشهد عليهم، ماذا صنعوا، و ماذا يصنعون؟ فإن الإنسان المعتدل يمكن أن يكون شاهدا، لا الإنسان المنحرف وَ مُبَشِّراً بالجنة و الثواب، لمن آمن و أطاع وَ نَذِيراً بالنار و العقاب لمن كفر أو عصى.

[47] وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ فأنت تدعو إلى الإذعان بالله، و إطاعته بِإِذْنِهِ فإن كل عمل يرتبط به سبحانه يحتاج إلى إذنه، حتى الدعوة إليه وَ سِراجاً أي مصباحا مُنِيراً يهتدى بك في الحياة، كما يهتدى بالمصباح في ظلمة الليل.

[48] وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُؤْمِنِينَ الذين آمنوا و أطاعوا بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فإنه يتفضل عليهم بفضل عظيم، هو إعطائهم خير الدنيا و سعادة الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 344

[سورة الأحزاب (33): الآيات 48 الى 49]

وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ

سَراحاً جَمِيلاً (49)

[49] وَ لا تُطِعِ يا رسول الله الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ بأن تسمع بعض كلامهم- الذي يزعمون أنه في صالحك، أو صالح المؤمنين- وَ دَعْ أَذاهُمْ أي اترك أن تؤذيهم فيما يفعلون ضدك، فإن كيدهم ضعيف يضمحل، أو المراد لا تعتن بأذيتهم لك، فإن أذاهم لا يضرك، فلا ينبغي أن تعير له أهمية، و لا يخفى أن هذا غير القتال، فإن ذلك بالنسبة إلى الأمور العادية، كالبذى ء من القول، لا بالنسبة إلى المناهج و الخطوط و الأنظمة وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ اجعله وكيلك في الأمور يجلب إليك الخير، و يدافع عنك الضر و الشر وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كافيا و متكفلا و حافظا، و حيث أن الأصل «اكتف» جاء الباء في فاعل «كفى».

[50] و بمناسبة قصة نكاح زينب و طلاق زيد لها، يأتي السياق ليبين بعض أحكام الطلاق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أي زوجتموهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أي من قبل الدخول بهن، فإن المس كناية عن ذلك، لا إنه بمعنى الإحساس فَما لَكُمْ أيها المؤمنون عَلَيْهِنَ أي على تلك المطلقات مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أي تستوفونها بالعدد، فإذا طلقت المرأة قبل الدخول جاز لها أن تتزوج من ساعتها، لعدم وجود حكمة العدة فيها، فإن الحكمة- كما ذكروا-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 345

[سورة الأحزاب (33): آية 50]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا

ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)

استبراء رحمها- و إن كان هذا حكمة، لا علة تامة- فَمَتِّعُوهُنَ بما لهن عليكم من الحقوق الواجبة و المستحبة، و منها إعطائها المتعة، فيما إذا لم يفرض لها فريضة، و

قد ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام، أنه قال في هذه الآية «فَمَتِّعُوهُنَّ» أي جملوهنّ بما قدرتم عليه من معروف، فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة، و همّ عظيم و شماتة من أعدائهن، فإن الله كريم يستحي «أي يفعل فعل المستحي» و يحب أهل الحياء، إن أكرمكم، أشدكم إكراما لحلائله»

«1» وَ سَرِّحُوهُنَ أي أطلقوهن و أخرجوهن من حبالتكم بعد الطلاق سَراحاً جَمِيلًا بلا إيذاء، و ذكر معايب و إهانة و منع حق- مما يعتاده الجهّال- و قد ذكروا، إن رجلا أراد طلاق زوجته، فقيل له: لماذا، قال: هي زوجتي و إن الرجل لا يذكر معايب زوجته، ثم طلقها، فقيل له: الآن، قل ما كان فيها من العيب، فقد خرجت عن زوجيتك، فقال: هي أجنبية، و إن الرجل لا يذكر معايب النساء الأجنبيات.

[51] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي جمع التي آتَيْتَ أي أعطيت أُجُورَهُنَ أي مهورهن، فإن المهر أجر على البضع، و لقد كان الرسول أعطى نساءه الموجودات عنده وقت نزول الآية، مهورهن، فليس القيد احترازيا، بل توضيحيا، و الآية، في مقام بيان النساء المحللات للرسول، فالمعنى أنه يحل لك طوائف من النساء، هؤلاء النسوة، الموجودات عندك و الوصيفات، و بنات العم و العمة،

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3 ص 506.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 346

و بنات الخال و الخالة، و المرأة التي تهب

نفسها للنبي، ثم بيّن سبحانه أن للرسول الخيار في حفظ بعض زوجاته، و طلاقها، كما بيّن سبحانه، أن لا يحل له أن يأخذ فوق هذا العدد الموجود عنده من سائر النساء، أو تبدل بعضا ببعض، بأن تطلق من زوجاته، ليأخذ مكانها امرأة أخرى، و قد خصه الله سبحانه بجواز التسع، حين كف عنده، و نزلت آية (مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ) «1» فتفضل الله سبحانه بإحلاله للرسول، إبقاء جميع النسوة وَ أحللنا لك ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أي الأمة، و إنما سميت ملك اليمين، لأن اليد اليمنى هي أكثر الأعضاء اكتسابا، فيكون الثمن عليها و الملك لها- مجازا- مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ أي أعطاك الله من الغنيمة و الأنفال، و سمي فيئا لأنه يرجع إلى صاحبه الأصلي، و هو الرسول، و كأن المال في يد الكفار مغصوب، فإذا رجع بأمر الله إلى المؤمنين كان فيئا و رجوعا إلى أصحابه الأصليين، و قد كانت زوجة النبي، مما ملكت يمينه مارية القبطية أم إبراهيم وَ بَناتِ عَمِّكَ و المراد مطلق الأعمام وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ و الاختلاف بين العم و العمة بالإفراد و الجمع للتفنن في الكلام، الذي هو من أبواب البلاغة وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ في اختلاف اللفظين ما تقدم اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قال في المجمع: «إن المراد ببنات العمة، نساء قريش، و ببنات الخالة نساء بني زهرة» «2»، و لعل التخصيص بهؤلاء النسوة،

______________________________

(1) النساء: 4.

(2) مجمع البيان: ج 8 ص 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 347

لعدم وجود غيرهن عند الهجرة، حتى تحل، كما إن تخصيصهن يهاجرن معك، لإفادة تحريم غير المهاجرات- و لم يعلم أن الحكم نسخ بعد ذلك- وَ أحللنا لك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً

إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ بأن قالت، وهبت نفسي لك يا رسول اللّه، فإنه يجوز له نكاحها، و الحلية بلفظ الهبة، تخلص إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ يا رسول الله مِنْ دُونِ سائر الْمُؤْمِنِينَ فلا يحل لهم النساء، بلفظ الهبة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أمر أَزْواجِهِمْ فإن المفروض للمؤمنين أن لا يتزوجوا فوق الأربع، و لا أن ينكحوا بلفظ الهبة، تمشيا مع نظام الصالح العام، أما الرسول فقد استثنى له بعض الأحكام لظروف خاصة، أحاطت به، كما أنه وجب عليه أمور لتلك الظروف أيضا وَ قد علمنا ما فرضنا في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ حيث أبحنا لك الصفوة من الغنائم، إذا كانت جارية، و لم تبحها للمؤمنين، و معنى قد علمنا، أن هذا الحكم ليس اعتباطا، و إنما صادر عن علم و حكمة بالمصالح و المفاسد العامة و الخاصة، ثم بيّن ذلك بقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و ضيق في أمر الأزواج، فإن الرسول أكثر شغلا من أن يحرج عليه بعض الأمور الخاصة، كما أنه يقع في ضيق، إن أمر بطلاق، أو فك بعض نسائه التسع وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 348

خالف الأوامر، ثم تاب، كما وقع العصيان من بعض الأزواج، في قصة غنائم خيبر رَحِيماً يتفضل بالرحم و النعمة على رسوله و المؤمنين،

روى عن الإمام الباقر عليه السّلام، أنه قال جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو في منزل حفصة، و المرأة متلبسة متمشطة فدخلت على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: يا رسول الله، إن المرأة لا تخطب الزوج، و أنا

امرأة لا زوج لي منذ دهر، و لا ولد، فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك، إن قبلتني، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خيرا، و دعا لها، ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا، فقد نصرني رجالكم، و رغبت فيّ نساؤكم، فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال؟

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كفي عنها يا حفصة، فإنها خير منك، رغبت في رسول الله، فلمتيها و عبتيها، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمرأة: انصرفي رحمك الله، فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك فيّ، و تعرضك لمحبتي و سروري، و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل، (وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً)

«1» «2»، و

عن الصادق عليه السّلام، قال «تزوج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخمسة عشر امرأة، و دخل بثلاثة عشر منهن، و قبض عن تسع، فأما اللتان لم يدخل بهما، ف «عمرة» و «السناة» و أما الثلاثة عشر اللواتي دخل فيهن، فأولهن «خديجة» بنت خويلد، ثم «سودة» بنت زمعة، ثم «أم سلمة» و اسمها هند بنت أبي أمية، ثم «أم عبد الله» ثم «عائشة» بنت أبي بكر، ثم «حفصة» بنت عمر، ثم «زينب» بنت خزيمة بن

______________________________

(1) الأحزاب: 51.

(2) الكافي: ج 5 ص 568. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 349

[سورة الأحزاب (33): آية 51]

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)

الحارث أم المساكين، ثم «زينب» بنت جحش، ثم «أم حبيب» أرملة بنت أبي سفيان، ثم «ميمونة» بنت الحارث، ثم «زينب» بنت عميس، ثم «جويرية» بنت الحارث، ثم «صفية» بنت حيّ بن أخطب، و التي وهبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و «خويلة» بنت حكيم السلمي، و كان له سريّتان يقسم لهما مع أزواجه «مارية القبطية» و «ريحانة الخندقية»، و التسع اللواتي قبض عنهن، عائشة، و حفصة، و أم سلمة، و زينب بنت جحش، و ميمونة بنت الحارث، و أم حبيب بنت أبي سفيان، و صفية، و جويرية، و سودة، و أفضلهن خديجة بنت خويلد، ثم أم سلمة، ثم ميمونة»

«1».

[52] تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ الإرجاء، هو التأخير، و المراد تبعد عن نفسك من تشاء من أزواجك وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي تجعل لها الإيواء، بأن تقربها إلى نفسك، قالوا: «و قد نزلت هذه الآية، إثر إعراض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنهن لما طالبن بغنائم خيبر، و أغلظن له في القول، فقد خيره الله سبحانه، بين الابتعاد عن بعضهن و الاقتراب منهن» «2» وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن- حسب اختيارك- و تضمها إليك فلا جناح عليك في ذلك ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك في الإرجاء و الإيواء أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ أي يفرحن، فإن من فرح، قرت عينه،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 20 ص 244.

(2) راجع مستدرك الوسائل: ج 15 ص 310.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 399

[سورة الأحزاب (33):

آية 52]

لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52)

و لم تضطرب هنا و هناك، ليجد ملجأ و مستقرا وَ لا يَحْزَنَ تأكيد لتقر أعينهن وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ أي بالحكم الذي ساويت فيه جميعهن، لأنك إن رجحت بعضا على بعض، كان ذلك مثار سخط المرجوحة، أما إذا سويت بينهن كلهن، في ذلك، و علمن أنك تنظر إليهن بنظرة واحدة رضين جميعهن وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب عام، لكنه يراد به هنا الرسول و أزواجه، إذا وقع بينهما غضاضة، يوسوس الشيطان في قلوبهن وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلوبكم، لأنه يعلم كل شي ء حَلِيماً يحلم عنكم فيما تنوون و تعملون مما لا يرضاه.

[53] لا يَحِلُّ لَكَ يا رسول الله النِّساءُ مِنْ بَعْدُ هذه الأصناف المذكورة في الآيات المتقدمة وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَ أي بهذه النساء مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق بعضهن، و تأخذ مكانها امرأة أخرى- كما هو ظاهر السياق، و قاله المفسرون- و وردت في بعض الروايات أن المراد أن يأخذ مما حرمته الآية في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) «1» «2» و على هذا فالمراد تبديل نوع المحلل بنوع المحرم، لا تبديل الشخص بشخص آخر، و هناك قول آخر ذكره جوامع الجامع، قال: قيل أن

______________________________

(1) النساء: 24.

(2) مستدرك الوسائل: ج 14 ص 361.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 351

[سورة الأحزاب (33): آية 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا

مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)

التبدل المحرم، هو ما كان يفعل في الجاهلية، يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك، و أبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه، و

يحكى «أن عيينة بن حصين، دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عيينة أين الاستئذان؟

قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت، ثم قال:

من هذه الجميلة إلى جنبك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه عائشة بنت أبي بكر «و لعله قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك خوفا، من أن يظن به الظنون» قال عيينة: أ فلا أنزل لك من أحسن الخلق، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد حرم ذلك، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ فقال أحمق مطاع، و إنه على ما ترين لسيد قومه»

«1»! وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ بأن توصف المرأة للرسول، فتقع في قلبه لما وصف له من حسنها، و هذا ليس غريبا، فقد جرت العادة أن الآباء، أو من إليهم، يصفون بناتهم أمام العظماء للمشاورة في أمر نكاحهن، أو نحو ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ بأن كانت أمة، فإنها تحل لك، و لعل إتيان هذه الجملة، مع أنها كانت مذكورة سابقا، لئلا يتوهم،

أن «لا يحل لك النساء» قد نسخ ذلك الحكم السابق وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً مراقبا محافظا، فمن خالف له أمرا عاقبه و جازاه بما عمل.

[54] و بمناسبة ذكر الرسول، و بعض أحكامه العائلية، يأتي السياق ليبين بعض الأحكام الخاصة به، و إن كان ذلك أدبا عاما بالنسبة إلى سائر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 238.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 352

الناس يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ و لعل هذا كان بمناسبة دخول عيينة دار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدون الاستئذان، و على أي، فدخول دار الرسول بحاجة إلى أن يأذن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكم إِلى طَعامٍ أي دخولا لطعام أضافكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ يقال أنى الطعام يأني إذا بلغ النضج في الطبخ، أي غير منتظرين نضجه و طبخه، و المعنى لا تدخلوا بيت الرسول بغير إذن و قبل نضج الطعام انتظارا لنضجه، فيطول لبثكم و مقامكم عنده وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا في وقت الدعوة، لا قبل الوقت، كأن يذهبوا من الصباح انتظارا لطعام الظهر فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا أي اخرجوا و تفرقوا، فلا تبقوا بعد الطعام في البيت اعتباطا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عطف على «غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» أي في حال كونكم لا تبقون بعد الطعام تحدثون ليؤنس بعضكم بعضا بحديثه إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما نهى عنه في هذه الآية، من الدخول بغير استئذان، أو الإسراع في الذهاب قبل نضج الطعام، و الجلوس بعد ذلك متحدثين، و «كم» للخطاب كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ لأن

له أعمالا تنافي جلوسكم فيتأذى بجلوسكم، كما يتأذى بدخولكم داره بدون الإذن فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ في أن يجابهكم بالإخراج، أو الزجر و النهي وَ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 353

لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ أي أنه سبحانه لا يترك إظهار الحق حياء،

نقل في المجمع في سبب نزول الآية: «أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى بزينب بنت جحش و أولم عليها، قال أنس: أو لم عليها بتمر و سويق، و ذبح شاتا، و بعث إلى أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أن أدعوا أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون و يأكلون و يخرجون، ثم يأتي القوم، فيأكلون و يخرجون، قلت: يا نبي الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال ارفعوا طعامكم، فرفعوا طعامهم، و خرج القوم و بقي ثلاث نفر يتحدثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قمت معه لكي يخرجوا، فمشى حتى بلغ حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع و رجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فنزلت الآية»

«1». أقول: و إن كانت الآية خاصة، إلا أنها عامة المفاد، إذ ما اشتملت عليه أدب رفيع، بالنسبة إلى عدم الدخول بلا استئذان، و عدم الدخول قبل الوقت، و عدم المكث بعد الطعام، و لذا قال بعض العلماء: هذا أدب أدّب الله به الثقلاء وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ أي سألتم نساء النبي مَتاعاً أي شيئا تحتاجون إليه فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يكون فاصلا بين الرجل، و بين المرأة المسؤولة، و هذه الآية تفيد وجوب الحجاب، لعدم الخصوصية لنساء النبي

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدم الخصوصية في سؤال المتاع ذلِكُمْ أي السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ إذ الرؤية مثار الخواطر الشيطانية

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 173.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 354

[سورة الأحزاب (33): آية 54]

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54)

و الوساوس النفسية، و المراد الطهارة من الريبة و الشك و الوسوسة وَ ما كانَ لَكُمْ ايها المسلمون أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي لا يحق لكم أذاه بمخالفته أوامره، أو قصد سوء بالنسبة إلى نسائه بعد وفاته، و هذا توطئة و تمهيد لقوله تعالى وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ أي زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ بَعْدِهِ أي بعد وفاته أَبَداً إلى آخر العمر، فلسن كسائر النساء، إذا انقضت العدة جاز نكاحهن إِنَّ ذلِكُمْ أي الإيذاء و نكاح الأزواج بعد وفاته كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً في الإثم و العصيان،

فقد ورد أنه لما نزل قوله تعالى (وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) «1» غضب طلحة، فقال يحرم محمد علينا نساءه، و يتزوج هو بنسائنا، لئن أمات الله محمدا لنركضن- أي نتحركن- بين خلاخيل نسائه، كما ركض بين خلاخيل نسائنا، فأنزل الله عز و جل «وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ».

[55] إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا أيها المسلمون شَيْئاً من هذه المنهيات على لسانكم، بأن تقولوا نتزوج نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَوْ تُخْفُوهُ بأن تقصدوه في صدوركم بدون إظهار فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً يعلم ظواهركم و بواطنكم، و سيجازيكم على ما اقترفتم من الآثام، و قد

______________________________

(1) الأحزاب: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 355

[سورة

الأحزاب (33): آية 55]

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

روي أن حكم تحريم زوجات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جرى بعده فيمن لم يمسها الرسول، و لم يدخل بها.

[56] و لما نزل قوله تعالى، «إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» قال الآباء و الأبناء و الأقارب، و نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب- يا رسول الله؟- فأنزل الله سبحانه لا جُناحَ عَلَيْهِنَ أي لا حرج على نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فِي عدم التستر من آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَ و يشملان الأجداد و الأحفاد وَ لا إِخْوانِهِنَ و لعله أعم من الأعمام و الأخوال، لأنهم إخوان الآباء و الأمهات وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ فلا بأس لهن أن يراهن هؤلاء الرجال، فيما تعارف رؤيته وَ لا نِسائِهِنَ أي النساء المؤمنات، في قبال اليهودية و النصرانية، و المجوسية، و المشركة، فقد قالوا أنه لا يجوز التكشف لديهن، لأنهن يصفن لأزواجهن وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أي الوصائف المملوكات لهن، و إن كن غير مسلمات، فإنهن تحت السيطرة، و لا مجال لهن لينقلن للكفار محاسن نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اتَّقِينَ يا نساء النبي اللَّهَ بترك معاصيه، و الإتيان بطاعته إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً أي شاهد لا يغيب عنه شي ء، فمن أطاع أو عصى علم بما فعل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 356

[سورة الأحزاب (33): الآيات 56

الى 57]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57)

[57] و لما كان الكلام حول تعظيم النبي و توقيره، و بعض أحكامه يأتي السياق ليبين تعظيم الله سبحانه له و الذي هو فوق كل تعظيم إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ و الصلاة بمعنى العطف و اللطف، و من المعلوم أن صلاة الله على الرسول، رحمته و لطفه به، كما أن صلاة الملائكة عطفها و طلب رحمتها من الله له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ باللفظ و العمل وَ سَلِّمُوا عليه تَسْلِيماً بلفظ السلام، و التسليم لأوامره،

سئل الكاظم عليه السّلام، ما معنى صلاة الله، و صلاة ملائكته، و صلاة المؤمن؟ قال: «صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له»

«1»، و

سئل الصادق عليه السّلام كيف نصلي على محمد و آله؟ قال: «تقولون صلوات الله و صلوات ملائكته و أنبيائه و رسله و جميع خلقه على محمد و آل محمد و السلام عليه و رحمة الله و بركاته»

«2»، أقول: و الظاهر كفاية الصيغ المعهودة اللهم صل على محمد و آل محمد و سلم عليهم أو صلّى الله عليه و آله و سلّم، أو الصلاة و السلام عليك يا رسول الله، و على آلك الطاهرين، و أمثالها.

[58] الناس مأمورون بالصلاة و السلام على الرسول، فما هو حال من يؤذي الرسول؟ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ بترك أوامره، و السعي في إطفاء نوره، و هدم أحكامه، و إيذاء أوليائه، فإن الله سبحانه منزه

عن أن

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 451.

(2) وسائل الشيعة: ج 7 ص 196.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 357

[سورة الأحزاب (33): آية 58]

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58)

يؤذى و لكن هذا من باب التشبيه وَ رَسُولَهُ و أذية الرسول، إما في جهة التشريع، كما لو سعى شخص في إبطال أحكام الرسول، و إما في جهته الشخصية كما يؤذي بعض الناس بعضا لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ بأن بعّدهم عن الخير، و عذّبهم؛ أما في الدنيا فإنه (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و أما في الآخرة، فإنه سبحانه يظهر لعنهم و البراءة منهم وَ أَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً مُهِيناً يهينه و يذله عوض ما كان يؤذي، و

قد ورد في علي و فاطمة عليهما السّلام «إن من آذاهما فقد آذى الرسول، و من آذى الرسول، فقد آذى الله»

«2».

[59] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ باعتبار كل واحد، كما قالوا في البلاغة: إذا قيل باع القوم أمتعتهم بالقوم أريد به أن كل واحد باع متاعه بواحد منهم، و الأذية أعم من اللسانية و العملية بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي من غير أن يعمل المؤمنون و المؤمنات عملا يستحقون به الأذى، كما لو عملوا ما يستحق الجلد، أو الاغتياب، أو الإرداع فَقَدِ احْتَمَلُوا أي الذين يؤذون بُهْتاناً البهتان هو الكذب على الغير، و لعل تسمية الإيذاء بهتانا باعتبار، أن الإيذاء يظهر منه

______________________________

(1) طه: 125.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 17 ص 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 358

[سورة الأحزاب (33): آية 59]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ

مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)

الاستحقاق لمن يؤذي، و الحال أنه غير مستحق وَ إِثْماً مُبِيناً أي عصيانا ظاهرا، و من هذا يظهر أنه كان في المدينة من يفعل ذلك بالنسبة إلى المؤمنين، و هذا غالبا في كل أمة نامية، فإن هناك أفراد يتولون أذاهم منهم و من غيرهم.

[60] و بمناسبة تقدم الحديث عن النساء و التنصيص على حجاب زوجات الرسول في قوله «وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» يأتي السياق لنص عام على وجوب التحجب على كل امرأة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ أي نسائك وَ بَناتِكَ فقد كانت للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة عليها السّلام و لعل بعض بناته الأخر، كانت في الحياة وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ جمع جلباب، و هو ما كانت المرأة تجعل على رأسها، فقد أمرن، بأن يقرّبن الجلبات نحو أنفسهن، و هو الوجه و الرقبة و الصدر، فإن الجلباب، يدنى من هذه المواضع ذلِكَ الإدناء للجلباب ليكون لهن زيّ خاص أَدْنى أي أقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ بأنهن عفائف نجيبات فَلا يُؤْذَيْنَ فإن عادة الفساق، دائما، حتى في زماننا هذا أن يتعرضوا إلى المرأة المتبذلة بظهور وجهها و شعرها، أما إذا كانت متسترة عرفت بالستر و النجابة، و لم يتعرض لها الفساق وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ما يصدر منهن، بدون تعهد و قصد، فإن المرأة مهما كانت محجبة، لا بد و أن يظهر بعض مفاتنها في نادر الأوقات رَحِيماً يتفضل بالرحمة- فوق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 359

[سورة الأحزاب (33): آية 60]

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ

الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)

الغفران- على المطيعات، و إنما قال «من جلابيبهن» لأن المرأة ترخي بعض جلبابها، أقول: قد ذكر بعض المفسرين كلاما حول كون الآية، إنما هي بالنسبة إلى الحرائر، لا الإماء، لكن إطلاقها، و حكمة الإسلام في الحجاب، بأن لا تمازح المرأة مهما كانت، ينفيان هذا التفصيل الذي لم يعلم وجهه، ثم أن الظاهر من الآيات و الروايات، لزوم الحجاب بستر الوجه، و قد كانت سيرة المسلمات، منذ زمانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على هذا، و لذا استثنى وجه المرأة حالة الإحرام، إلى غير ذلك من الشواهد، حتى جاء الغربيون و انهزم أمامهم بعض المسلمين الأغراء، فقالوا: بأن الحجاب موجب لخنق المرأة، و عدم ازدهار الحياة، كل ذلك لإشباع الشهوات الدنيوية، و هناك وجدوا عملاء ينفذون الأوامر بالحديد و النار، حتى وقعت المرأة المسلمة ضحية هذه الأهواء، و لم تنج من هذه الكوارث، إلا زمرة قليلة من الصالحات، و الله غالب على أمره.

[61] ثم هدد سبحانه الذين يؤذون الرسول و المؤمنين، و الذين كانوا يتعرضون للمؤمنات بأنهم إن لم يتركوا أعمالهم، أمر الرسول بتأديبهم لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ أي لئن لم يمتنع المنافقون عن الإيذاء و التعرض وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و هو ضعف إيمان، يسبب أن يخالف بعض الأوامر، و إن لم يكن منافقا، فمثلا قد يكون الشخص يشرب الخمر، لأنه منافق، لا يعتقد بالرسول إطلاقا، و قد يكون معتقدا بالرسول، لكنه يجد الشرب، فيشرب لا النفاق، بل لعدم مبالاة وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ يقال أرجف إذا دبّر المكائد، و نشر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 360

[سورة الأحزاب (33): الآيات 61

الى 62]

مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

الأكاذيب، لأنه يوجب بعمله تزلزل الناس و رجفهم، و المرجف يمكن أن يكون غير الأولين، باعتبار أنه يحب نشر الأخبار، و تتبع الآثار، كما يشاهد الإنسان في كل مجتمع هذه الألوان الثلاثة من الناس لَنُغْرِيَنَّكَ يا رسول الله بِهِمْ و الإغراء تسليط الشخص على غيره ليؤذيه و يهينه و يعاقبه، يقال أغرت الحكومة الشرطة على فلان و بفلان، إذا أمرتهم بمعاقبته و مطاردته، و المراد نسلطك يا رسول الله عليهم، و نأذن لك في عقابهم ثُمَ إذا أغريناك بهم، لم يطيقوا العقاب، و صاروا مضطرين للهروب من المدينة لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي لا يبقون بجوارك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا قليلا.

[62] ثم بيّن بعض أنواع الإغراء بقوله مَلْعُونِينَ أي في حال كونهم يلعنون و يطردون أَيْنَما ثُقِفُوا أي في كل مكان وجدوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا فلا يبقى أحد منهم سالما من الطرد و القتل، و الإتيان بباب التفصيل- الدال على التكثير- باعتبار قتلهم جميعا، و إبادتهم كل فرد فرد.

[63] سُنَّةَ اللَّهِ منصوب على المصدر أي سن الله ذلك سنة، و المراد أن أخذ المنافقين المرجفين و أمثالهم من سنن الله و طرائقه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي مضوا سابقا فقد كان سبحانه يأمر الأنبياء بمطاردة المنافقين و المرجفين وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فإنه سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 361

[سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 65]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ

لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65)

يسنّ الطريقة الصالحة للناس، و يستمر عليها فلا يغيرها، و لا يبدلها.

[64] و إذ بيّن سبحانه، ما أعد للكافرين و المنافقين، الذين يؤذون الله و رسوله و المؤمنين في الدنيا من اللعنة و الطرد و القتل، عطف السياق، نحو ما أعدّ لهم في الآخرة، مع ذكر ما يرتبط بذلك من وقت القيامة، فإنها لما كانت بعيدة عن الأذهان، كانوا يكثرون السؤال عنها، فقال سبحانه يَسْئَلُكَ يا رسول الله النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة؟

قُلْ يا رسول الله لهم إِنَّما عِلْمُها أي العلم بوقت وقوعها عِنْدَ اللَّهِ سبحانه، فهو وحده يعلم وقتها وَ ما يُدْرِيكَ أيّ شي ء يدريك و يعلمك يا رسول الله عن وقت قيامها، و هذا كناية عن أنك لا تدري لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً فإن الشي ء المجهول وقته يحتمل قربه و بعده، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما هو تهديد للكفار.

[65] إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ أي بعدهم عن الخير، فإن اللعن بمعنى الطرد، و التبعيد عن الخير وَ أَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة سَعِيراً نارا تسعر و تلتهب.

[66] في حال كونهم خالِدِينَ فِيها أي في النار، فلا يزولون عنها، و لا تزول عنهم أَبَداً دائم الزمان لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يلي أمورهم حتى يخلّصهم من النار وَ لا نَصِيراً ينصرهم على الله سبحانه و على عذابه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 362

[سورة الأحزاب (33): الآيات 66 الى 68]

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ

ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)

[67] ذلك الإعداد و الخلود إنما هو، في يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ التقليب، تصريف الشي ء في الجهات، فإن أهل النار ينقلون وجوههم في الجهات الست، تخلصا من الحرّ و تطلبا للنجاة، كالذي يقع في مشكلة كيف يقلب وجهه هنا و هناك ليجد ملاذا و معاذا يَقُولُونَ بتأسف و تمني يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا حتى لا نبتلي بهذا العذاب المقيم.

[68] وَ قالُوا أي الأتباع الذين اتبعوا رؤساءهم الكافرين، يا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا في الكفر و العصيان سادَتَنا جمع سيد، و هو كبير القوم وَ كُبَراءَنا جمع كبير، و كأن السيّد أجلّ قدرا من الكبير، أو المراد بالكبير، الأكبر سنا، و بالسيد الأعلى رتبة فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي حرّفوا بنا عن الطريق.

[69] رَبَّنا آتِهِمْ أي اجعل لهم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي نصيبين نصيبا لضلالهم، و نصيبا لإضلالهم إيانا، و هم يريدون بذلك الانتقام منهم، حيث أوقعوهم في هذه المشكلة العظيمة وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي اطردهم من رحمتك طردا كبيرا حتى يبتعدوا عن رضاك بعدا زائدا، و هذا بالنسبة إلى العذاب الروحي، و الأول بالنسبة إلى العذاب الجسمي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 363

[سورة الأحزاب (33): الآيات 69 الى 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)

[70] و حيث تقدم أذى بعض المسلمين للرسول كما قال سبحانه «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ» صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم عطف السياق عليهم ناهيا و مؤدّبا في مثال و قصة عن الأمم السابقة، ليكون أدخل في الذهن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في إيذائكم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى النبي عليه السّلام فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أظهر الله براءته عليه السّلام، مما قال فيه بنو إسرائيل على وجه الإيذاء له وَ كانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي ذا جاه و عظمة، فلم يكن يتركه نهب أذى بني إسرائيل،

فقد ورد عن علي عليه السّلام «أن موسى و هارون صعدا الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل أنت قتلته، فأمر الله الملائكة فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل، و تكلمت الملائكة بموته، حتى عرفوا أنه قد مات، و برأه الله من ذلك»

«1».

[71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه، و امتثلوا أوامره و نواهيه وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي تكلموا بالصواب، لا بالإيذاء، و الإفساد.

[72] فإنكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ لَكُمْ الله أَعْمالَكُمْ باللطف عليكم حتى تستقيموا، فإن الإنسان إذا واظب مدة على الطاعة، و ضبط النفس، استقامت أعماله عن الانحراف و الزيغ و الفساد وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 364

[سورة الأحزاب (33): آية 72]

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)

السابقة، فإن الحسنات يذهبن السيئات وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمران به و ينهيان عنه فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً أي أفلح أعظم أقسام الفلاح، فإنه يفوز بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[73] إن الإيمان

أمانة في عنق الإنسان، يجب عليه أن يردّ هذه الأمانة سالمة، بلا أن يشوبها، بخيانة الكفر و العصيان، و لقد كانت هذه الأمانة ثقيلة، بحيث أن أضخم المخلوقات لا تتحمل أن تقبلها، أما الإنسان الضعيف، فقد قبلها، لكنه يخون بها لظلمه و جهله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أمانة الإيمان عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ ليقبلوها، بأن توضع عندها أمانة الإيمان فيتحفظون عليها فَأَبَيْنَ هذه الأشياء و امتنعن أَنْ يَحْمِلْنَها أي يحملن الأمانة و يقبلنها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن إن قبلوا الأمانة أن يخونوا فيها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ قبلها لما عرضت عليه لكنه هل يؤدي الأمانة كما قبل؟ كلا إِنَّهُ أي أن الإنسان كانَ ظَلُوماً كثير الظلم جَهُولًا كثير الجهل، فتارة يخون فيها لجهله، و أخرى يخون فيها لعصيانه، و هذه الآية كناية عن صعوبة التحفظ على الإيمان، فقد اعتاد البلغاء أن يشبهوا الأشياء المعنوية بالأمور الحسية، للتقريب من الذهن،

قالت فاطمة عليها السّلام

صبت عليّ مصائب لو أنها* صبت على الأيام صرن لياليا

«1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 79 ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 365

[سورة الأحزاب (33): آية 73]

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

و قال الشاعر:

و لو أن ما بي من شديد رزيةعلى جبل قد ساخ في الأرض ذاهبا

و قال:

لو كان في الجبل الأصم سروره رقصت له أحجاره البرش

و يحتمل بعيدا أن يكون الكلام على الحقيقة- لا المجاز- بأن عرضت الأمانة على هذه الأشياء، هل يقبلنها؟ فأبين، قال في الصافي: المراد بالأمانة التكليف، و بعرضها عليهن النظر إلى استعدادهن و بإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة و

الاستعداد، و بحمل الإنسان قابليته و استعداده لها و كونه ظلوما جهولا، لما غلب عليه من القوة الغضبية و الشهوية، و هو وصف للجنس باعتبار الأغلب «1»، أقول: و على هذا المعنى، فما ورد في الأحاديث من كونها ولاية علي عليه السّلام، أو نحوها، فالمراد بيان بعض المصاديق.

[74] و إنما عرض سبحانه على الإنسان ليقبلها- فإن حمل الإنسان لها- لم يكن إلا بعد العرض و القبول، و ليجري الامتحان، و يصح الثواب و العقاب، كما يقول مدير المدرسة: إنما جعلت الامتحان لأرفع الناجحين و أطرد الراسبين لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ و إنما قدمهم على المشركين، لأن الكلام فيهم، حيث كانوا يؤذون

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 4 ص 206.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 366

الرسول و يرجفون وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الذين ضيعوا الأمانة بالكفر و العصيان وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ فإنهم حين كانوا كفارا- قبل الإسلام- كان الله معرضا عنهم، فإذا قبلوا الإيمان، و قاموا بشرائطه تاب الله- أي رجع سبحانه بلطفه- عليهم وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للذنوب رَحِيماً يتفضل على المؤمنين بسابغ نعمه، علاوة على غفرانه ذنوبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 367

34 سورة سبأ مكيّة/ آياتها (55)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على لفظ «سبأ» و قصة القوم الذين كانوا ساكنين فيها، و هي بلدة في يمن، و هي كسائر السور المكية- غالبا- مشتملة على أصول العقيدة، و بعض القصص التي تقوي هذا الجانب، و لما ختم الله سبحانه سورة الأحزاب بعاقبة الكافر و المؤمن، بدأ هذه السورة، بأن له تعالى، ما في الكون ابتداء و إعادة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الله سبحانه المتجمع لجميع الكمالات، فإن الله علم للذات الواجب وجوده

المتجمع لجميع الكمالات، و هذا هو سر تخصيص اسم الله بالتقديم، و الاستعانة باسمه، لا به، تعظيما و تأدبا، كأن الله سبحانه أجل من أن يستعان به، بل اللازم أن يستعان باسمه، و ذكر صفة الرحمة لأنها أكثر الصفات احتياجا، كما قال سبحانه «و لذلك- أي للرحم- خلقهم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 368

[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد له سبحانه، إذ جميع المحامد راجعة إليه الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ «له» بالخلق، و الملك و التربية، و غيرها، و المراد الظرف و المظروف، و إنما يذكر أحدهما تغليبا و اختصارا وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما له الحمد في الأولى، و المعنى أنه يستحق الحمد هنا و هناك، لما يولي عباده من الجميل في الدارين، و لذا يقول أهل الجنة «الحمد لله الذي هدانا لهذا» و «الحمد لله الذي صدقنا وعده» «1» وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها اللائقة بها تكوينا و تشريعا، فمن يصنع عبثا أو يأمر عبثا لم يكن حكيما الْخَبِيرُ العالم المطلع على الأشياء، فكل ما يعمل إنما هو عن علم و حكمة.

[3] يَعْلَمُ سبحانه ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ الولوج الدخول، أي يعلم ما يدخل في الأرض، من مطر، أو كنز أو ميت، أو حبة، أو ماء،

أو مائع، أو غيرها وَ ما يَخْرُجُ مِنْها من زرع، أو عين، أو نبات، أو جواهر، أو حيوان، أو غيرها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من مطر أو رزق، أو ملك أو شيطان، أو جسم كالنيازك أو طير، أو غيرها وَ ما يَعْرُجُ أي يصعد فِيها أي في السماء من ملك، أو شيطان، أو طير، أو عمل، أو نحوها، فإن المراد بالسماء جهة العلو وَ هُوَ الرَّحِيمُ

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 192.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 369

[سورة سبإ (34): آية 3]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)

بعباده، و سائر خلقه الْغَفُورُ يغفر ذنوبهم و يستر عيوبهم.

[4] فالكون إذن كله بيده، و رهن إشارته، و بقدرته سبحانه، جعل المعاد، كما بقدرته خلق الخلق وَ مع ذلك يرى الناس من ابتداء الخلقة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا و أنكروا البعث لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ من باب السالبة بانتفاء الموضوع، يعني لا قيامة أصلا حتى تأتينا قُلْ لهم يا رسول الله بَلى تأتيكم وَ رَبِّي أي و حق الله الذي أوجدني و خلقني لَتَأْتِيَنَّكُمْ القيامة بكل تأكيد، و ليس الحاكم هناك كالحكام هنا أناسا لا يعلمون ما صدر من المحكومين، بل الحاكم هناك عالِمِ الْغَيْبِ يعلم كل ما غاب عن الحواس، فكيف بالأشياء الظاهرة البارزة؟

لا يَعْزُبُ عَنْهُ الغروب، كالغروب لفظا و معنى، أي لا يفوته مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي ما كان في الثقل بقدر الذرة، و هي الهباءة، التي ترى إذا دخلت الشمس في مكان مظلم من كوّة

صغيرة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فإنه عالم بكل ذلك وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة وَ لا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كتاب واضح لديه سبحانه، و هذا كناية عن علمه بذلك كله مع تفنن في تعبير العلم ب- لا يغرب- مرة، و ب- في كتاب- أخرى، و المراد بالكتاب إما اللوح، أو علمه سبحانه تشبيها، أو ما يكتبه الملائكة الحفظة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 370

[سورة سبإ (34): الآيات 4 الى 6]

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

[5] و إنما تأتي الساعة، و تقوم القيامة لِيَجْزِيَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بما يستحقونه من الإيمان بالله، و العمل الصالح حسب أمره أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم، و «مغفرة» مصدر ميمي بمعنى الغفران وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ و المراد بالرزق كل نعمة ينعم الإنسان بها من جنة، و مأكل و غيرها، و المراد بالكريم كونه خاليا عن الفساد، و الأذية، أو أنه مع كرامة و تعظيم.

[6] و ليجزي الذين كفروا و عملوا السيئات بما يستحقونه من العذاب وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي عملوا بجهدهم في إبطال آياتنا و حججنا مُعاجِزِينَ في حال كونهم مريدين أن يعجزونا، فلا نتمكن من إظهار الدين و نشره في الآفاق، و إنما جي ء من باب المفاعلة، لأن كلّا من الطرفين، يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه و مرامه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ و هو العذاب

السيئ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[7] إن الكفار يرون أن القرآن باطل و أن الرسول ليس بحق، و لذا يسعون لإحباط عمله و تعجيزه عن القيام بمهمته وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطوا العلم بالله، و بالحقائق، و المراد العلماء الذين يدركون الأشياء الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مفعول «يرى» و المراد به «القرآن» مِنْ رَبِّكَ متعلق بالذي، و من تتمة المفعول الأول هُوَ الْحَقَ مفعول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 371

[سورة سبإ (34): الآيات 7 الى 8]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)

ثان، ليرى أي أنهم يرون و يعلمون، أن القرآن حق من جانب الله سبحانه، و ليس مختلفا، كما يقول الكفار وَ يرون أنه يَهْدِي و يرشد إِلى صِراطِ الله الْعَزِيزِ الغالب سلطانه الْحَمِيدِ الذي هو محمود في جميع أفعاله، فهو من قبل مالك السماوات و الأرض، و إنه للصلاح و الرشاد، إذ منزله الله الحميد الذي يستحق الحمد بكل ما يفعل- لحسنه و كونه صلاحا-.

[8] لقد ألمع إلى التوحيد و الرسالة و القرآن، ثم جاء دور المعاد وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و أنكروا المعاد، قال بعضهم لبعض هَلْ نَدُلُّكُمْ و نرشدكم و نريكم عَلى رَجُلٍ يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُنَبِّئُكُمْ و يخبركم أنه إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي متم و صرتم أجزاء ممزقة مقطعة بعضها عن بعض، بجميع أنواع التمزيق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي يقول لكم إنكم تخلقون بهذه الصورة من جديد، حتى تكونوا كما كنتم؟ و قد

كان هذا استفهاما استهزائيا، يريدون بذلك استبعاد الأمر.

[9] ثم أخذوا يرددون بين أنفسهم، و ينسبون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى هذه الأمور أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي هل أنه في كلامه هذا مفتري على الله، فالله سبحانه لم يبعثه، و لم يقل له ذلك، و إنما هو ينسب إلى الله ذلك كذبا؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و يسمى زوال العقل جنونا لأن المرض يستر العقل؟ و مرادهم أنه لا يخلو أن يكون إما عاقل كاذب، أو مجنون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 372

[سورة سبإ (34): آية 9]

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

لا يشعر ما يقول، ثم رد الله سبحانه عليهم بأنه صادق عاقل، فليس الأمر كما قالوا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المتعجبون من قول الرسول فِي الْعَذابِ هناك وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ هنا، فقد أثبت لهم أمرين، كما أنهم أثبتوا للرسول أحد أمرين، و المراد أن ضلالهم و انحرافهم عن الطريق بعيدا جدا، لا كالعاصي الذي هو ضال، و لكنه قريب إلى الطريق.

[10] إنهم كيف يستبعدون المعاد، و هم يرون الخلق العظيم أمامهم من قدرة الله، و هم يعلمون أنه سبحانه إن يشأ أن يعذبهم لتمكن من ذلك؟ فمن له قدرة على ذلك، كيف لا يكون له اقتدار على إعادة الأجساد؟ أَ فَلَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار، و الاستفهام إنكاري إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما في قدامهم وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ المحيطة بهم، و الإتيان بهذين الجانبين كناية عن

الإحاطة، فإن الإنسان مهما نظر أمامه، أو خلفه رأى السماء الرفيعة، و الأرض المنبسطة إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ بأن تفور الأرض، و هم عليها في الأعماق أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً أي قطعا، جمع كسفة بمعنى القطعة، أي نسقط عليهم قطعات مِنَ السَّماءِ لتهلكهم، فإن الأنجم أراضي كبيرة وسيعة ربما بلغت بعضها أكثر من مليون مرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 373

[سورة سبإ (34): آية 10]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)

كبرا من الأرض، فإذا شاء سبحانه أسقط على البشر قطعا منها حتى تهلكهم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرون من السماء و الأرض، و ما يعلمون من قدرتنا على إهلاكهم بالخسف أو الإسقاط لَآيَةً دليلا واضحا على قدرة الله سبحانه على بعث الإنسان بعد موته لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ قد أناب- أي رجع- إلى الله سبحانه عن كفره و عصيانه، فإنه هو الذي يستفيد بهذه الآية، أما الكافر العاصي، فلا يستفيد منها، بل يزداد عنادا و عتوا.

[11] و كيف ينكر هؤلاء قدرتنا، و قد كان لبعض عبيدنا قدرة هائلة، فداود كان يتصرف في الجبال و الحديد، و سليمان كان يتصرف في الهواء و يسخر الجن؟ و لعل الأمر كان معروفا لدى كفار مكة، بواسطة إخبار أهل الكتاب لهم، فكان من الممكن الاستدلال لعظيم القدرة، بما يصدر من هؤلاء الأنبياء العظام وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا داوُدَ النبي عليه السّلام مِنَّا من طرفنا، لا بكسب كسبه أو علم يعلمه فَضْلًا زيادة على سائر الناس من الإنعام و الإكرام، فقد قلنا للجبال يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «آب» بمعنى رجع، أي ارجّعي صوت التسبيح مع داود، فكان إذا سبّح

عليه السّلام، سبّحت الجبال معه وَ الطَّيْرَ أي يا طير أرجع مع داود في التسبيح، فقد كان داود عليه السّلام، إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور، و تسبح الجبال و الطير معه، و الوحوش، و إنما قال «أوّبي» لأنها كانت كالطفل الذي يرجع الصوت بعد سماعه وَ أَلَنَّا من ألانه لَهُ الْحَدِيدَ أي كان الحديد ليّنا في يده كالشمع، فكان يعمل منه الدروع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 374

[سورة سبإ (34): الآيات 11 الى 12]

أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)

[12] و قد قلنا لداود عليه السّلام أَنِ اعْمَلْ بالحديد دروعا سابِغاتٍ جمع سابغة، بمعنى التامة الوسيعة، و منه سبوغ النعمة بمعنى وسعتها وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي عدّل في نسج الدروع، فإن السرد هو نسج الدرع مأخوذ من سرد في الكلام إذا تابع بعض جمله بعضا، و المراد بالتقدير جعل حلق الدرع متناسبة بقدر و شبه، فلا تكون بعضها وسيعة، و بعضها ضيقة،

روي عن الصادق عليه السّلام «أن الله أوحى إلى داود، نعم العبد أنت، إلا أنك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحا، فألان الله له الحديد، و كان يعمل كل يوم درعا، فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة و ستين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستين ألفا، فاستغنى عن بيت المال»

«1» وَ اعْمَلُوا خطاب لداود و آله صالِحاً أي عملا صالحا، و المراد به الجنس إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أرى أعمالكم فأجازيكم

عليها.

[13] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود عليه السّلام الرِّيحَ فكان يجلس على بساط، فتحمله الريح، فإن الشي ء إنما يسقط، لأن الهواء و الريح تنخرق من تحته، أما كبت الهواء بعضه في بعض كالهواء المكبوس في الزق، لم تنخرق حتى يسقط ما يعلوها غُدُوُّها أي حركة الريح في الغدوة، و هو الصباح شَهْرٌ فإذا تحركت بسليمان صباحا، سارت به مقدار ما يسير الإنسان في مدة شهر هلالي وَ رَواحُها شَهْرٌ أي

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: ج 6 ص 326.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 375

[سورة سبإ (34): آية 13]

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)

و كانت تسير بسليمان عصرا، مقدار شهر من الزمان، فكانت في كل يوم تسير مقدار شهرين وَ أَسَلْنا من الإسالة بمعنى الإذابة، حتى يكون للشي ء سيلان كالمائعات لَهُ أي لسليمان عليه السّلام عَيْنَ الْقِطْرِ أي أذبنا له عين النحاس، و المراد بالعين معدنه حتى يتمكن من استعماله في الظروف و الأواني، و ما أشبه من الأشياء النحاسية وَ سخرنا لسليمان عليه السّلام مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ كالعبد المطيع بِإِذْنِ رَبِّهِ فقد أمر الله سبحانه الجن، أن تكون مسخرة بأمر سليمان تعمل في حوائجه وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ من زاغ إذا انحرف و عصى، أي من كان يعصي من الجن عَنْ أَمْرِنا الذي أمرناهم به من إطاعة سليمان، فلم يكن يطيعه فيما يأمر نُذِقْهُ أي نذق ذلك الجن العاصي مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي عذاب الدنيا، بأن كان سليمان يؤدبه، و سمي سعيرا تشبيها، أو من عذاب النار في الآخرة، و سمي سعيرا، لاستعار النار و

اشتعالها.

[14] يَعْمَلُونَ أي الجن لَهُ أي لسليمان عليه السّلام ما يَشاءُ صنعه و عمله مِنْ مَحارِيبَ جمع محراب، و لعل المراد بها المساجد، و إنما سمي محرابا، لأنه محل المحاربة مع الشيطان و النفس وَ تَماثِيلَ جمع تمثال، و هو الشي ء المصنوع، من معدن، أو طين، أو حجر، أو خشب، شبه شي ء آخر، كتماثيل القصور و الأشجار و الأنهار و غيرها،

قال الصادق عليه السّلام «و الله ما هي تماثيل الرجال و النساء، و لكنها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 376

الشجر و شبهه»

«1» وَ جِفانٍ جمع جفنة، و هي جفنة الطعام كَالْجَوابِ أصله «الجوابي» جمع «جابية» كالروابي جمع رابية، و المراد بها الحياض الكبار، و سمى الحوض جابية لأنها تجمع فيها الماء، و منه يسمى الذي يجمع الضرائب و الأموال «جابي» و إنما كانوا يصنعون له مثل هذه الظروف الكبار، حتى تصلح لطعام جيش سليمان عليه السّلام، و قد قال بعض: أنه كان يجتمع حول كل جفنة ألف رجل يأكلون منها وَ قُدُورٍ جمع قدر، و هو ما يطبخ فيه الطعام راسِياتٍ جمع راسية بمعنى الثابتة في الأرض، فإن القدر الكبير، الذي يراد دوام الطبخ فيه، يبنى في الأرض، حتى لا يزول، و لا يتحرك، و قلنا لسليمان، و سائر أهل بيته اعْمَلُوا آلَ داوُدَ أي يا آل داود شُكْراً فإن الشكر قد يكون بالقلب، و هو أن يعترف الإنسان في قلبه، بأن الإحسان من الله سبحانه، و قد يكون باللسان؛ كأن يقول «الشكر لله» و قد يكون بالعمل بأن يصلي و يصوم، و يأتي، بسائر الواجبات، و يترك سائر المحرمات، فإن الشكر هو المظهر للجميل الاختياري، الذي يأتي به أحد تجاه الإنسان وَ قَلِيلٌ

مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «الشكور» صفة مشبهة، بمعنى من تكرر منه الشكر، أي أن العباد الشاكرين لله، فيما أنعم عليهم قليلون، و كأن الإتيان بهذه الجملة لتأكيد أن يشكروا، فإن الإنسان إذا علم قلة من على شاكلته في أمر قوي عزمه للعمل أكثر ممن يعلم كثرة أعوانه و أمثاله.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 377

[سورة سبإ (34): آية 14]

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

[15] و قد استمر سليمان في ذلك الجلال و الملك، حتى جاءه الموت فَلَمَّا قَضَيْنا أي حكمنا عَلَيْهِ أي على سليمان عليه السّلام الْمَوْتَ كان قد اتكى على عصاه في قبة، و هو ينظر إلى الجن كيف يصنعون له، إذ حانت منه التفاتة، فإذا هو برجل معه في القبة، ففزع منه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرشا، و لا أهاب الملوك، أنا ملك الموت، فقبض روحه، و هو متكئ على عصاه، فمكثت الجن، تدأب في العمل، و لما كانوا رأوا من سليمان العجائب، ظنوا أنه واقف، و لكنه لا يتحرك لحكمة و علة، حتى بعث الله عز و جل الأرضة، ف ما دَلَّهُمْ أي أرشدهم و أعلمهم عَلى مَوْتِهِ أي موت سليمان عليه السّلام إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة، فأخذت تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ و تنخر فيها، فوقع سليمان على الأرض، و قد كان آصف وصيه يدبّر أمر الملك في مدة موته و اتكائه فَلَمَّا خَرَّ أي فلما سقط سليمان، بعد ما وهت عصاه، بفعل الأرضة فتكسرت، لثقل جسم سليمان عليها تَبَيَّنَتِ الْجِنُ

أي علمت الأجنة، و إنما أوتى بالفعل مؤنثا، باعتبار أن المراد ب «الجن» الجنس، فهي بمعنى الجماعة أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ أي ما غاب عن الحواس- فقد كانت الجن تزعم، أنها تعلم الغيب، لما كانت تعلم بعض ما لا يعلمه الإنس من الأشياء البعيدة الخفية- ما لَبِثُوا و بقوا تلك المدة التي مات فيها سليمان متكئا على عصاه فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أي في شدة العمل و تعبه الذي يهينهم و يذلّهم فإن العمل كان عذابا عليهم، و شدة لهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 378

[سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 16]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)

[16] و إذ تمت قصة داود و سليمان عليما السّلام أتى السياق، لبيان قصة قوم سبأ، و ما وصلت إليه حالتهم لأجل كفرانهم للنعمة، في مقابل ما سبق من قصة داود و سليمان، و آلهما، و ما وصلت إليه حالتهم لأجل شكرهم للنعمة لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي لتلك القبيلة المسماة باسم سبأ، التي كانت تسكن في جنوبي اليمن، كان لهم في محل سكناهم آية دالة على لطف الله و فضله، فقد ارتقى القوم، في مراقي الحضارة، حتى تمكنوا أن يصنعوا من بعض الجبال، خزانا كبيرا من الماء، بإقامة سدّ، يسمى «سد مأرب» أمام الماء، فكان يسقي أراضيهم، حتى أن المار إليهم، يرى في الطريق بساتين متصلة، و قد فسر سبحانه «آية» بقوله جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ أي

يمين الماء و شماله، و قيل لهم كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ الأمر للإباحة، أي أبحنا لكم هذا الرزق الطيب العميم وَ اشْكُرُوا لَهُ أي لله سبحانه، فبلدتكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ كثيرة الفواكه و الأرزاق طيبة الماء و الهواء وَ رَبٌّ غَفُورٌ أي أن إلهكم إله يغفر الذنوب، و يستر العيوب.

[17] فَأَعْرَضُوا عن الدين، و انحرفوا في طرق الضلال فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ واحدهما عرمة مأخوذة من عرامة الماء، و هي ذهابه كل مذهب، أي السيل العظيم الشديد، و قد قال بعض المفسرين: «إن الماء كان يأتي أرض سبأ، من أودية اليمن، و كان هناك جبلان، يجتمع ماء المطر و السيول بينهما، فسدوا ما بين الجبلين، فإذا احتاجوا إلى الماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 379

[سورة سبإ (34): آية 17]

ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)

نقبوا السدّ، بقدر الحاجة، فكانوا يسقون زروعهم و بساتينهم، فلما كذبوا رسلهم، و تركوا أمر الله، بعث الله جرذا نقب ذلك الردم، و فاض الماء عليهم، فأغرقهم» «1» وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ أي عوضا عن الخصب الذي كان لهم المكنى عنه بالجنتين عن اليمين و الشمال جَنَّتَيْنِ من شكل آخر، و هذا من باب الازدواج في الكلام نحو، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «2» ذَواتَيْ تثنية ذات أُكُلٍ خَمْطٍ «أكل» اسم للثمرة مهما كانت، و «خمط» كل شجر له شوك، و المراد مرّ بشع، و ذلك شجرة أم غيلان، التي تنبت في الصحاري القاحلة وَ أَثْلٍ الطرفاء وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ هو النبق قَلِيلٍ فقد كان الخمط و الأثل، أكثر منه، و هذا دليل على عدم الماء و الزرع و الحضارة، حتى بقيت الصحاري يباسا، لا

تنبت، إلا نباتات الصحراء، التي لا ينتفع بها إلا قليلا.

[18] ذلِكَ السيل العرم و التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرهم وَ هَلْ نُجازِي بمثل هذا الجزاء السيئ إِلَّا الْكَفُورَ استفهام معناه النفي، أي لا نجازي بمثل هذا الجزاء إلا لمن كفر النعمة، و لم يشكر.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 210.

(2) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 380

[سورة سبإ (34): الآيات 18 الى 19]

وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

[19] وَ قد كان من قصة قوم سبأ، قبل أن يكفروا النعم، أن جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين بلادهم في اليمن وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا أي الشام التي باركنا فِيها مبعث الأنبياء عليهم السّلام، و طيب الهواء و كثرة الزراعة و الفواكه قُرىً ظاهِرَةً أي متظاهرة متواصلة في عرض الطريق، فقد كان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام، و كانوا يبيتون بقرية، و يقيلون بأخرى، حتى يرجعوا في أمن و دعة و سلام، و كانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبأ إلى الشام، و كانت القرية ترى من القرية التي قبلها لظهور بعضها على بعض و قرب أحدها من الأخرى وَ قَدَّرْنا فِيهَا أي في تلك القرى السَّيْرَ أي جعلناه مقدرا ممكنا للأمن و السلامة، و سهولة الطريق، أو المعنى كان بين كل قرية و قرية بقدر مسير نصف يوم، و قلنا لهم سِيرُوا فِيها أي في هذه الطريق أو في تلك القرى لَيالِيَ وَ أَيَّاماً

فلا خوف، و لا صعوبة سواء سرتم ليلا أو نهارا آمِنِينَ من كل خطر و نصب، و جوع و عطش.

[20] و لكنهم لم يشكروا هذه النعم العظيمة، و لم يسمعوا كلام الله و أوامره، بل بغوا و بطروا فَقالُوا يا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا فقد مللنا من الأسفار القصيرة بين القرى المتقاربة التي لا يرى فيها الصحراء، و لا نتمكن من ركوب الرواحل، و تجهيز القوافل، فإنا نريد الصحاري القاحلة «لنلتذ لذة السفر»، و هذا كما بطرت اليهود النعمة فقالوا:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 381

[سورة سبإ (34): آية 20]

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)

(يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها) «1» وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب الكفر و المعاصي، فأخذناهم بكفرهم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم و شأنهم و يضربون بهم المثل، فيقولون «تفرقوا أيادي سبأ» إذا أرادوا أن يبينوا تشتت جماعة أكبر تشتت وَ مَزَّقْناهُمْ أي فرقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ كل تفريق، و ذلك تشبيه بالثوب الذي يمزق في مختلف جوانبه، فقد تفرق أهل سبأ في مختلف البلاد، و ذهبت نعمهم جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من قصة قوم نعمتهم و كفرهم و نقمتهم لَآياتٍ دالة على الأسباب و العلل، لترقي الأمم و انحطاطها لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر شَكُورٍ كثير الشكر، فإن من يصبر عند البلاء و يشكر عند الرخاء، يعرف سبب النعمة و النقمة، و يعرف كيف يعالج النعم للبقاء، و كيف يواجه بالصبر البلاء، أما غيره، فإنه يرى الآيات حتى يعرف المسببات من الأسباب.

[21] وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي على قوم سبأ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي جعلهم موردا

لظنه، الذي قال (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) «2» فصدّق الظن عليهم، حيث أغواهم و أبعدهم عن الطريق فَاتَّبَعُوهُ أي اتبع قوم سبأ إبليس فيما أمرهم من الكفر و العصيان إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «من» للتبين أي جماعة منهم فقط لم يتبعوه، و إلّا فالباقون اتبعوا الشيطان.

______________________________

(1) البقرة: 62.

(2) ص: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 382

[سورة سبإ (34): الآيات 21 الى 22]

وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)

[22] وَ الحال أن الشيطان ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ أي على قوم سبأ مِنْ سُلْطانٍ أي سلطة، و ولاية يتمكن من جبرهم، و إنما كان يلقي إليهم، و يوسوس في صدورهم، و بهذا فقط باعوا دينهم و دنياهم، و حيث أن هنا يختلج سؤال أنه كيف مكّن الله إبليس عليهم؟ قال سبحانه إِلَّا لِنَعْلَمَ أي لم يكن تمكينه منهم، إلا لأجل أن يقع معلومنا في الخارج، فقد سبق، أن العلم إنما يتحقق بكماله، إذا كان هناك معلوم خارجي، فقولنا: علم الله، بمعنى أن معلومه صار خارجيا، و إن كان يعلم الأشياء من الأزل مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ عبّر عن المؤمن بذلك، للتلازم بين الإيمان بالله و الرسول، و بين الإيمان باليوم الآخر مِمَّنْ هُوَ مِنْها أي من الآخرة فِي شَكٍ فلا يؤمن بالآخرة، و الحاصل أن يتمكن الشيطان منهم، كان لأجل الاختبار و الامتحان، ليستحق المؤمن الثواب، و الكافر العقاب وَ رَبُّكَ يا

رسول الله عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظ ما عملوا ليجازيهم بأعمالهم.

