تقریب القرآن الی الاذهان المجلد 3

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

[تتمة سورة يوسف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 7

[سورة يوسف (12): الآيات 53 الى 54]

وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)

[54] وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إن كان هذا من كلام يوسف عليه السّلام، كان المراد منه التواضع، أي اني لا أنزه نفسي فإن ما صدر مني من العصمة انما كان بحفظ الله سبحانه، فلا أريد تزكية نفسي، و العجب من عملي و طهارتي، كما يقول أحدنا- إذا قيل له أنت فعلت كذا-: أنا لم أفعل و إنما وفقني الله سبحانه، قال سبحانه: (وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» و إن كان من كلام زليخا- تتمة لقولها: لم أخنه- كان المراد اني و إن اعترفت حالا، و قلت «لم أخنه» لكن لا أنزه نفسي عن الخيانة، فقد خنت يوسف في إلصاق التهمة به، و إلقائه في السجن إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي كثيرة الأمر بالسوء و الذنب، فإن «أمارة» صيغة مبالغة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي «ما» إما موصولة، أي إلا النفس التي رحمها الله، أو

وقتية، أي إلا الوقت الذي رحم الله، فعصم النفس عن الذنب إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لسالف الذنوب رَحِيمٌ يرحم الإنسان فيأخذ يده عن الزلّة و السقوط.

[55] وَ إذ تمت البراءة و ظهر أمر يوسف عليه السّلام طهارة و علما قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي جيئوا إليّ بيوسف أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي فيكون وزيري و مشاوري، فإن الاستخلاص طلب خلوص الشي ء من شائب الاشتراك فَلَمَّا جاء الرسول و أخرج يوسف من السجن و لما مثل بين يدي الملك كَلَّمَهُ فعرف عقله و فضله و أدبه حتى صار السماع عيانا قالَ الملك له إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ

______________________________

(1) الأنفال: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 8

[سورة يوسف (12): آية 55]

قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)

إنك عندنا ذو مكانة نافذ القول، مؤتمن.

[56] قالَ يوسف عليه السّلام للملك لما رأى مكانته عنده و منزلته لديه اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي اجعلني واليا على خزائنك المالية و الطعامية و غيرها لأدير شؤونها إِنِّي حَفِيظٌ أي حافظ ما تستودعني عليه عَلِيمٌ بكيفية تدبيرها و إدارتها، قال الملك فما ترى في رؤياي أيها الصديق؟ فقال يوسف أرى أن تجمع الطعام و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة و تبني الأهواء و الخزائن و تجمع الطعام فيها بقصبه و سنبله ليكون قصبه و سنبله علفا للدواب و تأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر و من حولها و يأتيك الخلق من النواحي و يجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك، فقال الملك و من لي بهذا و من يجمعه و يبيعه و يكفي الشغل فيه؟ فعند ذلك قال يوسف اجعلني

على خزائن الأرض.

و لما سلّم الملك الأمر إلى يوسف أقبل عليه السّلام على العمل.

قال الإمام الرضا عليه السّلام: و أقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فوضعه في الخزائن، فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينارا و لا درهما إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جوهرا إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبدا و لا أمة إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الرابعة بالدور و العقار حتى لم يبق بمصر و ما حولها إلا صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة الخامسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 9

حولها نهرا و لا مزرعة حتى صار في ملكية يوسف، و باعهم في السنة السادسة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبدا و لا حرا إلّا صار عبد يوسف فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم، و قال الناس ما رأينا و ما سمعنا بملك أعطاه الله ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: أيها الملك ما ترى فيما خوّلني ربي من ملك مصر و أهلها أشر علينا برأيك؟ فاني لم أصلحهم لأفسدهم و لم أنجهم من البلاء لأكون وبالا عليهم، و لكن الله سبحانه نجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك،

قال يوسف: أني أشهد الله و أشهدك أيها الملك أني قد أعتقت أهل مصر كلهم و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم و رددت عليك أيها الملك خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي، قال له الملك: إن ذلك لشرفي و فخري ألّا أسير إلّا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما قويت عليه و لا اهتديت له، و لقد جعلت سلطاني عزيزا كما يرام و إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين، و من ظريف ما ينقل ما نقله علي بن إبراهيم، بما ملخصه أن عزيز زوج زليخا مات في تلك السنين المجدبة و افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتى سألت الناس فقالوا لها ما يضرك لو قعدت للعزيز؟

و كان يوسف يسمى العزيز و كل ملك كان لهم سموه بهذا الاسم، فقالت أستحي منه، فلم يزالوا بها حتى قعدت له، فأقبل يوسف في موكبه، فقامت إليه زليخا و قالت سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا و العبيد بالطاعة ملوكا، فقال لها يوسف أ أنت تيك؟ قالت: نعم، ثم أن يوسف عليه السّلام تزوجها و جعلها في جملة أهله «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 251.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 10

[سورة يوسف (12): الآيات 56 الى 58]

وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57) وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)

[57] وَ

كَذلِكَ أي كما أنعمنا على يوسف عليه السّلام بالنبوة و سائر المزايا، كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها يتصرف فيها و يأخذ المحل منها حَيْثُ يَشاءُ فقد جمعنا له النبوة و الملك و هكذا كل من أطاع الله سبحانه و خرج من الامتحان ناجحا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ و لكن بعد الاختبار و الامتحان، فإن الله لا يفعل لغوا، و لا يمنح اعتباطا و عبثا وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل.

[58] وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ ثواب الله سبحانه في الدار الآخرة خَيْرٌ من ثواب الدنيا لأنه باق لا منتهى له، و ليس مشوبا بالأكدار و الآلام لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ بأن جمعوا بين العقيدة الصحيحة و العمل الصالح.

في بعض التفاسير أن يوسف عليه السّلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيام المجدبة، فقيل له تجوع و بيدك خزائن الأرض؟ فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع «1».

[59] و لما تمكن يوسف عليه السّلام بأرض مصر، و جاء الجدب فأصاب الناس القحط نزل بآل يعقوب ما نزل بالناس فجمع يعقوب بنيه و قال لهم:

بلغني أنه يباع الطعام بمصر و أن صاحبه رجل صالح فاذهبوا إليه فإنه

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد: ج 11 ص 236.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 11

سيحسن إليكم إن شاء الله، فتجهزوا و أخذوا بعض البضائع يعطوها في مقابل القمح و سار منهم عشرة، و لم يخرج معهم بنيامين أخو يوسف حتى وردوا مصرا وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ «أخوة» جمع أخو فَدَخَلُوا عَلَيْهِ على يوسف، و في بعض التفاسير أن يوسف عليه السّلام كان يتولى البيع بنفسه «1»، و لذا دخلوا

عليه فَعَرَفَهُمْ أي عرف يوسف إخوته وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ينكرون يوسف و لا يعرفونه لما مرّ من الزمان و تغيّرت ملامح يوسف عليه السّلام من الصباوة إلى الشباب، فقد مرّ على فراقهم له ما يقرب من خمسة عشر سنة أو أكثر، بل عن ابن عباس: الفاصلة كانت أربعين سنة «2».

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: أن يوسف قال للأخوة قد بلغني أن لكم أخوين من أبيكم فما فعلا؟ قالوا أما الكبير منهما فإن الذئب أكله و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق قال فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم تمتارون «3»، و قال القمي رحمه الله:

أحسن يوسف لهم في الكيل و قال لهم من أنتم؟ قالوا: نحن بنوا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله الذي ألقاه نمرود في النار فلم يحترق فجعلها الله عليه بردا و سلاما، قال: فما فعل أبوكم؟ قالوا شيخ ضعيف، قال: فلكم أخ غيركم؟ قالوا: لنا أخ من أبينا لا من أمنّا قال فإذا رجعتم فأتوني به «4».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 346

. (2) مجمع البيان: ج 5 ص 422

. (3) بحار الأنوار: ج 12 ص 287

. (4) تفسير القمي: ج 1 ص 346

.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 12

[سورة يوسف (12): الآيات 59 الى 62]

وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

[60] وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جهاز البيت متاعه و جهزت فلانا أي هيأت أمتعة سفره، و منه جهاز المرأة، و المعنى أنه حمل لكل واحد منهم طعاما قالَ يوسف لهم ائْتُونِي أي جيئوا إلي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ بنيامين، فإنه لم يكن من أمهم، و إنما أمه أم يوسف أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي لا أبخس الناس شيئا فإذا جاء أحد للطعام أعطيته، فإذا جئتم كان طعامكم أكثر وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ بصيغة اسم الفاعل، أي خير المضيفين، فإني حسن الضيافة لكل وارد، حسن التجهيز لكل ممتار، ثم هددهم بأنهم إن لم يأتوا به في المرة الثانية فإنه لا يعطيهم القمح و لا يضيفهم.

[61] فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ بأخيكم بنيامين فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي لا أكيل لكم الطعام وَ لا تَقْرَبُونِ بلادي، فإنه لا حظوة لكم عندي.

[62] قالُوا قالت الأخوة في جواب يوسف سَنُراوِدُ عَنْهُ أي عن بنيامين أَباهُ يعقوب عليه السّلام، أي سنجتهد في طلبه من أبيه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ أي نفعل ما أمرتنا به من الإتيان بالأخ.

[63] وَ قالَ يوسف عليه السّلام لِفِتْيانِهِ جمع فتى و هو العبد، و المراد هنا الذين كانوا يكيلون الطعام لهم و الأعوان الذين يقومون بشؤونه و أوامره اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أي اجعلوا الثمن الذي جاءوا به لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 13

[سورة يوسف (12): آية 63]

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)

شراء الطعام- و كان مقلّا و نحوه- في متاعهم و أثاثهم و أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها يعرفون البضاعة المردودة إليهم، و إنما قال «لعل» لأن المعرفة غير لازمة

في مثل هذه الأمور في البيوت الكبار فإن الحمل إذا جاء و دخل البيت لم يكن المكلف بفتحه الرجال الذين كانوا يعرفون الأشياء بل الخدم و النساء، و كثيرا ما لا يدرون هم ما ذهب به، مما جي ء به، فيشتبه الأمر عليهم، إِذَا انْقَلَبُوا رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ أبيهم و أقربائهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حيث رأوا الإكرام و الاحترام و إن بضاعتهم ردت إليهم، يرجعون مرة ثانية إلى مصر لشراء الطعام، و ربما قيل أن احتمال رجوعهم كان لأجل أن يردوا الثمن بظن اشتباه حاشية الملك، و أن يوسف علم أنه ليس لهم غير ذلك فإذا أخذه لم يكن لهم ثمن يرجعون به لشراء طعام جديد.

[64] فَلَمَّا رَجَعُوا الأخوة إِلى أَبِيهِمْ و معهم الطعام قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ إن لم نذهب و معنا أخينا بنيامين فقد قال الملك: «فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي» فالمراد تقرر منعه عنا- و منع بالفعل الماضي لإفادة أنه قرر أن يؤتي به في المستقبل- كما يقول القائل: هل تفعل كذا؟ فيجيب المسؤول: صار، أي تقرر، و ذلك لأن المضارع المتحقق الوقوع ينزل بمنزلة الماضي، و من المحتمل أن يراد أن الملك منع منا إعطاء الكيل لأخينا بنيامين حيث لم يكن معنا، و لعل ذلك لأجل أن يوسف أعطاهم بعددهم و عدد من تخلف من أبيه و أهله كيلا، دون بنيامين، حرصا لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 14

[سورة يوسف (12): الآيات 64 الى 65]

قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ

نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)

يأتوا به فَأَرْسِلْ أيها الأب مَعَنا أَخانا في هذه المرة نَكْتَلْ أي نأخذ الطعام بالكيل للجميع، يقال كلت فلانا، أي أعطيته الشي ء كيلا، و اكتلت عليه أخذت منه الكيل، من باب الافتعال، و أصله نكتال حذف الألف، لأن الفعل وقع في جواب الأمر، فجزم، فالتقى الساكنان «الألف و اللام» فحذفت الألف وَ إِنَّا لَهُ أي للأخ بنيامين لَحافِظُونَ أن يصيبه الأذى فقد كان يعقوب شديد القلق به لا يتمكن من مفارقته، و بعد فقد يوسف صارت محافظته له أشد حيث كان أخاه من الأبوين، و قد تقدم قول الأخوة «ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا» [65] قالَ يعقوب عليه السّلام في جواب الأخوة هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ استفهام إنكاري أي لا آمنكم عليه فلستم أنتم موضع الأمن و الثقة إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف عليه السّلام مِنْ قَبْلُ و قد قلتم في يوسف إنا له لحافظون ثم لم تفوا بضمانكم، و المعنى ليس آمن على بنيامين إلا كأمني على يوسف- من قبل- فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً من حفظكم فإذا سلمته إليكم توكلت عليه في الحفظ لا عليكم وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يرحم ضعفي و شيخوختي فلا ينالني مكروه من جهة فقد بنيامين بسبب رحمته و فضله.

[66] و قد كان هذا الحوار بين الأخوة و بين يعقوب قبل أن يفتحوا المتاع وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أوعية الطعام التي ملؤوها في مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 15

[سورة يوسف (12): آية 66]

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى

ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

التي ذهبوا بها ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ لما تقدم من أن يوسف قال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم، قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي ماذا نطلب أكثر من هذا أكرمنا و أعطانا الطعام و لم يأخذ منا الثمن هذِهِ بِضاعَتُنا التي ذهبنا بها رُدَّتْ إِلَيْنا ردها الملك فلم يأخذها، فأرسل معنا أخانا إلى الملك لنأخذ منه الطعام وَ نَمِيرُ أَهْلَنا أي نجلب إليهم الميرة، و هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد، يقال مارهم إذا جلب إليهم الطعام وَ نَحْفَظُ أَخانا بنيامين في السفر لئلا يصيبه أذى وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ نأخذ من الملك كيل بعير زائدا، لحصة أخينا، فقد كان يكال لكل رجل حمل بعير ذلِكَ الكيل الزائد كَيْلٌ يَسِيرٌ عند الملك لمن ذهب إليه.

[67] و قد أثر كلام الأخوة، و ما رأى من إكرام الملك بردّ البضاعة، و استسلم لإرسال بنيامين، لكنه اشترط عليهم قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ أي قال يعقوب: لن أرسل بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ تعطوني مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ ما يوثق به من عهد أو يمين من طرف الله سبحانه، بذكره عن اسمه في العهد- كأن يقولوا نعاهد الله- فيكونوا في حرج من جهته سبحانه، كما أنهم في حرج من جهة عهدهم لَتَأْتُنَّنِي بِهِ أي تردون إليّ الابن، و لا تغدروا به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 16

[سورة يوسف (12): آية 67]

وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

فلا يكون الأمر تحت اختياركم، كأن يحيط البلاء

بهم فلا يتمكنوا من الفرار منه و لا مسلك لهم لإنقاذ بنيامين، يقال أحاط به البلاء فهو محاط به، فَلَمَّا آتَوْهُ أعطى الأخوة، لأبيهم مَوْثِقَهُمْ عهدهم المؤكد قالَ يعقوب تأكيدا اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد حافظ إن أخلفتم و خنتم انتصف لي منكم.

[68] و لكن الأب الرؤوف خاف على أولاده من العين فقد كانوا جماعة أبطالا حسني المنظر و الجمال، و جميعا أولاد رجل واحد فإذا رآهم الرائي ملؤوا قلبه و عينه، و لذا وصاهم بالتفرق عند دخول المدينة وَ قالَ يا بَنِيَ أصله بنوني و هو جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم، لكن نون الجمع حذف بالإضافة- على القاعدة- و الواو أدغم في ياء المتكلم. كما نقلت ضمة النون إلى الباء لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ حتى تصيبكم العين وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فقد كانت المدن- سابقا- ذات أسوار و أبواب، وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي ما أدفع من قضاء الله من شي ء إن كان قد قضى عليكم الإصابة بالعين، يقال: أغنى عنه، إذا دفع عنه، و أصله الكفاية، كأن الشخص يكفيه عن أمر يدهمه، و قد قال ذلك يعقوب على وجه التسليم له سبحانه منبها أن أمري إنما كان لأجل الطوارئ، أما إذا كان شي ء حتما فلا دافع له إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس الحكم في الأمور- التي منها إصابتكم بالعين أو عدم إصابتكم- إلا لله سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 17

[سورة يوسف (12): آية 68]

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في أن يرد عنكم عين الحساد و يرجعكم إليّ سالمين.

وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي المريدون للتوكل على أحد، عليهم أن يتوكلوا عليه، و يفوضوا أمورهم إلى الله سبحانه لا إلى غيره و هذا لا ينافي الأخذ بالحزم حسب الموازين التي قررها سبحانه في الكون.

[69] و قد أجاز الأب استصحاب بنيامين لهم، فشدوا أمتعتهم و خرجوا جميعا من المدينة قاصدين مصر لمرة ثانية وَ لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من أبواب متفرقة كما وصاهم يعقوب ما كانَ دخلوهم متفرقين و المعنى أن أمر الأب لم يفد شيئا و إنما كان مطلبا يختلج في نفس يعقوب. يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قضاه و قدره، أي لم ينفعهم ذلك بعد أن أراد الله سبحانه أن يبقى أحدهم- و هو بنيامين- في مصر، فلا يتمكنون أن يرجعوه إلى أبيهم إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي قضى تلك الحاجة بأمرهم الدخول متفرقين فأظهره، أما التقدير فقد عمل عمله، إذ نسبوا إلى السرقة، و أخذ الملك بنيامين وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ أي إن يعقوب ذو يقين و معرفة بالله لِما عَلَّمْناهُ أي لأجل تعليمنا إياه و لذلك قال: و ما أغنى عنكم من الله من شي ء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن القدر هو الحاكم و أنه لا يغني الحذر إذا قدر شي ء فيظنون أن الأمور كلها بيد الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 18

[سورة يوسف (12): آية 69]

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)

و إنه مهما فعل و الحال أن الأمر ليس كذلك فإن

الله سبحانه خلق الإنسان و خلق أسبابا كونية، و جعل بعضها تحت قدرة الإنسان، و ربما اقتضت مصلحته أن لا يمكّن الإنسان- من تلك الأسباب- إما بتعجيز الإنسان، و إما بجعل موانع في تلك الأسباب، فللإنسان قدرة واحدة، و للقدر منفذان لصدّ هذه القدرة، فمثلا إن الله سبحانه جعل زرع الأرض تحت قدرة الإنسان، لكنه ربما لا يشاء ذلك فيعجز الإنسان عن الزرع بمرض أو فقر أو نحوهما، أو يخلق ريحا سامة، أو مطرا مؤذيا، أو سوسا آكلا، فلا يتمكن الإنسان من تنفيذ قدرته، و لذا يجب التوكل في كل الأمور عليه سبحانه، فمن رأى كل الأمور من الله سبحانه حتى عمل العبد، فهو جبري فاسد العقيدة، و من رأى كل الأمور مفوضة إلى الإنسان فهو مفوض منحرف الإعتقاد، بل لا جبر و لا تفويض و إنما أمر بين أمرين ... أما أكثر الناس فإنهم و لو لم يكونوا بمفوضة لكنهم يظنون أن الأمور تحت إرادتهم و اختيارهم، و ينصرفون عن التوكل، و لذا يتعجبون فيما إذا حال دون إرادتهم حائل، و من الضروري أن يتوكل الإنسان في أموره إليه سبحانه، حتى يتفضل الله بعدم إيجاد الحائل، و إقدار العبد على ما أراده.

[70] وَ لَمَّا دَخَلُوا أي دخل أولاد يعقوب عَلى يُوسُفَ في محله المعد لهم و كان يوسف حينذاك حاضرا آوى يوسف عليه السّلام، من أوى، يقال أوى إلى منزله إذا صار إليه، و منه الإيواء بمعنى إعطاء المكان إِلَيْهِ أي إلى نفسه أَخاهُ بنيامين فأنزله معه و ضمه إلى نفسه، ثم قالَ يوسف لبنيامين إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف الذي ألقوه الأخوة في الجب قبل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 19

[سورة يوسف (12):

آية 70]

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70)

سنوات و قالوا أنه أكله الذئب فَلا تَبْتَئِسْ من الابتئاس بمعنى اجتلاب الغم و الحزن و البؤس، أي لا تحزن بِما كانُوا أي كانت الأخوة يَعْمَلُونَ سابقا من الازدراء بك و بأخيك، و من الحسد عليكما.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال: كان يوسف قد هيأ لهم طعاما فلما دخلوا عليه قال: ليجلس كل ابن أم على مائدة واحدة، فجلسوا و بقي بنيامين قائما، فقال له يوسف: مالك لا تجلس؟ قال له: إنك قلت ليجلس كل ابن أم على مائدة و ليس لي فيهم ابن أم، فقال: أما كان لك ابن أم؟ قال بنيامين: بلى قال: يوسف فما فعل؟ قال: زعم هؤلاء أن الذئب أكله قال: فما بلغ من حزنك عليه قال: ولد لي أحد عشر ابنا كلهم اشتققت له اسما من اسمه فقال له يوسف: أراك قد عانقت النساء و شممت الولد من بعده قال بنيامين: إن لي أبا صالحا و إنه قال: تزوج لعلّ الله أن يخرج منك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح، فقال له: تعال فاجلس معي على مائدتي، فقال أخوة يوسف: لقد فضل الله يوسف و أخاه حتى أن الملك قد أجلسه معه على مائدته، و ورد أن يوسف بعد ما عرّف نفسه لأخيه قال له: أنا أحب أن تكون عندي فقال: لا يدعونني إخوتي فإن أبي قد أخذ عليهم عهدا لله و ميثاقه أن يردوني إليه فقال يوسف: أرى طريقة لبقائك، فلا تنكر إذا رأيت شيئا، فقال بنيامين: لا «1».

[71] فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ أي جهّز يوسف عليه السّلام الأخوة بِجَهازِهِمْ بأن ملأ

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2

ص 183.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 20

أوعيتهم بالطعام، و جعل لكل واحد منهم حمل بعير، أمر بعض غلمانه حتى جَعَلَ السِّقايَةَ أي الصاع الذي كان يكال به، و أصل السقاية اسم للإناء الذي يسقي به فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي في متاع بنيامين، و إنما أضاف سبحانه «جعل السقاية» إليه، لأنه كان هو الآمر بذلك ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ الآذان هو الاعلام، أي أعلم قائلا أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي القافلة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قد سرقتم سقاية الملك، أقول ليس في الآية دلالة على أن يوسف هو الذي أمر بهذا النداء، فإنه عليه السّلام أمر بدس الصاع في رحل بنيامين و كان أمره هذا خفية حتى لا يظهر أحد عليه، و من الطبيعي أن يتفحص الحاشية عن المفقود و يتهموا بعض الناس بالسرقة، و لم يكن الاتهام منكرا يعلم الفاعل بكونه منكرا، حتى يجب النهي عنه، فيقال: كيف لم ينه يوسف عليه السّلام عن المنكر؟ لما تقرر من أن النهي عن المنكر إنما هو مع علم الفاعل بكونه منكرا، أما إذا لم يعلم فليس ذلك بواجب، نعم يجب في الأحكام من باب إرشاد الجاهل، و ليس الاتهام حكما و إنما هو موضوع، و هناك سؤال أنه كيف يجوز للإنسان أن يعمل عملا يدخل الغم و الحزن على جماعة؟ و الجواب أن الإيذاء لا يجوز أما إذا صنع الإنسان صنعا مباحا يتأذى به الغير فإن ذلك جائز، ألا ترى أن من يبني دارا وسيعة، أو يؤلف مؤلفا جيدا، أو يتولى منصبا مرموقا، يكثر حساده و يدخل عليهم الغم حتى أن بعضهم لا ينام الليالي و لا يستقر الأيام و مع ذلك فهو جائز بل قد يستحب أو يجب، و قد

كان حفظ يوسف لبنيامين لديه جائزا، و ربما يقال: فما كانت المصلحة في أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 21

[سورة يوسف (12): الآيات 71 الى 72]

قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

لا يبدي يوسف نفسه لهم حتى لا يحتاج إلى تدبير هذه العملية؟

و الجواب أنه لعلّ اللّه سبحانه أراد بذلك تخفيف ذنب الأخوة، بالهول و الخجل الذي دخل عليهم، أما الأب فقد كان حزنه رفع درجته- إن لم نقل أنه بسبب ترك الأولى الذي صدر منه في قصة عدم إطعام الفقير، كما في التفاسير.

[72] قالُوا أي قال أصحاب العير، و هم أخوة يوسف، و لم يعلم أنه كان معهم غيرهم أم لا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي على أصحاب يوسف، و كان «أقبل» عدي ب «على» لإشرابه معنى التوجه و الإقبال، كأنه قال: أقبلوا عليهم سامعين كلامهم قائلين ما ذا تَفْقِدُونَ أي ما الذي فقدتموه من متاعكم يا حاشية الملك.

و قد كان أخوة يوسف عليه السّلام واثقين من أنفسهم أنهم لم يسرقوا شيئا فلما ذا يخافون؟ و لذا قالوا بكل جرأة: «ماذا تفقدون»؟ و استعدوا لإعطاء الجزاء- كما يأتي- إن كانوا هم السارقين.

[73] قالُوا أي قال أصحاب يوسف نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ فقد متعد، و لذا يقال: مفقود، و الصواع اسم مفرد بمعنى الكيل، أي نفقد كيل الملك الذي به يكال الطعام، ثم أن بعض أصحاب الملك وعد الذي يأتي به جائزة قائلا وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي أنا كفيل ضامن بالوفاء و ليس ذلك خداعا نريد به أن

يظهر الصاع فيعاقب الآتي به عوض أن نجيزه- كما جرت عادة الملوك الطغاة-.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 22

[سورة يوسف (12): الآيات 73 الى 75]

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)

[74] قالُوا أي أخوة يوسف تَاللَّهِ نحلف لَقَدْ عَلِمْتُمْ أيها القوم، و هذه جملة معترضة، و إنما متعلق الحلف قوله ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي للأعمال السيئة وَ ما كُنَّا سارِقِينَ في يوم من الأيام، خصصوا السرقة بعد تعميم نفي الفساد لأنه كان موضع التوهم، و قوله: «لقد علمتم» أي أنه، ظهر لكم من حسن سيرتنا و كوننا أصحاب حسب و نسب إن مثل هذا العمل لا يصدر منّا.

[75] قالُوا أي قال غلمان يوسف و حاشيته فَما جَزاؤُهُ أي جزاء السرقة، أو جزاء السارق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ بأن ظهر الصواع في حملكم؟ و إنما سألوا عنهم، لأن شريعة يعقوب كانت تحكم بأخذ السارق و استرقاقه، أو حبسه، عند المسروق منه، و ذلك بخلاف دين ملك مصر، فقد كانت للسرقة عنده جزاء خاصا، فأراد يوسف عليه السّلام أنهم يحكمون حسب الشريعة ليتسنى له إبقاء الأخ عنده، أما لو جوزي حسب دين الملك، فقد كان يعطي الجزاء و ينصرف إلى أبيه.

[76] قالُوا أي قالت أخوة يوسف جَزاؤُهُ أي جزاء السارق مَنْ وُجِدَ المسروق فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي أن السارق بنفسه جزاء السرقة، يبقى محبوسا، أو مسترقا، عند المسروق منه كَذلِكَ الذي ذكرنا نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة، لأن السرقة نوع من الظلم، و لما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 23

[سورة يوسف

(12): آية 76]

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

تبانى الطرفان على أنه إن وجد الصواع في رحل أحد منهم يبقى عند الملك، أمر يوسف عليه السّلام بتفتيش الرحال.

[77] فَبَدَأَ أي ابتدأ يوسف، أو بعض حاشيته بِأَوْعِيَتِهِمْ أوعية الأخوة التي كانت مليئة من الطعام قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين، و إنما فعل لإزالة التهمة، و لئلا يقولوا، أن الأمر كان مدبّرا ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين، في المجمع: فأقبلوا على بنيامين و قالوا له: فضحتنا و سوّدت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال:

وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم- يريد، في المرة الأولى حيث وجدوا بضاعتهم ردت إليهم- كَذلِكَ أي كذلك الذي ذكرنا كِدْنا لِيُوسُفَ الكيد هو التدبير الدقيق الخفي على الناس، كما قال سبحانه: (وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) «1»، و معنى كيد اللّه ليوسف، إلهامه سبحانه إياه بهذا التدبير الذي يسبب إبقاء أخيه عنده، و قد تقدم أن ذلك لعلّه كان لأجل تخفيف ذنب الأخوة، بالهول و الفزع الذي لحقهم من هذا العار، ثم بين سبحانه وجه التدبير بقوله ما كانَ ليوسف لأن يأخذ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في دين ملك مصر، فإن طريقتهم كانت على مجازاة السارق لا أخذه بنفسه جزاء سرقته، فقد دبر له سبحانه أن يقول للأخوة «ما جزاؤه إن كنتم

______________________________

(1) الأعراف: 184.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 24

[سورة يوسف (12): آية 77]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ

وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77)

كاذبين» ليقولوا هم جزاؤه المسبّب لبقائه عند الملك إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء منقطع، فيدبر هذا التدبير لأخذه، و قد تقدم في بعض المباحث السابقة، إن الاستثناء إنما يؤتى به كثيرا في الكلام، لغرض المتكلم أن صلب الموضوع هو الأصل، و إنما القيد السابق على الاستثناء كلام خارجي، فكان الكلام في المقام هكذا: «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ» «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» «فإن دين الملك لم يكن يسمح بذلك» نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما رفعنا درجة يوسف بالنبوة و العلم و التدبير وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فلم يكن يوسف عليه السّلام أعلم الموجودات، بل كل عالم فوقه أعلم منه، حتى يصل الأمر إلى العالم لجميع الأمور و هو سبحانه و كأنه لئلا يتوهم أن قوله «نرفع» أنه عليه السّلام بلغ آخر مرتبة العلم، حتى أنه حوى كل شي ء.

[78] و لما رأى الأخوة أن الصواع خرج من رحل بنيامين، أرادوا أن يبرءوا ساحة أنفسهم، مبينين أن السرقة إنما اقترفها هذا الأخ، لعرق لحقه من أمه، و إلا فيعقوب أجل من أن يسرق ابنه، و استشهدوا لذلك بأن أخا لبنيامين- يقصدون يوسف- قد سرق سابقا أيضا، فهذان الأخوان اللذان من أم واحدة تعاطيا هذه السيئة قالُوا أي قالت الأخوة، ليوسف إِنْ يَسْرِقْ الآن، بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ من أمه مِنْ قَبْلُ يعنون اتهام يوسف بالسرقة.

روي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنه قال: كانت لإسحاق النبي عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 25

منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها، و كانت تحبه، فبعث إليها

أبوه أن ابعثيه إليّ و أردّه إليك، فبعثت إليه: أن دعه عندي الليلة أشمه ثم أرسله إليك غدوة، فلما أصبحت أخذت- أي العمة- المنطقة فربطتها في حقوه «1» و ألبسته قميصا و بعثت به إليه، و قالت «2»: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان، دفع به إلى صاحب السرقة، فأخذته، فكان عندها.

أقول: فإنهم أشاروا إلى هذه السرقة، و لم يكن يوسف عليه السّلام سرق شيئا و إنما بهت بها، كما أن بنيامين لم يكن سرق شيئا، و إنما ألصقت به، و لما قالت الأخوة «فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ» «3» فَأَسَرَّها أي أخفى تلك القصة يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ أي لم يظهرها لهم، فقد عرف أنهم إنما أخذوا الأمر على ظاهره، و يحتمل أن يكون ضمير «أسرها» للشأن، أي أسر قوله الذي يأتي و هو «أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً» نحو «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قالَ إما بلفظه أو في نفسه- و ظاهر السياق يعطي الأول، و المناسب لأدب يوسف عليه السّلام الثاني، و كثيرا ما يستعمل قال في النية و شبهها- أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي من حيث المكانة و المنزلة، فإن السارق له منزلة و مكانة سيئة، و إنما كانوا شرا مكانا، لأنهم حسدوه و ألقوه في الجب، أما سرقة الأخ و بنيامين فقد كانت

______________________________

(1) الحقوة موضع شد الإزار، و هي الخاصرة.

(2) الظاهر أن قولها بعد أن ذهب يوسف إلى دار أبيه.

(3) بحار الأنوار: ج 12 ص 249.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 26

[سورة يوسف (12): الآيات 78 الى 79]

قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ

مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)

ظاهرية لا واقع لها، «شر» هنا مجرد عن معنى التفضيل، فلم يكن يوسف و أخوه صاحبي شر، كما قال سبحانه (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) «1» مع أنه لا خير في أصحاب النار وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ به يوسف من السرقة، فإنه عالم أنه لم يسرق.

[79] و لما رأى الأخوة أن يوسف عليه السّلام مصمم على إبقاء بنيامين عنده و قد أعطوا أباهم موثقا أن يرجعوه، جاءوا إليه من باب الرجاء و الالتماس قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ و قد كان الملك، أو كبير الوزراء، يسمى عزيزا في عرف أهل مصر إِنَّ لَهُ أي لهذا الأخ أَباً شَيْخاً كَبِيراً يستحق العطف، و لعل المراد بالشيخ العظيم المنزلة، حتى يكون «كبيرا» تأسيسا لا تأكيدا، فإن الشيخ يستعمل في كثير المال، و كثير العمر، و كثير السن، و كثير المنزلة، و كثير الأولاد- على ما قالوا- فَخُذْ أيها العزيز أَحَدَنا أي أحد العشرة مَكانَهُ أي عوض بنيامين، فقد أخذ علينا أبونا العهود و المواثيق على أن نرجعه إليه، فلا يمكننا أن نذهب بدونه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى الناس و إلينا، و نحن نأمل هذا منك لإحسانك، فإن المحسن مأمول.

[80] قالَ يوسف عليه السّلام في جوابهم مَعاذَ اللَّهِ «معاذ» مصدر ميمي من عاذ يعوذ، أي استجار و التجأ، و هو منصوب بالمصدر، أي أعوذ باللّه

______________________________

(1) الفرقان: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 27

[سورة يوسف (12): آية 80]

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ

حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)

إعاذة، و هذه كلمة يقولها من يريد بيان أنه لا يفعل شيئا قبيحا، كأنه يستجير باللّه أن يحفظه من ذلك العمل- و إن كان معناها أعم لغة- أَنْ نَأْخُذَ أحدا منكم إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا أي الصواع عِنْدَهُ و هو بنيامين، و كيف نأخذ إنسانا بريئا، و من المعلوم أن بنيامين كان راضيا ببقائه، حيث يعرف الحقيقة، أما أخ آخر فلم يكن راضيا فكان إبقائه جبرا- و لو كان راضيا حسب الظاهر- غير جائز و قد قالوا: أن المناط يدور على الواقع لا على العلم، فلو أعطى عمرو زيدا شيئا بظن أنه خالد، و لم يك راضيا إعطائه زيدا، و عرف زيد ذلك لم يجز له أخذه إِنَّا إِذاً أي وقت أخذنا غير بنيامين لَظالِمُونَ إذ ظلمنا شخصا بدون رضاه الواقعي.

[81] فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ استيأس بمعنى يئس، أي يئس أخوة يوسف من الملك أن يجيبهم إلى ما سألوه من أخذ أحدهم مكان بنيامين خَلَصُوا نَجِيًّا أي تنحوا عن الناس في معزل لئلا يسمع الناس بمشورتهم، و أخذ بعضهم يتناجى مع الآخر في وجوه الرأي كيف يصنعون، و النجي مما يتساوى فيه المفرد و الجمع، قال سبحانه (وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا) «1» و ذلك لأنه مصدر، فهو نحو جنب، تقول زيد جنب، و القوم جنب، و المناجاة: المسارة و الاختفاء في الكلام، و قد تقدم حديث يدل على أن هذه الجملة من الفصاحة و البلاغة بمكان قالَ كَبِيرُهُمْ أي كبير الأخوة و هو يهودا كما عن الإمام الصادق

______________________________

(1) مريم: 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 28

[سورة يوسف (12): آية 81]

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا

أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81)

أَ لَمْ تَعْلَمُوا أيها الأخوة أَنَّ أَباكُمْ يعقوب قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي أخذ منكم عهدا تحلفون باللّه سبحانه أن لا ترجعوا إلا مع بنيامين، فكيف ترجعون بدونه؟ حيث قال لن أرسله معكم حتى تأتون موثقا من اللّه لتأتنني به وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ لعله عطف على «أباكم» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق، و تفريطكم في يوسف من قبل، ف «ما» مصدرية، و المحل نصب ... فهما سببان يحدو إن على أن لا نرجع بدون بنيامين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي لن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع إليه، و البراح من هذه الأرض أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج بما يكون عذرا لي، أو أموت، أو أخلص أخي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يحكم إلا بالعدل و الحق، و بقي الأخ الأكبر هناك في مصر.

[82] و قال الأخ الأكبر لباقي الأخوة ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ و إلى بلادكم فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ بنيامين سَرَقَ صواع الملك وَ ما شَهِدْنا عندك بهذه الشهادة ظنا أو تخمينا إِلَّا بِما عَلِمْنا حيث رأينا أن الصواع خرج من رحله وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي إنا لم نعلم الغيب حيث قلنا ابعث بنيامين معنا، فلم ندر أنه يسرق و يحفظه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 29

[سورة يوسف (12): الآيات 82 الى 83]

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

(83)

الملك، أولا ندري أنه سرق أو دس الصاع في رحله، فذلك كان غائبا عن حواسنا.

[83] ثم أرادوا إثبات أن الابن سرق، و أنهم لم يقصروا في حفظهم، حتى لا يظن الأب بهم سوءا فقالوا لأبيهم وَ سْئَلِ أيها الأب الْقَرْيَةَ أي أهل القرية، و ذلك من المجاز حيث نسب ما للحال إلى المحل، فاعلا كان نحو «جرى النهر»، و قد جرى ماء النهر، أم مفعولا، نحو «وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل القرية أم غيرهما الَّتِي كُنَّا فِيها أي أرسل إلى مصر التي كنا فيها، و اسأل أهلها عن الحادثة، و العرب تسمي المدينة قرية، و لذا تسمى مكة أم القرى، و قال سبحانه (وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى «1» إلى غير ذلك، و لعل المراد اسأل أهل القرية- لا أن يرسل إلى مصر- و قد كان في القافلة بعض أهل مصر وَ اسأل أهل الْعِيرَ أي القافلة الَّتِي أَقْبَلْنا إلى بلدنا فِيها أي في تلك العير، فإن كان المراد من «القرية» المعنى الثاني، كان المراد من العير غيرهم، أي اسأل أهل مصر الذين في القافلة و أهل غير مصر من سائر من في القافلة وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.

[84] رجع الأولاد إلى أبيهم، و قد خلفوا وراءهم عند الملك أكبرهم و بنيامين، و قصوا عليه القصة بطولها، لكن يعقوب عليه السّلام أساء بهم الظن، و حق له أن يسي ء، لما سبق من عملهم مع يوسف، و لما علم

______________________________

(1) هود: 118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 30

من أنهم يكرهون بنيامين، أ لم يقولوا قبل أيام «لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ»؟ أما الشواهد فلم تكن كافية، إذ من

المحتمل أنهم هم الذين دسّوا الصاع في رحل بنيامين ليسببوا له هذه المشكلة، و قد قرروا هم أن من وجد الصاع في رحله فهو جزاؤه، أما بقاء أكبر الأخوة، فذلك ليس بأعظم من عملهم قبل مدة إذ «جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ» فقد قدروا بقاء الأخ هناك لرفع هذه المكيدة عنهم، و أهل المدينة و العير قد رأوا إبقاء الملك لبنيامين، لكن لعلم علموا أن ذلك لم يكن بكيد منهم، و لذا شك يعقوب بهم و أساء الظن في قصتهم ف قالَ عليه السّلام بَلْ سَوَّلَتْ أي زينت و سهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فلنسلم أنه سرق، و لكن من علم الملك، باتخاذ إجراء عقوبة السارق في مدينتنا، على السارق في مدينتهم، مع أن حكمهم يختلف عن حكمنا، و ليس ذلك إلا الجزاء، لا البقاء ألستم أنتم قلتم له ذلك؟ و قد كان يعقوب عليه السّلام صادقا في ذلك إذ هم الذين قرروا هذا الجزاء أما أن يعقوب عليه السّلام كيف لم يعرف صدقهم؟ فالجواب أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما يريده اللّه سبحانه من الغيب، كما قال (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) «1» فأمري في هذه القصة- أيضا- كقصة يوسف من قبل فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا شكوى فيه، و لا جزع بأن أقول ما يغضب اللّه سبحانه عَسَى لعل اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ بيوسف و بنيامين و يهودا أكبر الأخوة الذي بقي هناك

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 31

[سورة يوسف (12): آية 84]

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

جَمِيعاً فقد علم يعقوب أن يوسف لم يأكله الذئب

و إنه حي مرزوق من طريق الوحي إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بعباده، و ما يعملون الْحَكِيمُ في تدبيره، فهو إنما فعل ذلك بي لحكمته و مصلحته.