[23] و إذ تمت قصة سبأ، يأتي السياق إلى المقصد الذي سيقت له تلك القصص من الإيمان بالله، و جاءت القصص لبيان عاقبة المؤمن و الكافر قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ادْعُوا الأصنام الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ فانظروا، هل يستجيبون لكم، و هل يكشفون ضركم؟ كلا: إنهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي مقدار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 383

[سورة سبإ (34): آية 23]

وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

ثقل هباءة فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ فمن لا يملك شيئا كيف يتمكن أن يضر أو ينفع؟ و الإتيان بضمير الجمع العاقل، مماشاة مع القوم، و توحيدا للسياق في الرد و النقض، إذ كان الكفار يعتبرون الأصنام عاقلة عاملة وَ ما لَهُمْ أي للأصنام فِيهِما أي في السماوات و الأرض مِنْ شِرْكٍ أي من اشتراك، بأن خلق الله بعضهما، و خلقت الأصنام بعضهما وَ ما لَهُ أي لله سبحانه مِنْهُمْ أي من الأصنام مِنْ ظَهِيرٍ عاونه و عاضده على أمر، فهي ليست مالكة لشي ء، و لا شريكة في خلق، و لا معاونة في أمر، و من هذا شأنه، كيف يتمكن من دفع ضرّ، أو جلب نفع للمشركين الذين يعبدونه؟

[24] و أما ما يزعم هؤلاء، بأن الأصنام تشفع يوم القيام لهم، قائلين (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» فإنه كذب، و وهم وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ تعالى إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فمن أذن الله له في الشفاعة، شفع و قبلت شفاعته، و من لم

يأذن له لم يتمكن من الشفاعة أصلا كما قال سبحانه (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» فالأصنام، لا تشفع، و الكفار ليسوا قابلين لأن يشفعهم أحد، فكلّا وهم المشركين، في الشافع و المشفوع

______________________________

(1) يونس: 19.

(2) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 384

[سورة سبإ (34): آية 24]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

له هباء باطل، و قد ظن هؤلاء الكفار، أن الشفاعة، و موقف القيامة، أمر هيّن، حتى أن الأصنام لتشفع، كلا! إنهم يحشرون في موقف رهيب، و يأخذ الفزع منهم كل مأخذ، حتى إذ أسماعهم لا تسمع- كما يكون الإنسان عند الخوف الرهيب- إذ تعطل حواسه- و كلهم منتظرون لإصدار الأوامر حتى يعرفوا ماذا مصيرهم؟ و يبقون في تلك الحالة حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي كشف الله الفزع عن قلوبهم و رجعوا إلى حالتهم الأولية، من الوعي و الإدراك «و يقال فزع عنه» أي كشف عنه الفزع، و هناك يسأل بعضهم بعضا إذ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ حول مصير الناس، كما يتساءل بعض المجرمين من بعضهم الآخر عن قرار المحكمة في حقهم- إذا لم يفهمه-؟ قالُوا أما الملائكة، أو المسؤولون من أمثالهم الْحَقَ فإنه سبحانه لا ينطق إلا بالحق، و هذا- على الاحتمال الثاني- مثل ما إذا سأل بعض من بعض عن قرار المحكمة، فإنه يجيب بقوله «على طبق القانون» وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي الرفيع العظيم، لا ينازع فيما قال، و هذا جواب يائس يستسلم للقضاء، فإن موقف القيامة، هكذا، فكيف تشفع الأصنام، في مثل ذلك الموقف المهول المدهش.

[25] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين

احتجاجا عليهم لإبطال شركهم مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ بإنزال المطر وَ الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ فهل الرازق هو الله، أم آلهتكم؟. و طبيعي أن يسكت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 385

[سورة سبإ (34): آية 25]

قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)

المشركون عن الجواب إذ لو قالوا هو الله، كان حجة عليهم، و لا يملكون أن يقولوا هو الصنم، لوضوح كذب هذه المقالة و إذا فليرد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الجواب قُلْ لهم إذا سكتوا اللَّهُ هو الذي يرزقكم، لا الأصنام وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ أيها المشركون لَعَلى هُدىً في طريقتنا أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ضلال واضح، و هذا على وجه الإنصاف، و إلا فالرسول كان يعلم أنه على هدى، و إنهم على ضلالة، كما

قال الإمام عليه السّلام في الأبيات المنسوبة إليه

قال المنجم و الطبيب كلاهما* لن يحشر الأموات، قلت إليكما إن كان قولكما، فلست بخاسر* أو كان قولي، فالخسار عليكما

«1» [26] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار لا تُسْئَلُونَ أيها الكفار، أنتم عَمَّا أَجْرَمْنا أي اقترفنا من الذنوب- بنظركم- أو المراد مجموع المؤمنين، فلا ينافي عصمة الرسول وَ لا نُسْئَلُ نحن يوم القيامة عَمَّا تَعْمَلُونَ أنتم أيها الكفار، و هذا كقوله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «2» فإن لم تقبلوا مقالي، فذنبكم عليكم، لا يرتبط بنا، و جي ء بقوله «لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا» توطئة و تمهيدا.

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 396.

(2) الكافرون: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 386

[سورة سبإ (34): الآيات 26 الى 28]

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ

كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)

[27] قُلْ يا رسول الله لهم يَجْمَعُ بَيْنَنا نحن و أنتم رَبُّنا يوم القيامة لنحاسب، فيعلم من المحق، و من المبطل؟ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ أي يحكم بيننا حكما حقا، و كأن الأمر مسدود بين الخصمين، و الحاكم يفتح بينهما، حين يعطي لكل حصته، لئلا يبقى الأمر بينهما مختلطا متصلا وَ هُوَ سبحانه الْفَتَّاحُ كثير الفتح، و الحكم بين المتخاصمين الْعَلِيمُ العالم، بما صدر عن كل، و بما يستحق كل واحد، فيكون حكمه حقا عدلا.

[28] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين أَرُونِيَ الأصنام الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ لهم بِهِ أي بالله شُرَكاءَ أي في حال كونهم شركاء لله، في زعمكم؟ و هذا استفهام توضيحي، كما تقول لمن يساوي جاهلا بعالم: أرني من هو المساوي لهذا العالم، تريد أن تبين له أن من تزعم مساواته، لا يتمكن الإنسان، حتى من التفوه بمساواته له، و إتيان اسمه عند ذكر اسم العالم كَلَّا ليس كما تزعمون في كون الأصنام شركاء لله تعالى بَلْ الإله واحد لا شريك له، و هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الغالب سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء بحكمة و صواب، فهل للأصنام سلطان؟ أم هل لها من حكمة؟

[29] وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي للناس عامة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 387

[سورة سبإ (34): الآيات 29 الى 31]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ

لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)

و كان تقديم «كافة» لإفادة أن الغرض المسوق له الكلام، هو عموم الرسالة، و إنما كان كافة بمعنى عامة، لأنها إذا عمّتهم، فقد كفتهم- و صفتهم- أن يخرج منها أحد منهم بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين بالجنة و الثواب وَ نَذِيراً تنذر الكفار و العصاة، بالنار و النكال وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك لإعراضهم عن الحق.

[30] و إذ تقدم الكلام عن التوحيد و الرسالة، جاء دور المعاد وَ يَقُولُونَ أي الكفار المنكرون للبعث مَتى هذَا الْوَعْدُ أي في أي زمان تقوم القيامة التي تعدوننا بها؟ إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في دعواكم وجود القيامة، و حشر الأجساد بعد الموت؟

[31] قُلْ يا رسول الله في جوابهم لَكُمْ أيها الكفار مِيعادُ يَوْمٍ أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم من العذاب و النكال، و المراد وقت وفاتهم، أو يوم القيامة عند بعثهم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً أي لا تتأخرون عن ذلك اليوم مقدار ساعة- التي هي جزء الزمن- وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي لا تتقدمون عليه مقدار ساعة، و كان الإتيان من باب الاستفعال، لبيان، أن طلب التقديم و التأخير، لا ينفع فلكلّ أجل و كتاب.

[32] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ الذي نزل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 388

[سورة سبإ (34): آية 32]

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي بالكتب التي أنزلت قبل القرآن، كالتوراة و الإنجيل،

فإن أهل الكتاب، كانوا يصدقون، بتلك الكتب، أما الكفار، فإنهم كانوا يفكرون بكل شي ء وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو كل من يأتي منه الرؤية إِذِ الظَّالِمُونَ في يوم القيامة مَوْقُوفُونَ للحساب عِنْدَ رَبِّهِمْ جزاء لإنكارهم، و كفرهم يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ إما المراد ما سيأتي من المحاورة بينهم، و إما أنهم، كالمجرمين في الدنيا، إذا أحضروا للمحاكمة، فإن هذا يرد القول إلى ذاك، و ذاك إلى هذا، كل يريد أن يتخلص من تبعة الجواب، و يؤمّن على نفسه فلا يجيب، حتى و إن علم بالأمر يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي طلب ضعفهم الرؤساء، فاستغلوهم لضعف أفكارهم، و ضعف إمكانياتهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من الأشراف و الكبار المستكبرين عن قبول الحق لَوْ لا أَنْتُمْ تضلونا عن السبيل لَكُنَّا نحن الأتباع مُؤْمِنِينَ بالله و اليوم الآخر، في دار الدنيا، و إنما أنتم أضللتمونا عن طريق الهداية و الإيمان.

[33] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جواب المستضعفين لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ أي هل نحن منعناكم عَنِ الْهُدى و الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 389

[سورة سبإ (34): آية 33]

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ يقولون ذلك، على نحو الاستفهام الإنكاري، أي إنّا لم نصدكم، و لم نمنعكم، إذ لم تكن سلطة لنا عليكم بَلْ كُنْتُمْ أنتم بأنفسكم مُجْرِمِينَ تبتّون الباطل، و ترغبون عن الهدى و الحق، فليس علينا تبعة ذنبكم، و إنما على أنفسكم.

[34] وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي الأتباع

لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي المتبوعين من الأشراف إنا لم نك بأنفسنا، و إنما أنتم صددتمونا عن الهدى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي ما كنتم تمكرونه، ليلا و نهارا هو الذي منعنا عن قبول الحق، أي تدبيراتكم الخفية، و إلقاءاتكم علينا هي التي وقفت دون إيماننا إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً جمع ند، و هو المثل و الضد، أي كنتم تقولون لنا، اجعلوا لله شركاء وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوا ندمهم عن أعمالهم السابقة، فلم يظهروا أنهم نادمين خوف الفضيحة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ فإن الإنسان في حال الحزن الشديد، لا يتكلم، و إنما تظهر عليه ملامح الندم، ساعة مندم وَ بعد ذلك، يقدمون للعذاب، ف جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا بأن يغلّون في النيران، كما قال سبحانه (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) «1» و هنا يأتي الاستفهام ليبين أن ذلك جزاء

______________________________

(1) الحاقة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 390

[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 36]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)

أعمالهم، و ليس ظلما عليهم هَلْ يُجْزَوْنَ هؤلاء الكفار إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلا جزاء أعمالهم.

[35] و قد كان الانحراف عن الهداية، عادة عامة لجميع الأشراف، لدى مواجهة الرسل، فإن شرفهم المزعوم، كان يصدهم عن قبول الحق، و انخراطهم في سلك المؤمنين وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ ينذر الناس من عاقبة أعمالهم، و وبال كفرهم و عصيانهم

إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي الأغنياء المتنعمون بالترف، و الرفاه إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيها الأنبياء كافِرُونَ لا نصدق به، و لا نقبله.

[36] وَ قالُوا للأنبياء عليهم السّلام على وجه الكبر و التجبر نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً نحن أكرم منكم على الله، إذ لو لا كرامتنا لم يتفضل الله علينا، بهذا المال الكثير، و الأولاد العديدين وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يوم القيامة فإن الله سبحانه لا يعذبنا، كما تقولون أنتم الأنبياء، إن الله يعذب الكافر العاصي.

[37] و هكذا كان يقول أشراف مكة في مقابل الرسول قُلْ يا رسول الله في جوابهم، إن كثرة الأموال و الأولاد، ليست دليلا على حب الله للشخص، و إنما التوسعة و التضييق حسب المصلحة و الحكمة، ف إِنَّ رَبِّي الذي خلقني و أرسلني يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عبيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 391

[سورة سبإ (34): آية 37]

وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)

وَ يَقْدِرُ أي يضيق حسب ما يراه حكمة و صلاحا فالتوسعة على المؤمن للثواب و الجزاء، و على الكافر للإملاء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك، فيظنون أن كثرة المال و الأولاد، لكرامة الشخص على الله تعالى.

[38] وَ ما أَمْوالُكُمْ أيها البشر وَ لا أَوْلادُكُمْ التي منحتموها بالمكانة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى مصدر زلف بمعنى قرب، و هو منصوب على المصدرية أي تقربكم تقربا إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فإن الإيمان و العمل الصالح مقربا لله سبحانه، و الاستثناء منقطع، و الأصل لا تقرب إلا الإيمان، و العمل الصالح، لا الأموال و

الأولاد- كما سبق، في وجه الاستثناءات المنقطعة- فَأُولئِكَ الذين آمنوا و عملوا الصالحات لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إن جزاءهم مضاعف، فهو أضعاف أعمالهم، كما قال سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» بسبب ما عَمِلُوا من الإيمان و الصالحات وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ جمع غرفة و هي البيت فوق البناء، أي في غرف الجنة آمِنُونَ من الأهوال، و الأحزان، و المصائب.

______________________________

(1) الأنعام: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 392

[سورة سبإ (34): الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

[39] وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي لإبطال آياتنا و أدلتنا مُعاجِزِينَ يريدون تعجيز الأنبياء عليهم السّلام بأعمالهم، حتى لا يتمكنوا من الإرشاد و التبليغ، و الإتيان من باب «المفاعلة» لأن كلا من الطرفين يريد تعجيز الآخر عن تنفيذ مبدئه و صد الآخر عن التنفيذ، فالنبي يريد عجز الكفار، و هم يريدون عجز النبي أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ أي يحضرهم الله سبحانه في العذاب، بالقوة و القهر، كما يحضر المجرم في السجن.

[40] و إذ كان الرزق بتقدير الله سبحانه، فالذي يبقى منه، هو المنفق في سبيله، فليس سعة الرزق دليل حب الله سبحانه- كما زعم الكفار- و إنما الإنفاق منه، موجب لحب الله تعالى قُلْ يا رسول الله إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي يعطيه الرزق الواسع المبسوط وَ يَقْدِرُ لَهُ أي يقدر لمن يشاء، فالضمير يعود، إلى لفظ «من» لا إلى معناه، فالمبسوط له غير المقتر عليه،

قال في المجمع: «و إنما كرره سبحانه لاختلاف الفائدة، فالأول توبيخ للكافرين، و هم المخاطبون به، و الثاني، وعظ للمؤمنين» «1» وَ ما أَنْفَقْتُمْ أيها الناس مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير، من مختلف أنواع الرزق فَهُوَ سبحانه يُخْلِفُهُ أي يعطيكم خلفه و عوضه، في الدنيا بزيادة الرزق، و في الآخرة بالأجر و الثواب

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 393

[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 41]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)

وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يعطي بلا منّ، و لا توقع جزاء، و لا لغاية أخرى، بخلاف سائر الرازقين من الناس، الذين يقصدون بإنفاقهم غاية و مقصدا، أما الشكر فإنه سبحانه يطلبه لنفع الخلق، لا لنفعه.

[41] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي نحشر الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة جَمِيعاً العابدين و المعبودين، و المراد بذلك اليوم، هو يوم القيامة ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ بقصد فضح العابدين لهم أَ هؤُلاءِ الكفار إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ و القصد من هذا السؤال تبرؤ الملائكة منهم، حتى يبقوا بلا ناصر حتى من معبوديهم.

[42] قالُوا أي قالت الملائكة سُبْحانَكَ أي ننزهك يا رب تنزيها عن الشريك، و سبحان منصوب على المصدر، أي نسبح سبحانا أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أي من دون هؤلاء الكفار، و المعنى أنه لا ولاية بيننا و بينهم بَلْ كانُوا أي كان هؤلاء يَعْبُدُونَ الْجِنَ أي الشياطين، حيث أنهم أطاعوا الشياطين الذين يوحون إليهم بعبادة الملائكة، فإن الشياطين من الجن، كما قال سبحانه (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ) «1» أَكْثَرُهُمْ أي أكثر هؤلاء

بِهِمْ أي بالجن مُؤْمِنُونَ مصدقون لما

______________________________

(1) الكهف: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 394

[سورة سبإ (34): الآيات 42 الى 43]

فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)

يوسوسون إليهم، و كأن الملائكة يريدون بذلك التكثير من تبكيت الكفار بأن مرجع عبادتهم للملائكة كان إلى عبادتهم للشياطين، و الإتيان بلفظ «الجن» لتسمية الشيطان في الجاهلية، ب «الجن».

[43] فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة الذي يقع فيه ذلك المشهد و الحوار لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ أي لا يملك المعبودين للعابدين نَفْعاً وَ لا ضَرًّا لا ثوابا و لا عقابا، و إنما الثواب و العقاب بيد الله وحده، و هكذا يخسر العابدون، حتى من نصر المعبودين وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، بعبادة غير الله ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بتلك النار تُكَذِّبُونَ في الحياة الدنيا، حين أنكرتم البعث و النشور.

[44] ثم يرجع السياق إلى حال الكفار في الدنيا، بعد أن بين لهم، أن حالهم هناك الخزي و العذاب، أن تمادوا في ضلالهم وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي يقرأ الرسول و المؤمنون على الكفار آيات القرآن، في حال كونها واضحات قالُوا أي قال الكفار بعضهم لبعض ما هذا الذي يدعي الرسالة، و يأتي بهذه الآيات إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ أي يمنعكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الأصنام، و الملائكة، و الجن، و غيرها، فقد رأوا أن

في عبادة الله هدما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 395

[سورة سبإ (34): الآيات 44 الى 45]

وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

لتقاليدهم وَ قالُوا بعضهم لبعض ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً نسبه الرسول إلى الله افتراء، فإنه لم ينزل من عنده، و إنما اختلقه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه إليه سبحانه وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ أي للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ لهدايتهم إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح، إذ يؤثّر في الناس، فيجلب الأتباع، و لا يمكن للفصحاء الإتيان، بمثله، فالرسول كاذب مفتري، و القرآن سحر- في منطق الكفار الأعوج-.

[45] إن هؤلاء الكفار الذين يقولون، إن القرآن كذب و سحر أميّون، لم يأتيهم قبل هذا كتاب و رسول حتى يميزوا بين الوحي و غيره، و بين الرسول و المفتري، فقولهم حول القرآن و الرسول، قول الجاهل المأفون وَ ما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم، و أنزلنا إليهم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي يقرءونها درسا حتى يعرفوا ما هو الوحي؟ و يميزوا بين المنزل و المفترى وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ أي إلى هؤلاء الكفار قَبْلَكَ يا رسول الله مِنْ نَذِيرٍ حتى يميزوا بين الرسول و الساحر، فقولهم، فيك و في كتابك قول جاهل أمي، فهم معاندون متبعون للهوى في أقوالهم، لا إنها عن علم و دراية و خبرة.

[46] وَ كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار قومك، رسلهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 396

[سورة سبإ (34): آية 46]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ

مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)

و ما أتاهم الله من الكتب وَ ما بَلَغُوا أي ما بلغ هؤلاء الكفار مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي معشار القوة و المال، و طول العمر التي أعطيناها إلى تلك الأمم، و معشار بمعنى عشر فَكَذَّبُوا أولئك الأمم رُسُلِي الذين أرسلوا إليهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟ أي إنكاري و عقوبتي على المكذبين، فقد عاقبتهم، بأشد العقوبات مع تلك القوة و المال، فليحذر هؤلاء الضعفاء- من قوم الرسول- عقوبتي إن تمادوا في غيّهم و كفرهم؟.

[47] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنَّما أَعِظُكُمْ الوعظ هو النصيحة بِواحِدَةٍ أي أنصحكم بجملة واحدة، و هي أَنْ تَقُومُوا بهذا العمل، لا من القيام مقابل القعود لِلَّهِ بأن كان عملكم له، خالصا عن التقليد و العصبية و الأهواء مَثْنى وَ فُرادى اثنين اثنين، و واحدا واحدا، فمن كان له قدرة في التفكر حول الرسول بنفسه بلا معين، فليفكر في نفسه، و من لا قدرة له في التفكر منفردا، فليتخذ صديقا ليداول معه الحديث حول الرسول، و القرآن و الإسلام ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ أي ليس بالرسول الذي هو صاحبكم مِنْ جِنَّةٍ أي شيئا و أثرا من الجنون فإنكم إذا فعلتم ذلك، و خرجتم عن ضوضاء الجماعات إلى الانفراد و التثنية في تفكير هادئ «لله» لعلمتم ذلك إِنْ هُوَ أي ليس الرسول إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ينذركم عن التمادي في الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 397

[سورة سبإ (34): الآيات 47 الى 49]

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ

عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49)

و العصيان بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فإنه يأتي من ورائه عذاب القيامة، إن بقيتم في الكفر و الضلالة، فهو يريد إنقاذكم.

[48] قُلْ لهؤلاء الكفار يا رسول الله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي كل أجر أسأله منكم على أدائي للرسالة فَهُوَ لَكُمْ و هذا تعبير آخر عن عدم سؤاله للأجر، فإن تزعمون أني أدعي الرسالة لتحصيل المال، فإني لا أريد منكم المال، و قيل إن معناه، أن كلّ ما سألته من أجر- من المودة في القربى- فإنما ذلك عائد إليكم، فإن قرباي يرشدونكم إلى الحق، فهذا ليس عائدا لي، بل عائد لكم، كمن يجمع المال من الناس، ليبني لهم دورا و قصورا، فإن ما يأخذه يعود إليهم إِنْ أَجْرِيَ أي ما أجري على البلاغ و الرشاد إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يعطيني جزاء عملي و أتعابي وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر، فيعلم مقدار أجري، و يعطيني كاملا غير منقوص.

[49] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ أي يلقيه إلى أنبيائه، فهذا الإسلام و القرآن حق، قذفه الله إليّ، و ليس سحرا أو إفكا، كما تزعمون عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي الله سبحانه كثير العلم بالغيب، فلا يلقي إلا ما يعلم أنه صالح للبشر، كما لا يلقي إلا إلى من يصلح للقيام به.

[50] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار جاءَ الْحَقُ و هو الإسلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 398

[سورة سبإ (34): الآيات 50 الى 51]

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ

أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)

وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ أي زهق الباطل، و ذهب بحيث لم يبق له أثر فلا مبدئ له، و لا معيد، فلا يأتي أحد يجدد الباطل من الابتداء أو يعيده بعد الاندثار، كما لو كتب إنسان كتابا راقيا في بطلان عبادة الأصنام، يقول لا يأتي أحد يستدل بصحة عبادة سائر المعبودات الباطلة من جديد، و لا أحد يستدل بصحة عبادة الأصنام، و المراد عدم وجود باطل يتمكن أن يقوم مقابل هذا الحق الذي هو الإسلام، سواء كانت أباطيل تخترع جديدة، أو أباطيل سابقة، يراد إعادة جدتها و رونقها، و هذا كقوله تعالى (لا رَيْبَ فِيهِ) «1» [51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يقولون عنك، إن محمدا قد ضل عن طريقة قومه إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق كما تدعون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي يرجع و بال ضرري عليّ، فإن رأيتم أني ضال، فلا تؤمنوا بي، و لماذا تتعرضون لي بالمنع و الإيذاء؟ وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي بفضل الله سبحانه، تكون هدايتي، حيث أوحى إليّ، و أرشدني إلى الطريق إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ لأقوالنا قَرِيبٌ منا، فلا يخفى عليه المحق من المبطل.

[52] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو أيها الرائي إِذْ فَزِعُوا أي خاف هؤلاء الكفار من أهوال القيامة فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت من عذاب

______________________________

(1) البقرة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 399

[سورة سبإ (34): الآيات 52 الى 53]

وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)

الله منهم أحد، و لا ينجو من بأسه كافر

وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ و هو القبر، فمكانهم ليس بعيدا على الله يحتاج في أخذهم إلى صعوبة، و طول مدة، كما يكون كذلك بالنسبة إلى حكام العالم، حيث يبتعد منهم المجرمون، فيكون في أخذهم لهم صعوبة و طول مدة، و جواب «لو» محذوف، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مهولا.

[53] وَ قالُوا أي قال الكفار حين ذاك آمَنَّا بِهِ أي آمنا بالله و الرسول و ما جاء به وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي من أين يكون لهم الانتفاع بإيمانهم هناك، و التناوش بمعنى التناول، أي لا يتمكنون من تناول الإيمان المفيد لحالهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فالدنيا قد ابتعدت عنهم، و الإيمان المفيد كان في الدنيا لا في الآخرة، و من أين لهؤلاء أن يتناولوا الإيمان النافع الذي خلّفوه وراءهم في الدنيا؟ و هذا على ضرب من الاستعارة اللطيفة.

[54] وَ قَدْ كَفَرُوا أي هؤلاء الكفار بِهِ أي بالإسلام و الدين مِنْ قَبْلُ في الدنيا وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي أنهم يقولون لا جنة و لا نار، و ذلك غيب بعيد، و إنما قولهم ظن، و المعنى أنهم يرجمون الظن بالمكان الغائب عن حواسهم، و هم بعيدون عنه- و المراد بذلك المكان الآخرة- فكما أن الحجارة إذا رجمت من البعيد في مكان غائب لا يراه الراجم، لا تصيب الهدف، كذلك ظن هؤلاء بالنسبة إلى الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 400

[سورة سبإ (34): آية 54] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 449

[سورة سبإ (34): آية 54]

وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

[55] وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ أي فرق بين هؤلاء الكفار- يوم القيامة-

وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من النعيم و الكرامة، فلا يرون نعيما، و لا كرامة، بعد ذلك كَما فُعِلَ مثل ذلك بِأَشْياعِهِمْ أي بأمثالهم من الكفار السابقين، و الأشياع هم المقتدون، مقابل الأتباع مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء إِنَّهُمْ إنما فعل ذلك بهم لأنهم كانُوا في الدنيا فِي شَكٍ من البعث و النشور مُرِيبٍ موجب للريب و الانعزال عن الحق، فإن الإنسان إذا شك، و لم يظهر أثرا، قيل له شك، فإذا أظهر أثر الشك، قيل له ريب و هذا إشارة إلى أنهم لم يكونوا يقطعون بعدم المعاد، و لكنهم كانوا شاكين، و إنما قادهم إلى الإنكار تقليدهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 401

35 سورة فاطر مكية/ آياتها (46)

و تسمى بسورة الملائكة أيضا لاشتمالها على كلا اللفظين، و هي كسائر السور المكية- غالبا- تعالج قضايا العقيدة، و أصول الدين، و إذ ختمت سورة «سبأ» بالمحاورة مع الكفار و المنكرين للألوهية و المعاد، ابتدأت هذه السورة بشؤون اللّه تعالى، الدالة على توحيده، و تصرفه في الكون.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، ليكون شعارا لفظيا للمسلم، فإن لكل أمة واعية شعارات لفظية، عند القراءة و كتابية عند الكتابة، و إشارية عند الإشارة، و اسم الله، أعظم من جميع الشعارات المتصورة، فإنه اسم من يرتبط به الخلق و الأمر، و الإتيان بوصفي الرحمن الرحيم، للإشارة إلى أن ما اتخذناه شعارا متصف بالرحمة المكررة، و هو من أجلب الصفات للإنسان، فإن كل خير له مرتبط بالرحمة و الفضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 402

[سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي

الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد، راجع إلى الله سبحانه، إذ جميع النعم منه، حتى ما يصل إلى الإنسان بواسطة أحد، فإنه منه سبحانه ابتداء، و إنما يأتي بالواسطة فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما من «فطر» بمعنى خلق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا جمع رسول، و هو الآتي بالكلام من قبل شخص إلى غيره، فإن الملائكة يأتون بالرسالات من الله سبحانه إلى الأنبياء، في حال كونهم أُولِي أَجْنِحَةٍ أي أصحاب أجنحة، كأجنحة الطير، ليتمكنوا بها من الهبوط و العروج، و إن كان جناحهم من شكل غير مدرك- إلا إذا شاء الله ذلك- مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فمنهم من له جناحان، و منهم من له ثلاثة أجنحة و منهم من له أربعة أجنحة، و هذا صفة لأجنحة، معدولة عن اثنين اثنين، و ثلاثة ثلاثة، و أربعة أربعة يَزِيدُ الله سبحانه فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي أن الخلق بيد الله سبحانه، فلم يعجز تعالى عن خلق ما زاد عن السماوات و الأرض و الملائكة، بل إنه كلما شاء خلقا خلقه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمتنع عليه شي ء.

[3] إن الله هو الخالق القادر، و إنه هو المعطي المانع ف ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أي ما يفيضه عليهم من النعم و الخير، لا أحد هناك يتمكن من المنع عنها، و الإمساك لها حتى لا تصل إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 403

[سورة فاطر (35): الآيات 3 الى 4]

يا

أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)

الناس وَ ما يُمْسِكْ الله من رحمة فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله سبحانه، فإنه إذا لم يرد إعطاء أحد شيئا لم يكن هناك من يقدر على إعطائه وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره الْحَكِيمُ في أفعاله يفعلها حسب الحكمة و الصلاح، فكل شي ء صنعه بحكمته و مصلحته، كما أن كل شي ء أراده صار لأنه العزيز القادر.

[4] و إذ تقدم التذكير ببعض نعم الله على البشر، و بعض آثار عظمته و جلاله، يتوجه السياق إلى المشركين ليوقظهم من غفلتهم يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و كأنّ الإنسان يعلم في باطنه نعم الله لكنه ينسى، فاللازم أن يتذكر هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ و الجواب كلا لا خالق إلا الله سبحانه، ثم هل من أحد غير الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وَ من الْأَرْضِ بإنبات النبات؟ و الجواب كلا، فلا رازق إلا الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و إذ ثبت أن لا خالق و لا رازق إلا الله، ثبت أنه لا إله إلا هو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال؟ من أفك بمعنى انصرف، و منه يسمى الإفك إفكا، لأنه صرف للكلام عن الحقيقة إلى خلاف الواقع.

[5] و إذ تقدم الكلام حول التوحيد، يأتي الكلام حول الرسالة وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ هؤلاء الكفار، يا رسول الله، فيقولون، لست أنت، بنبي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 404

[سورة فاطر (35): الآيات 5

الى 6]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)

فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه ليس الوحيد الذي كذبه قومه، و إنما الرسل هكذا، فإن أقوامهم يكذبونهم وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمر تكذيب هؤلاء يعرض على الله سبحانه، فيجازيهم على تكذيبهم، و أمرك يعرض عليه، فيجازيك على صبرك، و صمودك.

[6] ثم يأتي السياق لبيان المعاد- الذي هو الأصل الثالث من الأصول- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و الحساب و الجزاء حَقٌ لا كذب فيه، فكلكم تحشرون للجزاء فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فتغترون بملاذها و رئاستها، فتعصون الله لأجلها حتى يكون مصيركم إلى النار وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي بالنسبة إلى الله سبحانه الْغَرُورُ الشيطان الكثير الخداع، فترون سكوته سبحانه، و عدم تعجيله العقاب، فتمادون في الغي و الطغيان، فيأتيكم العذاب بغتة، و أنتم في غفلة.

[7] إِنَّ الشَّيْطانَ الذي يدعوكم إلى الكفر و العصيان لَكُمْ أيها البشر عَدُوٌّ يريد لكم الهلاك و العذاب فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي اعملوا معه، عمل العدو مع عدوه، بأن لا تطيعوه و اجتنبوا عن مكره و خدعه إِنَّما يَدْعُوا الشيطان حِزْبَهُ أي أنصاره و أعوانه من العصاة لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ أي النار المستعرة الملتهبة، فلا تتبعوه ليوردكم النار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 405

[سورة فاطر (35): الآيات 7 الى 8]

الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ

اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)

ذات اللهب و الاشتعال.

[8] الَّذِينَ كَفَرُوا بالله، لاتباع الشيطان، و امتثال أمره لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله، و بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و ذلك يلازم ترك السيئات- كما سبق- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران لذنوبهم، فإن «مغفرة» مصدر ميمي وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ جزاء على إيمانهم و أعمالهم الصالحة.

[9] أَ فَمَنْ الهمزة للاستفهام الانكاري، و الفاء عاطفة، أي هل الذي زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أي زين الشيطان في عينه عمله السيئ كالكفار و العصاة، الذين يبرّرون أعمالهم السيئة بألف مبرّر موهوم فَرَآهُ حَسَناً أي رأى عمله السي ء حسنا و هذا بطبيعة الحال في سطح الذهن، أما في أعماقه، فإنه يعلم بقبح عمله، و لذا لو خلى بنفسه و تفكر، أو ذكّره بعض الناس، و كان منصفا، اعترف بقبح عمله، و قد حذف عدل الهمزة، أي أ فمن كان كذلك، كمن ليس هكذا؟ و الجواب الطبيعي أنهما لا يتساويان، و إنما جي ء بهذا العدل فقط لأن سوق الكلام كان حول الكفار، ثم يأتي السياق ليسلّي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يأسف على هؤلاء الذين انحرفوا عن علم و دراية فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ممن أرشده للطريق، و بلّغه فلم يقبل، فإنه سبحانه يتركه يضلّ و ينحرف، و لا يلطف به الألطاف الخفية، و هذا كما يقال أفسد الملك شعبه، إذا تركهم يفسدون، و لم يجبرهم على الاستقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 406

[سورة فاطر (35): الآيات 9 الى 10]

وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ

إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ممن قبل البلاغ و الرشاد، فإنه سبحانه يلطف به الألطاف الخفية فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يا رسول الله، و معنى ذهاب النفس هلاكها، أو شدة حزنها و غمها، حتى تكون كالهالكة عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار حَسَراتٍ منصوب على المصدر، أي لا تذهب نفسك تتحسر عليهم حسرات، و الحسرة شدة الحزن على ما فات، أو يفوت من الأمر المرغوب فيه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ من الكفر و العصيان، و مثل هذا الإنسان المعاند، لا يستحق أن يتحسر الرسول عليه.

[10] ثم يرجع السياق إلى أدلة الألوهية و التوحيد، في قبال الكفار و المشركين وَ اللَّهُ هو الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بخلقها، أو تصريفها من هنا إلى هناك فَتُثِيرُ أي تهيج الرياح سَحاباً المراد به الجنس، لا الفرد فَسُقْناهُ أي سقنا السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ مات زرعه، و جفّت أنهاره فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بسبب ذلك السحاب الماطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بالجدب، و عدم النبت، بأن أنبتنا فيها الكلأ، بعد أن لم يمكن كَذلِكَ النُّشُورُ أي كما حييت هذه الأرض الجدبة الميتة كذلك نشور البشر و حياتهم بعد الموت، فإن الله القادر على إحياء الأرض، قادر على بعث الإنسان، و نشوره بعد أن مات.

[11] إن الكفار لا يؤمنون خوفا من ذهاب عزتهم الدنيوية، حيث يطردهم المجتمع الكافر، لكن اللازم أن لا يمنع الإنسان هذا عن الإيمان، فإن العزة لله سبحانه، و إذا أراد الإنسان ببقائه على الكفر،

أن تسمع له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 407

الكلمة، و يقبل له العمل عند أصدقائه الكفار، فإن الكلام الإسلامي، و العمل الصالح، يقبلان عند الله سبحانه، الذي هو أعظم من مجتمع هؤلاء الكفار مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الدنيوية، بأن يكون عزيزا عند الناس، نافذا الكلمة لديهم فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عند الله تعالى، إذ جميع أنواع العزة له، حتى أن العزة الموجودة لدى الكفار، هي منحة الله لهم، كما منحهم الرزق و الحياة، و سائر الخيرات للامتحان و الاختبار إِلَيْهِ تعالى يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الكلم جمع كلمة، و الطيب صفة مشبهة، أي أن الكلمات الطيبة، من كلمة الإيمان و الإرشاد و النصيحة و غيرها، كلها تصعد إليه سبحانه، نافذة لديه، فإذا آمن الإنسان، كان مسموع الكلمة لديه تعالى، و هو خير من كونه مسموع الكلمة عند الكفار وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الذي هو الخير المأمور به في الشريعة كالصلاة و الزكاة، و صلة الرحم، و بر الوالدين، و غيرها يَرْفَعُهُ سبحانه إلى نفسه، فمن يريد الكفر، ليكون عمله مقبولا عند الكفار، فإن من آمن، رفع عمله إلى الله سبحانه خالق الكون، و هل تقاس المقبولية، عند الله بالمقبولية عند الناس؟ و المراد بالصعود و الرفع الرتبي، باعتبار رفعة الله سبحانه، و سموه المعنوي، أو المراد الخارجي، فإن الأقوال و الأعمال ترفع إلى السماء، حيث محل الملائكة، و مأوى أرواح الصالحين وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يدبرون دفّة الأعمال السيئة في خفية، فإن المجرمين دائما يدبرون الاجرام و المعاصي في الليالي، و في بعد عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 408

[سورة فاطر (35): آية 11]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ

جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

عيون الناس لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ من «بار» إذا فسد، أي أن مكرهم يفسد، و لا ينفّذ، فنهاية العمل و القول الصالحين، الرفعة و العزة، و نهاية عمل السيئات و مكرها لتحقيق العزة هي البوار و الهلاك.

[12] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فإن التراب ينقلب نباتا، و يأكله الإنسان، أو يأكل الحيوان الذي تكون من النبات، فيصير مبدأ النطفة ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي القطعة المائعة من المني، و أصل النطفة الماء القليل ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرا و أنثى، أو المراد أصنافا و أشكالا وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى «من» زائدة لتأكيد النفي، أي لا تحمل أيّ أثر وَ لا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ فالله خالق الإنسان، و العالم بأطواره، حين حمله، و وضعه وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ المعمّر- بصيغة المفعول من باب التفعيل- هو الإنسان، الطويل العمر، أي لا يمدّ في عمر واحد، و عبّر عنه بالمعمّر، باعتبار الأول، من باب

«من قتل قتيلا فله سلبه»

وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي من عمر ذلك المعمّر، و المراد به كل أحد، و النقص، إنما هو باعتبار الأعمار العادية، فالعمر العادي إذا كان خمسين سنة، كان الموت قبل ذلك تنقيصا بالنظر العرفي إِلَّا فِي كِتابٍ عند الله سبحانه، فقد كتب كل ذلك، و قدر الأعمال، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 409

[سورة فاطر (35): آية 12]

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ

وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

قدر سائر الأشياء، و لا يتصور الإنسان كيف يمكن أن يحيط كتاب بهذا القدر الكبير من الأعمار المختلفة للأفراد المتشتتة في مشارق الأرض و مغاربها ف إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ هيّن، فهو محيط بجميع الأشياء، أو المراد ب «ذلك» كل ما تقدم من التقديرات، و العلم بها.

[13] ثم ينتقل السياق إلى بعض آخر من الآثار الكونية، الدالة على وجود الإله، و صفاته العظيمة وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ بحر المياه المالحة، و بحر المياه العذبة، فإن الأنهر غالبا تتصل بعضها ببعض، حتى أنها لتكون تحت الأرض، و فوقها بحارا من المياه المتصلة، ثم أن المراد بالبحر الجنس، لا الشخص هذا أي أحدهما عَذْبٌ أي طيب فُراتٌ صاف سائِغٌ شَرابُهُ إذا شربه الإنسان، لا يلتوي في الحلق، و لا يؤذي اللهات وَ هذا الآخر مِلْحٌ كأنه من كثرة ملوحته، قطعة ملح، نحو زيد عدل أُجاجٌ من ينشب في الحلق، فمن خلق هذين البحرين يا ترى؟ وَ مِنْ كُلٍ من البحرين تَأْكُلُونَ أنتم أيها البشر لَحْماً طَرِيًّا جديدا، هو السمك، فمع اختلاف البحرين يأتيان بشي ء متماثل لمنفعة الإنسان، و إنما سمي السمك، لحما طريا، لما اعتادوا- في زمن الجاهليين- من أكل القديد، بتجفيف لحوم الأنعام وَ تَسْتَخْرِجُونَ أي تخرجون بالطلب و الغوص، من البحر حِلْيَةً أي زينة، هي اللؤلؤ تَلْبَسُونَها للتزين وَ تَرَى أيها الرائي الْفُلْكَ بالضم على وزن أسد، جمع فلك على وزن قفل-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 410

[سورة فاطر (35): آية 13]

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ

وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)

فالمفرد و الجمع متساويان وزنا، مختلفان ميزانا- فِيهِ أي في البحر مَواخِرَ جمع ماخرة، يقال مخرت السفينة الماء إذا شقته لتسير، فمن يا ترى أقدر السفينة على ذلك، و جعل الماء سهلا، يقبل السير فيه؟ إنه هو الله تعالى، و إنما جعل ذلك لِتَبْتَغُوا أي لتطلبوا أنتم أيها البشر مِنْ فَضْلِهِ سبحانه بالتجارة، و الانتقال من هنا إلى هناك للاكتساب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه عليكم فتسحتقون بذلك الثواب.

[14] يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يدخل الليل في النهار، إما بزيادة طول الليل و قصر طول النهار، حتى كأن الليل دخل فيه، و إما بإتيان الليل مكان النهار، فهو يدخل في محل النهار، من طرف المشرق، و يطرده رويدا رويدا، حتى يأخذ مكانه وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بأحد المعنيين السابقين وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ فهما يجريان حسب تدبيره منظما، بلا تفاوت أو اختلال كُلٌ منهما يَجْرِي باستمرار لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي لوقت معلوم، هو يوم القيامة، كما قال سبحانه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) «1» و قال (وَ خَسَفَ الْقَمَرُ) «2» ذلِكُمُ اللَّهُ ذلك إشارة إليه سبحانه، و، «كم» خطاب، أي ذلك المتّصف بتلك الصفات، هو، أيها البشر رَبُّكُمْ الذي لا إله إلا

______________________________

(1) التكوير: 2

. (2) القيامة: 9

.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 411

[سورة فاطر (35): آية 14]

إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

هو لَهُ الْمُلْكُ فالمملكة الكونية كلها له بلا شريك وَ الأصنام الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تدعونهم أيها المشركون مِنْ دُونِهِ أي

من دون الله تعالى ما يَمْلِكُونَ من الكون مِنْ قِطْمِيرٍ هو قشر النواة، أي اللفافة التي فوقها، و المعنى أن الأصنام لا تملك من الكون، بهذا القدر، فكيف تجعلونها شركاء الله؟

[15] إِنْ تَدْعُوهُمْ أي تدعون تلك الأصنام، و الإتيان بضمير العاقل، لتوحيد السياق، بين كلام المشركين و ردّهم، فإنهم كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء مدركين لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ في كشف ضر، أو جلب نفع، فإن قالوا: يسمعون، قلنا: ما الدليل؟ وَ لَوْ سَمِعُوا دعاءكم على فرض محال مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي لا يمكنهم أن يجلبوا نفعا، أو يدفعوا ضرا، إذ لا يقدرون على ذلك وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ حين ترجون شفاعتهم لكم، حيث كانوا يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يتبرءون منكم، و من أنكم اشركتموهم مع الله في العبادة، فيقولون لم عبدتمونا؟ و نحن لا نستحق العبادة؟

و ذلك بإنطاق الله تعالى، للأصنام، لأن يفضحوا عبدتهم وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك أيها المستفهم الجاهل أحد مثل ما يخبرك

______________________________

(1) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 412

[سورة فاطر (35): الآيات 15 الى 18]

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

الخبير المطلع، فالله مطلع على أحوال الأصنام، فهو خير من يخبركم عن أحوالها، فاقبلوا كلامه، و اتركوا عبادتها، لئلا تقعوا في

العذاب و النكال.

[16] يا أَيُّهَا النَّاسُ كيف تنحرفون عن إطاعة الله، أو تكفرون به؟

و الحال أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون إِلَى اللَّهِ سبحانه، في جميع شؤونكم وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُ عنكم، و الذي بإمكانه أن يسد جميع حوائجكم الْحَمِيدُ المستحق للحمد، بما له من الإنعام و الإفضال، فكيف تتركون الله، لتأخذوا الأصنام الفقيرة التي لا تستحق حمدا و لا شكرا، إذ لا شي ء لها إطلاقا؟

[17] و هو القادر على أن يعاقبكم بأعمالكم- فهو الذي بيده العطية و العقوبة، فاعبدوه رغبة أو رهبة- إِنْ يَشَأْ الله يُذْهِبْكُمْ أي يفنيكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يخلقه من العدم، و يأتي به إلى الوجود، كما خلقكم بعد أن لم تكونوا.

[18] وَ ما ذلِكَ الإفناء لكم، و الإتيان بخلق جديد عَلَى اللَّهِ سبحانه بِعَزِيزٍ أي بممتنع، بل هو الغالب على أمره، إن شاء شيئا كوّنه و أوجده.

[19] إن الإنسان إلى جنب فقره إلى الله تعالى، و إنه تحت سلطة الله سبحانه، حامل لتبعة أعماله بنفسه، فلا صديق يحمل من الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 413

ذنبه، و لا قريب يفيد الإنسان قربه في التخفيف من آثامه، فليعدل الإنسان سلوكه، نحو الله، الذي كان الإنسان بحاجة دائمة إليه، و إن عصى جازاه بنفسه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة إثم نفس أخرى، بل كل امرء بما كسب رهين، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، و لا يلقى ذنب أحد على أحد وَ إِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالآثام، غيرها إِلى حِمْلِها أي حمل آثامها، كأن يدعو العاصي صديقه، ليحمل بعض آثامه و خطاياه لا يُحْمَلْ أي لا يحمل ذلك الغير مِنْهُ أي من ذلك الحمل شَيْ ءٌ قليل وَ لَوْ

كانَ ذلك الغير المدعو ذا قُرْبى أي صاحب قرابة مع هذا العاصي الحامل لأوزار نفسه، قال ابن عباس: يقول الأب و الأم، يا بني احمل عني، فيقول حسبي عملي، و لا تيأس يا رسول الله، من عدم تأثير بلاغك في هؤلاء الكفار، فإن بلاغك يؤثر في المؤمنين، و ذلك كاف لك إِنَّما تُنْذِرُ يا رسول الله الإنذار المؤثر الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي أنهم يخافون من الله سبحانه، و هو غائب عن حواسهم وَ أَقامُوا الصَّلاةَ بإتيانها كاملة بشروطها و آدابها وَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهّر بعمل الطاعة، و الاجتناب عن المعصية فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي أن فائدة طهارته، تعود إلى نفسه وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فمن آمن و تزكى، جزاه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 414

[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 22]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ (20) وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)

بجنات النعيم، و من كفر و تولى، عاقبه بالنار و الجحيم، و معنى إلى الله: إلى ثواب الله و عقابه، تشبيها للصيرورة المعنوية، بالصيرورة الحسية.

[20] وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ فالكافر كالأعمى لأنه تعامى عن الحق، و المؤمن كالبصير، لأنه أبصر، و رأى الحق و الحقيقة.

[21] وَ لَا يستوي الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ «لا» زائدة للتأكيد، و الشرك كالظلمة، إذ لا يرى الإنسان الذي فيه الحقائق و الإيمان، كالنور الذي يرى فيه الإنسان الأشياء، و الإتيان بظلمات جمعا، لأن الشرك مستلزم لأنواع المعاصي، و كل واحد منها ظلمة و حلوك.

[22] وَ

لَا يستوي الظِّلُ الذي يستريح فيه الإنسان وَ لَا الْحَرُورُ و هي الريح الحارة السامة، التي تهب في الشمس، و توجب الهلاك، أو المرض و الأذية، و هما مثل الجنة و النار، أو الإيمان و الكفر.

[23] وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ فالكافر كالميت، إذ لا يأتي منه الخير، كما لا يأتي من الميت خير، و المؤمن كالحي، إذ يتأتى منه جميع صنوف الخير لنفسه و لغيره، و لا تغتم يا رسول الله، إذا رأيت إعراض الكفار، فإنهم، حيث أعرضوا عن الهدى، لم يلطف الله بهم ألطافه الخفية، و لذا تاهوا في ظلمات الكفر و الضلالة إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي إسماعا نافعا، و إنما يشاء سبحانه إسماع من إذا رأى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 415

[سورة فاطر (35): الآيات 23 الى 24]

إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)

الحق تبعه، أما من إذا رأى الحق ابتعد عنه و أعرض، فلا يسمعه الله- فوق أصل الإبلاغ- شيئا آخر من قبيل الألطاف الخفية الموجبة للسعادة وَ ما أَنْتَ يا رسول الله بِمُسْمِعٍ أي بقادر على أن تسمع إسماعا نافعا مَنْ فِي الْقُبُورِ فإن هؤلاء الكفار كالأموات في المقابر، الذين لا يتمكن الرسول من إسماعهم، فكما حال الموت بين أولئك، و بين السماع النافع، كذلك حال موت القلوب، و انحراف النفوس بين هؤلاء، و بين أن يسمعوا إنذار الرسول و إرشاده.

[24] إِنْ أَنْتَ أي ما أنت يا رسول الله إِلَّا نَذِيرٌ تنذر و قد أنذرت هؤلاء، أما هدايتهم، فليست عليك، فلا تحزن عليهم.

[25] إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول الله بِالْحَقِ أي إرسالا بالحق،

لا بالباطل، لأجل اللهو و اللعب، و الإفساد، و ما أشبه، من الإرسالات الباطلة، فإذا أرسل أحد آخر للإفساد، كان إرسالا باطلا، و إذا أرسل أحد آخر للإصلاح، كان إرسالا بالحق، في حال كونك بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين بالجنان وَ نَذِيراً تنذر الكفار و العاصين بالنيران، فشأنك البشارة و الإنذار، و لا يرتبط بك، من آمن، و من لم يؤمن وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ ما من أمة من الأمم السابقة إِلَّا خَلا أي مضى فِيها في تلك الأمة نَذِيرٌ ينذرهم إذا كفروا و عصوا، قوبلوا بالعقاب و النكال، فأنت مثل أولئك المنذرين، و كما أنه لم يضرهم عدم استجابة الأمم كذلك لا يضرك عدم استجابة الناس لك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 416

[سورة فاطر (35): الآيات 25 الى 27]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27)

[26] وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا رسول الله، هؤلاء الكفار، بأن يقولوا، أنت كاذب، لست من قبل الله سبحانه فليس شيئا جديدا، إذ قد كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم، حين جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ جمع رسول، و يجوز الإتيان بالفعل، مذكرا و مؤنثا، إذا كان الفاعل، جمع غير مذكر سالم، قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

بِالْبَيِّناتِ أي الحجج الواضحة الدالة على كونهم مرسلين، كالمعجزات، و الخوارق وَ بِالزُّبُرِ كالكتب المتفرقة التي فيها الحكم و النصائح، كما جاء النبي صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم، بالأحاديث القدسية، و قطعا من حكم موسى و عيسى عليهما السّلام وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي النيّر الذي فيه تعاليم السماء، كان الأنبياء يأتون إلى الأمم بكل ذلك، و مع ذلك كانت الأمم تكذبهم.

[27] ثُمَّ أَخَذْتُ بالعذاب و النكال الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و أنبيائه، بعد إتمام الحجة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري، للمكذبين؟ و هذا استفهام استشفائي، فيه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنذار لكفار مكة.

[28] ثم يرتد السياق ليذكّر الكفار، بجملة من الآيات الكونية أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، و الخطاب، و إن كان له لكن المراد به العموم، أو ألم تر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 417

[سورة فاطر (35): آية 28]

وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر فَأَخْرَجْنا على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم الذي هو فن من فنون البلاغة بِهِ أي بذلك المطر ثَمَراتٍ جمع ثمرة، و هي فاكهة الشجر التي تجتنى منها مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي ألوان تلك الثمرات، فأحمر، و أخضر، و أبيض، و أصفر، و أزرق، و غيرها، من سائر الألوان، و ذو لونين، و ذو ألوان، و هكذا، و يحتمل أن يراد باللون الأعم من جميع ما يدرك بسائر الحواس، من الأشكال و الحجوم و الطعوم، و الروائح و غيرها، فإن اللون قد يطلق توسعا على الجميع وَ كما أن الثمار، مختلفة الألوان كذلك مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ مفردها جدة، كغرف، و غرفة، و المراد بها الطرق بِيضٌ وَ حُمْرٌ أي طرق في الجبال- إما المراد طرق

السير، و إما الامتدادات، فإن الإنسان يرى الجبل فيه قطعة ممتدة حمراء، و قطعة ممتدة بيضاء، و سميت طريقا تشبيها- و بيض جمع أبيض، كما أن حمر جمع أحمر مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي ألوان تلك الطرق الموجودة في الجبال وَ غَرابِيبُ سُودٌ جمع غربيب، و هو الشديد السواد، الذي يشبه لون الغراب، و سود جمع أسود، أي و من تلك الطرق مثل لون الغراب أسود، فسود عطف بيان لغرابيب.

[29] وَ كما أن الثمار، و الجبال مختلف ألوانها، كذلك مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِ جمع دابة، و هي الحيوانات التي تدب في الأرض وَ الْأَنْعامِ جمع نعم، و هي الإبل و البقر، و الغنم، خلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 418

[سورة فاطر (35): آية 29]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي كالذي تقدم من الثمار و الجبال، فهذا إنسان حبشي أسود، و هذا صيني أصفر، و هذا آسيوي أبيض و أحمر، و هذه هرة بيضاء، و هذه هرة سوداء، و هذه نعجة حمراء، و تلك صفراء، و هكذا، فمن يا ترى خلق هذه الألوان؟ و من يا ترى خلط هذه الألوان، بأجسام هذه المخلوقات؟ و قد تقرر في العلم الحديث، أن أقسام الألوان «ثلاثمائة ألف» إنه هو الله الخالق المبدع المنشئ العظيم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مفعول يخشى مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فاعل يخشى، أي يخشى من الله، العلماء من أقسام عباده، فإن الإنسان، إنما يخاف من الأسد- مثلا- إذا عرفه، أما الجاهل بوجوده، أو ببأسه، فإنه لا يخاف منه، و كذلك الجاهل، بأصل وجود الله أو ببأسه و بطشه لا يخشاه، و

إنما العالم به و بعذابه، لمن عصاه يخشاه تعالى، و يخافه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في سلطانه، فاللازم أن يخشاه العصاة غَفُورٌ لمن آب و أناب، فلا ييأس من عفوه، و غفرانه، العاصون.

[30] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يقرءون حق قراءته للعمل و الاتباع، و المراد بكتاب الله هو القرآن وَ أَقامُوا الصَّلاةَ بآدابها، و شرائطها، و الاهتمام بالصلاة، في كل مكان، لأجل أنها خير وسيلة لتركيز الإيمان في القلب، بسبب استمرارها، و إيحائها بعظمة الله و ارتفاعه، في النفوس، و لذا كان المصلون أقل الناس شرا و إثما، و أكثرهم رحمة، و خيرا و نزاهة وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ عام يشمل جميع أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 419

[سورة فاطر (35): الآيات 30 الى 31]

لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)

الرزق، من مال و جاه، و غيرهما سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي في جميع أحوالهم، فلا يفرق عندهم، السر و العلانية، في البذل و الإنفاق يَرْجُونَ بهذه الأعمال تِجارَةً لَنْ تَبُورَ أي لن تفسد، و لن تهلك، و المراد بالتجارة، نتيجة التجارة، و هي الثواب العائد إليهم من جزاء أعمالهم الصالحة، فلا يريدون بأعمالهم الرياء و السمعة، و إنما وجه الله سبحانه و ثوابه.

[31] و إنما يفعلون هذه الأعمال، و يرجون الثواب، لأن يوفيهم الله أُجُورَهُمْ كما تقول عملت لزيد، و رجوته، ليعطيني أجري، و معنى وفاء الأجور، إعطائها كاملة، غير منقوصة وَ يَزِيدَهُمْ على ما يستحقون مِنْ فَضْلِهِ و إحسانه، كما قال تعالى، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1»

... و خبر «إنّ» محذوف، أي إن الذين يعملون تلك الأعمال، للأجر و الثواب، يعطيهم الله ما يترقبونه، و إنما حذف لدلالة قوله إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ عليه، فمن عمل ذلك، غفر الله ذنبه، و شكر عمله، و شكر الله للعمل: إعطاء جزائه و ثوابه لمن عمل.

[32] و بمناسبة الحديث، عن الذين يتلون الكتاب، يأتي السياق، لبيان حال الكتاب وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول الله مِنَ الْكِتابِ أي القرآن هُوَ الْحَقُ الصحيح لا يشوبه فساد، و باطل، كأن تكون قصصه

______________________________

(1) الأنعام: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 420

[سورة فاطر (35): آية 32]

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

كاذبة، أو أحكامه موجبة للفساد، في حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي يصدق الكتب السابقة عليه من التوراة و الإنجيل، و غيرهما، من سائر كتب الأنبياء إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ مطلع على أحوالهم، يعلم ما يصلحهم، و ما يفسدهم، كما يعلم من يؤمن، ممن لا يؤمن بَصِيرٌ ناظر إلى أعمالهم.

[33] ثُمَ بعد إنزال الكتاب عليك، يا رسول الله أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي القرآن الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا أي أعطيناه للمسلمين بالإرث، و المراد بالإرث، انتقاله إليهم، كما ينتقل المال من المورث إلى الوارث، فقد انتقل القرآن من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسلمين، و قد اصطفى الله المسلمين، لحمل هذه الرسالة، كما قال (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) «1» ثم بين سبحانه، إن هؤلاء العباد، على ثلاثة أقسام فَمِنْهُمْ أي بعضهم، و هم الأغلب ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يرتكب بعض المعاصي، و هذا لا ينافي الاصطفاء، فإن المراد،

اصطفاء المجموع، من حيث المجموع، في مقابل الكفار و المشركين، و أهل الكتاب وَ مِنْهُمْ أي بعضهم، و هم الأقل مُقْتَصِدٌ متوسط، بين الطاعة و المعصية فليس من الظالمين، و لا من الصلحاء الأخيار وَ مِنْهُمْ و هم الأقل سابِقٌ بِالْخَيْراتِ أي ليسبق الناس في عمل الأعمال

______________________________

(1) آل عمران: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 421

[سورة فاطر (35): آية 33]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)

الخيرية بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته، و هذا من أظهر مصاديقه الأئمة الطاهرين، ثم الأصلح فالأصلح من الأمة، و لذا

قال الباقر عليه السّلام

«أما السابق بالخيرات، فعلي بن أبي طالب، و الحسن و الحسين عليهم السّلام و الشهيد منا، و أما المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أما الظالم لنفسه، ففيه ما في الناس، و هو مغفور له»

«1» ذلِكَ التوريث، للكتاب لهذه الأمة هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إذ قد رآهم الله سبحانه، أهلا لحمل هذه الأمانة الرفيعة، و إبلاغها للناس.

[34] و لهؤلاء جَنَّاتُ عَدْنٍ عدن بالمكان، بمعنى أقام فيه، أي البساتين التي يخلو فيها من يدخل يَدْخُلُونَها أي يدخلون تلك الجنات «عبادنا» حتى الظالم منهم، بعد أن يكون من ورثة الكتاب بالإيمان الكامل، و إنما عصى جهلا، كسائر العصاة، الذين صحت عقيدتهم، و إنما خلطوا عملا صالحا، و آخر سيئا، أما من اختل إيمانه، فليس بمسلم مؤمن، حتى يشمل في عموم «عبادنا» يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسهم الله الحلو مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة، و مفردها سوار، و هو ما يجعل في اليد بين المرفق، و الزند مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً أي و يحلون فيها لؤلؤا، و قد كان مرسوم الملوك و الكبراء

لبس الأساور وَ لِباسُهُمْ فِيها أي في تلك الجنات حَرِيرٌ و هو الإبريسم المحض.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 218.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 422

[سورة فاطر (35): الآيات 34 الى 36]

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)

[35] و بالإضافة إلى هذه النعم الجسمية، يتنعّم أهل الجنة بالنعم الروحية وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ الأحزان، التي تنتاب الإنسان في الدنيا، فلا حزن هناك و لا غم، بل سرور و حبور إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ لذنوبنا و معاصينا شَكُورٌ لطاعاتنا و عبادتنا، و من شكره، أنه تفضل علينا بهذه النعم الجسام، فإن الشخص إنما يعطي العامل الجزاء، إذا شكر عمله، و قبله بقبول حسن.

[36] الله الَّذِي أَحَلَّنا أي أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الخلود، التي نقيم فيها إلى الأبد مِنْ فَضْلِهِ و كرمه، و إلا فليست أعمالنا بقدر تستحق به هذا الجزاء العظيم لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي لا يصيبنا في دار المقامة عناء و مشقة و تعب وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و هو المشقة في طلب المعاش، أو نحو ذلك.

[37] و في مقابل هؤلاء، الكفار الذين لم يقبلوا هذا الكتاب، فلننظر ماذا لهم هناك؟ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله، و اليوم الآخر، و ما يلزم الإيمان به لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ جزاء على كفرهم لا يُقْضى عَلَيْهِمْ بالموت أي لا يحكم الله عليهم بالموت فَيَمُوتُوا و يستريحوا من العذاب

وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي لا يقلل عذاب جهنم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 423

[سورة فاطر (35): الآيات 37 الى 38]

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)

كَذلِكَ الذي ذكرنا من تعذيب هؤلاء الكفار بالنار نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ كثير الكفر المستمر عليه.

[38] وَ هُمْ أي الكفار يَصْطَرِخُونَ أي يتصايحون من شدة العذاب، أصله «صرخ» بمعنى صاح، و هذا من باب الافتعال، قلبت تائه طاء على القاعدة فِيها أي في جهنم، يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا من جهنم نَعْمَلْ عملا صالِحاً، بعد إخراجنا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الكفر و المعاصي، لكن يأتيهم التوبيخ و التقريع أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ أي نعطيكم العمر الكثير في الدنيا، بقدر ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ أي في ذلك العمر مَنْ تَذَكَّرَ فلو كنتم تريدون التذكر و التوبة، كان لكم من العمر ما يكفي ذلك وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و مع ذلك لم تؤمنوا، و لم تطيعوا، و قد أخبر سبحانه في آية أخرى بقوله (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) «1» فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم، و يدفع عنهم العذاب.

[39] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالله سبحانه، كما أنه

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 424

[سورة فاطر (35): الآيات 39 الى 40]

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ

رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)

خالقهما، عالم بما غاب عن الحواس، في السماوات و الأرض إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء، التي تدور في صدور الناس، و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، باعتبار أنه يعلم ما في صدور الكفار، من أنهم، لا ينوون الإقلاع، صدقا، إن رجعوا إلى الدنيا، كما هو شأن المعاند دائما، و لذا قال سبحانه «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».

[40] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ أي خلفاء للسابقين فِي الْأَرْضِ تخلفونهم، في مكانهم، لتعتبروا بهم، و أنهم حين عصوا أهلكوا فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي أن عاقبة كفره السيئة على نفسه، فإنه يتضرر بجزاء كفره وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً و هو أشد الغضب، فكلما بقوا في الكفر إزداد غضب الله عليهم وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً خسارة لخير الدنيا، و سعادة الآخرة، فلهم عذاب نفسي، هو مقت الله لهم، و عذاب جسمي هو الخسارة.

[41] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني عن هؤلاء الشركاء أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فهل خلقوا بعض الأشياء الموجودة في الأرض؟

أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم هل اشتركوا في خلق بعض الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 425

[سورة فاطر (35): آية 41]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً

(41)

الكائنة في السماء؟ حتى تقولون أنهم شركاء لله سبحانه، في العبادة، لأنهم اشتركوا معه، في خلق بعض الأشياء، في الكون أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أي أنزلنا على هؤلاء المشركين كتابا يصدق عقيدتهم، بأن ينصر ذلك الكتاب على وجود شركاء لله سبحانه فَهُمْ أي هؤلاء الكفار عَلى بَيِّنَةٍ أي على حجة ظاهرة مِنْهُ أي من الشرك، فلهم حجة ظاهرة عليه، أو من ذلك الكتاب؟ لكن لم يكن مستند شركهم، لا هذا، و لا ذاك، و لا ذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ أي ما يعد الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً فيقول بعضهم لبعض أن طريقتنا أحسن و أن النصر لنا بالآخرة، و الغرور هو الذي يطمع فيه، و لكن لا حقيقة له.

[42] إن السماوات و الأرض، كلها مخلوقة لله سبحانه، و كما خلقهما يحفظهما عن الزوال، و التفكك، و ليس لصنم شرك في خلقهما أو إبقائهما إِنَّ اللَّهَ تعالى يُمْسِكُ أي يحفظ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بمن فيهما أَنْ تَزُولا أي كراهية أن تزولا عن مواضعهما، فلو انقطعت عناية الله عنهما، و عن هذا النظام، لاضطربت أوضاع الكون، فزالت المدارات و الأنجم من مواضعها، و هلك كثير من السكان، و اضطربت الأرض، كما أنه لو انقطعت العناية، عن أصل وجودهما عدمتا في اللحظة و الآن وَ لَئِنْ زالَتا أي قدّر زوالهما إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما، و ما قدر على حفظهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 426

[سورة فاطر (35): الآيات 42 الى 43]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ

الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)

مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله سبحانه، فليس هناك أحد يتمكن أن يحفظ شيئا منهما إِنَّهُ كانَ حَلِيماً و من حلمه، لا يعجل بالعقوبة على الذين يجعلون لله شركاء غَفُوراً يغفر الذنب لمن أناب، و في هذا فتح التوبة على المشركين، كي لا ييأسوا من روح الله، فإنه تعالى يقبلهم إن رجعوا عن شركهم.

[43] إن الكفار بالإضافة إلى رذيلة الكفر، ارتكبوا رذيلة خلف الحلف و العهد وَ ذلك لأنهم أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بأيمان غليظة، حسب غاية قدرتهم و طاقتهم، و «جهد» مصدر، أي جهدوا في القسم جهدا، أو أقسموا هنا النوع من القسم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي رسول ينذرهم لَيَكُونُنَّ أَهْدى أي أقبل للهداية مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الماضية، فقد كانوا يسمعون أنباء الأنبياء مع قومهم- من أهل الكتاب- فيقولون، إن جاءنا رسول، نقبل قوله فورا، بلا معارضة، أو مناقشة، و يحلفون على ذلك بالأيمان المغلطة فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق، فقد كان قلبهم، يلين للحق سابقا، أما إذا رأوه فقد ابتعدوا عنه، ابتعادا كبيرا.

[44] و إنما نفروا نفورا اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ أي لأنهم استكبروا و تجبروا عن أن يكونوا تبعا للرسول، فقد طلبوا الكبرياء في الأرض لأنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 427

وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أي قصدوا أن يمكروا المكر السيئ بالمؤمنين و المكر حيث كان بمعنى التدبير الخفي ضد العدو، صح إضافته إلى السيئ، لأن من المكر، ما هو حسن، إذا كان ضد عدو الدين، كما قال «و مكر الله» وَ

لكنهم غفلوا من أنه لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ صفة مكر، و في ما تقدم، كان مضافا إلى السيئ، و المعنى لا يحيط جزاء المكر السيئ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي بأهل المكر، كما قالوا: «من حفر بئرا لأخيه، وقع فيه» فقد قرر سبحانه، أن يرجع المكر السيئ إلى من مكر، كما قال: (وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) «1» فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار المستكبرين الماكرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ بأن تجري فيهم، عادة الله في الأمم السابقة، التي كانت تكذب أنبياءها عليهم السّلام، و العادة هي أن يعمهم الله بعقاب يهلكهم أي هل ينتظر هؤلاء عقاب الله؟ و إلا فلما ذا لا يؤمنون، بعد أن رأوا الحق ظاهرا، فإن كانوا ينتظرون ذلك فَلَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا و المعنى، فسيأتيهم العذاب، إذ لا تبدّل سنة الله، التي سنّها للمكذبين، من أنه لما تمت عليهم الحجة، و لم يرتدعوا عمهم بالعقاب، و النكال وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا فالتبديل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض، فيبدّله الله سبحانه، بأن

______________________________

(1) الأنفال: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 428

[سورة فاطر (35): آية 44]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)

يجعل جزاء المكذب الصحة، و التحويل مثل أن يكون جزاء المكذب المرض في الدنيا، فيحوله إلى المرض في الآخرة، أو أن يكون المرض في المكذبين، فيحوله إلى المرض في المؤمنين، و إنما جي ء، ب «ينظرون» مكان «ينتظرون» لأن المنتظر لشي ء،

ينظر ليرى، هل صار أم لا، و هذا لا يكون، إلا قرب وقت الشي ء الذي ينتظره، فكأنه قرب العذاب إليهم، فهم ينظرون ليروه، بخلاف «ينتظرون» فإنه يلائم الأمر البعيد المرتقب.

[45] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ التي أهلك أهلها، كأرض عاد و ثمود، و أرض سدوم، و غيرها فَيَنْظُرُوا بأعينهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الذين كذبوا أنبياءهم، فأخذهم الله بالعقاب وَ كانُوا أولئك الذين أهلكوا أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار قُوَّةً في أبدانهم، و في سائر مرافق حياتهم وَ إذ صار وقت هلاكهم، لم يقف دون إرادة الله قواهم الكثيرة، إذ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ بأن تكون القوة سببا لعجز الله عن تنفيذ إرادته في هلاك القوم فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي ليس، في السماء و لا في الأرض، شي ء يقف أمام إرادة الله، فإذ قد أهلك أولئك الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة، فهل يتمكن هؤلاء الأضعفون، إن يقفوا أمام العذاب؟ إِنَّهُ تعالى كانَ عَلِيماً بجميع الأشياء يعلم ما يفعل كل إنسان قَدِيراً بأن يجازيه حسب عمله، فليقلع هؤلاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 429

[سورة فاطر (35): آية 45]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

الكفار، عن غيهم و كفرهم، و إلا كان مصيرهم، مصير الأمم الماضية.

[46] وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الكفر و العصيان ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ تدب على وجه الأرض، إذ قد خلقت الأشياء لأجل الإنسان، فإذا أهلك الإنسان لكفره و

عصيانه لزم فناء سائر الحيوانات، لأنه قد فنى ما لأجله خلقت، أو أن المراد، أن العذاب، لو نزل لعمّ الكل، فلا تبقى دابة في الأرض، فإنه إذا كان هناك جماعة بعضهم مجرم، و بعضهم صالح، و جاء السيل لأخذ المجرم، أخذ البري ء معه، و هذا لا ينافي العدل، إذ يكون ذلك سببا لرفع درجات البري ء- كما قرر في علم الكلام- بأن الآفات إما للتأديب أو للتعذيب، أو لرفع الدرجة وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ الله سبحانه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي قد سماه في اللوح المحفوظ، فقد علّم على مدة بقاء زيد بسنة كذا و لبقاء عمرو بسنة كذا، و هكذا، و الاسم في اللغة بمعنى العلامة، و منه سمي علم الأشخاص اسما فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً عارفا بأحوالهم، فيجازيهم حسب ما عملوا، كما يقول الحاكم، مهددا للمجرمين إذا جاء يوم المحاكمة، أنا أعرف الناس، أي لا أشتبه في الحكم على المجرم بالعقاب، و أميزه على الصالح البري ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 430

36 سورة يس مكيّة/ آياتها (84)

سميت السورة بهذا الاسم، لابتدائها، ب «يس» و هو كما ورد من أسماء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا ينافي في أن يكون «رمزا» أيضا، و ينطبق عليه بعض الأقوال الأخر، في المقطعات، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضية العقيدة، في أسلوب جذّاب، و إذ كان في أواخر سورة فاطر، أنهم لم يؤمنوا بالرسول، بعد إذ جاءهم، افتتحت هذه السورة، بالحلف الأكيد، على كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرسلا من قبل الله سبحانه.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الذي من ابتدأ باسمه في أعماله، كان العمل قريبا بالخير، و

التمام، و إن لم يبتدأ به، كان أبعد عن الخير، و إن تمّ في الظاهر، فإن طابع الله سبحانه، إذا لم يوضع على شي ء فنى فيما يفني من زهرة الحياة الدنيا، و الإتيان بوصفي الرحمن و الرحيم، للتأكيد على هاتين الصفتين في الإله سبحانه، مقابل آلهة الكفار الذين يتصفون بالقساوة و الغلظة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 431

[سورة يس (36): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)

[2] يس اسم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما

ورد عن الباقر عليه السّلام، قال «إن لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسة أسماء في القرآن، محمد، و أحمد، و عبد الله، و يس، و نون»

«1»، أو رمز بين الله و بين الرسول و الأئمة عليهم السّلام، أو غير ذلك من الأقوال، و على الأول يكون «منادى» أي «يا رسول الله».

[3] وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ حلف بالقرآن و إنما سمي القرآن حكيما، لما فيه من الأحكام الحكيمة، التي جاءت حسب الصلاح، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

[4] إِنَّكَ يا رسول الله لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ فلست كاذبا، كما يزعم هؤلاء بل قد أرسلك الله إلى الناس بشيرا و نذيرا.

[5] في حال كونك عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي تسلك الطريق الذي لا انحراف له، في العقيدة و العمل، و إنما جي ء ب «على» تشبيها بمن كان يمشي على الطريق، لاستعلائه عليه.

[6] في حال كون القرآن تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ العزيز في سلطانه، فلا يريد شيئا، إلا عمله، الرحيم بعباده.

[7] لِتُنْذِرَ قَوْماً و هم

كفار مكة ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم ينذر آباؤهم، لأنهم كانوا، بلا أنبياء، في زمن فترة بين المسيح و الرسول عليهما السّلام، أو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 432

[سورة يس (36): الآيات 7 الى 8]

لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)

أن «ما» موصولة، أي تنذرهم، كما أنذر آباؤهم، لكن ظاهر «الفاء» تفيد الأول فَهُمْ غافِلُونَ عن الأصول و الآداب، و النظام، و إنما عبّر بالغفلة، لأن الإنسان يكمن في نفسه الأصول و الآداب (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) «1» و إنما يغفل عنها، بسبب الأهواء، و الشهوات، و التقاليد.

[8] لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ ثبت القول بالعذاب، على أكثر هؤلاء القوم، لعنادهم و لجاجهم في الأمر، بعد تبين الحق، و وضوح الحجة فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فقد علم الله عدم إيمانهم، أو أن المراد، أنه ثبت القول، بعدم الإيمان عليهم، بما علم الله فيهم من العناد و اللجاج، فهم لا يؤمنون.

[9] إن هؤلاء الكفار في إعراضهم كالإنسان الذي غلّت يديه مع عنقه، و غشي على بصره، فكيف أنه لا يتمكن أن يشرئب عنقه ليرى، و لا أن يلمس بيده ليعلم، و لا أن ينظر ببصره ليرى، فإن هذه الأعضاء الثلاثة تتعاون في فهم الشي ء، و حيث أن الله سبحانه، يرى من إنسان الإعراض عن الحق و اللجاج، يتركه حتى يضل و يتيه في أودية العماية، فكأنّه أضلّه لأنه تركه، كما يقال: الملك أفسد الناس إذ تركهم حتى فسدوا إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أي أعناق هؤلاء الكفار المعاندين أَغْلالًا جمع غل، و هو السلسلة التي يربط بها

المجرم في عنقه أو يده أو رجله فَهِيَ أي تلك الأغلال إِلَى الْأَذْقانِ بأن

______________________________

(1) الروم: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 433

[سورة يس (36): آية 9]

وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

كانت كبيرة، حتى وصلت إلى أذقانهم، ليرفعها نحو الفوق، فلا يتمكنون من النظر بعيونهم أمامهم، فإن رؤوسهم بسبب تلك الأغلال مرفوعة نحو السماء، و قيل أن المراد أيديهم مغلولة إلى الأعناق، ف «هي» عائدة إلى الأيدي المفهومة من السياق، و أذقان جمع ذقن، و هو النتو وسط الفك السفلي فَهُمْ مُقْمَحُونَ من قمح، بمعنى رفع رأسه إلى فوق، فإن الأغلال، لما امتدت إلى تحت أذقانهم، رفعت رؤوسهم إلى السماء، حتى لا يتمكنون من النظر أمامهم.

[10] وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا أي أمامهم سدّ عن قبول الحق وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فكما أن الإنسان الذي حصر بين سدين، لا يتمكن من السير و الحركة، كذلك هؤلاء لا يتمكنون من السير مع الحق، و إنما هم جامدون في مكانهم فَأَغْشَيْناهُمْ أي جعلنا على أبصارهم غشاوة، تمنعهم عن الإبصار فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق، و

قد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، و نفر من أهل بيته، و ذلك «أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قام يصلي، و قد حلف أبو جهل لعنه الله، لئن رآه يصلي ليدمغنّه فجاءه و معه حجر و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قائم يصلي، فجعل كلما رفع الحجر ليرميه، أثبت الله عز و جل يده إلى عنقه، و لا يدور الحجر بيده، فلما رجع إلى أصحابه، سقط الحجر من يده، ثم قام رجل

آخر، و هو من رهطه أيضا، فقال: أنا أقتله، فلما دنا منه جعل يستمع قراءة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأرعب، و رأى كأن فحلا حائلا بينه و بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فرجع إلى أصحابه، فقال:

حال بيني و بينه، كهيئة الفحل يخطر بذنبه- أي يحرك ذنبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 434

[سورة يس (36): الآيات 10 الى 12]

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)

غضبا- فخفت أن أتقدم»

«1».

[11] وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار أَ أَنْذَرْتَهُمْ يا رسول الله أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ عن العقاب و النار لا يُؤْمِنُونَ إذ قد عاندوا الحق، و المعاند يتساوى عند الإنذار و عدمه.

[12] إِنَّما تُنْذِرُ أي ينفع إنذارك، في مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن، فقد أنذر الرسول الجميع لكن الذين انتفعوا به هم المؤمنون وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي في حال كون الرحمن غائبا عن الحواس، و المعنى آمن بالله، و إن لم يره فَبَشِّرْهُ يا رسول الله بِمَغْفِرَةٍ أي غفران لذنبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ لما أتي به من الإيمان و العمل الصالح، و إنما كان الأجر الكريم، لعدم شوبه بما يفسده و ينقصه، أو لأنه يقدم إلى المؤمن مع الإكرام و الاحترام.

[13] ثم بعد الكلام، حول الألوهية و الرسالة، يأتي دور المعاد، فقال سبحانه إِنَّا نَحْنُ التكرار للتأكيد و الإلفات إلى أن المتكلم ذو مقام عظيم نُحْيِ الْمَوْتى جمع ميت، أي

ليوم القيامة، لنجازيهم وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي قدم الناس لآخرتهم من الأعمال الصالحة، أو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 435

[سورة يس (36): آية 13]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)

الفاسدة وَ آثارَهُمْ أي الأعمال التي أبقوها بعدهم، كمن عمر مسجدا و مخمرا، فإنه يكتب له الثواب و العقاب، و هو في القبر وَ كُلَّ شَيْ ءٍ من الأعمال الصالحة و الطالحة، و سائر الأشياء أَحْصَيْناهُ من الإحصاء، و هو التعداد بالإثبات و الكتابة فِي إِمامٍ مُبِينٍ أي كتاب ظاهر، و إنما سمي الكتاب إماما، لأنه يجعل مصدر الأخذ، كما أن الإمام، مصدر الاقتداء و الأخذ، و لعل المراد بذلك اللوح المحفوظ،

و في جملة من الأحاديث، «أن الإمام المبين، هو الإمام أمير المؤمنين»

عليه السّلام «1»، و ذلك، إما تأويل أو مصداق، فإن الأعمال تعرض على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الأئمة عليهم السّلام، حتى يكونوا شهداء عليها، فيعلمون أعمال الناس، و لا تنافي، بين أن يكون هناك كتاب صامت، و كتاب ناطق.

[14] وَ اضْرِبْ لَهُمْ يا رسول الله مَثَلًا أي بيّن لهم مثالا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي قرية أنطاكية،

روي عن الباقر عليه السّلام أنه سئل عن تفسير هذه الآية، فقال: «بعث الله رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية، فجاءهم بما لا يعرفون، فغلظوا عليهما، فأخذوهما و حبسوهما في بيت الأصنام، فبعث الله الثالث، فدخل المدينة، فقال: أرشدوني إلى باب الملك، فلما وقف على الباب، قال: أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض، و قد أحببت أن أعبد إله الملك، فأبلغوا كلامه الملك، فقال:

أدخلوه إلى بيت الألهة، فأدخلوه، فمكث سنة مع صاحبيه، فقال

______________________________

(1)

تفسير القمي: ج 2 ص 212. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 436

لهما: بهذا ينقل قوم من دين إلى دين؟ بالخرق، أ فلا رفقتما؟ ثم قال لهما: لا تقرّان بمعرفتي، ثم أدخل على الملك، فقال له الملك:

بلغني أنك كنت تعبد إلهي، فلم أزل و أنت أخي؟ فسلني حاجتك، فقال: ما لي من حاجة أيها الملك، و لكن رأيت رجلين في بيت الألهة فما حالهما؟ قال الملك: هذان رجلان أتياني ببطلان ديني، و يدعواني إلى إله سماوي، فقال: أيها الملك، فمناظرة جميلة، فإن يكن الحق لهما اتبعناهما، و إن يكن الحق لنا دخلا معا في ديننا، و كان لهما ما لنا و عليهما ما علينا؟ فبعث الملك إليهما، فلما دخلا عليه، قال لهما صاحبهما: ما الذي جئتما به؟ قالا: جئنا ندعوه إلى عبادة الله الذي خلق السماوات و الأرض، و يخلق في الأرحام ما يشاء، و يصور كيف يشاء و أنبت الأشجار و الثمار، و أنزل القطر من السماء، فقال لهما:

إلهكما هذا الذي تدعوان إليه، و إلى عبادته، إن جئنا بأعمى أ يقدر أن يرده صحيحا؟ قالا: إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء، قال أيها الملك:

عليّ بأعمى لم يبصر شيئا قط؟ فأتى به، فقال لهما: ادعوا إلهكما أن يرد بصر هذا، فقاما و صليا ركعتين، فإذا عيناه مفتوحتان، و هو ينظر إلى السماء، فقال: أيها الملك، عليّ بأعمى آخر؟ فأتى به، فسجد سجدة، ثم رفع رأسه، فإذا الأعمى يبصر، فقال أيها الملك: حجة بحجة، عليّ بمقعد، فأتي به، فقال لهما مثل ذلك، فصليا، و دعوا الله، فإذا المقعد، قد أطلقت رجلاه، و قام يمشي، فقال: أيها الملك علي بمقعد آخر فأتي به فصنع به كما

صنع أول مرة، فانطلق المقعد، فقال: أيها الملك قد أتيا بحجة آتينا بمثلها، و لكن بقي شي ء واحد، فإن كانا هما فعلاه دخلت معهما في دينهما؟ ثم قال أيها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد، و مات، فإن أحياه إلههما، دخلت معهما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 437

[سورة يس (36): آية 14]

إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)

دينهما فقال له الملك: و أنا أيضا معك، ثم قال لهما: قد بقيت هذه الخصلة الواحدة، قد مات ابن الملك، فادعوا إلهكما أن يحييه، فخرا ساجدين لله عز و جل، و أطالا السجود، ثم رفعا رأسهما، و قالا للملك: ابعث إلى قبر ابنك تجده، قد قام من قبره إن شاء الله، فخرج الناس ينظرون، فوجدوه، قد خرج من قبره ينفض رأسه من التراب، قال: فأتى به الملك، فعرف أنه ابنه، فقال له: ما حالك يا بني، قال:

كنت ميتا، فرأيت رجلين بين يدي ربي الساعة ساجدين، يسألانه أن يحييني، فأحياني قال: يا بني تعرفهما إذا رأيتهما، قال: نعم، فأخرج الناس جملة إلى الصحراء، يمرّ عليه رجل رجل، فيقول له أبوه انظر، فيقول لا، ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير، فقال هذا أحدهما، و أشار بيده إليه، ثم مروا أيضا بقوم كثيرين، حتى رأى صاحبه الآخر، فقال و هذا الآخر، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، صاحب الرجلين: أما أنا فقد آمنت بإلهكما، و علمت أن ما جئتما به هو الحق، فقال الملك: و أنا أيضا آمنت بإلهكما، و آمن أهل مملكته كلهم»

«1»،

و في بعض الروايات «أن عيسى عليه السّلام، كان هو الذي بعث بالرسولين، أولا ثم بعث

وصيه شمعون ثانيا» «2»

، كأنّ الإتيان بهذا المثل للدلالة على قدرة الله على الإحياء، إرشادا للمنكرين للبعث إِذْ جاءَهَا أي جاء إلى أهل تلك القرية الْمُرْسَلُونَ الذين أرسلوا من قبلنا بتوسط عيسى المسيح عليه السّلام.

[15] إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ أي إلى أهل تلك القرية اثْنَيْنِ أي رسولين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 240.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 14 ص 266.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 438

[سورة يس (36): الآيات 15 الى 18]

قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)

فَكَذَّبُوهُما أهل القرية، و قالوا لستم أنتم رسلا من قبله سبحانه، و إنما رجلين كاذبين فَعَزَّزْنا أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون فَقالُوا جميعا لأهل القرية إِنَّا إِلَيْكُمْ أيها القوم مُرْسَلُونَ فقد كانوا هم أنبياء بأنفسهم و رسل عيسى عليه السّلام.

[16] قالُوا لهم أهل القرية ما أَنْتُمْ أي لستم أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا تصلحون للرسالة من قبل الله، كما لسنا نحن رسلا، فكانوا يظنون أن الرسول يجب أن لا يكون بشرا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ تدعوننا إليه إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المدعون للرسالة إِلَّا تَكْذِبُونَ أي كاذبون، فيما تدعون من أنكم أنبياء لله تعالى.

[17] قالُوا أي قالت الرسل الثلاثة في جواب القوم رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ و الدليل على أن ربنا يعلم أنه أجرى الخوارق على أيدينا.

[18] وَ ما عَلَيْنا أي لا يجب علينا إِلَّا الْبَلاغُ أي إبلاغ الدين الْمُبِينُ بأن نبلغكم بكل جلاء

و وضوح، بلا اختفاء و التواء، فإن آمنتم نفعكم إيمانكم، و إن لم تؤمنوا ضركم، أما نحن، فقد أدينا الأمانة، و بلغنا الرسالة.

[19] قالُوا أي قال أهل القرية للرسل- بعد أن لم يتمكنوا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 439

[سورة يس (36): آية 19]

قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

رد حجتهم- إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بواسطتكم، فنخاف أن يصيبنا شؤمكم، فنقع في البلاء من طالعكم السيئ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن دعوتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ من الرجم، و هو الرمي بالحجارة، أي نرميكم بالحجارة، حتى نقتلكم، فقد كان الرجم، من أبشع أنواع القتل، يعاقبون به أخطر أنواع المجرمين وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا أي من طرفنا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[20] قالُوا أي قالت الرسل، في جواب الكفار و تهديدهم طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي إن شؤمكم معكم، حيث أقمتم على الكفر و العصيان، و الإقامة على الكفر، موجب للشؤم، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» فليس بلاؤكم منا، بل من أنفسكم أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ أي هل تذكيرنا لكم بالله، و اليوم الآخر، موجب لهذا القول لنا؟ و هذا استفهام إنكاري، كما تقول لمن هددك، حيث نصحته: هل نصيحتي توجب التهديد؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فلا تهددونا، لأنكم وجدتمونا كاذبين، و أسباب شؤم و بلاء، بل لأنكم قوم تجاوزون الحق تجاوزا كثيرا، و لذا مع علمكم بصدقنا، و إننا أسباب خير و يمن تقولون لنا هذه الأقوال، و تهددونا بالرجم و العذاب.

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 440

[سورة يس (36): الآيات 20 الى 22]

وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا

مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)

[21] و قد كان رجل يسمى حبيب النجار آمن بالرسل عند ورودهم المدينة، و كان له بيت في آخر المدينة، فلما سمع بمحاورة القوم مع الرسل، أتى إلى القوم لينصحهم وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ أي آخرها رَجُلٌ يَسْعى أي يركض و يسرع في المشي، لئلا يفوته الموقف، و قد قيل إن القوم أرادوا قتل الرسل، فجاء حبيب لإنقاذهم من القتل، فلما وصل إلى المجتمع قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله إليكم لهدايتكم و إنقاذكم من الكفر و العصيان.

[22] اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً فهم، لا يريدون جزاء و ثمنا على تبليغهم، و إنما يقصدون بذلك الثواب، عند الله سبحانه، فما لكم لا تتبعون الناصحين الذين ينصحون، بلا ثمن و جزاء؟ وَ هُمْ في كلامهم مُهْتَدُونَ قد هداهم الله سبحانه، فليسوا ضلالا، و لا كاذبين، و لا طالبين للأجر.

[23] ثم التفت حبيب من الخطاب إلى التكلم، فقال وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي أيّ شي ء لي في عدم عبادتي لله الذي خلقني؟ فإن «فطر» بمعنى خلق، و كان هذا الكلام للقوم، بصورة مؤدبة لا تثيرهم، و لا تزعجهم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها القوم، في يوم القيامة، فهو المبدئ و المعيد، فكونه خالقا موجب للشكر و العبادة و كونه مرجعا موجب للخوف و العبادة، فإن الإنسان إنما يطيع أحدا، إذا تفضل عليه، أو خاف عقابه، و الأمران مجتمعان فيه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 441

[سورة يس (36): الآيات 23 الى 25]

أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ

شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

[24] أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً بأن أعبد الأصنام، عوض عبادة الله تعالى؟ و هذا استفهام إنكاري، أراد التعريض بالقوم، كيف يعصون الخالق، و يعبدون الأصنام؟ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ أصله «يردني»، فعل مضارع من «أراد» و النون للوقاية، و ياء التكلم، محذوف، لدلالة الكلام عليه، أي إن إرادة الله أن يضرني لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ أي شفاعة الأصنام- الآلهة- شَيْئاً فإنها لا تشفع، و لو شفعت لم تفد شفاعتها، أو المعنى لا شفاعة لهم، فتغني و تفيد، على طريق السالبة بانتفاء الموضوع وَ لا يُنْقِذُونِ أي لا ينقذونني عن الضرّ الذي أراده الله بي، و قد أراد بهذا تنبيه القوم على ما هم كانوا يعترفون به في قرارة أنفسهم، من أن الأصنام، لا شأن لها إطلاقا، حتى إن أقل شي ء لا يصدر منها، و الإتيان بالجمع العاقل للأصنام، لملاحظة وحدة السياق، مع كلام القوم، و اعتقادهم بأنها تسمع و تعقل.

[25] إِنِّي إِذاً أي إذا عبدت الأصنام، مع أنها لا تنفع لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح لا شك فيه.

[26] إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ أيها الرسل، أو أيها القوم فَاسْمَعُونِ سماعا يفيدكم، بأن تفعلوا مثل فعلي، أو المراد، فاشهدوا لي بهذه الشهادة، فإني مؤمن بربكم الذي أوجدكم من العدم، لا الأصنام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 442

[سورة يس (36): الآيات 26 الى 27]

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

[27] قالوا، فاجتمع القوم، و قتلوا حبيبا، فنودي، حين أن قتل من قبله تعالى، و قِيلَ له ادْخُلِ

الْجَنَّةَ المعدة لك بسبب إيمانك قالَ و هو ميت بعد استشهاده، كما ورد يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ

[28] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي بغفران ذنوبي، ليرغبوا في ثوابه، و يدخلوا في الدين، بترك الكفر و العصيان وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ الذين أكرمهم، بالإضافة إلى الغفران بالثواب و الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 443

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الثّالث و العشرون من آية (29) سورة يس إلى آية (32) سورة الزمر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 444

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 445

[سورة يس (36): الآيات 28 الى 30]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)

[29] ثم إن الكفار يجب أن يعلموا أن الله سبحانه إذا أراد إهلاكهم، لا يرسل إليهم جنودا حتى يقاتلونهم، فيرجون احتمال غلبهم على جنود الله، حتى يقولوا إذا جاءت الجنود نتهيأ لها، بل إن الله إذا أراد الإهلاك، أرسل إليهم ملكا يصيح بهم صيحة واحدة تدمرهم، حتى إنه ليس لهم مجال لحركة أو عمل، فليعتبروا من قوم حبيب النجار، فإن جماعة منهم بقوا على الكفر، بعد إيمان الملك و حاشيته، و أرسلنا عليهم جبرئيل، أو ملكا آخر صاح بهم صيحة واحدة أو خلقنا صيحة في الفضاء، أهلكتهم جميعا، حتى لم يبق منهم حيّ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أي قوم الرجل الذي جاء، من أقصى المدينة يسعى مِنْ

بَعْدِهِ أي بعد قتلهم له مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من الملائكة، يحاربونهم، حتى تكون لهم فرصة المقاتلة، و احتمال الغلبة وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي ليس شأننا، إنزال الجند، إذا أردنا إهلاك قوم، أو كما ننزل فيما سبق، لا ننزل في المستقبل- و هذا تهديد لكفار مكة-.

[30] إِنْ كانَتْ أي ما كانت كيفية إهلاك أولئك القوم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم الملك، أو بخلق الصيحة في الفضاء فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ساكنون، قد ماتوا، من الخمود ضد الاشتعال، كأنهم قد أطفئوا في أثر الصيحة.

[31] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة هي الندامة، فالمعنى أيتها الندامة على العباد، احضري فهذا وقتك، كما قالوا في مثل «يا ويله» و «يا عجبا» أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 446

[سورة يس (36): الآيات 31 الى 33]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)

المعنى، يا قوم أتحسر حسرة، و من المعلوم إن الله سبحانه لا يتحسر بمعناها في البشر، و إنما المراد نتيجة الحسرة، كما في سائر الصفات، كالغضب و الرضى، و ما أشبه، و لذا قالوا خذ الغايات، و اترك المبادئ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ «من» «لتعميم» النفي إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يضحكون منه، و يجعلونه محلا للسخرية، و حيث كان الكلام في السابق، حول مواجهة الأقوام للأنبياء، بالأذى و التكذيب، جاء السياق لبيان عموم الأذى، و إنه كان من شعبة السخرية.

[32] أَ لَمْ يَرَوْا هؤلاء الكفار المعاصرون للرسول، و معنى الرؤية العلم، على نحو الاستفهام التقريري، أي ألم يصل علمهم كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ

أي قبل هؤلاء مِنَ الْقُرُونِ كعاد و ثمود، و قوم لوط، و القرن يسمى الجيل و الأمة، باعتبار تقارن أعمارهم أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ أي أن تلك القرون إلى هؤلاء لا يَرْجِعُونَ فقد أخذهم العذاب، فلم تبق منهم باقية؟ فليعتبروا بأولئك، و ليعلموا أن مصير هؤلاء إن بقوا على كفرهم و تكذيبهم مصير أولئك.

[33] وَ إِنْ كُلٌ أي ما كل تلك الأقوام لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ «لما» بمعنى إلّا، أي إلا أن الجميع يحضرون لدينا يوم القيامة للحساب و الجزاء، و لعل «كل» باعتبار كل قوم، و «جميع» باعتبار كل فرد من كل قوم.

[34] ثم كيف يكفر هؤلاء بالله سبحانه، و أمام أعينهم، آثاره الظاهرة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 447

[سورة يس (36): الآيات 34 الى 35]

وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

و أعلامه الباهرة؟ وَ آيَةٌ أي علامة دالة على وجود الله لَهُمُ أي لهؤلاء المنكرين وجود الله سبحانه الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ التي لا نبات فيها، و لا حركة أَحْيَيْناها بالإنبات بواسطة المطر، أو سائر المياه وَ أَخْرَجْنا مِنْها من تلك الأرض الحبوب، فإن حَبًّا يراد به الجنس، و الحب، كالحنطة، و الشعير، و الأرز، و غيرها فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ أي من ذلك الحب، و المراد بعضه، لأن بعضه الآخر، يكون نصيب الحيوانات و الطيور.

[35] وَ جَعَلْنا فِيها أي في الأرض جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ جمع نخل، و هو ما يعطي التمر وَ أَعْنابٍ جمع عنب، و أطلق العنب على شجرته باعتبار السبب و المسبب، و إنما خصّا بالذكر لكثرة أقسامهما خصوصا في تلك البلاد وَ فَجَّرْنا أي أخرجنا

فِيها في تلك الأرض الميتة، أو في تلك الجنات مِنَ الْعُيُونِ جمع عين، و هي محل خروج الماء العذب من الأرض.

[36] و إنما فعلنا ذلك لِيَأْكُلُوا أي ليأكل البشر مِنْ ثَمَرِهِ أي من ثمر النخل و ما أشبه، و توحيد الضمير باعتبار كل واحد واحد وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي لم تعمل كل عمل، من تلك الأعمال أيدي هؤلاء، فإنهم، و إن عملوا، و لكنهم أسباب ضعيفة ظاهرية، و إنما الخالق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 448

[سورة يس (36): الآيات 36 الى 38]

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)

المكون هو الله تعالى أَ فَلا يَشْكُرُونَ الله، بإعطائهم هذه النعم المتواترة؟

[37] سُبْحانَ الَّذِي منصوب بفعل مقدر أي أنزهه تنزيها، و أسبحه تسبيحا خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها المراد بالأزواج الأصناف، أي أن من خلق هذه الأصناف الكثيرة الموجودة في العالم، منزه عن الشريك و النقص، بل هو الواحد الذي لا نقص فيه مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ بيان «الأزواج» أي خلق أزواج النبات و أصنافه وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ خلق الأزواج، ذكرا و أنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ من الجن و الملائكة، و ما في بطون الأرض، و قعر البحر، و أجواء السماء، و أصناف النجوم و غيرها.

و ستأتي الإشارة إلى خلق الأنعام، و لعله لذا لم يذكر هنا.

[38] وَ آيَةٌ لَهُمُ أي دلالة على وجود الله، و سائر صفاته، لهؤلاء المنكرين لله سبحانه اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فكأنّ النهار كان جلدا على جسم الليل، فإذا جاء الليل، كأنّه سلخ

النهار من الليل، حتى يبدو الليل، كما يسلخ جلد الشاة منها، فيبدو جسمها، فهو كقولنا «لحم الشاة نسلخ منه الجلد» فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام.

[39] وَ الشَّمْسُ تَجْرِي كل يوم، لأن يأتيهم بالنهار لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 449

[سورة يس (36): الآيات 39 الى 40]

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

إلى محل قرار لها- عند الناس- و هو تحت الأرض، أو إلى وقت قرار لها، و هو يوم القيامة ذلِكَ الإجراء تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه، فما أراد كان الْعَلِيمِ بالمصالح، فيعمل ما فيه صلاح البشر و الكون.

[40] وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ أي قدرنا له مَنازِلَ ففي كل يوم في منزل، فإن للقمر ثمانية عشر منزلا، كما ذكر علماء الفلك، أو المراد المنازل المرئية من هلال و قمر و بدر، في أحوالها المختلفة زيادة و نقيصة حَتَّى عادَ القمر في آخر الشهر كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون هو العذق اليابس المقوّس، فإن القمر في آخر الشهر يعود كما بدأ هلالا ضعيفا مقوسا.

[41] لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أي لا تتمكن أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سيرها فإن الشمس تقطع دورة الفلك في سنة كاملة، و التي يقطعها في شهر، أو أن حركاتهما في أفلاكهما نظّمتا بحيث لا يصطدم أحدهما بالآخر، و هذا بيان لحكمة الله سبحانه، في أنه نظمهما، بحيث لا يتلاقيان، و يسببا فساد الأنظمة الكونية وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ بأن يأتي الليل قبل تقضي وقت النهار، كالإنسان الذي يسبق الآخر الذي يأتي حتى يلحقه، ثم يترادفان في المسير حتى يتقدم ذلك المتأخر، فإن

الليل لا يزاحم النهار في أفق واحد، حتى يرى الإنسان ليلا و نهارا في حال واحد، ثم يتقدم الليل، و يتأخر النهار، و هذا كناية عن دقة التنظيم الذي لا يتزلزل وَ كُلٌ من الشمس و القمر فِي فَلَكٍ و مدار خاص يَسْبَحُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 499

[سورة يس (36): الآيات 41 الى 43]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)

كالذي يسبح في الماء بكل سهولة و يسر، و الإتيان بضمير العاقل، إما من باب أن لهما عقلا- و ذلك غير بعيد- و يؤيده ما

ورد في الدعاء من خطاب القمر، ب «أيها الخلق المطيع»

و إما من جهة أنه حيث نسب إليهما السباحة، و هي من فعل العاقل، ناسب الإتيان بضمير العاقل.

[42] وَ آيَةٌ أي دلالة دالة على وجود الله سبحانه، و سائر صفاته لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار، أو البشر عامة أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أي نسلهم، و لعل نسبه الحمل إلى الذرية، مع أن الحمل عام للآباء و الأبناء، إن الذرية أحوج إلى الحمل فإن الإنسان الكبير، يمكن أن يعبر مضايق البحار بالسباحة، و ما أشبه، أما الذرية فلا علاج لسيرهم إلا بالسفينة فِي الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ من «شحن» إذا ملأ، بمعنى السفينة المليئة بالناس و الأثاث، و معنى «حملنا» جعلنا الماء بحيث يمكن أن يحمّل عليه، بمثل السفينة المملوءة، فمن جعل ذلك يا ترى؟ إنه هو الله تعالى القادر على كل شي ء، فبينما القطعة الصغيرة من الحجر تعوم في الماء، لتسير على ظهره

السفينة المحمّلة بالأثقال.

[43] وَ خَلَقْنا لَهُمْ أي للبشر، أو للذرية مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ عليه في البر من الأنعام التي تحمل أثقالهم إلى البلاد النائية.

[44] وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ في البحر، حين كانوا راكبين في السفينة، و ذلك بتهييج الرياح و العواصف، أو ما أشبه فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي فلا أحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 451

[سورة يس (36): الآيات 44 الى 46]

إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)

يغيثهم، إن أردنا إغراقهم وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ أي لا يخلصون من الغرق، إذا أردناه، و لعل الفرق بين الأمرين، أن الصريخ أعم من المنقذ، فالصريخ من يترحم عليهم، سواء قدر على إنقاذهم أم لا.

[45] إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا أي لا منقذ لهم، إلا رحمنا بهم و فضلنا عليهم، فإنه هو الذي بنجيهم من مخاطر البحر وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ أي و لأجل أن يبقوا أحياء مدة عمرهم حسب تقديرنا، إلى حين يوافيهم الأجل، أي أنقذناهم رحمة و إمتاعا.

[46] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ لهؤلاء الكفار الذين يشاهدون هذه الآيات الدالة على قدرتنا، و سائر صفاتنا اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما أمامكم من الآخرة، فلا تعصوا حتى يحل عليكم عذاب ذلك اليوم وَ ما خَلْفَكُمْ فإن الإنسان العاصي يعاقب في الدنيا في مستقبل عمره بالعيش الضنك، كما قد يبتلي أولاده بما صنع، و هذا هو «ما خلف الإنسان» لأن الإنسان يخلف الدنيا وراءه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله تعالى، فلا يؤاخذكم بسيئات أعمالكم، و جواب

«إذا» محذوف تقديره «أعرضوا» و لم يقبلوا، و قد استدل لذلك بقوله.

[47] وَ ما تَأْتِيهِمْ أي تأتي هؤلاء الكفار مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ كالمعجزات التي يأتي بها الأنبياء، و الآيات التي تظهر في الكون،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 452

[سورة يس (36): الآيات 47 الى 49]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49)

و كالآيات المنزلة بقصد التشريع، و ما أشبه إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعرضون عن تدبرها، و العمل بموجبها، و إنما هم قد ركبوا أهواءهم، و عملوا بما توحي إليهم أنفسهم و تقاليدهم، و بهذا يخسرون الدنيا و الآخرة، و يلقون في العذاب.

[48] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من المال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا الذين يأمرونهم بالإنفاق أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على نحو الاستفهام الاستنكاري، أي لماذا نطعم من لا يشاء الله إطعامه، إذ لو شاء إطعامه، تمكن من إطعامه؟

و قد أرادوا بذلك الفرار، عن بذل بعض أموالهم، ثم يقولون للمؤمنين مستهزئين إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها المؤمنون إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح، حيث تأمروننا بالإنفاق لمن لا يريد الله إطعامه.

[49] و قد كان المؤمنون ينذرون الكفار، بأنهم إن لم يؤمنوا، عاقبهم الله إما في الدنيا أو في الآخرة وَ لذا كان الكفار يَقُولُونَ منكرين قولة المؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدوننا به من نزول العذاب بنا إن بقينا على الكفر

إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ فيما تقولون؟

[50] ما يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تصاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 453

[سورة يس (36): الآيات 50 الى 51]

فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)

بهم بإذن الله، كما صيحت بالأقوام السابقين تَأْخُذُهُمْ و تهلكهم، فهل يريد هؤلاء تلك الصيحة؟ و هذا الكلام من باب الإهانة لهم، و بيان أن أمرهم يسير جدا، حتى أن صيحة واحدة تكفي لإبادتهم وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة في حال كونهم، يختصمون في أمورهم، فتأخذهم على غرّة و غفلة من أمرهم، من «خصّم» أصله «اختصم».

[51] فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً فإذا أخذتهم الصيحة بغتة، لم يقدروا على الإيصاء وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ إذا أخذتهم الصيحة خارج بيوتهم، فإن اختصامهم معناه أنهم في الأسواق، و في محل أعمالهم و أشغالهم، و يحتمل، أن يراد ب «الصيحة» النفخة الأولى، فإن إسرافيل ينفخ في الصور، فيهلك جميع البشر، دفعة واحدة، كما ورد في الأحاديث، أي أنهم لا يؤمنون، حتى تأخذهم الصيحة على نحو الاستفهام الإنكاري.

[52] و بهذه المناسبة، يأتي السياق، لبيان بعثهم بعد موتهم، فقد رأينا، كيف ماتوا، بصيحة خارقة، أو بقبض روحهم، بواسطة عزرائيل، الذي هو شبيه بالصيحة، أو بنفخ إسرافيل، فلننظر إلى حشرهم وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ هو شبيه بالبوق، ينفخ فيه إسرافيل، حين يريد الله إحياء الناس للقيامة و المعاد فَإِذا هُمْ أي فإذا بالكفار بغتة و فجأة مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث، و هو القبر إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 454

[سورة يس (36): الآيات 52 الى 54]

قالُوا يا وَيْلَنا

مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

الموضع الذي قرره الله سبحانه للحشر و الحساب، و إلا فلا مكان له سبحانه، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، لتقريب الذهن، و معنى ينسلون، يخرجون سراعا إلى الموقف، فإن النسول هو الإسراع في الخروج.

[53] قالُوا لما رأوا أهوال القيامة يا وَيْلَنا يا هلاكنا، احضر فهذا وقتك، أو يا قوم، ندعو على أنفسنا بالويل مَنْ بَعَثَنا أي أقامنا مِنْ مَرْقَدِنا محل رقدتنا، و الرقدة هي النوم، و المراد من قبورنا، ثم يقولون هذا البعث هو ما وَعَدَ الرَّحْمنُ في دار الدنيا، فلم نك نصدّقه وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي الأنبياء عليهم السّلام، الذين أخبروا بذلك، فلم نك نصدقهم، فالآن نشاهد صدقهم، و هم في القبر، لم يكونوا نياما، و إنما قالوا ذلك، باعتبار، أن قبرهم قد خلص، و صاروا إلى حال آخر، إذ حيوا كما كانوا في الدنيا.

[54] و ليس أمر البعث صعبا على الله سبحانه إِنْ كانَتْ أي ما كانت بعثتهم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها إسرافيل في الصور النفخة الثانية فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ترد أرواحهم إلى أجسادهم، و يحضرون في موقف الحشر للحساب و الجزاء.

[55] فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بأن يزاد في سيئاته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 455

[سورة يس (36): الآيات 55 الى 58]

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ

رَحِيمٍ (58)

أو ينقص من حسناته وَ لا تُجْزَوْنَ أيها البشر إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فجزاء كل حسب عمله، أو المراد إن الأعمال تجسّم فكل يرى عمله.

[56] قد رأينا أحوال أصحاب النار، و أنهم يدعون بالويل، فلننظر إلى أحوال أهل الجنة إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الذين صدقوا بالله، و بالرسول، و بالمعاد الْيَوْمَ أي في ذلك اليوم فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قد شغلهم النعيم، الذي لا عين رأت مثله، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، و معنى فاكهون، فرحون، ناعمون، متنعمون.

[57] هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ من حور العين، أو حلائلهم الدنيوية، أو أشكالهم من سائر صنوف المؤمنين فِي ظِلالٍ هي ظلال أشجار الجنة و قصورها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة، و هي السرير الذي يصنع للعروس مُتَّكِؤُنَ فهم في كمال راحة، فإن الاتكاء أفضل أحوال الجالس.

[58] لَهُمْ فِيها أي في الجنة فاكِهَةٌ هي ثمر أشجار الجنة وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي يتمنون و يشتهون، يقال ادّع عليّ ما شئت أي تمنّ.

[59] و لهم بالإضافة إلى كل ذلك النعيم الجسماني نعيم روحي، و هو سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي يقول الرب الرحيم لهم قولا، هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 456

[سورة يس (36): الآيات 59 الى 62]

وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

سلام، فإنه سبحانه يحيّيهم بالسلام.

[60] وَ في القيامة يقال للكفار امْتازُوا أي انفصلوا عن جماعة المؤمنين الْيَوْمَ أي في هذا اليوم أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ فكونوا على حدة، و ذلك لإهانتهم، فإن المجرم

إذا كان بين أناس آخرين لا تزدريه العيون، بخلاف ما إذا انفصل عنهم.

[61] ثم يقال لهم من قبله سبحانه أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أي ألم آمركم و أعاهدكم على لسان الأنبياء أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه فيما يأمركم إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فلما ذا عبدتموه، و أطعتموه، حتى تردوا هذا المورد؟.

[62] وَ ألم أقل لكم أَنِ اعْبُدُونِي وحدي هذا أي عبادتي صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه، و لا عوج، يوصلكم إلى خير الدنيا و سعادة الآخرة، فلما ذا تركتم عبادتي؟.

[63] وَ لَقَدْ رأيتم في الدنيا، أن الشيطان قد أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا أي خلقا كَثِيراً دعاهم إلى الضلالة، فقبلوا منه و انحرفوا أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ إن الشيطان يضلكم إن اتبعتموه، كما أضل جماعات كثيرة من جنسكم؟ و هذا استفهام إنكاري، يعني أنكم بعد ما رأيتم إضلال الشيطان، لجماعات منكم، كيف اتبعتموه؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 457

[سورة يس (36): الآيات 63 الى 66]

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)

[64] و إذ قد انحرفتم، و لم تسمعوا العظة، و النصيحة، ف هذِهِ التي تشاهدونها جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا، فلم تكونوا تصدقون بها.

[65] اصْلَوْهَا أي ادخلوها، لا زمين لها، من صلى، بمعنى لزم الشي ء الْيَوْمَ أي في هذا اليوم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.

[66] و هناك يشرع الكفار في الجدال و الكذب ظانين أن ذلك ينجيهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا، فيحلفون بالله كذبا، قائلين

(وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» و لكن كذبهم لا ينطلي هناك الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نضع الختم على فمهم، لئلا يتمكنون من النطق وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بأن نقدر أيديهم على الكلام، فتشهد الأيدي بأعمالها التي اقترفتها جرما و عصيانا وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بما كان يعمل هؤلاء المجرمون، فمثلا تقول اليد «إني سرقت»، و تقول الرجل «إني مشيت إلى الزنى» و هكذا يفضحون هناك، حيث لا مخلص لهم، عن مثل هذه الشهادة الدامغة، و في آية أخرى (وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ) «2».

[67] و لا يظنن هؤلاء الكفار، أنا لا نتمكن من النكال بهم في الدنيا، فإنا

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) فصلت: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 458

[سورة يس (36): الآيات 67 الى 68]

وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68)

إنما نمهلهم هنا، و إلا فنقدر على مسخهم، و إنزال مختلف صنوف العقاب بهم جزاء على أعمالهم وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ أي لأعميانهم، يقال طمس على عينه إذا محاها حتى لم يبق منها أثر فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ تسابقوا على الصراط، أي الطريق، فإن العميان حين يتسابقون لسلوك الطريق، يرى الإنسان منظرا مضحكا فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي كيف يبصرون الطريق بعد العمى، حتى لا يصطدم بعضهم ببعض، و لا يسقط بعضهم بعضا؟

[68] وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ و المسخ تبديل الإنسان حيوانا، كما مسخ اليهود قردة عَلى مَكانَتِهِمْ التي هم فيها، في ذلك الطريق الذي تسابقوا فيه فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا أي يمضون إلى مقصدهم وَ لا يَرْجِعُونَ أي لا

يتمكنون من الرجوع، فهم في قبضتنا، حتى إنّا نتمكن أن نعميهم أو نمسخهم في لحظة، و مع ذلك لا نفعل بهم ذلك رحمة و إمهالا لهم لعلهم يرجعون.

[69] و هل يظن هؤلاء أنّا لا نقدر على مسخهم، أو طمس عيونهم؟ فلينظروا إلى الشباب كيف نبدلهم إلى شيوخ لا يقدرون على شي ء، بعد القوة و النضارة، فمن يقدر على ذلك، و هم يرونه كل يوم يقدر على المسخ و الطمس وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ أي نعطيه عمرا كثيرا نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 459

[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

ننكس قواه و خلقته، فيصير بعد القوة ضعيفا، و بعد العقل خرفا، و بعد النضارة ذابلا، و بعد العلم جاهلا، و هكذا، فهو راجع إلى حالة الطفولة أَ فَلا يَعْقِلُونَ هؤلاء الكفار إن من يقدر على هذا التنكيس، قادر على ذلك التنكيس، بالطمس و المسخ؟

[70] و قد كان الكفار يقولون، إن محمدا شاعر، و إن القرآن شعر، فرجع السياق إلى ما بدأ: حيث قال «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» قائلا وَ ما عَلَّمْناهُ أي ما علمنا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشِّعْرَ فليس القرآن شعرا وَ ما يَنْبَغِي لَهُ أن يقول الشعر من عند نفسه، ثم ينسبه إلى الله سبحانه، و

قد رووا إنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا ينشد الشعر إطلاقا، حتى أنه إذا أراد أن يقرأ شعرا، بدّله حتى يخرج عن كونه شعرا، فقال ذات يوم بدل «كفى الشيب و الإسلام للمرء

ناهيا» ب «كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا»

أما ما

ورد من أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال «أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب»

«1»، فلم يثبت أنه قرأه على طريقة الشعر، فلعله لم يقف على «كذب» إِنْ هُوَ أي هذا الذي يقرأه من قبله تعالى إِلَّا ذِكْرٌ للناس وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ واضح، و ليس بشعر، و المراد بالذكر، إنه يذكّر الناس خالقهم الذي نسوه، بعد ما أودع في فطرتهم، و لعل الإتيان، ب «الذكر» لأن الشعر كان في الغالب لهوا و تشبيبا، فالذكر مقابل له.

[71] لِيُنْذِرَ الله بواسطته، أو لينذر الرسول، أو لينذر القرآن مَنْ كانَ حَيًّا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 460

[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73)

في أنه يسمع و يعقل، مقابل الإنسان الميت، الذي لا ينفعه الإنذار، و إنما شبّه بالميت، لأنه و الميت سواء، في عدم الاجتناب عن الشي ء المخوف وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ أي يثبت القول بالعذاب عَلَى الْكافِرِينَ بأن يتم عليهم الحجة، ففائدة القرآن، هداية العقلاء، و إتمام الحجة على الكفار.

[72] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي هؤلاء الكفار المنكرون لله تعالى أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أي لمنافعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا كناية عن تفرده سبحانه بالخلق، و النسبة إلى «اليد» للتشبيه بالمحسوس تأكيدا لعدم الاشتراك في خلقها أَنْعاماً جمع نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم فَهُمْ لَها مالِكُونَ فهم أنها ملكوها، بفضلنا و إحساننا؟ فمن يا

ترى خلق لهم هذه الأنعام غيرنا؟

[73] وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ أي سخرناها لهم، حتى صارت منقادة ذليلة تطيعهم، فلو كانت الأنعام، كسائر السباع، أو الحشرات- حتى مثل الفأر- فمن يا ترى كان يمكنه تسخيرها و تذليلها؟ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي من تلك الأنعام لفائدة الركوب كالإبل وَ مِنْها يَأْكُلُونَ أي و منها لفائدة الأكل، كالبقر و الغنم.

[74] وَ لَهُمْ للبشر فِيها في تلك الأنعام مَنافِعُ كلبس أصوافها و أوبارها، و إشعال فضلاتها، و ما أشبه ذلك وَ مَشارِبُ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 461

[سورة يس (36): الآيات 74 الى 75]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

مشرب، و هو مصدر ميمي، و المراد لبنها أَ فَلا يَشْكُرُونَ هذه النعم، التي منحناها لهم، بترك الكفر، و الدخول في زمرة المؤمنين و المطيعين.

[75] إنهم بعد أن علموا بجزيل إحساننا، و فضلنا عليهم، اتبعوا طريق الكفر و العصيان وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً المراد الجنس، فيشمل الواحد أيضا، فإن الجنس و الجمع يقومان مقام الآخر لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لكي تنصرهم تلك الآلهة، من بأس الله سبحانه، كما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» و قالوا (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «2».

[76] و لكنهم أخطئوا في انتظار النصرة من الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ أي تلك الآلهة، و الإتيان بضمير العاقل، لتوحيد السياق في الحوار، بين المؤمنين، و الكفار، فإن الكفار كانوا يعبرون عن الأصنام، بألفاظ العقلاء زعما منهم، إنها تعقل و تدرك نَصْرَهُمْ أن تنصر هؤلاء الكفار وَ هُمْ أي الكفار لَهُمْ أي لتلك الآلهة جُنْدٌ كالجند، لأن الأتباع، كالجند مُحْضَرُونَ جميعا في النار، أو

المراد إن هؤلاء هم جنود الآلهة المحامون عنها، فكيف يمكن أن تكون الآلهة هي المحامية عنهم؟

______________________________

(1) الزمر: 4.

(2) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 462

[سورة يس (36): الآيات 76 الى 78]

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76) أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78)

[77] فَلا يَحْزُنْكَ يا رسول الله قَوْلُهُمْ قول هؤلاء الكفار فيك، إنك شاعر، أو ما أشبه ذلك إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم، و بينهم في مجالسهم الخاصة وَ ما يُعْلِنُونَ في الملأ حولك، و حول رسالتك، من الوقيعة فيك، و نسبتك إلى الجنون و الكهانة و السحر، و ما أشبه.

[78] و إذ ذكر السياق جملة حول الرسالة، رجع إلى الكلام حول المعاد، و قد كان من بلاغة القرآن الحكيم، إنه لا يأتي بكلام واحد في تفصيل، و إنما يقطع الكلام المختلف تقطيعا، و يذكر بعض نوع في خلال نوع آخر، حذرا من الإسهاب، و ملالة السامع أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ المنكر للمعاد أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ أي قطرة من المني؟ و المراد بالرؤية العلم فَإِذا هُوَ إنسان كبير خَصِيمٌ لنا، أي يخاصمنا في أوامرنا و أخبارنا مُبِينٌ ظاهر الخصومة، فإنه يخاصم في قدرتنا على البعث، و قد رأى كيف قدرنا على أن نصنع إنسانا، من قطرة مني؟

[79] وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي ضرب مثلا لإنكاره المعاد بالعظم البالي وَ نَسِيَ خَلْقَهُ أي ترك النظر في خلق نفسه، حيث إن تصيير المني إنسانا، أصعب في نظر العامة، من تصيير العظم البالي إنسانا قالَ و

هذا هو مثله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ أي بالية؟ و الاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 463

[سورة يس (36): الآيات 79 الى 80]

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

إنكاري تعجبي، أي لا يمكن أن تحيى العظام البالية،

فقد ذكروا إن أبي بن خلف، أو العاص بن وائل، جاء إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعظم بال متفتت، و قال: يا محمد أ تزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نعم، و نزلت الآية

«1».