[85] وَ حينذاك تَوَلَّى أي أعرض يعقوب عَنْهُمْ فإن الإنسان إذا علم أن من حوله لا يشاركونه المصاب يتنحى عنهم ناحية ليعيش منفردا بحزنه و لوعته وَ قالَ يعقوب يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف هو الحزن أي يا طول حزني على يوسف و «يا» حرف نداء حذف مناداه، أي «يا قوم» أو المراد «يا أسف احضر فهذا وقتك» كما قالوا في «يا عجبا» و نحوه، و ألف أسفي بدل من ياء المتكلم، و يجوز ذلك في المنادي المضاف إلى ياء المتكلم، كما قال ابن مالك:

و اجعل منادى صحّ إن يضف لياكعبد عبدي عبدا عبديا

و إنما ذكر «يوسف» لأنه هو الذي غاب عنه خبره، أما الولدان الآخران فقد علم بمكانهما، و الإنسان لا يأسف لمن غاب و علم بمكانه، كما يأسف لمن لا يدري محله، و أين هو، و كيف يعيش وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ أي و قد كان عليه السّلام «ابيض» سواد عينيه مِنَ الْحُزْنِ و البكاء على يوسف، نسب الابيضاض إلى الحزن، مع أنه من البكاء، من باب نسبة الشي ء إلى سببه، قالوا و قد ثبت في الطب الحديث، أن نفس بعض الطبقات في العين تبيض، لا أن ماء ينزل، كما ظن بعض الأطباء القدامى، فإن كان الأمر كما ذكروا، فذاك من خوارق القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 32

[سورة يوسف (12): آية 85]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)

الحكيم، و ما أكثرها ثم أنه لم يثبت أن يعقوب عليه السّلام عمى من

جهة ابنه و بكائه، و ليس في قوله سبحانه «ارتد بصيرا» شاهد لذلك فإن هذا التعبير كثيرا ما يؤتى به لإفادة جلاء البصر و ذهاب الحزن- فلا منافاة لذلك، مع قاعدة وجوب كون الأنبياء تامي الخلقة، و الكلام في المقام طويل نكتفي منه بهذا القدر،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سئل ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف، قال: حزن سبعين ثكلى بأولادها

«1» فَهُوَ كَظِيمٌ أي ملي ء بالغيظ على الأولاد و الحزن على ولده، و لكنه كان لا يظهر غيظه، و لا يشكو حزنه لأحد.

[86] و أين للأخوة قلب يعقوب حتى يدركوا ما يدركه من الهم و الحزن، بل انهم رأوا أنفسهم في سعة حيث تخلصوا من يوسف و لذا كان يزعجهم بكاء الأب، و إذا رأوا منه ذلك من جديد قالُوا لأبيهم يعقوب تَاللَّهِ لا تَفْتَؤُا أي لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ أي ما هذا الذكر الدائم له؟ فهو استفهام استنكاري، و إنما حذف حرف النفي، و هو «لا» من «تفتؤ» لعدم الالتباس بالإثبات، فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات، كان على النفي، كما أنه إذا كان مع النفي كان للإثبات، قال سبحانه: (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) «2» و (لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) «3» إلى غير ذلك، و لكن إنما ذلك حيث الأمن من اللبس، حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا من الهم مشرفا على الهلاك، يقال رجل حرض و حارض، أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 242.

(2) البلد: 2.

(3) القيامة: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 33

[سورة يوسف (12): الآيات 86 الى 87]

قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا

مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

مشرف على الهلاك، و هو مصدر يأتي للمفرد، و الجمع بلفظ واحد أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ فتموت و تنفى و تذهب عن الحياة.

[87] قالَ يعقوب عليه السّلام في جوابهم ما يستفاد منه أنني لست أشكوا إليكم و لا أمل منكم حتى يوذيكم شكواي أو يرهقكم أملي، بل إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي أي همي و مصيبتي، فإن البث هو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه، فيضطر إلى نشره و إفشائه وَ حُزْنِي و كان الحزن هنا ما يقابل البث و هو الكامن في النفس، فالمعنى أشكوا الحزن الظاهر و الخفي إِلَى اللَّهِ و معنى الشكاية إظهار الألم و طلب رفعه وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أي أعلم أشياء غائبة عن الحواس، من حفظ يوسف ورده إلي سالما، و جزيل الأجر في الصبر- و ما أشبه- ما لا تَعْلَمُونَ أيها الأبناء.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أن اللّه أوحى إلى يعقوب: لو أمتهما- أي يوسف و بنيامين- لأحييتهما لك حتى أجمع بينك و بينهما،

و روي عن الباقر عليه السّلام أن يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت، فأجابه فقال: ما حاجتك؟ قال: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح، فقال: لا، فعلم أنه حيّ «1»

[88] ثم توجه يعقوب إلى أولاده قائلا يا بَنِيَ جمع ابن مضافا إلى ياء المتكلم- كما تقدم- اذْهَبُوا إلى أرض مصر، أو المراد اضربوا في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 87 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 34

الأرض هنا و هناك فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ بنيامين، و التحسس هو طلب

الشي ء بالحواس، مقابل التنبؤ الذي هو طلب الشي ء بالظن و الخبر، و إنما لم يذكر «يهودا» لأنه كان في مصر بإرادة نفسه، فلم يكن غيابه مهما، أما يوسف فقد احتاج أمره إلى التحسس، لأن يجده الأولاد، و بنيامين كان أمره محتاجا إلى التحسس ليرى هل يمكن إطلاق سراحه عند الملك أم لا؟.

روى عن الإمام الصادق عليه السّلام أن أعرابيا اشترى من يوسف طعاما، فقال له: إذا مررت بوادي كذا، فناد يا يعقوب، فإنه يخرج إليك شيخ، فقل له: إني رأيت رجلا بمصر يقرؤك السّلام، و يقول:

إن وديعتك عند اللّه محفوظة، لن تضيع، فلما بلّغه الأعرابي، خرّ يعقوب مغشيا عليه،

إلى آخر الحديث، فقد علم يعقوب من الشواهد و الأدلة، أن يوسف حي مرزوق، و لذا أمر أولاده بطلبه، و في المجمع، قيل أنهم لما أخبروه بسيرة الملك، قال لعله يوسف، فلذلك قال يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه، أي استخبروا من شأنهما، و اطلبوا خبرهما، و انظروا أن ملك مصر ما اسمه و على أي دين هو؟ فإنه ألقي في روعي، أن الذي حبس بنيامين هو يوسف وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من رحمته، و لعل الإتيان بلفظ الروح، لأجل أن المهموم المكظوم المحتبس النفس، يحتاج إلى روح و نسيم ليروح عنه و يخفف و طي الأنفاس المحترقة الموجبة لخنقه، و احتباس نفسه إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ و رحمته إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ باللّه، و بفضله، أما المؤمن فإنه يرجو من اللّه الفرج من الشدة و الخلاص من الكربة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 35

[سورة يوسف (12): آية 88]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ

وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

[89] و لمرة ثالثة تجهز الأخوة للرحيل إلى ملك مصر لتحصيل الطعام، و في هذه المرة كانوا في شدة، فقد أضرت بهم المجاعة، و بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام رديئة، و قد أخذ منهم كلام الأب الشيخ الكسير «تحسسوا من يوسف و أخيه» مأخذا عظيما، و ساروا حتى وصلوا أرض مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على الملك قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ أي أصابنا و من يختص بنا الجوع و الحاجة و الضرر من شدة القحط و المجاعة وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ و قد كانت بضاعتهم مقلا رديئا- كما هو العادة في أيام القحط أن النباتات تردأ لقلة المطر- و قد كانت أراضيهم تنبت المقل و هو قسم من صمغ الشجر و «مزجاة» اسم مفعول للمؤنث، من باب الأفعال على وزن «مكرمة» من أزجى يزجي، و الإزجاء في اللغة السوق و الدفع قليلا قليلا، فالمعنى بضاعة دفعت إلينا قليلة قليلة، فإن الشجر يعطي هذا الصمغ في أيام الخصب كثيرا وافرا، و في أيام الجدب قليلا يسيرا، أو المراد أن البضاعة دفعت إلينا، و حصلناها قليلة قليلة، فلا نتمكن إلا منها، و لم تدفع البضاعة إلينا كثيرة وافية، حتى نتمكن من الوافي الكافي، لنعطيها ثمنا للطعام فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أعطنا الكيل وافيا- تفضلا- لا أن تعطينا بمقدار بضاعتنا، قليلا منقوصا وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا من الصدقة، أي اجعل ما تعطيه صدقة، لا في مقابل بضاعتنا، فإنها لا تفي بالكيل الوافي، أو المراد تصدق علينا، و تفضل برد أخينا بنيامين إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 36

[سورة يوسف (12): الآيات 89 الى 90]

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)

أي يثبتهم على صدقاتهم.

[90] و إذ بلغ الأمر بالأخوة هذا المبلغ يسترحمون و هم في انكسار و ضيق، لم يبق مجال لبقاء يوسف- في صورة العزيز الملك- و قد شاء الله سبحانه أن ينهي الامتحان و يرفع الشدة، و لذا قالَ يوسف عليه السّلام لهم هَلْ عَلِمْتُمْ أيها الأخوة ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من إلقائه في البئر بعد ما أردتم قتله، ثم بيعه بدراهم معدودة وَ ب أَخِيهِ بنيامين، فقد كنتم تذلونه و تنظرون إليه بالازدراء و الإهانة، كما هو العادة في أولاد الضرة، و خصوصا إذا كان ولد الضرة قريبا إلى قلب الأب إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ و لعل هذه الكلمة كانت معذرة من قبلهم يعني إنما فعلتم ذلك في زمان لم يكمل رشدكم، و قد كان هذا مصداقا لقوله سبحانه- كما سبق- «لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا»،

و عن الصادق عليه السّلام أن كل ذنب عمله العبد، و إن كان عالما، فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربه

«1»، أقول: و قد كان ذلك تلقينا لهم بأن يعتذروا به، و أن ذلك حقيقة و ليس بمجاز لأن للجهل مراتب فقد يجهل الإنسان أصل الموضوع، و قد يجهل مزاياه و مراتبه، فهل ترى أن من الممكن أن ينام إنسان وعده ملك بإعطاء قصر له، إذا هو قام في ليلة واحدة؟ أو من المعقول أن يقترف عملا، إذا أوعده بأنه إن عمله ضربه

ألف سوط؟

كلا؟ لكنه ينام و يقترف مع أن وعد الله و إيعاده حق، لا ريب له، و كلاهما أرفع منزلة من وعد الملك و إيعاده.

[91] و تبين الأخوة في نبرات الملك صوت يوسف، فإن الإنسان مهما طال

______________________________

(1) القصص للجزائري: ص 168.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 37

[سورة يوسف (12): آية 91]

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91)

الزمان، و تغير مظاهر الاخوان، و نسي أشياء يبقى في خاطره بعض المزايا، إنهم لم يكونوا ليعرفوا بعد سنوات، حيث كان في زي الملك و لم يدر في خلدهم أن ذلك الغلام الصغير المهين يصبح ملكا بهذا الشكل الراقي، و لذا قالُوا في استفهام و تعجب أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ هل أنت أيها الملك ذلك الأخ الذي تركناه في أيدي القافلة عبدا بعد سنوات قالَ الملك أَنَا يُوسُفُ أخوكم وَ هذا بنيامين أَخِي من أبي و أمي، و إنما قال ذلك مع إنهم كانوا يعرفونه، تعريفا لنفسه و تأكيدا لنفسه، أنه هو هو، كما إذا سألك سائل، هل أنت ذهبت إلى مكة، تقول أنا ذهبت و أنت ذهبت في السنة التي ذهبت، أو لعله، إنما ذكره ليفخم من شأنه، و إنه أصبح أخا للملك بعد ما كان مهينا لديكم قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة و الكرامة إِنَّهُ الضمير للشأن مَنْ يَتَّقِ الله فيمتثل أوامره و يجتنب عن نواهيه وَ يَصْبِرْ على البلية و الطاعة، بأن لا يظهر الجزع من المصيبة و لا يتكاسل عن الطاعة فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يتفضل عليهم بالأجر، و قد صبرت و اتقيت فجزاني الله ذلك.

[92] و هنا تملأ نفوس الإخوة مكانة يوسف، التي لم يكونوا يقصدونها،

كما تتجلى في نفوسهم الخطيئة التي اقترفوها بالنسبة إليه، فيتقدموا إليه، مهنئين معتذرين قالُوا تَاللَّهِ التاء للقسم، و لها لطف ليس للواو، و كثيرا ما تأتي في مقام الاستغراب، أو فيما كان هناك نكتة أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 38

[سورة يوسف (12): آية 92]

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

مزية لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك علينا، أولا بحسب الأب، و ثانيا بالملك- مع مالك من حسن الصورة و لطف السيرة، و نقاء السريرة- وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ «إن» مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا خاطئين مذنبين في ما فعلنا بك من الحسد و الإلقاء في البئر،

و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنهم قالوا له: فلا تفضحنا و لا تعاقبنا اليوم، و اغفر لنا. «1»

[93] قالَ يوسف عليه السّلام في جوابهم لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لا عيب و لا تأنيب و لا تقريع يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ دعا لهم بالغفران، أنه عليه السّلام أولا عفى عنهم بالنسبة إلى حق نفسه، و ثانيا دعا لهم بأن يعفر الله لهم. بالنسبة إلى حقه سبحانه وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإذا رحمت أنا بكم، كان هو أولى بالرحمة و الغفران، ثم لا بأس بنقل كتاب يعقوب إلى الملك، بعد أن أخذ بنيامين، ليستعطفه،

فقد روي عن الصادق عليه السّلام أن يعقوب كتب إلى يوسف: «بسم الله الرحمن الرحيم إلى عزيز مصر و مظهر العدل و موفي الكيل من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صاحب نمرود الذي جمع له النار ليحرقه بها فجعلها الله عليه بردا و سلاما و أنجاه منها، أخبرك أيها العزيز، إنا أهل بيت لم يزل البلاء إلينا

سريعا من الله ليبلونا عند السراء و الضراء، و إن

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 190. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 39

المصائب تتابعت عليّ منذ عشرين سنة، أولها إنه كان لي ابن سميته يوسف، و كان سروري من بين ولدي و قرة عيني و ثمرة فؤادي، و إن اخوته من غير أمه سألوني أن أبعثه معهم يرتع و يلعب، فبعثته معهم بكرة، فجاءوني عشيا يبكون، و جاءوا على قميصه بدم كذب، و زعموا أن الذئب أكله، فاشتد لفقده حزني، و كثّر عليّ فراقه بكائي حتى ابيضت عيناي من الحزن، و إنه كان له أخ و كنت به معجبا، و كان لي أنيسا، و كنت إذا ذكرت يوسف ضممته إلى صدري، و إن إخوته ذكروا إنك سألتهم، و أمرتهم أن يأتوك به و إن لم يأتوك به منعتهم الميرة، فبعثته معهم ليتماروا لنا قمحا، فرجعوا إليّ و ليس معهم، و ذكروا أنه سرق مكيال الملك، و نحن أهل بيت لا نسرق، و قد حبسته عني و فجعتني به و قد اشتد لفراقه حزني حتى تقوس لذلك ظهري، و عظمت فيه مصيبتي مع مصائب تتابعت عليّ، فمن عليّ بتخلية سبيله و إطلاقه من حبسك و طيّب لنا القمح، و اسمح لنا في السعر و أوف لنا الكيل، و عجل سراح آل إبراهيم» قال: فمضوا بكتابه حتى دخلوا على يوسف في دار الملك، و قالوا: يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر إلى آخر الآيات و تصدق علينا بأخينا بنيامين و هذا كتاب أبينا يعقوب أرسله إليك في أمره يسألك تخلية سبيله، فمنّ به علينا، فأخذ يوسف كتاب يعقوب و قبله و وضعه على عينيه و

بكى و انتحب «و الانتحاب أشد البكاء» حتى بلت دموعه القميص الذي عليه ثم أقبل عليهم، و قال:

علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه من قبل؟. «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 312.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 40

[سورة يوسف (12): الآيات 93 الى 94]

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)

[94] ثم أعطى يوسف عليه السّلام قميصه- و هو قميص إبراهيم عليه السّلام الذي جاء به جبرئيل من الجنة ليلبسه فيقيه حر النار و حين أراد نمرود أن يلقيه فيها، و قد كان تميمة في عضد يوسف عليه السّلام- إلى إخوته، و قال لهم اذْهَبُوا أيها الإخوة بِقَمِيصِي هذا إلى بلدنا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي و قد عرف من الغيب أنه إذا ألقي على وجهه يَأْتِ بَصِيراً ترتد عينه كما كانت، بأن يتبدل بياضها بالسواد، و تجلوا كما كانت، و لعل التعبير ب «يأت» لأجل إفادة الأمرين «الارتداد بصيرا» و «الإتيان إلى يوسف» وَ أْتُونِي أي تعالوا إليّ أيها الإخوة بِأَهْلِكُمْ أي مع أهلكم أَجْمَعِينَ فلا يبقى أحد منكم في تلك المدينة، و قد أراد يوسف عليه السّلام أن يجعل لأبيه الفرح، و الفرج و البشارة قبل أن يتلاقى معه، و في بعض التفاسير إن يوسف قال لهم إنما يذهب بقميصي من ذهب به أولا، فقال يهودا: أنا ذهبت به و هو ملطخ بالدم، فأخبرته أنه أكله الذئب، قال: فاذهب به أنت أيضا فأفرحه كما أحزنته.

[95] وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي لما خرجت القافلة من مصر، و انفصلت من المدينة نحو الشام محل يعقوب

قالَ أَبُوهُمْ يعقوب لمن كان عنده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ و قد شاء الله ذلك، و كانت المسافة ثمانين فرسخا- كما ورد- و هل المراد بالريح العطر، أو المراد استشعار ذلك- فإن اللفظ يطلق عليهما- احتمالان لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ الفند ضعف الرأي و العقل على إن لم تنسبوني إلى الفند، و جواب لو لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 41

[سورة يوسف (12): الآيات 95 الى 97]

قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)

محذوف، أي لصدقتموني.

[96] لكنهم لم ينفع معهم كلام يعقوب، و رجائه أن لا يفندوا لرأيه، بل قالُوا أي من حضر ممن كان في طرف خطابه عليه السّلام تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ أي اشتباهك و انحرافك عن الصواب في أمر يوسف الْقَدِيمِ فقد كنت من السابق تظن أنه لم يمت، و الحال أنه قد مات، و ذهب و أكله الذئب، فلم يقل يعقوب شيئا حتى جاء يهودا، ولده الأكبر الذي كان معه القميص.

[97] فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشر بيوسف أَلْقاهُ أي ألقى قميص يوسف عليه السّلام عَلى وَجْهِهِ وجه يعقوب فَارْتَدَّ أي رجع كما كان بَصِيراً تقدم أنه من المحتمل إرادة ارتداد قوة نور البصر إليه، بعد أن ضعف لكثرة البكاء، فإن الإنسان إذا بكى كثيرا غشاه غبار يحول بينه و بين حدة الإبصار ف قالَ يعقوب عليه السّلام لمن فند قوله «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ أيها المفندون إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أي من طرفه سبحانه و بإلهامه

إليّ ما لا تَعْلَمُونَ إذ قد و عدني بإرجاع يوسف إليّ.

[98] و جاءوا إلى أبيهم يعقوب ليغفر لهم ذنبهم الذي اقترفوه و سببوا له تلك الأحزان و اللواعج، لكنهم لا يريدون أن يغفر لهم هو وحده، بل يطلبون فوق ذلك أن يطلب من الله غفران ذنبهم، فإن ذنبهم كان مزدوجا أمام الله، و أمام أبيهم- بعد ما كان ذنبا بالنسبة إلى أخيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 42

[سورة يوسف (12): الآيات 98 الى 99]

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)

يوسف بالذات- قالُوا قالت الأخوة يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كلفوه بالاستغفار لهم، لأنهم كانوا يعلمون باستجابة دعائه فإن دعاء الوالدين في حق الولد مستجاب، خصوصا مثل يعقوب النبي الجريح الفؤاد إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ في ما ارتكبناه من العمل.

[99] قالَ يعقوب عليه السّلام في جوابهم سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي طلب غفرانه لكم، ورد في الأحاديث أنه إنما أخر الاستغفار بغية أن يستغفر لهم وقت السحر، لأنه أقرب إلى الإجابة، إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ الذي يغفر الذنب و يمحيه الرَّحِيمُ الذي يرحم عباده و يتفصل عليهم،

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه سئل عن أولاد يعقوب قال: ما كان أولاد يعقوب أنبياء، و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا يفارقوا الدنيا إلا سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا «1».

[100] و لما أن بشّر يعقوب و أهله بأن ولدهم يوسف أصبح ملك مصر، بيده الأمر و النهي، و إنه أرسل إليهم، تجهزوا للرحيل بكل سرعة، و جاءت القافلة و ملؤها الفرح يحدوها السرور و الرغبة

حتى وصلت أرض مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى أي ضمّ، من الإيواء بمعنى إعطاء المحل و المكان إِلَيْهِ أي إلى نفسه أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل، و قد كان لقائهم خارج المدينة، فقد استقبلهم يوسف عليه السّلام،

______________________________

(1) راجع القصص للراوندي: ص 129.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 43

[سورة يوسف (12): آية 100]

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

و هناك تلاقى معهم و رحب بهم، و ضم الأبوين إلى نفسه- و لعله بالمعانقة و التقبيل و ما أشبه- كما هو المعتاد عند لقاء الأحبة، و بالأخص العائلة وَ قالَ لهم يوسف ادْخُلُوا مدينة مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ بمشيئته و إرادته آمِنِينَ في حال كونكم في أمن و أمان.

[101] وَ رَفَعَ يوسف أَبَوَيْهِ يعقوب و راحيل عَلَى الْعَرْشِ أي سرير المملكة إعظاما لهما، و قد كان لا يجلس على السرير إلا الملك وَ خَرُّوا أهل يوسف لَهُ ليوسف سُجَّداً جمع ساجد، كما أن ركّع، جمع راكع، احتمل بعض العلماء أن السجود لغير الله سبحانه- بإذنه تعالى- كان جائزا في الأمم السابقة، كما سجدت الملائكة لآدم، و سجد أهل يوسف ليوسف، حسب ما يظهر من القرآن الكريم، و كم من حكم كان في الأمم السابقة جائزا و لم يجز في هذه الأمة- و ذلك ليس خلافا للعقل، فإنه كما يجوّز العقل التعظيم دون الركوع و السجود، يجوز التعظيم إلى حدهما، أقول:

لكن في المقام نص خاص دل على السجود لم يكن لآدم و ليوسف، و إنما لله سبحانه، و كأنهما عليه السّلام كانا محل التوجه كما نسجد نحو الكعبة لله سبحانه، و في ذلك تعظيم ضمني لمن يسجد نحوه،

فقد سئل يحيى ابن أكتم موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضهما على أبي الحسن علي بن محمد عليه السّلام، فكان إحداها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟ فأجاب أبو الحسن عليه السّلام: أما سجود يعقوب و ولده فإنه لم يكن ليوسف، و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية ليوسف، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه السّلام، كان منهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 44

طاعة لله و تحية لآدم، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى

«1»، لاجتماع شملهم، ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت: رب قد آتيتني من الملك وَ قالَ يوسف عليه السّلام يا أَبَتِ التاء عوض ياء المتكلم، قال ابن مالك:

و في الندا أبت عرض قبل النداء و من اليا التا عوض

هذا الذي تراه من سجودكم لي تَأْوِيلُ رُءْيايَ التي رأيتها و أنا عندكم، و إن الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا سجدوا لي مِنْ قَبْلُ في زمان صغري قَدْ جَعَلَها أي جعل الرؤيا رَبِّي حَقًّا أي صدقا مطابقا للواقع، و آلت رؤياي إلى هذه النتيجة حيث صرت ملكا، و سجد لي أبواي و إخواني الأحد عشر، وَ قَدْ أَحْسَنَ ربي بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ الذي ابتليت به سبع سنوات وَ إذ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية «ليجمع شملنا» فقد كانوا يسكنون البادية، و

يرعون أغنامهم فيها، و في سنة القحط قد هلكت أغنامهم، و أحوجهم العوز إلى السفر إلى مصر، حتى تم هذا اللقاء، و لعله لم يذكر نعمة الله عليه في إخراجه من الجب، لئلا يذكّر الأب بصنيع الأخوة به، كرما منه و إحسانا، فإن من الأخلاق أن ينسى الإنسان إساءة الغير إليه،

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 356.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 45

[سورة يوسف (12): آية 101]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

و إحسانه إلى الغير مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ أي أفسد بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي و كان الإفساد بإلقاء الحسد على قلب الأخوة، حتى صنعوا ما صنعوا إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ في تدبير عباده لِما يَشاءُ من الأمور و معنى اللطيف أنه يفعل الأشياء الدقيقة النافعة، مما لا يتمكن الإنسان عليها إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَلِيمُ بالمصالح الْحَكِيمُ فيما يفعل، و الحكمة هي وضع الأشياء مواضعها.

روي أن يعقوب سأل يوسف عن ماذا صنع الأخوة به؟ فقال يوسف: يا أبة لا تسألني عن صنيع إخوتي بي، و سل عن صنع الله بي.

[102] ثم يتوجه يوسف إلى الله سبحانه، يشكره ما أنعم عليه، و يعدد لطفه به، و يسأله حسن الخاتمة، قائلا يا رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعض ملك الدنيا و سلطانها وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تفسير المنامات، بما تؤول إليه، أنت ربي فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقها و مبدعها، فلك الخلق و منك الأمر و الفضل أَنْتَ دون سواك وَلِيِّي الذي يتولى كل شؤوني، كما تولى خلق السماوات و الأرض فِي الدُّنْيا وَ

الْآخِرَةِ تتولى في الدنيا إصلاح حالي، و في الآخرة سعادتي و نجاتي تَوَفَّنِي يا رب، أي خذ روحي- وقت موتي- مُسْلِماً لك في جميع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 46

[سورة يوسف (12): آية 102]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102)

الأمور وَ أَلْحِقْنِي إذا توفيتني بِالصَّالِحِينَ الذين هم الأنبياء و الأئمة و الشهداء، و من في زمرتهم، و هنا تنتهي قصة يوسف عليه السّلام، و قد كان فيها من العبر و العظات الشي ء الكثير، و هي من أبلغ الدروس لمن أراد أن يسلك سبل الحياة بكل طهارة و نظافة، ففيها التنبيه على الطهارة و عاقبتها، و اللوث و عاقبته، و في الأحاديث، أن يعقوب عليه السّلام مات- بعد لقاء طويل، و ربما بلغت السنوات- و دفنه يوسف عليه السّلام في بيت المقدس، ثم مات بعد زمان يوسف عليه السّلام، و دفن في شاطئ النيل في صندوق مرمر، حتى حمله موسى عليه السّلام، و جاء به إلى الشام. «1» [103] ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة، ليذكر ما ابتدأ به، حيث قال سبحانه في أول السورة «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ، وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» ذلِكَ الذي قصصنا عليك من تفاصيل قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي الأخبار الغائبة عن الحواس نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا رسول اللّه، فإن نشأة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تكن بحيث يتطلع على هذه القصة بهذه التفاصيل حسب البيئة و الاجتماع، لو لا إخبار الله سبحانه له وَ ما كُنْتَ يا رسول الله لَدَيْهِمْ أي حاضرا عند أولئك الذين كانوا

أطراف القصة من أولاد يعقوب و زليخا و النسوة إِذْ أَجْمَعُوا إخوة يوسف أَمْرَهُمْ أي عزموا على أن يكيدوا يوسف، وَ هُمْ يَمْكُرُونَ يمكر بعضهم لإلقائه في الجب،

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 459.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 47

[سورة يوسف (12): الآيات 103 الى 105]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)

و بيعه في العير، و بعضهم لسوقه نحو الخطيئة، و إلقائه في السجن، إن كل ذلك أنا أخبرته بالوحي، و إلا فكيف يمكن التحصيل عليها بدون أن يكون المخبر حاضرا، و بدون أن يكون مجتمعة هو الذي أخبره به؟

و لكن الكفار يمعنون في التكذيب، فلا تنفع معهم هذه القصص الغيبية لإثبات الرسالة، و صدقك يا رسول الله.

[104] فإنه وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ على هدايتهم بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك في دعائهم إلى الإيمان، و لو أقمت لهم الأدلة و الشواهد.

[105] وَ الحال إنك ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي الإيمان و الاهتداء بك مِنْ أَجْرٍ و لو قليل، فلما ذا لا يؤمنون، هل لأنه كذب؟ فقد دلّت الأدلّة و الحجج عليه، أم لأنهم يفرون من إعطاء الأجر، فإنك لا تسألهم أجرا إِنْ هُوَ أي ما هذا القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ جاء لتذكير الناس بالله و المعاد، و سائر المعارف، و وعظهم.

[106] و ليس هذا فقط ذكرا، بل هناك من الآيات الكونية كثرة هائلة، لكنهم ذاهلون عنها غافلون عن دلالتها على المبدأ و المعاد- وَ كَأَيِّنْ أي كم- و هي للتكثير هنا- مِنْ آيَةٍ دالة

على الصانع فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الشمس و القمر و النجوم و السحاب، و ما إليها، و الإنسان و الحيوان و النبات، و سائر الموجودات يَمُرُّونَ عَلَيْها يشاهدونها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 48

[سورة يوسف (12): آية 106]

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106)

و يبصرونها وَ هُمْ عَنْها أي عن تلك الآيات مُعْرِضُونَ لا يتفكرون فيها، و لا يعيرونها الاهتمام، حتى تدلهم على خالقها و مبدعها.

[107] حتى أن المؤمنين لا يتخلصون عن الشرك كثيرا ما وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر المؤمنين منهم- و ذلك يعرف من السياق- بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ فإن كثيرا من المؤمنين يجعلون غير الله مؤثرا في الأشياء، و هنا هو الشرك، إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه، و ما سواه أسباب جعلها تعالى، و قد وقع الناس- كثيرا- بين الإفراط و التفريط، فمن مفرط ظن أن الاستعانة بالطبيب و المهندس و القاضي و ما أشبه شرك، حتى أنهم منعوا أن يقول الناس «يا محمد» «يا علي» و من مفرّط ظن أن الطبيب هو الشافي الحقيقي و المعطي له ما ليس هو الرزاق الحقيقي، و كلاهما باطل، فإن الإنسان إذا قال «يا محمد» و علم أن محمدا، إنما يفعل بأمر الله سبحانه، كان ذلك من محض الإيمان، كما أنه إذا ظن أن مثل هذه الاستعانة غير جائزة فهو جبري فاسد العقيدة، أو ظن أن محمدا هو المستقل بالأمر، بدون أن يكون لله مدخل أصلا فهو مفوّض منحرف الإيمان،

قال الإمام الصادق عليه السّلام في تفسير الآية- كما روي عنه-: هل الرجل يقول لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لأصبت كذا و كذا، و

لو لا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكا في ملكه، يرزقه و يدفع عنه؟ قيل، فيقول: لو لا أن منّ الله عليّ بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس بهذا

«1»، أقول: و إنما

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 200.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 49

[سورة يوسف (12): الآيات 107 الى 108]

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

ذكر الإمام ذلك من باب المثال، و إلا فهذا الاعتقاد كاف لمن يقول «لو لا فلان لهلكت»

و قد روي أن بعض الأئمة عليهم السّلام بعد ما تناول الطعام، قال: اللهم هذا منك و من رسولك فقال رجل منحرف- معترضا على الإمام- لقد أشركت، فقرأ له الإمام هذه الآية (وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) «1» و هذه الآية (وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ) «2» فقال الرجل: كأني لم أمرّ بهذه الآية.

[108] ثم هدّد سبحانه المشركين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، أَ فَأَمِنُوا أي هل أمن هؤلاء الكفار أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم و تحيط بهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ كالفقر و المرض و الفوضى أو الآفات السماوية كالصاعقة أو الأرضية كالهدّة و الخسف و الزلزلة أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي يوم القيامة أو الموت، لأنه إذا مات ابن آدم، فقد قامت قيامته، و القبر إما حفرة من حفر النيران، أو روضة من رياض الجنة بَغْتَةً بدون سابق إنذار

ليأخذوا حذرهم من التوبة و الإنابة و الإيمان الصادق الذي لا يشوبه شرك و لو الخفي منه وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بوقت مجي ء العذاب أو الساعة.

[109] و إذ انحرف أكثر الناس كفرا، و كثرة من المؤمنين شركا خفيا، فالرسول لا يهمه كل ذلك، بل هو جاد في طريقه، يسير نحو هدفه،

______________________________

(1) التوبة: 74.

(2) التوبة: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 50

[سورة يوسف (12): آية 109] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 99

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109)

بلا كلل و لا ملل قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء هذِهِ الطريقة التي ترونها في أقوالي، و أفعالي سَبِيلِي طريقي في الحياة لا أحيد عنها أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ من أمري فلست مقلدا و لا مغفلا و لا غافلا أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي أدعوكم أنا، و يدعوكم من آمن بي وَ سُبْحانَ اللَّهِ أي تنزيها له عن النقائص، فليس كالالهة الحجرية و الخشبية و المعدنية جاهلة لا تملك شيئا وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون باللّه شركا خفيا أو جليا، فمن شاء فليتبع طريقي و من لم يشأ، فهو و ما اختار، [110] ثم يلفت اللّه الكفار إلى حقيقة الرسالة و أحوال الغابرين، الذين تركوا اتباع الرسل، ليهزهم نحو الاتباع، و يعظهم بما قد علموه من أحوال الماضين، لعلهم يرتدعون عن غيهم وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه إِلَّا رِجالًا من المرسلين كآدم و نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و غيرهم، نُوحِي إِلَيْهِمْ نلقي إليهم

أوامرنا و إرشاداتنا مِنْ أَهْلِ الْقُرى فلم يكونوا ملائكة و لا جنّة و لا نساء، و إنما رجال من أهل البلاد، لا من أهل البادية، ليكونوا ألطف معاشرة، و أكرم أخلاقا، و أحسن عشرة لغلبة الجفاء و الخشونة على أهل البادية، أو لأنه لو بعث في البادية من أهلها، كان أهل المدن أبعد من الإيمان، أو لأن البدوي لقلة علومه يتمكن أن يدعي النبوة له كل من كان منه أدق فطنة، بخلاف أهل المدن، فإنهم مستوعبون للعلوم، فلا يتمكن أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 51

[سورة يوسف (12): آية 110]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)

يغشّهم فطن خال عن الاتصال بالسماء أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار فِي الْأَرْضِ ليطلعوا على أحوال الماضين، كيف أهلكوا لما خالفوا الرسل، فإن العلم بأحوال الأمم المختلفة ماضيهم، و حاضرهم لا يحصل غالبا إلا بالسفر و السير فَيَنْظُرُوا أي يعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبين لرسلهم، فإنهم قد أهلكوا بأنواع العذاب في الدنيا، و أما الآخرة فإن لهم جهنم لا يموتون فيها، و لا يحيون وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا معاصي اللّه سبحانه، فهم في الدنيا نعموا، و الاخرة خير لهم،

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: لشبر من الجنة خير من الدنيا و ما فيها

«1»، أَ فَلا تَعْقِلُونَ تعملون عقولكم، لتعرفوا مصير كلّ من الكافر و المؤمن، في دنياه و آخرته؟

[111] إن الكفار دائما يغترون بما يرون من ظواهر اتباع الأنبياء في بدء الدعوة، أنهم قلة لا حول لهم و لا طول، و

لكن لا يغر ذلك كفار قريش، مما يرون بالرسول من الضعف في الاتباع و القلة في الأشياع، فقد جرت عادة اللّه سبحانه أن يبدأ الإيمان بمثل ذلك، حتى يكون أقوى أساسا و أشد مراسا، و إلا فالنصر آت لا محالة و هكذا تستمر الحالة، فالرسل في ضعف من الأتباع، و الكفار في قوة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ أي يئس الرُّسُلُ من تلبية الناس و استجابتهم وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 8 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 52

[سورة يوسف (12): آية 111]

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

بصورة عامة، فلا مصدق لهم، فإن كذب- مخففا- يأتي بمعنى كذّب- مشددا- كما قال سبحانه (وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ) «1» و إنما جي ء ب «ظنوا» لأن الرسل رجحوا ذلك، و لم يتيقنوا، و إنما رجّحوا لأنهم رأوا عدم التلبية من الناس مع طول المدة، و تمام الحجج البينات جاءَهُمْ أي جاء إلى الرسل نَصْرُنا بإرسال العذاب على الكفار، و تقوية أمر الرسل فَنُجِّيَ أي نخلص من العذاب مَنْ نَشاءُ و هم المؤمنون الذين اتبعوا الرسل و آمنوا بهم وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بانحراف العقيدة و ارتكاب الآثام، و هكذا أنت يا رسول اللّه مع هؤلاء القوم، و هكذا كل داع إلى الصلاح، قائم بواجب الإرشاد، أما قتل الأنبياء عليهم السّلام- قبل ذلك- كما كان، فإنه لا ينافي ذلك، فإن المراد بالنصر نصر المبادئ التي دعوا إليها، و هو النصر حقيقة، لا العزة و

الشوكة في الدنيا، و على هذا فقوله سبحانه «و ظنوا» لا يراد به الظن الظاهري، الذي هو صفة قائمة بالنفس، بل ذلك حكاية عن ظاهر الحال، يعني أن المورد يكون مورد ظنّ بأن الرسل قد كذبهم الناس، فلا مؤمن و لا مصدق.

[112] و تأتي الخاتمة، كما ابتدأت به السورة، فهناك «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» و هنا لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي قصص

______________________________

(1) التوبة: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 53

الأنبياء عليهم السّلام مع الأمم، و قصة يوسف- بصورة خاصة- عِبْرَةٌ أي اعتبار لمن اعتبر، و بصيرة عن الجهل لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإن اللب هو العقل ما كانَ الذي جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قصصهم حَدِيثاً يُفْتَرى قصة مختلقة مكذوبة وَ لكِنْ كان ما جاء به تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي تصديقا للكتب، و الوقائع التي سبقت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ كان تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ ما يحتاجه الناس في أمور دينهم و دنياهم، و ليس المراد بالتفصيل بيان الجزئيات، بل تفصيل الخطوط العامة حول العقيدة و الأحكام و الآداب وَ هُدىً أي هداية و إرشادا للناس وَ رَحْمَةً تسبب رحم الناس و نجاتهم من كوارث الدنيا و عذاب الآخرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما خصهم لأنهم هم الذين ينتفعون به، و إلا فقد جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بما جاء به للبشر عامة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 54

13 سورة الرعد مكيّة/ آياتها (44)

سميت السورة ب «الرعد» لاشتمالها على هذه الكلمة، و هي كسائر السور المكية على ما قال بعض المفسرون- تعالج شؤون التوحيد و البعث و ما إليهما.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ

الرَّحِيمِ ابتداء بذكر اسم اللّه عز و جل، للدلالة على تمام السورة السابقة، و الشروع في سورة جديدة، و أيّ شي ء أفضل من اسم اللّه حتى يبتدأ به؟ و ذكر «الاسم» لأن اللّه لا يبتدأ به، و إنما يبدأ باسمه، أنه اللّه الرحمن الرحيم، الذي أظهر صفاته الرحم و التفضل، لا الانتقام و العقاب، و القوة و العذاب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 55

[سورة الرعد (13): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)

[2] المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ من جنس «الف، لام، ميم، راء» آيات القرآن الحكيم، فإن الآيات مركبة من هذه الحروف التي يتلفظ بها كل الناس، و لكنهم هيهات أن يتمكن أفراد البشر أن يأتوا بحيوان واحد يركبونه من الأجزاء المذكورة فيصير حيوانا، و على هذا ف «المر» مبتدأ، و تلك آيات الكتاب، خبره، و اسم الإشارة «تلك» إشارة إلى هذه الحروف و ما أشبهها، أو أن «المر» رمز بين اللّه و بين الرسول، أو غير ذلك من الأقوال البالغة أربعة عشر قولا، في فواتح السور، و على هذا ف «تلك» مبتدأ، خبره «آيات الكتاب» أي أن هذه التي بين يديك، أيها القارئ هي آيات الكتاب، و إنما جي ء بلفظ البعيد، إشارة إلى بعد الآيات مقاما، و علوها شأنا، عن قرب الناس، كما تقول: ذلك الفقيه يقول، و ليس بينك و بينه فاصل، و إنما تأتي «بذلك»

إشارة إلى رفعة الفقيه منزلة، حتى كأنه بعيد عنك، لا تناله أنت- كما ذكروا في علم البلاغة- وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن الذي أنزل مِنْ رَبِّكَ هو إليك الْحَقُ «خبر» لقوله و «الذي» فإنه مطابق للواقع لا انحراف فيه و لا زيغ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ أي لا يصدقون، مع أنهم يرون أن القرآن حق.