[80] قُلْ يا رسول الله، في جوابه يُحْيِيهَا أي العظام الَّذِي أَنْشَأَها و أبدعها و خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي في ابتداء الأمر، فمن كان قادرا على الإيجاد، فهو قادر على الإعادة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فليس لأحد أن يقول: هناك فرق بين الإيجاد و الإعادة، فإن الإعادة بالإضافة إلى احتياجها إلى القدرة، تحتاج إلى علم واسع، لكي يعلم الشخص إن أجزاء الميت الفلاني أين تفرقت و تناثرت، حتى يجمعها بأعيانها، ليكون المعاد، هو الأول، لا غيره؟ فإن الجواب، إن الله سبحانه، كما هو قادر على كل شي ء، عالم بكل شي ء.

[81] ثم بيّن سبحانه، بعض آثار قدرته، دليلا على قدرته على إحياء الأموات الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ أي الرطب، غير اليابس، و إنما يسمى الرطب بالأخضر، لأن الماء إذا كان داخلا في الأعواد، كان لون الشجر أخضر، فإذا يبس، مال لونه إلى السواد و الغبرة ناراً، ف «المرخ» و «العفار» شجرتان، إذا اصطكت بعض أحدهما ببعض الآخر، خرج النار من بينهما،

فمن قدر على إخراج النار من الشجر الرطب المضاد للحرارة، قادر على إيجاد الحياة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 464

[سورة يس (36): الآيات 81 الى 83]

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

في العظم البالي فَإِذا أَنْتُمْ أيها البشر مِنْهُ أي من ذلك الشجر المخرج للنار تُوقِدُونَ أي تشعلون الحطب، فمن يا ترى جعل النار في الشجر الريان بالماء؟ و من يا ترى جعل الشجر، بحيث يختزن من شعاع الشمس، مقدار يخرج و يتقد بمجرد الحك و الدلك؟ إنه هو الله القادر على كل شي ء.

[82] ثم أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هذين المخلوقين العظيمين بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بأن يصبّ أجزاءهم البالية في القالب، حتى يخرج إنسان مثل الإنسان الأول؟ بَلى قادر على ذلك وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إذ هذه العملية، تحتاج إلى قدرة و علم، و كلاهما متوفران لديه سبحانه.

[83] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ و بمجرد هذه اللفظة، أو معناها- و هي الإرادة- يبدع ذلك الشي ء، المراد فَيَكُونُ أمرا موجودا في الخارج، فلا يحتاج سبحانه، إلى آلات و أسباب و زمان، حتى يوجد شيئا، و قد ذكرنا سابقا إن «كن» إما حقيقة بأن يخلق سبحانه صوتا، أو إشارة إلى إرادته تعالى حدوث ذلك الشي ء.

[84] فَسُبْحانَ منصوب بفعل مقدر، أي أسبح سبحان الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ و المعنى أنزهه تعالى عن عدم القدرة، أو عدم

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 4، ص: 465

العلم، و المعنى إن تمت قدرته ملك كل شي ء، فهو قادر على الإيجاد و الإعادة، فإن «ملكوت» هو الملك، و زيد فيه التاء للعظمة، نحو «جبروت» و ملكوت كل شي ء ما يقوم به ذلك الشي ء، و لفظة «بيده» للكناية، فإن اليد هي الآخذة بالمملوكات، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و إلا فليس لله سبحانه يد كأيدينا، فإنه سبحانه منزه عن الجسمية، و عوارضها وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي تردون إلى جزائه و حسابه، حيث لا يملك أحد شيئا، إلا هو وحده فيجازيكم حسب أعمالكم الكافر و العاصي بالعقاب، و المؤمن و المطيع بالثواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 466

37 سورة الصافات مكيّة/ آياتها (183)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة في قوله «و الصافات» و هي كغالب السور المكية، تعالج قضايا العقيدة، بأصولها الثلاث، التوحيد و الرسالة و المعاد، في أسلوب قصصي رائع، و لما ختمت سورة «يس» بشؤون الإله سبحانه، ابتدأت هذه السورة بتلك، مع فصل آيات سيقت للحلف على ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الواحد، الذي له كل شي ء جميل، و هو منزه عن كل شي ء قبيح، فإن لفظ «الله» بما هو علم للذات المستجمع لجميع الكمالات، يوحي إلى هذا المعنى، و الرحمن الرحيم، وصفان مشتقان من الرحمة، يوحي مبدأ اشتقاقهما بالفضل و الرحم، و تكرارهما، بقوة هذه الصفة في ذاته سبحانه، و الرحمن صفة الفعل، و ليس صفة الذات، فالمعنى أنه سبحانه يفعل ما يفعله الرحيم، لا إن له حالة نفسية، توجب ذلك و لذا قالوا في مثل هذه الصفات «خذ الغايات و اترك المبادي».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 467

[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5)

[2] وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا «الصافات» جمع صافة، و هي الملائكة التي تصف أقدامها للصلاة و الإطاعة، أو أجنحتها حال الصعود و الهبوط و «صفا» تأكيد له، أي قسما بالملائكة الصافات، الذين يصطفون صفا، و إنما جي ء بالجمع المؤنث، باعتبار الجماعة.

[3] فَالزَّاجِراتِ أي ثم قسما بالملائكة التي تزجر الكفار حين قبض أرواحهم، أو تزجر من أمر الله، بزجره زَجْراً مصدر تأكيدي لفعل محذوف.

[4] فَالتَّالِياتِ ذِكْراً أي ثم قسما بالملائكة التي تتلو القرآن، أو سائر الكتب المنزلة، و حيث إن معنى التاليات يلازم الذكر جي ء تأكيده بلفظ «ذكرا».

[5] قسما بهؤلاء الطوائف من الملائكة إِنَّ إِلهَكُمْ أيها الناس لَواحِدٌ لا شريك له، و قد نرى في القرآن الحكيم القسم من الله سبحانه، بأصناف و أنواع مختلفة من الخلق، دلالة لعظمتها في أنفسها، و إن لا يصح لنا أن نحلف إلا باسمه الكريم، كما

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليسكت

«1».

[6] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مربيهما وَ ما بَيْنَهُما من الهواء، و الإنسان و الملائكة، و غيرها وَ رَبُّ الْمَشارِقِ جمع مشرق،

______________________________

(1) متشابه القرآن: ج 2 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 468

[سورة الصافات (37): الآيات 6 الى 8]

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8)

و هو موضع طلوع الشمس، فإن الشمس في كل يوم تطلع من موضع جديد، فلمن هذا الموضع في كل

يوم؟ إنه لله سبحانه.

[7] إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي السماء القريبة إلى الأرض، مؤنث «أدنى» و إنما خصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة، و لعل المراد بالسماء الدنيا مدار الأرض- كما يقوله العلم الحديث- بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ فإن الكواكب تزين الأرض، و الإضافة للنوع، أي بهذا النوع من الزينة، فإن السماء بجمالها تمتّع الإنسان، مع ما فيها من الفوائد الأخر.

[8] وَ حفظناها حِفْظاً فإن السماء محفوظة مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متجرد خبيث خال من الخير، فقد يظهر من الأحاديث، أن في أعالي الجو، يقدر أمور الأرض، و كأنها مراكز للملائكة المدبرة للأمور- بإذن الله سبحانه- فالشياطين تريد الصعود إلى تلك المراكز، لاستراق بعض الكلمات، لتعلم ماذا يحدث في الأرض، لكن السماء محفوظة عن وصول الشياطين و «مارد» مشتق من «مرد» و هو المنجرد، و منه يسمى بالأجرد، من لا شعر له، فكان الشيطان مجرد عن الخير لا يتأتى منه عمل حسن.

[9] لا يَسَّمَّعُونَ من أسمع أصله من باب الافتعال «استمع» ثم قلبت التاء سينا، على القاعدة، أي إنما حفظنا السماء من كل شيطان لكي لا يستمعون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى و هم أشرف الملائكة الذين وكّل إليهم بعض أمور الأرض و لهم مراكز في تلك الطبقات الرفيعة في الفضاء وَ يُقْذَفُونَ أي يقذف الشيطان الذي تجرأ و ذهب إلى هناك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 469

[سورة الصافات (37): الآيات 9 الى 11]

دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)

للاستماع مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء بالشهب، كاللص الذي يرميه الإنسان، إذ رآه يريد سرقته، فقد جعل الله سبحانه

الكواكب محلات للإرصاد، فهناك ملائكة ينظرون إلى الملأ الأعلى، فمهما اقترب منه شيطان رموه بالشهب- و هي النيازك- ينحونه عن الاقتراب، و هذا لا ينافي في تعليل النيازك، بعلل ظاهرة، فإنه سبحانه جعل للأشياء عللا ظاهرة، و عللا خفية، كالميت الذي إنما يموت بالسم ظاهرا، و بقبض ملك الموت لروحه باطنا، و كالكسوف الذي هو لكثرة المعاصي باطنا، و لحيلولة القمر بين الأرض و الشمس ظاهرا.

[10] دُحُوراً أي دفعا لهم بالعنف، و طردا، يقال دحره، إذا طرده بالعنف وَ لَهُمْ أي لأولئك الشياطين عَذابٌ واصِبٌ أي عذاب دائم ثابت إلى يوم القيامة.

[11] إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ الخطف هو سلب الشي ء خلسة بسرعة، و المعنى إن الشياطين لا يسمعون إلى الملائكة، إلا من اقترب خفية، فاختلس بعض الكلمات، التي تدار بين الملائكة، بأن لقفها بسرعة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ أي لحقته و أصابته جمرة من نار مضيئة تثقب و تحرق الشيطان من حرارتها و حدتها، و هذه هي النيازك التي نراها في الليالي، و ذلك لا ينافي ما يعلله علم الفلك لها من أنها قذائف جوية.

[12] و بعد تذكير هؤلاء بما خلقنا من السماوات و الكواكب، و غيرها من المخلوقات العظيمة فَاسْتَفْتِهِمْ أي اسألهم يا رسول الله أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 470

[سورة الصافات (37): الآيات 12 الى 15]

بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

أي أحكم صنعا، و أصعب في نظرهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة و السماوات و الأجرام؟ فكيف أن هؤلاء مع ضحالتهم يتكبرون عن الانقياد، بينما إن ما هو أشد منهم خلقا

خاضعون منقادون؟ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي طين يلصق باليد، و هو الطين الصافي، و هذا بالنسبة إلى كل أحد أحد، فإن أصل كل فرد هو الطين- كما تقدم- فكيف أنهم مع وهن أصلهم يستكبرون؟

[13] بَلْ عَجِبْتَ يا رسول الله من كفر هؤلاء، و شدة إنكارهم، مع وضوح الأمر وَ يَسْخَرُونَ بينما أنت- مع عظمك- تعجب، كيف غفلوا و تمردوا؟ و هؤلاء يسخرون بك، و بما تقول من الحقائق الواضحة الظاهرة للعيان.

[14] وَ إِذا ذُكِّرُوا بآيات الله، أي ذكرتهم بالله و المعاد، مما هو كامن في فطرة كل أحد لا يَذْكُرُونَ أي لا ينتفعون بالتذكير، فقد أقيم عدم السبب مقام عدم المسبب، إذ التذكير علة الانتفاع، فهم حيث لم ينتفعوا كأنهم لم يذكروا.

[15] وَ إِذا رَأَوْا آيَةً دالة على وجود الله، و سائر صفاته، أو على رسالتك، و صدق ما تقول يَسْتَسْخِرُونَ أي يستهزئون بتلك الآية قائلين: إنها سحر، و الآتي بها ساحر، و جعلوا يضحكون منك و منها.

[16] وَ قالُوا لتلك الآية إِنْ هذا أي ما هذا الذي عمله الرسول من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 471

[سورة الصافات (37): الآيات 16 الى 20]

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

الإعجاز إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح ظاهر.

[17] ثم أخذوا يظهرون التعجب من قولك بأنهم يبعثون يوم القيامة قائلين أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً بأن صارت لحومنا ترابا، و بقيت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي محيون بعد الموت؟

[18] أَ وَ يبعث

آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الذين ماتوا، و صاروا ترابا، و الهمزة للاستفهام، و الواو عاطفة.

[19] قُلْ يا رسول الله، في جواب استفهامهم الإنكاري نَعَمْ أنتم و آباؤكم تبعثون وَ الحال أَنْتُمْ داخِرُونَ أي صاغرون أذلاء، من دخر، بمعنى صغر و ذل.

[20] و ليس بعثكم أمرا مشكلا فَإِنَّما هِيَ أي بعثتكم بعد الممات زَجْرَةٌ أي صيحة واحِدَةٌ، هي نفخة إسرافيل في الصور، و إنما سمي النفخ زجرا لأنهم قد زجروا عن الحالة التي هم عليها إلى الحشر فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ إلى القيامة التي كذبوا بها.

[21] وَ قالُوا حين يرون القيامة يا قوم وَيْلَنا أو يا ويلنا احضر، فهذا وقتك، و ويل كلمة يقولها الإنسان عند توجه مصيبة إليه، كأنه يتمنى الهلاك فرارا عن تلك المصيبة هذا يَوْمُ الدِّينِ أي يوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 472

[سورة الصافات (37): الآيات 21 الى 24]

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)

الحساب الذي كذّبنا به.

[22] فيردّ عليهم من قبل الله سبحانه، أو الملائكة، أو المؤمنين، ب هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الذي يفصل فيه بين المؤمن و الكافر، و المبطل و المحق الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فتقولون- و أنتم في الدنيا- لا حساب و لا جزاء.

[23] ثم يقال من قبل الله تعالى احْشُرُوا أي اجمعوا من ساحة المحشر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ أي نساءهم الظالمات، أو المراد أشكالهم، فإن الزوج بمعنى الشكل، و كأنّ «الذين ظلموا» مراد به كبراء الظالمين، و يراد ب «أزواجهم» أشباههم من صغار الظالمين وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ أي الأصنام التي كانوا يعبدونها.

[24] مِنْ دُونِ

اللَّهِ أي سوى الله سبحانه، و إنما الاستثناء باعتبار أن المشركين، كانوا يعبدون الله و الأصنام، فالاستثناء لتخصيص الأمر حتى في الصورة و اللفظ- بالأصنام فَاهْدُوهُمْ أي أرشدوهم و أروهم- بعد جمعهم جميعا- إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي الطريق التي تنتهي إلى النار، و إنما جي ء بلفظ الهداية لشباهة إراءتهم لطريق النار بإراءة المؤمنين طريق الجنة.

[25] وَ قِفُوهُمْ من «وقف» أي أوقفوا هؤلاء الكفار، قبل إلقائهم في النار إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ أي يلزم أن يسأل عنهم، عما فعلوا لزيادة التقريع،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 473

[سورة الصافات (37): الآيات 25 الى 28]

ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28)

ثم يلقون في النار، و قد ورد في بعض الأحاديث سؤالهم عن ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «1»، و ذلك من باب بعض المصاديق لما يسأل عنه هناك.

[26] ثم يقال لهم تقريعا و تبكيتا ما لَكُمْ أيها الكفار لا تَناصَرُونَ أي لا ينصر بعضكم بعضا، لإنجائكم من أهوال القيامة؟ أصله «تتناصر» حذفت إحدى تائيه للقاعدة.

[27] بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون، لما يفعل بهم، حيث لا يتمكنون من المعارضة، و ليس هناك كالدنيا، التي كان بعضهم ينصر بعضا- فيها- ضد الحق، و لإخماد نوره.

[28] وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض أولئك الكفار عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ فإن الأتباع يسألون القادة عن سبب إضلالهم؟ و يلقون عليهم تبعة ضلالهم.

[29] قالُوا أي قالت الأتباع للقادة إِنَّكُمْ أيها القادة كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي عن طريق اليمن و البركة، فتقولون لنا إن كفرتم، و لم تؤمنوا بقيت لكم البركة و السعادة الدنيوية، فلم كنتم تغوونا بهذه الغواية حتى

نلاقي هذا المصير السيئ؟ أو المراد كنتم تأتون عن طرف

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 24 ص 272.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 474

[سورة الصافات (37): الآيات 29 الى 33]

قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33)

يميننا للإسرار في آذاننا، فإن الذي يريد أن يناجي، يسر في الأذن اليمنى، لأنها أكثر احتراما و استماعا، لأنها في طرف القلب.

[30] قالُوا أي القادة للأتباع، يريدون بذلك تبرئة ساحتهم عن تبعة كفر الأتباع بَلْ لَمْ تَكُونُوا أنتم بالذات مُؤْمِنِينَ فإنكم كنتم معرضين عن الله و الرسول، و إنا لم نسبب ضلالكم، حتى تكون التبعة علينا.

[31] وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ أيها الأتباع مِنْ سُلْطانٍ أي سلطة و قهر نجبركم على الكفر، لو لا أنكم كنتم تحبون الكفر بَلْ كُنْتُمْ أيها الأتباع، في أنفسكم، و بدون إغوائنا قَوْماً طاغِينَ قد طغيتم، و تجاوزتم حدود الإيمان فتبعتكم على أنفسكم، لا نحن معاشر القادة.

[32] فَحَقَّ عَلَيْنا جميعا التابع و المتبوع قَوْلُ رَبِّنا بأنا معذّبون، فقد قال الله سبحانه: إن من كفر، سيعذب، و قد ثبت، و انطبق علينا هذا القول، ف إِنَّا لَذائِقُونَ عذابنا على الكفر.

[33] و إذ قد ثبت علينا و انطبق العذاب فَأَغْوَيْناكُمْ حسب استعدادكم الذاتي، حيث انزلقتم معنا في حضيض الكفر إِنَّا كُنَّا بأنفسنا غاوِينَ و الطيور على أشكالها تقع.

[34] ثم يحكي سبحانه حالتهم جميعا، بقوله فَإِنَّهُمْ القادة و الأتباع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 475

[سورة الصافات (37): الآيات 34 الى 37]

إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ

لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لكونهم جميعا، كانوا كفارا مشتركين في الضلال- في الدنيا- فاشتركوا في العذاب، هناك.

[35] إِنَّا كَذلِكَ أي كما فعلنا بهؤلاء من التعذيب نَفْعَلُ بسائر المجرمين فهم معذبون بما صدر منهم من الكفر و العصيان، و كأنّ الآية ذكرت سابقا جماعة خاصة، دار حولهم الكلام- و هم المشركون- ثم أرادت تعميم الأمر على سائر من يجرم.

[36] ثم بين سبحانه علة تعذيبهم بقوله إِنَّهُمْ كانُوا في الدنيا إِذا قِيلَ لَهُمْ قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ و اتركوا عبادة الأصنام يَسْتَكْبِرُونَ أي يطلبون الكبرياء، و يرون أنفسهم فوق هذا الاعتراف، أ ليسوا هم أكبر قدرا من أتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ بزعمهم.

[37] وَ يَقُولُونَ أي يقول بعضهم لبعض أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا أي هل إنّا نترك الأصنام لقول شاعر مَجْنُونٍ يعنون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الاستفهام إنكاري، أي لا نفعل ذلك.

[38] فرد الله عليهم ذلك بقوله، إن الرسول ليس شاعرا و لا مجنونا بَلْ جاءَ بِالْحَقِ الذي هو التوحيد، و سائر الشؤون الأصولية وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين كانوا من قبله، و هل يقال لمثله شاعر، أو يقال له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 476

[سورة الصافات (37): الآيات 38 الى 43]

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42)

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)

مجنون؟ فهذا كلامه، ليس بشعر، و هذه حركاته ليست بحركات

ذي جنون.

[39] إِنَّكُمْ أيها الكفار لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ أي المؤلم الموجع، فإن استمراركم في الكفر لا ينتج إلا ذاك.

[40] وَ ما تُجْزَوْنَ يوم القيامة إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي على قدر إجرامكم، أو نفس جرائمكم- بناء على تجسيم الأعمال-.

[41] و لما كان الخطاب، في «إنكم» يوهم العموم لكل الناس، استثنى سبحانه عن ذلك بقوله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لنفسه، فلا يعملون، إلا لله سبحانه، فإن هؤلاء بمعزل عن العذاب الأليم.

[42] أُولئِكَ لَهُمْ في الجنة رِزْقٌ مَعْلُومٌ قد علم و قدّر جزاء لأعمالهم، و الحصة المعلومة، أقر للعين من الحصة المجهولة، التي لا يدري مقدارها.

[43] ثم بين سبحانه بعض ذلك الرزق المعلوم، بقوله فَواكِهُ جمع فاكهة، و هي ثمرة الأشجار، يتفكهون بها و يتنعمون فيها وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فلهم النعمة الروحية،- بالإكرام- إضافة على النعمة الجسمية بالجنة و الفواكه.

[44] و ذلك الإكرام و الفواكه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي البساتين التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 477

[سورة الصافات (37): الآيات 44 الى 48]

عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)

يتنعم فيها الإنسان.

[45] و المؤمنون هناك عَلى سُرُرٍ جمع سرير مُتَقابِلِينَ حال عن أولئك، أي في حال كون بعضهم في مقابل بعض ليتم السرور عليهم بالتنعم في المجالس مع الأصدقاء يرى بعضهم بعضا.

[46] يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ و هي الإناء الذي فيه المائع اللذيذ، و معنى يطاف إن الحور و الولدان، يدورون عليهم بالكأس المملوءة مِنْ مَعِينٍ و المعين الماء الجاري، النابع من العين.

[47] بَيْضاءَ و من ذلك يعرف، إن ما في الكأس «خمر»

لوصفه بالمؤنث، و بما سيأتي لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ فكأنها من كثرة اللذة قطعة منها، نحو زيد عدل.

[48] لا فِيها أي في تلك الخمر غَوْلٌ هو فساد يلحق الشي ء، يعني ليس في ذلك الخمر فساد وَ لا هُمْ أي الشاربين عَنْها أي عن تلك الخمر يُنْزَفُونَ أي يسكرون، فليس في خمر الجنة سكر، من نزف إذا ذهب عقله، أو بمعنى يطردون من نزف بمعنى طرد، فالشرب لهم دائم لا ينقطع مهما أرادوا.

[49] وَ عِنْدَهُمْ زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ «الطرف» العين، و المعنى قصرن أعينهم على أزواجهن، فلا يرغبن في غيرهم عِينٌ جمع «عيناء» و هي المرأة واسعة العين- مما يزيدها جمالا و رونقا- يعني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 478

[سورة الصافات (37): الآيات 49 الى 53]

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53)

إنهن واسعات العيون.

[50] كَأَنَّهُنَ أي كأن أجسام تلك الزوجات من البياض بَيْضٌ مَكْنُونٌ بيض قد حفظ في مكان، فلم يذهب بياضه، بواسطة الوسخ و الغبار.

[51] و هناك لما يستقرون و يتنعمون، بأنواع النعم يذهب بهم الفكر إلى أحوال الدنيا، و ما كانوا فيها، ثم يتذكرون الكافرين الذين كانوا يستهزئون بهم، حيث إنهم يصدقون بالمعاد فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ أي بعض أهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ عن أحوالهم السابقة، فقد التقوا هناك، و كثيرا ما لم يكن لأحدهم معرفة بالآخر.

[52] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة لبعض أصدقائه إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ أي شخص مقارن معي في دار الدنيا، بالجوار أو النسب أو الصداقة.

[53] يَقُولُ لي على وجه الإنكار

و الاستهزاء أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي من جملة الذين يصدقون بالحساب و الجزاء؟

[54] ثم يستهزئ قرينه بما اعتقده قائلا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً لحومنا وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون بأعمالنا من دانه، بمعنى حاسبه و جازاه، أي كيف يمكن أن يجزي تراب و عظام؟ فإن هذا لا يكون أبدا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 479

[سورة الصافات (37): الآيات 54 الى 58]

قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)

[55] قالَ هذا المتسائل- بعد أن يحكي قول قرينه- هَلْ أَنْتُمْ أيها الجلساء مُطَّلِعُونَ أي تحبون الاطلاع، و الإشراف على النار، لترون ذلك القرين المكذب؟

[56] فيقولون نعم نحب الاطلاع، فانظر أنت لتعرف مكانه، حتى ترينا، فإنّا لا نعرفه فَاطَّلَعَ هو بنفسه، و أشرف على النار فَرَآهُ أي رأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسط النار، فإن «سواء الشي ء» وسطه، و طبيعي أنه حين رآه، أراه إخوانه الذين قال لهم «هل أنتم مطلعون».

[57] و إذ قد رأى قرينه الكافر في النار، يتوجه إليه بالتكلم معه قالَ له المؤمن تَاللَّهِ التاء للقسم، و تأتي غالبا لأمر غريب، أو نحوه إِنْ كِدْتَ أي قد اقتربت، لَتُرْدِينِ أي ترديني و تهلكني بوسوستك، و حذف «ياء» المتكلم تخفيفا.

[58] وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي و فضله بي، حيث عصمني من أن أسمع كلامك، فأصير كما صرت لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ الذين أحضروا إلى الحشر و الحساب بالقهر- لا بالرضا- لأنهم علموا بمصيرهم السّي ء، و لذا كرهوا الحضور، حتى أجبروا عليه.

[59] ثم يردّد المؤمن، ما كان

يقوله الكافر في الدنيا، ترديدا بإنكار و تقريع أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ أي كنت تقول في الدنيا، ما نحن نموت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 480

[سورة الصافات (37): الآيات 59 الى 62]

إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)

[60] إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فليس موت بعد الحياة في القبر، فإن الإنسان إذا حوسب في القبر مات ثانيا، ثم يحيى يوم القيامة، كما قال سبحانه (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) «1» وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ يوم القيامة، ألم تكن تقول ذلك؟ فهل كان صحيحا؟ أو إن الكفار كانوا يقولون «ما وراءنا إلا موتة واحدة، فلا عذاب» و حينئذ معنى «الأولى» المتعارفة، لا في مقابل الموتة الثانية.

[61] ثم يأتي السياق ليبين فوز أهل الجنة- بعد إسدال الستار على قصة تلك المحاورة- إِنَّ هذا الذي ينعّم المؤمن في الجنة لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز و لا فلاح أعظم منه.

[62] لِمِثْلِ هذا الفوز و الثواب فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي الذين يريدون العمل، فإنه أحسن نتيجة يحصل عليها العامل.

[63] و بعد أن تقدم شطر من أحوال المؤمنين، يأتي السياق ليقابل بهم أحوال الكفار أَ ذلِكَ الثواب في الجنان خَيْرٌ نُزُلًا «النزل» هو ما يعد للضيف، و نصبه لكونه تمييزا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التي أعدت نزلا للكفار؟ قالوا، و هي شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة، شبهت بها الشجرة التي تنبت في النار لتكون ثمرتها قوتا لأهل النار.

______________________________

(1) غافر: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 481

[سورة الصافات (37): الآيات 63 الى 67]

إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ

الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67)

[64] إِنَّا جَعَلْناها أي جعلنا تلك الشجرة فِتْنَةً أي محنة و عذابا لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان في الدنيا فابتلوا بأكلها.

[65] إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت من هناك، و تعلوا أوراقها و أغصانها إلى سائر الدركات.

[66] طَلْعُها أي ثمرها و حملها، و يقال للثمر الطلع، لأنه يطلع و يظهر كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في بشاعة المنظر، فإنها بالإضافة إلى طعمها السيئ لها منظر مهول، و الإنسان، و إن لم ير الشيطان، و رأسه، إلا أن تصويره جسما مهولا بشعا كاف في التشبيه، أو لأنها ثمرة تسمى بذلك.

[67] فَإِنَّهُمْ أي الظالمين لَآكِلُونَ مِنْها أي من تلك الشجرة، اضطرارا من جوعهم الشديد الذي لا يطاق فَمالِؤُنَ مِنْهَا أي من تلك الشجرة الْبُطُونَ أي بطونهم، و «اللام» عوض الضمير.

[68] ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي بعد أكل تلك الشجرة لَشَوْباً أي شرابا مشوبا، ليس بصافي مِنْ حَمِيمٍ أي الماء الحار، و هذا كما يقال:

شرب الماء على الطعام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 482

[سورة الصافات (37): الآيات 68 الى 73]

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)

[69] ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مأواهم و مصيرهم، بعد أكل الزقوم، و شرب الحميم لَإِلَى الْجَحِيمِ و كأن محل طعامهم و شرابهم، بعيد عن الجحيم فإذا أكلوا و شربوا رجعوا إلى محلهم، كما قال سبحانه (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) «1».

[70] إِنَّهُمْ

أي هؤلاء الكفار، إنما يصرون على الكفر و الفساد تقليدا فقط، بلا حجة أو دليل، فقد أَلْفَوْا أي وجدوا، من ألفى يلفي بمعنى وجد آباءَهُمْ ضالِّينَ فقد رأوهم منحرفين عن طريق الهداية.

[71] فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ أي يسرعون في تقليدهم، فإن الإهراع الإسراع.

[72] وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السابقة.

[73] وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ أي في أولئك الأولين مُنْذِرِينَ أنبياء ينذرونهم من الضلال و الكفر.

[74] فَانْظُرْ يا رسول الله، أو أيها الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ

______________________________

(1) الرحمن: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 483

[سورة الصافات (37): الآيات 74 الى 78]

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)

حيث إن الله سبحانه، أهلكهم بعذابه لما انحرفوا، و هذا تهديد لهؤلاء بأنهم إن انحرفوا، أخذهم العذاب، كما أخذ السابقين.

[75] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ بصيغة اسم المفعول، أي الذين أخلصهم الله سبحانه لنفسه، فكانوا يعملون لله سبحانه، لا لغيره، و هذا استثناء من «المنذرين» يعني إن المنذرين أهلكوا إلا عباد الله منهم.

[76] ثم يأتي السياق ليبين طرفا من أحوال الأمم و أنبيائهم تنبيها و إيقاظا و تبيانا لقوله «و لقد أرسلنا» وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ بعد ما يئس من إيمان قومه، لننصره عليهم فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لنوح، فلقد أجبناه لما سئل من إنجائه من الكفار.

[77] وَ نَجَّيْناهُ أي خلصناه وَ أَهْلَهُ عائلته- إلا ولده- مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ أي المكروه الذي كان ينزل به من قومه، بأن حملناه في السفينة، و أهلكنا الكفار.

[78] وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ أولاده و أحفاده

هُمُ الْباقِينَ في الأرض، فالناس كلهم- بعد نوح- من ولده، إذ هلك سائر الناس بالغرق.

[79] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي أبقينا له ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ أي الأمم الآخرين الذي جاءوا بعده، و هكذا عاقبة المجاهد في سبيل الله، نجاة، و بقاء الذرية، و ذكر جميل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 484

[سورة الصافات (37): الآيات 79 الى 84]

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83)

إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)

[80] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إما جملة مستأنفة، تحية لنوح من الله سبحانه، و معنى هذا إنه سالم في جميع العوالم، سالم الذكر، سالم الشخص، سالم المبدأ، أو إنه من تتمة الكلام السابق، أي تركنا عليه أن يسلم الناس عليه إلى يوم القيامة، فكل جيل من الأجيال عالم يحيّي نوحا بالسلام.

[81] إِنَّا كَذلِكَ أي كما أنجينا نوحا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ بإنجائهم من الأعداء.

[82] إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ و في هذه الآية مدح للمؤمنين حيث جعل نوح عليه السّلام منهم.

[83] ثُمَ بعد إنجاء نوح عليه السّلام في السفينة أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي الكفار.

[84] وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي شيعة نوح لَإِبْراهِيمَ و الشيعة من المشايعة، بمعنى المتابعة، أي أن إبراهيم كان من الذين شايعوا نوحا في منهاجه و دعوته إلى التوحيد و الشريعة، و الإذعان بالمعاد، و الانقياد لأوامر الله سبحانه.

[85] إِذْ جاءَ إبراهيم عليه السّلام رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من الشرك و العصيان و الرذائل، و معنى «جاء» توجه إلى الله سبحانه، مع قلب طاهر نظيف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 485

[سورة الصافات (37): الآيات 85 الى 89]

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ

وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)

[86] إِذْ قالَ إبراهيم عليه السّلام لِأَبِيهِ آزر، و المراد عمه، فإن الاصطلاح على تسمية العم، أبا، احتراما وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أي أيّ شي ء تعبدونه.

[87] أَ إِفْكاً الإفك هو الكذب آلِهَةً بدل من إفكا دُونَ اللَّهِ أي غير الله تُرِيدُونَ قال ذلك على نحو الاستفهام الإنكاري، أي كيف تعبدون آلهة دون الله بالكذب و الإفك؟

[88] فَما ظَنُّكُمْ أيها المشركون بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي ما تظنون أن يفعل بكم إذا أشركتم؟ و هذا تهديد لهم في عبادتهم دون الله.

[89] و لما رأى إبراهيم عليه السّلام، إن الكلام لا يؤثر فيهم عزم على أن يحطّم الأصنام، ليحدث فيهم ضجة، و دائما في الضجة، تظهر القلوب النقية، و تصطدم التقاليد، فيولد في الناس حب الاستطلاع و الرجوع إلى مناهجهم ليروا أيها صحيحا، و أيها فاسدا، و قد كان للقوم عيد يخرجون فيه إلى الصحراء، و يضعون الطعام أمام الأصنام، لتبارك عليه، ثم إذا رجعوا أخذوه للتبرك و الاستشفاء، و لما أرادوا الخروج، قالوا لإبراهيم، هلم معنا إلى العيد فَنَظَرَ إبراهيم عليه السّلام نَظْرَةً فِي النُّجُومِ و لعل نظره إليها، كان لأجل التفكر، فإن الإنسان إذا أراد أن يفكر- سريعا- صرف نظره عمن يقابله، إلى محل آخر، لئلا يشغله المخاطب، فيفكر في أمره.

[90] فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ فقد كان قلبه حزينا على إصرار القوم على الكفر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 486

[سورة الصافات (37): الآيات 90 الى 94]

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا

تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

و السقم كما يطلق على المرض الجسدي، يطلق على ضجر النفس و عدم خلوها من الهمّ و المعنى لا حالة لي على الخروج معكم، فإن مشغول القلب بالهم، لا حالة له على التنزه و التفرج.

[91] و لما عرف القوم، بأنه لا يخرج معهم تركوه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا عن مصاحبته للعيد مُدْبِرِينَ أي ولوه الدبر ذاهبين إلى العيد.

[92] فَراغَ أي مال إبراهيم إِلى آلِهَتِهِمْ أي الأصنام، فإنه حين رأى خلو المعبد من العباد، مال نحو الأصنام فَقالَ لها أَ لا تَأْكُلُونَ

و قد كان هذا سؤال العارف يريد أن يسمع غيره، لتتم عليه الحجة، و المراد بالأكل وجود الحس و الحياة، و إلا فإله الحق أيضا لا يأكل، و قد تقدم أن أمام الآلهة كانت أطعمة للقوم.

[93] ما لَكُمْ أيها الأصنام لا تَنْطِقُونَ و لا تتكلمون؟ و الإتيان بالضمائر على غرار العاقل، توحيدا مع سياق كلام القوم.

[94] فَراغَ أي مال إبراهيم عَلَيْهِمْ أي على الأصنام ضَرْباً بِالْيَمِينِ فقد أخذ فأسا بيمينه، و شرع يحطمهم و يكسرهم، و إنما أخذ باليمين، لأنها أقوى في العمل.

[95] و لما رجع القوم من العيد، و دخلوا بيت الأصنام رأوها محطمة مكسرة، و علموا إن ذلك من فعل إبراهيم، لأنه هو الذي بقي في المدينة، و إنه كان مخالفا للأصنام فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 487

[سورة الصافات (37): الآيات 95 الى 98]

قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

يَزِفُّونَ أي يسرعون في المشي، فإن «زف»

بمعنى الإسراع في المشي لنيل مطلوب، أو الانتقام من عدو، أو ما أشبه.

[96] و أخذوا إبراهيم، و أثبتوا التحطيم عليه، ف قالَ لهم إبراهيم عليه السّلام أَ تَعْبُدُونَ أيها القوم ما تَنْحِتُونَ على نحو الاستفهام الإنكاري، أي كيف تعبدون الأصنام، التي تنحتونها من الأحجار بأيديكم، و هل يمكن أن يكون الإله مصنوعا للإنسان؟

[97] وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها القوم وَ ما تَعْمَلُونَ من الأصنام، فإن أصنامكم التي تعملونها و تنحتونها مخلوقة له سبحانه.

[98] و لما لم يتمكن القوم من رد حجة إبراهيم، و تفكروا في التخلص منه قالُوا قال بعضهم لبعض ابْنُوا لَهُ لإبراهيم بُنْياناً محلا ليلقى فيه الحطب، فيشعل، ثم يقذف فيه إبراهيم ليحترق، و احتراق الإنسان لا يحتاج إلى ذلك، و إنما أراد القوم إظهار حقدهم على إبراهيم بذلك فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ أي النار، و كل نار عظيمة، تسمى جحيما.

[99] و صنعوا البنيان، و جمعوا الحطب، و أشعلوه، و قذفوا فيه إبراهيم، لكنه لم يحترق فَأَرادُوا أي القوم بِهِ بإبراهيم كَيْداً حيلة للخلاص منه فلم ينجحوا بل جعلناهم الْأَسْفَلِينَ و أعلينا إبراهيم عليهم، إذ (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 488

[سورة الصافات (37): الآيات 99 الى 102]

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)

[100] و إذ خرج إبراهيم من النار ظافرا، و رأى أن القوم لا يؤثر فيهم الكلام، و إنما هم

مصرون على عبادة الأصنام، أراد هجر تلك الديار، إلى مكان آخر، لعله يجد آذانا واعية وَ قالَ إبراهيم عليه السّلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمرني ربي إلى الديار المقدسة، و هذا كما يسمى من يذهب إلى الحج، إنه ذاهب إلى الله سَيَهْدِينِ أي يهديني ربي- فيما بعد- إلى المكان الذي يختاره لي، فإني مهاجر من هذه البلاد، منتظر أمر ربي لاختيار المكان الذي أقطن فيه.

[101] ثم دعا ربه أن يهب له ولدا، ليكون خلفه في إقامة الدين، فقال يا رَبِّ هَبْ لِي ولدا مِنَ الصَّالِحِينَ بأن يكون من جملتهم.

[102] فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ أي ولد حَلِيمٍ ذو حلم و أناة، و هذا من أعظم صفات المصلحين، إذ الإصلاح يحتاج إلى التحلّم من الجهال، و تلقّي أذاهم بصبر و أناة، و المراد بالغلام «إسماعيل» جد نبينا عليهما السّلام.

[103] و أعطاه الله سبحانه الولد، و بقي معه حتى شبّ و كبر فَلَمَّا بَلَغَ الغلام مَعَهُ السَّعْيَ أن يسعى مع إبراهيم في أعماله، فإن الولد ما دام طفلا، لا يتمكن أن يشارك الأب في مهامه، فإذا كبر و شب، يبلغ مبلغا يتمكن أن يسعى مع أبيه في حوائجه قالَ إبراهيم عليه السّلام له يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أي رأيت في النوم أَنِّي أَذْبَحُكَ و قد كان نومه وحيا من الله سبحانه، و كان هذا امتحانا آخر لإبراهيم عليه السّلام، بعد تلك المصاعب و الأحزان، و الطرد من الوطن، و إسكان الأهل في واد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 489

[سورة الصافات (37): الآيات 103 الى 105]

فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)

غير ذي

زرع فَانْظُرْ يا بني ما ذا تَرى أي ما رأيك في هذا الأمر؟ فهل تقبل أن أذبحك أم لا؟ قالَ إسماعيل عليه السّلام يا أَبَتِ أصله «أبي» و التاء عوض عن الياء افْعَلْ ما تُؤْمَرُ من ذبحي، فإني مستعد لذلك سَتَجِدُنِي عند الذبح إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ أصبر على ألم الذبح، و مفارقة الحياة.

[104] فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلم إبراهيم لذبح ولده، و إسماعيل لأن يذبح وَ تَلَّهُ أي أضجعه، فإن التل هو الصرع، و منه يسمى تل التراب تلا، لأن التراب يصرع و يجمع هناك لِلْجَبِينِ الجبين، ما عن يمين الجبهة و شمالها، أي أنام إبراهيم ولده إسماعيل على جنبه ليقتله.

[105] أظهرنا له ما كنا نقصده من عدم الذبح- و إنما الامتحان- وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ فإتيان «الواو» هنا للإشارة إلى وجهة في الكلام، و ذلك من فنون البلاغة.

[106] قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي أتيت بما يصدقها، و التصديق كما يكون بالعمل، كذلك يكون بالتهيؤ القريب مع النية الجازمة إِنَّا كما جازينا إبراهيم بالعفو عن ذبح ولده، و إعطائه أجر الذبح كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في عملهم تجاه الله سبحانه بإطاعة أوامره، و اجتناب نواهيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 490

[سورة الصافات (37): الآيات 106 الى 107]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)

[107] إِنَّ هذا الذي امتحن به إبراهيم من ذبح ولده لَهُوَ الْبَلاءُ الامتحان الْمُبِينُ الظاهر، فإن تهيؤ الإنسان لذبح ولده بعد كبره و شدة علاقته معه، لمن أعظم الامتحانات.

[108] وَ فَدَيْناهُ أي جعلنا عوض ذبح إسماعيل، فإن الفدية هو العوض عن شي ء وجب على الإنسان بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذبح هو المذبوح، فقد جاء جبرئيل من الجنة بكبش

ذبح عوض إسماعيل، و من المعلوم أن ذبح كبش الجنة فدية أعظم أقسام الذبح قربة إلى الله تعالى، أو المراد إنه كان عظيما، حيث أمر الناس بالاقتداء به، و السير خلفه، و إلى هذا اليوم يذبحون الأغنام، في الأضحية تجديدا لتلك الذكرى، و قد ورد إن كل ما يذبح بمنى، فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة.

في حديث عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، يذكر قصة حج إبراهيم، قال ثم أفاض إلى المزدلفة، فسميت المزدلفة، لأنه ازدلف إليها، ثم قام على المشعر الحرام، فأمره الله أن يذبح ابنه، و قد رأى فيه شمائله و أخلاقه و آنس مما كان إليه، فلما أصبح أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأمه: زوري البيت أنت، و احتبس الغلام، فقال يا بني هات الحمار و السكين؟ حتى أقرّب القربان، سأل الراوي: ما أراد بالحمار و السكين؟ قال: أراد أن يذبحه ثم يحمله، فيجهزه و يدفنه، قال: فجاء الغلام بالحمار و السكين، فقال: يا أبت أين القربان؟ قال: ربك يعلم أين هو، يا بني أنت و الله هو، إن الله قد أمرني بذبحك، فانظر ما ترى؟ قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، قال: فلما عزم على الذبح، قال: يا أبت خمّر وجهي، و شد وثاقي، قال: يا بني الوثاق مع الذبح؟ و الله لا أجمعهما عليك اليوم، قال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 491

الباقر عليه السّلام:، فطرح له قرطان «برذعة» الحمار، ثم أضجعه عليه، و أخذ المدية فوضعها على حلقه، قال فأقبل شيخ، فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه، فقال: سبحان الله، غلام لم يعص الله طرفة عين تذبحه؟

فقال: نعم إن الله قد أمرني بذبحه، فقال: بل ربك ينهاك عن ذبحه، و إنما أمرك بهذا الشيطان في منامك، قال:

ويلك الكلام الذي سمعت، هو الذي بلغ بي ما ترى، لا و الله لا أكلمك، ثم عزم على الذبح، فقال الشيخ: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، فإن ذبحت ولدك، ذبح الناس أولادهم فمهلا، فأبى أن يكلمه، ثم قال عليه السّلام: فأضجعه عند الجمرة الوسطى، ثم أخذ المدية فوضعها على حلقه، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم انتحى عليه المدية، فقلبها جبرئيل عليه السّلام عن حلقه، فنظر إبراهيم، فإذا هي مقلوبة، فقلبها إبراهيم عليه السّلام على حدها، و قلبها جبرئيل عليه السّلام على قفاها، ففعل ذلك مرارا، ثم نودي من ميسرة مسجد الخيف، يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا، و اجترّ الغلام من تحته، و تناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير، فوضعه تحته، و خرج الشيخ الخبيث، حتى لحق بالعجوز حين نظرت إلى البيت، و البيت في وسط الوادي، فقال: ما شيخ رأيته بمنى فنعت نعت إبراهيم عليه السّلام، قالت: ذاك بعلي، قال: فما وصيف رأيته معه؟

و نعت نعته، فقالت: ذاك ابني، قال: فإني رأيته أضجعه، و أخذ المدية، ليذبحه؟ قالت: كلا ما رأيته، إبراهيم إلّا أرحم الناس، و كيف رأيته يذبح ابنه؟ قال: و رب السماء و الأرض، و رب هذه البنية، لقد رأيته أضجعه؟ و أخذ المدية ليذبحه، قالت: لم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذبحه، قالت: فحق له أن يطيع ربه «الحديث»

«1».

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 207.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 492

[سورة الصافات (37): الآيات 108 الى 113]

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ

مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)

وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

[109] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم عليه السّلام ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ في الأمم التي أتت من بعده، فإن جميع الأمم، يمدحون إبراهيم عليه السّلام، جزاء لجهاده، و إطاعته لله سبحانه.

[110] سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إما جملة مستأنفة، أي سلامة من الله على إبراهيم في دنياه بالذكر الجميل، و في آخرته بالجنة و النعيم، أو من تتمّة «و تركنا» أي أبقينا له تسليم الناس له و تحيتهم إياه.

[111] كَذلِكَ الذي جزينا إبراهيم عليه السّلام نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ كل من أحسن عقيدة و عملا.

[112] إِنَّهُ أي إبراهيم عليه السّلام مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الذين آمنوا بنا، و في هذا تلميح إلى رفعة درجة الايمان.

[113] وَ بَشَّرْناهُ أي بشرنا إبراهيم، جزاء لخدماته و أتعابه بِإِسْحاقَ فقد كانت زوجته «سارة» لا تلد، لكن الله سبحانه شاء أن يتفضل عليهما بالولد فولدت له إسحاق في حال كونه نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي من جملتهم، و في جماعتهم، و هذا ترغيب في الصلاح، و حيث إن النبي مع عظم درجته يعدّ منهم.

[114] وَ بارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم وَ عَلى إِسْحاقَ بأن جعلنا فيهما البركة و الزيادة: زيادة النسل، و زيادة الذكر، و زيادة الخير إلى غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 493

[سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 116]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)

ذلك، و يحتمل بعيدا أن يكون ضمير «عليه» راجعا إلى «إسماعيل» المفهوم من قوله «بنيّ» و قد صدق سبحانه، فإن

من نسل إسحاق «اليهود» و من نسل إسماعيل كثرة من المسلمين، و قد بعث فيهم كثرة من الأنبياء، و بقوا إلى هذا اليوم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما أي ذرية إبراهيم- و بالطبيعة يرجع ذلك إلى إسماعيل- و ذرية إسحاق مُحْسِنٌ بالإيمان و الطاعة وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر أو العصيان مُبِينٌ صفة لكلا الأمرين، باعتبار كل واحد منهما، و كانت هذه الجملة، للتعريض بالظالم كيف يظلم، و آبائه هؤلاء الأنبياء العظام المحسنون؟

[115] و بعد تمام قصة إبراهيم يعطف السياق إلى قصة موسى و هارون الذين هما من نسل إبراهيم عليه السّلام وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ أي أنعمنا عليهما بنعم كثيرة لطفا و منّة، لا استحقاقا، فقد جعلناهما، نبيين عظيمين، و ملكناهما الأرض إلى غير ذلك من النعم، التي تفضل الله بها عليهما.

[116] وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما أي خلصناهما و بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ و هو إسار فرعون الذي كان يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم.

[117] وَ نَصَرْناهُمْ على فرعون بإغراقه مع جيشه، و غلبة هؤلاء عليهم فَكانُوا هُمُ أي موسى و هارون، و بنو إسرائيل الْغالِبِينَ على فرعون و قومه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 494

[سورة الصافات (37): الآيات 117 الى 123]

وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)

إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)

[118] وَ آتَيْناهُمَا أي أعطينا موسى و هارون الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ يقال استبان الأمر إذا أظهر ظهورا جليا، و المراد بالكتاب «التوراة» التي كانت ظاهرة جلية.

[119] وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي دللناهما الطريق الذي يوصل إلى المطلوب بأقصر

مسافة.

[120] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما أي أبقينا على موسى و هارون الذكر الجميل فِي الأقوام الْآخِرِينَ بأن عرّفناهما للناس، حتى يثنون عليهما.

[121] سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إما جملة مستأنفة، و إما من تتمة «تركنا» كما تقدم.

[122] إِنَّا كَذلِكَ أي كما جزيناهما نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[123] إِنَّهُما مِنْ جملة عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ و فيه إشارة إلى مدح الإيمان، حتى أن موسى و هارون يستحقان، آيتين عليهما بكونهما مؤمنين.

[124] و إذ فرغ السياق من ذكر موسى و هارون، يأتي لذكر «إلياس» النبي عليه السّلام وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ في المجمع، قالوا: إنه بعث بعد حزقيل، لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل، و كان يوشع لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 495

[سورة الصافات (37): الآيات 124 الى 128]

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)

فتح الشام، بوأها بني إسرائيل و قسمها بينهم، فأحل سبطا منهم ببعلبك و هم سبط إلياس، فبعث فيهم نبيا إليهم، فأجابه الملك، ثم إن امرأته حملته على أن ارتد و خالف إلياس، و طلبه ليقتله، فهرب إلى الجبال و البراري، إلى أن قال: و سلط الله على الملك و قومه عدوا لهم، فقتل الملك و امرأته.

[125] إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ المعاصي و تخافون الله؟ على وجه الاستفهام الإنكاري، أي لماذا لا تتقون.

[126] أَ تَدْعُونَ بَعْلًا اسم صنم لهم، أي كيف تدعون بالألوهية «بعلا» وَ تَذَرُونَ أي تتركون أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي الله فلا تتخذونه إلها؟

[127] تذرون اللَّهَ رَبَّكُمْ بدل من «أَحْسَنَ الْخالِقِينَ» وَ رَبَّ آبائِكُمُ

الْأَوَّلِينَ فإنه هو الخالق لكم جميعا، فكيف يترك الإنسان خالقه ليأخذ غيره؟

[128] فَكَذَّبُوهُ في دعوته و لم يؤمنوا به، بل قالوا إنك تكذب في ادعائك بوجود الله، و أنك رسوله، فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يحضرون في القيامة بالعنف، و الكره منهم، حيث يعلمون شدة الحساب عليهم، و سوء الجزاء، بخلاف المؤمنين الذين يحضرون الموقف رغبة منهم، إذ يعلمون الجزاء الحسن.

[129] إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قوم «إلياس» فإنهم ليسوا بمحضرين،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 496

[سورة الصافات (37): الآيات 129 الى 132]

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

أو استثناء منقطع، حيث إن المراد، إن كل إنسان محضر، إلا من أخلصه الله سبحانه لنفسه، من الصالحين- و قد ذكرنا سابقا وجه الاستثناء المنقطع-.

[130] وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ أي على إلياس، ذكرا جميلا فِي الأقوام الْآخِرِينَ فإنهم يعظمونه.

[131] سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إما جملة مستأنفة، بأن يكون السلام من الله عليه، أو مرتبطة بما قبلها، أي تركنا عليه تسليم الأقوام عليه بالإضافة إلى الذكر الجميل، و «آل ياسين» لغة «في إلياس» أو باعتبار ما قالوا:

من أن الكلمة إذا كانت عجمية، جاز التصرف فيها بكل وجه، و لذا جاز في «جبرئيل» لغات، و ما ورد من أن المراد «آل ياسين» يعني آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1»، فذاك من باب التأويل، أو باعتبار استعمال اللفظ في أكثر من معنى- على المختار من جوازه بالقرينة-.

[132] إِنَّا كما جزينا إلياس كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[133] إِنَّهُ أي إن إلياس مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بنا و بشريعتنا، و من المعلوم إن منتهى مفخرة الأنبياء،

إنهم من المؤمنين، و لذا قال (وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» و قال تعالى:

______________________________

(1) تأويل الآيات: 489.

(2) آل عمران: 103.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 497

[سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 138]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)

(آمَنَ الرَّسُولُ) «1».

[134] و بعد تمام قصة إلياس، يأتي السياق للإشارة إلى قصة لوط وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلهم الله إلى قومهم.

[135] فقد جاء ليرشد قومه في ترك الكفر، و اجتناب الفاحشة، التي كانوا يرتكبونها، لكن وعظه لم ينفع في قومه، و أخيرا قدر الله سبحانه الهلاك على القوم، و إنجاء لوط من براثنهم إِذْ نَجَّيْناهُ أي لوط وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من تلك القرية التي كانت تعمل الخبائث، بأن أمرناهم بالخروج منها ليلا.

[136] إِلَّا عَجُوزاً هي زوجة لوط المنافقة فِي الْغابِرِينَ أي كانت في الباقين الذين أهلكوا.

[137] ثُمَ بعد خروج لوط و أهله من القرية دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ التدمير هو الإهلاك، أي أهلكنا القوم بتقليب أرضهم ظهرا لبطن، و رجمهم بالحجارة.

[138] وَ إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أي على أراضي قوم لوط مُصْبِحِينَ أي صباحا، من أصبح، بمعنى دخل في الصباح.

[139] وَ بِاللَّيْلِ فإن أهل مكة كانوا إذا سافروا إلى الشام، مروا بأراضي

______________________________

(1) البقرة: 286.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 498

[سورة الصافات (37): الآيات 139 الى 141]

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)

قوم لوط المدمرة، و رأوا أماكنهم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي أليس لكم عقل حتى تعتبروا

بأولئك القوم، و تعلموا أن من تمادى في الكفر و الطغيان، كان مصيره، مثل مصير أولئك؟

[140] ثم أتى السياق للإشارة إلى قصة يونس عليه السّلام وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلوا إلى أقوامهم لإرشادهم.

[141] فقد جاء إلى قومه، و كانوا كفارا عصاتا، و عددهم مائة ألف، أو يزيدون، فدعاهم إلى الله مدة مديدة، لكنهم لم يستجيبوا له، فضاق بهم ذرعا و دعا عليهم بالعذاب، لكن دعائه عليهم، كان خلاف الأولى، و لذا شاءت إرادة الله سبحانه، أن ينبهه على ذلك إِذْ أَبَقَ أي فرّ من قومه تضجرا، لئلا يحضر وقت نزول العذاب بهم إِلَى الْفُلْكِ أي السفينة الْمَشْحُونِ أي المملوء بالناس و الأحمال، من شحنه إذا ملأه.

[142] فَساهَمَ أي قارع، و ذلك لأن حوتا أخذ طريق السفينة، فاستقر رأي القوم على أن يقرعوا باسم الأشخاص الراكبين، فمن خرج اسمه في القرعة، ألقوه للحوت ليأكله، فيفتح عليهم الطريق، و إنما قال «ساهم» لأن القوم كلهم، و منهم يونس، قبلوا القرعة، فهو من باب إسناد الفعل إلى السبب فَكانَ يونس مِنَ الْمُدْحَضِينَ يقال أدحضه إذا أسقطه، أي من الساقطين في البحر، فقد أسقطه القوم حسب خروج اسمه على القرعة، و الإتيان بالجمع «المدحضين» باعتبار السياق، و توهم كلّي له أفراد في سائر السفن، و تلك السفينة، فلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 499

[سورة الصافات (37): الآيات 142 الى 144]

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)

ينافي ذلك، إن لم يكن أحد مدحضا سواه.

[143] فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه الحوت الذي كان سادا طريق السفينة، و قد أمره الله سبحانه أن لا يؤذي يونس، كما أوقف

أجهزة هضمه عن هضم يونس، فكان عليه السّلام في بطنه حيّا، و إن كان في صعوبة و مشقة وَ هُوَ مُلِيمٌ أي مستحق للوم، يقال ألام الرجل، بمعنى أتى بما يلام عليه، فهو مليم، أو المراد أنه كان يلوم نفسه، لإتيانه بذاك المخالف للأولى، و معناه الشي ء الذي يكون تركه أولى، فإذا أضفت إنسانا، كان الأولى أن تحضر له ماء غسل اليد قبل الطعام مثلا فإن لم تحضر له، كان ذلك خلاف الأولى، فتلوم نفسك لم ما أحضرت؟ و قد ثبت عقلا و نقلا، إن الأنبياء منزهون عن العصيان، فما يرى من هذا القبيل، يكون من باب «ترك الأولى» كما حقق في علم الكلام.

[144] فَلَوْ لا أَنَّهُ أي يونس كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فإنه عليه السّلام كان يقول في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) «1».

[145] لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي يبقى في بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة، و إنما نجّاه من بطن الحوت لتسبيحه و تنزيهه لله سبحانه، و ليس بدعا من قدرة الله سبحانه، أن يبقي الإنسان حيا، فإنه على ما يشاء قدير، و ما يقال: إن عمل يونس، كان تركا للأولى، و ترك الأولى، لا عقاب له، فكيف عوقب يونس بحبسه في بطن الحوت؟ فالجواب إن مقام يونس

______________________________

(1) الأنبياء: 88.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 549

[سورة الصافات (37): الآيات 145 الى 147]

فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)

الرفيع، يقتضي أن يكون ترك الأولى منه كالعصيان من سائر الناس، ألا ترى إن رئيس الوزراء، لو

أتى عند الملك بما ينافي الآداب، عدّ عاصيا- بلحاظ مقامه- و إن كان الأكبر من مثل ذلك العمل، لا يعدّ عصيانا من سائر الناس، و من هاهنا قيل

«حسنات الأبرار سيئات المقربين».

[146] و بعد زمان من مكث يونس في بطن الحوت فَنَبَذْناهُ أي أمرنا الحوت بطرحه بِالْعَراءِ و هو المكان الخالي من الشجر وَ هُوَ سَقِيمٌ ذو علّة من تعب بطن الحوت.

[147] وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ لظلاله شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ و هو القرع، فكان يمصه، و يستظل به و بورقه، و قد كان تساقط شعره عليه السّلام، ورّق جلده.

[148] وَ أَرْسَلْناهُ إما بعد ذلك، كما روى إنه رجع إلى أهل نينوى بعد خروجه من البحر، أو حكاية لما قبل ذهابه عنهم إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ إما أن «أو» بمعنى الواو، كما قال ابن مالك:

و ربما عاقبت الواو إذالم يلف ذو النطق للبث منفذا

أو بمعنى الترديد، لأجل عدم الاهتمام بالخصوصية، و

قد روى عن الصادق عليه السّلام إنهم زادوا ثلاثين ألفا

«1»، و يمكن أن يكون الترديد باعتبارين، فباعتبار المدينة، كانوا مائة ألف، و باعتبار أطرافها كانوا يزيدون.

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 501

[سورة الصافات (37): الآيات 148 الى 151]

فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151)

[149] فَآمَنُوا به إما المراد أن القوم الجدد الذين أرسل إليهم آمنوا به، أو المراد القوم الأول، و قد كانوا حين ذهب يونس آمنوا بالله و بما قاله يونس حين رأوا العذاب،

فقد ورد عن الباقر عليه السّلام إن يونس جاءه الوحي من قبله سبحانه، يقول:

إن أهل نينوى قد آمنوا و اتقوا، فارجع إليهم

«1» فَمَتَّعْناهُمْ أي رفعنا عنهم العذاب، و أبقيناهم يمتّعون بالحياة إِلى حِينٍ الموت، حيث ماتوا بآجالهم المقدرة لهم.

[150] و بعد نقل هذه القصص، يعود السياق مع كفار مكة، ليوقظهم من غفلتهم، و ينبههم على خرافاتهم، فقال سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ أي سلهم يا رسول الله أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ أي هل لله أولادا إناثا وَ لَهُمُ الْبَنُونَ

فقد كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فكانوا يخصصون البنات- و هم يكرهونها- بالله، أما البنون فلهم وحدهم.

[151] أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً أي هل خلقنا الملائكة نساء؟ وَ هُمْ شاهِدُونَ أي حاضرون وقت خلقنا لهم، حتى رأوا أنهم نساء، و هذا على وجه الاستفهام الإنكاري.

[152] أَلا فليتنبه السامع إِنَّهُمْ أي الكفار مِنْ إِفْكِهِمْ و كذبهم، و «من» نشوية، أي من منشأ الكذب لَيَقُولُونَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 502

[سورة الصافات (37): الآيات 152 الى 158]

وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156)

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

[153] وَلَدَ اللَّهُ حين زعموا إن الملائكة أولاد الله وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم، إن لله أولادا، و إن الملائكة إناث.

[154] أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ أصله «أ أصطفى» بهمزتين، أحدهما للوصل، و الثانية للاستفهام، فحذفت همزة الوصل تخفيفا، أي هل اختار الله سبحانه، البنات على البنين، حين زعمتم إنه جعل ملائكته نساء؟ و المعنى الإنكار عليهم في أن يختار الله، الأدنى- بنظرهم- على الأعلى، و هو قادر على

كل شي ء.

[155] ما لَكُمْ أيها الكفار كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم الباطل؟

و أصل «مالك» أي شي ء لك، ثم استعمل في الإنكار.

[156] أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتعظون و ترجعون عن غفلتكم.

[157] أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي هل تحكمون بذلك اعتباطا بدون دليل، أم لكم على ذلك دليل واضح؟ فإن السلطان بمعنى الدليل، لأنه يسلط الإنسان على خصمه الخالي من الدليل.

[158] فإن تزعمون إن لكم دليلا على قولكم فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي فيه الحجة على أن الملائكة إناث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم.

[159] وَ أغرب من هذا، أن جَعَلُوا أي الكفار بَيْنَهُ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 503

[سورة الصافات (37): الآيات 159 الى 161]

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161)

وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً إما هو حكاية، لما كانوا يقولون: إن الله تزوج امرأة من الجن فولدت له الملائكة، أو لما كانوا يقولون: إن الله أخ لإبليس- و هو من الجن- فالله خالق الخير و إبليس خالق الشر، و الله أعلم بمراده وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي يحضرون بالكره لموقف القيامة، و لو كانت الجنة قريبة في النسب لله سبحانه، كان تعالى يكرمهم، و هذا كقوله (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) «1»؟ و المعنى أن هؤلاء يزعمون إن الجن نسيب مع الله، و الحال إن الجن هم يعلمون إنهم عباد له يحضرهم للحساب و الجزاء كسائر العبيد.

[160] سُبْحانَ اللَّهِ أي أنزه الله تنزيها عَمَّا يَصِفُونَ أي عن الشي ء يصفون الله به من كونه صاحب الأولاد أو البنات، و إنه نسيب الجنة.

[161] و إذ كان في قوله سبحانه (إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ) «2» عموم لفظي، استثنى من «إنهم» المؤمنين بالرسول المنزهين

عن هذه الأقوال إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم الله لنفسه، فهم لا يقولون بهذه الأقوال الفارغة و الخرافات.

[162] ثم بين سبحانه إن هؤلاء الكفار لا يتمكنون من إضلال كل أحد، إلا الذين هم منحرفون ذاتا، و كأنه تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و للمؤمنين، بأن لا يخافوا على الدعوة أن تذهب سدى فَإِنَّكُمْ أيها الكفار وَ ما تَعْبُدُونَ

______________________________

(1) المائدة: 19.

(2) الصافات: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 504

[سورة الصافات (37): الآيات 162 الى 165]

ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)

أي الأصنام التي تعبدونها، أو المراد مطلق المعبودات حتى الملائكة.

[163] ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على الله سبحانه بِفاتِنِينَ يقال فتنة إذا أضلّه و حرّفه عن الطريق، أي أنكم لا تتمكنون من إضلال الناس، على خلاف الله سبحانه.

[164] إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ و إنما تتمكنون على إضلال جماعة خاصة، هم يصلون الجحيم، و يلازمونها، فإن «صلى» بمعنى دخل النار ملازما لها، فمن سبق في علمه سبحانه أنه منحرف، يصلى النار لا محالة، هو الذي يضل بإضلالكم، لا كل أحد، فالاستثناء من المقدر، أي «بفاتنين الناس، إلا ..».

[165] ثم جاء السياق ليحكي جملة من خطاب الملائكة للكفار، في رد قولهم، إن الملائكة بنات الله، و إنها آلهة شركاء لله- فقد كان بعض الكفار يعبد الملائكة- و قيل: إن كلام الملائكة يبتدأ من قوله «فإنكم» وَ ما مِنَّا معاشر الملائكة، و ما ورد من إرادة أهل البيت عليهم السّلام، بذلك، فإنه من باب التأويل، أو استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى، أو نحو ذلك،

إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ لا يتمكن أن يتعدى ذلك المقام، فكيف يمكن أن يكون من بهذه الصفة إلها يعبد؟ فإن الإله لا حد له، و لا محل خاص يكنفه.

[166] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ صفوفا في الصلاة، أو المصطفون كالخدم، ننتظر الأوامر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 505

[سورة الصافات (37): الآيات 166 الى 171]

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)

[167] وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون لله عن الشريك، و عن النقائص، فكيف يمكن أن يكون من هذا وصفه إلها، يعبد من دون الله؟

[168] وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي أن الكفار، كانوا يقولون قبل بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[169] لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا، من كتب الأنبياء السابقين، بأن كان أرسل إلينا رسول، كما أرسل إلى تلك الأمم.

[170] لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي كنا من الذين يخلصهم الله لعبادته، بأن كنا مطيعين له غاية الإطاعة، فإن كفار مكة، حيث كانوا يرون أهل الكتاب منحرفين، و يسمعون قصص أسلافهم، كانوا يتعجبون من انحراف أهل الكتاب، و يقولون: لو كان أرسل إلينا رسول لكنا مطيعين لله، منقادين لأوامره، فلما أتاهم الرسول، صاروا مثل تلك الأمم في إيذاء الرسول و تكذيبه.

[171] فلما جاءهم الرسول أو الكتاب فَكَفَرُوا بِهِ و لم يقبلوه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم، و هذا تهديد لهم بالعقاب و النكال.

[172] وَ لكن كفر هؤلاء لا يضر الأنبياء عليهم السّلام، ف لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا بالنصر، أي إنّا قبل أن نبعث الأنبياء، كنا

نقول- و المراد بالقول:

التقدير- إنهم سينتصرون على أعدائهم لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الذين أرسلوا من قبلنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 506

[سورة الصافات (37): الآيات 172 الى 176]

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)

[173] إِنَّهُمْ أي الأنبياء- و هذا تفسير «كلمتنا»- لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ أي الغالبون على الكفار، فإنا ننصرهم على أعدائهم، و الإتيان، ب «لهم» للتأكيد، كما أنه كذلك في الآيات السابقة «و إنا لنحن» في قصة الملائكة، ثم أن الله سبحانه لم يخلف وعده، فإن الأنبياء انتصروا في نهاية المطاف، و سادت مناهجهم الحياة، و الانتصار هو هذا، و إن عذبوا و قتلوا، ألا ترى إنا نقول: انتصرت الدولة الفلانية، إذا غلبت في نهاية المطاف، و إن قتل أكثر شبابها، و خربت ديارها.

[174] وَ إِنَّ جُنْدَنا أي المؤمنين لَهُمُ الْغالِبُونَ على سائر الأعداء، و كونهم جند الله، باعتبار نصرهم لدينه.

[175] فَتَوَلَ يا رسول الله، و المعنى: أعرض، عَنْهُمْ عن هؤلاء، بأن لا تقابلهم بالأذى حَتَّى حِينٍ نأمرك بقتالهم، فقد كانت حكمة الله، أن تشمل الدعوة بالسلم التام، حتى تنمو و تقوى، ثم تصول بالقوة، كما هو طريقة العقلاء.

[176] وَ أَبْصِرْهُمْ أي أنظرهم بدون أن تحاربهم، فإن الإنسان الذي تقع عليه الكوارث، قد يقوم بالمدافعة، و قد يجلس ينتظر و ينظر، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ عاقبة أمرهم حين تؤمر بالجهاد، كيف يتضاءلون أمام الحق، و حين يؤخذون للعذاب، كيف لا قوة لهم و لا ناصر؟

[177] إنهم من جهلهم يقولون: لو كنت يا محمد صادقا، أنزل علينا العذاب، و هذا مستغرب جدا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 507

[سورة الصافات (37): الآيات 177 الى

181]

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي كيف يطلب هؤلاء العذاب؟ أما يخافون منه؟

[178] و سيأتي يوم العذاب فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ أي بأفنية دورهم فَساءَ الصباح وقت ذاك صَباحُ الْمُنْذَرِينَ بصيغة اسم المفعول، أي صباح هؤلاء الذين أنذرهم الرسول، فلم ينفعهم الإنذار.

[179] وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض يا رسول الله عن هؤلاء بعد أن دعوتهم، فلم تنفعهم الدعوة حَتَّى حِينٍ يأتي الأمر بقتالهم.

[180] وَ أَبْصِرْ أمرهم ناظرا إلى ما يصنعون فقط لتكون شاهدا عليهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ إنما كرر للتأكيد، أو لأن المراد بأحدهما عذاب الدنيا و بالآخر عذاب الآخرة.

[181] و أخيرا نزّه الله سبحانه نفسه، عما ينسب إليه من الصاحبة و الولد و الشريك، و سائر الخرافات سُبْحانَ رَبِّكَ «سبحان» منصوب بفعل مقدّر، أي أسبح ربك تسبيحا، و المعنى أنزهه عما لا يليق به رَبِّ الْعِزَّةِ أي مالك العزة و خالقها، و من لوازم العزة المطلقة، أن لا يكون له ولد و شريك، و زوجة ليشاركوه العزة عَمَّا يَصِفُونَ هؤلاء، أي يصفون الله به.

[182] وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تحية عليهم منا، أو سلامة و أمان لهم، من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 508

[سورة الصافات (37): آية 182]

وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

أن ينصر عليهم أعدائهم.

[183] وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فجنس الحمد للّه، إذ جميع المحامد منه، و هو رب العوالم، خالقها و مربيها، و العوالم باعتبار عالم الإنسان، و عالم الحيوان، و عالم الجن و الشياطين، و عالم الملائكة، و عالم الدنيا، و عالم الآخرة،

إلى غير ذلك، فإن اللّه سبحانه، هو رب الكل لا شريك له فيها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 509

38 سورة ص مكيّة/ آياتها (89)

سميت السورة بهذا الاسم لابتدائها بهذه اللفظة «ص» و هي كسائر السور المكية تبين العقيدة بأصولها الثلاثة، في أساليب قصصية رائعة، للتقريب إلى الذهن، و التركيز على الحقائق، و إذ ختمت سورة الصافات، بذكر المكذبين للرسل، و للكافرين بالله، و الجاحدين للقرآن، ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ باسم الإله الرحمن الرحيم نبدأ السورة إعلانا على الصبغة العامة للمسلم، بأنه مربوط بالله، و ذكرا لله الذي لا ينسى من ذكره، و يبارك كل شي ء ابتدأ به، و استمطارا لشآبيب رحمته، ليغمر القارئ بالفضل و الرحم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 510

[سورة ص (38): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (3)

[2] ص فيه أقوال: منها إنه رمز بين الله و الرسول، و منها أن المراد، إن القرآن الذي لا تتمكنون- أيها الكفار- من الإتيان بأقصر سورة منه، من جنس حروف الهجاء، ل «ص» و غيره،

و منها إنه: اسم لعين تنبع من تحت العرش، كما ورد عن الصادق عليه السّلام

، و منها إنه اسم من أسماء الله تعالى إشارة إلى اسم لكونه إشارة إلى «الصابر» أو «الصادق» إلى غيرها من الأقوال، و في إعرابه أيضا خلاف تبع الخلاف الأول وَ الْقُرْآنِ أي قسما بهذا القرآن الذي هو ذِي الذِّكْرِ أي صاحب الشرف، كما يقال: لفلان ذكر أي شرف بسببه يذكر في المجامع، أو المراد أنه صاحب التذكير بالله

و اليوم الآخر، و لا ينافي أن يكون هو ذكر- باعتبار بعض آياته- و أن يكون صاحب الذكر- باعتبار مجموعة و جواب القسم محذوف: أي أنه لحق، دلّ عليه قوله «بل الذين».

[3] فليس في القرآن نقص، يوجب عدم إيمانهم، فإنه حق ظاهر لا مرية فيه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و اليوم الآخر فِي عِزَّةٍ أي تكبر عن قبول الحق، فإن الإنسان العزيز يعرض عن الرضوخ لغيره- سواء كانت عزة واقعية، أو عزة مزعومة- وَ شِقاقٍ أي مخالفة للرسول، و العدو مهما يرى الحق في جانب خصمه، لا يرضخ له، و لا يقبل منه، مشتق من شق، كأنّه في شق و طرف، و الخصم في شق آخر.

[4] و لكن هل يبقون هؤلاء كذلك معرضين عن الحق، أعداء للرسول؟

كلا، فليعتبروا بالأمم المكذبة، التي سبقتهم، ف كَمْ أَهْلَكْنا «كم» للخبر يراد به التكثير مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هؤلاء الكفار مِنْ قَرْنٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 511

[سورة ص (38): الآيات 4 الى 5]

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)

أي من أمة، و تسمى الأمة قرنا، باعتبار تقارن أعمار أفرادها فَنادَوْا عند إتيانهم العذاب بالاستغاثة و الضراعة، لكن لم يفيدهم النداء، في نجاتهم من العذاب وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أصل «لات» «لا» زيدت عليه التاء، بمعنى «ليس» و «مناص» من «النوص» و هو التأخر يقال:

ناص ينوص إذا تأخر، و قد حذف خبر «لات» أي ليس الوقت الذي استغاثوا فيه، وقت التأخر للعذاب و النجاة لهم، فقد كانوا في مهلة، ما دام أجلهم باق، أما إذا حقّت عليهم كلمة العذاب، فلا تفيدهم الضراعة

و الاستغاثة.

[5] وَ عَجِبُوا أي الكفار أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ أي رسول من قبل الله سبحانه لإنذارهم و تخويفهم عن بأس الله، بأنهم إن تمادوا على الكفر و العصيان، أخذهم العذاب، و أرجعوا إلى النار مِنْهُمْ أي من جنسهم، فقد كانوا يقولون: لو لا يكون الرسول علينا ملائكة وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا الرسول ساحِرٌ كَذَّابٌ فإنه يسحرنا، حين لا نتمكن من الإتيان، بمثل القرآن، حين يأتي بخوارق، و هو يكذب على الله، بأنه رسوله، و إن الله إله واحد لا شريك له، و لا صاحبة، و لا ولد.

[6] ثم جعلوا يستفهمون مستنكرين بقولهم أَ جَعَلَ أي هل جعل هذا الرسول الْآلِهَةَ المتعددة التي نقول بها إِلهاً واحِداً؟ أي كيف يقول، أن لا إله إلا إله واحد، و الحال أن لنا آلهة متعددة؟ إِنَّ هذا الذي يقوله محمد من وحدة الإله لَشَيْ ءٌ عُجابٌ أي لأمر عجيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 512

[سورة ص (38): آية 6]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6)

مفرط في العجب،

قال بعض إن قبيلة، كانت لها آلهة متعددة، تبعا لتنازع كان يقع بينهم، و قد كانوا يقولون: إن هذه الكثرة من الآلهة، لا تكفينا، فيجب صنع آلهة جديدة، فلما قال لهم الرسل أن الإله واحد، قالوا، إنا لم نكتف بهذا العدد العديد من الآلهة، فهو يدعونا إلى إله واحد؟ و هناك ظريفة تحكى، هي أن الكفار اجتمعوا، و قالوا إن في القرآن كلمات غير فصيحة، و ظنوها مأخذا على الرسول، و جمعوا تلك الكلمات في ثلاث، هي «كبار» و «يستهزئ» و «عجاب» و أتوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ناقدين

للقرآن فقال الرسول: ائتوني بأفصحكم، فذهبوا، و جاءوا بشيخ كبير، قالوا: إنه أفصحهم، و لما حضر بين يدي الرسول أراد الجلوس، فقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ في القيام، فجلس الرسول، فأخذ الشيخ في الجلوس، فقام الرسول، فاستشاط الشيخ غضبا من هذا العمل، و قال: يا محمد أ تستهزئ بي، و أنا شيخ كبار، هذا أمر عجاب؟ و هناك نظر بعض القوم إلى بعض، و قد أبطل الشيخ دعواهم في جملة واحدة و انصرفوا خائبين، و نقل إن المشركين، اجتمعوا حول الرسول، ليفاوضوه في ترك الدعوة؟ فقال لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تعطون كلمة واحدة تملكون بها العرب و العجم؟ فقال أبو جهل: لله أبوك نعطيك ذلك و عشرة أمثالها؟ فقال: قولوا لا إله إلا الله، فقاموا و قالوا: أ جعل الآلهة إلها واحدا؟ فنزلت هذه الآيات

«1».

[7] وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ المراد بالانطلاق، انطلاق الألسنة بالكلام، فقد قال الأشراف- و هم الملأ- بعضهم لبعض، و لأتباعهم أَنِ امْشُوا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 343.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 513

[سورة ص (38): الآيات 7 الى 8]

ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)

أي سيروا في طريقكم التقليدي الذي يقول: بتعدد الآلهة، و لا تعيروا كلام محمد بالا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ المتعددة، و تحملوا المشاقّ في سبيلها، لئلا يغلبكم محمد إِنَّ هذا البقاء على ديننا، و الصبر على المشاق، في سبيل الآلهة لَشَيْ ءٌ يُرادُ منّا، فنحن مطلوبون عند العرف الاجتماعي بالحماية عن الشرك.

[8] ما سَمِعْنا

بِهذا الذي يقوله الرسول من وحدة الإله، و عدم الشرك فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ أي ملة أهل الكتاب، التي هي خير الملل، بعد الوثنية، و ما أشبههما، و كأنهم أرادوا بذلك التموية على العوام، بأن أهل الكتاب أيضا، لا يقولون بوحدة الإله، فكيف يدعي محمد، إنه مثل موسى و عيسى، يدعي ما لا يقولا به إِنْ هذا الذي يقوله الرسول من التوحيد إِلَّا اخْتِلاقٌ أي الكذب، فقد خلقه و صنعه محمد، و لا نصيب له من الواقع و قد رأى الكفار أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن منهاج التوحيد، فجعلوهم حجة في مقابل الرسول، و إلا فالأنبياء جميعا لم يقولوا إلا بالتوحيد، و هكذا أكد التوراة و الإنجيل على ذلك.

[9] ثم جعلوا يستغربون، عن أن الرسول يكون موحى إليه من بينهم؟ ظانين إنهم مثل الرسول في المؤهلات، إن لم يكونوا أفضل منه، فاللازم أن يوحى إليهم دونه، أو إليهم و إليه على حد سواء أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا؟ كيف ذلك يكون، و فينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 514

[سورة ص (38): آية 9]

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)

من هو أكبر منه سنا، و مالا، و جاها، و أولادا؟ لكنهم غفلوا، من أن مؤهلات الرسالة، غير مؤهلات العرف و العادة، و الرسول منفرد فيها، فليس قولهم هذا لنقص رأوه في الرسالة و الرسول بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الذي أنزلته على الرسول، و لم يكن الشك بحق، فإنهم، لو تفكروا علموا بصدق الرسول، و إنما شك المقلد الجاهل، الذي يرى الحق في طرف، و التقليد في طرف آخر بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي عذابي، حذف «ياء المتكلم» تخفيفا،

و هذا تهديد لهم، بمعنى أنهم، إنما يقولون ما يقولون لا لعدم صحة الرسالة و الدعوة، بل لأنهم منحرفون محتاجون إلى التأديب، و سيذوقون العذاب.

[10] أمّا ما يقولون من أن اللازم نزول الذكر عليهم، دون الرسول، و قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) «1» فالجواب: إن ذلك فضل الله يعطيه من يشاء أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ حتى يفتحون خزائن الرسالة، فيهبونها لمن شاءوا، دون من يريده الله سبحانه؟ الْعَزِيزِ في سلطانه، يفعل ما يشاء الْوَهَّابِ العطايا لمن يشاء، و من المعلوم، إن الله سبحانه لا يهب، إلا حسب المصلحة و الحكمة، فإنما ينزل الرسالة لمن يؤهلها، كما قال سبحانه (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) «2» و قال (وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) «3».

______________________________

(1) الزخرف: 32.

(2) الأنعام: 125.

(3) الدخان: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 515

[سورة ص (38): الآيات 10 الى 12]

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12)

[11] أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما حتى إذا شاءوا، أن لا يكون محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، رسولا، سدّوا أبواب الوحي على وجهه، لأنهم يملكون طرق الوصول من السماء إلى الأرض؟ و إذا قالوا: إنهم يملكون ذلك فَلْيَرْتَقُوا أي يصعدوا فِي الْأَسْبابِ الموصلة لهم إلى السماوات، ليمنعوا مسالك الرسالة، لئلا يوحى بالقرآن إلى الرسول.

[12] إنهم ليسوا بمالكي خزائن الله، و لا لهم ملك السماوات و الأرض، و إنما جماعة منبوذة تجمعت من لفيف جنود للباطل، في ابتعاد عن التصرف في

الشؤون الكونية، إنهم جُنْدٌ ما نكرة غير مربوطين بشأن من الشؤون هُنالِكَ منبوذة في زاوية من زوايا العالم، لا يرتبط بأمر من أمور الكون مَهْزُومٌ هزمهم المنطق و الحق مِنَ الْأَحْزابِ ملتفة من أحزاب مختلفة، و مذاهب متشتتة، فلم يجمعهم الحق، و إنما الحسد و العناء و الكبر، و إلا فما يجمع بين اليهودي و المسيحي، و المشرك تحت قيادة أبي سفيان لمحاربة الرسالة الإلهية العظمى؟ و «جند» مبتدأ، و «هنا لك» خبرة، و «مهزوم» صفة جند.

[13] إن مصير هؤلاء، هو مصير من قبلهم من الكفار، حيث كذبوا الأنبياء، فأهلكهم الله سبحانه، بما كذبوا، و إن بقي هؤلاء في كفرهم و غيهم، سيلاقون ذلك المصير المهلك كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار قَوْمُ نُوحٍ نوحا عليه السّلام وَ عادٌ كذبت هودا عليه السّلام وَ فِرْعَوْنُ كذب موسى و هارون عليه السّلام ذُو الْأَوْتادِ صفة فرعون، و

قد سئل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 516

[سورة ص (38): الآيات 13 الى 15]

وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)

الصادق عليه السّلام، لأي شي ء سمي فرعون ذا الأوتاد؟ فقال: لأنه كان إذا عذب رجلا، بسطه على الأرض على وجهه، و مدّ يديه و رجليه، فأوتدوها بأربعة أوتاد في الأرض و ربما بسطه على خشب منبسط، فوتد رجليه و يديه بأربعة أوتاد، ثم تركه على حاله حتى يموت

«1».

[14] وَ كذبت ثَمُودُ صالحا عليه السّلام وَ قَوْمُ لُوطٍ لوطا عليه السّلام وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و هم قوم شعيب، و قد كانت إلى جنبهم غيضة ذات أشجار،

و هي الأيكة، كذبوا شعيبا عليه السّلام أُولئِكَ الْأَحْزابُ الذين كذبوا الرسل، و كان قومك حزب من تلك، فما كان مصيرهم؟

[15] إِنْ كُلٌ أي ما كل من أولئك الأقوام إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ الذين أرسلوا إليهم فَحَقَ أي ثبت و لزم عليهم عِقابِ أي عقابي، و حذف الياء تخفيفا، و المراد بالعقاب أخذهم بأنواع عذاب الاستئصال في الدنيا قبل الآخرة.

[16] وَ إذ قد عرف قومك مصير أولئك المكذبين، فما بقاؤهم في الكذب و الكفر، إلا انتظارا لتلك العاقبة السيئة ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يصيح بهم جبرئيل، أو ملك آخر، حتى يهلكهم جميعا، كما حدث في بعض الأمم السابقة، أو المراد النفخة الأولى ما لَها أي ليس لتلك الصيحة مِنْ فَواقٍ أي إفاقة، بأن

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 8 ص 347 ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 517

[سورة ص (38): الآيات 16 الى 17]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)

تنقطع قبل هلاك القوم، فيرجعوا عن غيهم، و ضلالهم، يقال: أفاق من مرضه إذا طاب، و فواق الناقة، هي المدة بين الحبستين، لأن فيها يعود اللبن إلى الضرع.

[17] و إذ كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهدد الكفار بالعذاب، كانوا يقولون:- مستهزئين له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- عجل لنا بالعذاب! وَ قالُوا أي الكفار رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي قدم لنا نصيبا من العذاب قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ و «القط» هو النصيب، من «قطّ» بمعنى قطع، لأن النصيب، يقطع و يعين في مقدار خاص.

[18] قال الله سبحانه في جوابهم تسلية للرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، اصْبِرْ يا رسول الله عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك، و الاستهزاء بك وَ اذْكُرْ جماعة من الأنبياء عليهم السّلام الذين آذوهم قومهم، فصبروا، أو كانت لهم القوة الدنيوية، بالإضافة إلى الإيمان الذي هو قوة معنوية تقوية لقلوب المؤمنين، و لئلا يقول المرجفون:

إن الإيمان، لا يلائم الحياة الدنيا، فاذكر يا رسول الله عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب القوة، فإن «أيد» جمع يد، ثم استعملت في النعمة و القوة، لأن اليد من أسبابهما إِنَّهُ عليه السّلام، مع كونه، ذا قوة عظيمة دنيوية أَوَّابٌ أي تواب يستغفر ربه في دائم الأحوال، من آب يئوب إذا رجع، و كأن الانشغال بأمور الدنيا، كان انصرافا عن الله سبحانه- و لو انصرافا مباحا- فكان يرجع إليه تعالى، بصرفه نفسه كلها إليه كل صباح و مساء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 518

[سورة ص (38): الآيات 18 الى 21]

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (20) وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21)

[19] إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ أي جعلناها مسخرة مع داود في كونها يُسَبِّحْنَ بتسبيح داود بِالْعَشِيِ أي العصر وَ الْإِشْراقِ أي عند شروق الشمس، فإن داود كان إذا سبّح الله تعالى في هذين الوقتين، كانت الجبال تردد معه التسبيح، و قوله «يسبّحن» بلفظ العاقل، لأن صدور محل العقلاء من الجبال يدخلها في جملتهم.

[20] وَ سخرنا لداود عليه السّلام الطَّيْرَ المراد به الجنس أي كل الطيور، في حال كونها مَحْشُورَةً أي مجموعة له كُلٌ من الجبال و الطير لَهُ

أي لداود أَوَّابٌ أي رجّاع فكانت الطيور تردّد معه التسبيح، كما تردد الجبال، و قيل إنها كانت تطيعه، فيما يأمر به.

[21] وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملك داود بالحرس و المال، و كثرة العدة و العدة وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ المراد بها، إما النبوة، أو أن يكون بحيث يعرف مواضع الأشياء، فإن الحكمة هي عبارة عن علم وضع الشي ء في موضعه اللائق به وَ فَصْلَ الْخِطابِ أي الخطاب الفاصل بين الحق و الباطل، و المراد به علم القضاء، فإنه كان يعرف كيفية الحكم بين الناس و معرفة تمييز المحق من المبطل، و قد كان من ذلك قاعدة «البينة على المدعي، و اليمين على من أنكر».

[22] ثم ينتقل السياق لينقل قصة امتحن الله بها داود عليه السّلام، فقد جاء خصمان إلى داود في شكوى، و لما سمع داود من المدعي كلامه حكم له، بدون أن يستمع من المنكر، و كان هذا الاستعجال تركا للأولى،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 519

بالنسبة إليه، ثم توجه و أناب إلى الله سبحانه، و قد كان أمثال هذه المخالفات- المسماة بترك الأولى- تصدر من الأنبياء أحيانا لإثارة النشاط في نفوسهم، لتقوى اتصالاتهم بالله سبحانه، و هي لم تكن معصية، كما لا يخفى، كما أن نقلها في القرآن لعلها، بسبب أن لا يعتقد الناس فيهم الألوهية، فإن من عادة الناس، أن يرفعوا الإنسان النزيه فوق مرتبته، كما رفعوا المسيح و على بن أبي طالب عليهما السّلام إلى مقام الألوهية، أما إذا علموا بصدور ترك الأولى منهم، كان ذلك حاجزا دون الغلو، و من غريب الأمر إن جماعة اختلقوا حول هذه القصة أكاذيب استنادا إلى «العهدين» المحرّف، فذكروا قصة «أوريا» كما نسبوا إلى الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسطورة قصة «زينب»، و

قد روى في المجالس عن الصادق عليه السّلام، أنه قال رضى الناس لا يملك، و ألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوا إلى داود، إنه تبع الطير، حتى نظر إلى امرأة «أوريّا» فهواها، و إنه قدم زوجها أمام التابوت، حتى قتل، ثم تزوج بها

«1»، و

قد روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام، إنه قال: لا أوتي برجل يزعم، إن داود تزوج امرأة أوريا، إلا جلدته حدين حدا للنبوة، و حدا للإسلام «2»

وَ هَلْ أَتاكَ يا رسول الله، و هذا للتشويق نحو القصة، التي ستذكر نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر الخصمين، و المراد «بالخصم» الجنس، و لذا يشمل النفرين، أي هل بلغك خبر الخصمين إِذْ تَسَوَّرُوا أي صعدوا على السور لينزلوا الْمِحْرابَ محل عبادة داود عليه السّلام؟ فقد كان في المحراب، إذ رأى نفرين نزلا من سور

______________________________

(1) الأمالي للصدوق: ص 102 المجلس 22.

(2) تنزيه الأنبياء: ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 520

[سورة ص (38): الآيات 22 الى 23]

إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23)

المحراب، أي جداره، فهاله أمرهم، إذ لم يدخلوا من الباب، و إنما جي ء بلفظ الجمع، فقال «تسوروا» لأن الخصم جنس، و الجنس عام، و يتحمل أن يكونوا أكثر من اثنين، بأن أتياه مع بعض متعلقيهم، كما هو العادة في المنازعات.

[23] إِذْ دَخَلُوا الخصوم عَلى داوُدَ من السور فَفَزِعَ و خاف مِنْهُمْ لأنهم دخلوا من غير الباب، و

بدون الإذن، و في غير الأوان قالُوا لداود لا تَخَفْ فلسنا نريد إيذاءك، فإن الإنسان قد اعتاد أن يخاف من المفاجئ، لأنه يظن كون المجي ء للإيذاء، و إلا كان يأتي على نحو المعتاد، لا فجأة ... إنما نحن خَصْمانِ أي نفران، أو طرفان بَغى و ظلم بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فجئنا إليك لتحكم بيننا فَاحْكُمْ يا داود بَيْنَنا بِالْحَقِ و العدل وَ لا تُشْطِطْ من الشطط، بمعنى الميل عن الحق و الكذب، و الالتواء، و هذا القول لم يكن لأجل احتمالهم، إن داود يكذب و يجور، بل هكذا يقول الإنسان المخاصم، ليري طرفه و السامعين، إنه واضح للحق مائل إليه، لا يريد جورا و ظلما و تعديا وَ اهْدِنا أي أرشدنا في قضيتنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسط الطريق، الذي لا جور فيه، و لا انحراف.

[24] ثم قال أحدهما لداود عليه السّلام إِنَّ هذا الخصم أَخِي في النسب، أو من باب الشفقة و اللين في الخطاب لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 521

[سورة ص (38): آية 24]

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24)

الشاة وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ أخي لي، يريد سلب شاتي، لتكمل له مائة شاه أَكْفِلْنِيها أي ضم شاتك إلى نعاجي، و اجعلني كفيلها حتى تكون لي وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في الكلام و مخاطبته معي، بأن خاشنني في الكلام بقصد أن يقهرني و يأخذ شاتي.

[25] و بمجرد أن سمع داود كلام المدعي،

بدون أن يطلب من خصمه الردّ قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ أخوك، و جار عليك في طلبه بنعجتك بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ ليضمها إِلى نِعاجِهِ ثم بين داود، أن الظلم من عادة بعض الشركاء على بعض وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ جمع خليط، و هو الشريك، لأنه يخالط الإنسان، لأجل اشتراك أموالهما لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ حيث إن الأقوى منهم يريد أكل الأضعف، ثم استثنى من هذا العموم المؤمنين بقوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن كانوا مستقيمين عقيدة و عملا، فإنهم لا يظلمون أحدا، و لم يكن حاجة إلى هذا الاستثناء، لأنه نص أولا بقوله «كثيرا» و إنما جي ء بالاستثناء، لئلا يوهم، إن الكثير من المؤمنين، للتنصيص على إن أحدا من المؤمنين ليس بداخل في ذلك الكثير وَ قَلِيلٌ ما هُمْ «ما» لزيادة التقليل، فإن المؤمن المستقيم في جميع شؤونه، قليل جدا، و إذ حكم داود بهذا الحكم قبل أن يستفسر من المدعى عليه الحال، تنبّه إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 522

[سورة ص (38): الآيات 25 الى 26]

فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)

استعجاله الذي كان خلاف الأولى وَ ظَنَ حينذاك داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي امتحناه بهذه الحكومة، و يظهر من لفظ «ظن» إنه لم يتيقن، و إنما ترجح في نظره ذلك فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي طلب منه غفرانه، فإن ترك الأولى موجب للتنقيص من الثواب، فاستزادته بحاجة إلى الستر و الغفران، و فرض أنه لم يكن وَ

خَرَّ أي سقط داود لوجهه راكِعاً معظما له سبحانه، فإن الركوع يطلق على مطلق التعظيم، و لو بنحو السجود، كما يدل عليه «خر» و هو الأنسب بمثل هذا المقام وَ أَنابَ أي رجع إلى ربه، بعد الانشغال بتلك القضية، و قد ورد في بعض الأحاديث إن الخصمين كانا ملكين.

[26] فَغَفَرْنا لَهُ أي لداود ذلِكَ الترك للأولى وَ إِنَّ لَهُ أي لداود عِنْدَنا أي في المحل المعد المكرم بكرامتنا- تشبيها للمعقول بالمحسوس- لَزُلْفى أي قربى و كرامة، من زلف بمعنى اقترب وَ حُسْنَ مَآبٍ أي المرجع الحسن في الآخرة.

[27] ثم خاطبه الله سبحانه بقوله يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ الخليفة هو الذي يجلس مكان غيره خلفا له، و الأنبياء خلفاء الله سبحانه، حيث إنه قررهم للقيام بأمره، و إنفاذ حكمه في الأرض، و كأن الإتيان، بقوله «في الأرض» لإفادة العموم، فليس خليفة له في بلدة أو قطر فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ المطابق للواقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 523

[سورة ص (38): آية 27]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)

وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى الذي يأمر بالانحراف، حسب العواطف و الميول فَيُضِلَّكَ اتباع الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و طريقه، و هذا ليس معناه، إن داود كان محتمل الانحراف، و إنما الأوامر الصارمة، توجّه إلى الأنبياء، كما توجّه إلى غيرهم، كما قال سبحانه (وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) «1» إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ينحرفون عن طريق الله، بالحكم أو الفتوى أو الدعوة إلى الباطل لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي

بسبب نسيانهم، و المراد بالنسيان تركهم أحكام الله، و حيث إن النسيان غالبا سبب لترك الأوامر، كان الإتيان بالنسيان، و إرادة الترك مجازا من علاقة السبب و المسبب، و يوم الحساب، إما متعلق، ب «بما نسوا» أي بسبب نسيانهم ليوم الحساب، أو متعلق ل «عذاب شديد» أي لهم عذاب شديد، يوم الحساب بسبب نسيانهم أوامر الله.

[28] و إذ وصلت القصة إلى هذا الموضع، ألفت السياق الأذهان إلى حقيقة كبري، هي إن العالم لم يخلق باطلا، حتى يلائمه الحكم في القضايا بالباطل، بل العالم خلق بالحق و للحق، فاللازم أن تكون الأمور العملية من حكم و فتوى، و غيرهما على الحق، و إلا كانت العاقبة الانهيار و الدمار وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من البشر

______________________________

(1) الزمر: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 524

[سورة ص (38): الآيات 28 الى 29]

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

و الملك و الهواء، و غيرها باطِلًا عبثا و اعتباطا، بلا غاية، أو غرض، حتى يكون الباطل من القول و العمل و الحكم، ملائما للخلق، و لا يكون له مصير مؤلم ذلِكَ أي كون الخلق باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و جحدوا حكمه، و إنما قال «ظن» لأنهم يرجحون ذلك، و لا يستيقنونه فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ التي تحرقهم لكفرهم، و ظنهم، أن الخلق عبث باطل.

[29] ثم توجه السياق إلى تنبيه الكفار، بأنهم ليسوا سواء و المؤمنين، لا في الدنيا، و لا في الآخرة، بل المؤمنون فوقهم مقاما و منزلة أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا أي هل من الممكن

أن نجعل المؤمنين وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اللازم منه عدم العمل بالمعاصي كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ فإن كل كافر و عاصي مفسد، أي عامل بالفساد مفسد لنفسه، أو غيره؟ كلا! لا نجعل المؤمن كالمفسد أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا معاصي الله بعد الإيمان كَالْفُجَّارِ الذين عصوا و فجروا؟ من الفجر، و هو الشق، كأن الفاجر يشق ستر الهدى، و ينفذ نحو الباطل، و لعل المراد بالسؤال الثاني، بيان عدم استواء المطيع و العاصي من المؤمنين، بعد بيان عدم استواء المؤمن و الكافر.

[30] و من ثم ياتي الكلام حول القرآن الحكيم، ليلفت بعد بيان القصص و الآداب، إلى أنه كتاب عظيم، حيث اشتمل على مثل هذه الحقائق الرائعة، و قد ذكر في علم القرآن إلقاء المطلب في الذهن، بعد الإتيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 525

[سورة ص (38): الآيات 30 الى 31]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31)

بأمر معجب أنفذ من الإلقاء في الذهن الخالي غير المتحرك، ألا ترى إن الإنسان إذا رق قلبه لأمر كان أسرع إلى العمل من أجله؟ و هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا رسول الله مُبارَكٌ ذو بركة و زيادة و نماء كثير نفعه و خيره، لأنه يهدي و يرسم الخطط الموجبة، للزيادة و الخير لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي يتفكروا فيها و يتعظوا بها وَ لِيَتَذَكَّرَ مما أودع فيهم من الحقائق بالفطرة أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللبّ بمعنى العقل، أما غيرهم فإنهم لا يتذكرون و لا يتدبرون.

[31] و إذ تمت قصة داود، يأتي السياق لبيان قصة سليمان وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ و معنى الهبة العطية المجانية، و الأولاد هبات للآباء، و لذا

قال سبحانه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) «1» إنه نِعْمَ الْعَبْدُ إذ كان كأبيه يعمل بأوامرنا إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه في جميع أموره، و قد سبق أن الإنسان إذا صرف إلى ضروريات حياته، فكأنّه ابتعد عن الله سبحانه، إذ لم يكن بجميع سرائره مشغولا نحوه تعالى، و لذا كان الالتفات إليه بعد ذلك أوبا و رجوعا.

[32] اذكر يا رسول الله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ أي على سليمان بِالْعَشِيِ أي في آخر النهار الصَّافِناتُ جمع صافنة، و هي الخيل الواقفة على

______________________________

(1) الشورى: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 526

[سورة ص (38): الآيات 32 الى 33]

فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33)

ثلاث قوائم الواضعة السنبك الرابع على الأرض. يقال صفنت الخيل إذا وقفت كذلك، و هي من علامة الجودة الْجِيادُ جمع جيد و هي الفرس الأصيلة النجيبة، و نجابة الفرس بعرفانها صاحبها، و سرعة سيرها، و الاهتمام بخلاص راكبها من المشكلة التي يقع فيها.

[33] فاشتغل سليمان بتلك الأفراس، حتى فاتت صلاة مندوبة، كان يصليها في ذلك الوقت، حتى غابت الشمس، و مضى وقت صلاته المندوبة، و هناك تأثر سليمان من ذلك، و أمر أصحابه بردّ الأفراس إليه، ليوقفها في سبيل الله، كفارة لفوت صلاته المندوبة، أو يذبحها ليطعمها الناس كفارة، و هذا المعنى، قد استفدناه من بعض الأخبار، مع التحفظ على ظاهر الآية، و ما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم السّلام، و إن كان الواقع في القصة لا يعلمه إلا الله، و الراسخون في العلم، و لما نظر سليمان إلى غروب الشمس، و ذهاب وقت نافلته

فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي أحببت الخير حبا، و الخير هو الفرس، و كل مال هو خير، كما قال سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) «1» عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي آثرت الاشتغال بعرض الأفراس عن ذكر الله حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ كأنها عروس تستر نفسها بالحجاب حين تغيب و تستتر تحت الأفق، فلم أصلّ نافلتي.

[34] ثم قال سليمان لأصحابه رُدُّوها أي ردوا الصافنات عَلَيَ

______________________________

(1) البقرة: 181.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 527

[سورة ص (38): الآيات 34 الى 35]

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)

فردوها إليه فَطَفِقَ أي شرع سليمان يمسح مَسْحاً بِالسُّوقِ أي سوق الأفراس جمع ساق وَ الْأَعْناقِ أي و يمسح أعناقها، و «اللام» عوض عن الضمير و المعنى يمسح سوقها و أعناقها تسبيلا في سبيل الله، و وقفا لها على جهات الخير، أو ضربا بالسيف ليطعمها الفقراء، كل ذلك، لتكون كفارة عن فوت نافلته، بسبب اشتغاله بها.

[35] وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أي امتحناه، و ذلك بأنه ولد له مولود، فخاف عليه من إيذاء الشياطين، و جعله في السحاب، ليكبر هناك- و قد كان السحاب مسخرا له- و لكن ذلك، كان خلاف التوكل من مثله عليه السّلام، و لذا مات الولد، و ألقي على كرسي حكمه، فلما رآه عرف أنه ترك الأولى في إيداع الولد السحاب وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ أي سرير حكمه جَسَداً لولده الميت ثُمَّ أَنابَ أي رجع عن تركه للأولى.

[36] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي اعتمادي على السحاب في إبقاء ولدي، و عدم أذى الشياطين له وَ هَبْ لِي مُلْكاً

لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لعله أراد نوعا من الملك، يكون ذو إعجاز لا يتمكن أحد من الإتيان مثله، كما إن عصا موسى، و إحياء عيسى، و قرآن الرسول، كانت بحيث لا ينبغي لأحد من بعدهم، فلم يرد سليمان البخل، و تخصيص رحمة الله بنفسه بل أراد الإعجاز، و الذي يؤيد ذلك، إن الملك الذي وهب له كان معجزة، إذ هو تسخير الريح، و عبارة «لا ينبغي لأحد» يراد به الناس، لا حتى الأنبياء عليهم السّلام، فإن مثل هذا التعبير شائع،

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 528

[سورة ص (38): الآيات 36 الى 38]

فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)

«ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء على ذي لهجة، أصدق من أبي ذر»

«1» و لم يرد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترجيحه على الأئمة، كما أن قوله سبحانه في القرآن الحكيم (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) «2» أريد به ممن آمن و عصى، لا من كل أحد، و هكذا، و مثله تعبير عرفي شائع إِنَّكَ يا رب أَنْتَ الْوَهَّابُ الكثير الهبة، فتفضل عليّ بذلك.

[37] فَسَخَّرْنا أي ذللنا بأمره لَهُ أي لسليمان الرِّيحَ التي كانت تحمل بساطه و تسير به إلى حيث شاء تَجْرِي الريح بِأَمْرِهِ أي أمر سليمان رُخاءً أي لينة بدون عنف حَيْثُ أَصابَ أي إلى كل مكان أراد الذهاب إليه، و الإصابة هي الوصول إلى الشي ء، و كأن المعنى حيث أصاب نظره و إرادته.

[38] وَ سخرنا له الشَّياطِينَ أي الأجنة، و قد سبق

أن الشيطان قسم من الجن، و إن كان له نوعان، نوع يسمى جنا، و نوع يسمى شيطانا كُلَّ بَنَّاءٍ يبني له القصر و الدار، و ما أشبه، في المدن و الصحاري وَ غَوَّاصٍ في البحر يذهب في الماء ليأتي له بالجواهر و اللئالي، و «كل» بدل من الشياطين، بدل بعض من الكل.

[39] وَ سخرنا له شياطين آخَرِينَ غير البناء و الغواص في حال

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 426.

(2) السجدة: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 529

[سورة ص (38): الآيات 39 الى 41]

هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40) وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41)

كونهم مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ جمع صفد، و هو الغلّ، فقد كان يجمع بين بعض الشياطين مع بعض في السلسلة تعذيبا لهم على تمردهم، أو لئلا يفر المتمرد منهم أو كان يغل المتمرد يديه و رجليه، و هذا كناية عن إعطاء زمامهم بيده، حتى أنه يتمكن من استخدامهم و عقاب المجرمين منهم.

[40] و بعد هذا الملك الوسيع الخارق، قال الله سبحانه لسليمان- زيادة لا كرامة- هذا الملك عَطاؤُنا لك فَامْنُنْ على من شئت بإعطائه ما تشاء أَوْ أَمْسِكْ عمن شئت، بأن لا تعطيه شيئا في حال كونك بِغَيْرِ حِسابٍ أي أنك لا تحاسب عما تفعل، أو أعط بغير حساب و تعداد من شئت، فهو متعلق ب «امنن».

[41] وَ إِنَّ لَهُ أي لسليمان عِنْدَنا لدينا لَزُلْفى قربا منّا فإنه ذو جاه و منزلة عند الله سبحانه وَ حُسْنَ مَآبٍ أي مرجعا حسنا في الآخرة.

[42] وَ اذْكُرْ يا رسول الله عَبْدَنا أَيُّوبَ كيف صبر على

البلاء، فإنه عليه السّلام ذهب ماله و أهله و أولاده، و تمرض في جسده، بأشد أنواع المرض، و لم يزل يذكر الله و يشكره، حتى إذا بلغ الأمر منتهاه، و أراد الله سبحانه له الشفاء، بعد أن أحسن الصبر و نجح في الامتحان إِذْ نادى رَبَّهُ تعالى قائلا يا رب أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 530

[سورة ص (38): الآيات 42 الى 43]

ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43)

فإن الشيطان هو الذي صار سببا لبلاء أيوب، و قد مكّنه الله سبحانه منه، بأن لم يصده عن إيذائه، كما لم يصده عن الوسوسة لآدم عليه السّلام، امتحانا لأيوب، و ليرتفع بذلك مقامه، و «النصب» هو البلاء، و «العذاب» هو الألم، و لعله أراد باللفظين الألم الجسمي و الروحي، أو ألمه في أهله و ماله و أولاده، و ألمه في نفسه.

[43] و بعد أن دعا أيوب ربه، لينجيه من البلاء خوطب من قبله سبحانه ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أي ادفع برجلك الأرض، فإن الركض، هو الدفع بالرجل على جهة الإسراع، و منه يسمى المشي السريع ركضا، فركض عليه السّلام برجله الأرض، فظهرت عين ماء، فقيل له هذا الذي تراه مُغْتَسَلٌ أي موضع يغتسل فيه، و قد أريد بذلك، تنبيهه على الاغتسال في ذلك الماء بارِدٌ الإتيان بهذا الوصف للترويح عن النفس المريضة الملتهبة التي تطلب الماء البارد وَ شَرابٌ يشرب منه، و قد اغتسل أيوب في ذلك الماء، و شرب منه، فصح جسمه كأن لم يكن به مرض أبدا.

[44] وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ الذين ماتوا في البلاء، بأن

أحياهم الله سبحانه وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ إما بأن ولد له أولاد آخرين على عدد أولئك الأولاد، حتى صار له من الأولاد ضعف أولاده قبل البلاء، و إما بأن المراد إعطاء أهله الذين ماتوا قبل البلاء، و الذين ماتوا في البلاء، و ذلك لأنه استحق الذين ماتوا في البلاء، لا الذين ماتوا قبله بآجالهم الطبيعية، و إنما فعلنا ذلك رَحْمَةً مِنَّا له و تفضلا عليه، فليس أحد يستحق على الله شيئا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي، و ليتذكر أصحاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 531

[سورة ص (38): آية 44]

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

العقول، بأن الله سبحانه، إذا أخذ من أحد شيئا، فلا يفعل ذلك اعتباطا و عبثا، و إنما ليعطيه ذلك الشي ء مع الزيادة- إذا كان أخذه، لم يصدر عن عقاب و تأديب- و هذا هو شأنه سبحانه في جميع ما يأخذ، كما قال في باب الإنفاق (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً) «1».

[45] وَ خُذْ يا أيوب بِيَدِكَ ضِغْثاً و هو مل ء الكف من الشماريخ للتمر فَاضْرِبْ بِهِ أي بذلك الضغث امرأتك وَ لا تَحْنَثْ حلفك، فقد رأى أيوب من زوجته قولا، أو عملا ساءه ذلك، فحلف أن يضربها عددا من السوط، أو نحو ذلك- مما سكتت عنه الآية، و لما أن عوفي خفف الله سبحانه ذلك، بأن يضربها بالشماريخ ضربة واحدة، لا تؤذي كثيرا، بأن يجعل لكل مرة شمراخا، و قد كان حلف أيوب على ضربها مشروعا، إذ لعلها كانت عاصية في قولها أو عملها الذي ساء أيوب و للزوج حق تأديب الزوجة، و لذا وجب الوفاء

بها، كما أن عدم الحنث بذلك تخفيف من الله سبحانه، مع أنه عليه السّلام، أتى بما يشبه المحلوف، فلا يقال: كيف قال تعالى «لا تحنث» و الحال أن المحلوف غير هذا؟ إِنَّا وَجَدْناهُ أي وجدنا أيوب صابِراً على البلاء الذي ابتلي به نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ أي كثير الرجوع إلى الله سبحانه من آب بمعنى رجع، و قد ذكرنا معنى رجوع الأنبياء عليهم السّلام، و أنه من اشتغالهم بالأمور الدنيوية.

______________________________

(1) البقرة: 246.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 532

[سورة ص (38): الآيات 45 الى 48]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)

[46] وَ اذْكُرْ يا رسول الله عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ ابن إبراهيم وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق أُولِي الْأَيْدِي أي أصحاب القوة و التمكن، فقد كان هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام أصحاب ثروة و نعمة و جاه وَ الْأَبْصارِ يبصرون أمور دينهم، فقد جمعوا بين الدنيا و الآخرة، و إنما أمر الرسول بذكرهم ليقتدى بهم الناس في دينهم و دنياهم، فلا يتركوا أحدهما للآخر، كما قال تعالى (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1».

[47] إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي جعلناهم لنا خالصين، فلا يعملون شيئا إلا لأجلنا بِخالِصَةٍ أي بخلصة، و صفة خالصة لا شوب فيها: هي ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة، فقد كانوا دائمي التذكر لها، و من المعلوم، أن الإنسان إذا كان دائم التذكر للآخرة، لا تزل له قدم، و قوله «ذكرى» بدل من «بخالصة».

[48] وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ

جمع مصطفى أي اصطفيناهم، و اخترناهم للنبوة، و معنى عندنا، في حسابنا، و ما كتبناه، لهم ليجزون عليه الْأَخْيارِ جمع خير، كأموات جمع ميت، و هو الذي يفعل الأشياء الكثيرة الحسنة.

[49] وَ اذْكُرْ يا رسول الله إِسْماعِيلَ بن إبراهيم عليه السّلام، و كأنه لذكره

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 533

[سورة ص (38): الآيات 49 الى 51]

هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51)

هنا، لم يذكر هناك مع أبيه و أخيه وَ الْيَسَعَ قال بعضهم كان من أنبياء بني إسرائيل وَ ذَا الْكِفْلِ هو يوشع بن نون، وصي موسى عليه السّلام، على بعض الأقوال وَ كُلٌ من هؤلاء مِنَ الْأَخْيارِ الخيّرين.

[50] هذا الذي سميناهم هنا في القرآن ذِكْرٌ لهم، و شرف في الدنيا، باق بقاء الأبد وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين أولئك الأنبياء من ساداتهم لَحُسْنَ مَآبٍ أي مآب حسن، و المآب هو المرجع، من آب بمعنى رجع.

[51] ثم بين سبحانه المراد بذلك بقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ يقال عدن بالمكان إذا أقام فيه، و الجنة هي البستان، سمى بها لأن الأشجار تجن و تستر أرضها، أي جنات إقامة لا زوال لأحد عنها، في حال كونها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ و الإتيان من باب التفعيل، للدلالة على كثرة الأبواب المفتحة لهم، لأن من معاني باب التفعيل التكثير، و في ذلك إشارة إلى عظم رتبتهم، حيث إن كل الأبواب تفتح في وجوههم، حتى يكون لهم أن يدخلوها من حيث شاءوا.

[52] في حال كونهم مُتَّكِئِينَ فِيها أي مستندين أهل الجنة إلى المساند، و ذلك للدلالة على كمال راحتهم الجسدية و الروحية يَدْعُونَ فِيها أي

يطلبون في تلك الجنات بِفاكِهَةٍ هي ثمرة الأشجار كَثِيرَةٍ حسب ما أرادوا وَ شَرابٍ بقدر ما اشتهوا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 534

[سورة ص (38): الآيات 52 الى 56]

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56)

من خمر و من عسل و من لبن و غيرها.

[53] وَ عِنْدَهُمْ زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ قد قصرت عيونهن على أزواجهن، فلسن كبعض نساء الدنيا اللاتي ينظرن إلى غير أزواجهن، من حيث إنهن يرون غيرهم أعلى جاها، أو مالا، أو جمالا، أو غير ذلك، من أزواجهن أَتْرابٌ جمع ترب، و هي التي بسن الزوج، فليس أعمارهن أقل أو أكثر من أزواجهن، حتى يكونا مختلفي الجسم أو العقل.

[54] هذا الذي تقدم في وصف الجنان و نعيمها ما تُوعَدُونَ أيها الناس لِيَوْمِ الْحِسابِ فإذا أحسنتم استحقتم كل ذلك.

[55] ثم إنه لا انقطاع لنعيم الجنة، بل يقال لأهل الجنة إِنَّ هذا الذي ترون من النعيم لَرِزْقُنا لكم أيها المؤمنون ما لَهُ أي ليس لهذا الرزق مِنْ نَفادٍ أي فناء و انقطاع بل باق إلى الأبد.

[56] هذا ما يقدم للمتقين، فلننظر الكفار وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين طغوا على الله سبحانه و تجاوزوا الحد بالكفر و العصيان لَشَرَّ مَآبٍ أي مآب شرير في مقابل «حسن المآب» للمتقين.

[57] جَهَنَّمَ تفسير لشر مآب يَصْلَوْنَها من صلى الشي ء إذا لازمه، أي يدخلونها ملازمين لها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي بئست جهنم مسكنا لهم، و المهاد هو المحل الذي يمهده الإنسان، و يهيئه لنفسه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 535

[سورة ص (38): الآيات 57 الى 60]

هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ

وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)

[58] أما شرابهم هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ أي هذا حميم و غساق، فليذوقوا كل واحد منهما، و الحميم هو الماء الحار، و غساق، ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار و تحميمهم.

[59] وَ آخَرُ أي و لهم ضرب آخر من الطعام و الشراب مِنْ شَكْلِهِ من شكل الحميم و الغساق أَزْواجٌ ألوان و أنواع متشابهة في الشدة، و صعوبة المذاق.

[60] تلك دارهم، و ذاك طعامهم و شرابهم، و لهم صنوف أخرى من العذاب، من جملة تلك ضيق المكان، حتى أنهم في جهنم من الضيق، كالوتد دقّ في الحائط- كما ورد- و ذلك إن القادة يدخلون النار أولا فيجدون ضيقا و إرهاقا، ثم يؤتى بالأتباع، و إذا يراهم القادة، يقولون: لا مكان هنا لهؤلاء، فيقول مالك النار هذا الجمع الذي تشاهدونهم فَوْجٌ أي جماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ من الاقتحام، و الدخول في الشي ء بشدة، و صعوبة، أي داخلون في ثناياكم و خلالكم لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا رحبت عليهم الأرض، و لا اتسعت لهم أماكنهم، و هذا حكاية لقول القادة، الذين هم في النار، يقولون لأتباعهم ذلك، و هو عكس التحية إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي يدخلونها ملازمين لها.

[61] و إذ يسمع الأتباع هذا الترحيب المعكوس من قادتهم قالُوا بَلْ أَنْتُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 536

[سورة ص (38): الآيات 61 الى 63]

قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ

الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)

أيها القادة لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا اتسع بكم المكان، و لا حييتم إلا بالسوء أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ أي قدمتم هذا العذاب لَنا حيث حملتمونا على الكفر و العصيان فَبِئْسَ الْقَرارُ و المقر الذي نستقر عليه.

[62] و كان القادة يجيبون بأنّا لم نقدم لكم هذا العذاب، و إنما أنتم كنتم منحرفين عن الجادة، كما سبق شبه هذا الحوار بين السادة و الأتباع في بعض السور السابقة، و لذا يلتجئ الأتباع إلى الله لينتقم لهم من القادة الذين غرّوهم ثم لا يقبلون حتى أن يسمعوا ذلك الكلام من أتباعهم قالُوا أي قالت الأتباع يا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا العذاب و هيأه، لأن ندخله فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً عذابا لضلاله بنفسه و عذابا لإضلاله لنا فِي النَّارِ و إلى هنا ينتهي الحوار بين القادة و الأتباع.

[63] ثم إن الكفار في النار يفتقدون المؤمنين، الذين سخروا منهم في الدنيا، و كذبوا كلامهم حول الوعيد، فيتساءل بعضهم عن بعض حولهم وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا مؤمنين كُنَّا نَعُدُّهُمْ في دار الدنيا مِنَ الْأَشْرارِ؟ جمع شر، فقد كان الكفار في الدنيا يقولون، إن المؤمنين أشرار، حيث يرونهم يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر، و يسبون الأصنام.

[64] أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أي هل إن عدم رؤيتنا لهم في النار، لأجل أن سخريتنا بهم- في الدنيا- كان خطأ، فذهبوا إلى النعيم، و لذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 537

[سورة ص (38): الآيات 64 الى 67]

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ

هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)

لا نراهم، أَمْ أن سخريتنا كانت صحيحة، فهم معنا في الجحيم، و لكن زاغَتْ أي مالت و انحرفت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي أبصارنا، فعدم رؤيتنا لهم، لأن أبصارنا عدلت عنهم، فلا تراهم، و إن كانوا معنا في الجحيم؟

[65] إِنَّ ذلِكَ التخاصم بين القادة و الأتباع المنجرّ إلى ذلك الكلام حول المؤمنين لَحَقٌ كائن لا محالة تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ بدل عن ذلك، أي أن ذلك التخاصم بين أهل النار حق ثابت لا شك فيه.

[66] قُلْ يا رسول الله إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مخوف لكم، إن بقيتم على الكفر و العصيان، لتلاقون هذا اليوم العصيب الذي سبق الحديث عنه وَ ما مِنْ إِلهٍ يحق له العبادة إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا شريك له الْقَهَّارُ لجميع خلقه يقهرهم على ما يريد بهم من الأمور التكوينية، فلا يعز الإنسان، ما يرى من إسلاس القياد له في دار الدنيا، للاختبار و الامتحان.

[67] رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا من الملك و الإنس و الجن و غيرها الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه، فلا يمتنع منه شي ء الْغَفَّارُ لذنوب عباده، فمن ندم و تاب، غفر ذنبه، و قبل توبته.

[68] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء هُوَ أي ما أخبركم به عن المبدأ و المعاد، و سائر الأمور نَبَأٌ عَظِيمٌ أي خبر ذو عظمة، تكون سعادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 538

[سورة ص (38): الآيات 68 الى 71]

أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71)

الإنسان، و شقوته تابعة لتصديقه، أو تكذيبه.

[69] أَنْتُمْ أيها الكفار عَنْهُ أي عن هذا

النبأ مُعْرِضُونَ لا تعيرونه اهتماما، كأنه ليس بمهم.

[70] إنه ليس كهانة أو سحرا أو شعرا، كما كانوا يذكرون، و إنما هو وحي، و إلا فمن أين أدري أنا، ماذا جرت بين الله و بين الملائكة، من محادثات حول أصل الخلقة، فإنه ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ يقال لكل تخالف في الرأي اختصاما، و قد كان في ابتداء الخلقة أمر الله سبحانه طرفا، و فكرة الملائكة طرفا آخر، أو إن المراد اختصام الشيطان مع الله في الملأ الأعلى.

[71] إِنْ يُوحى إِلَيَ أي ما يوحى إليّ إِلَّا ل أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فلو لم أكن نبيا منذرا من أين كنت أعلم بماذا جرى في الملأ الأعلى، و إنما أعلم ذلك، لأنه يوحى إليّ حيث أني نذير ظاهر، و رسول من قبل الله سبحانه، فليس النبأ أمرا هينا، كما تزعمون أنتم من أنه نزاع بين «محمد» و «الكفار» فحسب، و إنما أمر مهم جدا هو أمر الوحي من الله إلى الأرض، لتقرير المنهج العام للبشرية في هذه الحياة، و الحياة الآخرة.