[3] ثم يبدأ سبحانه بإله الكون، و أنه هو الذي جعل الكون بما فيها من الآيات المدهشة، ثم يأتي دور التعجب من الذين ينكرون البعث اللَّهُ هو الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي جعلها رفيعة، و أيّا كانت السماوات، سواء هي المدارات، أم أجسام ضخام، أم المراد جهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 56

العلو و طبقات الجو، فهي شي ء رفيع يعرفه كل أحد، فمن رفعها و جعلها، أ ليس اللّه سبحانه؟ بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عماد، و هي الدعائم، و هذا أغرب، فقد نرى أن كل شي ء رفيع لا بد له من عماد يستند إليه، فكيف رفعت السماوات بغير عماد، تَرَوْنَها ظاهرة لكم، فإن كل ناظر يرى السماوات- بأي معنى كان-، ثم أن هناك قولين: الأول أن «ترونها» جملة منفصلة. و على هذا يكون المعنى لا عمد للسماوات، الثاني أن «ترونها» صفة ل «عمد» أي لا عمد مرئية لها، و المفهوم منه أن لها عمد غير مرئية، و على هذا فالمعنى أن للسماوات عمد، و لا تنافي بين القولين، فإن السماوات لا عماد لها خارجا، و لها عماد- من قدرة اللّه سبحانه- لا يرى ذلك العماد ثُمَ بعد رفع السماوات بغير عمد اسْتَوى اللّه سبحانه، أي استولى و سيطر عَلَى الْعَرْشِ أي على كرسي الملك، و ذلك شي ء مهول لا يرى،

كما أن السماوات شي ء عظيم يرى، يعني أنه سبحانه بعد ما خلق السماوات، استولى على أزمة الأمور، يقال: استوى الملك على عرش المملكة، يراد أنه أخذ بيده أزمة الحكم و سيطر و تسلط عليه لا يزحزحه مزحزح لا أنه جلس على كرسي خارجي- فهو معنى كنائي- و على هذا فالإتيان ب «ثم» مع أنه سبحانه لم يزل كذلك، من باب أنه سبحانه بعد إيجاد الكون سيطر عليه، أما قبله، فلا سيطرة من باب السالبة بانتفاء الموضوع- و هذا الذي ذكرناه في تفسير «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أحد المعاني المحتملة في الآية- وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذلّلهما لمنافع خلقه، و جعلهما يطيعانه، كما يريد كُلٌ من الشمس و القمر يَجْرِي و يسير في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 57

[سورة الرعد (13): آية 3]

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)

دؤوب و استمرار لِأَجَلٍ أي وقت مُسَمًّى سمي عنده سبحانه، فوقت وقوفها عن الحركة، و انتهاء أمر سيرهما، معلوم عنده سبحانه مسمّى في لوحه المحفوظ، و إنما أتى باللام، و لم يقل «إلى أجل» لإفادة أن السير إنما هو لإدراك تلك الغاية، فكأنهما يسيران ليأتيا بيوم القيامة، حيث الشمس تكور، و النجوم تنكدر و القمر ينخسف .. أنه سبحانه خلق هذه الأشياء و هو يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فيها و في غيرها على وجه الصلاح و الحكمة، فمنه الخلق و منه الأمر، مقابل السلاطين الذين لهم الأمر فقط- في الجملة- فهو تعالى هو الخالق المطلق، و الآمر المطلق و هو سبحانه يُفَصِّلُ الْآياتِ بينهما تفصيلا آية

فآية، لأجل الإرشاد، فهو الخالق الآمر المرشد، و إنما يفصل الآيات لَعَلَّكُمْ أيها البشر بِلِقاءِ رَبِّكُمْ عند الجزاء و الحساب، و المراد لقاء موعده، لا لقاء ذاته فإنه منزه من أن يرى تُوقِنُونَ فلا تنكرون البعث و النشور و الكتاب و الحساب.

[4] و إذ صورت الآية السابقة خلق السماوات، فلننظر إلى خلق الأرض وَ هُوَ سبحانه الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا و عرضا، لتصلح مكانا للإنسان و الحيوان، و محلا للنبات و الأشجار، و لفظة «مدّ» أكثر دلالة على القدرة من لفظ «خلق» لأن «مدّ» يشمل الخلق و أكثر وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبل، لأنها ترسو في الأرض، كما ترسو السفينة في الماء، و حكمة خلق الجبال أنها تمسك الأرض عن التفتت و الاضطراب، كما أن المسامير تمسك المصنوعات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 58

[سورة الرعد (13): آية 4]

وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

الخشبية عن التفتت و التفرق وَ شق فيها أَنْهاراً لتجري فيها المياه، و لولاها لضاعت المياه، و لم يمكن الاستفادة الصحيحة منها وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها أي في الأرض زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، فإن «زوج» يطلق على كل فرد من فردي «الزوجين» و لذا جي ء له التأكيد ب «اثنين» حتى لا يتوهم أنه تثنية «زوج» الذي يراد به «اثنان» و قد ثبت في العلم، أن كل صنف من أصناف النباتات يشتمل على ذكر و أنثى- و هذه إحدى معاجز القرآن الكثيرة-، و في الأرض يُغْشِي

أي يستر اللَّيْلَ النَّهارَ بقدرته، و الليل و النهار مفعولان ل «يغشي»، و فاعله الضمير العائد إليه تعالى، أي يأتي سبحانه بالليل ليستر النهار، فكأنه ساتر له عن الأبصار، و هذا من باب التشبيه، و إلا فالنهار يذهب إذا جاء الليل، و إنما لم يعكس، كأن يقول «يذهب الليل بالنهار» لأن الليل فيه الراحة و الهدوء، و لأنه الأصل، إذ الظلمة سابقة على الضياء- فقد قالوا أن بينهما تقابل العدم و الملكة- إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من السماء و الأرض، و الشمس و القمر، و الجبال و الأنهار، و الزوج و الزوج من النبات، و الليل و النهار- من الأمور البديعة المتقابلة- لَآياتٍ دلالات واضحات، و حجج ظاهرة على وجود اللّه سبحانه و علمه و قدرته، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في هذه الموجودات، فيدركون، أن لها صانعا قديرا عليما.

[5] ثم ننظر إلى تفاصيل أدق من تلك الخطوط العريضة في الأرض، لنرى آثار القدرة في الجزئيات، كما رأيناها في الكليات وَ فِي الْأَرْضِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 59

قِطَعٌ جمع قطع مُتَجاوِراتٌ فهي مختلفة مع أنها متجاورة بعضها في جوار بعض، فمن فصّلها مع جوار بعضها البعض؟ جبل و وهدة صلبة و رخوة، طيبة و سبخة، رفيعة و منخفضة، إلى غير ذلك وَ جَنَّاتٌ أي بساتين، جمع جنة، و إنما سمي البستان بها، لأن الأشجار تجني الأرض و تسترها مِنْ أَعْنابٍ تتسلق على الجدران و الأخشاب، و ما أشبههما وَ زَرْعٌ من بقول و أزهار يرتفع قليلا وَ نَخِيلٌ يرتفع في الجو، بلا استناد على شي ء، و لا تخرج النباتات عن هذه الأمثال الثلاثة، أما رفيعة- كالنخل- أو لا- كالزرع- و إما مستقلة،

أو غير مستقلة- كالعنب- صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ جمع صنو و هو المثل، أي بعض هذه الأشياء متشابهة، فنخل يشبه نخلا، و زرع يشبه زرعا، و عنب يماثل عنبا، و بعضها غير متشابهة، فنخل يعطي البربن، و آخر يعطي الزهدي، و عنب أبيض و عنب أسود، و زهر عطر و آخر قليل الرائحة، و هكذا، و المدهش حقا أن كل ذلك يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ و ينبت في أرض واحدة، و الضياء و التربية، و كل ذلك غير مختلف، و مع ذلك لكل لون، و رائحة و طعم، و خاصية، و شكل، و حجم، و وزن، إلى غيرها، فشكل هذا مدور، و ذاك مربع، و حجم هذا كبير و ذاك صغير- و لو كان كلاهما مدورا مثلا- و وزن هذا أوقية، و ذاك أوقيتان- و إن كان كلاهما في شكل و حجم واحد- وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ أي نفضل نحن- و المراد بالفاعل هو اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 60

[سورة الرعد (13): آية 5]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)

سبحانه- بعض تلك الثمار على بعضها الآخر في الطعم، فهذا حلو قليل الحلاوة، و ذلك حلو كثير الحلاوة، كما أن الثالث مرّ، و الرابع مالح و إن لم تختلف الأشكال، كما نرى في اللوز الحلو و المر، و ما أشبه و «الأكل» هو الثمر الذي يؤكل، أي أنها مختلفة في الثمار، مع أن الماء واحد .. إلى آخره- إِنَّ فِي ذلِكَ الذي عرضناه من الأرضين المختلفة، و الثمار

المتفاصلة لَآياتٍ حجج و براهين دالة على وجود اللّه و علمه و قدرته، و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتبعون عقولهم، بعد أن يعملوها لإدراك الحقائق و التوصل من الأثر إلى المؤثر.

[6] إن كل ذلك لا يكفي هؤلاء للإذعان باللّه سبحانه و بما أخبر به من الحساب و الجزاء- و حيث كان ما تقدم تكلمنا حول المبدأ، يأتي دور التكلم حول المعاد- وَ إِنْ تَعْجَبْ يا رسول اللّه من شي ء فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي فالحقيق بالعجب قول المنكرين للبعث، أو المراد، و إن تعجب من إنكارهم البعث فحقيق عجبك، إذ هو في محله، و ما هو قولهم الحقيق بالتعجب؟ أَ إِذا متنا و كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟! نخلق من جديد بشرا سويا لنحاسب و نجازى، إن ذلك لا يكون، و هل هذا القول، إلا من أغرب الأمور، فإن اللّه الذي خلق السماوات و الأرض، و تلك الأشياء الهائلة، التي سبق ذكرها، بدون سابق كونها، بل أخرجها من كتم العدم، ليس قادرا على إعادة هؤلاء إلى الحياة، أُولئِكَ المنكرون للبعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 61

[سورة الرعد (13): آية 6]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)

اعترفوا به، إذ من لا يؤمن أنه تعالى قادر على الإعادة، أو يعترف بالقدرة، و لكنه لا يذعن بالإعادة، فهو كافر باللّه، بما له من الصفات، أو كافر بأقواله و أخباره، وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في الآخرة جزاء لإنكارهم في الدنيا، أو المراد أغلال التقاليد و الخرافة في أعناقهم- هنا- فلا يتبعون الحق، كالمغلول

الذي ليس له حرية التصرف، حتى يتصرف كما يشاء، أو المراد أغلال المعاصي و السيئات، يعني أنهم لا يتمكنون من الفرار عن معاصيهم بإنكارهم البعث، كما قال سبحانه: (وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) «1» وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها الخالدون فيها هُمْ فِيها خالِدُونَ ليس لهم عنها تحول و انتقال.

[7] إن هؤلاء المنكرين للبعث، يطلبون من النبي أن يعجّل لهم بالعذاب- استهزاء- و يقولون «متى هو؟» فقد سفهت عقولهم، فعوض أن يطلبوا الهداية و الخير و السعادة، يطلبون سرعة العذاب، كأنهم لم يعتبروا بما أصاب الأمم الخالية، حيث خالفوا الرسل، و كذبوا بالمعاد، وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول اللّه بِالسَّيِّئَةِ أي بالعذاب، أي يطلبون منك أن تعجل عليهم بالعذاب، بأن تدعوا اللّه ليعذبهم قَبْلَ الْحَسَنَةِ قبل الرحمة و السعادة و الهداية، و المراد أنهم يطلبون ذاك، دون هذا، لا أنهم يطلبون العذاب، ثم يطلبون السعادة- و هذا تعبير مجازي-

______________________________

(1) الإسراء: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 62

[سورة الرعد (13): آية 7]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

وَ قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي العقوبات التي يقع بها الإعتبار، و هو ما حلّ بالأمم السابقة، من المسخ و الغرق و الهلاك بالعواصف و الصيحة، و قلب الأرض عليهم و غيرها، و مثلات، جمع مثلة، بفتح الميم و ضم الثاء، و هي العقوبة، سميت بها لأنها تمثل، و أنها تسير بها الأمثال، وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ أي يغفر ذنوبهم عَلى ظُلْمِهِمْ مع أنهم ظالمون، فإنه سبحانه لو أخذ الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها دابة، و

إنما جي ء بلفظ «على» لبيان علو المغفرة على الظلم، كأن المغفرة تتجلل الظلم حتى تستره و تخفيه وَ لكن لا يعني غفران الظالمين، حتى يتمادوا في غيهم ف إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ فإن عقابه لا يشبه عقاب الناس بعضهم لبعض،

روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لو لا نصر اللّه و تجاوزه ما هنأ أحد العيش، و لو لا وعيد اللّه و عقابه لا تكل كل أحد.

[8] إن الذين كفروا، يكفرون باللّه «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ» و ينكرون المعاد «أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» و ينكرون الرسالة وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا ليس محمد مرسلا، و لو كان من عند اللّه لأنزل اللّه عليه الآيات كاليد و العصا، و إحياء الأموات، و ما أشبهها ف لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ و قد قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، إلى غيرها، لكن هذا الكلام منهم فارغ، فإنهم إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 63

[سورة الرعد (13): آية 8]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8)

يريدوا الإيمان و الإذعان بالخوارق، فقد زوّد النبي بالقرآن الذي هو من أكبر المعجزات، و إن يريدوا الجدل، فلا يؤمنون، و إن يروا كل آية إِنَّما أَنْتَ يا رسول اللّه مُنْذِرٌ مرسل للإنذار كغيرك من الأنبياء المرسلين، و ما عليك إلا الإتيان، بما يصح به أنك رسول مخوّف منذر، و الآيات كلها متساوية في حصول الغرض، فطلبهم لآية جديدة ليس إلا تعنتا و جدلا وَ

لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فلست بدعا جديدا، حتى تأتي بالاقتراحات، و إنما كان لكلامه هاد، يهيديهم إلى الحق، و إلى صراط مستقيم، أما إنزال الآيات، فهو مرتبط بخالق الكون، إن شاء أنزل، و إن شاء لم ينزل، و إنما اللازم أن يفعل بقدر إتمام الحجة، و قد فعل، و ما ورد من أن المراد، أن عليا عليه السّلام، هو الهادي، فإنه من باب المصداق في هذه الآية- كما لا يخفى-.

[9] ثم يأتي السياق ليبين جملة أخرى من الآيات الدالة على وجود اللّه و علمه و قدرته، و تدل بالملازمة إلى إمكان البعث و النشور اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ذكر أو أنثى تام أو ناقص حسن أو قبيح، سعيد أو شقي في الإنسان، و في غير الإنسان، و لو لم يعلمه لم يتمكن أن يخلقه و يصوره، و يتقن صنعه وَ يعلم ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يقال غاض الماء- أو غيره من المائعات- يغيض بمعنى قلّ في الأرض، أي يعلم ما تنقصه الأرحام من المدة، أو الحمل بأن تخرج الأرحام الولد دون تسعة أشهر، أو دون كمال جسمه، بأن كان ناقصا، فالمفعول لتغيض محذوف «أي تغيضه الأرحام» و نسبة الغيض إلى الرحم مجاز، وَ ما تَزْدادُ الأرحام له من المدة و الخلقة، بأن تخرج الولد بعد تسعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 64

[سورة الرعد (13): آية 9]

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)

أشهر- كعشرة أشهر أو أكثر- أو تزيد في الخلقة، كأن تصنعه ذا رأسين أو ستة أصابع أو نحوها، و الحاصل أن الله يعلم المحل، و يعلم وقت الولادة، زيادة أو نقيصة من المدة المقررة للولادة، و يعلم أن الولد ناقص أو زائد،

روي عن الصادق

عليه السّلام أنه قال: «ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الذكر و الأنثى «وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ» ما كان دون التسعة، و هو غيض «وَ ما تَزْدادُ» ما رأت الدم في حال حملها ازداد به على التسعة أشهر «1»

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ تعالى بِمِقْدارٍ فليس زيادة المدة و الخلقة، أو نقصانهما، كالزيادة و النقصان من مصنوعات الناس، حيث يخرج الأمر من أيديهم، بل إنه سبحانه، يفعل كل ذلك بتقدير و حكمة، فالزيادة و النقصان بقدر و تقدير.

[10] إنه سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس ظاهرها و باطنها، سواء كان موجودا، أو معدوما، فإنه يعلم أن المعدوم لو كان كيف كان وَ الشَّهادَةِ أي تدركه الحواس، من شهد بمعنى حضر، كأنه يحضر عند الحواس الْكَبِيرُ الشأن الذي كل شي ء لديه حقير و ضيع الْمُتَعالِ اسم فاعل من «تعالى يتعالى» بمعنى المتعالي على كل شي ء بعظمته، فهو أقدر من كل قادر، و أعلم من كل عالم، و أعظم من كل عظيم، كما أشير إلى ذلك كله في هذه الآيات- و الفرق بين الكبير و المتعال، أن الأول صفة ذات، و الثاني صفة فعل، فإن الممكن أن يكون الكبير غير متعال، أو أن المتعال غير كبير.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 2 ص 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 65

[سورة الرعد (13): الآيات 10 الى 11]

سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ

مِنْ والٍ (11)

[11] إنه بعمله يعلم كل شي ء سَواءٌ مِنْكُمْ أي متساو في عمله، أيّ شخص منكم مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أي أخفاه، فإنه يعلمه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ أي أبداه و أظهره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ من هو مستتر متواري بالليل، و كان الإتيان بباب الاستفعال، لإفادة أنه كان طالب الخفاء بالليل، فليل و استخفاء، و مع ذلك يعلمه سبحانه وَ سارِبٌ أي بارز، من «سرب سروبا» إذا برز، أي ظهر بِالنَّهارِ فله ظهور في ذاته، و ظهور لكونه في النهار،

قال الإمام الباقر عليه السّلام: يعني أن السر و العلانية عنده سواء «1»

[12] لَهُ للّه سبحانه على البشر مُعَقِّباتٌ ملائكة يعقبون الإنسان مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي إلهام الإنسان وَ مِنْ خَلْفِهِ يعقب بعضهم بعضا في حفظه يَحْفَظُونَهُ حفظا ناشئا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ و لا يخفى أن التعقيب، و إن كان في الأصل المجي ء عقب شي ء أو شخص، إلا أنه يستعمل بمعنى الحافظ المرتقب لأعمال الإنسان، و إن كان فوقه أو أمامه،

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير فيخلون بينه و بين المقادير «2»

و عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال في تفسير الآية: هما ملكان يحفظانه بالليل، و ملكان بالنهار

«3»، فهو سبحانه مع علمه الشامل و قدرته

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 82.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 56 ص 151.

(3) بحار الأنوار: ج 56 ص 179.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 66

الكاملة، يرسل ملائكة لحفظ الإنسان، فلا يخرج الإنسان من تحت قدرته و اطلاعه بواسطة أولئك الملائكة، كما أنه ليس بخارج بالذات، و كان أمثال هذه الأمور، من باب أن الله جعل لكل

شي ء سببا، و إلّا لم يحتج تعالى إلى أي من ذلك، ثم أنه سبحانه يتعقبهم بالحفظة، لمراقبة أمورهم، و ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم و أحوالهم، ليرتب عليه تغييرا لهم ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي الحالة التي هي نازلة بقوم، من عز أو ذل، نعمة أو نقمة، رفعة أو انحطاط، صحة أو مرض، إلى غيرها حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي يغيروا الحالة التي هي بأنفسهم، فإذا جدّوا و اجتهدوا في العمل، أورثهم العز و السيادة، و إذا كسلوا أورثهم الانحطاط و الذلة، و إذا تناولوا المحرمات أورثهم الأمراض، و إذا اتقوا أورثهم الصحة، و هكذا، فإن كل حالة فردية أو اجتماعية، فإنما هي وليدة عمل الفرد و الجماعة، وَ إِذا عمل القوم بالمعاصي و المنهيات ف أَرادَ اللَّهُ بذلك القوم سُوْءاً من عذاب، أو ذلة أو مرض، أو فقر، أو ما أشبه فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لا دافع له، فلا يظن الناس أنهم يعملون بأسباب البلاء، ثم يقف المال أو السلطة، أو ما أشبههما حسدا دونه وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ من دون الله مِنْ والٍ يلي أمورهم، و ذلك واضح، فإن الله سبحانه جعل للحياة السعيدة خطوطا عريضة، فمن انحراف عنها شقي، و من سار عليها سعد، و الانحراف موجب للشقاء، و إن توسل الإنسان بألف وسيلة و وسيلة لسعادته، و الاستقامة موجبة للسعادة، و إن كاد له كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 67

[سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 13]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ

فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)

[13] ثم شرع في آيات كونية جديدة، تدل على ذاته و صفاته و هُوَ الله الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ و هو النور الذي يرى عند وجود السحاب خَوْفاً وَ طَمَعاً أي تخويفا من الصاعقة المهلكة، و تطميعا في الغيث المحيي للأرض، و هما حالان، أي في حالة التخويف و التطميع، فأقيم قيام المصدر، قال ابن مالك.

و مصدر منكر حالا يقع بكثرة، كبغتة زيد طلع

وَ يُنْشِئُ أي يوجد السَّحابَ الثِّقالَ بالمطر، و إنما وصف السحاب، و هو مفرد، بالثقال، و هو جمع ثقيل، لأن اللام في السحاب للجنس، فهو في المعنى الجمع، كما قالوا في «أهلك الناس الدينار الصفر و الدرهم البيض».

[14] وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ و هو الصوت الظاهر من السحاب عند البرق بِحَمْدِهِ إن الرعد من صنعه سبحانه، فهو حمد و تسبيح بالقدرة التي جعلت هذا المصنوع، كما أن كل مصنوع جميل يسبح و يحمد لصاحبه، فإن التسبيح هو التنزيه عن الجهل و العجز، و الآثار تدل على عدمهما، و الحمد هو الثناء لجميل الطرف، و الرعد يدل على جميل فعل الله سبحانه و إنما خص الرعد بذلك، لأن صوته يناسب ذلك، إذ المسبح الحامد يظهر من نفسه صوتا و إلا فكل شي ء يسبح و يحمد الله سبحانه، و من المحتمل أن يراد الحمد و التسبيح حقيقة، بلسان لا نفقهه، كما قال سبحانه (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 68

لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» بل مقتضى «لا تفقهون» إنها تسبح و تحمد حقيقة، إذ لو كان المراد بالتسبيح الدلالة- كما ذكر في المعنى الأول- لكان ذلك مفهوما لنا- و الله أعلم- و

معنى «يسبح بحمده» أن التنزيه إنما هو بذكر الجميل، فإن النزاهة و الجمال، لا تتلازمان خارجا، فربّ نزيه غير جميل، كما أنه رب جميل ليس بنزيه، و النزيه الجميل، قد ينزهه الإنسان، فيقول إن فلانا «غير قبيح» و قد ينزهه بذكر جماله، فيقول فلان «جميل» فإن «جميل» تنزيه له عن القبح بالثناء- الذي هو الحمد- و تسبيح الرعد بالحمد، فإن الرعد يدل على العلم و القدرة، و ذلك تنزيه عن الجهل و العجز وَ يسبح الْمَلائِكَةُ أي ينزهونه سبحانه عن النقائص مِنْ خِيفَتِهِ من خوفه سبحانه، فإن التسبيح قد يكون لمجرد ذكر الجميل، و قد يكون رغبة، و قد يكون رهبة، و إنما جاء بذلك- هنا- للتناسق مع الرعد المقرقع المخوّف، و البرق الخالب المخيف، و الصاعقة وَ يُرْسِلُ الله سبحانه الصَّواعِقَ و الصاعقة هي جسم معدني، محمي حتى الاحمرار تقذف من أعالي الجو عند السحاب و البرق و الرعد- غالبا- و علّل في العلم الحديث، بأنها من كراة أخر، تحميها الحركة السريعة فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من الناس في هذا الجوّ الرهيب، نرى البشر العاتي، وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي وجود اللَّهِ و صفاته مع ضعفهم و عجزهم، و قد رأوا تلك المشاهد الكونية الرهيبة التي تدل على إله واحد عالم قدير وَ هُوَ سبحانه شَدِيدُ الْمِحالِ أي

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 69

[سورة الرعد (13): آية 14]

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)

شديد الأخذ بالعقاب، فإن المحال مصدر باب المفاعلة، يقال ما حله مماحلة و محالا، و

على وزنه ضاربه، يضاربه، ضرابا، بمعنى قاواه، حتى يتبين أيها أشد.

[15] إنهم يدعون مع الله شركاء، و يجادلون فيه، و الحال أن دعوته- وحدها- هي الحق، فمن دعاه كان محقا، و من دعا غيره كان مبطلا، لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ فالدعوة له هي حق، لأنها دعوة مطابقة للواقع، و معنى «له» الاختصاص، أي دعا الإله- إذا أريد أن يكون حقا- فهو له لا لغيره وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي الأصنام التي تدعى من دون الله، فمصداق «الذين» هي الأصنام، و إنما جي ء بلفظ الجمع العاقل، تماشيا مع زعم المشركين: أنها تعقل- كما مرّ في مواضع متعددة مثل ذلك- و العائد في «يدعون» محذوف أي «يدعونهم» لا يَسْتَجِيبُونَ أي تلك الأصنام المدعوة لَهُمْ أي للداعين المشركين بِشَيْ ءٍ لا قليل، و لا كثير، لا من شؤون الدنيا، و لا من أمور الآخرة، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ هذا مثل لمن دعا الأصنام، ليقضوا حاجته، فالداعي لها كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء، ليتناوله، و يسكن به غلته، و ذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما وَ ما هُوَ أي الماء بِبالِغِهِ فالماء كالصنم كلاهما لا يعقل و لا يستجيب، فالداعي للصنم، كالطالب للماء، و بسط الكف للدعاء كبسط الكف نحو الماء، و بعد الماء كبعد الصنم، في عدم الاستجابة، فكما أن الطالب للماء بهذه الكيفية لا يتحصل على الماء الذي يروي عطشه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 70

[سورة الرعد (13): آية 15]

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (15)

كذلك الداعي للصنم لا يتحصل على الإجابة التي تقضي حاجته، قال بعض المفسرين: ألا ترون حال الداعين

لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم: ملهوف ظمآن، يمد ذراعيه، و يبسط كفيه، و فمه مفتوح يلهب بالدعاء، يطلب الماء ليبلغ فاه، فلا يبلغه، و ما هو ببالغه، بعد الجهد و اللهفة و العناء، و كذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ لأصنامهم إِلَّا فِي ضَلالٍ يضل و يتيه و لا يصل إلى المقصود، و كان الإتيان بهذا المثال، ليناسب السياق مع السحاب و الرعد و البرق الموحية بجو الماء و المطر.

[16] إن الكفار يأبون من السجود لله سبحانه، و إنما يسجدون لأصنامهم، كما يدعون أصنامهم، و لا يدعون الله الواحد وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة، و غيرها، حتى نفس السماء وَ من في الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً أي سواء كانوا طائعين أو مكرهين للسجود، كالكفار الذين يكرهون السجود، لكن شخوصهم تسجد و تخضع لله خضوعا تكوينيا، و إن لم يخضعوا خضوعا إراديا، و المراد بمن في الأرض أعم من العاقل و غيره، حتى نفس الأرض، حتى غلّب العقلاء، و إن أريد الأعم، كما غلب المظروف، و إن أريد الأعم منه و من الظرف، و إنما استفدنا ذلك من قوله سبحانه وَ ظِلالُهُمْ أي حتى أظلتهم، فكل ما في الكون من الأشخاص و الأضلة يسجد لله، و لعلّ الإتيان بلفظ السجود، لأنه رمز لغاية الخضوع أي إنها جميعا خاضعة غاية الخضوع لله سبحانه، و ذلك واضح فإن الأشياء كلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 71

[سورة الرعد (13): آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ

هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

منقادة لإرادة الله تعالى لا يحيد عنها قدر شعرة، و ذكر بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع أصيل و هو العصر، كأنه لتعميم الظل، حتى لا يتوهم أنه خاص بالظلّ قبل الظهر مقابل الفي ء الذي هو ظل بعد الظهر؟ من فاء يفي ء إذا رجع، و كان الإتيان ب «بالآصال» جمعا مع الإتيان بالغدو مفردا للتناسب مع «في ضلال» في الآية السابقة، و لا يخفى أن الكافر و الملحد أيضا يسجد لله، و يسجد ظله، لكن بالسجود التكويني الذي يسجد بنحوه جميع الأشياء، فجسد الكافر، خاضع لناموس الكون الذي قرره الله سبحانه غاية الخضوع، لا يتمكن أن يحيد عنه قدر شعرة، و إنما يأبى السجود التشريعي له سبحانه، فلا يضع جبهته على الأرض، و لا يخضع لله غاية الخضوع، جهلا.

[17] و في هذا الجو المدهش، يتوجه إليهم بالأسئلة، ليجيبوا عنها، كما شاهدوا من ذي قبل، فإنك إذا أردت أن تلجأ إنسانا إلى السير معك في فكرك و نظرك، جئت إليه بالواقع الذي لا يتمكن أن يحيد عنه ثم تسأل منه، كما أنك لو أردت اعترافه بأن سيارتك أجمل من سيارته، جئت إليه بها، ثم تقول له أيهما أجمل، و قد أتى السياق هنا جملة من الآيات الكونية، و ألفت الأنظار إليها، ثم يسأل قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ هل هو الله أم أصنامكم؟ إنهم لا يحرون جوابا، لأن الجواب الحقيقي لا يريدونه، و الجواب الذي لا يناسب عبادتهم لا يرون له مجالا، فكيف يقولون إن رب

تلك الآيات الكثيرة المدهشة المتقدمة هي الأصنام التي لا تعقل؟ ف قُلْ أنت يا رسول الله في الجواب: إن رب السماوات و الأرض هو اللَّهُ وحده، ثم قُلْ يا رسول الله لهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 72

أَ فَاتَّخَذْتُمْ هل عبدتم مِنْ دُونِهِ من دون اللّه أَوْلِياءَ أصناما تتولونها و تعبدونها و تمحضون لها الولاية و المحبة؟ إنه عمل قبيح، أن يترك الإنسان خالق السماوات و الأرض، و يتخذ إلها غيره لا يسمع و لا يعقل، و الحال أن هذه الأصنام لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا فلا يقدر الصنم أن يجلب لنفسه نفعا، و لا أن يدفع عن نفسه ضرا فكيف يكون إلها ما لا يقدر حتى على نفع نفسه، و دفع الضر عنه؟ و قد تقدم، أن الإتيان بالجمع العاقل نحو «لا يملكون» تماشيا مع زعم المشركين، و من المعلوم أن المشركين يسكتون هنا أيضا، إذ يرون الحق في جانب الرسول، و لكنهم لا يقدرون على الجواب ف قُلْ لهم يا رسول الله هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ؟

و الجواب- طبعا- لا يستويان، فكيف اتخذوا الصنم الأعمى- الذي لا يبصر- إلها، و تركوا الخالق البصير بكل شي ء؟ ثم قل لهم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ؟ و الجواب- طبعا- لا يستويان، فكيف اتخذوا الصنم الذي هو ظلمة- لا ظاهر بنفسه و لا مظهر لغيره- إلها-، و تركوا الخالق الذي هو نور السماوات و الأرض، ظاهر بذاته مظهر لغيره؟ أَمْ كيف جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ؟ بعد تمام الحجة و وضوح الدليل، فهل خَلَقُوا أي خلقت هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله، أشياء كَخَلْقِهِ أي مثل ما خلق سبحانه أشياء فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي فاشتبهت

مخلوقات الله بمخلوقات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 73

[سورة الرعد (13): آية 17]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)

الأصنام، فعبدوا الأصنام، كما عبدوا الله سبحانه، حتى يكونوا معذورين في الشرك، و إنما جي ء بقوله «فتشابه» مع إنه ليس من مصب الكلام، و مورد النفي و الإثبات، لبيان أنه لو كانت الأصنام خلقت شيئا، كان لهم الحق، في أن يقولوا: إنا قد تشابه الأمر علينا، إذ رأينا أن الأصنام تخلق كما خلق الله، فقلنا إنها آلهة، كما إن الله إله، أما و الأصنام، لم تخلق شيئا، فلا يحق لهم عبادتها، إذ ليس لها من مقومات الالوهية شي ء، ... و أخيرا قُلْ يا رسول الله لهم اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا خالق سواه، فإن قيل: فما معنى «أحسن الخالقين» مما يدل على أن غيره أيضا خالق؟ قلنا أن ذلك على ضرب من المجاز و التشبيه، لا الحقيقة- كما هو واضح- وَ هُوَ الْواحِدُ لا شريك له الْقَهَّارُ الغالب على كل شي ء، فلا شي ء في عداده، إذ لو كان شي ء مثله، لم يعمه قهر الله سبحانه و غلبته، فإذا كان تعالى غالبا على كل شي ء، دل على إنه ليس شي ء في عداده، خارج عن قهره و غلبته.

[18] ثم ضرب- سبحانه- مثلا للحق الباقي، و الباطل الذاهب، بما يلائم سياق الآيات السابقة، فقد كان الكلام سابقا حول البرق، و الرعد، و السحاب المثقل بالأمطار، و باسط كفيه إلى الماء،

و يأتي المثل ليمثل للحق بالماء الهادئ الساكن النافع الباقي، و للباطل بالزبد الذي يطفو فوق الماء، حتى يراه الإنسان أعلى من الماء، لكن هذا الباطل الرابي، لا يمر زمان حتى يذهب و يبطل، و ذلك الماء يبقى ليحيي و ينتفع به، و كذلك من هذا القبيل ما يذاب من المعادن، فإن الزبد يطفو فوقه، و الخالص يبقى تحته، فيبطل الزبد، و يبقى الخالص، ليتجمل به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 74

الإنسان و ينتفع منه، فالحياة و الجمال هما من الباقي الذي هو مثل للحق، و الباطل لا يمثل إلا دور الزبد الذي يعلو- في النظر- أولا، ثم لا يلبث أن يذهب و يضمحل، فلا يبقى منه شي ء، و لم ينفع شيئا، الزبد مثال للباطل الذي يتخذه هؤلاء المشركين، كالأصنام، التي لا تنفع، و إن ظهرت أول الأمر غالبة على الحق، و الماء و الحلية مثال للحق، الذي يتخذه المؤمنون للحياة و التجمل، و إن علاه الباطل- كالزبد الرابي على الماء، و الحلية- ابتداء، أَنْزَلَ سبحانه مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر، و المراد من السماء، جهة العلو فَسالَتْ أي جرت أَوْدِيَةٌ جمع وادي، و هو النهر بِقَدَرِها أي كلّ بقدره، فالنهر الصغير أخذ من ذلك الماء قدرا قليلا، و النهر الكبير، أخذ من ذلك الماء قدرا كثيرا- و كان بيان إنزال الماء من السماء لتشبيه الحق المنزل به، فإن الحق ينزل من الماء، ثم يختلط به الباطل، إذ الباطل إنما يروج نفسه باسم الحق، و بعد ذلك، يذهب الباطل، و يبقى الحق، و هكذا الماء، فإنه ينزل من السماء صافيا، ثم يعلوه الزبد في الأرض، و كان وجه ذكر «فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها» بيان أن

الحق هكذا في مجاري الأمم، فرب أمة أخذت من الحق كثيرا حسب طيب نفوسها، و حسن الدعوة فيها، و رب أمة أخذت من الحق قليلا، حسب خبث نفوسها و بعد الدعوة عنها، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ أي أخذ السيل، الذي يمر في الأودية، من سال الماء، إذا جرى زَبَداً رابِياً أي طافيا على الماء، من ربي بمعنى علا، فإن الماء لا يلبث أن يظهر، و الزبد لا يلبث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 75

أن يذهب، و هكذا الحق يبقى- ليحيا- و الباطل يفنى و يذهب وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ يقال أوقد النار، بمعنى أشعلها، و ضمير «عليه» يرجع إلى «ما» الموصولة في «مما» الذي مصداقه «الفلزات» كالفضة و الذهب و الحديد، و سائر المعادن، و إنما قال «عليه» لأن الإيقاد، يكون «على الفلز» كأنه يضرّ به، إذ يخضعه للذوبان، كالذي يتسلط على غيره فِي النَّارِ حال تقديره ثابتا في النار، أي في حال كون ما يوقد عليه، ثابتا في النار، فإن الفلز يجعل على النار حتى يذوب ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ حال عن الضمير في «يوقدون» أي الذين يوقدون الفلز في النار، في حال كونهم يبتغون و يطلبون بذلك الزينة- كما لو أذابوا الذهب و الفضة، للسوار و القلادة و نحوهما- أو يطلبون بذلك «المتاع» أي ما يمتع به، و يستعمل في الحوائج- كما لو أذابوا الزنك، و الحديد و النحاس، لصنع الأواني و المحراث، و الإبريق و نحوها- فهنا حالان، «في النار» حال عن الضمير في «عليه» و «ابتغاء» حال عن الضمير في «يوقدون» و زَبَدٌ مِثْلُهُ مبتدأ و «مثله» صفته، خبره «مما يوقدون» المتقدم، و إنما تقدم الخبر، لأن المبتدأ، إذا كان نكرة، قدم

خبره الذي هو ظرف، أو جار و مجرور عليه، قال ابن مالك.

و لا يجوز الابتداء بالنكرةما لم تغد كعند زيد نمرة

و المعنى أن بعض الفلزات الذي يشعل الناس النار «عليه» أي على ضرر ذلك الفلز لأجل إخضاعه و إذابته، في حال كون ذلك الفلز في النار، و في حال كون الناس يبتغون بالإذابة، صنع الزينة، أو صنع الأمتعة، زبد خبيث، مثل زبد الماء، فيطفوا على البوتقة، حتى يغطي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 76

[سورة الرعد (13): آية 18]

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (18)

الفلز المذاب الصالح كَذلِكَ الذي مثلنا من الماء و زبده و الفلز و زبده يَضْرِبُ اللَّهُ مثلا ل الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فالحق يحيي، و يسبب الجمال، كالماء الذي يحيي، و الفلز الذي يسبب الجمال و رفع الحاجة، و الباطل يفنى و يذهب كالزبد الذي يطفو على الماء و على البوتقة، و لعل التعبير- ب «الضرب» في المثل، لأجل اصطدام الذهن به، فإن الذهن يتأثر بالمثل أكثر مما يتأثر بأصل المطلب، و لذا أن من فنون البلاغة أن يكثر الإنسان المثل، فإنه يوجب توضيح المطلب و ترسيخه فَأَمَّا الزَّبَدُ الطافي، فَيَذْهَبُ جُفاءً أي باطلا متفرقا، بحيث لا ينتفع به، من جفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء الجاري في الأودية، و الفلز الصافي فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يبقى ليسقي الزرع و الحيوان و الإنسان، أو يمتع به في حوائجه كَذلِكَ الذي تقدم من المثل يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ للناس واضحة جلية،

ليرسخ الحق في أدمغتهم، و يتركز في نفوسهم.

[19] و إذا تقرر أن الله سبحانه أنزل من السماء «الحق» لاستفادة الناس- كما أنزل من السماء ماء- فمن استجاب لله، و قبل الحق، له خير الدنيا و سعادة الآخرة، و من لم يستجب له، فإن له سوء العاقبة و عذاب الآخرة ف لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى «الحسنى» مبتدأ و «الذين» خبره، و لعل الإتيان ب «استجاب» دون «أجاب» مع أن كلا منهما بمعنى الآخر، لبيان أن إجابة الله سبحانه، تحتاج إلى التهيؤ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 77

و الاستعداد، كما يشعر بذلك كونه من باب الاستفعال، الذي كان الأصل فيه الطلب، يقال: استخرج بمعنى طلب الخروج و «الحسنى» صفة لمحذوف، أي الحالة الحسنة، في الدنيا و الآخرة، فإن مناهج الله سبحانه و دساتيره في الحياة، توجب الراحة و الرفاه و السعادة في النشأتين، فالذين قبلوا أوامر الله سبحانه، فلهم الحالة الحسنة وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ أي للّه تعالى، فلم يؤمنوا به، و لم يمتثلوا بأوامره، فلهم أسوأ الحالات، أما في الدنيا «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً» و أما في الآخرة- و هي العمدة- فإنهم في شقاء و عذاب، حتى لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الثروة جَمِيعاً، لا يشاركهم فيها أحد، فلهم كل المناصب، و كل الأموال، و كل الأراضي و الأنهار، و كل الخدم و الحشم وَ مِثْلَهُ مَعَهُ حتى كأنّ هناك أرضين، و لهم اثنتان- و هذا من باب المثل، و إلا فالمراد، أن كل الأشياء لا تنفعهم، و إن كانت آلاف الأراضي، كما تقدم شبه ذلك في قوله سبحانه، «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً»- لَافْتَدَوْا بِهِ أي جعلوا ذلك كله فدية لأنفسهم من

العذاب، و الفدية هي التي تعطى لإنقاذ النفس، كالفداء، و لكن لا تنفعهم الفدية، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و المراد بسوء الحساب العدل فيه، و إنما سمى سوءا، لأنه يسي ء إلى المحاسب المذنب، و هذا بخلاف المؤمن المطيع، فإنه يحاسب حسابا يسيرا، و يتفضل عليه بغفران ذنبه، و عدم المناقشة معه في حسابه، و لذا ورد: ربنا عاملنا بفضلك، و لا تعاملنا بعدلك وَ مَأْواهُمْ أي مصيرهم من أوى يأوي، بمعنى اتخذ المأوى،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 78

[سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 20]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20)

و المحل و المكان جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ المهاد الفراش، سمي بذلك، لأن الإنسان يمهده لنفسه، و يهيئه لراحته، أي بئس ما مهدوا لأنفسهم من النار.

[20] و هنا يأتي الفرق بين المؤمن و الكافر، بعد ما بين الفرق بين الإيمان و الكفر- و إن الأول كالماء، و الفلز، و الثاني كالزبد- أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما «ما» موصولة، أي أن القرآن الذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول الله مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ فيؤمن، و يخضع و يطيع، فهو بصير بالحق يراه، و يعمل به كَمَنْ هُوَ أَعْمى لا يرى الحق و لا يبصره، و الاستفهام إنكاري، أي ليس هذان متساويين إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول، فإنهم هم الذين يعملون أفكارهم، ليتذكروا الحقائق، و يستدلون من الأثر إلى المؤثر، و من الكون إلى إله الكون.

[21] ثم وصف المؤمن المشار إليه بقوله «أ فمن يعلم» و قال في حقهم أنهم أولوا الألباب، فإنهم هم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ المودع

في فطرتهم، و لو لا عهده معهم، لم تكن فطرتهم ترشدهم إلى ذلك، إذ لا يمكن للإنسان أن يترشح منه إلا ما هو فيه، و إلا فكيف يعرف الإنسان أن للكون إلها، و هكذا كيف يعرف أن العدل حسن، لو لم يودع فيه ما يترشح منه ذلك؟ هذا بالإضافة إلى أخذ الأنبياء العهد من أممهم، و العهد المأخوذ، و إن كان من الآباء، لكن الأبناء، حيث أدخلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 79

[سورة الرعد (13): الآيات 21 الى 22]

وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)

أنفسهم في اطار الآباء، كان العهد مستقرا عليهم، و هذا هو السر في أخذ الأمم بما يفعله الآباء أو الكبراء، فإن الالتزام بالإطار، التزام بما يكون فيه، و يدور في حلقته وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ أي العهد الأكيد، الذي أخذه سبحانه منهم بالإيمان بالله و رسله، و الميثاق مشتق من «وثق» كأنه يوجب ثقة كل جانب بالآخر، إذا أبرم العهد.

[22] وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فكل ما أمر الله بصلته، و الاتصال به من الأنبياء عليهم السّلام و المرسلين، و عبادة الصالحين، و الأعمال الحسنة، و العبادات و غيرها، أنهم يصلون به، و يتصلون إليه، اتصالا قلبيا، أو لسانيا، أو عمليا، و ذلك موجب للانقطاع عما أمر الله به أن يقطع بالتلازم وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فلا يخالفونه بالعصيان، و لعل المراد بالأول الإطاعة، و بهذا العصيان وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ليس

المراد الظلم، فإن الله سبحانه لا يظلم، و إنما المراد العدل، فإن الحساب لو كان عادلا- و لم يجر على مقتضى الفضل- أساء إلى الذي يحاسب، و لذا سمي سوءا.

[23] وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ هذا، و إن كان داخلا في «يصلون» إلا أنه ذكر خاصا لأهميته، و هكذا الفقر التالية، فقد جمعت الآيتان السابقتان المبدأ و المعاد و الشؤون المتوسطة بينهما، فالمبدأ ذكر ب «الذين يوفون» و المعاد ب «و يخافون» و ما بينهما ب «الذين يصلون» ثم أن الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة بأن يصبر الإنسان على أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 80

يطيع، و صبر على المعصية، بأن يأخذ الشخص زمام شهوته عند المعصية، و صبر على المصيبة، بأن لا يجزع الإنسان عند نزول كارثة به من فقر أو مرض، أو ما أشبه، ثم اللازم، أن يكون الصبر لأجله سبحانه، لا لانتهاز أمور دنيوية، و إلا فلا قيمة له، وَ أَقامُوا الصَّلاةَ داوموا عليها باستمرار، وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من كل شي ء رزقوا، و إنفاق كل شي ء بحسبه، فإنفاق العلم بذله، و إنفاق الجاه قضاء الحوائج، و إنفاق المال إعطائه، و إنفاق الساسة، إدارة الأمور، و هكذا سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي في جميع الأوقات و الأحوال، فإن مثل هذا الإنسان، هو الذي ينفق في سبيل الله تعالى، و يكون الإنفاق مقصده، لا الرياء و السمعة، و ما أشبه وَ يَدْرَؤُنَ أي يدفعون بسبب الحسنة السَّيِّئَةَ إما بمعنى أنهم إذا ساءوا، و فعلوا شيئا من المعاصي، فعلوا بعد ذلك بعض الحسنات، فإن الحسنة تمحي السيئة، قال سبحانه (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) «1»

و روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم قال لمعاذ بن جبل إذا عملت سيئة، فاعمل بجنبها حسنة تمحها

«2». و إما المراد أنهم إذا أساء إليهم أحد لم يسيئوا إليه، بل يحسنون إليه، و هذا غاية الفضيلة، كما

في دعاء مكارم الأخلاق، للإمام السجاد عليه السّلام «اللهم صل على محمد و آل محمد، و سددني لأن أعارض من غشني بالنصح، و أجزي من هجرني بالبر، و أثيب من

______________________________

(1) هود: 115.

(2) راجع وسائل الشيعة: ج 16 ص 104. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 81

[سورة الرعد (13): الآيات 23 الى 24]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

حرمني بالبذل، و أكافي من قطعني بالصلة، و أخالف من اغتابني إلى حسن الذكر»

«1» أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الجنة، فإنهم يدخلونها خالدين فيها.

[24] ثم فسر سبحانه «الدار» بقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة من عدن بالمكان بمعنى أقام فيه إقامة طويلة، و في الأحاديث أنها جنات خاصة، فإن كلا من فردوس، و عدن، و ما أشبههما، اسم لجنة خاصة من الجنان الكثيرة يَدْخُلُونَها أي يدخلها هؤلاء المتصفون بتلك الصفات وَ يدخلها مَنْ صَلَحَ أي من كان صالحا قولا و عملا و عقيدة مِنْ آبائِهِمْ الأبوين و الأجداد وَ أَزْواجِهِمْ زوج المرأة، و زوج الرجل، أو الأعم من ذلك، و من سائر الأقران، فإن الزوج يطلق على المثل، كما قال سبحانه، (وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) «2» وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أولادهم مهما نزل- و هذه نعمة كبيرة، أن يتنعم الإنسان بهؤلاء في الجنة- وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من

أبواب الجنة قائلين.

[25] سَلامٌ عَلَيْكُمْ يحيونهم بالسلام تكريما لهم، و معنى السلام، أن تكونوا سالمين من الآفات، و الجنة و إن كانت محل النعيم و الراحة،

______________________________

(1) الصحيفة السجادية: دعاء رقم 20 المسمى بدعاء مكارم الأخلاق.

(2) ص: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 82

[سورة الرعد (13): الآيات 25 الى 26]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26)

لا تحمل الآفات و العاهات، إلا أن التسليم هناك، نوع من التكريم بِما صَبَرْتُمْ أي أن تكريمنا لكم بسبب صبركم على مكاره الدنيا، و أن سلامتكم هذه في الجنة بسبب صبركم في الدنيا فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي نعم عاقبة للدار ما أنتم فيه من النعيم و الكرامة.

[26] هذا كان عاقبة المؤمنين العاملين، فلننظر إلى حال الكفار وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إليهم بالإيمان، بما أودع فيهم من الفطرة، و أخذ عليهم بلسان الأنبياء مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد توثيقه و ابرامه وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فلا يصلون الأنبياء عليهم السّلام و الأئمة الصالحين، و لا يصلون الأرحام و الفقراء و المساكين وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى الضلال، و الظلم و الفتنة، و ما أشبه أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ الطرد عن رحمة الله سبحانه، و الإبعاد عن الجنة وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ أي نار الدار الآخرة و عذابها.

[27] إن هؤلاء الذين نقضوا عهد الله، أخذوا يوسعون في أمور دنياهم تاركين الآخرة، كأنها ليست بشي ء، و كان الدنيا

هي التي يجب العمل لها وحدها، مع أنه ليس كذلك ف اللَّهُ وحده بيده أزمة الدنيا و الآخرة، فهو يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه عليه وَ يَقْدِرُ أي يضيق الرزق لمن يشاء، من قدر، بمعنى ضيق، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 83

[سورة الرعد (13): آية 27]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27)

قال سبحانه (وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) «1» و قال (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) «2» و إذا كان الله سبحانه هو الذي تكفل بالدنيا، فما هذا الاهتمام- من نقض عهد الله- للأمور الدنيوية؟ وَ فَرِحُوا أي فرح هؤلاء الناقضون بِالْحَياةِ الدُّنْيا، و بطروا بها ناسين الآخرة مخصصين فرحهم كله للدنيا وَ الحال أنه مَا الْحَياةُ الدُّنْيا من أولها إلى آخرها فِي الْآخِرَةِ «في» بمعنى النسبة، و الاضافة، أي بالنسبة إلى الآخرة إِلَّا مَتاعٌ قليل، يتمتع به الإنسان، و أما الآخرة فهي الدار الباقية، التي فيها أنواع النعم و الكرامة، ثم أن كون الله سبحانه، هو الباسط للرزق، و المضيق له، بمعنى أنه يقدر هذا لهذا، و ذاك لغيره، و لذا نرى رب فطن كاد ليس له إلا القليل، و رب بليد كسول، تأتيه الدنيا صاغرة، قال الشاعر:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه و جاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي أوجب الإيمان في «أحد»يدبر الأمر توسيعا و تضييقا «3»

نعم للعمل حظ بقدر ما جعله سبحانه سببا، فإن العمل- بقدر- و الغيب كلاهما دخيلان في أمر من الأمور الإدارية.

[28] و إذ تقدم الكلام حول الذين ينقضون عهد الله بعدم الإيمان به، فإنهم هم الذين لا يؤمنون بالرسول، لأعذار واهية

______________________________

(1)

الطلاق: 8.

(2) الأنبياء: 88.

(3) البيت الثاني للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 84

[سورة الرعد (13): آية 28]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله لَوْ لا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ معجزة خارقة مِنْ رَبِّهِ مما نقترحها من المعجزات و الخوارق، و لم يكن لهم حق الإجابة، فإن الآية نزلت، و هي القرآن الحكيم، لكنهم كانوا معاندين يريدون التعنت قُلْ يا رسول الله لهم، إن الأمر ليس مخفيا حتى يحتاج إلى الآية، و إنما سبب ظلالكم، أنكم تتركون الإرشادات العقلية، فيترككم الله، و لا يلطف بكم حتى تؤمنوا، بعكس المؤمنين الذين عملوا عقولهم فآمنوا، و لذا لطف سبحانه بهم ف إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بترك لطفه به، بعد ما أراه الطريق فلم يسلكه، كما تقول: أن الحكومة ضيعت فلانا، تريد انها لم تعتن به حتى ضل و ضاع، بعد أن أرته الحكومة الطريق، فلم يسلكه وَ يَهْدِي إِلَيْهِ أي إلى نفسه و طريقه مَنْ أَنابَ أي رجع عن غيه، فمن رجع عن الغي، و أراد الهدى، لطف به سبحانه ألطافه الخاصة، حتى يهتدي حقيقة، و يكون من الأعلين حظا و رشدا.

[29] و من ذاك الذي يهديه الله سبحانه؟ إنهم هم الَّذِينَ آمَنُوا بأن اتبعوا الحق، فإنهم يهديهم الله- أي يلطف بهم ألطافه الخفية- كالولد الذي يسمع كلام أبيه، فيلطف به بالتوسعة، في أموره، و معاضدته في حوائجه و مهامه وَ هؤلاء المؤمنون تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ القرآن الحكيم، فلا يطلبون خوارق و آيات، تعندا و اعتباطا، أو المراد الأعم من ذلك، فإن كل مؤمن مطمئن

القلب، غير قلق، إذ الاعتماد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 85

[سورة الرعد (13): آية 29]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)

على الله يهوّن المصائب، كما تحفظ القلوب عن البطر، فإن الإيمان كالزمام الذي يعدل سير الحيوان، لا يبطر عند النعمة، لما يرى من رقابة عليه، و لا يجزع عند البلية، لما يعلم ما أعد الله للمؤمنين الصابرين من الأجر أَلا فلينتبه الإنسان بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ التي دخلها ذكر الله، فإنك إذا عرفت أن عليك سيدا، إذا أنعم أراد الشكر، و إذا أبلى جزاك بالأجر اطمئن قلبك، و لم يكن كالقلب القلق الذي تخرجه النعمة إلى الإفراط، و البلية إلى التفريط، و لذا

كان يقول الإمام الحسين عليه السّلام في يوم عاشوراء: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله»

«1».

[30] ثم ابتدأ بقوله الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله، و اليوم الآخر، و ما يجب الإيمان وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، مما أمر الله به، و يدخل فيه- بالتلازم- و الاجتناب عن الأعمال القبيحة طُوبى لَهُمْ مؤنث طيب، أي أن لهم الخلة و المقامة الطيبة الحسنة في الدنيا، أو الأعم، وَ حُسْنُ مَآبٍ أي المرجع الحسن في الآخرة، أما في الدنيا، فإنهم آمنون مطمئنون تهديهم مناهج الله سبحانه إلى السعادة و الرفاه، و أما في الآخرة، فإن لهم جنات النعيم، و من المعلوم أن «شجرة طوبى» التي هي شجرة خيرة في الجنة، إنما هي مصداق من مصاديق ما يناله المؤمن من المنزلة الطيبة فما في بعض الأحاديث من تفسيرها بتلك، فإنما هو إشارة إلى أحد المصاديق.

______________________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 86

[سورة الرعد (13): الآيات 30 الى

31]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30) وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

[31] إن هؤلاء الذين يطلبون الخوارق حالهم كحال من سلف من الأمم، و قد أرسلنا في تلك الأمم رسلا، لكنهم أبوا إلا الكفر، كما أن ذلك لم يضر الرسل، فلتمضي يا رسول الله على نهجك كَذلِكَ أي كما أرسلنا في الأمم السابقة رسلا أَرْسَلْناكَ يا رسول الله فِي أُمَّةٍ من الناس، و هم المعاصرون لك قَدْ خَلَتْ أي مضت من خلا بمعنى مضى مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلت إليهم الرسل، و إنما أرسلناك لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن، و سائر الأحكام المنزلة وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ الذي يرحمهم، و يتفضل عليهم، أنه في غاية العجب أن يتفضل الله بالرحمة، و يتلو رسوله عليهم الآيات، ثم هم يعرضون عن الرسول، و يكفرون بالله، فإن أعرضوا قُلْ يا رسول الله هُوَ رَبِّي و امض في طريقك في الإعلان و الإرشاد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فما عداه من الأصنام و المعبودات باطلة، لا تستحق العبادة عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت أمري، مستمسكا بطاعته وَ إِلَيْهِ مَتابِ من تاب بمعنى رجع، أي إليه مرجعي، فإنه مصدر ميمي يقال تاب يتوب و متابا.

[32] إن الكفار يطلبون

الخوارق، و لا يطمئنون إلى ذكر الله القرآن الحكيم، و إنا قد أرسلناك، لتتلو عليهم القرآن، و ما أعظمه من كتاب، فإنه من العظمة و التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال، و تتقطع به الأرض، و يكلم به الموتى، لما فيه من قوة و طاقة و تأثير، و لكن هؤلاء قست

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 87

قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فلا يؤمنون به، و يطلبون آية غيره، إنا أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً أي مقروءا، أي لو كان هناك قرآن سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ بأن يقرأ على جبل فيسير من شدة تأثيره و طاقته المسيرة للجماد أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ بأن يقرأ على الأرض، فتنشق من طاقته الهائلة، التي تنشق الأرض من هيبته أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يقرأ على الميت، فيتكلم الأحياء بسببه، أو المراد يحيي الميت- فالتكلم كناية عن الحياة- أي لو أن قرآنا كان كذلك، لكان هو هذا القرآن، و لكن الكفار مع ذلك يطلبون غيره، و لا يكتفون به، فجواب «لو» محذوف و هذا كما يقال: فلان يبكي حتى يتأثر به الحجر يراد أن في بكائه من الحرارة و اللوعة، ما يكفي لأن يؤثر في الحجر، و فلان منطيق، يؤثر كلامه في الأموات، يراد أن في نطقه من التأثير ما يجعله صالحا لأن يؤثر في الأموات ثم أن هذا القرآن يؤثر- بالفعل- هذه التأثيرات، و لكن بشرط أن يتلوه الإنسان الصالح، فهو كالسيف الذي يصلح أن يجز الرقاب، و لكن إذا كان بيد الشجاع،

و قد روي عن الإمام الكاظم عليه السّلام أنه قال: قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال، و

تقطع به البلدان، و تحيي به الموتى «1».

و المراد بإرثه بذلك المعنى، لا إرث ألفاظه و أوراقه، فإنهما عامان لكل المسلمين، كما أنه ربما أطلق الإرث و أريد به إرث المعاني مما خفي على كثير من الناس، و لذا انحرفوا فصاروا مجسمة و مجبرة، و ما أشبه

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 88

بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إنهم يطلبون الآيات الخارقة، لكن النبي ليس مكلفا بذلك، و إنما مكلف بالإنذار، و أن يكون معه ما يصدقه أنه نبي مرسل، و قد فعل الأمرين، فجاء بالقرآن شاهدا، ثم أنذر و بشر، أما سائر الآيات، التي يقترحونها، فإنها بيد الله، كما قال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) «1» فهو ينزلها حسب المصلحة و الحكمة- كما سبق تفصيل ذلك- و إذا أتى هؤلاء الكفار، هذا القرآن العظيم الذي من شأنه تلك التأثيرات الهائلة، ثم لم يؤمنوا به، فلييأس المؤمنون من هدايتهم، و لينتظروا عذاب الله و عقابه، جزاء إعراضهم أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا عن هؤلاء؟ و ألم يعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً بالإجبار، فإذ رأوا أنه لا يهدي أحدا بالإجبار، فاللازم أن ييأسوا، فإن هناك إما الإيمان بالاختيار، و إما الإيمان بالجبر، و إما اليأس عنهم، فإذا علم المؤمنون أن الله لا يجبر أحدا بالإيمان، و رأوا عناد هؤلاء عن الإيمان الاختياري، فاللازم أن ييأسوا عنهم، و يتركوهم في ضلالهم يعمهون، و قد ظهر بما ذكرنا: أن «أ فلم ييأس» أشرب معنى «أ فلم يعلم» و لذا عمل في «أن لو يشاء» وَ إذ لا يريد الله إجبار الكفار، و لا أنهم يؤمنون بالاختيار، فليعلم المؤمنون أنه لا

يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ما تقرعهم و تضربهم، فإنه سبحانه لم يشاء إهلاك هذه الأمة دفعة كبعض الأمم

______________________________

(1) الأنعام: 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 89

[سورة الرعد (13): الآيات 32 الى 33]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

السالفة، لكنه تعالى يعذبهم مرة، فمرة بقوارع من الضيق و الفقر و الضر، و تسلط الأعداء عليهم، و نحو ذلك أَوْ تَحُلُ القارعة قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فتروعهم و تخيفهم و تدعهم في قلق و انتظار لمثلها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الذي وعده باستئصال المجرمين و نصر المؤمنين عليهم إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ و وعده آت لا محالة.

[33] إن الله سبحانه لا بد و أن يصيب الكفار بالقوارع، كما فعل بمن غبر من الأمم ممن كذبوا الرسل وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله، كما استهزئ بك، فإن من عادة الجهال أن يستهزءوا، إذا لم تكن لهم حجة في قبال المرشد الناصح فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الإملاء، هو أن يقرأ الإنسان شيئا ليكتبه غيره، و هذا كناية عن إمهال الكفار أي شرعت أعدّد ما يفعلون من الآثام و الاجرام، لتملأ القائمة المقدرة لهم ثُمَ حين استوفوا الأجل المقدر أَخَذْتُهُمْ أهلكتهم، و أنزلت عذابي عليهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فكيف حل بهم عقابي، و هو استفهام للتفخيم، إشارة لعظمة عذابه سبحانه الذي

عذبهم به.

[34] و إذا تمت الحجة مع الكفار الذين استهزءوا بالرسل، و أنكروا المبدأ و المعاد، فليعطف الكلام مع المشركين الذين يجعلون مع الله شركاء أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فهو ناظر إلى أعماله مطلع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 90

على نيّاته، كمن ليس كذلك من الشركاء الذين يشركونهم مع الله سبحانه؟ إنهما ليسا متساويين طبعا، ولدي كل عاقل، فكيف يساوي هؤلاء المشركون الله سبحانه بأولئك الشركاء وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ في العبادة و الإطاعة قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين سَمُّوهُمْ من هم أولئك الذين هم شركاء مع الله، إنها نكرات مجهولة لا شأن لها، حتى أن المشركين هم بأنفسهم يخجلون من تسميتها على الملأ، فكيف يتخذونهم شركاء، أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أي تخبرون الله سبحانه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ فتخبرون الله بآلهة لا يعلمها الله و أنتم تعلمونها، إنه كلام للاستهزاء كما إنهم كانوا يستهزئون بالرسول، و يا للسخرية أن يقولوا هؤلاء الكفار القائم على كل نفس بالأصنام، أو يجعلون لله شركاء، سافلة إلى حد لا يقدرون على مجرد تسميتها، أو يخبرون الله، بما لا يعلم هو، و هم يعلمون، فيكونون أعلم من الله سبحانه؟؟

ثم إن من المعلوم، إن الشركاء لا وجود حقيقي لهم، و إنما هي موجودة في أدمغة المشركين، فعدم علمه سبحانه بالشركاء سالبة بانتفاء الموضوع، و هناك احتمال آخر، و هو أن يكون ضمير «لا يعلم» عائدا إلى الصنم، أي أ تخبرون الله بصنم لا يعلم في الأرض فكيف بالسماء، و هل يقاس ما لا علم له بشؤون الأرض، وحدها، بالله الذي يعلم كل شي ء، أَمْ إن جعلهم الشركاء ليس على نحو الحقيقة، و إنما بِظاهِرٍ

مِنَ الْقَوْلِ أي بكلام سطحي، فلا اعتقاد لهم بالشركاء و إنما يتلفظون بها، مجرد لفظ فكلامهم حول الشركاء، ككلامهم حول القصص الخيالية التي يعلمون بها أنها سطحية لا نصيب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 91

[سورة الرعد (13): آية 34]

لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

لها من الواقع و الحقيقة بَلْ الواقع أن جعل هؤلاء لله شركاء من جهة أنه زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق يمكر، أي يدبر خفية أمرا، ليجعله في قبال الحق، و هذا في بادئ الأمر يكون مجرد عمل ضد الحق، و مكر لإطفاء الهدى، ثم لا يلبث أن يتزين في نفسه، لأن مرور الزمان يوجد العلاقة بينه و بين المكر، كما قال سبحانه (أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) «1» و ثم يتعلق به تعلقا شديدا، حتى يكون عقيدة راسخة وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ الواضح سبيل اللّه تعالى، و إنما صدهم استمرارهم في مكافحة الحق، حتى صارت وقفتهم ضد الحق حالة لهم، و لذا تركهم اللّه سبحانه و شأنهم وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يتركه و شأنه حتى يستحكم ضلاله، بعد أن أرشده، فلم يقبل فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إذ الهادي هو اللّه وحده و قد أعرض عن هداه.

[35] لَهُمْ أي لهؤلاء الذين أشركوا بالله عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن الانحراف عن نهج اللّه سبحانه، حيث يصادم نواميس الكون، لا بد و أن يسبب للمنحرفين العذاب الجسمي و الروحي بالأمراض و العداء و القلق، و ما أشبه، هذا بالإضافة إلى تعذيبهم بالقتل و الأسر و السبي بأيدي المسلمين وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم أَشَقُ

أكثر مشقة،

______________________________

(1) فاطر: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 92

[سورة الرعد (13): آية 35]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)

و أغلظ وَ ما لَهُمْ مِنَ قبل اللَّهِ مِنْ واقٍ اسم فاعل من «وقي» أي من حافظ يحفظهم من ذلك العذاب و إذ لا حافظ إليهم من اللّه، فلا حافظ لهم إطلاقا.

[36] إن في الآخرة للمشركين عذابا شديدا، أما المؤمنون فلهم الجنة، إنهم وقوا أنفسهم عن المعاصي و اتقوا، فوقاهم اللّه عن العذاب، بل هيئ لهم الجنة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ دخولها و التنعم فيها، و لعل الإتيان بالمثل لإفادة أن حقيقة الجنة لا تتصور، و إنما يتصور الإنسان شبهها، كما إنك إذا أردت أن تفهم طفلا حقيقة الكهرباء سالبه و إيجابه، لا يتصورها، فتقول أن مثله أن تأخذ حبلا فتجره مرة إلى اليمين، و أخرى إلى الشمال، و لذا

ورد أن هناك يرى الإنسان ما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر

«1» «و لا يخفى ما في هذه الكلمة الأخيرة من معنى مدهش» أن مثلها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ و لعل الإتيان بكلمة تحت، لإفادة أنها ليست كبعض الأراضي في الدنيا، التي هناك نهر، بلا شجر و بناء، و إنما الأنهار- في الجنة- تجري تحت القصور و الأشجار، حيث تشابكت الأشجار، و تراصفت القصور أُكُلُها الأكل، هو الثمرة دائِمٌ أي أن ثمارها دائمة ليست كثمار الدنيا، تظهر في فصل دون فصل وَ ظِلُّها دائم لا يكون مرة شمسا و مرة ظلا، بل دائم الظلال، لا تلفح الإنسان، شمس،

أو حر، أو برد

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 93

[سورة الرعد (13): آية 36]

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36)

تِلْكَ الجنة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا عاقبتهم وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ عاقبتهم النَّارُ فمن أراد اتقى ليصل إلى تلك و من شاء كفر ليعاقب بهذه.

[37] و إذ يفرغ القرآن الحكيم من الكفار و المشركين، و يبين أحوال المؤمنين و المتقين يعطف نحو أهل الكتاب و موقفهم من الرسول و القرآن وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم الكتاب السماوي، كالتوراة و الإنجيل، يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه، فإن أهل الكتاب المستقيمين الذين لم يعصب عينهم الحقد و الحسد، و التقليد الأعمى، لا بد و أن يفرحوا بهذا الكتاب الذي يجدونه يصدقهم، و يأخذ بأيديهم في مقابل الكفار و المشركين، فإن الإنسان يفرح بناصره و معاضده، و من المعلوم أن نسبة الأشياء الحسنة إلى قوم، إنما يراد بها النسبة إلى عقلائهم و مفكريهم و مستقيمي الرأي منهم، فإنك إذا قلت أن المسلمين صادقون في أقوالهم موفون لعهودهم، لا تريد أن جميع أفرادهم كذلك، و إنما تريد المستقيمين منهم في الإسلام، و كذلك أمثال هذه النسبة، و قد كان في أصحاب النبي زمرة من خيرة اليهود و النصارى، الذين اتبعوه، لما رأوا فيه الحق و الصدق، لكن من تحزّب ضد الرسول من أهل الكتاب، لا بد و أن يخالفوا الكتاب، فإنهم بطبيعتهم الحزبية، لا بد و أن يتلقوا الأوامر من كبرائهم الحاسدين و قد كان شأن الأحزاب هكذا

قديما و حديثا فإنهم حيث يدخلون أنفسهم في إطار طاعة الحزب لا بد لهم أن يتمثلوا ما يقوله الحزب حقا أم باطلا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 94

[سورة الرعد (13): آية 37]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)

و يحاربوا من يخالف الحزب حقا كان أم باطلا، فالمعيار الحق عندهم ينقلب إلى معيار الحزب، و لذا نرى أن اللّه سبحانه لم يسلم أزمة الأمور إلا بيد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، ثم بيد الفقيه العادل، حيث علم سبحانه، بأن الناس يتبعون من ألقى الزمام بيده، و لو أمر بالباطل، فتحفظا عن اتباع الناس للباطل، لم يجعل أزمتهم إلا بيد من لا يعمل إلا بالحق لما فيه من الملكة الراسخة، و الصفة النفسية المعدلة لسلوكه، طبق أوامر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلا فيما سهى أو نسي، مما لا استثناء له، إلا بالنسبة إلى المعصوم عليه السّلام- وَ مِنَ الْأَحْزابِ الذين تحزّبوا ضد الإسلام، من أهل الكتاب مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي بعض القرآن، مما لا يطابق كتبهم المنحرفة أو ينافي سيادتهم و رشوتهم، أما ما طابق الكتابين، فلا مجال لهم بإنكاره قُلْ يا رسول اللّه، لمن ينكر بعض ما أنزل إليك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده وَ لا أُشْرِكَ بِهِ غيره، فإنكاركم لذلك، كما تزعمون أن عيسى أو عزير ابني اللّه، أو أن الآلهة ثلاثة، لا يضرّني في توحيدي و تنزيهي إِلَيْهِ أي إلى اللّه وحده أَدْعُوا فهو مبدئي وَ إِلَيْهِ مَآبِ أي مرجعي، من آب

بمعنى رجع.

[38] وَ كَذلِكَ أي كما أنزلنا إلى من تقدم من النبيين، كتابا بلغتهم ليفهموه، و يفهمه أممهم أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا القرآن- المستفاد من قوله، و ما أنزل إليك- حُكْماً عَرَبِيًّا أي أنزلنا هذا الحكم في حال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 95

كونه بلغة العرب، التي هي لغتك، و لغة قومك لتفهمه تماما، و يفهمه القوم تماما، فالرسول على يقين منه، و لقائل أن يقول: و ما هو الاختصاص بهذه اللغة؟ الجواب: الأمر دائر بين اللغة، و بين سائر اللغات، و إذا نزل بلغة أخرى فللقائل أيضا أن يقول: ما هو الاختصاص بتلك اللغة؟ بالإضافة إلى أن هذه اللغة كانت أرجح من حيث أنها اللغة الملتفة ببيت اللّه الحرام الذي هو ملتقى الشعوب و القبائل قديما و حديثا، لوجوب الحج في جميع الأديان، فقد حج عليه السّلام، فمن بعده، و الشرق الأوسط أوسط من حيث المعمورة، تقريبا، فنسبته إلى العالم سواء و إطلاق الحكم على كل القرآن للتغليب، وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ يا رسول اللّه أَهْواءَهُمْ أي عقائد الكفار و أهل الكتاب، و سميت أهواء لأن المخترع لها هو الهوى، إذ لم يدل عقل أو نقل على الكفر و التثليث، و ما أشبه بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ «من» بيان «ما» ما لَكَ أي ليس لك مِنَ طرف اللَّهِ سبحانه مِنْ وَلِيٍ يلي أمرك و ينصرك وَ لا واقٍ أي حافظ يحفظك من عذابه، فلا ولاية، بل عداوة، إذ عدم الولاية لا يلازم العداوة، و لذا صرح بقوله «و لا واق» من وقي يقي إذا حفظ، و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان لا يتبع أهواءهم- بالاضافة إلى أن «إن»

الشرطيّة لا يربط إلا المقدم باتساع- إلا كأنه، لوحظ كون التهديد موجّها إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليكون أبلغ من تقرير العقاب القطعي بالنسبة إلى متبع الأهواء، كما إنك إذ أردت تهديدا جديّا إلى صديقك مع إنك تعلم أنه لا يقترف الإثم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 96

[سورة الرعد (13): الآيات 38 الى 39]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)

[39] قد كان الكفار يناقشون في كل من المبدأ و المعاد و الرسول و كتابه، و قد كانت مناقشتهم حول الرسول أنه كيف يمكن أن يكون الرسول بشرا يأكل و ينكح و يمشي، و يكون له أولاد، و يأتي الجواب بصدد هذه المناقشة، أن الرسل سابقا أيضا، كانوا كذلك، فكيف تؤمنون بأولئك الرسل و تناقشون هذا الرسول؟ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً نساء وَ ذُرِّيَّةً أولادا، فما ذا يستنكر هؤلاء منك أن يكون لك أزواج أو ذرية؟ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن الخارقة إنما يأتيها الرسول بإذن من اللّه سبحانه، و ليست بيده حتى أن كل اقتراح يجيبه، و كل ما طلبوا منه يأتي به، فإن كان اعتراض هؤلاء عليك، أن لك أزواجا و ذرية؟ فهم معترفون بأنه كان لسائر الأنبياء أزواج و ذرية، و إن كان اعتراضهم أنك لم تأتي بما اقترحوا عليك؟ فالآيات بيد اللّه سبحانه، و قد جئت لهم بقدر ما يتم الحجة، فإن كان اعتراضهم

بأنه كيف اختلف هذا الكتاب، مع كتاب موسى و عيسى، فإن كان ذلك الكتاب حقا، فكيف أتيت بخلافه؟ فإن لِكُلِّ أَجَلٍ أي مدة، و زمان كِتابٌ خاص به، فإذا انقضى ذلك الزمان جاء كتاب آخر يلائم البشرية في أدوارها.

[40] و قد كان لموسى عليه السّلام كتاب، ثم جاء عيسى عليه السّلام و أتى بما يختلف مع كتاب موسى عليه السّلام، كما قال: (وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 97

عَلَيْكُمْ) «1» فإنه يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يرفع حكمه لانتهاء الصلاح بالنسبة إليه وَ يُثْبِتُ مكانه ما يشاء، لأنه مثله في ملائمة هذا العصر، أو أفضل منه، كما قال: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) «2» وَ عِنْدَهُ سبحانه، في علمه و اطلاعه أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتاب الذي فيه ما يمحى و ما يثبت، و إلى أي قدر يبقى ما يمحى هذا حسب ما يتعلق بالسياق، و إلا فالظاهر أنّ الآية أعم من الأحكام، فالتقديرات منها قابلة للتغيير، و منها غير قابلة، و قد وردت أحاديث في باب المحو و الإثبات، و أم الكتاب، و لعل خلاصة القول في تلك كلها، أن هناك علما خاصا بالله سبحانه يعلم الأشياء التي تقع إلى الأبد، و لا تغيير في ذلك، و لا تحرير، و هناك لوح يثبت فيه أشياء ثم ربما تقتضي المصلحة، فيمحي ذلك المثبت ليكتب مكانه شي ء آخر،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن المرء ليصل رحمه، و ما بقي من عمره إلا ثلاث سنين، فيمدها اللّه إلى ثلاث و ثلاثين سنة، و إن المرء ليقطع رحمه، و قد بقي من

عمره ثلاث و ثلاثون سنة فينقصه اللّه إلى ثلاث سنين، أو أدنى. قال الراوي: أن الصادق عليه السّلام لما حدث بهذا الحديث قرأ هذه الآية، أي «يمحو اللّه ما يشاء»

«3» و هنا سؤالان، الأول هل أن اللّه يعلم أن الشخص الفلاني يموت في أم الكتاب أم لا؟

فإن علم أنه يموت فما فائدة الصدقة و الدعاء و إن علم بأنه لا يموت، فالصدقة و الدعاء اعتباط؟ و الجواب أن اللّه يعلم، أنه يتصدق، فلا يموت، كما أنه سبحانه يعلم أن زيدا يقرأ العلم، فيصبح عالما، فلا

______________________________

(1) آل عمران: 51.

(2) البقرة: 107.

(3) وسائل الشيعة: ج 21 ص 537.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 98

[سورة الرعد (13): آية 40]

وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (40)

يصح أن يقول الجاهل، إن كان في علم اللّه، أنا أصبح عالما، فما فائدة تعبي لما يأتني بلا تعب؟ و إن كان في علم اللّه، أنا لا أصبح عالما، كان تعبي في تحصيل العلم هباء، فإن رده واضح أنه في علم اللّه أنك تتعب حتى تكون عالما، الثاني- ما فائدة لوح المحو و الإثبات، بينما لا يصير في الخارج، إلا على طبق أم الكتاب؟

و الجواب أن ذلك ليتعلم الملائكة و الأنبياء، و من إليهم، فإنه كان يكتب في اللوح، أن عمر زيد ثلاث سنوات، ثم إذ رأى الملائكة و من له اتصال بذلك اللوح أن «الثلاث» محيت و كتب مكانها «ثلاث و ثلاثون» عرفوا السبب، و صار ذلك محفزا للفضائل، و زاجرا عن الرذائل بالنسبة إلى من علم، كما لو رأى أحد موظفي الدولة أن في الدفتر غير مقدار راتب أحد الموظفين إلى أرفع أو

أنقص لخدمة أو كسالة، حفزه ذلك، إلى اجتناب المنقصة، و العمل بالمنقبة، و تمام الكلام في علم الكلام.

[41] قد سبق إنذار الكفار بقوله سبحانه «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم» و الآن يأتي السياق لبيان أنه سواء أخذ اللّه الكفار بالعذاب في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو توفاه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل ذلك، فإن ذلك لا يغيّر من طبيعة الرسالة، فإن الرسول يأمر بالبلاغ، سواء انتصر على الكفار، و وصلت بهم القوارع، أم لا وَ إِنْ ما أصله «إن» الشرطيّة و «ما» الزائدة، جيئت زينة للكلام نُرِيَنَّكَ يا رسول اللّه بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي بعض العقوبات التي وعدناها الكفار، و إنما قال بعض لأن كل العقوبات لا تقع في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنها تدريجية طيلة بقاء الكفر و الكافرين أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و نقبض روحك إلينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 99

[سورة الرعد (13): آية 41]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)

فَإِنَّما عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْبَلاغُ أن تبلغ القوم و تنذرهم وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ بأن نحاسبهم و نجازيهم و ننتقم من كفارهم، إما عاجلا أو آجلا.

[42] لقد أنذر الكفار بالعقاب، و القارعة تصيبهم، ألا فلينظروا إلى الأمم السابقة كيف عاقبهم اللّه سبحانه، فقد ضيّق سبحانه ملكهم و سعتهم، بعد أن كانوا كبارا أقوياء أَ وَ لَمْ يَرَوْا استفهام إنكاري، أي لقد رأى هؤلاء الكفار أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي نقصدها، و نتوجه نحوها نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي ننقص أراضي

الكفار من هنا و هناك، بأن تصبح أرضهم يبابا بعد أن كانت عامرة، و مدنهم صغيرة، بعد أن كانت كبيرة، و حدودهم ضيقة، بعد أن كانت وسيعة، كل ذلك لانهيارهم و ضعفهم، فلا يقدروا على الزراعة و العمارة، و فقد شبابهم و قواهم، فلا يتمكنوا من حفظ حدودهم من الدول المعتدية، و قوله سبحانه «الأرض» لا دلالة فيها على مجموع أرض الكرة، فإن مثل هذا التعبير كثير في مثل المقامات التي ذكرنا يقال: الرئيس الفلاني، أفسد الأرض، و الرئيس الفلاني عمرها، أو وسّع فيها، أو ضيقها مما هو كثير متداول في ألسنة الناس،

و قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: يعني بذلك ما يهلك من القرون، فسماه إتيانا.

أما ما ورد من تفسير الآية بموت العالم، فإن ذلك من أسباب نقص الأرض، إذ العالم قوة تحفظ سعة الأرض، و عمارتها و نشاطها وَ قد يظن بعض الناس، أو بعض الدول إنما أنهم يوسعون و يعمرون، فلا قدرة فوقهم لكنه سراب خادع، فإن اللَّهُ يَحْكُمُ بكل شي ء و منها السعة و الضيق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 151

[سورة الرعد (13): الآيات 42 الى 43]

وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

و العمارة و الخراب لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فلا أحد يعقب الحكم الصادر منه تعالى بالتغيير و التبديل وَ هُوَ سبحانه سَرِيعُ الْحِسابِ فلا يظن القوي، أنه يبقى، و إن طغى، بل يأخذه اللّه سبحانه

بسرعة مذهلة، حتى كأنه لم يغني بالأمس، و من نظر إلى سرعة انهيار الكفار و الظالمين، ليأخذه العجب.

[43] إن هؤلاء الكفار ليسوا بأشد مكرا- لإطفاء الدين- من قبلهم، فقد كان أولئك يمكرون، و يأخذون التدابير الخفية، لمحو هدى الأنبياء عليهم السّلام، و لكن تدبير اللّه كان أقوى منهم فقد نصر أوليائه في الدنيا، و سينصرهم في الآخرة، بإعطاء الثواب الجزيل، و إخلاد الكفار النار وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فقد مكر الكفار في الأمم السابقة، للرسل المؤمنين باتخاذ تدابير خفية لاستئصالهم فأبطل اللّه مكرهم، إذ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً فإنه سبحانه عالم بجميع التدابير، فيرد على الكفار تدابيرهم و يتخذ هو سبحانه تدابير خفية لنصرة الأنبياء يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من التدابير الخفية و الجلية، فيضع لتدابير الكفار معوّقا و مبطلا، هذا في الدنيا وَ سَيَعْلَمُ في الآخرة الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة- فإنها طبعا- للمؤمنين دونهم.

[44] ابتدأت السورة بقوله «وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» فقد كان الابتداء لإثبات الرسالة، و يأتي الختام ليفهم ما ابتدأت به من إثبات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 101

الرسالة، مع الإلماع إلى خلاصة ما يقوله الكفار في الرسول الذي سبق أنهم أنكروا رسالته، لأنه لا يأتي بآية، و لأن له أزواجا و ذرية، و ما أشبه ذلك وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ يا رسول اللّه مُرْسَلًا من قبل اللّه قُلْ لهم كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أنه يشهد برسالتي و شهادته إعطاء هذه المعجزة الخالدة- القرآن- لي، فإنه إمضاء عملي وَ كفى شهيدا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ و هم اليهود و النصارى الذين وجدوا في كتبهم وصف الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم و أظهره المنصفون منهم و ما ورد من أن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام مراد بهذا فإنه مصداق ظاهر ممن عنده علم الكتاب، يعلم الكتب السابقة، و القرآن الحكيم جميعا، و أنه عليه السّلام ليشهد للرسول، و يأتي بالدلالة لرسالته التي منها إخراج وصفهم من كتب الأنبياء السابقين «1»، و قد أخرج حفيده الإمام الرضا عليه السّلام- في مجلس المأمون- ما أبان ذلك، و إنهم أهل بيت عندهم علم لكل الكتب «2»

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 432.