[72] ثم بين السياق قصة اختصام الملأ الأعلى، الذي كان إخبار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، له دليلا على نبوته، و أنه يوحى إليه، و قد كان أمثال هذه العلوم في ذلك الزمان خاصا برؤساء أهل الكتاب، حتى أن أحدا لم يكن يعلم من تلك شيئا- حتى بالمقدار الخرافي المحرّف الذي كان مدرجا في التوراة و الإنجيل- فإذا أخبر بذلك في صورة صحيحة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 539

[سورة ص (38): الآيات 72 الى 74]

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

(73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)

رجل أمي، كان دليلا على اتصاله بالوحي، كما لو أخبر في هذا اليوم، رجل أمي عن أسرار الذرة، و غوامض علم الفلك بصورة صحيحة، لم يصل إليها بعد أعظم علماء الفيزياء و الفلك إِذْ قالَ رَبُّكَ يا رسول الله لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ أي أريد أن أخلق، فاسم الفاعل بمعنى المستقبل بَشَراً مِنْ طِينٍ يعني آدم عليه السّلام.

[73] فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي سويت خلق هذا البشر و تمت أعضاؤه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحييته، و جعلت فيه الروح المضاف إليّ تشريفا، و معنى النفخ، أن يخلق سبحانه روحا، ثم يدخله في آدم على طريقة النفخ فَقَعُوا الفاء عاطفة، و «قعوا» أمر من وقع يقع لَهُ ساجِدِينَ أي اسقطوا على الأرض، للسجود لآدم.

[74] ثم إن الله سبحانه خلق آدم، و نفخ فيه الروح فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لآدم عليه السّلام حسب أمر الله سبحانه، و الإتيان بتأكيدين، لرفع استبعاد أن يكون الملايين من الملائكة المتفرقين في مختلف الفضاء الوسيع المدهش، قد سجدوا لآدم و لزيادة التقريع على إبليس حيث أبى السجود، مع سجود الجميع.

[75] إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي جعل نفسه أكبر و أعظم من أن يسجد لآدم وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «كان» لمجرد الربط، أو بمعنى صار، أو باعتبار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 540

[سورة ص (38): الآيات 75 الى 78]

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78)

إنه في علم الله، كان كافرا في

ضميره، فظهر ما كان كامنا.

[76] قالَ الله سبحانه لإبليس يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ أنا بِيَدَيَ هذا سؤال للتوبيخ و التقريع، أي ما هو سبب امتناعك من السجود لمثل الإنسان الشريف، الذي كرّمه الله سبحانه، بأن خلقه بلا واسطة؟ و قوله «بيدي» إضافة تشريفية، كناية عن وساطة سببت في خلقه، ثم قال له سبحانه أَسْتَكْبَرْتَ أي هل استكبرت عن السجود، بلا حق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ بأن كنت في الحقيقة و الواقع، أعلى رتبة من آدم، و لذا لم تسجد؟.

[77] قالَ إبليس في جواب الله سبحانه، بل كنت أعلى رتبة من آدم، إذ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي أشرف من آدم، و ذلك لأنك يا رب خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فإن أصلي النار وَ خَلَقْتَهُ أي خلقت آدم مِنْ طِينٍ و النار أشرف من التراب.

[78] قالَ الله سبحانه للشيطان، إذ رأى كبره و غروره و تمرده فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة، فقد كان الجميع في الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود مبعّد، يقال رجمه أي طرده.

[79] وَ إِنَّ عَلَيْكَ يا شيطان لَعْنَتِي طردي و غضبي إِلى يَوْمِ الدِّينِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 541

[سورة ص (38): الآيات 79 الى 84]

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84)

أي يوم القيامة، حيث تحاسب هناك و تلقى في النار.

[80] قالَ إبليس عند ذلك، يا رَبِ أي ربي، و حذف ياء المتكلم تخفيفا فَأَنْظِرْنِي أي امهلني، بأن أبقى حيا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي يبعث و يحشر و يحيى فيه الناس؟

[81] قالَ

الله تعالى في جوابه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من جملة الذين يبقون إلى النفخة الأولى.

[82] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الوقت المعلوم، هو النفخة الأولى التي يموت فيه كل حيّ، فلم يمهله الله سبحانه إلى يوم القيامة، بل إلى النفخة الأولى، و ما ورد في بعض الأحاديث، من أنه عند ظهور الإمام عليه السّلام، فهو ببعض الاعتبارات، كما سبق.

[83] قالَ الشيطان، إذ علم بالمهلة فَبِعِزَّتِكَ حلفي يا رب، أي أقسم بقدرتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أي لأضلّن بني آدم أَجْمَعِينَ

[84] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لنفسك، فلا أقدر على أولئك، و معنى إغوائه لهم دعوته إلى الغواية.

[85] قالَ الله سبحانه فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ جملة معترضة، أي قولي حق، دائما ثابت لا كذب فيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 542

[سورة ص (38): الآيات 85 الى 88]

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

[86] و «الحق» مبتدأ خبره قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ أي حقا إملاء النار مِنْكَ و المراد به هو و ذريته وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ أي اتبع كلامك مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «منهم» بيان «من تبعك» و الضمير يعود إلى بني آدم، المفهوم من السياق، و «أجمعين» تأكيد لمن تبع، أي كل متتابع، بحيث لا أدع متابعا لك خارج جهنم.

[87] و أخيرا قُلْ يا رسول الله للناس ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي تبليغ الوحي و القرآن مِنْ أَجْرٍ أي مال تعطونه لي في مقابل أتعابي وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ للقرآن من تلقاء نفسي، فليس القرآن كذبا، تكلفته أنا، و لا وسيلة، لأخذي مالا منكم.

[88] إِنْ

هُوَ أي ما هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يذكرهم بما كمن في فطرتهم من التوحيد و المعاد و الآداب، و ما أشبه، و المراد بالعالمين، الأجيال، لأن كل دور من أدوار الدنيا، عالم مستقل، و إن اتصلت الحلقات بعضها ببعض.

[89] وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي خبر القرآن و صدقه بَعْدَ حِينٍ في الدنيا، حيث ترون غلبته على الكفر و الكفار، و في الآخرة، حيث ترون صدقه في ما أخبر به من الجنان و أهلها، و النيران و أصحابها، و قد علم الكفار، و سائر الناس، صدق أنبائه بالنسبة إلى مستقبل الدنيا، و سنرى صدق أنبائه بالنسبة إلى الآخرة، جعلنا الله من أهل الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 543

39 سورة الزمر مكيّة/ آياتها (76)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على هذه اللفظة «زمرا» و هي كسائر السور المكية باستثناء آيات، قالوا إنها مدنية، تعالج قضايا العقيدة في أصولها، و لما ختمت سورة «ص» بذكر القرآن، فتحت هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الله، الذي لا يخيب من استعان به، و هو خير مستعان يستعين به الإنسان في مختلف حوائجه، و التوصيف بالرحمن و الرحيم، التماس للرحمة، التي وسعت كل شي ء، كي ينال الإنسان المستعين من ذلك المعين الذي لا ينضب فضلا و رحمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 544

[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ

كَفَّارٌ (3)

[2] تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي نزول هذا الكتاب، إنما هو مِنَ اللَّهِ فهذا خبر لتنزيل الكتاب الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه الْحَكِيمِ الذي يحكم بما يريد وفق المصلحة، و يفعل ما يشاء على طبق الصلاح، فبحكمته أحكم الكتاب، و بعزته أنزله للهداية و الإرشاد، و ليس سحرا أو تقوّلا أو كهانة كما يقول المشركون.

[3] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول الله الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ فليس إنزاله لأجل الباطل أو اللعب، أو ما أشبه، كما لو كتب رئيس إلى نائبه، أن اقتل الناس، فإنه إرسال بالباطل، و الإتيان بمادة «نزل» في الآيتين، إما لعلو مقام المنزل، فنزل العلو رتبة منزلة العلو حسا، و إما حقيقة باعتبار، إن القرآن جاء من السماء إلى الأرض فَاعْبُدِ اللَّهَ وحده لا شريك له، كما أمرنا في الكتاب مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي في حال كونك تخلص له الدين- و هو الطريقة، في العقيدة و العمل- و لا تجعل له ندا أو شريكا، كما يفعل المشركون.

[4] أَلا فلينتبه السامع لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني إن الطريقة الناصعة الخالصة من الانحراف و الالتواء، و كل سوء هي لله سبحانه، أما سائر الطرق، فإنها ليست خالصة، بل في كل منها التواء و كذب و غش، و المراد بالدين الخالص هو الإسلام وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله أَوْلِياءَ أي أصناما يوالونهم، يقولون:- في سبب الاتخاذ-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 545

ما نَعْبُدُهُمْ أي إنا لا نعبد الأصنام- و الإتيان بضمير العاقل، باعتبار إن الكفار كانوا يعتبرون الأصنام عقلاء- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى اسم مصدر زلف بمعنى قرب، فهو مفعول مطلق، ب «يقربونا» أي يقربونا تقريبا، فقد كانوا يعتقدون إن الأصنام توجب القرب

من الله سبحانه، لكنهم كاذبون في هذا الزعم، و إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يوم القيامة فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمور الدين، فقد كان المشركون على اختلاف كبير بين الطوائف و العقائد، أو أن ضمير «بينهم» يعود إلى الناس عامة، مؤمنهم و كافرهم، و المراد بالحكم القضاء، و بيان أيهم مبطل، و أيهم محق، أو بيان أيهم مغرق في الباطل، و أيهم ليس بتلك المثابة، و إن كان الكل على باطل- و هذا بناء على رجوع ضمير بينهم إلى الكفار فقط- إِنَّ اللَّهَ بعد بيان الطريق، و انحراف البعض لا يَهْدِي بالألطاف الخفية، بالنسبة إلى من انحرف، و هو الذي عبّر عنه بقوله سبحانه مَنْ هُوَ كاذِبٌ على الله و على رسوله كَفَّارٌ أي كثير الكفر، فكلما رأى حقا كفر به، بخلاف من آمن، فإن الله يهديه، بأن يلطف به الألطاف الخفية الزائدة على أصل الهداية، ليزداد هدى، كما قال تعالى (زادَهُمْ هُدىً) «1» و (وَ زِدْناهُمْ هُدىً) «2».

______________________________

(1) محمد: 18.

(2) الكهف: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 546

[سورة الزمر (39): الآيات 4 الى 5]

لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

[5] لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما يزعم هؤلاء الكفار من أن لله ولدا لَاصْطَفى أي لاختار هو بنفسه مِمَّا يَخْلُقُ من الإنسان و الملك ما يَشاءُ فكان ينتخب الأليق به، لا أن يترك الأمر إلى الكفار، حتى يضيفوا إليه من شاءوا من الأولاد، كما

أضاف اليهود عزيرا إليه، و النصارى المسيح، و المشركون الملائكة، فمثلا كان يختار موسى ابنا، و محمّد ابنا سُبْحانَهُ أي أسبحه سبحانه، فهو منزّه عن الأولاد، ولادة و تبنيا، و هؤلاء كاذبون في إضافة الأبناء إليه، فإنه هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا شريك له، و لا صاحبة و لا ولد الْقَهَّارُ الذي يقهر الكون طبق إرادته، و لو كان له ولد، شاركه في الألوهية، فلم يكن واحدا، و لا قادرا على قهره.

[6] خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلا باطل في شأنه، حتى يتخذ ولدا بالتبني، و لا شريك له حتى يكون له ولد صلبي، إذ لو كان له ولد لشاركه في الخلق بمقتضى كونه إلها يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ تشبيه بمن يلف شيئا على شي ء، فإذا جاء الليل كان، كأنه لفّ على النهار حتى ستره وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ فإذا جاء النهار، كان كأنه لف أيضا على الظلمة حتى سترها وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ بأن ذللهما و أجراهما حسب الصلاح و الحكمة كُلٌ منهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 547

[سورة الزمر (39): آية 6]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

يَجْرِي في مداره لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى غاية محدودة، يوم يقفان عن السير، و هو يوم القيامة، أَلا فلينتبه السامع هُوَ الله الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه الْغَفَّارُ فمن تاب من الكفار و العصاة، غفر له ذنبه، و إنما أتي بهذا الوصف، لإلقاء الرجاء في قلوب من لاذت قلوبهم نحو الحق، فلا ييأسوا من

سالف أعمالهم، أن تقبل توبتهم.

[7] خَلَقَكُمْ أيها البشر، بعد خلق السماوات و الأرض، و الشمس و القمر مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم عليه السّلام، يعني أن أصل خلقتكم من شخص واحد، كل الناس ينتهون إليه ثُمَ هذا إنما هو للتراخي في الكلام، لا التراخي في الخارج، كقوله «إن من ساد ثم ساد أبوه، ثم قد ساد بعد ذلك جده» فإن سيادة الأب قبل الابن خارجا، و إنما أتي، ب «ثم» للتراخي في التكلم، و بيان أن هذا الكلام بإثر ذلك الكلام جَعَلَ مِنْها أي من تلك النفس زَوْجَها إما أن يراد كون حواء عليها السّلام، من فاضل طينة آدم، أو أنها من نفس ذلك الجنس، فليست زوجة آدم من جنس الملائكة، أو الجن، و هذا فضل منه سبحانه، لأن «كل جنس لجنسه يلف» وَ أَنْزَلَ أي بسبب ما أنزله من المطر أنشأ لَكُمْ أيها البشر مِنَ الْأَنْعامِ و هي الإبل و البقر و الضأن و المعز ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ من كل زوجين ذكر و أنثى يَخْلُقُكُمْ أيها البشر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 548

[سورة الزمر (39): آية 7]

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

فنطفة فعلقة فمضغة، فعظام فإنسان سوي، فحياة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن، و ظلمة الرحم، و ظلمة المشيمة، فإن هذه الأغلفة الثلاثة محيطة بالولد حال تكوينه ذلِكُمُ «ذا» إشارة، و «كم» خطاب اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر، فإنه هو الذي خلقكم من الابتداء إلى حال الوجود، بتلك

الكيفية المدهشة لَهُ الْمُلْكُ كما أن له الخلق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا شريك له من صنم أو وثن، أو غيرهما فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق، أي إلى أين يصرفكم الشيطان و الكفار؟ حتى تقولون بالشريك لله سبحانه.

[8] إِنْ تَكْفُرُوا أيها البشر، فهو يضركم، و لا يضر الله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ غير محتاج إليكم، حتى يضره كفركم وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فإنه لم يأمر بذلك، و هذا لنقض قول الكفار، حيث كانوا يقولون: إن الله أمرنا بهذا وَ إِنْ تَشْكُرُوا أيها البشر و رأس الشكر، أن توحدوه يَرْضَهُ أي يرضى الشكر لَكُمْ و يجازيكم عليه جزاء حسنا و ليعلم الكافر أن القادة لا يحملون تبعة كفرهم، كما يقولون في الدنيا، حيث قالوا (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) «1» وَ لا تَزِرُ أي لا تحمل نفس وازِرَةٌ أي حاملة وِزْرَ أُخْرى أي ذنب الشخص

______________________________

(1) العنكبوت: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 549

[سورة الزمر (39): آية 8]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)

الآخر، بأن تخفف نفس ذنب شخص آخر، نعم إن الضال يحمل وزرين، وزر ضلاله، و وزر إضلاله ثُمَ بعد الدنيا، أيها البشر إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي، أي رجوعكم فَيُنَبِّئُكُمْ يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يجازيكم على أعمالكم، فإن الإخبار مقدمة الجزاء، كما يقول الحاكم للمجرم: سأخبرك بما عملت إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بالأشياء التي تدور فيها، فعلمه شامل لكل شي ء، فلا يظن البشر أنه يتمكن من الإخفاء منه.

[9] و عجيب

أمر هذا الإنسان الذي يكفر بالله، بعد أن يعتقد في باطنه به وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ من مرض، أو فقر أو بلاء دَعا رَبَّهُ و توجه إلى الله تعالى مُنِيباً إِلَيْهِ من أناب بمعنى رجع، أي راجعا إلى الله وحده راجيا إيّاه دون سواه ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه الله نِعْمَةً مِنْهُ أي من قبله نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل هذه النعمة، و معنى النسيان ترك التوحيد و الشكر، و يستعمل النسيان في الترك، لأنه من أسبابه، بعلاقة السبب و المسبب، كما قال (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «1»، أو باعتبار أن الشرك غالبا يجر إلى النسيان وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً جمع ند و هو المثل و الضد،

______________________________

(1) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 550

[سورة الزمر (39): آية 9] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 599

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)

و المراد بها الأوثان لِيُضِلَ الناس عَنْ سَبِيلِهِ أو يضل نفسه عن سبيل اللّه، و اللام للعاقبة، إذ جميع الكفار لا يريدون بالشرك إضلال الناس، أو ضلال أنفسهم، و إنما عاقبة الشرك الضلال و الإضلال قُلْ يا رسول الله، لمثل هذا الشخص تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا الأمر للتهديد، أي تنعم بنعمة الدنيا، التي جرها إليك كفرك، فكأنه تنعم بالكفر، و الباء سببية، نحو تنعم بالعلم أو بالمال إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها كملازمة الصاحب لصاحبه.

[10] فهل هذا الإنسان الذي يكفر و يكون مصيره النار خير أَمَّنْ يؤمن، و يعمل

الصالحات، حتى يصير إلى الجنة؟ ف هُوَ قانِتٌ من القنوت بمعنى الخضوع لله تعالى آناءَ اللَّيْلِ جمع «أنى» بمعنى ساعات الليل، و إنما خص الليل بالذكر، لأن القيام في ساعاتها للعبادة، أدل على قوة الإيمان من الطاعة في ساعات النهار، في حال كونه ساجِداً مرة وَ قائِماً في الصلاة و التلاوة، أخرى يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي يخاف من عذابها وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ و الجنة قُلْ يا رسول الله في صدد المقارنة بين الكافر و المؤمن هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و من الواضح، أنهما لا يستويان، و إذا لا يستوي المؤمن العالم بالله و اليوم الآخر، و الكافر الذي لا يعلم بالمبدأ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 551

[سورة الزمر (39): الآيات 10 الى 11]

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11)

و المعاد إِنَّما يَتَذَكَّرُ بهذه المواعظ و الإرشادات أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول الذين يعملون عقولهم، لاستفادة الحق، أما غيرهم، فهم في غفلة من هذا.

[11] قُلْ يا رسول اللّه يا عِبادِ و أصله يا عبادي الَّذِينَ آمَنُوا فعل ماضي اتَّقُوا أيها الناس رَبَّكُمْ أي خافوا عقابه، فلا تخالفوا أوامره، فإنه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في العقيدة و العمل فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ المراد بها الجنس، فإن اتباع مناهج الله سبحانه، يوجب الغنى، و الصحة، و الأمن، و العلم، و الفضيلة، و سائر الخيرات، كما دلّ عليه الدليل و التجارب وَ إذا رأيتم أنكم لا تتمكنون من الإتيان بالطاعة في مكان فهاجروا، ف أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إلى حيث

تتمكنون من أن تحسنوا هناك، و حيث إن الهجرة توجب أتعابا جمّة، قال سبحانه إِنَّما يُوَفَّى و يعطى وافيا الصَّابِرُونَ في الشدائد أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فإنه لكثرته، لا يتمكن الإنسان من عدّه، و إن كان بقدر معلوم عند اللّه سبحانه.

[12] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي أخلص له في طريقتي، فلا آخذ عقيدة أو عملا، إلا من طرفه وحده، لا أعتقد بغيره و لا أعبد سواه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 552

[سورة الزمر (39): الآيات 12 الى 15]

وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)

[13] وَ أُمِرْتُ من قبله سبحانه لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ الذين يسلمون لأوامره، و إنما أكون أولهم، لأدرك الفضل في السبق إلى الطاعة، فإن من سبق إلى خير جمع الفضل و الأجر.

[14] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالكفر أو الإثم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة، الذي لا منجى و لا مفر منه، و عذابه في غاية الشدة، و الخوف يمكن أن يكون مع القطع بالضار كما يمكن أن يكون مع الشك و الظن و الوهم.

[15] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء المشركين اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أي أخلص له طريقتي، فلا أعبد أحدا معه، و هذا تكرار لما سبق للتأكيد و تفريغ ما يأتي عليه.

[16] فَاعْبُدُوا أنتم أيها الكفار ما شِئْتُمْ من الأصنام و البشر

مِنْ دُونِهِ أي من دون الله، و هذا الأمر للتهديد، أي افعلوا ما شئتم فستلقون جزاءه، و لذا قال تعالى قُلْ يا رسول الله لهم إِنَّ الْخاسِرِينَ الذين يحق أن يقال لهم خاسرون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن ذهبت نفوسهم إلى النار، و تفرقت عنهم أهاليهم إلى الجنة أو إلى النار، و الخاسر هو الذي يذهب رأس ماله، بخلاف الرابح الذي يبقى أصل ماله و يزاد عليه، فإن المؤمن بقيت نفسه في راحة و أهله معه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 553

[سورة الزمر (39): الآيات 16 الى 17]

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17)

ثم ربح النعيم، أما الكافر، فإنه لم يحصل شيئا، و بالإضافة إلى ذلك، أتلف نفسه و أهله أَلا ذلِكَ الذي ذكر من خسارة النفس و المال هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح الذي لا خسارة فوقه.

[17] لَهُمْ أي للخاسرين مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ «ضلل» جمع «ظلة» و هي السترة العالية، يعني فوقهم أطباق النار وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي فرش، و تسمية ما تحتهم «ظلل» إما باعتبار المشاكلة اللفظية، من قبيل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) «1» و إما من جهة، أن ما تحت كل طائفة سقف لمن في الدرك و الأسفل منه، إذ النار دركات و أطباق بعضها فوق بعض ذلِكَ الذي تقدم من العذاب يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ حتى لا يعصوه فيلقون فيه يا عِبادِ حذف ياء المتكلم تخفيفا فَاتَّقُونِ أي اتقوني فلا تعصوني، فقد ألزمت عليكم الحجة،

و أرشدتكم إلى السبيل.

[18] وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ المراد به الشيطان، أو كل قائد ضال شديد الطغيان، و يطلق على الأوثان تشبيها، و إلا فليست الأوثان تطغى و تجاوز الحدّ أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال للطاغوت، أي اجتنبوا عبادتها، وَ أَنابُوا أي رجعوا عن الكفر و العصيان إِلَى اللَّهِ بأن

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 554

[سورة الزمر (39): الآيات 18 الى 19]

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)

آمنوا و أطاعوا، و الرجوع، إنما هو بالنسبة إلى من كان كافرا عاصيا، و يدخل غيره في العموم بالملاك لَهُمُ الْبُشْرى أي البشارة بخير الدنيا و سعادة الآخرة فَبَشِّرْ يا رسول الله عِبادِ أصله عبادي حذف ياء المتكلم تخفيفا.

[19] الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وصف للعباد، أي إذا سمعوا من المجتمع قولا، يتركون منحرفه فلا يعملون به، بل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أي أولاه بالاتباع، فإن الإنسان يستمع في المجتمع الكفر و الإيمان، و الطاعة و العصيان و الفضيلة و الرذيلة، فالإنسان الخير يتبع الأحسن مما يستمع، و الإنسان الشرير يتبع الأسوأ مما يستمع، و الأحسن منسلخ عن معنى التفضيل، أو يراد به الأحسن عرفا، و إن لم يكن في طرف مقابله حسن حقيقة أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي أن من صفته اتباع الأحسن، هو الذي تفضل الله عليه بالهداية، و المراد بها اللطف الخفي، أما الهداية بمعناها العام، فهي لكل بر و فاجر وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللب بمعنى العقل، نقل في المجمع عن بعض إنه قال: إن هاتين الآيتين، نزلت في «زيد»

و «أبي ذر» و «سلمان» حيث كانوا يعترفون بالتوحيد في زمن الجاهلية «1».

[20] ثم يسلي الله رسوله في عدم إيمان جماعة من المعاندين، فلا يهتم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 8 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 555

[سورة الزمر (39): آية 20]

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

لهم أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أي ثبتت كلمة العذاب في شأنه، بأن علم الله سبحانه، أنه لا يؤمن إلى الأبد، فأثبت في شأنه العذاب، و قال فيه «إنه معذب» أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ بأن تهديه حتى لا يدخل النار، و هذه الجملة عبارة عن «تتمكن من إنقاذه» على سبيل الاستفهام الإنكاري، أي أنك يا رسول الله، لا تتمكن من إنقاذ هذا القسم من الناس، و إنما أتت هذه الجملة، في قالب الاستفهام، لزيادة الإنكار، و قوله «من في النار» باعتبار، الأول، نحو، (وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) «1»، و كما نقول «السلطنة ساقطة» حيث نرى فيها آثار السقوط.

[21] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن خافوا عقابه، فأطاعوه لَهُمْ غُرَفٌ جمع غرفة، و هي البيت فوق الدار، و تلك أحسن من التحت لقربها من الشمس، و دخول الهواء فيها، و إشرافها و غير ذلك مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مبنية، فهم في قصور ذات طبقات، كما أن من في النار في عذاب ذي أطباق، من فوقهم ظلل، و من تحتهم ظلل مَبْنِيَّةٌ أي قد بنيت تلك الغرف، و الإتيان بهذا الوصف، لامتداد البشارة، فإن الإنسان كما أطال وصف المطلوب، امتدت في نفسه البشائر تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت تلك الغرف

الْأَنْهارُ فهم ينظرون إلى الأنهار و الأشجار، من فوق مما يزيد في سرورهم، فإن الإشراف على المحبوب من الأعلى يشع في النفس بهجة و حبورا وَعْدَ اللَّهِ أي

______________________________

(1) التوبة: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 556

[سورة الزمر (39): آية 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)

وعدهم الله بذلك وعدا، فهو مفعول مطلق لفعل مقدر، و لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الذي يعده، لأن الخلف ناشئ، إما من الجهل أو العجز أو الخبث، و الله سبحانه منزه من ذلك كله.

[22] و بعد أن ذكر سبحانه قسما من التوحيد و المعاد و الرسالة، ذكر بعض أدلة التوحيد أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و هو المطر فَسَلَكَهُ أي أدخل ذلك الماء في يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ جمع ينبوع، و هو محل اختزان الماء، و تجمعه كالعيون و القنوات و الأنهار، و ما أشبهها ثُمَّ يُخْرِجُ الله بِهِ أي بسبب ذلك الماء زَرْعاً أي نباتا مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ من أخضر و أحمر و أزرق و أصفر و أبيض، و غيرها، أو المراد بالألوان جميع الصفات من طعوم و روائح، و حجوم، و أشكال و غيرها، فإن اللون له إطلاقان: إطلاق بمعنى ما يدرك بالبصر فقط، و إطلاق بمعنى ما يدرك بجميع الحواس، بل أعم من ذلك، كالخواص و الفوائد ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف الزرع و ييبس، من هاج أي ثار، فكأن النبات يثور عن حالته الأولى فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد ما كان ذا لون آخر ثُمَّ

يَجْعَلُهُ الله حُطاماً رفاتا منكسرا متفتتا، فإن الحطم هو الكسر للشي ء اليابس إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من إنزال الماء، و إنبات النبات مع تلك الأوصاف المذكورة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 557

[سورة الزمر (39): آية 22]

أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)

لَذِكْرى أي تذكير بما كمن في النفوس من التوحيد لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن لب كل شي ء أحسنه، و لب الإنسان عقله.

[23] و إذا كانت الآيات الكونية تدل على ما يقوله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان الذي أعرض قاسيا، لا يدخل النور قلبه، و كان الذي يقبل و يسلم رحب الصدر قابلا لأنّ يدخل فيه الإسلام، كالظرف الوسيع القابل لأخذ الشي ء أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ و إنما نسب الشرح إلى الله، لأنه لطف به الألطاف الخفية، بعد أن كان هو بصدد الإيمان، مقابل الكافر الذي لا يشرح الله صدره، بأن يعرض الله عنه، إذا رآه بصدد التعامي عن الحق، و إنما نسب الشرح إلى الصدر، لأنه مركز القلب الذي هو مصدر قبول الإيمان، أو رفضه، فهو من باب سبك مجاز من مجاز، أو باعتبار أن المعرض تشتد فيه حرارة القلب، فتنتفخ الرئة كثيرا لتجذب الهواء الكثير لتبريد القلب، فتكون آخذة موضعا وسيعا من الصدر، و لذا يحس الإنسان بضيق صدره، لضيق مجاري الدم و ما أشبه، بسبب ضغط الرئة، و بالعكس من ذلك الذي يهدأ و يسرّ بالإسلام، فإن حرارته تخف، فلا تحتاج الرئة إلّا إلى حركة يسيرة، حتى يبقى أكثر مواضع الصدر فارغا، فلا ضغط من الرئة على الأوردة

و الشرايين، و بذلك يحس الإنسان بسعة صدره فَهُوَ عَلى نُورٍ كأنه في طرق الحياة، على قطعة نور، يبصر به طريقه جيدا، فلا يقع في مشاكل الحياة مِنْ رَبِّهِ «من» نشوية أي نور ناشئ من قبل الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 558

[سورة الزمر (39): آية 23]

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)

تعالى، و قد حذف عدل الاستفهام، أي أ فمن شرح الله صدره، كمن ليس كذلك؟ و حذفه لنكتة هي، إن من ليس كذلك غير قابل حتى للذكر، و كأنه لا شي ء، فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الهلاك و السوء، للذي قسى قلبه، حتى لم يجد الإيمان محلا له فيه مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي قساوة من هذا النوع، و إن كان رقيق القلب من جهات أخرى أُولئِكَ القاسية قلوبهم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح بيّن.

[24] و إذ تقدم الحديث عن الإسلام، يأتي السياق ليصف القرآن الحكيم، الذي هو مصدر أحكام الإسلام و إرشاداته اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ المراد بالحديث الجنس، أي أحسن نوع من هذا الجنس، و الحديث هو الخبر، سمي حديثا، لأنّه يحدث و يتجدد بعد أن لم يكن، فإن المخبر يجدّده و يذكره، و إنما سمى القرآن حديثا، لأنه كلام الله و إخباراته و إن كان فيه بعض الإنشاء، فإنه بصورة عامة، حديث من باب التغليب كِتاباً بدل من أحسن الحديث، أو حال أي في حال كونه مكتوبا لا ملفوظا فقط مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا، فلا تفاوت في ألفاظه فصاحة و

إعجازا، و لا في معانيه و أحكامه، إحكاما و إرشادا، فلا اختلاف فيه، و لا تناقض مَثانِيَ جمع مثنى، أي أن قصص هذا الكتاب، و إخباراته، و أحكامه، تذكر مثنى مثنى، في قوالب مختلفة للتركيز في الأذهان، و يكون أبلغ في التحدي و الإعجاز، و وصف الكتاب بالمثاني- جمعا- باعتبار سوره و آياته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 559

[سورة الزمر (39): آية 24]

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)

و فصوله تَقْشَعِرُّ أي ترتجف مِنْهُ من هذا الكتاب جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فتأخذهم قشعريرة خوفا من وعيده و رهبة و جلالا ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ بعد الانكماش بالقشعريرة وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فإنّ وعوده سبحانه توجب الهدوء و الطمأنينة، كما قال تعالى (وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) «1» و من عادة الإنسان، أنه إذ ذكر الوعيد تفكر، فيذكر الوعد، و هناك الاطمئنان للقلب الوجيف، و الجلد المقشعر ذلِكَ أي القرآن هُدَى اللَّهِ الذي هدى بسببه الناس إلى طريق الحق و الرشاد يَهْدِي بِهِ أي بالقرآن مَنْ يَشاءُ و ليست مشيئته سبحانه اعتباطية، بل لمن سلك الطريق الحق و كان في صدد الهدى، و المراد بالهداية هنا، الألطاف الخاصة، و إلّا فالهداية عامة لكل مؤمن و كافر وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يتركه حتى ينحرف بعد أن لم يقبل الهدى فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ اللطف منه سبحانه، فإذا أعرض الإنسان عن السلوك في الطريق، لم يكن له من يلطف به، حتى يهتدي.

[25] أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ بأن يكون وجهه في مقابل لفح النار و لهبها يَوْمَ الْقِيامَةِ خير أم من يأتي آمنا يوم

القيامة، لا يرى النار

______________________________

(1) التغابن: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 560

[سورة الزمر (39): الآيات 25 الى 26]

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)

أبدا؟ و واضح أن الجواب من يأتي آمنا خير، و إنما قال «الوجه» لأنه أشرف الأعضاء، فيكون عذابه أكثر إيلاما من عذاب سائر الأعضاء وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا بناء على تجسيم الأعمال، أو المراد ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون، بعلاقة السبب و المسبب، فإن الكسب علة الجزاء، و إنما حذف.

[26] و يعتبر هؤلاء الكفار بمن سبقهم حيث إنهم لما كذبوا عوقبوا و أهلكوا كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل هؤلاء الكفار من الأمم الماضية فَأَتاهُمُ الْعَذابُ أي جاءهم عذاب الله في الدنيا مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي لا يعرفون، فقد كانوا آمنين في بلادهم، و إذا بهم يرون عذاب الاستئصال من صيحة أو خسف أو قذف، أو ما أشبه يعمهم.

[27] فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ أي أذاق أولئك الأمم المكذبة الْخِزْيَ و الهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بأن عذبهم و أهلكهم وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ الذي أعدّ لهم لتكذيبهم و كفرهم أَكْبَرُ من عذاب الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو علموا بالعذاب المهيئ لهم، لعلموا أن ذلك أكبر من عذاب الدنيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 561

[سورة الزمر (39): الآيات 27 الى 29]

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ

لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)

[28] وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يفيدهم و يهديهم إلى الطريق، كما مثلنا هنا لهم بأحوال المكذبين السابقين لَعَلَّهُمْ أي لكي يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة الدالة على أن من أساء، فإنه يرى السوء، و إن من أحسن يرى الحسنى.

[29] لقد بينا الأمثلة في هذا القرآن في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا يفهمون معناه، فهو بلغتهم غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي ليس صاحب اعوجاج، و ميل عن الحق، فهو لفظا بلغتهم، و معنى لا انحراف في أحكامه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا الكفر و العصيان، فلا يأتيهم العذاب.

[30] ثم بين سبحانه، مثلا للموحد و المشرك، فالموحد كالعبد الذي هو لإنسان واحد، و المشرك كالعبد الذي هو لعدة سادة يتنازعون ما بينهم، في الأمور، فيجر كل واحد العبد إلى جانبه، أيها خير؟ و من الطبيعي إن العبد الذي لسيد واحد خير، من ذلك العبد المشترك بين سادة كثيرين ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للموحد و المشرك، فللمشرك رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ أي جماعة سادة مشتركون مُتَشاكِسُونَ من شكس بمعنى خاصم، فالمتشاكسون بمعنى المتنازعون المتخاصمون فيما بينهم، فهل هذا العبد أحسن حالا؟ أم العبد الذي هو لسيد واحد وَ رَجُلًا و هو مثال الموحد سَلَماً لِرَجُلٍ أي خالصا لسيد واحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 562

[سورة الزمر (39): الآيات 30 الى 31]

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

يطيع أوامره، و ينتهي عن زواجره هَلْ يَسْتَوِيانِ أي العبدان مَثَلًا أي من حيث المثل، و إذ كان الجواب العدم، فاللازم أن يعرف المشرك، أن له أسوأ المثل، فليقلع عن غيه الْحَمْدُ لِلَّهِ فلا شريك له يستحق

الحمد، بل جميع المحامد راجعة إليه، و لذا يستحق كل حمد بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الإله واحد، و لذا يعبدون آلهة متعددة، و كما إن العبد لسيد واحد، ينعم براحة البال، كذلك الموحد ينعم بالراحة و الاطمئنان، و كما إن العبد لعدة شركاء موزع القلب لا يدري ماذا يصنع، قلق الضمير، كذلك المشرك قلق لا يدري، هل يرضي الله أم الشركاء، فهو مكلوم الفؤاد.

[31] إن الدنيا تنقضي، و إن الرسول و المشركين، سيموتون، و هناك تشكّل محكمة كبري، أمام الله سبحانه، و يظهر من المحق و من المبطل؟

و هذا تهديد لهم بأنكم إن بقيتم على غيكم، ستلاقون يوما عسيرا، حين يخاصمكم الرسول يوم القيامة إِنَّكَ يا رسول الله مَيِّتٌ بعد مدة وَ إِنَّهُمْ أعداؤك و خصماؤك المشركون مَيِّتُونَ جمع ميت.

[32] ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد انقضاء مدة البرزخ بين الدنيا و الآخرة يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي المحل الذي أعده للحساب، و إلا فليس لله سبحانه، مكان تَخْتَصِمُونَ فيظهر من المحق و من المبطل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 563

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الرّابع و العشرون من آية (33) سورة الزمر إلى آية (47) سورة فصّلت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 564

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 565

[سورة الزمر (39): الآيات 32 الى 34]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)

[33] ثم

بين سبحانه حال الفريقين الموحدين و المشركين فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن ادعى أن له ولدا أو شريكا وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ و هو الرسول و القرآن إِذْ جاءَهُ و المعنى لا أظلم من مثل هذا الشخص، و قد سبق، أن هذا الاستفهام، و كون من ذكر أظلم الناس، إنما هو إضافي لا حقيقي، ثم بين سبحانه مصير هؤلاء بقوله أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي منزلا، من ثوى بمعنى اتخذ المنزل، و محل السكنى لِلْكافِرِينَ و المعنى أن مثوى هؤلاء هو جهنم.

[34] وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو صدق، كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي جاء بالقرآن صدقا، و جاء بشريعة هي صادقة وَ الذي صَدَّقَ بِهِ أي صدق بمن جاء بالصدق، كالمؤمنين الذين صدقوا بالرسول أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا عذاب الله و نكاله، بأن أطاعوه فيما أمر و نهى.

[35] لَهُمْ أي لهؤلاء الرسول و المؤمنين ما يَشاؤُنَ من أنواع النعيم و الملذات الجسمية و الروحية عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الجنة، و قد سبق، أن كونه عند الله، من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فهناك موضع اختاره الله سبحانه، فقريب من رضاه و فضله ذلِكَ الذي أن يكون لهم ما يشاءون جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا في العقيدة و العمل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 566

[سورة الزمر (39): الآيات 35 الى 36]

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)

[36] و إنما «لهم ما يشاءون» لأن الله سبحانه يريد أن يحقق لهم

فضلا و كرامة لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي عن هؤلاء المحسنين أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا المراد كل سيئة، فإنها أسوأ من حسناتهم، إما بتجريده من معنى التفضيل، أو بالمقايسة العرفية، يقال، الزنى أسوأ من النكاح، يراد أحد الأمرين، إما بمعنى أن الزنى يسي ء دون النكاح، أو بمعنى أن العرف يرى، أن الزنى، أسوأ من النكاح- فيما يرى كليهما شيئا-، و معنى «التكفير» الحبط و المحو وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ أي بمقابل أحسن الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ و المراد ب «الذي» الجنس، أي أحسن الأعمال التي كانوا يعملونها، و هذا كالسابق أيضا، فالمراد جزاؤهم بكل حسنة، و في الأحسنية، الاحتمالان، فالله سبحانه يجزي المحسنين، بما يشاءون لتحقيق تكفير خطاياهم و جزاؤهم بحسناتهم.

[37] و قد كان المشركون يخوفون الرسول، بأنه إن استمر في دعوته أصابه منهم و من آلهتهم المكروه، فرد الله عليهم بقوله أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ استفهام للإنكار، أي أن الله يكفي عبده، كل ما أهمه، فلا يمكن الأعداء من الوصول إليه وَ يُخَوِّفُونَكَ يا رسول الله بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي بالأصنام، و عبدتها الذين هم دون الله، فقد كانوا يقولون للرسول، إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا لأنك تعيبها وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يترك لطفه الخاص عنه، بعد أن أراه الطريق، فانحرف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 567

[سورة الزمر (39): الآيات 37 الى 38]

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ

يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)

فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه سبل الرشاد، إذ الهداية خاصة به سبحانه، و هي هدايتان ظاهرة، و قد أعرضوا عنها، و خفية، و الله منعهم إياها، حيث رأى إعراضهم عن الهداية العامة.

[38] وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن لطف به ألطافه الخاصة، بعد أن جاء في الطريق بمجرد الهداية العامة فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي لا أحد يتمكن من إضلاله، لأن لطف الله يرعاه أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ يعز من سلك طريقه فلا يقوى أحد على إضلاله بعد أخذ الله بيده ذِي انْتِقامٍ ممّن انحرف عن الجادة، و انتقامه منه أن يتركه في الدنيا ضالّا لا يعتني به، و في الآخرة يذيقه من النار، و الاستفهام للإنكار، يعني أن الله عزيز منتقم.

[39] ثم يأتي السياق لعدة مباحثات مع المشركين حول شركهم وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي سألت يا رسول الله هؤلاء المشركين مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هل الله أم شركاؤكم؟ لَيَقُولُنَ في الجواب اللَّهُ خلقهما، لأنهم، لا يتجرءون أن يقولوا أن الأصنام خلقتهما قُلْ يا رسول الله لهم، بعد أن اعترفوا بأن الله خلق السماوات و الأرض أَ فَرَأَيْتُمْ أي أخبروني هل إن الله إذا أضرّ أو نفع، الأصنام تقدر على خلاف ذلك؟ و طبيعي أن الجواب: لا، إذا فما شأن الأصنام في الكون، أو في نفس الإنسان، حتى يتخذها الإنسان آلهة؟ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 568

[سورة الزمر (39): آية 39]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)

تدعونها، سوى الله إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي قصد الله إضراري، بمرض أو فقر أو بلاء هَلْ هُنَ أي الأصنام، و الإتيان بضمير العاقل،

لتوحيد السياق بين كلام الكفار الذين اعتقدوا، أن الأصنام عقلاء، و بين كلام القرآن في المناقشة معهم كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي دافعات للضر الذي جاء من قبل الله تعالى؟ أَوْ أَرادَنِي الله بِرَحْمَةٍ من غنى أو صحة، أو أمن، أو جاه، أو نحوها هَلْ هُنَ أي الأصنام مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بأن تقدر على أن تمانع الله حتى لا يتمكن سبحانه من الرحمة و الفضل؟ و إذا أجاب الكفار بالنفي، كان المجال لأن يقال لهم، إذا فما فائدة الأصنام حتى يعبدها الإنسان؟

قُلْ يا رسول الله، إذن، حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني الله عن غيره من الآلهة، فلا أعبد إلا إياه عَلَيْهِ أي على الله يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي أن اللازم، أن يتوكل عليه من يريد التوكل، و يفوض أمره إليه دون سواه.

[40] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء القوم يا قَوْمِ إذا لم تقبلوا عظتي، ف اعْمَلُوا أنتم عَلى مَكانَتِكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه، و هذا تهديد، كما تقول للمجرم، اعمل ما شئت، و المراد سترى جزاؤك السيئ إِنِّي عامِلٌ على مكانتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ في الدنيا أو الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 569

[سورة الزمر (39): الآيات 40 الى 42]

مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

[41] مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يذله و يهينه؟ هل هو أنا أم أنتم؟ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة، و

لعل المراد، ب «عذاب يخزيه» عذاب الدنيا.

[42] إن إيمان المؤمن يعود نفعه على نفسه، و ضلال الكافر يعود ضرره على نفسه، فلا يهمك يا رسول الله، من ضل بعد إتمام الحجة إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن لِلنَّاسِ أي لهداية الناس بِالْحَقِ أي إنزالا بالحق، فلم يكن إنزالا بالباطل، أو لأجل الباطل، فَمَنِ اهْتَدى بالقرآن فَلِنَفْسِهِ أي تعود فائدة هدايته إلى شخصه وَ مَنْ ضَلَ و انحرف عن الطريق فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي على ضرر نفسه، إذ تعود عقوبة الضلال على نفسه وَ ما أَنْتَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ أي على الناس، أو على من ضل بِوَكِيلٍ حتى تكون مسئولا، عمن لم يقبل الهداية، و إنما أنت مبلغ و منذر.

[43] إن الخلق بيد الله، و إيصال الضرر و النفع منه- كما مرّ- و الإماتة بإذنه، فما يكون بعد ذلك شأن الأصنام، التي يعبدونها هؤلاء؟ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي يميتها، و «توفى» متعد، و لذا، فالمتوفي بصيغة الفاعل هو الله، و المتوفي بصيغة المفعول هو الإنسان حِينَ مَوْتِها أي حين الموت المقدر لها، و انقضاء أجلها، و المراد بالأنفس، هي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 570

[سورة الزمر (39): آية 43]

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43)

الإنسان، لا نفس الإنسان- بمعنى روحه- حتى يقال، إن الروح لا تموت وَ الَّتِي أي النفس لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها بأن كان الإنسان نائما، و لم يخرج روحه الذي به الحياة بعد، فإنه في قبضة الله، فإذا شاء أماته، بأن لا يرسل روحه الذي أخذه، و إن شاء أرسله حتى يستيقظ، و من المعلوم، أن الروح الذي أخذه سبحانه

عند المنام، هو ما به من الحس و العقل، فإذا شاء موته، أخذ بقية الروح أيضا، و إن شاء عدم موته، أرسل المقدار الذي أخذه فَيُمْسِكُ الَّتِي أي النفس التي قَضى الله و حكم عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يعيدها إلى البدن وَ يُرْسِلُ الله النفس الْأُخْرى التي لم يقض عليها الموت لأن تبقى في البدن إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة محدودة، قد سميت في اللوح المحفوظ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من الإماتة للإنسان اليقظ، و الإماتة للإنسان النائم، و إرجاع الروح إلى بعض النائمين ليبقى حيا إلى مدة محدودة مقدرة لَآياتٍ دلالات على وجود الله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ و إلا فمن أمات الإنسان في اليقظة؟ و من أمات بعض النائمين؟ و من أعاد الروح لبعض النائمين حتى يقوم؟ و قوله «و التي لم تمت» عطف على «الأنفس» من باب عطف الخاص على العام، و إنما جاء بهذا العطف تمهيدا للتفضيل الذي ذكره بعد.

[44] فالأصنام، إذن لا شأن لها في الكون، بقي للمشركين أن يقولوا، أنهم يعبدونها، لأجل أنها تشفع لهم يوم القيامة أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 571

[سورة الزمر (39): الآيات 44 الى 45]

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

أي قالوا بأنها شفعاؤهم، و معنى من دون الله، أن الشفاعة لله مسلمة، فهم إنما اتخذوا غيره شفيعا قُلْ يا رسول الله، في رد هذه الحجة أَ وَ لَوْ كانُوا أي الأصنام لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من أمر الشفاعة وَ لا يَعْقِلُونَ يعني حتى

في هذه الصورة تعتبرون الأصنام شفعاء؟ و الإتيان بضمير العاقل للأصنام، لتوحيد السياق، مع كلام المشركين.

[45] قُلْ يا رسول الله لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فأمرها بيده، ليس لأحد، فإذا شاء أن يشفع لأحد أمر نبيا أو إماما أو صالحا أن يشفع لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و من جملة أملاكه ملكه للشفاعة، فلا يغتر القوم، بأن يعبدوا الأصنام بزعم الشفاعة ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أيها البشر، فهو المبدئ، و هو المعيد، و هو بيده الشفاعة وحده، حتى إن الأنبياء، و من إليهم (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1».

[46] وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ بأن لم يأت الذاكر بذكر غيره، من الأصنام اشْمَأَزَّتْ الاشمئزاز الانقباض و النفور عن الشي ء، أي نفرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن كفروا بالله، و جعلوا له

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 572

[سورة الزمر (39): الآيات 46 الى 47]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)

شركاء، و إنما أتى بهذا الوصف للتلازم بين عدم الإيمان بالتوحيد و عدم الإيمان بالآخرة وَ إِذا ذُكِرَ الأصنام الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي يفرحون، فإذا قال قائل «الله» نفروا، و إذا قال «اللات» فرحوا، و هذا عجيب إذ إنهم، كانوا يعبدون الله و الشركاء- في زعمهم- فما الذي أوجب اشمئزازهم من «الله» و لم يوجب إلا فرحهم من «اللات» مثلا؟.

[47] قُلِ يا رسول الله اللَّهُمَ

أي يا الله، و الميم عوض عن ياء النداء، يا فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي يا خالقهما و مبدعهما، من فطر بمعنى خلق، يا عالِمَ الْغَيْبِ الذي غاب عن الحواس، سواء كان موجودا غير محسوس، أو مما سيوجد وَ الشَّهادَةِ أي الشي ء المشهود الحاضر، الذي يحس بالحواس أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ المؤمنين و المشركين فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك، و سائر الأمور، فبيدك الخلق و المعاد، و أنت العالم بكل شي ء، و في هذا تعريض بالآلهة الباطلة، التي لا خلق لها و لا علم، و لا تملك من الإعادة شيئا.

[48] و هناك في القيامة لا ينفع الكفار شي ء، فليتأهبوا لذلك اليوم من ها هنا قبل أن يبلسوا وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 573

[سورة الزمر (39): الآيات 48 الى 49]

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49)

ما فِي الْأَرْضِ من الأموال و المعادن و الثروات جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ و هذا من باب المثال، و إلا فعشرة أضعافه أيضا بذلك الحكم لَافْتَدَوْا بِهِ أي جعلوا مالهم بدلا عن أنفسهم مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ليفكوا أنفسهم من النار، و يخلصوها من العقاب، و لكن لو فرض ذلك؟ هل كان ينفعهم؟ كلا وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم هناك مِنْ طرف اللَّهِ سبحانه ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي صنوفا من العذاب لم يكونوا يظنون أن الله أعدها لهم، من كثرتها، و شدة ألمها

و وقعها.

[49] وَ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهم هناك سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي جزاء أعمالهم التي كسبوها، فكأنّ الجزاء سيئة لما عمل الإنسان وَ حاقَ بِهِمْ أي حل و أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فقد كانوا يستهزءون بالعذاب، و يوم القيامة ينزل بهم العذاب، الذي استهزءوا به و ضحكوا منه.

[50] و من عجيب أمر هؤلاء المشركين أنهم يتذكرون الله عند الشدة، فإذا تفضل عليهم بالرخاء نسوه، و نسبوا الفضل إلى ذكائهم الشخصي و علمهم فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ من مرض، أو فقر، أو بلاء، أو عدو، أو ما أشبه دَعانا استغاث بنا لكشفه و إنقاذه منه ثُمَّ إِذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 574

[سورة الزمر (39): الآيات 50 الى 51]

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)

استجبنا دعاءه و خَوَّلْناهُ أي أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا أي من طرفنا بأن بدلنا مرضه صحة، و فقره غنى، و هكذا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أي أعطيت هذا الشي ء المخول إلي، و المراد به النعمة عَلى عِلْمٍ مني، و لا يرتبط بالتقدير، و إعطاء الله سبحانه، فقد أدت فطنتي و عملي إلى الحصول على هذا بَلْ هِيَ أي هذه النعمة فِتْنَةٌ امتحان و اختبار، ليعرف بذلك قدر شكره، فليس حصوله بعلمه، و إنما أعطاه الله سبحانه ليمتحنه، هل يبقى على عهده الذي دعا الله فيه أم لا؟ فيجازيه حسب عمله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ أن النعم من الله- لا من فطنتهم- و أنها للاختبار، لا مجرد نعمة فحسب.

[51] قَدْ قالَهَا أي قال مثل هذه

الكلمة، و هي «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» كما سبق من كلام قارون الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل هؤلاء، فكل ضعيف الإيمان، إذا رأى النعمة ظنها من فطنته فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي أن كسبهم لم يغن عنهم، و لم يفدهم في دفع عذاب الله تعالى.

[52] و إذ بطروا عند النعمة، و لم يؤدّوا حقها و شكرها فَأَصابَهُمْ أي أولئك الذين من قبلهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي وصل إليهم عقاب أعمالهم السيئة، فإضافة «سيئات» إلى «ما» من باب إضافة الصفة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 575

[سورة الزمر (39): الآيات 52 الى 53]

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)

الموصوف، أو أن المراد من «السيئات» العقاب، سمي سيئة، لمشاكلته للسيئة، مثل (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1» وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ القوم المعاصرين للرسول سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك الأقوام وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي أنهم لا يتمكنون من إعجاز الله سبحانه، حتى لا يتمكن من أخذهم و عقابهم، لفرارهم من ملكه، أو امتناعهم من نفوذ إرادته فيهم.

[53] إن هؤلاء يظنون أن النعمة، إنما أتتهم من علمهم و فطنتهم أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق على من يشاء، فليس لعلمهم مدخل في توسعة الرزق، و لذا نرى أناسا كثيرين لهم فوق فطنة أولئك، و ذكائهم، و مع ذلك رزقهم ضيق لا وسعة فيه،

كما نرى أناسا دون فطنتهم و علمهم، و رزقهم أوسع من هؤلاء إِنَّ فِي ذلِكَ البسط و الضيق لَآياتٍ أي دلالات دالة على وجوده سبحانه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم لأنهم المنتفعون بالآيات.

[54] و إذ تبين خطأ هؤلاء، فإن الباب أمامهم مفتوح إذا أرادوا الدخول، و ليس العاصي آيسا من رحمة الله، فإنه يقبل التائب مهما كان

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 576

[سورة الزمر (39): الآيات 54 الى 55]

وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)

عصيانه قُلْ يا رسول الله للعصاة، تحكي لهم كلامي الذي وجهته إليهم يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بارتكاب الكفر و الآثام، و الإسراف هو التعدي عن الحدود، فإن الكافر و العاصي يتعديان عن حدود العبودية، أمام الله سبحانه لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من غفرانه و فضله، ف إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمن جاءه نادما تائبا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم يتفضل عليهم بالرحمة فوق غفران ذنبهم.

[55] وَ أَنِيبُوا الإنابة، هي الرجوع عن الذنب، أي أيها العصاة، توبوا إِلى الله رَبِّكُمْ و ارجعوا إليه وَ أَسْلِمُوا لَهُ أي انقادوا إليه بالطاعة، فيما يأمركم و ينهاكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ في الدنيا بالهلاك، أو في الآخرة في القبر، أو يوم القيامة ثُمَ إذا جاء العذاب لا تُنْصَرُونَ أي لا ينصركم أحد من الأصنام، أو أصدقائكم العصاة.

[56] وَ اتَّبِعُوا أيها الناس أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ فمثلا أنزل الله إباحة المنام، و

استحباب العبادة في الليل، فاتباع الأحسن، هو العبادة- في المثال- و هذا على سبيل الترغيب، لا الإلزام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 577

[سورة الزمر (39): آية 56]

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً أي فجأة بدون إنذار سابق وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ به و بوقته، فإذا ترون أنفسكم فيه حيث لا مناص و لا خلاص، و عدم اتباع الأحسن لا يوجب ذلك، و إنما الموجب العصيان، فهذا مربوط بالآية السابقة، و إنما كرر «العذاب» لترتيب أمرين عليه، الأول أنهم لا يضرون، و الثاني إتيانه بغتة حين لا يشعرون.

[57] أنيبوا إلى الله و أسلموا قبل إتيان العذاب، حتى لا تتحسروا- إن بقيتم على الكفر و العصيان- ل أَنْ لا تَقُولَ نَفْسٌ أي شخص، أو كراهة، أن تقول نفس يا حَسْرَتى أي يا قوم لي الحسرة، أو يا حسرتي احضري، فهذا وقتك، و التحسر، هو التأسف على ما فات، و الالف بدل من ياء المتكلم، قال ابن مالك:

و اجعل منادي صح، أن يضف لياكعبد عبدي عبد عبدا عبديا

عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي على تفريطي و تقصيري في إطاعة أمر الله سبحانه، و الحال قد كنت عند الله سبحانه، و هذا كما يقول أحدنا: كنت إلى جنب العالم، و لم أتعلم منه، و الله سبحانه منزه عن الجنب، و لكن قرب أحكام الدين و المرشدين إلى الإنسان، نزلّ منزلة القرب من الله تعالى تشبيها للمعقول بالمحسوس، لتقريب الذهن، و هذا هو المراد مما

ورد عن الباقر عليه السّلام، أنه قال «نحن جنب الله»

«1».

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 4

ص 179.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 578

[سورة الزمر (39): الآيات 57 الى 59]

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)

وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي يا حسرتي عليّ، إني كنت من المستهزئين بالرسول، و بأحكام الله.

[58] أَوْ تَقُولَ نفس لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في الدنيا و أرشدني لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ فقد أراكم الله الطريق، حتى لا يكون لكم هذا العذر هناك.

[59] أَوْ تَقُولَ نفس حِينَ تَرَى الْعَذابَ الذي يحيط بها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي ليت لي رجوعا إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حتى إذا مت ثانية، لا أرى العذاب، فإنّا ننصحكم، بأن تنيبوا و تسلموا قبل أن تقولوا هذا القول، حيث لا ينفعكم، و يقال لكم (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1».

[60] و حينذاك يقال لهذا المتحسر و المتمني بَلى أي ليس كما قلت، فإن «بلى» تأتي غالبا لنفي ما تقدم، نحو (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «2» فإنك، لا ترجع بعد أن ظهرت سيئاتك، حين ما أتاك الدليل و الحجة فلم تقبل قَدْ جاءَتْكَ آياتِي على لسان الأنبياء و الأئمة، فقد أوضحوا لك الحجج و الأدلة فَكَذَّبْتَ بِها و لم تقبلها وَ اسْتَكْبَرْتَ بأن استعليت

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

(2) الأعراف: 173.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 579

[سورة الزمر (39): الآيات 60 الى 62]

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ

يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62)

على أن تقبلها وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بالله و بما أنزل.

[61] وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى يا رسول الله، أو أيها الرائي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعموا أن له شريكا أو ولدا، أو أنه ليس بعادل، أو لم يرسل رسولا، أو ما أشبه وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ شديدة السواد، فقد تكبروا هنا- و مظهر الكبر هو الوجه- و هناك يعاقب الوجه بهذا العقاب الظاهر، لكل رأس يذل صاحبه و يهينه أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي محل ثوي، و هو المنزل، من ثوى، إذ اتخذ المنزل و المسكن لِلْمُتَكَبِّرِينَ استفهام يريد به الإنكار، أي أن جهنم مثواهم.

[62] وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي خافوا، فلم يكفروا، و لم يعصوا بِمَفازَتِهِمْ المفازة مصدر ميمي، أي بسبب فوزهم، حيث أنهم قد فازوا في الدنيا بالإيمان و العمل الصالح، و يكون لهم في الآخرة النجاة و الفلاح من النار و العذاب لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي العذاب و الشدة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما يراد بهم، إذ لا حزن لهم.

[63] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا شريك له في خلق أو تكوين وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ حارس، فكما أن الوكيل يعمل للموكل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 580

[سورة الزمر (39): الآيات 63 الى 65]

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65)

و يحفظ ما يتعلق به، كذلك الله سبحانه يربي كل شي ء و يكلؤه،

بحراسته و حفظه، فليس للأصنام خلق و لا حفظ.

[64] لَهُ مَقالِيدُ جمع مقلاد، و هو المفتاح السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فمفتاح كل شي ء بيده، مثلا: مفتاح المطر الريح، و مفتاح النبات المطر، و مفتاح المرض السموم، و هكذا، فإن كل شي ء بيده مفتاحه، و هذا كناية عن أن الأمور الكونية، كلها بيده، و ليس للأصنام شي ء وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ دلائله و حججه، بأن أنكروه، أو جعلوا له شريكا أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين يخسرون دنياهم و آخرتهم، أما الدنيا، فإن لهم فيها معيشة ضنكا، و أما الآخرة، فإن لهم فيها النار.

[65] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يعيبون عليك توحيدك لله سبحانه أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أصله «تأمرونني» ثم أدغمت نون الوقاية في نون الجمع أَيُّهَا الْجاهِلُونَ فأنتم تريدون، أن أشرك بالله، كما أشركتم، و هذا جهل بالحقيقة، فإن الله لا شريك له، و الأصنام جهل بالحقيقة، فإن الله لا شريك له، و الأصنام ليست بشي ء؛ فإن مستواها أنزل من مستوى نبتة صغيرة، فكيف تجعلونها شريكة الله.