(2) راجع وسائل الشيعة: ج 27 ص 72.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 102

14 سورة إبراهيم مكية/ آياتها (53)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على اسم «إبراهيم عليه السّلام» و قصته، و السياق العام في هذه السورة، كالسور المكية- غالبا- حول أصول العقيدة من توحيد و رسالة و معاد، فقد كانت مكة تلائم مثل هذه الأمور، لعدم تأسيس دولة تحتاج إلى النظم و التشريعات- بعد- قال بعض المفسرين أن مصب جو السورة إلى أمرين مهمين، أولا وحدة دعوة الرسل، و الثاني نعمة اللّه على البشر، و مقابلة أكثرهم لها بالكفر.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله في حوائجنا، و نجعله في ابتداء أمورنا و هل هناك أرفع شأنا منه حتى يبتدأ باسمه، فإنه اللّه الرحمن الرحيم الذي يتفضل بالرحم لكل الأشياء، أليس هو الرحمن المطلق فقد وسعت رحمته كل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 103

[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ

مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2)

[2] و لما ختم اللّه سبحانه سورة الرعد بإثبات الرسالة و إنزال الكتاب افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة و الكتاب فقال الر الف، و لام، وراء، أي من هذا الجنس كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ و هو القرآن الكريم، و الإنزال إن كان من السماء- كما هو الظاهر من الآيات و الروايات- كان اللفظ حقيقة، و إن كان بالإلقاء في القلب و ما أشبه كان الإنزال مجازا، تشبيها بالعلو الحقيقي للمنزل، بالعلو الخارجي، يقال: تلقيت الأمر من الأعلى، و يراد أعلى درجة و رتبة لا أعلى مكانا، لِتُخْرِجَ يا رسول اللّه النَّاسَ جميع الخلق، و عدم خروج بعضهم لعدم بلوغه الدعوة أو عناده لا ينافي كون الغرض من الإنزال ذلك مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن الإنسان المنحرف العقيدة و المنهج في ظلمة، فكما أن من في الظلمة الخارجية لا يبصر مكان قدمه و لا يبصر ما حوله من الحقائق الخارجية، كذلك من في الظلمة العقيدية و المنهجية، لا يرى الحق بالنسبة إلى العقائد، فأي فرق بين من لا يبصر بعينه الكتاب الموضوع في الرف، و بين من لا يرى بقلبه للكون خالقا، أو لا يرى كيف يعامل بربا أو بدون ربا، بل الظلمة الظاهرية أهون، فإن الأعمى أكثر ما يخشى عليه التردي، و الذي في ظلمة الكفر، في تعاسة الحياة كلها، و سوء المنقلب- قطعا- بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإن اللّه سبحانه أذن إخراج الناس من الظلمة إلى النور، لمّا أوحى إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتبليغ، و التعبير ب «الإذن» دون «الأمر» لعله للمقابلة مع ما كان ينسبه الكفار إلى اللّه من الخرافات في العقيدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 104

[سورة إبراهيم (14): آية 3]

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

و العمل، فتلك لم يأذن بها اللّه، كما قال: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) «1»؟ و هذا أذن به اللّه، و يحتمل أن يكون المراد أن الرسول لا يقدر إلا على البلاغ، أما إخراج الناس إخراجا خارجيا، بأن يطاوعه الناس في الخروج من الظلمات، إلى النور فإن ذلك ليس في مقدور الرسول و إنما هو بإذن اللّه، وفق سنته التي سنها في الكون، التي هي أن من أعطى القلب و هو شهيد مريد للحق، دخل في قلبه هذا النور، و من ألقى السمع، و ليس بشهيد لا يدخل في قلبه هذا النور إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هذا بدل من قوله «إلى النور» فالنور هو صراط اللّه سبحانه «العزيز» مالك العزة و القوة و القدرة و الإرادة «الحميدة» الذي يحمل العارفون لما له من الإنعام و الإفضال، فهم إنما يخرجون من صراط الذلة و الجدب إلى صراط العزة و الحمد، فمن كفر فليعلم أن اللّه عزيز قاهر، و من شكر فليعلم أن اللّه متفضل حميد.

[3] ثم فسر سبحانه «العزيز الحميد» بقوله اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو خالقها و مبدعها و مسيّر أمرها، و المراد بالمظروف أعم من الظرف، كما سبق في مثل هذه الآية الكريمة، أن مصير المؤمنين بهذا الإله واضح لا مرية فيه، فهو خير الدنيا و سعادة الآخرة، و أما الكافرون به، وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ و الويل

______________________________

(1) يونس: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 105

[سورة إبراهيم (14): آية 3]

الَّذِينَ

يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

كلمة تقال لسوء الحال- غالبا- و العذاب الشديد في الدنيا بالشقاء، و في الآخرة بالنار.

[4] ثم وصف سبحانه الكافرين بصفة تحمل العلة في كفر الكافرين، فالكافرون هم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا و لعل الإتيان بباب الاستفعال «يستحبون» دون «يحبون» لإفادة أن من طبيعتهم لم يكن الحب الزائد لها، و إنما طلبوا حبها، حتى صار ملكة لهم، فإن الاستفعال فيه معنى الطلب عَلَى الْآخِرَةِ أي استحباب الآخرة، و كأنه عدّي بعلى لإشراب الفعل معنى الترجيح، أي يستحبون الحياة مرجحين لها على الآخرة،

فإن حب الدنيا كما قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأس كل خطيئة،

فتصطدم دنياهم بآخرتهم، فيقدمون الدنيا على الآخرة، حيث نشب بقلبهم حبها، فمثلا الآخرة تنهي عن الربا، و الدنيا تطلبه، و عن الزنى و عن القمار، و عن النظر إلى أموال الناس، و أعراضهم، و التطلب للجاه، و لو بألف حرام، و هكذا، وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقته في العقيدة، و النظام، فمن أراد الإيمان أو الإطاعة منعوه عن ذلك وَ يَبْغُونَها أي يطلبون السبيل- و لفظة السبيل يجوز فيها التذكير و التأنيث- عِوَجاً أي منحرفا، فلا يسيرون على الطريق المستقيم صراط اللّه سبحانه، و إنما يسيرون على الطريق المعوج، و إنما كان طريقهم معوجا، لأنه لا يصل إلى المطلوب، فمثلا المطلوب في الدنيا الصحة، و الزنى يوجب الأمراض الزهرية، و هكذا، و يحتمل أن يراد ب «يبغونها عوجا» أنهم يريدون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 106

[سورة إبراهيم (14): آية 4]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ

لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)

جعل طريق اللّه أعوج في نظر الناس، حتى لا يتبعوه، فيزينون لهم أشياء ملصقة بطريقه سبحانه، ليبعدوا الناس عنه أُولئِكَ الكفار الذين هذه صفاتهم فِي ضَلالٍ و انحراف من الحق بَعِيدٍ كأنهم ابتعدوا عن المنهج السوي كثيرا، في قبال الكافر الذي لا يصد عن سبيل اللّه، فإنه أقرب من الأول، و الفاسق الذي يعتقد صحيحا، و يعمل فاسدا، فإنه في ضلال أقرب إلى الطريق من الفئتين السابقتين.

[5] إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل إلى قومه بلغة العرب، كما أن سائر المرسلين أرسلوا بلغة أقوامهم، و إن كانت رسالة بعضهم عامة كموسى و عيسى عليه السّلام، وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ امتنانا من اللّه سبحانه عليهم حتى لا يصعب عليهم الفهم، و إن كانت الحجة تتم بدون ذلك، ثم أنه ليس المراد من القوم عشيرته، بل القوم يطلق على من جمعهم لسان واحد، كما أنه يطلق على من جمعتهم عشيرة واحدة، أو ما أشبه ذلك لِيُبَيِّنَ لَهُمْ علة إرسال الرسول بلسان القوم فجاء الرسول، و بيّن و فهّم، ثم يأتي دور اللطف الخفي و الخذلان، فمن آمن لطف به سبحانه لطفه الخفي، و من أعرض خذله تعالى و تركه، و هذا معنى قوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أي يتركهم في ضلالهم، و ليست مشيئة اعتباطية، و إنما يشاء بالنسبة إلى من أعرض، وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيلطف به الألطاف الخفية، بعد أن أذعن و اعترف، و جاء في حظيرة المؤمنين، فإن الهداية و الضلال لهما مراتب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 107

[سورة إبراهيم (14): آية

5]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

ثلاث، البيان و الترك، و اللطف الخفي و الخذلان، و الإيصال إلى المطلوب و هي الجنة و عدم الإيصال- كما بين ذلك في علم الكلام- وَ هُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب القاهر ذو العزة و العفة، فهو قادر على الهداية و الإضلال الْحَكِيمُ يفعل كل ذلك حسب الحكمة و الصلاح، فمن أبى الهداية تركه في ظلمات الضلال، و من رغب فيها أخذ بيده درجة فدرجة، كالمعلم الذي يترك تلميذه الذي لا يحفظ، و يأخذ بيد تلميذه الذي يحفظ حتى يرتقي- بعد أن يلقي الدرس عليهما على حد سواء-.

[6] ثم ذكر سبحانه مثالا لإرسال الرسل بلسان قومهم بقوله وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع المعجزات و الدلالات المصدقة له أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ هذه كانت رسالة موسى عليه السّلام، أي أرسلنا موسى قائلين له أن أخرج، و جملة «بآياتنا» معترضة، و قد كانت صيغة رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» كصيغة رسالة موسى «أن أخرج» و قد تقدم معنى كون الناس في ظلمة، و أن الرسول يخرجهم منها إلى النور وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ و هي الأيام التي وقعت فيها أمور خارقة من النعم أو النقم، و التذكير بها يفيد العاقل لزوم إطاعة اللّه حتى ينال من تلك النعم، و لزوم ترك المعصية، حتى لا يقع في مثل تلك النقم، كالتذكير بما فضل اللّه به نوحا و المؤمنين من النجاة في السفينة، و بما نقم اللّه سبحانه على الكافرين

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 108

[سورة إبراهيم (14): آية 6]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

بالغرق و الهلاك إِنَّ فِي ذلِكَ التذكير لَآياتٍ دلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على بلاء اللّه سبحانه شَكُورٍ كثير الشكر على نعمائه، و يعني أن من له نفس واعية تصبر في البلاء و تشكر في الرخاء، لا بد و أن يعتبر بأيام اللّه السابقة التي مضت على الأمم، و لا بد أن يعلم وجوب الصبر في البلاء، و وجوب الشكر على الرخاء.

[7] وَ أخذ موسى عليه السّلام حسب أمر اللّه سبحانه يؤدي رسالته، و يذكر بني إسرائيل بأيام اللّه إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «إذ» متعلق بمحذوف، أي اذكر يا رسول اللّه وقت قول موسى لقومه اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و كان النعمة تغمر الإنسان، و لذا تعدى ب «على» إِذْ أَنْجاكُمْ أي في الوقت الذي أنجاكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي فرعون و ذويه، فإنه كثيرا ما يغلب أن يقال «آل فلان» و يراد هو و آله يَسُومُونَكُمْ من سامه إذا أذاقه الهوان سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السي ء، باتخاذهم عمّالا في الأبنية مع إذلالهم و إهانتهم و سجنهم، و بقر بطون نسائهم وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ خوفا من ظهور موسى عليه السّلام، فقد أمر فرعون أن يذبح كل ولد يولد لبني إسرائيل، و الإتيان بباب التفعيل «يذبحّون» لأنه يدل على التكثير، كما قالوا في «غلقت الأبواب» «و قطع الجبال» وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يبقون البنات أحياء للخدمة و الاستمتاع، و الإتيان بباب الاستفعال، لافادته معنى

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 109

[سورة إبراهيم (14): آية 7]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)

الطلب، فليس الأمر تركهن أحياء و إنما طلب حياتهن، لفوائدهم، و هل ذلة أكثر من هذا؟ وَ فِي ذلِكُمْ «ذا» إشارة إلى ما كان يعمله آل فرعون و «كم» خطاب بَلاءٌ أي امتحان مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ حتى يميز الباقي من بني إسرائيل على مبدأ آبائه و أجداده، من التارك منهم و اتخاذه طريقة فرعون، فقد كان في مصر نسل يعقوب عليه السّلام، و هم بنو إسرائيل، عبادا لله سبحانه، متخذين طريقة إبراهيم، و إسحاق و يعقوب أجدادهم كما كان فيه القبط الذين يعتقدون بألوهية فرعون- ملكهم المجرم- و كان الملك و قبيلته يطاردون بني إسرائيل، بأنواع العذاب ليتركوا طريقتهم، و يدخلوا في طبقة القبط، ثم أنه كان من أيام اللّه، تلك النعمة بالإنجاء، كما أنه كان من أيّام اللّه تلك البلية بفرعون و زمرته.

[8] ثم قال لهم موسى عليه السّلام وَ إِذْ تَأَذَّنَ أي اعلم، هو باب التفعّل من الأذان، بمعنى الاعلام، و لعل الإتيان من هذا الباب، لإفادته التكثير، أي اعلم مرات و مرات رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل لَئِنْ شَكَرْتُمْ النعم بصرفها في ما أمر اللّه سبحانه بصرف العقل في التفكر في آيات اللّه تعالى، و صرف الجوارح في إطاعته سبحانه، فإن شكر النعمة، صرفها في المصرف اللائق بها لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة على نعمة، و لطفا على لطف، و سببه واضح، فإن استقامة النفس، توجب الأعمال الصالحة، التي تؤدي إلى الخير و الرفاه و الزيادة، وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ بأن صرفتم النعم في غير وجهها إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ يعني أعذبكم عذابا شديدا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص:

110

[سورة إبراهيم (14): الآيات 8 الى 9]

وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

فإن النفس غير المستقيمة، لا بد و أن تسبب هدما لمناهج الحياة، و ذلك يسبب الشقاء و التعاسة في الدنيا و الآخرة، ثم أن الشكر باللسان، أضعف أقسام الشكر و إن كان مطلوبا أيضا، فإنه شكر بالقلب، و شكر باللسان، و شكر بالجوارح، كما قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) «1» أي ائتوا بالشكر العملي،

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال في تفسير هذه الآية، أيما عبد أنعمت عليه نعمة، فأقر بها بقلبه، و حمد اللّه عليها بلسانه، لم ينفذ كلامه حتى يأمر اللّه له بالزيادة «2».

[9] وَ قالَ مُوسى لبني إسرائيل- بمناسبة قوله السابق: و لئن كفرتم- إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بلا استثناء فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن الجميع لا يضره كفركم شيئا حَمِيدٌ بذاته لا يحتاج إلى حمد الناس و شكرهم، و إنما الشكر و الإيمان تعود فائدتهما إلى نفس الناس، باستقامة حياتهم، و طهارة نفوسهم.

[10] و قال لهم موسى عليه السّلام أَ لَمْ يَأْتِكُمْ يا قوم نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي ألم يصل إليكم أخبار الأمم الماضية الذين عصوا اللّه سبحانه، فأخذهم بعذابه الشديد، أخذ عزيز مقتدر؟ قَوْمِ نُوحٍ بدل من «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» حيث أهلكوا بالغرق وَ عادٍ قوم هود

عليه السّلام وَ ثَمُودَ

______________________________

(1) سبأ: 14.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 111

قوم صالح عليه السّلام وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من قوم الأنبياء الذين جاءوا إليهم بالصدق و الحق، فلجئوا إلى الباطل، و لم يسمعوا كلام الأنبياء لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فإن تلك الأقوام، حيث كانوا قريبين من محل موسى عليه السّلام بين مصر و سوريا، كانت أخبارهم وصلت إلى بني إسرائيل، أما سائر الأقوام الكثيرة، التي قال اللّه سبحانه عنها (وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) «1» فلم يكن يعلمهم إلا اللّه، و لا داعي إلى ذكرهم، فالأنموذج كاف للتذكير و الإرشاد، جاءَتْهُمْ أي جاءت تلك الأقوام رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحة، و البراهين الصريحة فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي رد القوم أيديهم في أفواه الأنبياء عليهم السّلام، بأن منعوهم من التكلم، فقد جرت العادة أن من يريد إسكات متكلم أن يضع يده على فم ذلك المتكلم، و ذلك تشبيه، كما لا يخفى، و يحتمل أن يعود الضميران إلى القوم، يعني أن القوم وضعوا أيديهم، في أفواه أنفسهم مشيرين بذلك إلى الرسل أن اسكتوا وَ قالُوا أي قالت الأقوام إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي برسالاتكم حول العقيدة و النظام وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من وحدة اللّه و المعاد، و سائر الأفعال مُرِيبٍ أي موجب للريب و التردد، فإن الشاك قد يكون له اطمئنان نفسي لا يريبه شكه، بل يمضي حسب اطمئنانه، و قد يقوى شكه، حتى يوجب ريبه و تردده.

______________________________

(1) فاطر: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 112

[سورة إبراهيم (14): آية 10]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ

لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

[11] قالَتْ رُسُلُهُمْ في جواب قولهم «إِنَّا لَفِي شَكٍّ» أَ فِي اللَّهِ شَكٌ أي هل يمكن الشك في اللّه بعد الآيات الكونية الكثيرة، التي تنطق كلها، في وضوح و جلاء، بأن لها خالقا عليها قديرا، فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مبدعهما، و قد كان هذا الوصف بمنزلة البرهان و الدليل يَدْعُوكُمْ اللّه أيتها الأقوام لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم، و إنما أتى ب «من» التبعيضية، لأنه سبحانه لا يغفر كل الذنوب كالشرك، قال سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) «1» كذا قال بعض المفسرين و إلا وفق القواعد، أن تكون «من» للجنس، فإنهم إن لبوا الدعوة، كانوا محلا لغفران جميع الذنوب، إذ لا يبقى شرك حينئذ، و إن لم يلبّوها لم يكن غفران، فالمراد ليغفر لكم من هذا الجنس الذي هو الذنب، وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فلا يعجل عليكم بالعذاب، بل إنما يؤخر آجالكم إلى المدة المقررة لكم، فإن من سلك منهاج اللّه لم يعذب عاجلا، لا بعذاب الاستئصال، و لا بعذاب من خالف المنهاج، فوقع في مشاكل الحياة قالُوا أي قال القوم في جواب الرسل إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم أيها الرسل إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا على خلقتنا، و من آياتنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا أي تمنعونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا

______________________________

(1) النساء: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 113

[سورة إبراهيم (14): آية 11]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

من الأصنام و الأوثان فَأْتُونا أي جيئوا إلينا على صحة دعواكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة، فإن السلطان من سلط بمعنى غلب و قهر، كأن الحجة تغلب و تقهر، و قد كانت الأقوام- غالبا- تتقيد بتقاليدها، و ترى المعجزات بأنها سحر، و تستغرب أن يكون النبي بالمزايا البشرية، من أكل و مشي، و نكاح و أولاد، و لذا نرى هذه الاحتجاجات كثيرة في كلام الأقوام ضد الرسول.

[12] قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ صحيح ما تقولون إننا بشر مثلكم في مزايا البشرية، فإنه إِنْ نَحْنُ أي ما نحن إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصورة، و سائر الخصوصيات وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و يتفضل عليه بالنبوة و الوحي، و قد تفضل علينا سبحانه بهذه الفضيلة، و الدليل على ذلك الخوارق التي تشاهدونها، مما أجراها سبحانه على أيدينا، فإنه وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي حجة و برهان إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته، فما أتيناكم به من المعجزات كان بإذنه، مما يدل على صحة دعوانا و صدقنا، و من المحتمل أن هذا الكلام من الأنبياء، رد لما طلبته الأقوام من خوارق مقترحة، و جواب الرسل، أن الخوارق إنما هي بيد اللّه سبحانه، إن شاء أتى بها، و إن شاء لم يأت، و أما المقدار الكافي لصحة دعوانا، فقد زودنا به، و جئناكم به وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 114

[سورة إبراهيم (14): آية 12]

وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ

(12)

و هذه كتسلية للرسل يسلون بها أنفسهم، يريدون إنا نتوكل عليه سبحانه في تكذيبكم و نصبكم العداء لنا- كما يقول موظف الدولة، بعد أن رأى عدم فائدة الحجاج مع من يريد تطبيق القانون عليه «اعتمادي على الدولة» يريد التهديد و الاستغناء، بهذه الجملة.

[13] ثم نرسم للرسل منهاجهم في الحياة بصورة سؤال و استفهام عن الأقوام تلطيفا للجو، فإن في السؤال إظهارا لقوة الخصم، مما يسبب له اللين و العطف، حيث اتبع حس كبريائه وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي أيّ شي ء لنا، إذا لم نتوكل على اللّه، و لم نفوض أمورنا إليه، بمعنى أنه لو تركنا التوكل عليه، لم يبق لنا شي ء، إذ لا اعتماد لنا، لا من البشر، حيث نصبوا لنا العداء، و لا من اللّه حيث لم نلجأ إليه وَ قَدْ هَدانا اللّه سبحانه سُبُلَنا طرقنا في الحياة السعيدة، و الآخرة المرفهة، و المعنى إنا إذا كنا مهتدين، فلا ينبغي لنا أن لا نتوكل على اللّه ف «الواو» في «و قد هدانا» للحال، ثم أخذت الأنبياء في اجتلاب عطف الأقوام، بقولهم وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا نصبر- على إيذائكم، و لا نقابلكم بالمثل، و هذا بالإضافة إلى كونه حقيقة، فقد كانت الأنبياء تصبر في مقابل أذى الأقوام، ليعطفوا قلوب الناس إليهم، لأن الناس مع المظلومين وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ من أراد التوكل و التفويض إلى أحد في أموره، فاللازم أن يتوكل على اللّه، لأنه ينصره، و يسعفه بحاجته، و قد تقرر في علم البلاغة، أن «الفعل»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 115

[سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 14]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14)

و «الإرادة» يستعمل كل منهما في معنى الآخر، فمثلا «إذا أقمتم الصلاة» معناه، إذا أردتم القيام إليها، و «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ» معناه، أنه يسر عليكم، و عليه فالمراد ب «المتوكلون» من أراد التوكل.

[14] و إذ تمت الحجة على الأقوام، و أظهروا القوة، كما هو شأن كل جاهل حين تتم الحجة عليه، و لا يريد الإذعان وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي ننفيكم من بلادنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي إلا أن ترجعون إلى أدياننا و طريقنا، و تسمية ذلك رجوعا باعتبار أن الكفار كانوا يظنون أن الرسل- قبل ادعائهم الرسالة- كانوا على طريقتهم، ذاهلين أنهم كانوا على مبدأ التوحيد، و لكنهم لم يكونوا مأمورين بإظهاره، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي إلى الرسل رَبُّهُمْ بعد إتمام الحجة، و وصول الأمر إلى هذا الحد لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ بكل تأكيد، و لا يحضرني الآن تاريخ يدل على أن رسولا نفي بعد مثل هذا الاحتجاج، و إنما خرج بعض الرسل بأنفسهم هربا- كموسى عليه السّلام بالإضافة إلى أنه لم يكن بعد مثل هذا الاحتجاج، [15] وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ أيها الرسل الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي نجعل لكم فيها مسكنا و مستقرا، و إنما نخرج المكذبين بالهلاك و الفناء،

و قد ورد في الحديث «من أذى جاره حرم جواره»

«1» و ليس إخراج الكفار من

______________________________

(1) راجع روضة الواعظين: ج 2 ص 387.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 116

[سورة إبراهيم (14): الآيات 15 الى 16]

وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16)

الأرض و إسكان الأنبياء فيها،

و كذلك إسكان التابعين لهم، جزافا و اعتباطا، و إنما ذلِكَ الإسكان، و إخراج الأعداء بالهلاك لِمَنْ خافَ مَقامِي أي خافني، و إنما أضيف الخوف إلى المقام مجازا، بعلاقة الحال و المحل، أو المراد الخوف من نفس المقام و المنزلة، فإن الشخص إنما يخاف من منزلة الحاكم- مثلا- لا من نفس الحاكم، و لذا نرى أنه لو جرد عن تلك المنزلة، لم يكن محل خوف، و المراد بالخوف هنا عدم ارتكاب المعاصي وَ خافَ وَعِيدِ أي خاف و عيدي بالهلاك في الدنيا و النكال في الآخرة، فلم يعصني.

[16] وَ اسْتَفْتَحُوا أي طلب الرسل الفتح و النصرة على أعدائهم، و إنما سمي النصر بالفتح، لأنه يفتح الطريق أمام المنتصر لقضاء حوائجه، بعد ما كان العدو صدا يمنع عن ذلك وَ خابَ أي خسر كُلُّ جَبَّارٍ يجبر الناس على ما يريد عَنِيدٍ معاند للحق، و الجبار يطلق عليه سبحانه، لكنه هناك بحق، لأنه يجبر ما هو ملكه و خلقه، و ليس كسائر الجبارين، و الذين يجبرون ما ليس لهم، فإن الإنسان مسلط على ماله و نفسه، و قد يقال الجبار له سبحانه، باعتبار أنه يجبر الكسر من كل شي ء، كما

في الدعاء يا جابر العظم الكسير.

[17] و خيبة الجبابرة، كما هي في الدنيا كذلك في الآخرة، أما في الدنيا فإنهم لا يهنؤون بالعيش، حيث يرون الناس كلهم أعداء لهم، و إذا كان للإنسان عدوا واحدا لا يهنأ له عيش، فكيف إذا كان له أعداء؟

و الغالب أن الجبابرة يذلون أخيرا و يقتلون، و يبقى التاريخ ليلعنهم مدى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 117

[سورة إبراهيم (14): آية 17]

يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ

ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

الأجيال، هذا مع الغض عن أن لطف اللّه بعباده يحفر للجبار ألف حفيرة، كما قال:

تنام عيناك و المظلوم منتبه يدعو عليك و عين اللّه لم تنم

و أما في الآخرة ف مِنْ وَرائِهِ أي من خلفه، كأن الزمان الماضي مقابل الإنسان و الزمان المستقبل خلف الإنسان، يأتيه فيلحقه جَهَنَّمُ فإنه إذا مات، كان قبره حفرة من حفر النيران وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ الصديد القيح يسيل من الجرح، و إنما سمي صديدا لأنه يصد حتى لا يسيل، إن المكان الحار يتطلب الماء البارد، لكن الجبار إذا طلب ذلك أتي بالقيح،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: يسقى مما يسيل من الدم و القيح من فروج الزواني، في النار «1».

[18] يَتَجَرَّعُهُ أي يتكلف جرعه و شربه جرعة جرعة وَ لا يَكادُ أي لا يقارب- بطبعه أن يُسِيغُهُ و الإساغة إجراء الشراب في الحلق بسهولة، أي لا يتمكن أن يشرب هذا الصديد، لكن العطش المفرط يضطره إلى الشرب،

و قد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسير الآية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقرب إليه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه، فإذا شرب قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول اللّه عز و جل: (وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) «2»، و يقول:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 243.

(2) محمد: 16. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 118

[سورة إبراهيم (14): آية 18]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

(وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ

كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)

«1» وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ حتى أنه لو كان، بالإمكان أن يموت بمكان واحد منه، إذ كيف حال من جوانبه الستة، ممتلئة بالنار و العذاب و داخله هكذا صديد؟ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ إذ لا موت حتى يستريح هناك، فإنهم في جهنم خالدون وَ مِنْ وَرائِهِ وراء هذا العذاب عَذابٌ غَلِيظٌ أشد منه و أغلظ.

[19] أما أعمالهم التي عملوها في الدنيا- و لو كانت حسنات في نفسها- فإنها لا تنفعهم يوم القيامة، فليأخذوا الأجر ممن عملوا له، فإن كل عمل لا يبنى على أساس الإيمان بالله و أمره، لا يستحق العامل جزائه على اللّه مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ في الآخرة أَعْمالُهُمْ التي أتوا بها في الدنيا كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ أي توجهت ريح شديدة إليه، فذرته في الهواء، مما لا يبقي منه أثر فِي يَوْمٍ عاصِفٍ شديد الريح، فكما أن أحدا لا يقدر على جمع ذلك الرماد في مثل هذا اليوم، كذلك أعمال الكفار تنتشر و تذهب هباء لا يقدر أحد على جمعها حتى ينتفع بها لا يَقْدِرُونَ أي أولئك الكفار مِمَّا كَسَبُوا أي من أعمالهم التي كسبوها عَلى شَيْ ءٍ لا قليل، و لا كثير، كما قال سبحانه في آية أخرى

______________________________

(1) الكهف: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 119

[سورة إبراهيم (14): آية 19]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)

(وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) «1» ذلِكَ العمل الذي عملوه هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي الذهاب أبعد عن النفع، فكأن العمل نفس الضلال- مجازا- بعلاقة الصفة و الموصوف، كقوله (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) «2» أو المراد، أن

ضلال هؤلاء الكفار- المستفاد من المثل- هو الضلال البعيد، مقابل الضلال القريب، و هو ضلال العصاة، من أهل التوحيد، فإن الكافر أبعد عن الجادة المستقيمة، من المؤمن العاصي.

[20] إن عمل هؤلاء الكفار، كالرماد المتطاير، أما هم بأنفسهم، فإنهم تحت سيطرة إله قدير، يتمكن أن يذهبهم جميعا، كما أذهب أعمالهم كالرماد، فكفرهم و طغيانهم لا يخرجهم عن قدرته سبحانه و كيف يخرجون عن قدرة إله خلق السماوات و الأرض، إنها قدرة مدهشة، لا يتمكن أحد أن يتحداها أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، و الاستفهام تنبيهي، أي تفكر لكي تعلم أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ فلم يكن خلقها عبثا و اعتباطا، و إنما لغاية و حكمة و مصلحة، كالذي يبني المدرسة، لمصلحة الناجحين من التلاميذ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنيكم و يميتكم أيها البشر، وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و هذا لتأكيد القدرة، حتى أن إفناء البشر كلهم، و الإتيان بمثلهم شي ء هينّ معلق بإرادة واحدة.

______________________________

(1) الفرقان: 24.

(2) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 120

[سورة إبراهيم (14): الآيات 20 الى 21]

وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

[21] وَ ما ذلِكَ الإفناء و التجديد عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بممتنع أو متعسر، فذلك له سهل يسير، أليس خلق السماوات و الأرض شاهدا على يسر ذلك عليه سبحانه؟

[22] ثم ينتقل السياق، بعد أعمال الكفار المتطايرة، إلى مشهد آخر من مشاهد الآخرة، يقع فيه النزاع

و التخاصم بين الرؤساء، و المرؤوسين و الشيطان، فقد أعزى بعضهم بعضا، و هناك تنازع و تخاصم هذه الفئة تلك: لماذا أوصلتها إلى هذا المصير المرّ الأليم؟ وَ بَرَزُوا أي ظهر الكفار يوم القيامة لِلَّهِ في ساحة عدله- تشبيها بظهور الخصماء أمام الحاكم في ساحات المحكمة في الدنيا- جَمِيعاً فليس أحد منهم غائبا، حتى لا يتم الخصام و يؤجل إلى غد و بعد غد، و حيث أن ذلك مستقبل متحقق الوقوع، جاء بلفظ الماضي «برزوا» فَقالَ الضُّعَفاءُ التابعون لرؤساء الكفار لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن قبول الحق، و هم الرؤساء الذين رأوا في قبول الإيمان ذهابا لكيانهم، و تنقيصا لرئاستهم فبقوا على الكفر، و جروا إليهم الضعفاء، إِنَّا كُنَّا لَكُمْ أيها المستكبرون تَبَعاً أتباعا في الدنيا، و تبع جمع تابع، كغيب جمع غائب، فَهَلْ أَنْتُمْ أيها الرؤساء مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ أي هل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب اللّه الذي قد نزل بنا، فإن لم تقدروا على دفع الكل فادفعوا البعض، جزاء لنا حيث اتبعناكم في الدنيا، فإن التابع إنما يتبع، لأن يدفع المتبوع عنه ضرا، أو يجلب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 121

[سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

إليه نفعا قالُوا أي قال الرؤساء المتبوعون في جواب استفهام التابعين لَوْ هَدانَا اللَّهُ في الدنيا لَهَدَيْناكُمْ لكنا ضللنا فأضللناكم، فلا تبعة علينا، إنما التبعة على

من عنده و لا يعطي، أما من ليس عنده فلا لوم عليه أن لا يعطي، و هذا جواب فراري، يريدون بذلك التخلص من أيدي الضعفاء الذين ضعفت نفوسهم، فجعلوا أنفسهم عبيدا مقلدين لأولئك الرؤساء المستكبرين، و إلا، فالله سبحانه هداهم، لكنهم أعرضوا، كما قال سبحانه (وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1» أو المراد أنهم يقولون: لو هدانا الله هنا إلى طريق الوصول و الخلاص من العقاب لأريناكم ذلك الطريق لتنجوا أنتم أيضا، و لكن لا نعرف الطريق حتى نهديكم إليه، ثم يعلن المتكبرون أن الأمر قد قضي و أنهم لا محالة في العذاب، من غير فرق بين أن يصبروا أو يجزعوا، فليس هناك كالدنيا يفيد الجزع حينا، و الصبر حينا سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا و الجزع ضد الصبر ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي ليس لنا محيص و مهرب عن عذاب الله، من حاص يحيص، بمعنى حاد يحيد وفر عن المكروه.

[23] و هنا يأتي الشيطان ليلوم أتباعه، في أتّباعه و يتبرّأ منهم، و يقطع بذلك آخر أمل لهم في النجاة، فقد اتبعوا الشيطان في الدنيا، فلعله يخلصهم بمكر أو حيلة، مما يشاهدونه وَ قالَ الشَّيْطانُ لأتباعه الذين اتبعوه في الدنيا فكفروا أو عصوا، مما أوردهم النار في عاقبة الأمر لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ

______________________________

(1) فصلت: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 122

و فرغ الحاكم من الحكم على أتباعه بالنار و العذاب، و لعل الإتيان بهذه الجملة، بيان أنه لا يفيد شي ء أصلا، فقد انتهى الموضوع تماما، إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ أيها البشر العاصون، إنكم إذا آمنتم و عملتم الصالح جزاكم بالجنة و النعيم وَعْدَ الْحَقِ لم يكن فيه باطل و كذب و خداع

وَ وَعَدْتُكُمْ أن لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا عقاب، فافعلوا ما شئتم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبتكم، و نسبة الخلف إلى نفسه، للتشبيه بالذي وعده فيخلف، للتقابل مع وعد الله سبحانه الذي يوفي، و إلا فالخلف ليس من الشيطان، و إنما اللازم أن يقول فكذبتكم في الوعد- أو على الأدق في الأخبار بأنه لا شي ء هناك وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ أيها العصاة مِنْ سُلْطانٍ تسلط و قهر، فلم يكن امتثالكم أمري جبرا منّي لكم، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلى نقض أوامر الله و مخالفته فَاسْتَجَبْتُمْ لِي و قد كانت دعوتي بالوسوسة و الخفاء، فلم تكن كدعوة الله سبحانه ببعث الرسل و نصب الحجج، و إقامة الأدلة و البراهين و بيان المصالح في الأوامر و المفاسد في الزواجر، و الاستثناء منقطع إذ الدعوة لا تكون سلطانا و قد ذكرنا سابقا أن الاستثناء المنقطع إنما يؤتى به لفرض الكلام سابقا مطلقا، ففي المقام، كأنه قال «فلم يكن مني بالنسبة إليكم «إلا الدعوة» «أما السلطة فلا» فَلا تَلُومُونِي من الملامة، أي لا تلقوا تبعة عقابكم عليّ وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ فأنتم خالفتم الحجة بمجرد الوسوسة و الإغراء حيث كنتم تعلمون أنه خادع زائف، أما الحال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 123

[سورة إبراهيم (14): آية 23]

وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

فاعلموا أنه ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ من صرخ، و الإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ، يقال: استصرخني فلان فأصرخته، أي استغاث بي فأغثته، و المعنى أنا لا أتمكن من إغاثتكم و خلاصكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ و أنتم لا تتمكنون من إغاثتي من

عذاب الله الذي يحل بي، فإن للشيطان النصيب الأوفر من العذاب، و لا مصرخ له- كلما يستغيث- فإن أتباعه يتبرءون منه، كما تبرأ منهم، و لا يتمكنون هم علاجا لأنفسهم فكيف يتمكنون من علاج للشيطان؟ أما الله و أنبيائه، و سائر عباده الصالحين، فهم أعداء الشيطان، كما هو عدوهم، فهل ينقذونه من العذاب، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أيها الأتباع، أي إني جحدت، الآن أن أكون شريكا لله تعالى، فيما أشركتموني فيه، فقد كان المشركون يشركون الشيطان عمليا مع الله سبحانه، فيعملون قسما من أعمالهم حسب أمر الله، و قسما أكبر حسب أمر الشيطان، و هذا هو الشرك، ثم قال لهم كلمته الأخيرة إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم و غيرهم من الناس لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع، فلا مناص و لا خلاص.

[24] و إذ رأينا عاقبة الكفار، و أنها التخاصم و النار، فلننظر إلى عاقبة المؤمنين وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله، و بما أمر به من اتباع الرسول، و الإيمان بالمعاد و ما أشبه، من سائر الأصول الاعتقادية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، بإتيان الواجبات، و ترك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 124

[سورة إبراهيم (14): آية 24]

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24)

المحرمات، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ في حال كونهم خالِدِينَ فِيها فليس لهم عنها زوال بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإنه سبحانه يأذنهم بذلك، حيث يريدون البقاء بعد الدخول تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيسلم بعضهم لبعض مقابل أهل النار الذين يخاصم بعضهم بعضا كما مرّ.

[25] و إذا تم الكلام حول الفرق الخبيثة العاصية التي مصيرها النار، و الفرق

الطيبة المطيعة التي مصيرها الجنة، يأتي مثال للكلام الطيب و الخبيث ليدل على أن مصائر الطيبات إلى ازدهار و نمو و تملك للحياة و مصائر الخبائث إلى الانهيار و المحو من الوجود و هكذا أجرت سنة الله، و هذا المثال بدوره يقوي من عزائم الطيبين و إن رأوا بادي ذي بدء أن الخبيث كثير و أنه قد أخذ عرض الحياة و طولها أَ لَمْ تَرَ يا رسول الله أو أيها الرائي، و الاستفهام تنبيهي يراد به الإلفات و التذكير، و المراد بالرؤية العلم، أي ألم تعلم، و إنما يؤتى بلفظ الرؤية للدلالة على أن هذا العلم قريب من الرؤية فليس من الأمور الغامضة، و إنما رؤية و حس كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي بين الله مثالا لكل خبيث و طيب، و إنما تستعمل كلمة ضرب لأن المثل يصطدم مع الذهن فيوجد فيه تأثيرا و تمويجا لا يحصل ببيان أصل المطلب بدون المثل.

ثم بين سبحانه ذلك المثل المضروب بقوله كَلِمَةً طَيِّبَةً الكلمة تطلق على كل ما في الوجود لفظا كان- كما هو المتبادر منها- أم غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 125

[سورة إبراهيم (14): آية 25]

تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)

لفظ حتى الإنسان يسمى كلمة، كما قال سبحانه: (وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) «1» و (لِكَلِماتِ اللَّهِ) «2» و في الزيارة في وصف الأئمة «كلمة التقوى و أعلام الهدى» فإن الشي ء الطيب إنسانا كان، أو عملا أو لفظا، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي كالشجرة الزاكية النامية الراسخة أصولها في الأرض، و السامقة فروعها في السماء، فكما أن الشجرة الطيبة هكذا، كذلك الكلمة الطيبة أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَ فَرْعُها فِي

السَّماءِ سامق عال فنرى الإنسان الطيب قوي الجذور في المجتمع كثير البقاء، منتشر في النفوس- و إن كان الباطل منتفخا في المنظر- مضيقا عليه دروب الحياة في أيام و هكذا كل شي ء طيب.

[26] تُؤْتِي أُكُلَها الأكل الثمرة، أي تعطي ثمرتها كُلَّ حِينٍ أي في جميع الأوقات بِإِذْنِ رَبِّها فإن الله سبحانه أذن و أجاز ذلك، فإنه لو لا إجازته سبحانه لم تكن و لم تؤت ثمرا، و لذا جاء بلفظ «الإذن» دون «الأمر» فإن الحياة لا تكون إلا بإذنه وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ما أودع فيهم من الفطرة السليمة، و كم هذا المثل بالذات من القيمة، فإن غالب الناس- في كثير من الأحيان- ينظرون إلى ما للباطل من جولة فيظنون أن الحق قد ذهب و اضمحل، و لكن

______________________________

(1) النساء: 172.

(2) الأنعام: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 126

الأمر ليس كذلك بل الحق راسخ الأقدام عالي البنيان لا تزعزعه الأعاصير و لا العواصف و إنما يبقى ليثمر و يعطي الناس فوائده الطيبة.

و السر أن الحق يدخل القلوب بما أودع الله فيها من حب ذاتي للحق، و كره ذاتي للباطل و الباطل إنما يأخذ السطوح، و ما يبقى في القلب في أمن من الخطر و الغير، أما ما في السطوح فإنه يزول بأقل حركة، و لذا قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السّلام: قلوبهم معك و سيوفهم مع بني أميّة «1» و قد رأينا كيف زالت بنوا أمية لما وقعت من أيديهم السيوف، و كيف بقي الحسين عليه السّلام و في الآية الكريمة:

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) «2» و

في الزيارة «و في قلب من يهواه قبره»

أي قبر الإمام عليه السّلام، و لهذا السر

بقيت أنبياء الله تعالى في الحياة بينما لم يبق من الجبارين أقل شي ء و من بقي ليلعن و يكون مسبة و مثلا للرذيلة ليتجنبها الناس.

و قد ذكرت الأحاديث تفسير الآية الكريمة بالرسول و الصديقة و الأئمة عليه السّلام و الشيعة لهم، و ذلك من باب أظهر المصاديق- كما بينا ذلك مكررا-

فقد سأل الإمام الصادق عليه السّلام عن الشجرة في هذه الآية؟

فقال: رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصلها و أمير المؤمنين عليه السّلام فرعها، و الأئمة من ذريتهما أغصانها و علم الأئمة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها، قال:

و الله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها

«3». أما العمل الطيب و الكلمة الطيبة فإنهما يؤثران في الحياة السعيدة و يورقان و يزهران و يثمران كالحبة الصغيرة التي تصبح شجرة

______________________________

(1) دلالة الإمامة: ص 74.

(2) إبراهيم: 38.

(3) الكافي: ج 1 ص 428.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 127

[سورة إبراهيم (14): الآيات 26 الى 27]

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)

كبيرة مورقة، و لذا نرى العمل الطيب يبقى مثالا محفزا للخير، و الحكمة الجارية على لسان الصالحين تبقى لترشد و تسعد .. هذا بالاضافة إلى ما تعقبه الكلمة الطيبة- أيما كانت- من الذكر الجميل في الدنيا، و السعادة الأبدية في الآخرة.

[27] وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قولا كانت أم عملا أم إنسانا كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ غير زاكية و لا نامية، و لا راسخة الجذور و لا عالية الفروع، و إنما هي كالشي ء

المفروش على سطح الأرض، بلا أصول و لا فروع فلا مجال لها في أعماق الحياة و لا بقاء لها في مستقبل الأجيال، و كأنها اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ أي اقتلعت جثتها من الأرض، و إنما وصفت بهذا الوصف لبيان أنها لا بقاء لها، حتى لا تستحق أن يقال عنها إنها ثابتة- و لو حين كانت ثابتة- أ فلا تصير بعد أيام مجتثة؟ و هي اجتثت «من فوق» فلا جذور لها في الأعماق حتى تستحق أن يقال «من الأرض» ما لَها أي ليس لتلك الشجرة مِنْ قَرارٍ ثبات و استقرار، فأقل ريح تنسفها، و أصغر حركة تقلعها و ما ورد من أن ذلك مثال لبني أمية، فإنه من باب المصداق، و قد صدق المثل فقد رأيناهم، اجتثوا من فوق الأرض، و ذهبت دولتهم المنتفخة الخلابة، حتى أنهم لا يذكرون إلا باللعن، و لا يسجلون إلا لبيان مخازيهم.

[28] و كما للشجرة الطيبة ثبات و استقرار كذلك للمؤمن الطيب أنه يثبته الله سبحانه، و يجعله دعامة للحياة، كما يؤول أمره إلى الخير و السعادة في الآخرة، و كما ليس للشجرة الخبيثة ثبات و استقرار كذلك للظالم العاتي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 128

أنه يضله الله سبحانه، كالإنسان الذي لا ينتفع بشي ء فإنه يلقيه مع النفايات ليذهب و ينقطع أثره، و لماذا يبقى؟ أنه لا ينتفع به حتى يتعاهده الإنسان يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبقيهم أعمدة للحياة و أمثلة للمكرمات، و إنما يبقيهم بسبب القول الثَّابِتِ الذي تمسكوا به من الإيمان بالله و العقائد الصحيحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فهم هاهنا ثابتون راسخون يعرفهم الناس و يقتدون بهم كأمثلة للمعاني الخيرة وَ فِي الْآخِرَةِ فهم الشفعاء الحكام أصحاب

الجاه الكبير في الجنة.

و في الآية احتمال آخر- و إن كان الأول أنسب إلى السياق- و هو أن الله سبحانه يثبت المؤمنين على إيمانهم، فلا تزحزحهم الفتن و الانحراف بسبب القول الثابت الذي هو الإيمان و كلمة الشهادة فلا يمكن إضلالهم «في الحياة الدنيا» و لا يتلعثمون إذا حوسبوا «في الآخرة» لما انطووا عليه من الإيمان و الإذعان وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بترك الإيمان، فإنه سبحانه ينفيهم و يبعدهم، و يتركهم حتى يغمروا في الجهالة و الضلالة، كما يترك الشجرة الخبيثة حتى تنقلع بسبب الرياح وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما أجرى سننه عليه من نصرة المؤمنين، و إبقائهم، و خذلان الظالمين و إضلالهم- و قد سبق مكررا أن المراد بالإضلال إذا نسب إليه سبحانه: ترك الشخص الذي لم يقبل الأمر حتى يضل و يفسد- و ما ورد في جملة من الأحاديث من إثبات المؤمن عند الاحتضار أو في القبر على الشهادة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 129

[سورة إبراهيم (14): آية 28]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28)

الحقة، فإن ذلك من باب أحد المصاديق للآية الكريمة.

فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث سؤال القبر فيقولان «منكر و نكير» له: من ربك و ما دينك و من نبيك؟ فيقول: الله ربي، و ديني الإسلام، و نبيي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيقولان: ثبّتك الله فيما يحبّ و يرضى، و هو قول الله يثبت الله الذين آمنوا، الآية «1».

[29] و بمناسبة الحديث عن المؤمنين و الظالمين يأتي السياق لبيان أنهم كيف ظلموا أنفسهم حتى ضلوا سواء السبيل أَ لَمْ تَرَ

يا رسول الله، أو أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، و الاستفهام تذكيري- كما تقدم- إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً؟ أخذوا بدل النعمة الكفر، فلقد كان مقتضى العقل أن يأخذوا النعمة بشكرها، فأخذوا الكفر، فكأن النعمة شي ء قابل للأخذ، فلم يأخذوها، و إنما أخذوا مكانها الكفر، و هذا عام يشمل كل من يترك النعمة ليأخذ مكانها الكفر، فمن يترك الرسول ليتخذ مكانه الكفر، و من يترك الولاية لأهل البيت ليأخذ مكانهم الكفر بهم، و من يترك شكر النعمة ليأخذ مكانه الكفران بها، و غيرهم من أمثالهم كل أولئك بدلوا نعمة الله كفرا و ما ورد من تفسيرها بكفّار قريش فإنه من باب المصداق الظاهر.

و الحقيقة أن النعمة لا تبدّل بالكفر، و إنما الشكر للنعمة يبدل بكفرانها، و إنما جي ء بهذا المجاز- بعلاقة السبب و المسبب- تهويلا وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ فهم- الرؤساء- قد قادوا قومهم و أتباعهم

______________________________

(1) تأويل الآيات: ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 130

[سورة إبراهيم (14): الآيات 29 الى 31]

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31)

إلى دار الهلاك، فإن البوار بمعنى الهلاك.

[30] جَهَنَّمَ بدل من دار البوار يَصْلَوْنَها أي يصلاها الذين بدلوا مع أقوامهم، و اللفظة حال عن الفاعل و المفعول في «أحلوا قومهم» وَ بِئْسَ الْقَرارُ جهنم، فإنها مقر سيّئ.

[31] لقد استبدل هؤلاء الكفار بنعمة الرسول و دعوته إلى التوحيد كفرا فتركوا الدعوة و الوحدة وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً جمع

ند، و هو المثل، أي أمثالا في العبادة، فعبدوها كما عبدوا الله تعالى لِيُضِلُّوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ أي سبل الآلهة الباطلة، و اللام للغاية، و إن لم يقصد الإضلال المضل، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» و الظاهر بقرينة- و أحلوا قومهم- أن المراد بمن «جعل» القادة الكبراء.

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكافرين الجاعلين لله أندادا تَمَتَّعُوا قليلا في هذه الحياة بالتنعم من متعها، و المراد به التهديد، و إن كان في صورة الأمر فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ فإنكم- بكفركم- إليها تصيرون.

[32] و انصرف يا رسول الله عن هؤلاء الكفار، و ولّ وجهك تلقاء المؤمنين و قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و ما جئت به يُقِيمُوا الصَّلاةَ استمروا على أدائها، و جزم يقيموا، لأنه وقع في جواب الأمر، أي أن

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 131

[سورة إبراهيم (14): آية 32]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)

تقل لهم يقيموا وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ مختلف الأرزاق، رزق العلم، و رزق الجاه، و رزق الأولاد، و رزق المال، و غيرها سِرًّا وَ عَلانِيَةً فإن الإنفاق كذلك دليل على رسوخ ملكة الإنفاق في النفس، بخلاف من ينفق في وقت دون وقت مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أي هو يوم القيامة، أو يوم موت الإنسان لا بَيْعٌ فِيهِ فلا يمكن الإنسان أن يبيع شيئا ليشري نفسه من العذاب وَ لا خِلالٌ أي لا الصداقة، فإن الصديق لا ينفع هناك صديقه في نجاته من العذاب، أو المراد ادخروا الأعمال الصالحة ليومكم

ذاك فإن ذلك اليوم لا يكون فيه نماء بتجارة أو صداقة، و إنما يستعمل الإنسان نتائج أعماله السابقة.

[33] إن الكفار تركوا عبادة الله الواحد، و أخذوا الأنداد، مع أنه سبحانه هو المتفرد بالملك، و ليس معه من شريك اللَّهُ هو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أنشأهما و أبدعهما و أوجدهما من كتم العدم وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي جهة المطر ماءً بإنزال المطر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بسبب ذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أيها البشر، و إنما قال من الثمرات، لأن جميعها لا تكون أرزاقا للبشر، فقسم منها يسقط و يتلف، و قسم منها يصير رزقا للبهائم و الحيوانات، و المراد بالرزق أعم من المأكول و الملبوس و المفروش و سائر ما ينتفع به الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 132

[سورة إبراهيم (14): الآيات 33 الى 34]

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن و المراكب، حيث تحملكم على ظهر الماء من محل إلى محل، بأن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ سبحانه لأنه المهيّئ لوسائل الجريان من رخاء الماء، و جري الهواء، أو دفع الحرارة- في السفن البخارية و شبهها- وَ سَخَّرَ لَكُمُ أيها البشر الْأَنْهارَ المياه الجارية، لتجري إليكم من كل مكان، و لو كانت المياه راكدة، لم ينتفع بها كثير من الناس إلّا بصعوبة.

[34] وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ أي ذللهما و سيرهما لمنافعكم، فإن الإنسان ينتفع بالشمس في ضوئها و حرها، للدف ء و نضج الثمار

و غير ذلك، كما ينتفع بالقمر في ضوئه- ليلا- و تأثيره الطبيعي في بعض الأشياء، كالجزر و المدّ، و تقويمه الحساب للسنين و الشهور و الأيام، إلى غيرها دائِبَيْنِ أي في حال كونها مستمرين في عملهما، شروقا و غروبا، مدى السنين و الأزمان وَ سَخَّرَ لَكُمُ لمنافعكم اللَّيْلَ وَ النَّهارَ تستريحون في الليل و تعملون في النهار مع ما لهما من المنافع للأبدان و الأرواح، بعدم الضجر و الملل من استواء الحالة، و غير ذلك.

[35] وَ آتاكُمْ أعطاكم سبحانه مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ من مال و أولاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 133

[سورة إبراهيم (14): آية 35]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35)

و أزواج و صحة و أمن و غيرها، من الأسئلة التي لا تحصى كثرة يسألها الإنسان من الله تعالى فيعطيها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ التي أنعم بها عليكم، من كل صغيرة و كبيرة لا تُحْصُوها أي لا تقدرون على إحصائها، كيف و الإنسان لا يتمكن من عدّ ما في بدنه فقط- من النعم- فقد ذكروا أن في بدن الإنسان اثنتي عشرة ألف قوة تشتغل ليل نهار، أما علماء الغرب فقد ذكروا أن كل قطرة من الإنسان فإنها تحمل اثني عشر مليون من الحيوانات المجهرية الصغيرة، و من المعلوم أن كل واحدة منها نعمة، و بهذا الشبه قالوا في كل ذرة من ذرأت الجسم، و النعمة اسم أقيم مقام المصدر، و لذا لا يجمع، ثم أ ليست كل هذه النعم من الله سبحانه؟ فلما ذا يتخذ الإنسان إلها دون الله إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ صيغة مبالغة أي كثير الظلم لنفسه و لغيره كَفَّارٌ أي

كثير الكفر لنعم الله تعالى، فإن الكفر بمعنى الستر و عدم الشكر للنعم.

[36] و إذ سبق وجوب شكر النعمة و ذم كفرانها، و ظهر مصير المؤمن و الكافر، فلننظر إلى نموذج من الإنسان المؤمن، كيف آمن و شكر، و كيف كان كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء، في مثال قريب إلى أذهان البشرية جمعاء، و إلى أذهان أهل مكة بصورة خاصة، و قد جرى دأب البلغاء أن يعقبوا الحكم الكلي و القاعدة العامة بمثال واضح ليتركز الحكم في الذهن، و يتشوق الذهن إلى الانطباع بمثله، و الاقتداء به، وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ في دعائه مع الله سبحانه رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي مكة، و ذلك اليوم لم يكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 134

[سورة إبراهيم (14): آية 36]

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)

بلدا، و إنما علم إبراهيم بأنه سيصبح بلدا آمِناً أي محل أمن، لا يسودها الفوضى و الاضطراب، كما قال سبحانه، و قد استجاب دعاء إبراهيم عليه السّلام: (جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) «1» فقد كانت مكة آمنة، بينما كانت حواليها مضطربة بالسلب و النهب و القتل و السفك.

وَ اجْنُبْنِي أي بعّدني، من جنّبه بمعنى بعّده وَ بَنِيَ أي بعّد بنيّ- أولادي- أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ معنى هذا الدعاء ألطف علينا بلطفك حتى لا نعبدها، لا ابتداء، و لا استمرارا، فلا يقال أن إبراهيم لم يكن يعبد الأصنام، فما معنى هذا الدعاء؟ و الظاهر أن مراد إبراهيم عليه السّلام من «بني» أولاده من صلبه، أو الأنبياء و الأوصياء منهم و من في سلسلتهم،

فقد روي

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي عليّ، لم يسجد أحد منا لصنم قط فاتخذني الله نبيا و عليا وصيا «2».

أقول: و قد وردت روايات و أطبقت عليه الشيعة على أن في سلسلة النبي و الإمام لا يكون كافر إطلاقا، و على ما تقدم فلم يكن دعاء إبراهيم عليه السّلام عامّا لجميع ذريته، و إلا فقد كان من نسله من عبد الأصنام، كبني إسرائيل الذين عبدوا العجل، و غيرهم كأبي لهب.

[37] يا رَبِّ إِنَّهُنَ يعني الأصنام و إنما أتى بضمير العاقل تماشيا مع المعتقد السائد عند المشركين من زعمهم أن الأصنام لها عقول

______________________________

(1) العنكبوت: 68.

(2) أمالي الطوسي: ص 378 مجلس 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 135

[سورة إبراهيم (14): آية 37]

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)

أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ من عباد الأصنام و إنما نسب الإضلال إليها لأنها السبب في ذلك، فلو لا الأصنام لم يضل الذين عبدوها بهذا النوع من الضلال، و يتبين من هذا أن عبادة الصنم في ذلك الدور كان شيئا كثيرا حتى أن إبراهيم عليه السّلام تخوف على ولده من الانجراف و الانحراف.

فَمَنْ تَبِعَنِي من الناس في إيماني و أعمالي، بأن آمن و عمل صالحا فَإِنَّهُ مِنِّي لي ما له و عليّ ما عليه، و هذا هو المراد من قولنا «فلان من فلان» يعني على لونه و مزاياه، و إنه مشترك معه في الحكم حسنا أو قبيحا وَ مَنْ عَصانِي فلم يتبع طريقتي و سبيلي فَإِنَّكَ يا رب

غَفُورٌ ساتر لمعاصي العباد رَحِيمٌ بهم ترحمهم و تتفضل عليهم، و لا يقال أنه كيف قال إبراهيم ذلك مع أن الكفار ليسوا بقابلين للغفران؟ إذ الجواب: أن من عصى أعم من الكافر، فإنه يشمل المؤمن العاصي، و لم يقل إبراهيم غفور له في الآخرة، فإن في الدنيا يرحم الله الكفار و يستر كثيرا من سيئاتهم، و كأنه عليه السّلام أراد بذلك أن يستعطف الله سبحانه، بأن يفعل بالعاصي ما يمكن أن يفعله من الغفران و الرحمة.

[38] ثم قال إبراهيم عليه السّلام في دعائه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي جعلت لبعض ذريتي السكن و محل الاقامة بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي أرض غير مزروعة، و قد أراد بذلك إسماعيل عليه السّلام حيث أنه جعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 136

هناك إسماعيل و أمه هاجر، دون إسحاق و أمه سارة، فقد كانا عنده قرب فلسطين، حيث مخيمه و مضيفه و ماشيته، و قد أمر الله سبحانه إبراهيم بهذا الإسكان، عند البيت لينتشر البلاغ و الدعوة من هناك، و قد كان إبراهيم يتراوح بين مكة و فلسطين، و قد صار ما قدره الله سبحانه من انتشار الدعوة من هناك، و لعلّ جعل إسماعيل الصغير و أمه هاجر، في تلك الصحراء القفر الموحش حكمة جلب أنظار المارة، و من حولهم- بعيدا- في الأخبية من البدو النزل، إلى هذا البيت، فيكون ذلك سببا للهداية فإن الفطرة البشرية تعطف على المظلوم و الغريب و الكسير و من إليهم، مما يهيئ الجو المستعد للبلاغ و الإرشاد.

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ و إنما قال عليه السّلام عند بيتك و لم يبين بعد، لأن البيت كان سابقا على إبراهيم و لذا ورد أن آدم

عليه السّلام حج البيت، و إنما خرّب بعد ذلك حتى ذهب أثره، إما بفعل الطبيعة، أو بعض الأشخاص كما قال بعض المفسرين أنه خربه «طسم» و «جديس» و إضافة البيت إليه سبحانه تشريفي، و وصف البيت بالمحرم لأنه لا يجوز الوصول إليه إلا بالإحرام، أو بمعنى العظيم الحرمة، أو لأنه يحرم فيه بعض الأشياء كالصيد و ما أشبه.

رَبَّنا إني قد أسكنتهم هناك لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ و لعلّ المراد إقامتها بإرشاد الناس إليها و دعوتهم إلى الصلاة، لا أنهم يصلونها، فإن ذلك كان ممكنا حتى عند غير البيت، أو المراد أن كونهم في البيت هو الذي يحفزهم على إقامة الصلاة، فإن الإنسان إذا كان في مراكز القدس، يمثل نفسه إلى الابتهال و الاتصال بالله سبحانه، بخلاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 137

[سورة إبراهيم (14): آية 38]

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (38)

الإنسان الذي هو بعيد فإن المحيط يوحي بما يحمل معه من المعاني الخيرة أو الشريرة فَاجْعَلْ يا رب أَفْئِدَةً جمع فؤاد، و هو القلب مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم و تهواهم، و ذلك سبب لتعمير البيت أولا، و إقبال الناس على الحق ثانيا، و سيادة الذرية ثالثا، و من المعلوم أن من المرغوب فيه أن يكون أبناء الإنسان سادة، سواء للدين أو الدنيا، كما قال سبحانه حكاية عن المؤمنين (وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) «1» هذا بالإضافة إلى إصلاح أمور معايشهم إذا هوتهم الأفئدة فاختلف الناس إليهم.

وَ ارْزُقْهُمْ يا رب مِنَ الثَّمَراتِ و لعل هذا الدعاء كان لأجل أن مكة لجدب أرضها لا تنبت ثمرا، إلا أن يشاء الله

أن يؤتي إليها بالثمار، و قد استجاب الله كل دعاء إبراهيم عليه السّلام التي منها هذا الدعاء، فإن مكة إلى هذا اليوم يجبي إليها ثمرات كل شي ء، فالحاج يرى هناك من أنواع الثمار المجبية من أطراف الأرض ما يدهشه لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي لكي يشكروا نعمك و يعرفوا فضلك فيفوزوا بسعادة الدنيا و الآخرة، و «لعلّ»، علة لما تقدّمه من أدعية إبراهيم عليه السّلام أي افعل بهم كذا و كذا لكي يشكروا، أو رجاء أن يشكروا فإن الإنسان جبل على شكر المنعم.

[39] ثم يظهر إبراهيم عليه السّلام أن دعائه بتلك الدعوات ليس لمظاهر ريائية، و إنما الأدعية انقطاع إليه سبحانه، و تضرع و طلب من الله، و كيف

______________________________

(1) الفرقان: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 138

[سورة إبراهيم (14): آية 39]

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)

يمكن لإبراهيم عليه السّلام أن يريد المظهر في دعائه أو يجد الرياء إلى عمله سبيلا- كبعض الداعين- و هو العالم بأن الله سبحانه يعلم ما خفي و ما علن؟ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي في نفوسنا، أو نخفيه عن الناس وَ ما نُعْلِنُ بإظهاره أمام الملأ، فلا نفعل شيئا إلا لك و من أجلك، في حال نراك رقيبا علينا تعلم خفايانا وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فهو المطلع على كل شي ء، و لعل ذكر هذه الأدعية هنا، للتعريض بكفار قريش حيث استجاب الله فيهم دعاء إبراهيم، فالحرم آمن، و الثمرات تجبى، و القلوب تهوى محلهم، مع ذلك هم يكفرون بالله، و لا يقيمون الصلاة، و أعمالهم رياء و مكاء و تصدية.

[40] ثم أخذ إبراهيم

عليه السّلام في الشكر، فإن الشكر مفتاح إجابة الأدعية، إذ الشاكر يزاد و الكفور يزاد، كما قال سبحانه (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) «1» فقال عليه السّلام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي كبر سنّي إِسْماعِيلَ ابن هاجر وَ إِسْحاقَ ابن سارة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي يسمع دعاء من دعاه، و ليس كسائر العظماء لا يسمعون إلا دعاء بعض الناس لهم، أو المراد بسميع الدعاء، أنه يستجيب، لأنه ربما يكون كناية عنه.

______________________________

(1) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 139

[سورة إبراهيم (14): الآيات 40 الى 41]

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

[41] يا رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ بأمر الناس لها و الإرشاد إليها، أو المراد أدم توفيقك لأكون في المستقبل مقيما كما كنت في الماضي كذلك، مثل «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي اجعلهم مقيمين للصلاة، و دخول «من» هنا و في قوله عليه السّلام «من الناس» إما للنشوء و الجنس أي أفئدة من هذا الجنس، و اجعل من جنس ذريتي فيكون الدعاء عاما، و لا منافاة بين دعاء الخير للعموم و إن علم الإنسان أنه لا يستجاب إلا لبعض، كما

في الدعاء: «اللهم اغفر للمسلمين و المسلمات»

و إما للتبعيض و إنما دعاه للبعض، لأنه علم عدم الاستجابة بالنسبة إلى الكل رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ أي دعائي، و حذف ياء المتكلم تخفيفا، لدلالة الكسرة عليه.

[42] رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ و المراد بالغفران الستر، و ذلك لا ينافي عدم العصيان فإن للمعصومين عليهم السّلام حالات مباحة، بل راجحة هي دون شأنهم لا يحبون أن تظهر للملأ، كما أن كل

أحد فهو قاصر أو مقصّر بالنسبة إلى مقامه سبحانه، و إن صرف كل وقته في طاعته، كما نجد هذا بالوجدان فيما لو استضاف الإنسان ملكا و هيّأ له كل إمكاناته، مما كانت قاصرة عن شأن الملك، فإنه يعتذر و يطلب غفرانه، و على هذا يحمل (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ) «1» و أمثال ذلك- على وجه- و التفصيل في علم الكلام وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يدخل فيهم المؤمنات، و إنما أتى بالمذكر تغليبا يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ

______________________________

(1) الفتح: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 140

[سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 43]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)

أي يقوم الخلق للحساب، فالإسناد مجاز عقلي.

[43] و إذ يفرغ الكلام حول المثال بالنبي العظيم إبراهيم عليه السّلام، للعبد الصالح لله سبحانه يرجع السياق نحو «الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً» فلا يظن أولئك أنهم عملوا ما شاؤوا بلا رقيب و لا حساب، بل أنهم يؤخّرون حتى يأتي دورهم يوم القيامة وَ لا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله، أو كل من يتأتى منه التفكر في أمثال هذه الشؤون اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ بأنفسهم، أو بغيرهم، فإن الله سبحانه عالم بكل حركة و سكون منهم، و أن كل أعمالهم تكتب في كتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و إنما لا يعجّل بالأخذ و الانتقام لمصلحة مقررة، و أن يثيب المظلوم، و يظهر ما في نفس الظالم، لئلا يكون له حجة إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ أي الظالمين يؤخر عقابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ شخوص البصر ذهولها و عدم غمضها، فإن يوم

القيامة لا يدع المجرم أن يغمض بصره، بل هو كالإنسان المسافر الذي لا يهدأ، شاخص نحو الأهوال الجارية في القباحة ليرى ماذا يصنع به؟.

[44] في حال كون الظالمين مُهْطِعِينَ الإهطاع الإسراع، أي يسرعون إلى هنا و هناك لعلهم يجدون شفيعا أو مخلصا مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ الإقناع رفع الرأس، أي رافعين رؤوسهم إلى السماء ليروا ماذا ينزل من طرفها حيث يرون الآيات الهائلة المتتالية التي تنزل من طرف العلو،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 141

[سورة إبراهيم (14): آية 44]

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)

أو المراد ناكسي رؤوسهم- قيل و هو لغة قريش- كما قال سبحانه:

(وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) «1» و لا تنافي فإن مواقف القيامة كثيرة، ففي موقع يكونون هكذا، و في موقع هكذا لا يَرْتَدُّ أي لا يرجع إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي عينهم فإنهم لا يطبقونها و لا يغمضونها، إذ هي مفتوحة مذهولة مبهوتة وَ أَفْئِدَتُهُمْ أي قلوبهم هَواءٌ أي مجوّفة لا تعي شيئا للخوف و الفزع، شبهت بهواء الجو، و ذلك لأن الإنسان الخائف لا تحضر نفسه لفهم شي ء حيث توجهت جميع حواسه إلى ذلك الخوف الهائل.

[45] وَ أَنْذِرِ يا رسول الله النَّاسَ عن يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هو يوم القيامة، أو يوم الموت، فإن العذاب يشرع من هناك، أو المراد عذاب الدنيا حين الاحتضار و نحوه فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر أو العصيان رَبَّنا أَخِّرْنا أي أرجعنا إلى الدنيا، أو مدّ في أعمارنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي مدة قصيرة نُجِبْ دَعْوَتَكَ «نجب» مجزوم بكونه جواب الأمر، أي إن

تؤخرنا نجب دعوتك و أوامرك وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما قالوا و أمروا و لكن هيهات أن يردّوا أو يؤخروا، لأنهم استوفوا مدتهم، و لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه، و هنا يتوجه الخطاب إليهم بالتقريع أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أيها الظالمون

______________________________

(1) السجدة: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 142

[سورة إبراهيم (14): الآيات 45 الى 46]

وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)

أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ و انتقال عن دار الدنيا إلى دار الآخرة، و من نعيم الدنيا إلى جحيم العذاب؟ فهل كان ذلك صحيحا؟

[46] وَ سَكَنْتُمْ أيها الظالمون فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قبلكم فلم تعتبروا بأحوالهم، فكيف تطلبون الآن أن نؤخركم إلى أجل قريب حتى تتوبوا؟ فإن كانت نفوسكم مستعدة للتوبة، لتبتم قبل هذا اليوم حيت رأيتم مساكن الظالمين، و سكنتم فيها وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك و الاستئصال وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ على لسان الأنبياء و الصالحين، فقد بينوا لكم أخبار الماضين من قبلكم كيف عتوا عن أوامر الله سبحانه، و كيف أن الله سبحانه عاقبهم و أخذهم، فلم ينفع فيكم ذلك، أو المراد ضرب المثل عملا بإهلاك الطغاة و إبادتهم عن الوجود.

[47] ثم يأتي السياق لبيان ما يفعله الكفار فعلا من المؤامرات ضد الإسلام و الرسول و المؤمنين وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي اتخذوا تدابيرهم الخفية، ما أمكنهم ذلك، فلم يدعوا بابا من أبواب المكر إلا طرقوه، و العموم يستفاد من قوله «مكرهم» الظاهر في

أنهم أتوا بغاية ما تمكنوا من المكر، و يحتمل أن يكون المراد: أن الكفار مكروا بالأنبياء عليهم السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 143

قبلك يا رسول الله، كما مكروا بك، فعصمهم الله من مكر الكفار، فيكون تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيما يفعله هؤلاء به.

وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أنه محفوظ لديه سبحانه، غير خاف عليه، فلا يمكن أولئك أن ينفذوا مكرا دون أن يعلمه الله سبحانه، و هذا كقولك لمن خاصمك: عندي ما تفعله، تعني إنك مطلع عليه، و من المعلوم أن الإنسان إذا كان مطلعا على طرق مكر الخصم، لا يتمكن الخصم من إغفاله، و إنفاذ مكره به وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في غاية العظم و الدقة بحيث لو أنفذوها على اقتلاع الجبال الراسيات لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ لكنه لا ينفذ بالنسبة إلى أنبياء الله عليهم السّلام و من في زمرتهم لأن الله مطلع يحبطه فلا يتمكنون من إضرار الأنبياء بذلك المكر، و لا يقال: إذا كان كذلك فكيف تمكن بعض الأمم من إنفاذ مكرهم على الأنبياء حتى قتلوهم أو شردوهم؟ فالجواب: إن الذي أراده الأنبياء إنما هو تنفيذ منهاج السماء في الناس و قد تمكنوا من ذلك، أما أشخاصهم فلم يكن للأنبياء همّ في بقاء حياتهم، بل بالعكس من ذلك إن غاية آمال الأنبياء و الأئمة لقاء الله سبحانه قتلا و نحوه، كما

قال الإمام عليه السّلام: و إن كانت الأبدان للموت أنشأت* فقتل امرء بالسيف في الله أفضل «1»

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 315.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 144

[سورة إبراهيم (14): آية 47]

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)

و قال علي

عليه السّلام: «و الله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بمحالب أمه»

«1»

و قال عليه السّلام: «لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ»

«2» و في القرآن الحكيم: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) «3» و قال سبحانه: (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) «4» إلى غير ذلك.

[48] أنه ليس لمكر هؤلاء أثر فإن الله سبحانه يحبطه و ينصر رسله فَلا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله أو أيها المتدبر في الأمور، من كل من يمكن أن يتأتى منه هذا الظن، و إن كان الخطاب للرسول فليس النهي لأن الرسول كان يظن ذلك بل للتنبيه على أن هذا المكر لا ينفذ، على طريق المجاز، أو طريق الكفاية، نحو إياك أعني اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ الوعد الذي وعده إياهم بقوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) «5»، و أيّ نصر أعظم من أنهم باقون في القلوب مورد احترام البشرية، يذكرونهم بكل تجلّة، و يزورونهم و من يمتّ إليهم، بينما ذهبت الفراعنة و الجبابرة حتى لم يبق لهم اسم، و من بقي فهو للعن و البراءة و ليكون مثلا للظلم و الطغيان، ليجتنب سبيله الناس.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قاهر، ذُو انتِقامٍ ينتقم من كل ظالم جبار في الدنيا قبل الآخرة كما نرى التاريخ الغابر و الحاضر ملي ء بالشواهد و الأمثلة، فإنه سبحانه لا يدع الظالم بلا جزاء، و لا يذر

______________________________

(1) الاحتجاج: ج 1 ص 95.

(2) بحار الأنوار: ج 42 ص 233.

(3) التوبة: 111.

(4) الجمعة: 7.

(5) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 145

[سورة إبراهيم (14): الآيات 48 الى 49]

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ

وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49)

الماكر بلا عقاب.

[49] إن عدم الخلف، أو الانتقام، إنما هو يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ أو أن العامل فيه محذوف تقديره، اذكر يا رسول الله، و لعل هذا أقرب إلى المعنى، و إن كان الأول أقرب إلى اللفظ غَيْرَ الْأَرْضِ و تبدل وَ السَّماواتُ غير السماوات، بمعنى أنهما يصبحان في غير شكلهما المألوف الحالي، فإن الجبال تدك، و الأرض تسوى حتى لا ترى عوجا و لا أمتا، و البحار تسجر، و الشمس تنكسف، و القمر ينخسف، و النجوم تكدر، إلى غيرها من آيات القيامة.

وَ بَرَزُوا أي ظهر الجميع، أو الظالمون- حيث أن الكلام في الآيات السابقة حولهم- لِلَّهِ أي أمام حكمه و عدله كما يظهر المتخاصمان أمام الحاكم، عند المحاكمة الْواحِدِ فلا شريك مزعوم هناك، و لا أحد يحكم إلا هو الْقَهَّارِ الذي يقهر الظالمين، فلا مجال للتملص و التخلص.

[50] وَ تَرَى يا رسول الله أو أيها الرائي الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا و عملوا السّيئات يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم، و هو يوم القيامة مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مجمعين في الأغلال قرنت أيديهم بها إلى أعناقهم، أو مصفدين بعضهم مع بعض، من التقرين و هو جمع الشي ء إلى نظيره، و الأصفاد جمع صفد و هو الغلّ الذي يقرن به اليد مع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 146

[سورة إبراهيم (14): الآيات 50 الى 52]

سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

العنق، أو مطلق السلسلة.

[51] سَرابِيلُهُمْ

جمع سربال و هو القميص، أي ألبستهم مِنْ قَطِرانٍ و هو شي ء أسود لزج منتن يقبل الاحتراق سريعا، يطلى به الجمل الأجرب، أي أن ألبستهم من هذا الجنس حتى تكون النار فيهم أسرع لكونها أسرع في الاشتعال و أبلغ في شدة العذاب وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحيط النار بوجوههم حتى تكون على الوجه كالغشاء، و بيان ذلك بالخصوص لما يعلمه كل إنسان من أن الوجه يتأذّى بأقل شي ء من الألم فكيف بالنار المحيطة بها كالغشاء.

[52] و إنما يفعل سبحانه بالمجرمين هذا العذاب المدهش لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ فقد كسبت أنفس الظالمين في الدنيا الظلم و المكر فليذوقوا جزاء أعمالهم، و لا يظن ظان أن عذاب الآخرة بعيد ف إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ

فقد قال الإمام عليه السّلام: كل آت قريب و الموت أقرب

، و ها نحن ننظر أين أولئك الذين عارضوا الرسول؟ أو عارضوا الوصي و الصديقة و الزكي و الشهيد و غيرهم ممن تقدم من الأنبياء عليهم السّلام و الصالحين أو تأخر من الأئمة عليهم السّلام و المتقين؟ أليس الكل قد ماتوا و نالوا نصيبهم من العذاب- و

من مات قامت قيامته-.

[53] هذا القرآن بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي تبليغ لهم، حتى يأخذوا حذرهم، و إلا فعن قريب يلاقون هذا المصير المهول وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ فهو بلاغ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 147

لكل وعد و وعيد و حكم و عظة، بصورة عامة، كما أنه جي ء به لينذر الناس، فيأخذوا حذرهم- و إنما أتى بهذا الخاص بعد ذلك العام لأنه مورد الكلام في الآية السابقة- وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له، مما قد كان مصب كلام السورة، و إنما يعلموا

بالقرآن لأنه يبين لهم الحجج و الأدلة فلا يقال أن الإذعان بالقرآن متوقف على الإذعان بالإله فكيف يمكن أن يكون الإذعان بالإله متوقفا على الإذعان بالقرآن؟ وَ لِيَذَّكَّرَ من تذكّر «باب التفعّل» ثم أدغمت التاء في الذال، و جي ء بهمزة الوصل لاستحالة الابتداء بالساكن أُولُوا الْأَلْبابِ أي يتعظ أصحاب العقول، فإن ألباب جمع لب، و هو العقل، و إنما خصص بهم تنبيها على أن غير المتعظ إنما هو مجنون، حيث ترك الآخرة العظيمة لشهوات زائلة، و الله العالم و هو العاصم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 149

تقريب القران إلى الأذهان الجزء الرّابع عشر من آية (1) سورة الحجر إلى آية (129) سورة النحل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 150

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 151

15 سورة الحجر مكيّة/ آياتها (100)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الحجر» و هو اسم البلد الذي كانت فيه قبيلة «ثمود» قوم صالح عليه السّلام و هذه السورة تدور حول العقيدة، و عاقبة المكذبين بما أرسل به المرسلون، كغالب السور المكية. و لما ختم سبحانه سورة «إبراهيم» بكون القرآن بلاغا، ابتدأت هذه السورة بذكر «القرآن» مع التناسب الكلي بين السورتين في استعراض العقيدة و عاقبة الكاذبين بها.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا و نجعله بدء أعمالنا، ليكون عونا لنا، في ختم العمل، و أن يطبع بطابعه، فإن ما لمسته رحمة الله العظيم، لا يكون إلا صالحا باقيا، موجبا للسعادة و لنستمطر شآبيب رحمته، فيرحمنا بلطفه و إحسانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 152

تقريب القرآن

إلى الأذهان ج 3 199

[سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2)

[2] الر ألف، و لام، وراء تِلْكَ و من هذا الجنس من الحروف تتركب آياتُ الْكِتابِ وَ آيات قُرْآنٍ مُبِينٍ واضح لا لبس فيه و لا غموض و لا التواء، و قد ذكرنا غير مرة أن «فواتح السور المقطعة» فيها احتمالات: أحدهما ما ذكرنا، و الآخر أنها رموز بين الله سبحانه و الرسول، و هناك احتمالات أخر، يمكن الجمع بين كثير منها، و على الاحتمال الأول ف «الر» مبتدأ و «تلك» خبره، و تأنيث الإشارة باعتبار أن المقصود «حروف، الر».

و قد تكرر «الر» في فواتح السور، بينما كان بالإمكان أن «ج م د» مثلا، أو غيره، و لعل لسرّ أن الرمز الحاوي له «الر» كان مهما يحتاج إلى التأكيد، كتكرار بعض الآيات: نحو (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) «1»، أو لعله كان ذلك تعبيرا عن حروف الهجاء، كما أن «الضاد» تعبير عن لغة العرب، فيقال لغة الضاد ...... و إنما قال: «آيات الكتاب و قرآن» بعطف القرآن على الكتاب مع أنهما واحد، لإفادة أنه يكتب و يؤلف، فإن القرآن من قرأ و هو بمعنى الجمع و التأليف، و كأنه أكثر تأكيدا في مقام التعجيز، أو من جنس «أ، ل، ر» كتبت و ألفت هذه السور و الآيات فكيف لا تقدرون على الإتيان بمثله، إذا لم يكن من جانب الله؟ و هكذا كما يقول المهندس متحديا سائر زملائه: إني من «الآجر، و الحديد، و الجص» صنعت هذا البناء و ألفت هذا القصر فاصنعوا مثله؟- و الله أعلم بمراده-.

[3]

و إذ كذب بهذا الكتاب و القرآن المبين بعض الناس، بعد أن عجزوا عن

______________________________

(1) الرحمن: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 153

[سورة الحجر (15): آية 3]

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)

الإتيان بمثله فسيأتي يوم يندمون على كفرهم و تكذيبهم، و يتمنون أن كانوا مسلمين في الدنيا غير مكذبين، حتى لا ينالهم العذاب الشديد رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ «ربّ» مشدّدة، و تخفف كثيرا إذا دخلت على «ما» الكافّة، و هي لفظة تأتي عقب رب ليصلح دخولهما على الفعل و الا فإن «رب» تدخل على الاسم، فإنها من حروف الجر، أي ربما يتمنى الكفار الإسلام في الآخرة حيث رأوا عذاب الكافرين و نعيم المسلمين.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: ينادي المنادي يوم القيامة يسمع الخلائق أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم فثم يودّ سائر الخلائق أنهم كانوا مسلمين

«1»، ثم أن الظاهر كون رب للتكثير أي كثيرا ما يودون ذلك، فإن الإنسان المعذب يتمنى كثيرا إن كان عمل عملا لا يؤديه إلى هذا العذاب الذي هو فيه، و لكن لا ينفع التمني و الندم هناك.

[4] إن ذلك تهديد للكفار، بأن ورائهم هذا اليوم، و يأتي تهديد آخر، في صورة الأمر استهزاء ذَرْهُمْ أي دع يا رسول اللّه هؤلاء الكفار، و اتركهم و شأنهم يَأْكُلُوا ما شاءوا من الحرام و الحلال وَ يَتَمَتَّعُوا باللذائذ و الشهوات، كما يشتهون من غير ارتقاب العاقبة و عدم النظر إلى متعتهم هل هي جائزة أو محظورة وَ ذرهم يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ من «ألهاه» بمعنى أشغله، و «الأمل» توقع سعادة الدنيا في المستقبل، أي تشغلهم آمالهم الدنيوية الزائلة عن التفكر في مصيرهم في الآخرة،

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج

2 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 154

[سورة الحجر (15): الآيات 4 الى 5]

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

و التجهّز له بالأعمال الصالحة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و بال ذلك في ما بعد، حين ما عاينوا جزاء أعمالهم، إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلما دعاهم و لم يقبلوا، فليدعهم حتى يلاقوا مصيرهم السيئ.

[5] فلا يغرنّ هؤلاء الكفار تأخير العذاب عنهم، و أنهم عاجلا لا يرون جزاء تكذيبهم، فقد جرت سنة اللّه سبحانه، أن لا يهلك أمة إلا في الوقت المقدّر المحدّد وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي من بلد، و المراد بها أهلها، بعلاقة الحال و المحل إِلَّا وَ لَها كِتابٌ أي وقت و سمي الوقت كتابا لأنه يكتب أجلهم هناك، فهو مجاز بعلاقة الظرف و المظروف، إذ المدة مكتوبة في الكتاب مَعْلُومٌ لدى اللّه سبحانه، فلا يأخذ القرية قبل انتهاء مدتهم، و من المحتمل أن يراد أن هذا قبل قرب وقت تعذيبهم، لأنه جاءهم الكتاب السماوي، و بين لهم الأحكام، و قد جرت سنه اللّه أن يأخذ الظالمين بعد البيان، كما قال سبحانه: (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1».

[6] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي لم تكن أمة تسبق أَجَلَها فتهلك قبل الوقت المحدّد لموتها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ أي لا تتأخر أمة عن أجلها المقدر لها، بأن تهلك بعد الأجل، فلو كان أجل أمة في يوم الجمعة لا تسبقه بأن تموت الخميس و لا تتأخر عنه بأن تموت يوم السبت، و كأنه جاء بلفظ «الاستفعال» لإفادة أن الأمة لا تطلب التأخير، لأنها تعلم بأن الأجل لا

يتأخر، و هذا لبيان حتمية الأجل حتى أنه لا موقع لطلب التأخير.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 155

[سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 7]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)

و ما ورد من أن الأدعية و الصدقات و ما أشبههما تؤخر الأجل «1»، فالمراد أنها تؤخر الأجل المعلق، لا الأجل المحتوم، و معنى الأجل المعلق، أنه لو لا هذه الصدقة لكان يموت في الخميس، لكن اللّه يعلم أنه يصّدّق فيموت يوم الجمعة.