[66] ثم أكد الله سبحانه شأن التوحيد، حتى أن كل أحد أشرك حبط عمله، و لو كان نبيا، و قد تقرر في الأدب و المنطق، أن صدق الشرطية بصدق التلازم، و إن استحال خارجية أحد الطرفين، كما لو قلت: لو جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 581

[سورة الزمر (39): الآيات 66 الى 67]

بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

النقيضان تغير وجه العالم، فإن كلا من جمع النقيضين، و تغير وجه العالم، هكذا، مستحيل، إلا

أن القضية صادقة للتلازم، و من هذا الباب قوله سبحانه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يا رسول الله وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء و الرسل لَئِنْ أَشْرَكْتَ بالله، و دعوت معه غيره لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ و حبط العمل بطلانه، بأن لا يكون له ثواب، أي لم يكن لك أجر على أعمالك الحسنة وَ لَتَكُونَنَ حين أشركت مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أهليهم، دنياهم و آخرتهم، و توجه الخطاب إلى الرسول، و سائر الرسل، لتنبيه الناس، بأن الأمر هكذا، حتى بالنسبة إلى أعظم الناس.

[67] بَلِ اللَّهَ وحده فَاعْبُدْ يا رسول الله وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائه.

[68] وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ أي الكفار حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا له شريكا، و أنكروا قدرته على البعث، و الحال أنه قادر على كل شي ء وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً بجميعها، و جميع ما فيها قَبْضَتُهُ و القبضة هي ما قبضت عليه بجميع كفك يَوْمَ الْقِيامَةِ أي أن يوم القيامة تكون الأرض تحت قدرته سبحانه، كالشي ء الذي في قبضة الإنسان وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي ملفوفات بعضها حول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 582

[سورة الزمر (39): آية 68]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68)

بعض، و كلها في يده اليمنى، و إنما قال «بيمينه» لأن اليمين أقدر على القبض، و هذا من باب التشبيه، يعني أن الكون كله تحت قدرته القوية، حتى أن السماوات بالنسبة إليه، كالثوب المطوي، في يد أحد أفراد الإنسان، و أن الأرض بالنسبة إليه، كالشي ء المقبوض في الكف، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس

للتقريب إلى الذهن، كما يقال: أن المملكة خاتم في إصبع فلان، يراد قدرته الزائدة على إدارتها، كقدرة الشخص على إدارة خاتمه، و إنما قال «يوم القيامة» مع أن السماوات و الأرض، هكذا، بالنسبة إليه، قبل ذلك؟ لأن الكلام حول قدرة الله سبحانه، على إعادة الأرواح إلى الأجساد، في ذلك اليوم، فالآية بصدد أن قدرته تعالى في ذلك اليوم، بهذا القدر الهائل، فكيف لا يقدر على بعث الناس، و قد فهم- بالتلازم- بطلان الشركاء، إذ الكون كله تحت قدرته وحده بلا شريك و لا ظهير سُبْحانَهُ أي أسبحه سبحانا، و أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي أنه رفيع، فإن الفعل منسلخ عن معنى الماضي، كما في سائر صفات الذات عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام، التي يشركونه بها.

[69] وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ قد تقرر في البلاغة، أن المضارع المتحقق وقوعه، يؤتى بصيغة الماضي، لإفادة أنه لمعلومية وقوعه، كأنه قد وقع و انقضى، و الصور بوق ينفخ فيه إسرافيل مرتين، مرة علامة لانقضاء العالم، و رحيل الجميع منه إلى الآخرة، و بذلك يموت الناس كلهم، و مرة علامة، لابتداء عالم الآخرة، و بذلك يحيى الناس كلهم، و هذا كالذي يصنعه أمير القافلة، حين إرادة الرحيل، و إرادة النزول، من النفخ في البوق، و المراد بهذا النفخ هنا هو الأول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 583

[سورة الزمر (39): آية 69]

وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)

فَصَعِقَ أي مات مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة و غيرهم وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من أفراد البشر و غيرهم إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ كالأملاك الأربعة، جبرئيل، و ميكائيل، و

إسرافيل، و عزرائيل، و غيرهم، و التفصيل في كتاب «البحار» ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور نفخة أُخْرى حين إرادة ابتداء القيامة، و الشروع في العالم الآخر فَإِذا هُمْ أي البشر و الملائكة، و غيرهم قِيامٌ أي قائمون من قبورهم، و هو جمع «قائم» يَنْظُرُونَ إلى المحشر، منتظرين ماذا يفعل بهم؟ و قوله «فإذا هم» للدلالة على سرعة قيامهم عقيب النفخة، فإن الإحياء فجائي.

[70] وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي بعدله سبحانه، كما يقال: أشرق البلد بنور فلان إذا أخذ بالزمام، حيث أنه يعدل و يحسن في مقابل سالف الأيام، التي كانت الأرض مظلمة، بظلم الظالمين وَ وُضِعَ الْكِتابُ أي وضعوا الكتاب في الوسط، و هو كتاب أعمال العباد، و كأنه كان قبل ذلك في زاوية بعيدة، ثم أتى به للمحاسبة، و هذا كما يقال للمحاسب: ضع الدفتر حتى نحاسب، و الكتاب اسم جنس يشمل كتب الخلائق كلهم وَ جِي ءَ في ساحة المحاكمة بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ جاء بهم الله سبحانه، ليحاكموا الأمم، و يشهدوا عليهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 584

[سورة الزمر (39): الآيات 70 الى 71]

وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71)

فالمراد بالشهداء الذين يشهدون على العباد بما عملوا، و هم صالحوا كل أمة، إذ كانوا في وسط الأمة ناظرين إلى أعمالهم، فيشهد الصالح الفلاني، بأن القوم، كانوا يضلون، و الصالح الفلاني، بأن القوم كانوا يشربون الخمر، و هكذا

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم الله، و من جعله حاكما هناك «بينهم» أي بين الناس بِالْحَقِ و العدل بإعطاء كل ذي حق حقه، بلا حيف و لا جور وَ هُمْ أي الخلق لا يُظْلَمُونَ في الحكم بأن ينقص من حق، أو يزاد اعتباطا.

[71] وَ وُفِّيَتْ أي أعطيت وافيا كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي يعطى كل إنسان حسب أعماله وافيا، فالمحسن يوفّى بالإحسان، و المسيئ بالنكال وَ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ في الدنيا، فيجازيهم حسب ما علم، بلا تغيير أو خطأ، أو زيادة و نقيصة.

[72] وَ بعد تمام الحساب سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ساقهم الملائكة بالجبر و العنف إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً جمع زمرة، و هي الفوج، أي يساقون زمرة فزمرة، و فوجا ففوجا، كل فوج مشتمل على متشابهي الأعمال، كالزناة و المقامرين، و هكذا حَتَّى إِذا جاؤُها أي وصلوا إلى جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها لهم، و هي سبعة أبواب، حتى يدخل كل فوج من الباب، المناسب بحالهم و المقرر لهم وَ قالَ لَهُمْ أي لأولئك الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 585

[سورة الزمر (39): آية 72]

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

خَزَنَتُها جمع خازن، و هو الموكل بالشي ء، أي الموكلون بجهنم أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيها المجرمون رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ أي يقرءون على مسامعكم آياتِ رَبِّكُمْ أدلته و حججه وَ يُنْذِرُونَكُمْ أي يخوفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي من مشاهدة هذا اليوم و عذابه، و هذا الاستفهام منهم، إنما هو على وجه التقريع و التبكيت، و إلا فالخزنة يعلمون ذلك قالُوا أي قال الكفار في جواب الخزنة بَلى قد جاءتنا رسل ربنا، و خوفونا من هذا اليوم وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ

عَلَى الْكافِرِينَ فإنا قد كفرنا، فثبت في حقنا ما قاله سبحانه، بأن من كفر يعاقب بالنار، و هذا، كما يقول أحدنا «هكذا مصيري» في يأس و انقطاع، و إنما لم يقولوا «علينا» مكان «على الكافرين» لإفادة، أن سبب عذابهم، هو كفرهم، فهو حكم مع ذكر العلة.

[73] و حينذاك قِيلَ و القائل الخزنة ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ادخلوها من أبوابها خالِدِينَ فِيها أي في حال كونهم باقين فيها أبد الآبدين فَبِئْسَ هذا المحل- في جهنم- مَثْوَى أي محل إقامة الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا في الدنيا عن الحق، حتى صاروا إلى هذا المكان.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 586

[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 74]

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74)

[74] وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ أي خافوا في الدنيا عذابه، فأطاعوه، فيما أمر و نهى، و إنما يساقون بإكرام و إعظام إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً زمرة فزمرة، كل فوج في أشكالهم، فالمصلون صلاة الليل زمرة، و التالون للقرآن زمرة، و هكذا حَتَّى إِذا جاؤُها أي وصلوا إليها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخل كل فوج من الباب المناسب لعمله المعدّ له، و للجنة ثمانية أبواب و الإتيان بالواو في «و فتحت» دون «فتحت» في الآية السابقة للتفنن الذي هو نوع من البلاغة وَ قالَ لَهُمْ أي لأهل الجنة خَزَنَتُها جمع خازن، و هو الموكل بالشي ء سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما بقصد التحية، و إما بمعنى، أن السلامة من الآفات و البليات عليكم، تظللكم دائما، و

لذا لم يقل «لكم» فإن «على» تفيد معنى الإحاطة و الشمول طِبْتُمْ أي صرتم طيبين هنا بسبب أعمالكم الطيبة في دار الدنيا فَادْخُلُوها أي ادخلوا الجنة، من أبوابها خالِدِينَ أي في حال كونكم، دائمين فيها أبد الآبدين، لا خروج لكم عنها، و كان الإتيان بواو العطف في الجملتين، لإيجاد فراغ في الذهن، حتى يبقى منتظرا لأصناف الكرامة، و ألوان اللذة، فليس الأمر ينتهي بقول الخزنة، و إنما، ل «حتى» جواب طويل عريض باق مدى الأبد.

[75] وَ قالُوا أهل الجنة بعد دخولها الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 587

[سورة الزمر (39): آية 75]

وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

صدق في وعده لنا بأنا إن عملنا صالحا أدخلنا الجنة وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أي أرض الجنة، نقلها إلينا، كالميراث الذي ينقل إلى الوارث، و لعل التعبير بلفظ الأرض، لبيان أنهم جازوا أرض الجنة، و غرفها، حيث قالوا بعد ذلك نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي نأخذ المنزل من قصورها، أيّ محل شئنا فما هو مقدر لنا- و في ذلك إشارة إلى سعة قصورهم، و أرض الجنة لكل إنسان- و «نتبوأ» من «تبوّأ» بمعنى اتخذ المنزل، أصله «باء» إذا رجع، إذ المنزل مرجع الإنسان، كلما خرج عاد إليه فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بالخيرات، الجنة.

[76] وَ تَرَى يا رسول الله، أو أيها الرائي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ قد أحاطوا بعرش الله سبحانه، و العرش هو موضع جعله الله سبحانه محلا تشريفيا، أحاطه بعنايته و لطفه، و جعله مصدر أمره و نهيه، كما أن البيت الحرام في الدنيا محل تشريفي له

سبحانه، ذاك بالنسبة إلى الملائكة، و هذا بالنسبة إلى البشر، و يلتذ المؤمنين بهذه الرؤية، كمن يلتذ إذا نظر إلى قصر الملك المحاط بالجيش، و رجال التشريفات، فإن الإنسان يتقوى روحيا إذا نظر إلى محل القوة و العزة، و هم يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهونه عما لا يليق به بسبب الحمد، فإذا قال الإنسان «سبحان الله» كان تنزيها فقط، أما إذا قال «الحمد لله» كان تحميدا و تنزيها، فإن وصف الممدوح بالجميل، حمد و تنزيه له عن القبيح، بخلاف التنزيه عن القبيح، فإنه ليس حمدا-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 588

كما مر- وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الناس بِالْحَقِ و هذا كموجز لما تقدم للتركيز عليه وَ قِيلَ و القائل كل من هنالك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و هذا هو منتهى أهل التقوى في الدنيا، و أكرم به من عاقبة جميلة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 589

40 سورة غافر مكية/ آياتها (86)

و تسمى أيضا بسورة «المؤمن» لاشتمالها على لفظي «غافر» و «مؤمن»، و هي كسائر السور المكية، تعالج قضايا العقيدة في أصولها الثلاث، الألوهية، و الرسالة، و المعاد، و لما ختمت سورة «الزمر» بالحمد لله رب العالمين، ابتدأت هذه السورة بذكر صفاته سبحانه، التي بها استحق الحمد.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، المستجمع لجميع صفات الكمال، شعارا للمؤمن في مقابل شعار الكفار الذين كانوا يبتدئون «باسم اللات» و نحوه، و شعار النصارى الذين يبتدئون باسم «الأب و الابن و روح القدس» و هكذا سائر الكفار و المنحرفين، و قد اعتادوا في زماننا أن يقولوا «باسم الشعب» في الحكومات الديمقراطية ..

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وصفان من مادة واحدة، إفادة لقوة الرحمة، في ذاته سبحانه، كما قال (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ

كُلَّ شَيْ ءٍ) «1».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 590

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)

[2] حم «حاء» و «ميم» و جنسهما من سائر حروف الهجاء، هي مادة هذا القرآن الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله، أو هو رمز بين الله و رسوله، أو أن معناه، الحميد المجيد، فهو ابتداء بعد البسملة، باسمين من أسمائه سبحانه، على طريق الرمز، أو غير ذلك.

[3] تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذا هو إنزال القرآن مِنَ قبل اللَّهِ الْعَزِيزِ الغالب سلطانه الْعَلِيمِ الذي يعلم كل شي ء، فيعلم الصالح من غيره، أو أن «تنزيل الكتاب» مبتدأ «من الله» خبره.

[4] غافِرِ الذَّنْبِ صفته، ل «الله» أي أنه سبحانه يغفر ذنوب عباده، و هذا على نحو القضية الطبيعية، لا أن معناه أنه سبحانه، يغفر كل ذنب وَ قابِلِ التَّوْبِ جمع توبة، كدوم جمع دومة، أو مصدر من تاب يتوب توبا، و المعنى إن من تاب و رجع إليه سبحانه، قبل توبته، و لم يرده عن بابه خائبا شَدِيدِ الْعِقابِ لمن كفر و عصى ذِي الطَّوْلِ الطول هو الإنعام الذي تطول مدته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي المرجع في المعاد، فهو إله واحد له الفضل، يغفر لمن استغفره، و يعاقب من عصاه، و بيده العاقبة.

[5] و إذ كان الإله واضحا وجوده و صفاته، من الآيات الكونية، فإنه ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على وجوده و صفاته

إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 591

[سورة غافر (40): آية 5]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5)

فإنهم يخاصمون حول أصل وجود الإله، أو صفاته، و إلا فالمصنف لا بد و أن يستدل من الآيات الكونية على وجوده سبحانه فَلا يَغْرُرْكَ يا رسول الله تَقَلُّبُهُمْ أي تقلب الكفار و تصرفهم فِي الْبِلادِ بالعزة و التجارة، بأن يوجب هذا التصرف للمشاهد شكا في أنه لو كان هناك إله لأخذهم أخذ مقتدر، و ضيّق عليهم المسالك، فهو يغتر، و يخدع- عن الحقيقة- بهذا التقلب و التصرف، فالخطاب، و إن كان حسب الظاهر متوجها إلى الرسول، إلا أنه في الحقيقة لإيقاظ الناس عامة، أو أن المخاطب هو العام، أي «لا يغررك أيها الناظر إلى الكفار».

[6] فإنهم إنما يتقلبون بمهلة الله لهم حتى يستنفدوا كل أمرهم، و تظهر ضمائرهم، و هناك الأخذ الشديد، كما كان يفعل سبحانه بالأمم السابقة، فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة قَوْمُ نُوحٍ رسولهم نوحا عليه السّلام وَ كذبت الْأَحْزابُ أي الأمم الذين تحزبوا على الرسل، رسلهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد قوم نوح، كعاد و ثمود و قوم لوط و قوم إبراهيم، و غيرهم وَ هَمَّتْ أي قصدت كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم المكذبة بِرَسُولِهِمْ قصد سوء لِيَأْخُذُوهُ أي يأخذوا الرسول، للحبس أو القتل أو النفي وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ أي خاصموا رسلهم بمجادلات و محاورات باطلة، حول الألوهية و الرسالة و المعاد لِيُدْحِضُوا أي يبطلوا بِهِ أي بسبب الجدال الباطل الْحَقَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 592

[سورة غافر (40): الآيات 6 الى 7]

وَ

كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7)

الذي أتى به الأنبياء فَأَخَذْتُهُمْ أي أخذت تلك الأمم بالعقاب، بعد أن لم يبق رجاء في هدايتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي لهم؟

و حذف ضمير المتكلم تخفيفا، و هذا تهديد لكفار مكة، بأنهم، إن تمادوا في غيهم، كان مصيرهم، كمصير أولئك الأقوام، و الاستفهام تقريري للإيقاظ و الإلفات.

[7] وَ كما ثبتت كلمة العذاب على أولئك الأمم الذين كذبوا الرسل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ثبتت كلمة ربك بالعذاب، بأن قال «سأعذبهم» و ستنطبق هذه الكلمة عليهم عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة، يا رسول الله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ إما بمعنى، لأنهم أصحاب النار، فلذا ثبت في حقهم عذاب الدنيا، أو «أنهم» تأكيد «حقت» فيكون التشبيه في «كذلك» من حيث أصل العذاب، و إن كان المراد بالعذاب في الأمم السابقة عذاب الدنيا و الآخرة، و في هذه الأمة في الآخرة فقط.

[8] إن أقرب الملائكة إلى الله سبحانه منزلة هم مؤمنون بالله، فكيف لا يؤمن هؤلاء؟ و أنهم يستغفرون للمؤمنين، فمن آمن فاز باستغفارهم، فليستبشر المؤمنون الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ و هم جماعة من الملائكة، خلقهم الله سبحانه، واضعين العرش على أكتافهم، زيادة في الهيبة و الجلال، كما لو شاهد الإنسان سرير ملك محمولا على جماعة من الأشراف، و من الواضح أن الملائكة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 593

لا يتأذون بذلك، كما أن العرش إنما هو محل شرّفه الله سبحانه، لا أنه محله؛ فإنه

منزه عن المكان وَ مَنْ حَوْلَهُ أي حول العرش من الملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ينزهون الله سبحانه، تنزيها بالمدح، فإن من قال زيد- مثلا- شجاع كان حامدا له و منزها له عن الجبن، بخلاف من قال أنه ليس بجبان، فإنه تنزيه فقط وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بربهم معترفين بوحدانيته، و سائر صفاته، و لعل تأخير الإيمان، عن التسبيح لأجل أن فيهم أظهر، فإذا رآهم أحد، سمع منهم التسبيح، أما الإيمان فإنه يعلم بالملازمة وَ يَسْتَغْفِرُونَ أي يطلبون من الله الغفران لِلَّذِينَ آمَنُوا من أهل الأرض، بأن يغفر الله لهم زلاتهم، و ما أسلفوا من الكفر و العصيان، و يقولون، إذ يريدون الاستغفار للمؤمنين، يا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً أي وسعت رحمتك كل شي ء، فارحم المؤمنين و اغفر لهم وَ عِلْماً فإنك تعلم أنهم مطيعون، و إنما يزلهم الشيطان، أو المراد، نطلب منك الغفران على علمك بزلاتهم، كما يقال «على علمك فاعف» يعني مع أنك عالم نطلب العفو، في مقابل طلب العفو من الذي لا يعلم، فإنه أسرع عفوا، إذ لا يعلم بالتفاصيل فَاغْفِرْ يا الله لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر و العصيان وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ أي طريقك الذي هو الإسلام وَ قِهِمْ أي و احفظهم، من «وقى» «يقي» و الأمر «ق» فالواو عاطفة عَذابَ الْجَحِيمِ حتى لا يعذبوا بها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 594

[سورة غافر (40): الآيات 8 الى 9]

رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

[9] يا رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ أي أدخل المؤمنين

جَنَّاتِ عَدْنٍ أي بساتين إقامة، من «عدن» إذا أقام الَّتِي وَعَدْتَهُمْ على ألسنة الأنبياء، و لعل هذا الدعاء بمعنى أثبتهم على الإيمان حتى يدخلوا الجنان، و إلا فالله سبحانه، يفي بوعده حتما، فلا حاجة إلى الطلب، أو أنه على طريق الضراعة و الانقطاع وَ أدخل الجنات مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي نسلهم، ليكمل أنسهم بذلك، فإن الإنسان، عند أحبائه آنس، و معنى من صلح، من آمن و عمل صالحا إِنَّكَ يا رب أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تشاء الْحَكِيمُ في أفعالك تفعلها، حسب الصلاح و الحكمة، و لقد كان من الصلاح، أن وعدتهم بالجنة، فأكمل ذلك لهم، بإدخالهم فيها.

[10] وَ قِهِمُ أي احفظهم، يا رب من السَّيِّئاتِ حتى لا يعملوا في الدنيا ما يوجب سخطك، و على هذا فجملة وَ مَنْ تَقِ مستأنفة للمشابهة، أو المراد قهم جزاء السيئات، أو أنواع العذاب التي هي سيئات، و على هذا فجملة «و من تق» تتمة وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ أي تحفظه من جزاء المعاصي يَوْمَئِذٍ أي في الآخرة فَقَدْ رَحِمْتَهُ رحمة عظيمة وَ ذلِكَ أي حفظهم من العذاب هناك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز مثله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 595

[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 11]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)

[11] و إذ يرون الكفار النار، و جزاء أعمالهم في الآخرة، يغضبون على أنفسهم، لم فعلوا ما يستحقون به هذه النار و النكال؟ فيناديهم الملائكة أنّ غضب الله عليكم بسبب أعمالكم أشد من غضبكم على أنفسكم!

و هذا لتأليمهم روحيا، فإن الإنسان إذا علم غضب الملك العظيم عليه يتألم كثيرا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ من قبل الملائكة يوم القيامة لَمَقْتُ اللَّهِ أي غضب الله عليكم أَكْبَرُ أي أشد و أكثر مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي من غضبكم على أنفسكم، و ذلك المقت إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ أي إن هذين المقتين، إنما كانا من وقت دعيتم إلى الإيمان فكفرتم.

[12] قالُوا و هم معترفون أذلاء، قد رفع عن أعينهم الغشاء، يا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ موتا حين كنا ترابا، و موتا بعد الحياة الدنيوية، أي جعلنا ميتا مرتين، و الإماتة بالنسبة إلى الموت الترابي، و إن كان خلاف المنصرف، إلا أنه غير بعيد، بالنسبة إلى ما ورد في أحوال الإنسان، حيث لا موت جديد، بعد الموت الدنيوي، و ما ورد أنه بالنسبة إلى الرجعة، فالظاهر أنه من باب المصداق، و إلا فالكفار كلهم لا يحبون الرجعة، و ظاهر الآية أنه بالنسبة إلى الكلي وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي حياتين، حياة بالتولد في الدنيا، و حياة بعد الموت في القيامة، و إنما يقول الكفار ذلك خضوعا و تخشعا، كالمجرم الذي يعترف بذنبه تخشعا، و يريدون بذلك اعترافهم، بأن أزمّة الأمور بأيدي الله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 596

[سورة غافر (40): الآيات 12 الى 13]

ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13)

فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا، حيث كفرنا بك و عصينا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ من حالة القيامة و النار، إلى الدنيا لنعمل صالحا مِنْ سَبِيلٍ و هذا طلب بتأدب خوفا و

وجلا من الطلب الصريح.

[13] لكن لا مجال لهم في الخروج، و يقال: (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) «1» (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) «2» ثم يقال لهم ذلِكُمْ العذاب الذي حل بكم، و «كم» خطاب بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ و إنه لا إله إلّا هو، كما كان يدعوه المؤمنون كَفَرْتُمْ و أنكرتم أن يكون واحدا وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ أي بالله تُؤْمِنُوا بالآلهة المتعددة كما كان يفعل المشركون فَالْحُكْمُ أي فصل هذه القضية، و الحكم عليكم في الآخرة بالنار و العذاب لِلَّهِ الْعَلِيِ الرفيع الذي لا شريك له، فهو أرفع من كل شي ء الْكَبِيرِ الذي لا أكبر منه، في ذاته و صفاته.

[14] ثم يأتي السياق ليبين بعض آياته سبحانه الدالة على وجوده، و سائر صفاته هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي أدلته الكونية، الدالة على ذاته و صفاته، و معنى الإرائة إيجادها، كالليل و النهار و المطر، أو إلفاتكم إليها، و إن كانت مستقرة ثابتة وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ أيها البشر مِنَ السَّماءِ رِزْقاً

______________________________

(1) المؤمنون: 101.

(2) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 597

[سورة غافر (40): الآيات 14 الى 15]

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)

و هو المطر الموجب لكل رزق، أو المراد أنه سبحانه يقدر في السماء أرزاقكم، فينزل الأمر به من هناك وَ ما يَتَذَكَّرُ أي يلتفت إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي يتوب، فإن التذكر المفيد، إنما هو تذكر التائب دون غيره.

[15] فَادْعُوا أيها البشر اللَّهَ وحده مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي في حال كونكم توجهون عبادتكم إليه، و تجعلون دينكم له دون غيره

وَ لَوْ كَرِهَ إخلاصكم و توحيدكم لله الْكافِرُونَ فلا تبالوا بهم.

[16] إنه سبحانه رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي يرفع درجات الناس في الجنة، فبيده الملك و الملكوت، و مثله يحق أن يعبد دون سواه، أو إن المعنى أنه سبحانه صاحب درجات رفيعة، و المراد بالدرجات الصفات، فهو ذو العلم الرفيع و الإحسان الرفيع، و الحلم الرفيع، و هكذا، فلا يبلغ شأنه شي ء من الأصنام، أو غيرها، حتى يجعل شريكا له، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ذُو الْعَرْشِ فله عرش السلطة، وحده بلا شريك و منازع يُلْقِي الرُّوحَ أي الحياة للبشرية، التي هي الوحي، فقد شبه الوحي بالروح، تشبيها بالروح الذي به حياة الإنسان، و في الوحي حياته الواقعية من العمى و الضلالة، أو المراد الروح لنبوة الشخص مِنْ أَمْرِهِ أي أن الإلقاء صار من أمره لا جبر له فيه، إذ قد يلقى الإنسان شيئا مجبورا من أمر غيره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و هم الأنبياء عليهم السّلام، و مشيئته سبحانه باعتبار صلاحية النبي لذلك،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 598

[سورة غافر (40): الآيات 16 الى 17]

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

لمؤهلاته النفسية لِيُنْذِرَ الله بسبب الإلقاء، أو ينذر الرسول يَوْمَ التَّلاقِ أصله «التلاقي» حذف الياء تخفيفا، حيث يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، كما عن الصادق عليه السّلام «1».

[17] يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي ظاهرون من قبورهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ أي من الناس شَيْ ءٌ فكل شي ء منهم من الأجساد، و الأعمال، و النوايا، منكشفة لديه سبحانه، و يقول الله

سبحانه، حينذاك لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ تقريعا للذين اغتصبوا الملك في الدنيا، و لمن أشركوا بالله بزعم أن لله شريكا في الملك، و يأتي الجواب من قبله أو قبل صلحاء الناس و الملائكة لِلَّهِ الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الذي يقهر الكون حسب ما يشاء.

[18] الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فالمحسن يجزى بالإحسان، و المسي ء بالإساءة لا ظُلْمَ على أحد الْيَوْمَ فلا ينقص من ثواب المحسن و لا يزاد على عقاب المجرم إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إن الآخرة قريبة، أو إن حساب الخلائق في ذلك اليوم، يكون سريعا، فلا مجال للّف و الدوران، كما في الدنيا، حتى يحتمل المجرم التملص.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 599

[سورة غافر (40): الآيات 18 الى 19]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)

[19] وَ أَنْذِرْهُمْ يا رسول الله، أي خوّفهم من العذاب يَوْمَ الْآزِفَةِ من أزف بمعنى دنى، و يسمى يوم القيامة، بالآزفة لدنوها، و الآزفة ليست رفعة لليوم- في المقام- و إنما مضاف إليها، نحو يوم القيامة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ فإن الإنسان إذا خاف كثيرا حدثت فيه الحرارة الزائدة، و لذا تنتفخ الرئة، و تكبر لجلب الهواء الكثير لتبريد القلب، فتضغط على القلب، و ترفعه عن موضعه، فيأتي قريب الحنجرة كاظِمِينَ أي في حال كونهم امتلأوا غما و غيضا، لكنهم كظموه و أخفوه، فلم ينطقوا بشي ء خوفا و رعبا، يقال: كظم فلان غيظه إذا أخفاه ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان من صديق هناك،

إذ أصدقاؤهم في الدنيا يفرون منهم وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فإن هناك لا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، و الإتيان ب «يطاع» لبيان النتيجة، أي لا خلاص لهم، و إلا فهناك لا شفيع لهم إطلاقا.

[20] و قد علم سبحانه جميع أعمالهم و نياتهم، فيجازيهم حسب الأعمال يَعْلَمُ تعالى خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي خيانة العين، بأن تنظر إلى ما حرمه الله تعالى، و إنما سمي خيانة، لأنها تنظر بسرقة و خيانة، لئلا يعرف الناس أنه نظر إلى الشي ء الفلاني وَ يعلم ما تُخْفِي الصُّدُورُ و تنويه فهو مطلع على النيات، و إنما نسب الاختفاء إلى الصدور، لأن القلب في الصدر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 600

[سورة غافر (40): الآيات 20 الى 21]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 649

وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21)

[21] وَ اللَّهُ يَقْضِي و يحكم في يوم القيامة بِالْحَقِ فهو القاضي الوحيد هناك وَ الأصنام الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم المشركون آلهة مِنْ دُونِهِ من دون اللّه لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إذ لا حكم لهم هناك، لا بحق، و لا بباطل، و الإتيان، للأصنام بضمير العقلاء، لتوحيد السياق بين كلام أصحابها، و كلام الله و المؤمنين إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الذي يسمع كل شي ء الْبَصِيرُ الذي يرى كل مرئي، أما الأصنام فهي جمادات، لا تسمع و لا تبصر، فكيف تتمكن أن تحكم؟

[22] أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا أي

يذهبوا و يسافروا، هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ هنا و هناك فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السابقة، الذين كذبوا أنبياءهم، كقوم هود و صالح و لوط و غيرهم، مما بقيت آثارهم الخربة في البلاد و الصحاري كانُوا هُمْ أي أولئك الأقوام أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار قُوَّةً في أبدانهم وَ أكثر آثاراً فِي الْأَرْضِ أي عمارة و بناء و زراعة و صناعة، جمع أثر و هو الذي يبقى بعد الإنسان أثرا له، و علامة منه فلما كفروا، لم تفدهم قوتهم و آثارهم، بل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أي عاقبهم، و أنزل عليهم العذاب بسبب ذنوبهم كفرهم و عصيانهم وَ ما كانَ لَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 601

[سورة غافر (40): الآيات 22 الى 24]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24)

لأولئك الأقوام مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ «الواق» أصله «واقي» من وقى، بمعنى حفظ، أي لم يكن لهم حافظ يحفظهم من بأس الله و عذابه، و هؤلاء إن تمادوا في كفرهم و عصيانهم كان مصيرهم مصير أولئك.

[23] ذلِكَ العذاب الذي نزل بهم، إنما كان لأجل كفرهم و تماديهم في العصيان بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بالآيات البينات أي الواضحات، و المعاجز الظاهرات الباهرات فَكَفَرُوا و لم يؤمنوا بعد إتمام الحجة فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بذنوبهم، بأن عذبهم و أهلكهم إِنَّهُ سبحانه قَوِيٌ يقوى على ما يريد شَدِيدُ الْعِقابِ فإذا عاقب أحدا تمكن من ذلك، و عقابه شديدا أليما.

[24] ثم مثل سبحانه لبعض أولئك الأمم الذين أهلكهم سبحانه، بنقل

قصة موسى و فرعون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع آياتنا و أدلتنا، كالعصا، و اليد البيضاء، و غيرهما وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ أي دليل واضح، فقد كان موسى عليه السّلام مزودا بحجة قوية يحتج و يستدل للألوهية، كما هو شأن الأنبياء عليهم السّلام، فلهم معاجز، و لهم أدلة منطقية على إرشاداتهم.

[25] إِلى فِرْعَوْنَ الملك وَ هامانَ وزيره وَ قارُونَ الطاغي الذي كان مؤمنا، ثم انحرف، و إنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم كانوا رؤساء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 602

[سورة غافر (40): الآيات 25 الى 26]

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26)

الكفار و المنافقين فَقالُوا عوض الإيمان ساحِرٌ كَذَّابٌ إنه يسحر في خوارقه، كذاب كثير الكذب، في ادعاءاته بوجود الإله، و أنه رسوله، و أن هناك دارا آخرة.

[26] فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى عليه السّلام بِالْحَقِ أي مع الحق الذي هو التوحيد و المعاد و الشريعة مِنْ عِنْدِنا أي كان من طرفنا، فإن الآتي بالحق، قد يكون غير مرسل، كالصلحاء و العلماء الذين يرشدون الناس قالُوا أي فرعون و هامان، و أشراف القبط اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ و هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ فقد أمر فرعون، قبل ولادة موسى بقتل أبناء بني إسرائيل، حيث أخبره منجم، بأنه يولد في بني إسرائيل ولد يكون على يده ذهاب ملكه، و أمر بعد نبوة موسى بذلك، حيث أراد عدم كثرتهم ليقوى الصف المخالف، كما كان يبقي النساء أحياء لاستخدامهن

و إذلالهن، لكن الله سبحانه منع عن ذلك بإرسال الضفادع و الجراد و القمل و الدّم- كما سبق- وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي أن ما يكيدون يضل و يضيع فلا يظهر له أثر مقصود.

[27] وَ قالَ فِرْعَوْنُ لمن حوله من الأشراف ذَرُونِي أي اتركوني، و لا تشيروا علي بالخلاف أَقْتُلْ مُوسى لأستريح منه، و قد قال ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 603

[سورة غافر (40): الآيات 27 الى 28]

وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

إظهارا لسطوته، و إلا فقد أراد غير مرة، قتل موسى، فلم يتمكن وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ بما شاء، فقد كان يخاف من دعوة موسى لله سبحانه، بإنزال العذاب عليهم، كما شاهد من قبل، و هذا كما يقول أحدنا، أفعل ذلك، كائنا ما كان، و قوله «ليدع» أمر يراد به الخبر، أي و إن دعا ربه عليّ، و إنما أريد قتل موسى ل إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ بأن يمنعكم عن عبادتي، و عبادة الأصنام، إلى عبادة الله أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ بأن يجهز الجيوش للحرب و القتال، فقتله يريحنا من إفساده في ديننا أو دنيانا.

[28] وَ قالَ مُوسى عليه السّلام- و كأنه قال ذلك لما سمع بإرادة فرعون قتله- إِنِّي عُذْتُ من عاذ، بمعنى لجأ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ يا بني إسرائيل، أو

أيها القبط، إن كان خطابه لهم مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ كفرعون الذي تكبر و لا يخاف المعاد.

[29] وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ بالله و بموسى مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي من ذويه، و قد كان ابن عمه، كما في بعض الأحاديث، و كان اسمه حزقيل يَكْتُمُ إِيمانَهُ عن فرعون و قومه أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 604

أي كيف تقتلون موسى، و هو يقول أمرا لا يضركم؟ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الواضحة، و هذا الكلام لا ينافي كتمان إيمانه، فإن الخصوم دائما يظهرون فيما بينهم حقائق خصومهم، و يعترفون بمزاياهم و فضائلهم مِنْ رَبِّكُمْ أي من طرف إلهكم و خالقكم، و قد كان حتى فرعون يعترف بالإله في خلواته، و لذا تضرع إليه سبحانه وقت انقطاع النيل وَ إِنْ يَكُ موسى كاذِباً في دعواه النبوة فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي أن ضرر كذبه يعود إليه، لا إليكم، فإن الكاذب يتضرر من كذبه وَ إِنْ يَكُ صادِقاً فيما يقول يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فإن موسى كان يعدهم بالهلاك و العذاب إن بقوا في كفرهم و طغيانهم، و إنما قال «بعض» تلطفا في الخطاب، و توسعا في الكلام، و كأنه قال، أقل ما في الأمر، أنه يصيبكم بعض ما يقوله موسى من نكال الدنيا و عذاب الآخرة، و معنى «يصيبكم» يصل إليكم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي بالألطاف الخفية الموجبة للسعادة الأبدية مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ أي متجاوز في العصيان حدّ المتعارف، أو متجاوز حدود الشريعة كثير الكذب، و قد أراد بهذا، إما فرعون و قومه بمعنى أنكم إذا قتلتم موسى، كنتم من المسرفين الكذابين، الكثيري التكذيب لما يقوله موسى

من الأمور المربوطة بالمبدأ و المعاد و الشريعة، و إما موسى عليه السّلام، بأنه إن كان موسى مسرفا كذابا، لم يهده ربه، و قد قال ذلك تأكيدا لقوله «وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 605

[سورة غافر (40): الآيات 29 الى 30]

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30)

[30] يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ و السلطة في هذا الْيَوْمَ في حال كونكم ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي غالبين عليها، فإن الإنسان صاحب السلطة يكون ظاهرا للناس يعرفوه، و لا يخفى عليهم فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟ من يمنعنا من عذاب الله، إن جاءنا عند قتل موسى، فإن هذا الملك يذهب، و يحلّ محله العذاب، و إنما قال «لكم الملك» إما تذكيرا بالنعيم، في مقابل التخويف بالعذاب، و إما لبيان، أن أصحاب السلطة دائما أقرب إلى سخط الله و نكاله، حيث أنهم يعصون كثيرا، فإذا تجمعت حل بهم العذاب، بخلاف غير أصحاب السلطة، الذين هم بمعزل عن العصيان، فيكون احتمال عقابهم أبعد، و بعد هذا النصح كله قالَ فِرْعَوْنُ القاسي المظلم القلب ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم إلا ما أراه صوابا في رأيي و فكري، فقتل موسى صواب في نظري وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أي ما أرشدكم إلّا الطريق الذي هو صحيح، و فيه الرشد و الهداية.

[31] وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من قوم فرعون و هو حزقيل يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ

أيها القوم إن تقدمتم إلى قتل موسى عليه السّلام أن يصيبكم مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ أي الأحزاب التي عارضت الرسل و كفرت، و لكل حزب يوم، و إنما جمعهم المؤمن، لبيان أن كل حزب، خالف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 606

[سورة غافر (40): الآيات 31 الى 33]

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

الرسل، حقت عليه كلمة العذاب، ثم فصل ذلك بقوله.

[32] مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ الدأب العادة، و معنى ذلك، أخاف عليكم، مثل سنة الله في قوم نوح، حيث أغرقهم سبحانه وَ عادٍ قوم هود النبي عليه السّلام وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من الأمم التي كذبت الأنبياء عليهم السّلام وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ فلا تفعلوا ما تستحقون الظلم بأنفسكم.

[33] وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أصله «التنادي» مصدر باب التفاعل، و إنما حذف الياء تخفيفا، و المراد به، إما يوم نزول العذاب، فإن فيه ينادي كل إنسان، صاحبه بالفرار و الحذر، و إما يوم القيامة، حيث ينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا) «1» و ينادي أهل الجنة أهل النار (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) «2»؟

[34] يَوْمَ تُوَلُّونَ عن العذاب، فأين منه مُدْبِرِينَ بزعم أن الفرار ينجي من عذاب الله ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يحفظكم من بأس الله أحد، فإذا جاء العذاب، لا يتمكن أن يمنع عنه مانع وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ

بأن تركه في الظلمات، حتى يفعل ما يشاء، و قطع عنه الألطاف

______________________________

(1) الأعراف: 51.

(2) المدثر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 607

[سورة غافر (40): آية 34]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)

الخفية، بعد أن أرشده إلى الطريق، فلم يقبل فَما لَهُ مِنْ هادٍ أي ليس له أحد يهديه، بأن يفيض عليه من ألطافه الخاصة، فاحذروا أن تكونوا من أولئك الزمرة.

[35] وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب بن إبراهيم عليهم السّلام مِنْ قَبْلُ أي قبل موسى عليه السّلام بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة الواضحة، فقد كان يوسف رسولا إلى أهل مصر، بالإضافة إلى كونه ملكا، و بعد يوسف، امتدت السلطات الخيرة، ثم المتوسطة، ثم الشريرة، حتى وصلت النوبة إلى فرعون، حيث قال «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَما زِلْتُمْ و المراد، لم يزل آباؤهم فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من التوحيد، فقد كان أهل مصر يعبدون الأصنام، في ذلك الزمان، و لذا قال يوسف، لأهل السجن:

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ) «1»؟ حَتَّى إِذا هَلَكَ أي مات يوسف، و هلك يستعمل في مطلق الموت، كما قال سبحانه (كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) «2» و إن كان يتبادر منه- أحيانا- موت السي ء قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كأنكم استرحتم من موت يوسف، كما يستريح المجرم من موت السلطان، إذ يتمكن من إبداء إجرامه، فأنتم- أيها القوم- مسرفون في الكفر و الضلال، قديما و حديثا، فلم هذا الكفر، و لم هذا الضلال؟ كَذلِكَ أي كما ترك

______________________________

(1) يوسف: 40.

(2) القصص:

89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 608

[سورة غافر (40): آية 35]

الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

الله سبحانه أسلافكم ضلّالا غير معتن بشأنهم، لمّا لم يؤثر فيهم إرسال الرسول، و إقامة الحجة يُضِلُّ اللَّهُ بترك لطفه عن مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في الكفر و الضلال مُرْتابٌ أي شاك في الله و المعاد و الشريعة، من ارتاب، بمعنى شك.

[36] ثم بين لهم كيف يقطع الله لطفه عن بعض الناس، حتى يتيهون في الضلال و الانحراف الَّذِينَ يُجادِلُونَ أي يعاندون فِي البحث، حول آياتِ اللَّهِ أي أدلته الدالة على وجوده و سائر صفاته بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي حجة أَتاهُمْ ذلك السلطان، من عقل أو نقل، فجادلهم عن الهوى، لا عن الدليل و البرهان كَبُرَ ذلك الجدال مَقْتاً أي من حيث المقت، فإن الغضب على ذلك المجادل كبير عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فالله يلعن المجادل، و المؤمنون يبغضونه كَذلِكَ أي بهذا النحو من الطبع، و هو ختم القلب على الكفر بعد أن جاء الهدى، فجادل بدون الدليل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فكبره عن الحق و تجبّره في الأرض، أورث، أن ختم الله على قلبه، و قد سبق أن القلب قابل لكل شي ء، فإذا أعرض الإنسان عن الحق إلى الباطل، يستمر إيحاء الباطل على قلبه في كل مناسبة، حتى يكون الباطل ملكة له، فلا يقبل الهدى أبدا، لا بالاضطرار، و إنما بالاختيار و النفرة عن الحق عنادا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 609

[سورة غافر (40): الآيات 36 الى 37]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ

الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)

[37] وَ قالَ فِرْعَوْنُ بعد أن سمع مواعظ حزقيل، و كأنّ هناك كان مجلس حوار بين حزقيل، و بين القوم يا هامانُ و هو وزير فرعون ابْنِ لِي صَرْحاً أي قصرا مشيدا عاليا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ بأن أصعد عليه، و أنظر هناك في ملكوت السماوات.

[38] ثم فسر «الأسباب» بقوله أَسْبابَ السَّماواتِ أي أسباب الاطلاع على السماوات، و ما فيها! فكما أن أسباب العز «السيارة» و أمثالها، كذلك أسباب الاطلاع على السماوات «المرتقى العالي» و «المجهر» و ما أشبه، فإذا بني بعضه كان الرجاء أن يبلغ فَأَطَّلِعَ بالنصب لأنه جواب بالفاء، أي إذا بلغت اطلعت إِلى إِلهِ مُوسى و قد قصد بهذا التمويه على الناس العوام، بأنه إن كان موسى صادقا، في أن له إلها خلق السماوات، فإني قادر على الاطلاع عليه و محاربته وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ أي أظن موسى كاذِباً و قد أراد بهذا الخداع للناس، في أنه منصف مع موسى، حتى يتورع أن يقال أنه علم كذبه، بل يريد الاستطلاع هل صدق موسى أم كذب؟ و إن كان ظنه أنه كاذب.

ثم قال سبحانه وَ كَذلِكَ أي كما زيّن لهؤلاء الكفار أعمالهم السيئة، أو كما ذكر من حكاية أعمال فرعون و أقواله زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ و المزين هو نفسه، أو الشيطان سُوءُ عَمَلِهِ أي رأى عمله السي ء حسنا وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي منع عن طريق الهداية و المانع له هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 610

[سورة غافر (40): الآيات 38 الى 40]

وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا

قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

الشيطان، أو نفسه الأمارة بالسوء وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ و مكره الذي عمله لإطفاء نور موسى إِلَّا فِي تَبابٍ أي هلاك و خسارة و اضمحلال، من «تبّ» بمعنى هلك و خسر، فلم ينفع كيده، لإطفاء نور موسى عليه السّلام.

[39] و لما رأى حزقيل إصرار القوم على ضلالهم، ألقى عليهم نصيحته الأخيرة وَ قالَ الَّذِي آمَنَ من قوم فرعون، و كان يكتم إيمانه يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ حذف ياء المتكلم تخفيفا، و بقيت الكسرة، دليلا عليه أَهْدِكُمْ جزم الفعل، لأنه في جواب الأمر، أي إن تتبعوني أهدكم سَبِيلَ الرَّشادِ، أي طريق الرشد، و المراد اتبعوا كلامي، فإن فيه الهداية و الرشد.

[40] يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، و «دنيا» مؤنث «أدنى» مَتاعٌ أي مورد انتفاع قليل، ثم يزول عن قريب وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ التي يستقر فيها الإنسان، أبد الآبدين، فلا تبيعوا آخرتكم بدنياكم، لتزول الدنيا عن أيديكم بعد قليل، و تخسروا الآخرة.

[41] مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أي مثل تلك السيئة، بلا زيادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 611

[سورة غافر (40): آية 41]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)

عليها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ مصدق بالله و رسله، و اليوم الآخر، بأن صحت عقيدته و عمله فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء لإيمانهم و

تصديقهم، و عملهم الصالح يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ فلا يعدّ ما يعطون من الأجر و الثواب، و إن كان كل شي ء عنده بحساب و عدّ، لا يغيب عن علمه شي ء، فآمنوا و اعملوا الصالحات، أيها القوم، حتى تنالوا ذلك الثواب العظيم، و لا تكفروا حتى تدخلوا في النار- و قوله، فلا يجزى إلا مثلها، لبيان لطفه سبحانه، و للمقابلة، و إلا فلم تكن هذه الخصوصية في معرض الكلام-.

[42] وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ؟ «ما لي» كان في الأصل استفهاما عن النفع العائد إلى الشخص، ثم استعمل في كل استفهام، بعلاقة، الجزئي و الكلي، كما يقال: ما لي أراك حزينا؟ أي لماذا تحزن، و المعنى، أخبروني كيف صرتم هكذا حتى إني أدعوكم إلى ما فيه نجاتكم من عذاب الدنيا و الآخرة وَ أنتم تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ بأن أشرك بالله، و أعصي حتى أستحق النار، و كأن المؤمن خرج هنا من كتم الإيمان، و جعل يحاورهم بصفته مؤمنا، و لذا قال سبحانه «فوقاه الله» كأنهم أرادوا قتله لما علموا إيمانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 612

[سورة غافر (40): الآيات 42 الى 44]

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44)

[43] ثم بين دعوتهم له بقوله تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بأن لا أعتقد بوحدانيته وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أجعل الصنم- الذي لا

علم لي بكونه إلها- شريكا لله تعالى، و قوله «ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإن من علم أن شيئا ليس بإله، فإنه لا يعلم ألوهيته، و لعل الإتيان بهذا التعبير، لعدم جرح عواطفهم، حتى يتألبون عليه وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الغالب في سلطانه، لا كالصنم الذي لا حول له و لا قوة الْغَفَّارِ فإنكم إذا آمنتم به غفر ذنوبكم.

[44] لا جَرَمَ «جرم» بمعنى قطع، و يستعمل مع «لا» بمعنى حقا، لأن الحق لا قطع فيه عن الواقع، كالكذب الذي فيه قطع عن الواقع إلى الخيال و الوهم أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الأصنام لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا فإنها لا تدعو أحدا لا في الدنيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ بل الله هو الداعي إلى عبادته و طاعته، أو المراد أنه لا يستجيب دعوة الداعي، لا في الدنيا، و لا في الآخرة، فأي نفع في عبادته وَ أَنَّ مَرَدَّنا أي رجوعنا، مصدر ميمي، من «ردّ» بمعنى رجع إِلَى اللَّهِ فكيف نترك طاعته و رجوعنا إليه؟ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في الكفر و العصيان، و تجاوزوا الحدّ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها.

[45] ثم هددهم، بأنهم إن لم يقبلوا كلامه يأتيهم يوم يذكرون فيه مقالته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 613

[سورة غافر (40): الآيات 45 الى 46]

فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

حيث لا ينفعهم التذكر فَسَتَذْكُرُونَ أيها القوم ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح يوم يأخذكم العذاب، أو يوم القيامة وَ أما أنا، ف أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ أي أكل

أموري إليه حتى لا يمسني السوء منكم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فهو يبصرني و يتمكن على نجاتي.

[46] و قد أراد القوم به سوء، إذ همّ فرعون بقتله، لكن الرجل، فرّ من بين أيديهم إلى جبل فَوَقاهُ اللَّهُ أي حفظه الله من سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا فإن مكرهم، كان يشتمل على نتائج سيئة من قتله و ما يلازم القتل من الإيذاء و الإهانة و ما أشبه وَ حاقَ أي أحاط و حل بِآلِ فِرْعَوْنَ و المراد هو و آله، فقد ذكرنا سابقا، أنه قد يقال «آل- فلان» و يراد هو و آله سُوءُ الْعَذابِ بالغرق في البحر في الدنيا.

[47] و ما في البرزخ، ف النَّارُ يُعْرَضُونَ أي آل فرعون عَلَيْها على النار غُدُوًّا صباحا وَ عَشِيًّا عصرا، بأن يعذبون كل يوم مرتين، مقابل المؤمنين، الذين لهم رزقهم بكرة و عشيا، و هذا عذاب برزخهم وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي إذا قامت القيامة، يقال للملائكة الموكلين بهم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أي هو و آله أَشَدَّ أنواع الْعَذابِ لكفرهم و طغيانهم، فقد نتج تمردهم تعذيبهم في العوالم الثلاثة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 614

[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 49]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49)

[48] و بمناسبة الحديث، عن عمل فرعون و اتباع قومه له، بدون تبصر و اهتداء، يأتي السياق لنقل جملة من حوار أهل النار وَ اذكر يا رسول الله إِذْ يَتَحاجُّونَ أي يتخاصم

الرؤساء و الأتباع فِي النَّارِ في الآخرة فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ عقيدة و إمكانية، و هم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من القادة و الرؤساء، أي تكبروا عن قبول الحق إِنَّا كُنَّا لَكُمْ معاشر الرؤساء تَبَعاً جمع تابع، كخدم جمع خادم، أو مصدر من قبيل «زيد عدل»، فقد كنا نسمع أوامركم، ضد الدين و الشريعة فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أي دافعون عنا نَصِيباً و قسما مِنَ النَّارِ التي أحاطت بنا؟

[49] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جواب الضعفاء إِنَّا كُلٌ أي كل واحد منا و منكم فِيها أي في النار، فلسنا خالين من العذاب، حتى نتحمل بعض عذابكم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن يتحمل كل جزاء ما عمله من شرك و عصيان.

[50] ثم إنهم يتوجهون إلى الملائكة الذين هم موكلون بالنار وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ بصورة عامة، من الأتباع و المتبوعين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 615

[سورة غافر (40): الآيات 50 الى 51]

قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)

خازن، و هو الحافظ، و المراد بهم الملائكة، الذين يتولون أمور أهل جهنم ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ حتى نستريح، و لو قليلا، و إنما يقولون ذلك لأنهم لا يطمعون في انقطاع العذاب.

[51] قالُوا أي قال الخزنة في جوابهم أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج القاطعة الواضحة، ثم عاندتم و لم تقبلوا قالُوا أهل النار في الجواب بَلى جاءونا، فلم نقبل قالُوا أي قالت الخزنة لهم بعد هذا الاعتراف فَادْعُوا أنتم، حتى يخفف

الله عنكم، فإنّا لا ندعو و ذلك لعلم الخزنة، بأن الدعاء لا يفيد وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ضياع و بطلان، فلا تفيد دعوتهم شيئا.

[52] ثم يرجع السياق إلى قصة الرسل، و من يعاندهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كما نصر سبحانه، حيث نرى، أنّ الدين واضح ظاهر، بينما معاندوا الأديان، ليس لهم إلا الخسران، و قد نصر سبحانه، عيسى، و موسى، و محمدا، و إبراهيم، و غيرهم، من الرسل عليهم السّلام بالأتباع الكثيرين، و علوّ الاسم و الاحترام، ففي دنيا اليوم، و نفوسها «ثلاثة آلاف مليون و خمسة عشر مليونا» «1» أكثر من

______________________________

(1) كان ذلك في وقت كتابة الكتاب أما الآن فنفوس العالم أكثر من ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 616

[سورة غافر (40): الآيات 52 الى 53]

يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53)

ثلثي العالم متدينون، و هل النصرة فوق هذا؟ و هل كان مقصد الرسل و المؤمنين بهم أكثر من هذا؟، أما من يتصور أن النصرة معناها، أن لا يقتل الرسول- أو المؤمنون به في ساحة حرب، و أن لا يهان، فقد اشتبه، ألا ترى أنه يقال: انتصرت الدولة الفلانية على الدولة الفلانية، و إن ذهب شبابها ضحايا، و أموالها نهبا، حين لم تسقط، و لم يستول عليها الأجنبي، و لم تمح عن الخارطة؟ وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ جمع شاهد، كأصحاب و صاحب، و المراد يوم القيامة، و هم الذين يشهدون على الناس، بالإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان.

[53] ثم بين وصفا لذلك اليوم، يناسب حال الكفار-

الذين كان الكلام حولهم- يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أي أن اعتذارهم من الكفر و العصيان، لا يفيدهم في دفع العذاب عنهم، و ليس كالدنيا حيث ينفع المعتذر عذره وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي البعد و الطرد عن رحمة الله و فضله وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي الدار السيئة، من إضافة الصفة إلى الموصوف.

[54] وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْهُدى أي الهداية، التي بها يهدي الناس إلى الحق- و هذا رجوع إلى قصة موسى عليه السّلام، التي سبقت، و تسلية للمؤمنين بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي أعطينا التوراة إرثا لهم، باعتبار الكتب السابقة، فكأن كتاب الله الذي فيه شريعته شي ء واحد، يتوارثه المؤمنون جيلا بعد جيل، و إن كان ذا قوالب متعددة، كالتوراة و الإنجيل و القرآن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 617

[سورة غافر (40): الآيات 54 الى 55]

هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (55)

[55] هُدىً أي لأجل هدايتهم إلى الحق و إرشادهم طريق السعادة وَ ذِكْرى أي و لأن يكون مذكرا بالله و برسله و بالمعاد- مما يكمن في فطرة كل إنسان، بصورة إجمالية- لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول جمع لب، و هو العقل.

[56] فَاصْبِرْ يا رسول الله على أذى قومك، فإن مصيرك و مصير المؤمنين، كمصير موسى، الذي غلب على فرعون، و مصير بني إسرائيل، الذين علا كعبهم على أعدائهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، و إهلاك الكفار حَقٌ مطابق للواقع، لا كذب فيه، وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فإن الأنبياء كانوا يعدّون اشتغالهم بالأمور الدنيوية الضرورية ذنبا، ألا ترى، أن

من أصابه وجع الرجل، حتى لا يتمكن من جمعها، إذا اضطر إلى أن يبسطها في مجلس أمام أناس محترمين، اعتذر منهم، و طلب عفوهم؟ مع أن عمله ذاك ضروري ليس باختياره، و هكذا أشغال الأنبياء الدنيوية، أمام الله سبحانه، و إن كانوا مضطرين إليها كل اضطرار تقويما للبدن، فإنه بنظرهم ذنب، أمام الله الذي ينبغي أن لا يشغل عنه الإنسان، و لو طرفة عين، و هناك قول، بأن الآية على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه بالحمد، فإن الإنسان إذا أثنى على الله بالعلم مثلا، كان حمدا و تنزيها عن الجهل، في آن واحد بِالْعَشِيِ و هو من زوال الشمس إلى الليل وَ الْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و المراد الاستمرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 618

[سورة غافر (40): الآيات 56 الى 57]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57)

على الاستغفار و التسبيح.

[57] إِنَ الكفار الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي يخاصمون الرسول و المؤمنين في إبطال آيات الله و أدلته الكونية، و خوارق الأنبياء بِغَيْرِ سُلْطانٍ أي بغير دليل أَتاهُمْ من عقل، أو شرع، و إنما يجادلون عبثا و اعتباطا بعد ما تم عليهم الحجة إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي ليس احتجاجهم، و خصامهم، إلا لأجل أن في صدورهم، تكبرا عن قبول الحق، و لكن ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي لا يبلغون ما يريدون من العظمة التي تمنعهم عن قبول الحق، فإن الله سبحانه

يذلّهم، حتى لا يبلغوا كبرياءهم، و من غريب الأمر، أن الإنسان يرى كل متكبر عن الحق هكذا أنه يظن إن هو قبل الحق يهان، و يجرح كبرياءه، فلا يقبل، بل يتكبر، زعما بأنه، إن فعل ذلك يصل إلى عظمة، و ارتفاع في المجتمع، و الأمر دائما خلاف ذلك، فالحق يعلو، و المتكبر يذل فَاسْتَعِذْ يا رسول الله بِاللَّهِ من شر هؤلاء الكفار المتكبرين، أو من الابتلاء، بمثل هذا النحو من الكبر الصادف عن الحق إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لقولك و استعاذتك الْبَصِيرُ بما يجول في خاطرك، و ما أنت عليه من الخضوع للحق، و القبول له.

[58] و كيف يتكبر هؤلاء الكفار، و هم يرون حولهم السماوات و الأرض، و خلقهما، أكبر من خلقهم؟ و الإنسان العاقل، إذ رأى نفسه وسط هذا الكون الفسيح، لا بد و أن يتضاءل، و يعترف بصغر نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 619

[سورة غافر (40): الآيات 58 الى 59]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بما فيهما من عجيب الصنع، و صفوف الخلق أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ و لعل التعبير بأكبر، لأن خلق الإنسان أدق، و لذا لما خلق الله الإنسان، قال: (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) «1» وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك لأنهم لا يتفكرون، و الإنسان إذا لم يتفكر في الكون يغتر بنفسه و يتكبر.

[59] إن الكفار كالأعمى، حيث أغلقوا بصائرهم عن الإدراك، و التفكر، و المؤمنين كالبصير، لأنهم فتحوا منافذ عقولهم، فأدركوا الحقائق وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى

وَ الْبَصِيرُ كما هو واضح لكل ذي عقل وَ لا يستوي الَّذِينَ آمَنُوا بالله و اليوم الآخر، و ما يلزم الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة وَ لَا الْمُسِي ءُ الذي أساء بالكفر و العصيان قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ «ما» مصدرية، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة، و هي عدم استواء الكافر و المؤمن، و المحسن و المسي ء، أو أن «ما» مصدرية، أي قليل تذكرهم لهذه الحقيقة، و هي عدم استواء الكافر و المؤمن، و المحسن و المسي ء، أو أن «ما» تأكيدية.

[60] إِنَّ السَّاعَةَ أي القيامة لَآتِيَةٌ تأتي قطعا لا رَيْبَ فِيها أي

______________________________

(1) المؤمنون: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 620

[سورة غافر (40): آية 60]

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

ليست محل ارتياب، و إن ارتاب فيها المبطلون، و هذا كما نقول «لا شك أن هذه شمس» و إن شك فيها السوفسطائيون وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بإتيان الساعة لكفرهم، أو عدم رسوخ الإيمان في أعماقهم.