[7] لقد جاء لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكتاب و القرآن المبين و بصّرهم و أقام عليهم الحجة، لكن الكفار لم يذعنوا لذلك كله بل أخذوا في الفساد و اللجاج راكبين رؤوسهم مستهزئين بالرسول وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قالوا ذلك استهزاء و إلا فقد كانوا ينكرون نزول الذكر على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ حيث تزعم مزاعم المجانين، بأنك أوحي إليك، و إننا سوف نكون لك تبعا، و هكذا يلجأ المبطلون إلى رمي المصلحين بالجنون و ما أشبه، إذ لم يتمكنوا من رد حججهم الصحيحة، و لم يحروا جوابا لما يرشدون إليه من الإصلاح.

[8] لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ أي لماذا لا تأتينا بملائكة يشهدون بصدق دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك إنك نبي مأمور من عند اللّه سبحانه، فإن النبي يقدر على كل شي ء.

لكن حجتهم هذه كانت تافهة إلى أبعد الحدود، فإن النبي إنما يثبت نبوته بالخارقة و قد أثبت النبي بإتيان القرآن، اما أن يأتي بكل خارقة تتخيلها أدمغة المعاندين، فإن ذلك عبث لا

طائل تحته، إن

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 4 ص 222.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 156

[سورة الحجر (15): الآيات 8 الى 9]

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)

المطالبين بإنزال الملائكة و ما أشبه إن كانوا منصفين كفاهم الدليل، و إن كانوا معاندين لم يكفهم ألف دليل، فلما ذا يأتي النبي بالملائكة، و ها نراهم يقولون للنبي في آية أخرى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) «1».

[9] لكن القرآن يردهم بأسلوب آخر، هو أن الملائكة لا ينزلون إلا للعذاب و الهلاك، فهكذا اقتضت مشيئة اللّه سبحانه، حتى في بدر نزلت الملائكة لعذاب الكفار، فإذا أنزلنا الملائكة عذبوهم و أهلكوهم فلا يستفيدون من إنزال الملائكة شيئا، و قد جرت سنة اللّه كذلك في القرون الماضية و الأمم الخالية ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ لا للعبث و اللغو، كما يطلبه هؤلاء فإن إجابة المعاند بعد إثبات الحجة عليه لغو و عبث وَ ما كانُوا إِذاً حين نزول الملائكة مُنْظَرِينَ أي مؤخرين ممهلين، بل الملائكة إذا نزلت فإنما تنزل للعذاب و الهلاك فهل يريدون هلاك أنفسهم بهذا الطلب؟ ثم ألم نر الكفار يوم بدر رأوا الملائكة بعيونهم، و لكنهم لم يؤمنوا و قالوا أنه سحر؟

[10] إنهم إن كانوا صادقين في طلبهم الحجة، فأية حجة أقوى من القرآن الحكيم، الذي مع كبره و سعته و إنه بلغتهم عاجزون عن إتيان سورة من مثله ف إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ و سمي القرآن ذكرا لأنه يذكّر الإنسان بالعقيدة و النظام مما فطر في جبلة الإنسان لكنه ذهل عنه وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من

التغيير و التحريف و الزيادة و النقصان، و الذي أعتقده

______________________________

(1) الأعراف: 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 157

[سورة الحجر (15): الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)

وفاقا لغير واحد من علمائنا الأخيار أن هذا القرآن الذي هو بأيدينا اليوم بين الدفتين هو عين ما أنزل بلا أيّ تغيير أو تبديل و إن السور و الآيات إنما رتبت كما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان النزول مختلفا، و الرسول لم يفعل هذا الترتيب إلا بأمر اللّه سبحانه، كما قال سبحانه: (وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» و هكذا كان اعتقاد والدي قدس سره، كما ذكره في نشرة «أجوبة المسائل الدينية» الكربلائية، و ذكرت طرفا من الكلام في أوائل نشرة «الأخلاق و الآداب» الكربلائية، في تفسيري لسورة الحمد و بعض سورة البقرة.

و ربما يتعجب الإنسان من هذه التأكيدات الواردة في هذه الآية، و هي اثنتي عشرة أو أكثر «إن» و «نا» بضمير الجمع و «نحن» تكريرا و جمعا و «نزل» بالتفعيل و «نا» جمعا و «إن» و «نا» و «له» باللام و «لام» لحافظون و «إتيانه جمعا» و كون الجملتين اسميتين.

[11] ثم يسلي سبحانه الرسول أن لا يضيق باستهزاء المستهزئين، فقد كانت عادة الأمم أن يستهزءوا بالرسل وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه رسلا فِي شِيَعِ جمع شيعة و هم الطائفة من الناس الذين يتبعون طريقة معينة، من المشايعة بمعنى المتابعة، فكان كل جماعة يتبعون مسلكا و رئيسا لذلك المسلك و مخترعه الْأَوَّلِينَ أي الأمم السابقة،

فقد أرسل في كل فرقة من السابقين رسول.

[12] وَ قد كان دأبهم أنه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ «من» زائدة تدخل في

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 158

[سورة الحجر (15): الآيات 12 الى 13]

كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)

المنفي لإفادة التعميم، حتى لا يظن أن عموم النفي مجاز إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و الاستهزاء دائما حيلة العاجز عن الحجة حيث يريد تحطيم خصمه، و هذا كالتسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه لا يهتم باستهزائهم فإن ذلك عادة الأمم كافة بالنسبة إلى رسل اللّه سبحانه.

[13] و لكن إنما لا نأبه باستهزاء هؤلاء الكفار بالقرآن، فاللازم في الحكمة أن نتم عليهم الحجة، و إن استهزءوا به و علمنا أنهم لا يؤمنون كَذلِكَ الذي ذكر نَسْلُكُهُ أي القرآن فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يقال سلكه و أسلكه إذا أدخله، يعني إنا في هذه الحالة الاستهزائية، و مع هذا الواقع السي ء لدى المكذبين، ندخل القرآن في قلوبهم، حتى تتم الحجة عليهم.

كما إذا قيل لك أنك كيف تفعل كذا و الحال أن جماعة ينتقدون عليك؟ تقول: هكذا نعمل، تريد أنك تعمل و إن جلب العمل الانتقاد.

[14] إنهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ هذا كالبدل لقوله «كذلك» أي إنهم مع عدم إيمانهم بالقرآن و استهزائهم لك نلقي عليهم الحجة وَ قَدْ خَلَتْ أي مضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ طريقة الأمم السابقة، في أنهم لم يكونوا يؤمنون بالأنبياء عليهم السّلام و يستهزئون بهم و مع ذلك كنا نلقي عليهم الحجة، فالطغاة المكذبون من عنصر واحد، و هم أشباه في كل زمان و مكان، و ليس تكذيبهم و استهزائهم سببا لكفّنا عن

الإرشاد و البلاغ، سواء في ذلك السابقون أو من في زمانك يا رسول اللّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 159

[سورة الحجر (15): الآيات 14 الى 16]

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16)

[15] إن هؤلاء الكفار لا يريدون الإيمان، و لو أقيم لهم ألف دليل، أما ما طلبوا من إنزال الملائكة، فإنه حجة للعناد لا للتفهم فإنهم معاندون لا يؤمنون وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المشركين باباً مِنَ السَّماءِ بأن رأوا أن موضعا من السماء كالباب يمكن المرور منه.

فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي أخذوا طوال نهارهم يصعدون إلى السماء من ذلك الباب، لم يفدهم هذا الإعجاز الذي لمسوه في أن يؤمنوا.

[16] بل لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت و غطيت كالإنسان المسحور الذي يرى غير الواقع واقعا لما عمل فيه من السحر و الشعوذة بَلْ ليس لهذا الشي ء من واقع و إنما نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرتنا فظننا أن للسماء بابا و إننا أخذنا نصعد فيه، إذن فهل يكفي إنزال الملائكة لإيمان هؤلاء؟.

[17] أخذ سبحانه يعدّد الأدلة على وجوده سبحانه، و ذلك بتعدد الآيات الكونية، التي تشهد كل واحدة منها، على وجود إله قدير حكيم عالم وَ لَقَدْ جَعَلْنا أي خلقنا و أبدعنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً جمع برج، و أصله الظهور، و منه يسمى شرفة الحصن برجا، لأنه ظاهر منه من بعيد، و سمى بروج السماء بروجا، لظهورها

قال الصادق عليه السّلام: اثنى عشر برجا

«1».

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 160

[سورة الحجر (15): آية 17]

وَ حَفِظْناها مِنْ

كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17)

أقول: لقد قسموا السماء إلى اثني عشر قسما يسمى كل قسم برجا و يميز بين البرج و البرج بالكواكب الموجودة في كل واحد منها.

و البروج هي: «حمل» و «ثور» و «جوزاء» و «سرطان» و «أسد» و «سنبلة» و «ميزان» و «عقرب» و «قوس» و «جدي» و «دلو» و «حوت» ففي كل برج عدة كواكب لو ربطت بينها بخيوط لصارت بصورة هذه الأشياء وَ زَيَّنَّاها أي السماء لِلنَّاظِرِينَ الذين ينظرون إليها، و لو لم تكن فيها الكواكب لم تكن ذات زينة و جمال.

[18] وَ حَفِظْناها أي حفظنا السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي مرجوم مرمي، و يوصف الشيطان بهذا الوصف لأنه يرمى باللعن، أو لأنه إذا حاول دخول السماء رجم بالشهب كما يرمى المجرم بالحجارة، فالسماء مع جمالها الظاهري بالكواكب جميلة معنى بطهارتها عن دنس الشيطان و لوثه، فلا منفذ للأبالسة في السماء، و إنما محلها الأرض، و من أين تبدأ هذه السماء التي ليست محلا للأبالسة لم نعرفها بعد.

نعم دلّ العلم الحديث- كما يظهر من الأحاديث أيضا- أن محل الشياطين إنما هو الطبقة فوق الأرض بعد بضعة أذرع، و لذا كره تعلية البنيان «1».

ثم أن الظاهر أن في السماوات ملائكة مطهرون، لا يقترب منهم الشيطان بالوسوسة، فعدم دخول الشيطان في السماء، لأجل عدم

______________________________

(1) أنظر كتاب على حافة الأثيري.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 161

[سورة الحجر (15): الآيات 18 الى 19]

إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19)

اقترابه من أولئك الملائكة المنزهين عن المعاصي الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

[19] إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ

السَّمْعَ من الشياطين، و السرقة عبارة عن أخذ الشي ء خفية، و كما أن من يسرق المال يأتي إليه خفية لئلا تراه العيون، كذلك الشيطان الذي يريد استراق المسموع- و هو المراد بالسمع- أي الكلمة التي تسمع و تدار في عالم الملكوت، و الاستثناء من «حفظناها» أي أن السماء محفوظة إلا من الشيطان السارق و كان هناك تدبّر أمور الأرض- كالبلاط الذي يدبّر فيه أمور المملكة- و الشياطين يريدون الاطلاع على ما يدبّر هناك، فيذهب بعضهم للعلم من الكلمات التي تدار بين الملائكة، لكن ذهابهم خفية، حتى يسرقوا بعض الكلمات، و لو سمع و استرق فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أي لحقته شعلة نار ظاهرة لأهل الأرض، كما نرى من الشهب، لأجل طرده، الشهاب كما يراه الإنسان شعلة من نار تتحرك مسافة ثم تنطفئ و ما يقوله علماء الفلك من أن هذه الشهب أحجار ترمى من أعالي الجو، و تشتعل بالحركة، لا ينافي ما ذكر فإن سبب رميها- لو صح ما قالوا- إنما هو طرد الشياطين،

و في بعض الأحاديث أن الشياطين كانت تخترق السماوات حتى ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمنع عن ذلك.

[20] تلك هي السماء و نجومها و حفظها، و الشياطين الصاعدة إليها، و الشهب المنقضة منها، فلنعطف إلى الأرض وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها و جعلناها طويلة عريضة لتقبل السكن و سائر لوازم الإنسان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 162

[سورة الحجر (15): الآيات 20 الى 21]

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)

وَ أَلْقَيْنا أي جعلنا فِيها رَواسِيَ جمع راسية و هي الجبل،

و إنما قال «رواسي» لأنها السبب في اضطرابها في الماء و عدم تفتتها كما ترسو السفينة في الماء و تستقر وَ أَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ في دقة و إحكام و تقدير، فالنبات ليس اعتباطا حجمه و شكله و لونه و سائر مزاياه، بل كل ذلك بالوزن و التقدير، و ليس المراد بالوزن- معناه الخارجي- بل تشبيه بالموزون الذي ليس فيه زيادة و نقصان، يقال فلان شخص موزون، أي دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته و سكناته و لا نقصان.

[21] وَ جَعَلْنا لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأرض مَعايِشَ جمع معيشة، و هي آلة العيش، و البقاء من مأكل و مشرب و مسكن و ملبس و غيرها وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على لكم، أي جعلنا لكم الرزق كما جعلنا للعبيد و البهائم الرزق، و إنهم ممن نرزقهم، لا أنتم ترزقونهم، فإن الإنسان يظن أنه يرزق من تحت يده، و هو خطأ بل الإنسان أضعف الأسباب بين ألوف الأسباب التي هي المؤدّية للرزق إلى الحيّ، أو المراد أن من ليس تحت يدكم من الطيور المحلقة في الهواء، و الأسماك السابحة في الماء و الحيوانات السارحة في الغبراء، كلها نرزقها نحن.

[22] و بمناسبة الحديث عن الرزق، فليعلم البشر أنه ليس برزاق، و لا من عنده أسباب البقاء بل وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ أي ما من شي ء من الرزق و غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 163

[سورة الحجر (15): آية 22]

وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)

الرزق إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ فهي تخرج من خزائن اللّه سبحانه، و ذلك تشبيه بالخزينة التي

يدخر فيها الملوك النقود و المجوهرات يعني أن مصدره منا و إنا نحن نعطيه وَ ما نُنَزِّلُهُ أي ننزّل ذلك الشي ء، و التنزيل هنا بمعنى الإتيان من جانب إله رفيع، فإنه قد يستعمل في الرفعة الحسية، نحو نزلت من السطح، و قد يستعمل في الرفعة الحقيقية، نحو نزلت من عند الملك- كما تقدم سابقا-.

إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ حسب المصلحة، فليس ما يشاهده الإنسان من النبات الكثير في الصحراء الكبيرة و المياه الزاخرة في الأنهار التي تصب في البحار، و الحشرات الكثيرة في الأرض- إلى غيرها- بلا قدر و تعداد و ميزان، بل كلها بقدر معلوم لدى الباري سبحانه، و قد خلق اللّه سبحانه هذا الكون و هو الذي يديره، فالشمس و الماء و أملاح الأرض و الهواء تولد النبات، و ليس النبات إلّا مركبا من هذه الأشياء، و إنما يجمع بينها و يعطي صورة النبات، ثم يهيج و يفنى برجوع كل جزء إلى أصله، و هكذا دواليك تجمع و تفرّق، فالشمس من الخزائن، و الماء من الخزائن، و هكذا .. و قد حصر القدماء هذه الخزائن الأولوية في أربعة «الماء» و «النار» و «التراب» و «الهواء» فسبحانه من إله عليم قدير.

[23] و من تلك الخزائن: الرياح و الماء، و إن شئت قلت من تلك الأشياء لا ينزلها اللّه سبحانه إلا بقدر معلوم وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ و هذا كبيان لكيفية إنزال الأشياء و صنعها ليكون معيشة للبشر، و الرياح إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 164

تتولد- بقدرة اللّه سبحانه- من الهواء المخلوق حيث يمده الحر و يقلصه البرد، فيأتي من هنا إلى هناك ليملأ الفراغ، فهي من إرادة الهواء، كما أن من إرادة الماء أن يصعد

ماء البحر إلى الهواء ثم ينزل مطرا ثم يسيل عيونا و أنهارا حتى ينتهي إلى البحر ليصب فيه، و هكذا، لواقح جمع لاقحة، أي تلقح السحاب بالمطر، فإن من المعلوم أن الرياح تأتي بالأمطار، و لذا فرع عليه سبحانه فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً أي المطر، و يحتمل أن يراد تلقيح الهواء للأشجار، ثم إنزال الماء، ليأتي النبات بالثمر.

فَأَسْقَيْناكُمُوهُ «الهاء» يعود إلى الماء- و الظاهر من هذا التفريع كون الاحتمال الأول هو المقصود- أي أسقيناكم ذلك الماء المنزل من السماء، و المراد من السماء جهة العلو وَ ما أَنْتُمْ لَهُ أي للماء بِخازِنِينَ فلستم أنتم أحرزتموه في البحر أولا، ثم في أعماق الأرض ثانيا، ثم في العيون و الأنهار ثالثا، حتى توصلتم إليه و استعملتموه في حوائجكم، بل كل ذلك بفعله سبحانه و قدرته العظيمة، كما قال: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) «1» و قد يزعم بعض الناس أنه ما فائدة هذه الإدارة في الماء مع ما نرى أن الأنهار تصب في البحار كما كانت سابقا؟ و هذا جهل محض فهل أن الماء خلق للشرب أو سقي الحيوان و النبات فقط؟ إن من فوائد الأنهار تلطيف الأجواء و تجميل الأرض للناظرين، و هما

______________________________

(1) الحجر: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 165

[سورة الحجر (15): الآيات 23 الى 25]

وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

حاصلان، و إن لم يشرب أحد قطرة و لم ينتفع بالماء حيوان أو نبات.

[24] و إذ تبين أن الأمور الكونية بيد اللّه سبحانه، فلنعطف،

إلى لون آخر من الأمور، و هي الأحياء، فإن خزائن الحياة و الموت أيضا له سبحانه وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ و إنا لا نعلم من الحياة و الموت إلا المظاهر أما المهية فلا يعلمها إلا اللّه سبحانه، و الأشياء كلها و إن كانت مجهولة الهوية حتى الماء و الهواء، لكن الحياة أغمض مهية، و أبعد عن الفهم حقيقة، و من زعم أن الطاقة أيضا تحت قدرة الإنسان فقد أخطأ، إذ الإنسان لا يأتي إلا لسبب واحد من عشرات الأسباب المتسلسلة لإيجاد هذا المسبب- أي الموت- و كون ما يأتي به الإنسان سببا- أيضا- بجعله سبحانه وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ الذين نرث الأرض و ما عليها بعد فناء الجميع [25] و إذ كانت الحياة بيد اللّه سبحانه، فلا ينفع أن يستقدم أحد الموت أو يستأخره، لأنه (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ) «1» وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ الذين يطلبون تقديم موتهم و تعجيل أجلهم وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ الذين يطلبون تأخير موتهم عن موعده المقرر، فالموت و الحياة بيدنا، و نعلم من يريد تقديم أجله أو تأخيره، و أن الحشر إلينا.

[26] وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ يَحْشُرُهُمْ الحشر هو الجمع، أي

______________________________

(1) الحجر: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 166

[سورة الحجر (15): الآيات 26 الى 27]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)

يجمعهم ليوم القيامة إِنَّهُ حَكِيمٌ في أفعاله يفعلها حسب المصلحة عَلِيمٌ بكيفية الإدارة و ما يصدر من كل إنسان، فكل شي ء بقدرته و عمله، و كل شي ء يجريه حسب المصلحة.

[27] ثم بعد تلك المقدمات العامة حول الكون

و خلق السماء و الأرض و أن بيد اللّه كل شي ء من حياة و موت و حشر، يأتي السياق ليبين قصة البشر الذي من أجله خلق الكون و الذي هو المقصود من إرسال الرسل و إنزال الكتب و بعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نزول القرآن وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي البشر، و المراد آدم عليه السّلام و حواء عليه السّلام مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يسمع له عند النقر صلصلة أي صوت من صلّ إذا صوّت مِنْ حَمَإٍ هو جمع حمأة و هو الطين المتغير إلى السواد مَسْنُونٍ من سننت الماء بمعنى صببته، أي مصبوب كأنه أفرغ حتى صار صورة، فإن طين آدم صب على شكله حتى صار صلصالا، فالصلصال من الحمأ المصبوب.

[28] وَ الْجَانَ اسم لأبي الشياطين، على وزن «فاعل» اسم فاعل من «جن» بمعنى استتر و إنما يسمى الشيطان جانّا، لأنه يجن و يستر عن الأبصار، و المراد بالشياطين غير المراد بالجان، فهما قسمان من خلق اللّه سبحانه يطلق على كل واحد منهما الجان لاستتارهما عن الأبصار خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ السموم هي الريح الحارة التي تدخل المسام للطفها و حرارتها، أي أن الجان خلق قبل آدم، من نار بهذا القسم، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 167

[سورة الحجر (15): آية 28]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)

لفائدة التنويع فإن السموم نار و ريح، و التي خلق منها إبليس هي هذا القسم من النار، لا النار الغليظة الخليطة،

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: الآباء ثلاثة آدم ولّد مؤمنا

و الجان ولّد مؤمنا و كافرا و إبليس ولّد كافرا و ليس فيهم نتاج إنما يبيض و يفرخ و ولده ذكور و ليس فيهم إناث

«1»، و كان المراد كون طبيعة الإنسان الإيمان لما أودع فيه من فطرة التوحيد.

[29] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ أي سأخلق، فإن اسم الفاعل يأتي بمعنى المستقبل بَشَراً أي هذا الجنس، قيل و سمي الإنسان بشرا، لظهور بشرته- أي جلده- بخلاف سائر الحيوانات مِنْ صَلْصالٍ طين يابس مِنْ حَمَإٍ أصل ذلك الصلصال من طين مائل إلى السواد مَسْنُونٍ أي مصبوب ذلك الصلصال، قال بعض المفسرين: إن هذه القصة كررت في سورة البقرة أولا، ثم سورة الأعراف ثانيا، ثم هنا ثالثا، و نقطة التركيز مختلفة في هذه المواضع كما أن الأسلوب و السوق مختلف، ففي سورة البقرة كانت نقطة التركيز استخلاف آدم في الأرض، و في الأعراف رحلة الإنسان الطويلة من الجنة و إليها و إبراز عداوة إبليس، و هنا سر التكوين في آدم و سر الهدى و الضلال. أقول: و لعلّ السرّ في لزوم التركيز على مبدأ الإنسان لئلا ينحرف الناس نحو آراء «دارون» و من إليه.

______________________________

(1) الخصال: ج 1 ص 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 168

[سورة الحجر (15): الآيات 29 الى 30]

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)

[30] فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي صنعت هذا البشر، بأن أتممت صورته و قالبه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الإضافة تشريفية، أي من الروح التي هي من قبلي، و الأشياء كلها من قبل الله، و لكن ربما يضاف شي ء إليه لبيان شرافته، كما أن البيوت كلها له، لكن

يضاف البيت الحرام إليه تشريفا، كما أن الاضافة في (وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) «1» كذلك، و إن كانت الأشياء كلها كلمات الله، و النفخ هو إجراء الريح في الشي ء باعتماد، و لو كان النفخ بآلة أو ضغط الهواء، كما أنه هو المراد هنا، فَقَعُوا الفاء عاطفة، و «قعوا» أمر من وقع يقع، نحو «قفوا» لَهُ أي لآدم ساجِدِينَ أي وقوعا بهيئة السجود.

[31] وضع الله آدم، و نفخ فيه من روحه، حتى جاء دور السجود من الملائكة فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ و إنما جي ء بهذا التأكيد بعد التأكيد لأمرين:

الأول: التأكيد على استيعاب الملائكة، فإن الذهن الأولي يستبعد أن الملائكة على كثرتها الخارجة من الفكر، و اختلاف أعمالها، و تفرق جهاتها، تجتمع كلها للسجود فيظن أن العموم مجازي، و ذلك لا يرفعه حتى تأكيد واحد، ألا ترى إنك لو قلت استقبل الفقيه من في المدينة كلهم، لا يكاد يظن الإنسان إلا أن المراد ب «كل» الأغلب، لاستبعاد أن يستقبله كل من في المدينة من رجل و امرأة و مسلم و ذمي،

______________________________

(1) النساء: 172.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 169

[سورة الحجر (15): الآيات 31 الى 33]

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)

إلى غير ذلك.

الثاني: التلميح إلى قبح عمل الشيطان، إذ لو لم يكن بعض الملائكة سجد، كان مخالفة الشيطان هيّنا، أما و قد وقع سجود الجميع، و بقي هو وحده مخالفا فالأمر من البشاعة بمكان.

[32] إِلَّا إِبْلِيسَ مع شمول الأمر له، و إن لم يكن من الملائكة، فإنه أَبى و امتنع أَنْ يَكُونَ مَعَ

السَّاجِدِينَ لآدم عليه السّلام.

[33] قالَ الله سبحانه لإبليس يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي أيّ شي ء لك في عدم كونك مع الساجدين؟ و على هذا فالجار هو «في» محذوف من «ألا» و هو شائع مطرد، قال ابن مالك:

و الحذف في أنّ و إن يطردمع امن لبس، كعجبت أن يدو

ثم أن سؤاله سبحانه لم يكن إلا لإظهار كبر إبليس و تمرده، و إلا فهو عالم بجهة عدم سجوده.

[34] قالَ إبليس في جوابه سبحانه لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي ليس من شأني السجود لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ طين جاف، كان صنع مِنْ حَمَإٍ طين مائل إلى الغبرة مَسْنُونٍ مصبوب، و ذلك لأني من النار و النار أشرف من التراب فكيف يخضع الأشرف للأخسّ؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 170

[سورة الحجر (15): الآيات 34 الى 37]

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)

[35] قالَ الله سبحانه لإبليس، و إذ تكبرت و خالفت الأمر «1» فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة فَإِنَّكَ يا إبليس رَجِيمٌ مطرود ملعون ترجم باللعن.

[36] وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ يقال لعنه بمعنى طرده و عذبه أي إنك معذّب مطرود من الخير إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي إلى يوم القيامة، فإن «الدين» بمعنى الجزاء، و كون الشيطان طريدا بمعنى أنه يمنع عن السماء، و يمنع عن اقتراب أماكن مقدسة و أشخاص ذاكرين كما ورد أن الإنسان إذا بسمل طردت الملائكة الشياطين عنه إلى غير ذلك، و لفظة «عليك» لإفادة معنى الضرر، و تقديمه على «اللعنة» لأنّ الكلام حول الشيطان، و قد تقرر في البلاغة البدء بما سيق

الكلام له، فإذا أردت تعداد الشعراء- مثلا- تقول: الشاعر زيد و خالد، و إذا أردت تعداد فضائل زيد تقول: زيد شاعر و كاتب.

[37] قالَ الشيطان لما رأى ما ناله من الخزي يا رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي أمهلني في الدنيا، و لا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي فيه يبعث و يحيى الخلائق، لعله أراد بذلك أن لا يذوق الموت أصلا حيث أن يوم القيامة لا موت بعده.

[38] قالَ الله سبحانه في جوابه فَإِنَّكَ يا إبليس مِنَ الْمُنْظَرِينَ

______________________________

(1) لا أريد بمثل هذا التفسير إلا تفسير الحالة و المستفاد من اللفظ، لا العبارة و الدقة، حتى تكون النسبة و ما أشبهها كذبا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 171

[سورة الحجر (15): الآيات 38 الى 39]

إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)

لا يلازم هذا أن يكون هناك عدة أشخاص منظرين يكون إبليس أحدهم، و ذلك لأن الإتيان بالجمع من أبواب البلاغة، كأن المراد أن هذا من ذلك الجنس و إن لم يكن في الخارج منه إلا واحد، و لذا جرت العادة أن يقول الإنسان: قال المفسرون، أو كذا يقول الحكماء، أو وجدت في كتاب الفقهاء، و هو يريد أن هذا الكلام صادر من ذلك الجنس، إلا أن جماعة منهم قالوا: أو يقال أن الملائكة منظرون فإبليس منظر كأحدهم.

[39] إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

الوقت المعلوم هو بين النفختين- كما ورد عن الصادق عليه السّلام

«1»- فالمعنى إنك تبقى إلى ذلك اليوم.

[40] و لما عرف إبليس بأنه منظر إلى ذلك الوقت قالَ يا رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك لي و الإغواء هو الدعاء إلى الغي و الضلال،

يقال له الإغواء إذا أثر و صار المدعو ضالا منحرفا، و قد كان إبليس كاذبا في مقاله، فإن الله سبحانه لم يغوه، و إنما هو تكبّر و حسد مما سبب طرده، بينما أراد الله سبحانه كرامته بأمره بالسجود، إلا أن يريد بالإغواء تهيئة الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، مجازا، نحو و من يضلل الله، أو عدم اللطف القاهر به حتى لا ينحرف لَأُزَيِّنَنَ المعاصي لَهُمْ أي لأبناء آدم- المعلوم من السياق- و ذكر فوائدها، و إغفالهم عن مضارها حتى يرتكبوها، و أكون قد أخذت انتقامي بذلك من آدم الذي صار سببا لطردي فِي الْأَرْضِ أي يقع التزيين مني في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 132.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 172

[سورة الحجر (15): الآيات 40 الى 42]

إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42)

الأرض وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أضلهم و أحرفهم عن طريق الصواب، و كان هذا من إبليس غلطا آخر إذ لو فرض أن آدم هو السبب فما ذنب ذريته؟

[41] إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ أي من أولاد آدم الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام اسم مفعول أي الذين أخلصتهم لطاعتك و طهرتهم عن الآثام، فإنهم لا يعمل كيدي فيهم.

[42] قالَ الله سبحانه في جواب إبليس هذا صِراطٌ عَلَيَ أي أن صراط الحق عليّ أن أراعيه، فإن إبليس لما قال أنه يغوي الناس إلا المخلصين، فهم منه أن هناك صراط من تعداه كان غاويا، فقال سبحانه عليّ أن أراعي هذا الصراط و هو مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه، أما من انحرف فلا أبالي به، و هذا كما لو قال أحد لمدير مدرسة: إنّي أغوي تلاميذك

عن تحضير الدرس، فيقول: «هذه المدرسة عليّ، أما من أغوى فليس عليّ شي ء منه، و الطلاب الأذكياء يتبعون المنهاج» و الفقرة الأخيرة مثل قوله سبحانه.

[43] إِنَّ عِبادِي الحقيقيين لَيْسَ لَكَ يا إبليس عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي سلطة و قدرة حتى تحرفهم و تغويهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ الاستثناء منقطع، و كأنّ الأصل «إن الناس لا تتسلط عليهم» «إلا من غوى» «أما العباد فلا تقدر عليهم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 173

[سورة الحجر (15): الآيات 43 الى 46]

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)

[44] وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي محل وعد إبليس و أتباعه الغاوين، فإن «موعد» اسم مكان من وعد أَجْمَعِينَ هناك يجتمعون جميعا جزاء لأعمالهم السيئة.

[45] لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي أن لجهنم أبواب سبعة لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ أي قسم من الغاوين مَقْسُومٌ و كان الغاوين اعتبروا وحدة واحدة، فلكل باب جزء يدخل منه إليها، و لعل اختلافهم بسبب اختلاف أعمالهم، كما أنه ورد في أبواب الجنة الثمانية ذلك.

[46] و بمناسبة الحديث عن أهل النيران يعطف السياق إلى أهل الجنان إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين اتقوا معاصي الله سبحانه، و لم يكن للشيطان عليهم سلطان فِي جَنَّاتٍ جمع جنة بمعنى البستان وَ عُيُونٍ أي بين العيون، أو المراد إنهم يسبحون فيها فالظرف حقيقي.

[47] و كان المشهد حاضر، إذ نرى المتقين في ساحة المحشر يقال لهم ادْخُلُوها أي الجنات بِسَلامٍ أي ادخلوها مع سلامة من الآفات و برائة من المضرات آمِنِينَ في حال كونهم آمنون على أنفسكم و جميع ما يتعلق بكم تبقون في الجنان أبدا في سعادة

و رفاه، و لعلّ تقديم «في جنات» على «ادخلوها» لقصد سرعة المقابلة بين «إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ» و «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ» ثم ذكر التفصيل هناك بقوله:

«لكل باب» و هنا بقوله: «ادخلوها».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 174

[سورة الحجر (15): الآيات 47 الى 49]

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)

[48] و أهل الجنة بالاضافة إلى النعم التي تحيط بهم، فهم في نعمة نفسية، فليس هنالك حسد و غل و حقد يقلق راحتهم و ينغص عيشهم وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ و إنما قال صدورهم، لأن القلب في الصدر مِنْ غِلٍ أي الحقد و الحسد و التنافس و التباغض في حال كونهم إِخْواناً متجاورين فيصفوا عيشهم و لا يكدر سعادتهم منغص خارجي أو غل داخلي كائنين عَلى سُرُرٍ جمع سرير، و هو الكرسي و يسمى سريرا لأنه محل السرور و الفرح مُتَقابِلِينَ بعضهم لبعض، و هذا من النعم فإن الإنسان يأنس بأخيه الإنسان.

[49] لا يَمَسُّهُمْ و إنما جاء بلفظ المسّ لإفادة أن أقل أذى يحصل بالمس، لا يكون هناك فِيها أي في الجنة نَصَبٌ أي عناد و تعب، فهناك دار راحة و استراحة، وَ ما هُمْ مِنْها أي من الجنة بِمُخْرَجِينَ لا يخرجهم أحد بل باقون أبد الآبدين، و هذا من أعظم النعم.

[50] و بمناسبة ذكر مصير المتقين و مصير الغاوين يأتي السياق ليذكّر الناس برحمة الله و عذابه حتى ينقلع عن المعاصي من اشتاقت نفسه لتلك النعم الدائمة، و تتم الحجة على من تمادى في غيّه بعد هذا الإعلان نَبِّئْ يا رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم أي أخبر، فعل أمر من النبأ بمعنى الخبر عِبادِي عام يشمل كل إنسان أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 175

[سورة الحجر (15): الآيات 50 الى 52]

وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)

للعاصين ذنوبهم إذا تابوا و أرحم بالتفضل على من سلك السبيل، و ذلك زيادة على الغفران.

[51] وَ أَنَّ عَذابِي للعاصين هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم الموجع فليجتنبوها حتى لا يمسهم.

[52] ثم يأتي السياق ليبين نماذج من الرحمة و الغفران، و نماذج من العذاب و العقاب، مع مناسبة لما تقدم في أول السورة حيث طلب الكفار من الرسول إنزال الملائكة، فأجابهم بأن الملائكة لو نزلت ما كان الكفار منظرين، كما أنه لما جاءت الملائكة لوطا عليه السّلام لم ينظر القوم بعد بل أهلكوا.

و تكرار هذه القصة كتكرار سائر القصص فيها فائدة التكرير الموجب لتركيز الأمر في النفس، و إن في كل مرة يظهر جانب خاص من القصة، و مزايا زائدة مختلفة عن السابق، بالاضافة إلى تأكيد أمر الإعجاز، فإن قصة واحدة تصب في قوالب مختلفة و مع ذلك لا يتمكن أن يأتي بمثلها الكفار- و قد تقدم الإلماع إلى ذلك- وَ نَبِّئْهُمْ أي أخبر الكفار- أو أخبر الناس- عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ و الضيف لفظ يستعمل للمفرد و التثنية و الجمع بلفظ واحد، و المراد بهم الملائكة الذين نزلوا عند إبراهيم عليه السّلام ليبشروه بإسحاق، في طريقهم لإهلاك قوم لوط عليه السّلام.

[53] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي وقت دخل الضيوف على إبراهيم في محله فَقالُوا له سَلاماً إمّا جاءوا بهذا اللفظ مجردا،

و إما هو كناية عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 176

[سورة الحجر (15): الآيات 53 الى 55]

قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)

إنهم سلموا عليه سلاما كاملا كأن قالوا «سلام عليكم» و أجاب إبراهيم جوابهم و جاء إليهم بالطعام فلم يأكلوا، فخاف منهم ف قالَ لهم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون، و ذلك لأنه رآهم لا يأكلون الطعام، فظن أنهم أرادوا به شرا، إذ العادة جرت إن من لا يأكل الطعام يريد الشر.

[54] قالُوا أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام لا تَوْجَلْ أي لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ بولد يرزقك الله من سارة عَلِيمٍ عالم ليس من الجهلاء، و قد كان المراد إسحاق النبي عليه السّلام.

[55] قالَ إبراهيم عليه السّلام أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي و أنا على حال الكبر، و الاستفهام إنكاري أي كيف تبشروني بالولد و الحال أنا كبير السن، و مقتضى العادة أن الرجل الكبير لا يولد له لضعف المني فيه أن يكون منشأ ولد؟ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي بماذا تبشرون؟ هل تبشرون بما لا يكون؟ و أصل «بم» «بما» و من القاعدة أن تحذف الألف من «ما» إذا دخله حرف الجر، نحو «عم» و «فيم» و غيرها.

[56] قالُوا أي قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ فبشارتنا مطابقة للواقع حتى لا بطلان فيها فَلا تَكُنْ يا إبراهيم مِنَ الْقانِطِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 177

[سورة الحجر (15): الآيات 56 الى 59]

قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا

أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)

الذين يقنطون من رحمة الله، و القنوط هو اليأس.

[57] قالَ إبراهيم عليه السّلام، كلا لا أقنط من رحمة الله وَ مَنْ ذا الذي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ استفهام إنكاري أي هل يقنط من رحمة ربه إلا الذي ضل عن الطريق السوي؟ لكني لم أك قانطا، بل رأيت أن المجرى الطبيعي عدم الولد في زمن الكبر، مع إذعاني بقدرة الله سبحانه على أن يفعل ما يشاء.

[58] و قد صرحت الملائكة لإبراهيم في أثناء كلامهم أنهم رسل من قبل الله سبحانه، و طالت القصة في أمر البشارة بالولد، و لكن حيث كان مصب القصة هنا عذاب قوم لوط أسدل القرآن الستار على أمر إبراهيم عليه السّلام ليأتي بقصة قوم لوط قالَ إبراهيم عليه السّلام للملائكة فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الخطب هو الأمر الجليل العظيم، فقد سأل إبراهيم عن مأمورية الملائكة، و إنها ما هي؟ فقد أرسل الله تلك الملائكة لأمر مهم.

[59] قالُوا أي قالت الملائكة إِنَّا أُرْسِلْنا أرسلنا الله سبحانه إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ الاجرام هو الذنب، و معنى الإرسال إليهم هو إهلاكهم.

[60] إِلَّا آلَ لُوطٍ من يخصه من أهله، فإنهم ناجون فلا يشملهم العذاب، و قد سبق أنه كثيرا ما يقال «آل فلان» و يراد: هو و آله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فلا يهلك منهم أحد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 178

[سورة الحجر (15): الآيات 60 الى 63]

إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)

[61] إِلَّا امْرَأَتَهُ أي امرأة لوط لأنها كانت مجرمة كسائر قومه قَدَّرْنا

أي هكذا جرى تقدير الله سبحانه إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في البلدة لتهلك فيمن يهلك.

[62] و طال الحوار بين إبراهيم عليه السّلام و بين الملائكة في شأن هلاك قوم لوط، ثم أن الملائكة خرجوا من عند إبراهيم و جاءوا إلى لوط ليبشروه بهلاك القوم فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ أي الملائكة الذين أرسلهم الله سبحانه، و إنما قال «آل لوط» لأنهم وردوا في محله، و لتناسب السياق مع الجملة السابقة، حيث عبرت بآل لوط.

[63] لم يعرفهم لوط عليه السّلام ابتداء و انما رأى جماعة من الشباب الجميلي الوجه قالَ لوط عليه السّلام لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا أعرفكم فعرفوني أنفسكم، أو أنه أراد الإنكار عليهم في دخولهم هذه المدينة، فان ذلك مما يسبب لهم و له الأتعاب حيث ظن أنه لو علم القوم بهم لأتوهم للفاحشة، و لم يعرف أنهم ملائكة الله سبحانه.

[64] قالُوا لا تنكرنا، فإنا ملائكة الله سبحانه بَلْ جِئْناكَ كأن الإضراب كان لتوهم لوط أنهم ضيوف، أي لسنا ضيوفا آدميين، بل رسل مهلكين جئناك بِما أي بالعذاب الذي كانُوا كان القوم فِيهِ يَمْتَرُونَ أي كانوا يشكون، فإنهم كلما كان لوط يخوفهم بالعذاب شكّوا في صدق مقاله في أنفسهم و أظهروا الإنكار عليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 179

[سورة الحجر (15): الآيات 64 الى 66]

وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

[65] وَ أَتَيْناكَ أي جئنا إليك يا لوط بِالْحَقِ أي أن الإتيان بالحق، مقابل الإتيان بالباطل كالسارق الذي يكون مجيئه باطلا، أو

أن المراد جئنا الحق إليك و هو العذاب، مقابل الذي يأتي الباطل كالكاذب الذي يأتي بباطل الكلام وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في مقالنا أن الله قدر العذاب لهؤلاء.

[66] فَأَسْرِ من سر بمعنى سار ليلا، قال الشاعر:

أبيت أسري و تبيتي تدلكي وجهك بالعنبر و المسك الزكي

بِأَهْلِكَ أي مع أهلك، فإن الباء تأتي بمعنى مع بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بهذا الوقت، و هو حين ما يمضي معظم الليل، و كأنه جمع قطعة، مثل تمرة و تمر وَ اتَّبِعْ يا لوط أَدْبارَهُمْ أي من وراء أهلك فهم يسيرون أمامك، لئلا يبقى أحد منهم، كما هو العادة في الناظر على القوم وَ لا يَلْتَفِتْ أي لا ينظر خلفه في حال السير و الفرار مِنْكُمْ أَحَدٌ لئلا يروا العذاب فيفزعوا، أو هو كما يقول القائل «امض في طريقك و لا تلتفت إلى شي ء» يريد المضي بلا اعتناء بشي ء وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي في وقت أمرنا بذهابكم، أو إلى المكان الذي أمرتم بالذهاب إليه.