[61] و إذ جرى حديث الإيمان و المتكبرين عن قبوله، يأتي السياق لتوجيه الناس إلى الله سبحانه بالدعاء و الضراعة إليه، و أن من تكبر عنه، فجزاؤه النار، فالإيمان و الدعاء، كلاهما توجه إلى الله، و الاستكبار عن الإيمان و عن الدعاء كلاهما ابتعاد عنه، و هنا مناسبة أخرى، أن لا ييأس الكافر و العاصي، فإن أبواب الدعاء بطلب التوبة و نحوه مفتوحة وَ قالَ رَبُّكُمُ أيها الناس ادْعُونِي اطلبوا حوائجكم، صغيرها و كبيرها أَسْتَجِبْ لَكُمْ «استجب» مجزوم جوابا للأمر، أي إن تدعوني، أستجب لكم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي و من جملتهم من يستكبر عن الدعاء، إذ الدعاء قسم من

العبادة، فإن العبادة اعتراف الإنسان بسيادة الله، و العمل طبقه، و الدعاء قسم منه سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ في الآخرة، و لذا جي ء، ب «السين» داخِرِينَ من دخر، بمعنى ذل و صغر، و هم صاغرون، في مقابل تكبرهم، في الدنيا عن الدعاء، و لا يقال: كيف قال سبحانه «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» و إنّا نرى أن كثيرا من الأدعية لا تستجاب؟ فإن الجواب، أن القضية طبيعية، أي أن من طبيعة الدعاء أن يستجاب، كسائر القضايا، فلو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 621

[سورة غافر (40): آية 61]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61)

قلنا: الشمس مشرقة أو النار محرقة، أو العقار الفلاني مقوي، أو ما أشبه، لم يناف مع عدم إشراق الشمس وقت الكسوف، أو عدم إحراق النار إذا لم يشأ الله، كنار إبراهيم، أو عدم تقوية العقار في بدن بلغ من الضعف إلى حيث لا يتمكن من هضم العقار، و هكذا في سائر القضايا، فإن الملحوظ، في أمثالها الطبيعة، لا كل فرد، و الطبيعة قد يمنع عنها مانع، أو عدم تمامية المقتضى، و قد قال سبحانه (وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) «1»، فمن لم يف بعهده سبحانه، بأن ارتكب الكفر و العصيان، لم يكن عليه سبحانه، أن يفي بما عهد، و كذا قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «2» فمن لم يتق، لم يكن لدعائه، قبول و استجابة .. و لا يقال: إنا لا نرى الفرق البين بين الداعي و غيره، فلكل منهما مشاكل و لكل منهما سعادة؟ إذ الجواب أنه منقوض بمن يقول: إنا لا نرى فرقا بين من يراجع الطبيب،

و بين من لا يراجع، فإن لكليهما صحة حينا و مرض حينا آخر، و الحلّ: إنا نرى الفرق شاسعا، فالداعون، أسعد هناء عيشا، و أقل مشكلة من غيرهم، و هذا يعلم، عند المقايسة الدقيقة، كما هو الجواب عن مثال مراجع الطبيب و غيره.

[62] ثم بين سبحانه جملة من الآيات الكونية، الملفتة إلى وجوده تعالى، و سائر صفاته اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ معاشر البشر اللَّيْلَ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أو إلى طلوع الشمس لِتَسْكُنُوا و تستريحوا، من الأتعاب فِيهِ بالنوم و الراحة

______________________________

(1) البقرة: 41.

(2) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 622

[سورة غافر (40): الآيات 62 الى 63]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

وَ جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً أي موجبا، لأن تبصرون فيه حوائجكم و سبلكم، فتشتغلوا و تسيروا إلى مآربكم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يتفضل عليهم بأنواع النعم، بدون استحقاق منهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله، بل يجحدون بها و يكفرون به.

[63] ذلِكُمُ ذا إشارة إلى الله سبحانه، جاعل تلك الآيات المذكورة، و «كم» خطاب للسامعين اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ، فهو بالإضافة إلى جعله تلك الأمور، و كونه ربا لكم، خالق لكل شي ء موجود في الكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له من صنم، أو بشر أو ملك أو غيرها، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي إلى أين تصرفون أيها المشركون حيث تتخذون مع الله شريكا له؟ من أفك بمعنى انصرف و قلّب الأمر، و لذا يسمى الكذب إفكا.

[64] كَذلِكَ أي كما أفك هؤلاء بالشرك بالله، بعد رؤية الآيات يُؤْفَكُ

و يصرف عن الحق الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ من الأمم السابقة، فكل جاحد للآيات الكونية، لا بد و أن يصرف عن التوحيد إلى الشرك، و الذي يأفك هؤلاء نفوسهم الأمارة، و رؤساؤهم الكافرون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 623

[سورة غافر (40): آية 64]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)

[65] اللَّهُ وحده، هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي تستقرون عليها وَ جعل السَّماءَ بِناءً أي بناها بناء، و المراد بالسماء الأفلاك و الهواء، التي قد أحكمت إحكاما دقيقا، و إن لم يكن جسما ملموسا، حتى إن هذا الإحكام لو أزيل، لاختلت الحياة، و اضطربت الأرض و الكون وَ صَوَّرَكُمْ أي أعطاكم الله الصور أيها البشر فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي أجملها و زينها، و المراد بالصورة هنا أعم من الشكل و اللون و الحجم، فإن الصورة تطلق على ذلك، كما تطلق على اللون فقط، أو الشكل فقط، أو الحجم و الكيفية فقط وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي خلقها من ماء عذب، و أثمار شهية و ألبان و عسل و سائر المطاعم، بل و المشارب و المساكن و المناكح و العلوم و غيرها، فإن الجميع داخلة في الرزق، و المراد بهاتين القضيتين، كغالب القضايا الطبيعية، فلا ينافي ذلك عدم حسن صورة بعض الأفراد، أو عدم رزقهم الطيب طيلة عمرهم ذلِكُمُ «ذا» إشارة إليه سبحانه الذي فعل ما تقدم و «كم» خطاب للبشر اللَّهُ رَبُّكُمْ أيها البشر، و لا شريك له في ذلك فَتَبارَكَ اللَّهُ أي جلّ سبحانه، فإنه الدائم الذي ينمي الأشياء، و يجعل فيها الخير و البركة- و

قد تقدم معنى تبارك- رَبُّ الْعالَمِينَ عالم الإنسان و الملائكة و الحيوان و الجن و غيرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 624

[سورة غافر (40): الآيات 65 الى 66]

هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66)

[66] إن الذي أنعم عليكم بهذه النعم هُوَ الْحَيُ المطلق الذي لا موت له لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له و لا ظهير فَادْعُوهُ أيها البشر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي دعوة بإخلاص في دينكم و طريقتكم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن له الحمد وحده، حيث أن كل شي ء محمود منه، لا يشركه فيها أحد، و اللام في الحمد للجنس، أي أن جنس الحمد له، أما من جعل اللام للاستغراق، فقد ابتعد عن سياق الكلام.

[67] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار إِنِّي نُهِيتُ نهاني الله سبحانه أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي تدعونها آلهة و هي سوى الله سبحانه لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحات على التوحيد، أي حين أتاني الحجج و البراهين مِنْ رَبِّي أي من قبله سبحانه، و ذلك الحين قبل خلق آدم، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين»

«1» فلا تدل هذه الآية على أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قبل نزول القرآن، غير عارف ببعض المعارف وَ أُمِرْتُ من قبله تعالى أَنْ أُسْلِمَ في جميع أعمالي و عقائدي لِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي يملك العوالم كلها، و هو المدبر و المربي الوحيد لها، و الإسلام

هو

______________________________

(1) مفتاح الفلاح: ص 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 625

[سورة غافر (40): الآيات 67 الى 68]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

الاستسلام و الانقياد.

[68] هُوَ الله تعالى وحده الَّذِي خَلَقَكُمْ أيها البشر مِنْ تُرابٍ فإن الإنسان تراب، ثم يكون نباتا، و النبات يأكله الحيوان، فيكون لحما و قسما من اللحم و قسما من التراب يأكله معا الإنسان، فيكون دما في جسمه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الدم ينقلب منيا، و هو النطفة ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و هو المنى المتحول إلى علقة من الدم ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا و المراد، كل واحد منكم طفلا، فلا تنافي بين الإتيان، ب «كم» جمعا، و ب «طفلا» مفردا ثُمَ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ و هو حال استكمال القوة و الشباب ثُمَ يبقيكم لِتَكُونُوا شُيُوخاً جمع شيخ، و هو الكبير السن، البالغ عمر الشيخوخة و الضعف وَ مِنْكُمْ أيها البشر مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يبلغ سن الشباب أو الشيوخ و يموت بعضكم قبل ذلك، وَ يفعل الله ذلك بكم لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي المدة التي سميت في اللوح المحفوظ، فإن الله سبحانه، قدر لكل إنسان أجلا محدودا لا يتجاوزه وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي و لكي تتفكروا و تعقلوا أمر دينكم، فإن خلق الإنسان، و إبلاغه الأجل المسمّى إنما هو للتعقل و التفكر.

[69] و هُوَ الله الَّذِي يُحْيِي الناس من التراب، ثم يحييهم بعد موتهم

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 4، ص: 626

[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 71]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)

ليوم القيامة وَ يُمِيتُ الإنسان بعد حياته فَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لفظا، أو إرادة فَيَكُونُ و يوجد في الخارج، و هذا لدفع استبعاد الحياة بعد الموت، فإن الله الذي تمكن من خلق الإنسان، يتمكن من إعادته بعد الموت.

[70] أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله، أو أيها الرائي إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي المشركين الذين يريدون إبطال الآيات و الحجج الدالة على وجود الله و صفاته، و يوم القيامة أَنَّى يُصْرَفُونَ أي إلى أين من الضلال، يصرفهم الشيطان و أنفسهم الكافرة.

[71] الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بأن لم يؤمنوا بالقرآن، و نسبوه إلى الكذب وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من الشرائع و الأحكام، بأن لم يقبلوا ما جاء به الأنبياء من الأصول و الأحكام فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ في القيامة، عاقبة تكذيبهم بالكتاب، و بالشريعة.

[72] إِذِ ظرف ل «يعلمون» أي يعلمون سوء أعمالهم حين تكون الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ كما يغل المجرم في الدنيا، و الغل في العنق، إما للإهانة و الألم، و إما للربط وَ السَّلاسِلُ في أعناقهم يُسْحَبُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 627

[سورة غافر (40): الآيات 72 الى 74]

فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74)

أي يجرّون، و الأغلال جمع غل، و هو طوق يدخل

في العنق، و السلاسل جمع سلسلة، و هي حلق حديدية متشابكة يربط بها المجرم.

[73] فِي الْحَمِيمِ متعلق ب «يسحبون» أي يجرون في المحل الحار المنتهي حرارته غايتها ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ من سجّر التنور، إذا أوقده، و لعل المعنى يكونون وقودا في النار، حتى تشعل النار بهم، كما قال سبحانه (وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ) «1».

[74] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ تقول لهم الملائكة الموكلة بالنار، على وجه الإهانة و الإذلال أَيْنَ ذهبت ما كُنْتُمْ أي الأصنام التي كنتم تُشْرِكُونَ أي تجعلونها شريكة لله سبحانه؟

[75] مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق ب «تشركون» فإنهم لما كانوا يعبدون الله، و يعبدون الأصنام، استثنى «الله» سبحانه قالُوا أي المشركون في الجواب ضَلُّوا عَنَّا أي ضاعوا عنا، و لا نجدهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في الدنيا شَيْئاً، و هذا إما يقولونه إنكارا، لعلهم يتخلصون بهذا الإنكار، من تبعة عبادة الأصنام، كما في آية أخرى يقولون (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «2» و إما أن مرادهم، أن ما كنا ندعوا

______________________________

(1) البقرة: 25.

(2) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 628

[سورة غافر (40): الآيات 75 الى 76]

ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

في الدنيا، لم يكن شيئا يستحق العبادة، و ينفع أو يضر، نحو

«يا أشباه الرجال و لا رجال»

فقد نفوا الذات مريدين نفي الصفة كَذلِكَ أي كما أبطل الله سبحانه عبادة هؤلاء للأصنام يُضِلُّ اللَّهُ سائر الْكافِرِينَ فلا يهديهم طريق الجنة، و يبطل عبادتهم و أعمالهم، أو المعنى يضلهم في الدنيا، بأن يتركهم و شأنهم، حين رآهم لم يقبلوا الهدى، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية، حتى يعملوا

ما ينتفعون به في الآخرة.

[76] ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى العذاب الذي يحيط بهم، و «كم» خطاب بسبب ما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ بأن كنتم تبطرون و تتكبرون بالأعمال الإجرامية وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ من مرح، و هو الفرح بالباطل بتوسع فهو أخص من الفرح، و هكذا يكون المجرمون دائما، إن فرحهم بالباطل، و هم يوسعون في الفرح، بخلاف المؤمنين الذين فرحهم بالحق، و هم يفرحون بقدر، حيث يعلمون أن وراءهم يوما مهولا، كما قال الله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) «1».

[77] ادْخُلُوا أيها الكفار أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي من أبوابها السبعة، كل فوج، حسب بابه و أعماله في حال كونكم خالِدِينَ فِيها إلى الأبد، لا انقطاع لعذابها، و لا خلاص لكم منها فَبِئْسَ مَثْوَى من «ثوى»

______________________________

(1) القصص: 77.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 629

[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

بمعنى اتخذ المحل، أي المنزل الْمُتَكَبِّرِينَ الذين تكبروا عن قبول الحق، و الظاهر أن هذا الكلام تأكيد للكلام السابق، و هو «يسحبون في الحميم، ثم في النار يسجرون» لا إنّ ذلك، كان قبل دخولهم جهنم، و إن كان محتملا، بأن يكون هناك أنهر من المياه الحارة، و الأودية النارية، فيسحبون أولا، في تلك المياه، و يعذبون بتلك النار، ثم يدخلون في النار.

[78] ثم يرجع السياق إلى الرسول ليصبّره عما يلاقي من الأذى في سبيل

البلاغ فَاصْبِرْ يا رسول الله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لك بالنصر و الأجر و لأولئك بالعذاب و الإذلال و الانهزام حَقٌ لا خلف فيه فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية، و «ما» الزائدة نُرِيَنَّكَ يا رسول الله بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فإن الله وعدهم عذاب الدنيا و الآخرة، و المراد بالبعض عذاب الدنيا أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ بأن نقبض روحك قبل تعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ في الآخرة، لنعذبهم العذاب الشديد، و ليس من المهم عذابهم هنا، حتى يحتم أن تراه، و إنما المهم أنهم لا يفوتوننا، و معنى «إلينا» إلى حكمنا و عقابنا.

[79] و قد كان الكفار يطلبون من الرسول، أن يأتيهم بالخوارق، كعصا موسى، و إحياء عيسى، فيأتي السياق، لردّ هذا الطلب، فقد أتى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن الذي هو أعظم الخوارق حجة و دليلا، فمن كفر بعد ذلك، فهو معاند، أما الإتيان، بسائر الآيات، فذلك حسب إرادة الله، إن شاء جاء بها و إن لم يشأ لم يأت- بعد أن تمت الحجة- أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 630

[سورة غافر (40): آية 79]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79)

الخوارق لإثبات وجود الله سبحانه، فهي الآيات الكونية المثبوتة، في كل جهة من جهات الكون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أحوالهم، كإبراهيم، و نوح، و موسى، و عيسى، و لوط، و يونس، و غيرهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ أحوالهم، كسائر الأنبياء عليهم السّلام، بل الأكثر منهم، لم تقص أحوالهم في القرآن- و ليس المهم القصة- وَ إنما المهم أنه ما كانَ لِرَسُولٍ أي لم يكن حسب مقدوره أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ أي بمعجزة خارقة

إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأن يأذن اللّه للرسول حتى يتمكن أن يؤتي بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بهلاك القوم، بعد أن أتاهم الرسول بالخارقة، و لم يؤمنوا قُضِيَ عليهم بالهلاك و الدمار بِالْحَقِ بسبب أنهم عاندوا فاستحقوا العقاب وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ خسروا دينهم و دنياهم، و في هذا تلميح، بأنه إنما لا يؤذن للرسول بالخارقة، لأنه إن جاءهم بالخارقة و لم يقبلوا استحقوا العقاب، و الله سبحانه لا يشاء عقاب هؤلاء بهذه العجالة.

[80] ثم يأتي السياق، ليذكر جملة من الآيات الكونية، الدالة على وجوده تعالى و صفاته، و التي هي أحسن من الخارقة الموقتة، ألا ترى أنه لو صنع إنسان صنعا، هل يحتاج بعد ذلك أن يأتي بدليل على وجوده،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 631

[سورة غافر (40): الآيات 80 الى 81]

وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

أو علمه، بمجي ء خارق؟ اللَّهُ وحده هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي خلقها لكم، و المراد بالأنعام، الإبل و البقر و الغنم لِتَرْكَبُوا مِنْها أي بعضها و هي الإبل وَ مِنْها أي من جميعها تَأْكُلُونَ لبنا و لحما.

[81] وَ لَكُمْ أيها الناس فِيها مَنافِعُ من جهة الصوف و الشعر و الوبر، و حمل الأثقال، و غير ذلك وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها لمقاصد بعيدة، و الوصول إليها حاجة في صدوركم، و هذا أخص من الركوب، الذي سبق في الآية المتقدمة، فإن الركوب أعم من ذلك، و أهمية هذا القسم من الركوب، هي التي أوجبت تخصيصها بالذكر، و قوله «لتبلغوا» عطف على «لتركبوا» وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ

تُحْمَلُونَ الأنعام للبر، و الفلك، و هي «السفينة» للبحر، و تكرار «عليها» تمهيد ل «على الفلك» فمن يا ترى جعل كل ذلك؟ و هل يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى خارقة للبرهنة على وجود الله، أو صفاته؟

[82] وَ يُرِيكُمْ الله سائر آياتِهِ و أدلته الدالة على وجوده، و سائر صفاته، من الآيات الآفاقية و الأنفسية، إما بخلق جديد، أو بإلفاتكم إلى المخلوق السابق فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أيها البشر، تنكرون وجودها، أو دلالتها على الله المتصف بالعلم و القدرة، و سائر الصفات؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 632

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 83]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83)

[83] و بعد الاحتجاج على الكفار بصنوف الاستدلال لتهديدهم، إن تمادوا في الغي و الضلال، و إنه يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة، لما تمادوا في الكفر و الطغيان أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي يسافروا هؤلاء الكافرين فِي الْأَرْضِ إلى الشام و إلى اليمن فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة، و النظر إنما هو بالنظر إلى أراضيهم و طلالهم، و السؤال عن أحوالهم، من الساكنين هناك كانُوا أولئك الأمم أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وَ أَشَدَّ قُوَّةً بدنية و علمية و غيرهما وَ أكثر آثاراً فِي الْأَرْضِ بالزراعة و العمارة و الصناعة، و نحوها فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم في دفع العذاب عنهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي ما كسبوه من البنيان و العمارة و الأموال و

القوى، و غيرها.

[84] فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة البينة الواضحة، الدالة على وجود الله، و سائر صفاته فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي فرح الكفار بعلمهم الوراثي التقليدي حول الأصول، و استحقروا علم الرسل وَ استهزءوا بما أتت به الرسل، ف حاقَ أي حل و أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب، فقد كان الكفار يستهزءون بما يعدهم الرسل من العذاب، و أخيرا وقعوا فيه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 633

[سورة غافر (40): الآيات 84 الى 85]

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

[85] فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عذابنا النازل بهم قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شريك، كما قال الرسل وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أي بالأصنام التي كنا نشركها بالله.

[86] فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا و عذابنا، كما قال سبحانه (وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) «1» سُنَّتَ اللَّهِ أي سنّ الله عدم قبول إيمان من نزل به العذاب سنّة الَّتِي قَدْ خَلَتْ و سبقت و استمرت فِي عِبادِهِ الكفار، و ذلك لأن العذاب لا ينزل إلا بعد أن يظهر عناد الكفار، بحيث يعلم أنهم لا يؤمنون باختيارهم أبدا، و هذا و إن كان معلوما لله سبحانه من الأزل إلا أن مظهره ذلك وَ خَسِرَ هُنالِكَ عند نزول العذاب الْكافِرُونَ بأن ذهبت دنياهم و آخرتهم، فلم يفوزوا بما أعدّ الله للصالحين من الثواب و الجنان.

______________________________

(1) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 634

41 سورة فصلت مكيّة/ آياتها (55)

سميت هذه

السورة، ب «فصلت» لاشتمالها على هذه الكلمة، و سميت ب «حم السجدة» لابتدائها، ب «حم» و وجود السجدة الواجبة فيها، فأضيف «حم» إلى السجدة، لتميزها عن غيرها من «الحواميم» و هي كسائر السور المكية، تحوم حول العقيدة بأصولها الثلاث، و لما ختم سبحانه سورة المؤمن «غافر» بذكر الذين يتكبرون عن آيات الله سبحانه، و الإيمان به، ابتدأ في أوائل هذه السورة، بذكرهم، و ما كانوا يقولون حول الإيمان.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله المستجمع لجميع صفات الكمال، ذي الرحمة الموكّدة التي وسعت كل شي ء، و ذكر الله بصفة خاصة، يستمطر من تلك الصفة على الذاكر، فمن أكثر ذكر، الغني، يغني، و من أكثر ذكر، العظيم، يعظم، و من أكثر ذكر المؤمن يقوى إيمانه، فالإكثار من ذكر «الرحمن الرحيم» يوجب اتصاف الذاكر بالرحم، هذا بالإضافة إلى إيجابه أن يرحمه الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 635

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)

[2] حم أي هذا حم، أو «حاء» و «ميم» «تنزيل» و قد تقدم في فواتح السور بعض التي منها أنها رموز بين الله و الرسول، و منها أنها للإشارة، إلى أن القرآن المعجز من جنس هذه الحروف التي تتلفظون بها ليل نهار، و قال بعض: أن الكفار تبانوا أن يصفقوا و يلفظوا عند قراءة الرسول، استهزاء و منعا للناس عن الاستماع، فكان كلما وجد مثل هذا المجال، افتتحت السورة بالمقطعات، لأنهم كانوا ينصتون لها لما قد دهشهم، فيلقى الوحي الموقظ.

[3] تَنْزِيلٌ أي أن القرآن تنزيل مِنَ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ذي الرحمة المكررة، فإنه يرحم

العباد في الدنيا و الآخرة، و يرحمهم بالحياة، و سائر اللوازم، إلى غيرهما من الأقوال في وجه التكرار- و قد تقدم بعضها-.

[4] هو كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بيّنت آياته تبيانا تاما، بحيث، لم تجمل و لم تدمج، بل أوضحت، كما يقال، فصلت الأمر لزيد، حيث أوضحه له و ذلك، لأن التفصيل و التوضيح متلازمان غالبا، و هذا لا ينافي إجمال بعض الآيات لحكمته، لأن القضية طبيعية، أي أن طبيعة القرآن، تفصيل آياته و توضيحه في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا بهذه اللغة التي يفهمها أهل الجزيرة و القرآن، من قرأ، بمعنى جمع بعضه إلى بعض، و أنه يقرأ، كما أنه يسمى كتابا لأنه يكتب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي أنزل هذا القرآن، لأهل العلم، و إنما خصوا بذلك- مع أنه عام- لأنهم هم المستفيدون منه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 636

[سورة فصلت (41): الآيات 4 الى 5]

بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)

[5] في حال كون هذا القرآن بَشِيراً للمؤمن و المحسن، بالجنة و الثواب وَ نَذِيراً للكافر و العاصي، بالنار و العقاب، و ذلك بما اشتمل عليه من آيات الوعد و الوعيد فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر المخاطبين به- إلى حين نزول هذه السورة- و المراد بهم أهل مكة فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ القرآن، استماع تفكر و تعقل و فائدة.

[6] وَ قالُوا أي الكفار المعرضون قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي في أغطية، فإن «أكنة» جمع «كن» و هو الغطاء مِمَّا تَدْعُونا يا محمد إِلَيْهِ من التوحيد و المعاد، و سائر الأصول و الفروع، فلا نفقه ما

تقول، كالشي ء الذي عليه غطاء، حيث لا ينفذ فيه البصر و السمع لحيلولة الغطاء بينه و بين الإبصار و الاستماع، و كانوا يقولون هذا القول استهزاء بالرسول و القرآن وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ أي حمل ثقيل، فلا نسمع ما تلفظ منه، من آي القرآن وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ يا محمد حِجابٌ لا نراك و لا ترانا فقلبنا و سمعنا و بصرنا، غير مستعدة لك و لكلماتك، و كما كان قوم نوح يفعلون ذلك (وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) «1» فقوم الرسول، كانوا يقولونه قولا فَاعْمَلْ يا محمد على طبق وحيك إِنَّنا عامِلُونَ على طبق تقاليدنا، و هذا يشبه الاستهزاء أو التهديد، قريب من قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «2».

______________________________

(1) نوح: 8.

(2) الكافرون: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 637

[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 7]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)

[7] قُلْ يا رسول الله في جواب هؤلاء الأشخاص، إنني لست شخصا عجيبا، حتى أستحق، كل هذه الأقوال الفارغة بل أنا بشر يوحي الله إليّ لإرشادكم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي من هذا الجنس، فلا أدعي لنفسي مقاما فوق هذا، منتهى الأمر، أنه يُوحى إِلَيَ من قبل الله سبحانه أَنَّما إِلهُكُمْ أيها الكفار إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له، كما تزعمون فَاسْتَقِيمُوا في عقيدتكم و أعمالكم إِلَيْهِ استقامة منتهية إليه سبحانه دون انحراف إلى اليمين أو الشمال وَ اسْتَغْفِرُوهُ أي اطلبوا غفرانه فيما سلف من معاصيكم وَ وَيْلٌ أي الهلاك و النكال، فإن «ويل» كلمة تطلق للأمر السيئ أيّا ما كان لِلْمُشْرِكِينَ الذين

يشركون بالله سبحانه.

[8] ثم بين سبحانه أظهر صفات المشركين بقوله الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي لا يعطونها، و الظاهر أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق، لا الزكاة المفروضة، لأنها لم تكن وجبت في مكة، و السورة كما عرفت مكية، و هذا لأجل أن المشرك لا يعتقد بالله و اليوم الآخر، حتى ينفق، فالذم راجع إلى عدم الاعتقاد، لا إلى عدم الإعطاء، حتى يقال، لو كانت الزكاة مندوبة، لم يكن وجه للويل؟ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إنما كرر «هم» تأكيدا، و بيانا للتلازم بين الكفر و بين عدم الإيمان بالآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 638

[سورة فصلت (41): الآيات 8 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)

[9] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و بما يجب الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الملازم لعدم عمل السيئات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي جزاء على أعمالهم غير مقطوع، فإن «ممنون» من «منّ» بمعنى «قطع» أو من «المنّ» بمعنى الأذى الذي يكدّر الإحسان، أي غير مكدّر بالمن.

[10] قُلْ يا رسول الله منكرا على الكفار أَ إِنَّكُمْ أيّها الكافرون لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي كيف تكفرون بهذا الإله العظيم، الذي خلق أرضكم الوسيعة- هذه- في مدة يومين فقط؟

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أي أضدادا، أو أمثالا، من الأصنام، تعبدونها معه، ذلِكَ الذي خلق الأرض رَبُّ الْعالَمِينَ فليس دونه إله و لا شريك له.

[11] وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية، أي الجبال

الثابتات، من «رسى» بمعنى ثبت مِنْ فَوْقِها أي من فوق الأرض، حتى أنتم تشاهدونها وَ بارَكَ فِيها أي جعل في الأرض البركة و النمو، فليس ما في الأرض جامدا لا ينمو، إنما فيها الثمار و الحيوان و غيرهما من أنواع الخيرات وَ قَدَّرَ فِيها أي في الأرض أَقْواتَها جمع قوت، و هو الرزق، بأن قدّر لكل إنسان و حيوان رزقه و مأكله فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي في تتمة أربعة أيام، فيومان للخلق، و يومان للتقدير، و هذا كما يقال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 639

[سورة فصلت (41): آية 11]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11)

خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما يراد في خمسة، حتى تمت السفرة في خمسة عشر سَواءً أي أربعة أيام مستوية، كاملة من غير زيادة و نقصان لِلسَّائِلِينَ عن مدة خلق الأرض، و تقدير الأقوات فيها، و قد أوصل بعض انهزاميتهم الغربية على أن يتصرف في الآية و يطبقها على العلم الحديث، فيقول بأن «يومين» يعني «ألفي مليون سنة» إلى آخر أمثال هذه الثرثرة الفارغة، و من غريب الأمر أن نرى أناسا يهتبلون كل كلمة غربية و إن قالها رجل في كتاب، و يتركون ظواهر الكتاب و السنة، و لم؟ لإرضاء الغرب و المتغربين، كأنهم لم يسمعوا قوله (وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) «1» و رفع اليد عن الظاهر، لا يكون إلا بدليل قاطع من عقل أو نقل، و إلّا، حصل التزلزل في جميع أصول الإسلام و فروعه، ثم ما المانع في أن يكون الخلق

في مقدار يومين من أيامنا، كما هو الظاهر؟

[12] ثُمَّ اسْتَوى الله سبحانه إِلَى السَّماءِ أي قصد نحو خلقها، يقال:

استوى إلى مكان كذا، بمعنى توجّه إليه توجها، لا يلفته شي ء، و الإتيان ب «ثم» للتفاوت بين الخلقين، لا للتراخي بين الزمانين وَ هِيَ دُخانٌ أما المراد هو الدخان المتعارف، بأن خلق سبحانه أولا دخانا، ثم جعله سماء، أو المراد الهواء المتخلخل بالماء، الذي صعد من ضرب الماء بعضه ببعض، و سمي دخانا لشباهته به، فإن الدخان هواء متخلخل بالرماد، و كلاهما يرى في النظر على نحو واحد، و هل هناك

______________________________

(1) البقرة: 121.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 640

[سورة فصلت (41): آية 12]

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

في المدارات، ما أصله الدخان، مما يشبه هوائنا المجاور للأرض، أو المراد من خلق السماء خلق الكواكب من الدخان؟ أو غير ذلك؟

احتمالات فَقالَ الله سبحانه لَها أي للسماء- فإنها مؤنثة سماعية- وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا و أقبلا السير على وفق حكمتنا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً و هذا كناية عن تطلب الحركة منهما، كما يتطلب الإنسان من العاقل شيئا قالَتا أَتَيْنا و انقدنا للأوامر طائِعِينَ جمع طائع، و هذا كناية عن خضوعها التكويني، لما أجرى الله فيهما من السنة، كما يقال: قلت لداري لا تهدمي، فامتثلت، يراد أنها لم يحن بعد وقت انهدامها، و يحتمل بعيدا أن يكون هناك خطاب حقيقي، و جواب حقيقي، فإن ظاهر (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) «1» إن للأشياء مرتبة من الإدراك و التجارب، و إنما قال «طائعين» لأن الجمع قد يستعمل بمعنى الجنس، أو باعتبار تغليب العقلاء

الذين فيهما.

[13] فَقَضاهُنَ أي صنع السماوات، و أحكم خلقهن سَبْعَ سَماواتٍ مدارات للكواكب السيارة- كما قالوا- أو هناك طبقات تسمى كل طبقة سماء، و لا حجة في قول علماء الفلك على النفي، إذ الفضاء وسيع مدهش، و لم يدرك الإنسان حسب اعترافهم إلّا شيئا ضئيلا في الفلك، نسبة إلى ما لم يدرك كنسبة الذرة إلى الصحراء الوسيعة فِي يَوْمَيْنِ أي مقدارهما- كما هو الظاهر- وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها بأن دبّر

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 641

[سورة فصلت (41): الآيات 13 الى 14]

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)

أمرها، فإن الوحي يطلق على التيسير حسب الصلاح و الحكمة، نحو (وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) «1» أو المراد أوحى إلى الملائكة الذين فيها، بأمور السماء و تنظيم شؤونها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي السماء القريبة من الأرض بِمَصابِيحَ أي النجوم، فإن جعل الفضاء الملاصق للأرض، بحيث يخرقه النور، حتى يراه الإنسان قد تزيّن له، و إنما سمى الكواكب مصابيح، لأنها كالمصابيح تضي ء وَ حِفْظاً أي لأجل الحفظ، فإن الكواكب مراكز لرجم الشياطين، الذين يريدون اختلاس الكلمات، التي تدار هناك حول الأرض، فإنهم يرجمون من الكواكب بالشهب ذلِكَ الذي ذكر تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه الغالب على كل شي ء الْعَلِيمِ بالمصالح.

[14] فَإِنْ أَعْرَضُوا أي أعرض هؤلاء الكفار عن الإيمان فَقُلْ يا رسول الله لهم أَنْذَرْتُكُمْ أي أخوّفكم صاعِقَةً أي عذابا، و إنما سمي العذاب صاعقة، لأنه يصعق الإنسان و يهلكه، و التأنيث، باعتبار أنها وصف للنار

النازلة من السماء، في العذاب غالبا مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ أي كعذاب قوم هود و صالح، حيث لم يؤمنوا فأهلكوا.

[15] إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أي نزل بهم العذاب حين أتتهم رسل الله

______________________________

(1) النحل: 69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 642

[سورة فصلت (41): آية 15]

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15)

مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أي من كل طرف من أطرافهم قبلهم و بعدهم، حتى يحيطوا بهم لعلهم يؤمنوا- و هذا كناية عن إصرار الرسل عليهم بالإيمان، أو المراد أنذروهم من جهة دنياهم و آخرتهم، إن لم يؤمنوا، قائلين لهم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فلا تشركوا به عبادة الأصنام، لكن هؤلاء الأقوام لم ينفعهم الإنذار، بل قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا أن نؤمن به وحده، و لا نشرك به شيئا، و لا نفعل المعاصي- كما تقولون- لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً لدعوتنا إلى هذه الأمور فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ إذ لا نعتقد بأنكم رسل من الله تعالى.

[16] فَأَمَّا عادٌ قوم هود عليه السّلام فَاسْتَكْبَرُوا و تجبّروا فِي الْأَرْضِ حين وصفوا أنفسهم فوق حقيقتهم، بل رأوها أعظم من الإيمان بالله و اتباع رسله بِغَيْرِ الْحَقِ فلم يكن ترفيعهم نفوسهم بالحق لعلم أو إيمان، أو ما أشبه، بل لمجرد الظلم و الطغيان وَ قالُوا مغترين بقواهم البدنية و المالية، و ما أشبه مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً حتى يتمكن من تعذيبنا، فقد هددهم نبيّهم بالعذاب، إن تمادوا في الطغيان، فقالوا نحن نقدر دفعه، إذ لا أقوى منا، حتى يتمكن من تعذيبنا، و قد ردهم الله سبحانه بقوله

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً فلو شاء أهلكهم، و لم يتمكنوا من دفع عذابه بقواهم، التي هي من قبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 643

[سورة فصلت (41): الآيات 16 الى 17]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)

الله أيضا وَ كانُوا بِآياتِنا أي أدلتنا الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون و لا يعترفون.

[17] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ الريح الصرصر، هي الريح الباردة من الصرّ بمعنى البرد، أو هي الريح العاصفة، ذات الصوت الشديد، و الصيحة المزعجة، و نحسات، جمع نحس، و هي الأيام المشؤومة المنحوسة، و إنما كانت الأيام نحسات، لما يحدث فيها من العذاب، و النكال، و إنما أرسلنا هذه الريح عليهم لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي العذاب الذي يخزيهم و يذلهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في هذه الحياة القريبة قبل حياة الآخرة وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَخْزى أكثر إذلالا لهم وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ أي لا ينصرهم أحد من بأس الله تعالى.

[18] وَ أَمَّا ثَمُودُ قوم صالح عليه السّلام فَهَدَيْناهُمْ أي بيّنا لهم طريق الخير و الشر و الإيمان و الكفر فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي اختاروا التعامي عن الحق على الهداية، و سلوك طريق الدين، و معنى استحب طلب حب الشي ء فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي العذاب ذو الذلّ و الهوان، صعقهم و أهلكهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من تكذيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 644

[سورة فصلت (41):

الآيات 18 الى 20]

وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18) وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20)

صالح و عقر الناقة- كما مرت قصتهم سابقا-.

[19] وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا في هاتين القصتين وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي، فلم يصيبهم العذاب.

[20] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يُحْشَرُ أي يجمع أَعْداءُ اللَّهِ و هم الكفار و العصاة إِلَى النَّارِ أي منتهين إلى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم ليلحق بهم آخرهم، من وزع، بمعنى حبس، و منع و المعنى إذا حشروا حبسوا هناك على حافة النار قبيل دخولها، و فيه زيادة إهانة و إرهاب.

[21] حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي وصلوا إلى النار، و «ما» زائدة جي ء بها، لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور- كما في الصافي- شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ بالاستماع إلى المحارم وَ أَبْصارُهُمْ بالنظر إلى المحرمات وَ جُلُودُهُمْ بلمس الحرام، من أخذ، و مشي عليه، و زنا، و ما أشبه بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من أنواع المعاصي، كما قال سبحانه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» فإن الله سبحانه، يجعل فيها حاسة النطق و التكلم، كما جعل في اللسان.

______________________________

(1) يس: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 645

[سورة فصلت (41): الآيات 21 الى 22]

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)

[22] وَ قالُوا أي قال

أعداء الله لِجُلُودِهِمْ و الظاهر أن المراد تغليب الجلود، لا أن خطابهم خاص بها لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ حتى نبتلي بالعقاب، و تتم الحجة علينا، يقولون ذلك معاتبين قالُوا أي قالت الجلود في جوابهم، و إنما جي ء بلفظ العاقل، لأنهم حيث أخذوا في التكلم، صاروا كأنهم عقلاء أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ من الأشياء الناطقة، و إنما جي ء ب «كل شي ء» لأن الجلود من الأشياء، و ليست من الأشخاص، فقد ردفت ردف «اللسان» في الإنسان، و الطيور الناطقة و نحوهما وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الظاهر أنه جملة مستأنفة خطاب من الله للكفار في الدنيا، أي كيف تنكرونه، و هو خالقكم؟

وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة، و الرجوع إنما هو إلى حكمه و حسابه و جزائه، و يحتمل أن يكون هذا من تتمة كلام الجلود- و لكن بتأوّل-.

[23] ثم رجع السياق إلى كلام الجلود مع الكفار يوم القيامة، إذ تقول لهم «ما سترتم المعاصي خوف شهادتنا عليكم، بل كان ستركم لها ظنكم بعدم علم الله إن سترتم» و تريد الأعضاء أن تثبت بهذا الكلام، رذيلة أخرى على الكفار- فوق ارتكابهم العصيان- و هي أنهم كانوا يظنون عدم علم الله تعالى بأحوالهم و اطلاعه على عصيانهم، و هذا كما لو قال الشاهد للمجرم: إنك لم تخف مني، و لذا لم يكن سترك من خوفي، و إنما كان سترك للجريمة، لأنك لا تعتقد بعقاب الحاكم لك وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ المعاصي بإتيانها في السرّ مخافة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 646

[سورة فصلت (41): الآيات 23 الى 24]

وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ

الْمُعْتَبِينَ (24)

أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ فإنكم لم تكونوا تخافون منها، حتى يكون ستركم للعصيان خوفا من هذه الجوارح وَ لكِنْ كان ستركم حيث ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فكنتم ترون أن الله لا يعلم السرائر، و إنما يعلم العلانية فقط، فأسررتم المعاصي، حتى لا يعلم بها اللّه سبحانه.

[24] وَ ذلِكُمْ «ذا» إشارة و «كم» خطاب ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أي أهلككم، و المعنى أن ظنكم بأن الله لا يعلم سركم، هو الذي أوجب هلاككم، إذ نزّلتم الله سبحانه، دون منزلته، و أنكرتم علمه الشامل، حتى هانت لديكم المعاصي، فأدى إلى الكفر، و في الإعراب «ذلكم» مبتدأ، و «ظنكم» بدل منه، و «أرداكم» خبر فَأَصْبَحْتُمْ أيها الكفار مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا دنياهم و أخراهم،

روى عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال ينبغي للمؤمن، أن يخاف الله خوفا، كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء، كأنه من أهل الجنة، إن الله تعالى يقول «وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ... الآية» ثم قال، إن الله عند ظن عبده، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر

«1».

[25] و بعد هذا كله، فحق هؤلاء الكفار النار فَإِنْ يَصْبِرُوا على ما يلاقون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 311.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 647

[سورة فصلت (41): آية 25]

وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25)

من النيران و الهوان فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي منزل لهم من «ثوى» بمعنى اتخذ المنزل، و المعنى أن صبرهم لا ينفعهم، كما كان

ينفع في الدنيا وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي ليطلبوا العتبى، و هي بمعنى «الرضا» أي يطلبوا رضاه سبحانه عنهم حتى ينجيهم مما فيه فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ بصفة اسم المفعول- أي ممن يرضى عنه، فإن المعتب هو الذي يقبل عتابه، و يجاب إلى ما سأل.

[26] و قد جرت عادة الله في الكون، أن الإنسان، إذا عاشر الأخيار، يقودونه إلى الخير، و إن عاشر الأشرار، يقودونه إلى الشر، و إذا انحرف الإنسان لما رأى الهدى، لا بد و أن يلتحق بقافلة الأشرار، و هذا معنى تهيئة الله لرفقاء السوء، فإنه حيث جرت سنته الكونية على ذلك نسبت التهيئة، لقرين السوء إليه وَ قَيَّضْنا أي هيئنا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار قُرَناءَ جمع قرين، و هو الصديق المقارن للإنسان فَزَيَّنُوا أولئك القرناء لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمور الدنيا الحاضرة، بأن زينوا لهم الكفر و العصيان وَ ما خَلْفَهُمْ من أمور الدنيا الآتية، كتأسيس أسباب الفسق و العصيان، كالبدع الباقية، و بناء محلات الفساد، و ما أشبه ذلك، و لعل العموم شامل للشياطين أيضا، كما قال سبحانه (وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) «1»

______________________________

(1) الزخرف: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 648

[سورة فصلت (41): آية 26]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت في حقهم العذاب، فقد صاروا في قطيع الكافرين، و أهل النار، فهم داخلون فِي أُمَمٍ كافرة كانت قَدْ خَلَتْ و مضت مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل هؤلاء الكفار مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فهؤلاء داخلون في زمرة أولئك إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ حيث خسروا سعادة الدنيا و

الآخرة.

[27] ثم يأتي السياق لبيان حال الكفار، أمام القرآن و صنيعهم لإبطاله، و عدم وصوله إلى الناس وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة، بعضهم لبعض لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ الذي يقرأه الرسول، لئلا تتأثروا به، و يجذبكم إلى الإيمان وَ الْغَوْا فِيهِ أي عارضوه باللغو الباطل لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ الرسول، فقد كان بعض الكفار، إذا قرأ الرسول القرآن، جاءوا، و رفعوا أصواتهم بالكلام الهدر، ليخلطوا على الرسول، فلا يتمكن من القرآن، و لئلا يسمع الناس الذين يستمعون إلى كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يؤثر فيهم القرآن، و فوق ذلك، إن بعض الكفار، كان يقف على باب المسجد الحرام، فإذا أراد أحد الدخول، في المسجد للطواف- و الرسول جالس قرب الكعبة يتلو- ملأ أذنه قطنا، و يحذره من سماع القرآن، قائلا أن فيه سحرا يؤثر، كما فعلوا ذلك بالوفد الذي أتى من المدينة، للإصلاح بين الأوس و الخزرج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 649

[سورة فصلت (41): الآيات 27 الى 29]

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

[28] فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالقتل و الأسر و الضنك، و غيرها، و في الآخرة بالنار و الهوان وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي نجازيهم بأقبح أعمالهم، أما أعمالهم الحسنة، فإنها تحبط، أو نجازيهم بأقبح جزاء في مقابل العصاة المعادين الذين لا يجازون إلا بالقبيح.

[29] ذلِكَ الذي تقدم من «أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ»

جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ «ذلك» مبتدأ، و «جزاء» خبره، و النَّارُ بدل من «جزاء» أي ذلك الذي ذكرنا هو النار لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ فهم مخلدون في النار أبد الآبدين جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرون الآيات الدالة على وجودنا، و سائر صفاتنا، من الآيات التكوينية و التشريعية، كالقرآن الحكيم.

[30] وَ إذ دخل الكفار النار، أرادوا الانتقام من الذين أضلوهم في الدنيا، و قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و المراد بالجن الشيطان، و المراد الطائفتين لا الشخصين، فهم يريدون الانتقام من الشياطين الموسوسين لهم، و البشر المضلين إياهم، لكي نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا في النار، لنسحقهم، أو ليكونوا أشد عذابا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 650

[سورة فصلت (41): الآيات 30 الى 31]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 4 660

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31)

إذ طبقات النار كلما سفلت ازدادت حرارة و نكالا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ أي من جملتهم، حتى يكون عذابهم أكثر من عذابنا، و هنا لا يأتي الجواب، و قد مرّ في آية أخرى، أنه سبحانه يقول (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) «1».

[31] في مقابل أهل النار أهل الجنة الذين آمنوا و عملوا الصالحات إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي اعتقدوا ذلك، لا مجرد لقلقة لسان ثُمَّ اسْتَقامُوا في العمل و السلوك بالإيمان، بما يلزم الإيمان به و العمل الصالح تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ إما دائم الأوقات،

فإن الملائكة تنزل على الأخيار، و إن لم يروها «2» أو

عند الموت- كما روي عن الصادق عليه السّلام

«3» و يؤيده ظاهر الآية- قائلين لهم أَلَّا تَخافُوا من أهوال الآخرة وَ لا تَحْزَنُوا و هو بعد الخوف، فإن الإنسان، إذا علم بالمكروه، أو وصل إليه حزن وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في الدنيا.

[32] ثم يقولون لهم على وجه التبشير نَحْنُ معاشر الملائكة أَوْلِياؤُكُمْ أحبائكم و نلي أموركم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنا معكم لا

______________________________

(1) الأعراف: 39.

(2) راجع تأويل الآيات: ص 524.

(3) بحار الأنوار: ج 56 ص 162.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 651

[سورة فصلت (41): الآيات 32 الى 33]

نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

يصيبكم مكروه ما دمتم في الحياة- و هذا لا ينافي كون التنزل عند الموت، إذ يراد به حينئذ هذه الساعات القلائل التي بقيت من أعمارهم في الدنيا- وَ فِي الْآخِرَةِ حيث نهديكم الطريق إلى أن تصلوا إلى الجنة، فإن الإنسان من أحوج ما يكون إلى المرشد و الصديق في محلات الأهوال و الأحزان وَ لَكُمْ فِيها أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من أنواع الملذات و الكرامات وَ لَكُمْ فِيها أي في الآخرة ما تَدَّعُونَ أنه لكم، من «ادّعى» «يدعي».

[33] ثم يرونهم، بأنها من إحسان الله إليهم، حتى تبهج نفوسهم بالكرامة، كما بهجت بالملذة نُزُلًا أي في حال كون هذا الإنعام، بما تشتهي الأنفس إنزالا مِنْ غَفُورٍ لذنوبكم رَحِيمٍ بكم، و الإنزال إنما هو باعتبار علو مرتبة المعطي، لا الرفعة المكانية.

[34] ثم يأتي السياق توجيه الناس إلى دعوة الرسول، و أنها ليست إلا إلى الخير، و للخير، فلما ذا يفر منها الكفار و العصاة؟ وَ

مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا استفهام يراد به النفي، أي لا أحد أحسن قولا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ الذي هو خالق البشر و مالك كل شي ء وَ عَمِلَ صالِحاً الملازم لعدم السّيئ وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين أسلموا لله تعالى، في كل أمر و نهي، و ممن أرشد و دعا، فهو مسلم، عامل للصالحات، داع إلى الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 652

[سورة فصلت (41): الآيات 34 الى 35]

وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

تعالى، و هل هناك أحسن منه؟

[35] و إذ جرى حديث الدعوة، لا بد و أن يسير السياق إلى واجب الداعي أمام الأتعاب و المصاعب التي يواجهها الدعاة إلى الله وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ فإن الحسنة المأمور بها الداعي في مقابل الجهال، خير من السيئة، التي هي مقتضى تقابل السيئة بمثلها، و هذه الجملة كمقدمة لقوله ادْفَعْ يا رسول الله، أو أيها الذي تواجه بالسيئة بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع أذى الكفار و كيدهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق في دفع الأذى و الكيد، و

قد جمع الإمام السجاد عليه السّلام، ذلك في قطعة من «دعاء مكارم الأخلاق» هي «سدّدني لأن أعارض من غشني بالنصح و أجزي من هجرني بالبر، و أثيب من حرمني بالبذل، و أكافئ من قطعني بالصلة، و أخالف من اغتابني إلى حسن الذكر و أن أشكر الحسنة، و أغضي عن السيئة»

«1» فَإِذَا فعلت ذلك كان الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ و غضاضة كَأَنَّهُ وَلِيٌ أي موال لك حَمِيمٌ

كثير المودة و المحبة.

[36] وَ ما يُلَقَّاها أي ما يلقّى هذه الفضيلة و الصفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا في مقابلة الجهال، بأن لم تثر أقوال الأعداء و حركاتهم وَ ما يُلَقَّاها أي هذه الخصلة المذكورة إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ

______________________________

(1) الصحيفة السجادية: ص 92 و من دعائه عليه السلام في مكارم الأخلاق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 653

[سورة فصلت (41): الآيات 36 الى 37]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)

أي نصيب وافر من العقل، و الرأي، و الحكمة، فإن الإنسان يقابل السي ء بالأسوإ، ثم بالمثل و آخر طاقته أن يسكت في مقابل السيئة، أما أن يفعل الحسن، بل الأحسن، فإنه بحاجة إلى حظ عظيم و عظيم جدا.

[37] وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ يا رسول الله، أو أيها المخاطب، بأن تدفع بالتي هي أحسن مِنَ الشَّيْطانِ أي من طرفه نَزْغٌ النزغ هو النخس بما يدعو إلى الفساد، فإن الشيطان ينخس الإنسان، و يهيجه للباطل خصوصا عند الخصام، و في المعركة- و هذا من تتمة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن- فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي اطلب العوذ و الإجارة و الحفظ من الله سبحانه، «من الشيطان الرجيم» الطريد، المرجوم باللعن و الشهب كما قال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) «1» و هذا بخلاف غير المتقي الذي يستمر في خصامه و لجاجه،

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام «الحدة ضرب من الجنون لأن صاحبها يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم»

«2»

ف إِنَّهُ أي اللّه هُوَ السَّمِيعُ يسمع ما تقولون و هو الْعَلِيمُ يعلم ما تعملون.

[38] ثم رجع السياق ليحاج المشركين بإتيان الأدلة على الله الواحد الأحد الذي لا شريك له وَ مِنْ آياتِهِ أي آيات الله الدالة على وجوده و سائر

______________________________

(1) الأعراف: 202.

(2) نهج البلاغة: ص 681- الباب الثالث في المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام الرقم 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 654

[سورة فصلت (41): آية 38]

فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38)

صفاته اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ فمن يا ترى أبدعها و خلقها، هل هي الأصنام الجاهلة العاجزة الجامدة؟ أم الله العلي العظيم؟ لا تَسْجُدُوا أيها الناس لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ فإنهما من آيات الله سبحانه، و ليسا بإله يسجد له وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ أي خلق الشمس و الليل و النهار، و الإتيان بجمع العاقل، لتوحيد السياق مع قول المشركين، فإنهم كانوا يعتبرون هذه المخلوقات من العقلاء، حيث اتخذوها آلهة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أي إن كنتم تريدون عبادة الله فاعبدوه وحده و لا تشركوا به، و هذا كما يقول «إن كنت تريدني فاسمع كلامي، و لا تسمع كلام غيري» تريد أن سماع كلامك، و كلام غيرك عندك، بمنزلة عدم سماع كلامك أصلا.

[39] فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا أي تكبر هؤلاء الكفار عن قبول كلامك و اتباعك في التوحيد، بل عبدوا الشركاء مع الله، فليس بمهم، إذ هناك من هو أعلى منهم، و أرفع رتبة، يخضع لله و يسجد له وحده، و هذا كما تقول لمن عصاك «إن تعصي، فإن عندي من هو أحسن منك يطيعني» تريد الاستهانة بشأنه، و أنك لا يهمك

عصيانه، فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي الملائكة، و المراد عنده رتبة و منزلة، لا مكانا، فهو سبحانه منزه عن المكان و المكانيات يُسَبِّحُونَ لَهُ أي ينزهونه عن الشركاء و النقائص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 655

[سورة فصلت (41): الآيات 39 الى 40]

وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)

بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ في دائم الأوقات وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ من سأم بمعنى تعب، أي لا يتعبون من التسبيح و العبادة.

[40] وَ مِنْ آياتِهِ الكونية الدالة على وحدته، و سائر صفاته و على المعاد أَنَّكَ يا رسول الله، أو أيها الرائي تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً و خشوعها اغبرارها، و عدم وجود النباتات المتحركة فيها، بواسطة الجدب، فحالها حال الإنسان الخاشع، الذي لا حراك له، و هو مغبر غير نضر فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ من المطر اهْتَزَّتْ أي تحركت، فإن الماء ينشط الأرض و يحركها بالانتفاخ و تعلية الأملاح وَ رَبَتْ أي ارتفعت لدخول الماء و الهواء خلالها إِنَّ الَّذِي أَحْياها أي أحيا الأرض بعد الموت و الخشوع لَمُحْيِ الْمَوْتى فكما يقدر على هذا يقدر على ذلك إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فكيف ينكر الكافر قدرته على إعادة الأموات، و هو يرى هذه القدرة الباهرة كل يوم؟

[41] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الإيمان بآياتنا، من «ألحد»، بمعنى، مال، فينكرون قدرتنا، و سائر صفاتنا، فإنهم حيث انحرفوا عن الإيمان، كانوا بمنزلة من

انحرف عن الدليل الدال عليه لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فإنهم تحت سمعنا و بصرنا، نرى أعمالهم و نسمع أقوالهم، حتى نجازيهم على ما اقترفوا من الميل و الانحراف، و يكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 656

[سورة فصلت (41): الآيات 41 الى 42]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

مصيرهم النار، بخلاف مصير المؤمنين الذي هو الجنة أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ و هم الملحدون أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من عذاب الله يَوْمَ الْقِيامَةِ و مصيره إلى الجنة؟ ثم يتوجه الخطاب إلى الناس مبينا لهم، أن كل عمل يعملونه من خير أو شر سيجازون عليه اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ من الخير و الشر بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شي ء، فستحاسبون عليه و تعطون جزاءه، فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.

[42] ثم هدد سبحانه الكافرين بالقرآن، بعد أن هدد الكافرين به، أو بالمعاد، بقوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ و هو القرآن، بأن جحدوه، و قالوا أنه ليس من عند الله لَمَّا جاءَهُمْ من عند الله تعالى وَ الحال إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ذو عزة و رفعة، لا يتمكن البشر أن يأتيه لفصاحته و بلاغته و اشتماله على الأنظمة البديعة و الخوارق، و قد حذف خبر إنّ لأجل التهويل، فالتقدير مثلا ليلاقوا جزاءهم الأليم على هذا التكذيب و الكفر، و قد تقرر في علم البلاغة، أن حذف الخبر، و ما أشبه في مثل هذا المقام يفيد التهويل، كما تقول للمجرم: إن اقترفت هذه الجريمة، تريد تهويله من الجزاء الذي يحل به.

[43]

ثم وصفه سبحانه بقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بأن يأتي في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 657

[سورة فصلت (41): آية 43]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)

زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يماثله في فصاحته أو نظامه، أو أخباره، كأن يأتي أفصح منه، أو أجمل نظاما، أو ما يدل على أن أخباره عن الأمم السابقة أو اللاحقة، أو حول الأصول باطلة وَ لا مِنْ خَلْفِهِ بأن يأتي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من يبدي بطلانه في إحدى تلك الأمور، و روى في المجمع عن الباقر و الصادق عليه السّلام، أن معناه ليس في أخباره عما مضى باطل و لا في أخباره عما يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها «1»، أقول: و كان هذا بيان لمصداق من مصاديق الكلى الذي ذكرناه، و هو الظاهر من عموم الآية تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أفعاله، فإنه سبحانه، أنزل القرآن حسب الحكمة و الصلاح، و لذا لا يتطرق إليه الباطل حَمِيدٍ محمود في كل شي ء، و لذا لا يأتي بما لا يحمد مما هو قابل للبطلان.

[44] ثم ربط سبحانه بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سائر الرسل، و بين القرآن، و سائر الكتب السابقة بقوله ما يُقالُ لَكَ يا رسول الله، أي لا يوحي إليك إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ بأن أوحى إليهم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ أي غفران للمذنبين إذا تابوا وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ مؤلم لهم إذا بقوا في كفرهم و عصيانهم، فليختاروا ما شاءوا من

المغفرة التابعة للإيمان، أو العقاب التابع للعصيان.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 9 ص 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 658

[سورة فصلت (41): آية 44]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)

[45] ثم عطف السياق نحو القرآن بقوله وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي جعلنا هذا القرآن قُرْآناً أَعْجَمِيًّا بغير لغة العرب لَقالُوا أي لقالت العرب لَوْ لا أي هلّا فُصِّلَتْ و بينت بلغتنا آياتُهُ حتى نفهمه، فنؤمن به، و قالوا تبريرا لعدم إيمانهم أَعْجَمِيٌ القرآن وَ عَرَبِيٌ من خوطب به: كيف يكون هذا؟ و جعلوا ذلك وسيلة لعدم الإيمان، أمّا و القرآن عربي، و الرسول منهم (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) «1» فما عذرهم؟ قُلْ يا رسول الله هُوَ القرآن أنزله الله عربيا، حتى يقطع عذركم، فهو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً من الضلالة وَ شِفاءٌ من أمراض القلب كالحسد و الغل و القلق، و سائر الأوجاع النفسية، أو الأعم منها، و من الأوجاع البدنية وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالقرآن ليس من جهة نقص في القرآن، بل من جهة أنهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ أي حمل ثقيل مانع عن استماعه، و هذا كناية عن إعراضهم عن الحق، فهم كالأصمّ الذي في أذنه ثقل لا يسمع، فلا يسمع حتى يعلم- بعلاقة المشابهة- وَ هُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ أي على الذين لا يؤمنون عَمًى إذ أن القرآن يوجب أن ينصرفوا عن الحق، انصراف الأعمى عن الطريق، فكأنه يولد فيهم العمى، و الإنسان يرى بعض الناس، يقرون بالحق نوعا ما، فإذا

جاءهم الحق واضحا، تعاموا حتى عما

______________________________

(1) الجمعة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 659

[سورة فصلت (41): آية 45]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

كانوا يعترفون به، عنادا و حسدا، أو المراد أنهم كالأصم و الأعمى، لا يبصرون الحق، و لا يسمعون الصدق أُولئِكَ الكفار كالذين يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ حيث لا يسمعون و لا يفهمون، كمن إذا نودي من البعد، لا يسمع و لا يفهم، فهذا من باب تشبيه حالهم في الإعراض، بمن ينادى من بعيد.

[46] و لا غرر في ذلك، فإن الأمم قد اعتادت تكذيب الأنبياء وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا ل مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ اختلف فيه الناس، فبعضهم آمنوا به، و بعضهم لم يؤمنوا، كما اختلفوا في القرآن، و هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، بتأخير العذاب عن قومك، لأنك فيما بينهم (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ) «1» لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لحكم الله بين المؤمن و الكافر، بإبقاء المؤمن و إهلاك الكافر، بإنزال العذاب عليهم، كما أهلك القبط بالغرق، حين كفروا بموسى وَ إِنَّهُمْ أي قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من القرآن مُرِيبٍ أي موجب للريب و الاضطراب، فإن الشك إذا لم يظهر أثره لا يسمى مريبا، و هذا كفذلكة للكلام، أو المراد، أنهم في شك من قولنا «لو لا كلمة .. إلى آخره» أي لا يصدّقون، بأن الكلمة أخّرت عذابهم إلى يوم القيامة، بل يظنون أنك

______________________________

(1) الأنفال: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 4، ص: 660

[سورة فصلت

(41): آية 46]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

تكذب، و لذا لا أثر لكلامك و تهديدك.

[47] و أخيرا مَنْ عَمِلَ صالِحاً بالإيمان بالله و الإتيان بأوامره فَلِنَفْسِهِ عمل إذ هو يرى جزاءه الحسن، و ثوابه العاجل و الآجل وَ مَنْ أَساءَ عقيدة أو عملا فَعَلَيْها أي كان ضرره على نفسه وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ أي بذي ظلم، فإن «فعّال» من صيغ النسبة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

أو يراد به المبالغة، و ذلك لأن كل صنعة جازت في الله، بلغت إلى أقصى حد، فإن جاز فيه الخلق كان خلاقا، أو الرزق كان رزاقا، و هكذا، فنفي المبالغة، موجب لنفي الصفة لِلْعَبِيدِ جمع عبد، فما يرى الإنسان من السوء في الدنيا أو الآخرة، فإنما هو جزاؤه العادل بما عمل من الكفر و العصيان.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.