[67] وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ أي أعلمنا لوطا، و أنهينا علم قضائنا في القوم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 180

[سورة الحجر (15): الآيات 67 الى 69]

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69)

لوط، و ما كان القضاء؟ ذلِكَ الْأَمْرَ و هو أنه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ القوم، و الدابر بمعنى الأصل، أي أصل القوم مَقْطُوعٌ في حال كونهم مُصْبِحِينَ أي داخلين وقت الصباح، فإن الفجر كان موعد عذابهم.

[68] و قد كان الملائكة في مرأى من قوم لوط، و لذا قصدوا بهم الفاحشة وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلى دار لوط يَسْتَبْشِرُونَ يبشر بعضهم بعضا بالأضياف المرد و

قد كان هذا قبل أن يعرف لوط أنهم ملائكة- و إنما قدّم قصة إخبارهم عن عذاب القوم على هذه الآيات، حيث أن نقطة التركيز في القصة كسائر قصص هذه السورة عذاب المجرمين كما ذكرنا سابقا.

[69] قالَ لوط عليه السّلام لهم مستعطفا إِنَّ هؤُلاءِ الشباب ضَيْفِي الضيف يقع بلفظ واحد على المفرد و التثنية و الجمع فَلا تَفْضَحُونِ أي لا تفضحوني في أمرهم، و الفضيحة هي العار، أي لا تلزموني عارا بالعمل السّيئ معهم حتى يقولوا و يقول الناس في المستقبل أن لوطا، يفعل القوم بضيوفه.

[70] وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه فلا تفعلوا ما نهاكم عنه وَ لا تُخْزُونِ أي لا تجعلوني مخزيا، فإن الخزي بمعنى الإذلال و الإهانة، فإن الإنسان إذا أهين ضيفه فقد أذلّ و أهين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 181

[سورة الحجر (15): الآيات 70 الى 73]

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)

[71] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ

استفهام إنكاري، أي إنا قد نهيناك أن تحول بيننا و بين الناس، أو المراد النهي عن ضيافة الناس و إنزالهم، فقد كانوا نهوه سابقا عن ذلك، لئلا يولّد لهم مشكلة الحيلولة بينهم و بين ما يشتهون بالنسبة إلى المارّة.

[72] قالَ لوط عليه السّلام متوسلا إليهم، مشيرا إلى بناته هؤُلاءِ بَناتِي خذوهن عوض هؤلاء الأضياف و اعتدوا عليهن، لقضاء شهوتكم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي تريدون الفعل، فقد سبق أن الفعل يأتي بمعنى الإرادة، كقوله «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» أي أردتم القيام إليها.

[73] ثم أن الملائكة عرّفوا للوط أنفسهم، و

أشاروا إلى القوم المتجمهرين على باب دار لوط فعميت أعين القوم، و ألقي الرعب في قلوبهم، فرجعوا خائبين، و قد حسّوا بنزول العذاب لَعَمْرُكَ أي قسما بحياتك يا رسول اللّه، أو أيها السامع، و إنما كان «عمر» بمعنى الحياة، لأنه من «عمر يعمر» بمعنى مدة البقاء و العيش، و منه العمارة، كأنّ الإنسان معمور ما دام حيّا فإذا مات فقد خرب و انهدم إِنَّهُمْ أي القوم لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي الغفلة التي سكرت و غطت عقولهم، و منه السكر يَعْمَهُونَ من العمه و هو أشد العمى، أي قد كانوا في أشد أقسام العمى الموجب لترديهم في عذاب الله دنيا و آخرة.

[74] و قد فرّ لوط عليه السّلام بأهله مخلفا امرأته في المدينة فَأَخَذَتْهُمُ أي القوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 182

[سورة الحجر (15): الآيات 74 الى 76]

فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)

الصَّيْحَةُ الصوت الهائل مُشْرِقِينَ وقت إشراق الشمس فقد قلع جبرئيل- و هو أحد أضياف لوط- مدنهم و دفع بها إلى السماء ثم صاح بهم صيحة عظيمة خبلت ألبابهم و أنزل اللّه عليهم الحصباء فرجمهم بالحجارة، و قلب جبرئيل مدنهم حتى جعل أعلى الأرض أسفله و ظهرها بطنها.

[75] فَجَعَلْنا عالِيَها أي عالي المدينة سافِلَها بأن قلبناها ظهرا لبطن وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً أي جنس الحجارة، و هي الحصباء مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر، و قد كانت من حصباء جهنم.

[76] إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ و دلالات بالنسبة إلينا و إلى رسلنا و إلى عذاب الدنيا لمن كفر و طغى، فإن الإهلاك يدل على ذلك، و لذا قال سبحانه «لآيات» لِلْمُتَوَسِّمِينَ

أي المتفرسين الذين يتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشي ء بسمته و علامته، من توسم بمعنى رأى السمة و العلامة في الطرف المقابل، أيّة سمة كانت، فإن من تفكر في أحوال قوم لوط ثبت لديه وجوده سبحانه و صدق رسله، و إن العاصي يعذب.

[77] وَ إِنَّها أي تلك المدن التي قلبت لَبِسَبِيلٍ أي بطريق مُقِيمٍ أي ثابت ذلك السبيل يسلكه الناس، فقد صارت تلك المدن في الطريق بين المدينة و الشام، و قوله مقيم من باب التشبيه، فكما أن الشخص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 183

[سورة الحجر (15): الآيات 77 الى 79]

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79)

المقيم في محل باق ظاهر، كذلك الطريق المقيم باق لم يندثر ظاهر لمن مرّ به.

[78] إِنَّ فِي ذلِكَ الطريق الباقي المعلوم الذي يراه كل من مرّ عليه لَآيَةً دلالة على وجوده سبحانه و صدق رسله و عذاب العصاة لِلْمُؤْمِنِينَ و إنما خصّهم لأنهم هم الذين ينتفعون أما غيرهم فلا يمرّ عليها إلا و هو معرض غير منتفع بها.

[79] و إذ يقع الفراغ من قصة قوم لوط، فلننظر إلى سائر الأمم الذين كذبوا الرسل منهم أصحاب الأيكة قوم شعيب النبي عليه السّلام وَ إِنْ كانَ أي أنه كان، فإن مخففة من المثقلة، و اسمها ضمير الشأن محذوف أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الشجرة المتكاثفة، و جمعها «أيك» مثل شجرة و شجر، فقد كانت هناك شجرة ملتفة عند «مدين» مدينة قوم شعيب، نسب القوم إليها، أو الأيكة هي الغيضة فقد كان القوم أصحاب غياض لَظالِمِينَ كما مرت قصتهم سابقا.

[80] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي من أولئك الأشخاص، و المراد بالانتقام إحلال

العذاب بهم جزاء أعمالهم السيئة قال في المجمع: إنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم و كانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحرّ سبعة أيام ثم أنشأ سبحانه غمامة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 184

[سورة الحجر (15): الآيات 80 الى 81]

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)

وَ إِنَّهُما أي مدينة لوط و مدينة شعيب لَبِإِمامٍ أي واقع في الطريق، و يسمى الطريق إماما لأنه يؤمّ و يقصد، و المعنى أن المدينتين بطريق يؤمّ و يتبع و يسلك بين الحجاز و الشام مُبِينٍ واضح لم يندثر بعد، و كون الآثار في الطريق أدعى إلى الإعتبار.

[81] وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ «الحجر» اسم مدينة قوم صالح عليه السّلام، و هم ثمود، كما قال سبحانه (وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) «1» الْمُرْسَلِينَ الأنبياء الذين أرسلوا من قبل الله سبحانه، و إنما أتى بلفظ الجمع، إما لأن في تكذيب صالح تكذيبا للأنبياء لأنهم سلسلة واحدة فمن كذب بعضهم فقد كذب جميعهم، أو لأنه قد أرسل إليهم عدة أنبياء عليهم السّلام فكذبوا الجميع، و إنما ذكر سبحانه صالحا فقط في قصصهم لأنه آخر الأنبياء عليهم السلام إليهم، أو الإتيان بلفظ الجمع- لما تقدم سابقا- من أن المراد به الجنس، كما يقول أحدنا، هكذا رأى الأطباء في هذا المريض، يريد الجنس لا الجمع، أي أن هذا الفصيل هكذا، و هو كثير الاستعمال عرفا.

[82] وَ آتَيْناهُمْ أي أعطينا أصحاب الحجر آياتِنا أي الأدلة الدالة على التوحيد و النبوة و المعاد، و هي المعجزات التي

كان منها الناقة و منها فصيلها فَكانُوا عَنْها أي عن الآيات مُعْرِضِينَ أعرضوا عن التفكر فيها و الاستدلال بها على المبدأ و المعاد، فلم يعملوا بما تقتضيه تلك الآيات من الإطاعة و الإيمان.

______________________________

(1) الأعراف: 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 185

[سورة الحجر (15): الآيات 82 الى 85]

وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)

[83] وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فقد كان بلدهم بين الجبال، فيصنعون لأنفسهم بيوتا جبلية، بما أعطيناهم من القوة و القدرة آمِنِينَ في حياتهم لا يزعجهم مزعج، و الأشخاص الذين في الجبال غالبا يكونون أكثر قوة و أمنا للحواجز الطبيعية بينهم و بين من قصد بهم سوءا، و لعل الإتيان بهذه الصفة، دلالة على أنهم مع قوتهم و منعتهم أخذهم عذاب الله حيث طغوا و لم يؤمنوا.

[84] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صاح بهم جبرئيل صيحة هائلة خبلت ألبابهم مُصْبِحِينَ في حال كونهم داخلين في الصباح، في وقت هدوء و استراحة و جمال الأفق و هم أمناء في بيوتهم الحصينة.

[85] فَما أَغْنى عَنْهُمْ أي ما أفادهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال و المناصب و الأولاد و سائر الملاذ الدنيوية، إنها لم تدفع العذاب عنهم، و هكذا قتلت الأمة الأمة في الكفر و تكذيب الأنبياء، و هكذا أخذ الله الجميع و أهلكهم بأنواع العذاب.

[86] إنّ بالحق خلق هذا الوجود بسمائه و أرضه، و الحق هو مصير الجميع، فمن حاد عن الحق في هذه الحياة لا يكون نصيبه إلا العذاب و الخسران كما رأينا في الأمم

السابقة الذين كذبوا و حادوا عن الطريق وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من أنواع الموجودات إِلَّا بِالْحَقِ فلم يكن هناك لغو عبث بل غرض و غاية و صلاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 186

[سورة الحجر (15): الآيات 86 الى 87]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)

و حكمة وَ إِنَّ السَّاعَةَ التي يجازى فيها الإنسان إن خيرا فخير، و إن شرا فشر لَآتِيَةٌ ليحكم فيها بالحق، فما بال الإنسان يحيد عن الحق و يكفر بالمبدأ و المعاد؟ فَاصْفَحِ يا رسول الله الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي أعرض عن الكفار إعراضا جميلا، و الإعراض الجميل هو أن يكون الإعراض حسب ما تقتضيه الحكمة إن اقتضت الإعراض بخشونة في بعض فليفعل كذلك و إن اقتضت الإعراض بلطف و لين فليفعل كذلك كقوله سبحانه: (وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) «1» و حيث أن الحق هو المبدأ و المعاد، فلا عليك كفر الكافرين، إن عليك أن تبلغ، فإذا أعرضوا فلا عليك إلا أن تتركهم تركا جميلا، لا تحمل لهم حقدا أو غلّا، فإن الحق يقرر مصيرهم، و سيلاقون جزائهم ممن خلقهم و علم بهم و بأعمالهم.

[87] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ الْخَلَّاقُ للسماوات و الأرض و ما بينهما و لهؤلاء الْعَلِيمُ بكل شي ء و بكل عمل يعمله هؤلاء، فدعهم و اصفح عنهم حتى يجازيهم خالقهم العالم بأعمالهم، و هذا كما يقول مدير المدرسة للمعلم: أنت درّس و لا عليك بمن لم يحفظ، فإن باني المدرسة عالم، و هو الذي هيّئ أثاث المدرسة و بيده امتحان الطلاب.

[88] إنك رسولنا الذي أرسلنا و آتيناك القرآن فمن كذبك فاصفح

عنه فإن جزاءه عند الخلاق العليم وَ لَقَدْ آتَيْناكَ أي أعطيناك يا رسول الله

______________________________

(1) الفرقان: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 187

[سورة الحجر (15): الآيات 88 الى 89]

لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)

و أنزلنا عليك سَبْعاً أي سبع آيات مِنَ الْمَثانِي و هو سورة الحمد تسمى «المثاني» لأنها تثنى في كل صلاة أي إنا أعطيناك سبع آيات من السورة التي تثنى في الصلوات كلها وَ آتيناك سائر الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ و تخصيص «المثاني» بالذكر لأهميتها، و قد ورد بما ذكرنا من معنى الآية الكريمة و تفسير السبع المثاني بالحمد، روايات متعددة.

[89] و إذ كنت يا رسول الله متصلا بالوحي مرتبطا بخالق الأرض و السماء، و من بيده الجزاء، الذي أنزل إليك هذا القرآن العظيم ف لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ باستجمال أو ثمن أو استحسان إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي إلى متع الحياة و لذائذها التي أعطيناها أصنافا من هؤلاء الكفار، فلا تلقي إلى متع الحياة الدنيا نظرة اهتمام بأن تهتم بها، أو نظرة تمنّ بأن تتمنى مثلها لنفسك، و الزوج هو الصنف، و يقال له زوج لأن بعض الصنف يشبه بعضا، و المراد أن ما أعطيناك من النبوة، و ما وعدناك من الآخرة أعظم من ذلك كله وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا، فإنما أنت أديت ما عليك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كما يخفض الطائر جناحه لولده أو قرينه تواضعا و تلطفا و المراد ألن جانبك لهم و احلم عنهم إذا أخطئوا، و تواضع الرئيس

يوجب كثرة الأتباع- دائما-.

[90] وَ قُلْ يا رسول الله للناس إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر الواضح، أنذركم من عذاب الله و عقابه، فلا تخالفوا أمره و نهيه كي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 188

[سورة الحجر (15): الآيات 90 الى 94]

كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)

لا يصيبكم ما أصاب الأمم السابقة.

[91] لقد أتيناك القرآن العظيم، كَما أَنْزَلْنا الكتاب عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ و هم اليهود و النصارى- من قبل- و إنما سموا مقتسمين لأنهم قسموا الكتاب فما وافق آراءهم و شهواتهم قبلوها و ما خالفها تركوها، و لذا فسرهم سبحانه بأنهم هم:

[92] الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جمع «عضة» بمعنى الجزء، من عضى الشاة أي فصل بين أجزائها، أي فرقوا القرآن و جعلوه عضوا عضوا، فآمنوا بما وافق أهواءهم و كفروا بما خالفها، كما قال سبحانه في آية أخرى (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ) «1» و الحاصل إنا أنزلنا الكتاب كما أنزلنا الكتب السابقة على هؤلاء الذين ينكرون كتابك الذين اقتسموا الكتاب و جعلوه أقساما فقبلوا قسما و ردّوا قسما.

[93] و إنا لنأخذهم كما أخذنا المكذبين السابقين من الأمم الخالية فَوَ رَبِّكَ يا رسول الله، و الفاء للتعقيب أي عقيب تكذيبهم لَنَسْئَلَنَّهُمْ أي نسأل من المقتسمين أَجْمَعِينَ بلا استثناء.

[94] عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر و المعاصي حتى نجازيهم، و السؤال منهم إنما هو للإقرار على أنفسهم، و إلا فالله سبحانه عالم بما عملوه.

[95] أما أنت يا رسول الله فإنك مكلف بالبلاغ سواء قبلوا أم لم يقبلوا

______________________________

(1) النساء: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 189

[سورة الحجر (15):

آية 95]

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)

فَاصْدَعْ يا رسول الله و الصدع هو الإظهار و الإعلان، و أصل الصدع هو كسر الزجاجة بصوت و كان الرسول يجهر بتفريق الناس الذين على لون واحد فمنهم من يؤمن و منهم من لا يؤمن، كما أن الزجاجة إذا كسرت تصير قطعتين بِما تُؤْمَرُ من الإنذار و التبليغ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تهتم لهم و لا تبال بشأنهم، فإن الإنسان إذا اهتم بشأن المناوئين و الحاسدين لا يتمكن من تقديم مشروعه إلى الأمام.

[96] إِنَّا كَفَيْناكَ يا رسول الله الْمُسْتَهْزِئِينَ الذين يستهزئون بك،

ورد أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مروا ذات يوم به مهددين قائلين: يا محمد إنا ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك و إلا قتلناك فدخل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله مغموما فنزل جبرئيل و بشره بأن الله قد كفاه شرهم، و كفي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرهم في ذلك اليوم، و قد كان أولئك وليد و عاص و أسود بن عبد يغوت و أسود بن المطلب و الحرث. أما الوليد فمرّ بنبل فأصابه شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه فمات و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما العاص فقد خرج في حاجة له إلى موضع فهدّ تحته الحجر فتقطع قطعة قطعة فمات و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما ابن عبد يغوث فنطح رأسه بشجرة فمات من أثر الصدمة و هو يقول: قتلني رب محمد، و أما ابن المطلب فخرج عن مكة و إذا به لا يبصر شيئا قد أعمى بصره و أثكله الله بولده و بقي

أعمى ثاكلا حتى مات، و أما الحرث فضربته السموم حتى غيرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 190

[سورة الحجر (15): الآيات 96 الى 97]

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97)

وجهه و سمته و لما رجع إلى أهله صار بينهم و بينه كلاما أدى إلى أن قاموا فقتلوه و هو يقول قتلني رب محمد، و لما أن بشر جبرئيل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن الله قد كفاهم خرج الرسول مناديا: يا معشر العرب أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله و إني رسول الله آمركم بخلع الأنداد و الأصنام فأجيبوني تملكوا به العرب و يدين لكم العجم و تكونوا ملوكا في الجنة فأخذ القوم يضحكون منه قائلين جن محمد، لكنهم لم يجسروا عليه لموضع أبي طالب عليه السّلام «1».

[97] ثم وصف سبحانه المستهزئين بقوله الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعبدونه، أن هؤلاء السخفاء هم الذين يستهزءون بالرسول، و كان الإتيان بهذا الوصف للإشارة إلى مقدار عقولهم فمثلهم كمجنون يضحك من عاقل فَسَوْفَ إذا ماتوا، أو قامت القيامة يَعْلَمُونَ جزائهم السيّئ حيث لا مناص.

[98] ثم سلا سبحانه نبيه لما يرد عليه من الآلام و الكوارث وَ لَقَدْ نَعْلَمُ يا رسول الله أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ بما يقوله الكفار فيك و في دينك من الطعن و الاستهزاء، و هذا تسلية للرسول فإن الإنسان إذا علم أن ما يصنع به إنما هو في محضر حاكم عادل يخفف له علمه بذلك وطأ الحادثة، و لذا

قال الإمام الحسين عليه السّلام: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله».

و ضيق الصدر إنما هو بسبب أن

الإنسان المهموم تتولد فيه حرارة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 191

[سورة الحجر (15): الآيات 98 الى 99]

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

زائدة تحتاج الرئة لدفعها و إبراد القلب إلى جذب هواء أكثر من المعتاد، و ذلك سبب لكبرها عند التنفس، و حيث أن مكان الرئة الصدر، فالصدر يضيق بكبرها- لدى اجتذاب الهواء- عند الهمّ.

[99] فَسَبِّحْ يا رسول الله بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزّه الله سبحانه بالحمد، فإن التنزيه قد يكون بالسلب- كأن يقال: فلان لا يؤذي الناس- و قد يكون بالإيجاب- كأن يقال: فلان يرحم الناس و يعطف عليهم- و هذا أبلغ من التعظيم و التجليل، أي اجعل تسبيحك بهذه الكيفية الإيجابية وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ الذين يسجدون و يخضعون لعظمة الله سبحانه، و ذلك مما يخفف وقع التكذيب و الاستهزاء، لأن بذكر الله تطمئن القلوب، كما قال سبحانه: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) «1» فهو موجب للانصراف أولا، و لتذكر نعمائه و آلائه و إنه المجزي لما يصيبه ثانيا.

[100] وَ اعْبُدْ يا رسول الله رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت، و إنما سمي الموت يقينا لأنه موقن به، بعلاقة تسمية المضاف باسم المضاف إليه كما يقال لابن زيد؛ زيد، و يقال لعشيرة هاشم «هاشم» و هكذا، و يحتمل أن يكون وجه التسمية أن الموت- في أغلب الناس- يسبب اليقين الكامل بالمعاد فسمي الموت يقينا، حتى بالنسبة إلى من لا يريد يقينه كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 192

16 سورة النحل مكية/ آياتها (129)

سميت السورة باسم «النحل» لاشتمالها على هذه الكلمة، و هو الحيوان الذي يفرغ

العسل و الشمع. و هي كغالب السور المكية تعالج شؤون العقيدة و ما إليها، أما أنظمة الدولة و ما يتبعها فإن الغالب كونها في السورة المدنية حيث ترسخت دولة الإسلام، و أرست دعائمها.

و حيث ختم سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفار، افتتح هذه السورة بذلك أيضا، فقال:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ افتتاح باسم الله خالق كل شي ء الجامع لجميع الصفات الكمالية خلافا للكفار و من إليهم حيث لا يفتتحون كتبهم بشي ء من غير لونه، أو يفتتحونه بأسامي الأصنام و قد جرت عادة بهرتهم المدنية الحديثة، أن يقتدوا أثر أولئك فلا يفتتحون الكتاب إلا بالمقدمة أو الإهداء أو الفصل- بدون ذكر لاسم الله سبحانه إطلاقا- و من هو هذا الإله الذي نبتدئ باسمه؟ إنه الذي يرحمنا و يرحم جميع البشر، فلنستعن به و نستقي رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 193

[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

[2] لقد طلب الكفار أن ينزل الله عليهم عذابا، إن كان الرسول صادقا فيما يقول- استهزاء- كما كانوا يقولون: (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) «1» فقال الله سبحانه في جواب طلبهم العذاب: أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي قرب إتيانه، و يقال للشي ء الذي قرب أنه أتى، لمجاز المشارفة، أو أنه من باب إنزال الفعل المتحقق الوقوع منزلة الماضي كقوله سبحانه (وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ) «2» فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تطلبوا تعجيله سُبْحانَهُ مصدر منصوب بفعل محذوف أي

أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي أنه أعلى و أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الأصنام التي يشركونها معه تعالى، فقد قرب وقت إتيان أمر الله المنزه عن الشريك و استعجال هؤلاء لا يغير من مقتضى حكمته في جعل المواقيت و الآجال، و ها نحن الآن نرى أنه قد وقع على الكفار المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العذاب و قضي كل شي ء.

[3] أنه سبحانه لا يدع المشركين في ضلالهم و شركهم بل لا بد و أن يتم الحجة عليهم فإنه يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلى الرسل بِالرُّوحِ أي بما هو روح و حياة للكون فإن الإنسان لا روح له ما دام ليس متشرعا بشريعة الله سبحانه و إنما هو جماد في صورة متحرك مِنْ أَمْرِهِ أي الروح المتصف بأنه كائن من أمره تعالى، و تأثر عن إرادته عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

______________________________

(1) الأنفال: 33.

(2) الكهف: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 194

[سورة النحل (16): الآيات 3 الى 5]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5)

من الصفوة المختارة من البشر و هم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فهذا هو الروح الذي ينزله إله الكون بواسطة أطهر النفوس و هم الملائكة إلى أخير الناس، فيوحي إليهم أن أنذروا الناس الذين يشركون بأن عاقبة هذا الشرك و خيمة، فإنه لا إله إلا الله فَاتَّقُونِ أي خافوا عقابه و نكاله في اتخاذكم الشركاء.

[4] أنه تعالى هو خالق كل شي ء فكيف تتخذون غيره شريكا له؟ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ لا لغوا و عبثا

حتى يترك كل إنسان و ما اختاره من التوحيد أو الشرك و إنما يجب أن يعمل كل إنسان بالحق و يعتقد كل إنسان ما هو حق و واقع من مسألة الألوهية تَعالى أي إنه: أعلى و أرفع عَمَّا يُشْرِكُونَ و الفعل و هو «تعالى» قد انسلخ من معنى الماضوية، كما أنه كذلك بالنسبة إلى جميع صفات الذات، فليس المراد من «علم الله» و «قدر الله» و «استغنى الله» أنه حدثت فيه هذه الصفات في الزمان الماضي.

[5] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ النطفة هي الماء القليل، أي أن بدء هذا الإنسان الكبير إنما هي قطرة من ماء قليل مهين فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي مخاصم لأنبياء الله و للهادين، مجادل في أوامر الله الذي خلقه، مبين واضح الخصومة.

[6] و في هذا المجال يستعرض السياق جملة من الآيات الكونية، حتى يرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 195

[سورة النحل (16): الآيات 6 الى 7]

وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)

المشركون أنها ليست من خلق شركائهم و إنما هو من خلق الله وحده، لعلهم يرجعوا عن غيّهم وَ الْأَنْعامَ جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سميت بها لنعومة مشيها أو لأنها نعمة في جميع منافعها خَلَقَها أي الأنعام لَكُمْ أيها البشر فِيها في الأنعام، و الظرف مجازي دِفْ ءٌ ما يدفأ به من أصوافها و أشعارها في اللباس و الفرش و الخباء و غيرها، قال بعض العلماء: إن الشعر لا يدفأ بذاته و إنما لا ينفذ الدف ء الحاصل من البدن و نحوه منه و لذا يحس الإنسان بالدف ء

فيه بخلاف سائر الألبسة وَ لكم فيها مَنافِعُ من ركوب و حمل و حراثة الأرض للزرع و غيرها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ لحمها و لبنها و شحمها.

[7] وَ لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في الأنعام جَمالٌ أي منظر حسن و زينة حِينَ تُرِيحُونَ للأنعام، من أراح بمعنى ردها إلى المراح و هو محل استراحة الحيوانات وَ حِينَ تَسْرَحُونَ أي ترسلونها صباحا إلى محل السرح و الرعي، فإن في هذه الحيوانات حين تذهب صباحا و ترجع عصرا منظر جميل، يزيد في جمال أصحابها، فيقال: هذه قطيع فلان و هكذا و ربما يقال أنه جمال فلان، فيطلق الجمال على تلك الأنعام غادية رائحة.

[8] وَ تَحْمِلُ بعض هذه الأنعام و هي الإبل أَثْقالَكُمْ أي أمتعتكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 196

[سورة النحل (16): آية 8]

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)

الثقيلة، فإنه جمع ثقل و هو المتاع الذي يثقل حمله إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي لا تقدرون أنتم و حدكم بلوغ ذلك البلد البعيد إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فكيف تبلغونه مع الأحمال؟ و شق الأنفس معناه مشقة النفس، فإن شق مصدر شق يشق أي صعب و الأنفس جمع نفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ و من رأفته أن خلق لكم هذه الأنعام لتحمل أثقالكم و تنتفعون بها في سائر حوائجكم رَحِيمٌ يرحم بكم و يتفضل عليكم بالإحسان و الإنعام، و لعل الفرق بين الرأفة و الرحمة، أن الرأفة صفة القلب، و إن لم تتعد، و الرحمة لا تكون إلا فيما يظهر من الأفضال و الرحم.

[9] وَ خلق الْخَيْلَ و هي الفرس وَ الْبِغالَ جمع بغل و هو ما يولد بين الحمار و

الفرس وَ الْحَمِيرَ جمع حمار لِتَرْكَبُوها في حوائجكم، و لم يذكر هنا الحمل، و في الآية السابقة لم يذكر الركوب للتفنن في الكلام و هو من أساليب البلاغة، و الإبل أنسب بحمل الأثقال إلى البلاد البعيدة، كما أن الثلاثة أنسب للركوب وَ زِينَةً أي خلقها زينة و جمالا لكم، حيث أن الإنسان إذا ركبها كان له جمال و جلال، كما أنها حين تربط أو تنقل من هنا إلى هناك تظهر للمالك جمالا و زينة وَ يَخْلُقُ الله سبحانه ما لا تَعْلَمُونَ من سائر وسائل الحمل و الزينة، فقد قال سبحانه ذلك ليجد الذهن متسعا في الآفاق فلا يجمد، و نسبة الخلق إليه بالنسبة إلى الآلات البخارية و ما أشبهها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 197

[سورة النحل (16): آية 9]

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

صحيح، فإن صانعها ليس إلا جزءا صغيرا في سلسلة العلل المهيئة لها من معدن، و نار، و هواء و غيرها.

[10] و في سياق السفر إلى البلاد البعيدة و السير بواسطة المركوبات المحسوسة، يأتي بيان السير نحو المقصد الحقيقي للإنسان الذي هو السعادة الأبدية، و ينتقل السياق من سير جسماني إلى سير روحاني وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القاصد، و هو السبيل المستقيم الذي إذا سلكه الإنسان أوصله إلى السعادة في الدنيا و الآخرة، كأن السبيل قاصد إلى هدف و لذا لا ينحرف و لا يلتوي، كالإنسان القاصد ذي الغاية الذي يسير مستقيما نحو هدفه، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، نحو وضح النهار، أي النهار الواضح، و معنى على اللّه، أن عليه سبحانه أن يبيّنه و يرشد الناس إليه وَ مِنْها أي

من السبل جائِرٌ منحرف كأن الطريق قد جار فلم يستقم كالإنسان الظالم الذي يجور و ينحرف و قد كان من الانهزامية الغربية، القول بأن «الجائر» مأخوذ من «جأر» بمعنى صوّت، و المراد به «الطائرة» و نحوها من الآلات البخارية الحديثة التي تحدث الصوت عند حركتها، و قد مني المسلمون بأناس منهزمين يريدون تطبيق الإسلام على الغرب و يظنون أن ذلك كسب لهم، و للإسلام، غافلين أن ذلك انتصار للغرب، فإنهم أخذوه، و ما خالف الإسلام له، أوّلوا الإسلام له ليوافقوا بينهما بهزيمة الإسلام.

وَ لَوْ شاءَ اللّه سبحانه لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بأن أجبركم على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 198

[سورة النحل (16): الآيات 10 الى 11]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

الهدى، لكنه تعالى خلق الدنيا للامتحان و ذلك لا يكون إلا بالاختيار، فهو سبحانه لا يشاء إلا أن يكون كل أحد مختارا فيما يأخذ و يدع.

[11] ثم انتقل السياق من المركوبات و ما إليها مما خلقها لنفع الإنسان، إلى قسم آخر من الآيات الكونية التي جعلها لنفع البشر هُوَ اللّه سبحانه وحده الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهة العلو ماءً هو المطر لَكُمْ أيها البشر مِنْهُ أي من ذلك الماء شَرابٌ تشربونه و تستعملونه في سائر حوائجكم وَ مِنْهُ شَجَرٌ أي ينبت من ذلك الماء الشجر و المراد به كل نبات فإنه يطلق على ما ينبت من الأرض قام على ساق أولم يقم فِيهِ أي في ذلك الشجر تُسِيمُونَ يقال أسام ماشيته إذا رعاها، أي

ترعون أنعامكم، و لو لا ماء المطر بم كانت تتقوت الأنعام؟

[12] و يُنْبِتُ اللّه سبحانه لَكُمْ أيها البشر بِهِ أي بماء السماء الزَّرْعَ مما يزرع و يأكله الإنسان، أو يتجمل به، أو يتنزه بمنظره، أو الأعم من ذلك و مما ترعاه الماشية من باب ذكر العام بعد الخاص وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ جمع نخل و هو ما يثمر التمر وَ الْأَعْنابَ جمع عنب أي أشجار الأعناب وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ينبت لكم بالماء كل الثمار، و المراد بها الأشجار المثمرة، فلو لا ماء السماء «المطر» لم ينبت شي ء، و العيون و الأنهار إنما هي من ماء السماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 199

[سورة النحل (16): آية 12]

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)

أيضا، فلا يقال كان يكفينا العيون و الأنهار إِنَّ فِي ذلِكَ الإنزال للماء من السماء لإنبات هذه الأشياء و الانتفاع به في سائر حوائج البشر لَآيَةً دلالة واضحة على وجود إله عليم قدير غير هذه الشركاء التي لا تعقل شيئا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الأمور فيعرفون أن هذه النعم من اللّه سبحانه لا من غيره، و خص المتفكرين لأنهم الذين ينتفعون بهذه الآية و غيرها.

[13] و من ثم ينتقل السياق إلى آية أخرى، و منفعة جليلة لا حياة للإنسان بدونها، وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أجراهما و خلقهما بحيث تنتفعون بهما في حياتكم و حوائجكم وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و لعل ذكر الشمس بعد ذكر الليل و النهار لما يترتب عليها من فوائد، فهو تعميم بعد تخصيص، أما القمر فلا يتوقف عليه ليل و لا نهار و لذا

كان ذكره تأسيسا وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ سبحانه فهو الذي خلقها و هو الذي يسيرها حسب ما تقتضيه الحكمة إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لهذه الأشياء لَآياتٍ دلالات على توحيد اللّه و علمه و قدرته و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق و يعرفوا الأشياء و إلا فهل يتمكن عاقل أن يقول إنها خلقت من أنفسها؟ أو خلقها صنم عاجز جاهل؟ إن الإنسان الذي هو أقوى الأشياء- حسب الظاهر- لا يتمكن من خلق أو تسيير أتفه الأشياء من نفسه بأن يكون جميع اللوازم و الأسباب منه فكيف بغير الإنسان؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 249

[سورة النحل (16): الآيات 13 الى 14]

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)

[14] وَ سخر لكم ما ذَرَأَ أي خلق لَكُمْ إما بمعنى سخر لكم ما خلق في الأرض، فيكون المعنى أن كل شي ء في الأرض فهو مسخّر لكم، و إما بمعنى أن ما خلق لكم في الأرض هو مسخّر لكم، فيكون المعنى إن الذي خلق لكم مما في الأرض مسخر لكم و هذا أخص من المعنى السابق، و الظاهر من السياق الثاني فِي الْأَرْضِ من أنواع المأكل و الملابس و المشارب و المراكب و المساكن و المناكح و غيرها، في حال كون ما ذرأ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ لا يشبه بعضها بعضا، و ذلك مما يزيد الخلق جمالا و الإنسان نشاطا و انشراحا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لما ذرأ

لَآيَةً دلالة واضحة على وجود اللّه و علمه و قدرته لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أصله يتذكر قلب التاء ذالا و دخلت همزة الوصل عليه لتعذر الابتداء بالساكن فصار «اذّكر» و التخصيص بهم لأن من سواهم لا ينتفع بهذه الآيات، و لعلّ الإتيان بلفظ «آية» هنا و «آيات» في الآية السابقة للتفنن في الكلام الذي هو نوع من أنواع البلاغة.

[15] وَ هُوَ اللّه سبحانه الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ صنعه و جعله بحيث تنتفعون به في حوائجكم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا و هو السمك فإن الإنسان يصطاد السمك الطري منه، في حال أن كثيرا من اللحوم التي يصنع منها القديد يابس ليس له ذلك الطعم و المذاق وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً أي لئالئ و نحوها مما يستعمل في الزينة، و لعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 201

[سورة النحل (16): آية 15]

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)

الإتيان بباب الاستفعال لما في الغوص من الطلب و الصعوبة تَلْبَسُونَها تلبسون تلك الحلية المستخرجة من البحر، فمن جعل البحر بحيث يعطي هذه الأشياء؟ و من ذلّله لكم حتى تتمكنون من الاقتراب منه و الغوص فيه و الاصطياد لأسماكه؟ وَ تَرَى أيها الإنسان الْفُلْكَ و هي السفن فإن فلك على وزن قفل مفرد، و الفلك على وزن أسد «جمع أسد» جمع، و الثاني هو المراد هنا بدليل وصفها بقوله سبحانه مَواخِرَ جمع «ماخرة» على وزن «طالبة» و «طوالب» من المخر، يقال مخرت السفينة الماء أي شقته عن يمين و شمال، و اسم الفاعل «ماخرة» فِيهِ أي في البحر، فمن جعل الماء بحيث لا تغرق فيه السفينة الثقيلة، بل تتمكن من شقه و الوصول إلى المحلات

البعيدة بواسطته؟

وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إما عطف على قوله «لتأكلوا» أي سخر لكم البحر «لتأكلوا» و لتبتغوا، و إما عطف على مقدر أي «و ترى الفلك مواخر فيه لتركبوا و لتبتغوا» و المعنى أنه جعل البحر كذلك بحيث يحمل السفن الماخرة لتطلبوا من فضله سبحانه بالتجارة و الاكتساب لصاحب السفينة بالإيجار و الراكبين بالاتجار، و تسمى النعمة فضلا، لأنها زيادة على سائر الأنعام، وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا اللّه سبحانه، فإن غاية خلق الأشياء للإنسان أن يشكروا فيستحقوا بذلك الثواب.

[16] وَ هو اللّه سبحانه الذي أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جمع راسية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 202

[سورة النحل (16): الآيات 16 الى 17]

وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (17)

و هي الجبل، أي جعل جبالا عالية ثابتة، و التعبير بالإلقاء تعطي صورة طريفة عن ثقلها و شدة وطأتها، ل أَنْ لا تَمِيدَ من ماد بمعنى مال يمينا و شمالا بِكُمْ أي معكم، يعني أنه سبحانه جعل في الأرض الجبال لئلا تتحرك الأرض بكم يمينا و شمالا فلا يكون لكم قرار و استقرار فإن الجبال تحفظ توازن الأرض، فهي كالمسامير في الألواح المتصلة بعضها ببعض، لولاها لتفككت الأرض- من جهة- و لمالت إلى هنا و هناك بفعل الجاذبيات- من جهة أخرى-.

وَ جعل فيها أَنْهاراً فمن يا ترى خلق الأنهار التي ينتفع بها الإنسان في بقائه و عمارته و زراعته و سائر لوازمه؟ وَ جعل فيها سُبُلًا أي طرقا للسير من هنا إلى هناك لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تروا تلك الآيات فتهتدوا إلى وجود خالقها و جاعلها.

[17] وَ جعل لكم فيها عَلاماتٍ معالم يهتدى بها للطرق من

جبال و ترع و مرتفعات و منخفضات فإن الإنسان يهتدي بها إلى مقاصده أو المراد أنه سبحانه جعل العلامات بصورة عامة كعلامات الصحة و المرض و الجيد و الرّدي ء و العلامات الفارقة لجنس من جنس و هكذا وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ فجعل علامات في الأرض و علامات في السماء يهتدي بها السالكون، فمن يا ترى جعل كل ذلك؟

[18] و إذ ينتهي السياق من ذكر جملة من الآيات الكونية، يلتفت إلى البشر ليوقظه من رقدته و ينبّهه على خطأه في اتخاذ الشركاء مع اللّه سبحانه أَ فَمَنْ يَخْلُقُ و هو اللّه سبحانه الخالق لكل تلك الأشياء التي تقدمت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 203

[سورة النحل (16): الآيات 18 الى 19]

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (19)

و لغيرها كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا، كالأصنام و الأوثان؟ و من الطبيعي الجواب: بأنهما ليسا بمتساويين أَ فَلا تَذَكَّرُونَ هذه الحقيقة؟ فكيف تجعلون من لا يخلق شريكا مع من يخلق، و تعبدوهما على حد سواء؟

[19] إن ما تقدم ذكره من النعم إنما هي جملة من الأمور التي خلقها اللّه سبحانه لمنافعكم، أما جميع نعمه فهي خارجة عن قدرتكم على إحصائها وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي تريدون تعدادها و إحصاءها لا تُحْصُوها لا تقدرون على العدّ و الإحصاء لكثرتها الخارجة عن طرق عدّكم كيف و قد ذكر العلم أن ملايين الأعصاب موجودة في جسم الإنسان و من المعلوم أن كل عصب نعمة و هكذا و هلم جرا إلى ما لا يحصى من النعم، و لعلّ الإتيان ب «نعمة» مفردة لمراعاة نكتة لفظية هي أن العدّ لنعمة

نعمة متعذر و أما عد «النعم» جملة جملة فلا تتعذر إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لكم في عدم شكر النعم، فإن الإنسان مهما شكر فهو مقصر في الشكر كما

قال الإمام عليه السّلام: «و لا يؤدي حقه المجتهدون»

«1» رَحِيمٌ يرحمكم بالأنعام عليكم و إن لم تؤدوا شكرها.

[20] و هنا تأتي بعض المقارنات بين اللّه سبحانه، و بين ما زعموه من الآلهة، بمناسبة السياق مع قوله «أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ» وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي ما تفعلونه في السّر وَ ما تُعْلِنُونَ أي ما تفعلونه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 204

[سورة النحل (16): الآيات 20 الى 22]

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)

في العلانية فهل الأصنام كذلك؟ إنها- كما يأتي- «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ» فكيف تعلم شيئا؟ و إذ يعلم سبحانه كل سر و جهر فإنه يجازي بكل ما يصدر من الإنسان في خفاء أو ملأ.

[21] وَ الأصنام الَّذِينَ إنما جي ء بلفظ العاقل لزعم القوم أنها تعقل يَدْعُونَ أي يدعونها المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و الأوثان لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً فهل هم كمن خلق كل الأشياء؟ وَ هُمْ يُخْلَقُونَ فإن الأصنام مخلوقة لله سبحانه، أولا، ثم منحوتة للناس ثانيا! [22] إنها أَمْواتٌ لا حياة لها، فإن الموت يطلق لما من شأنه الحياة، و لما ليس من شأنه الحياة- إذا قوبل مع الحيّ- غَيْرُ أَحْياءٍ لعل الإتيان بذلك لإفادة أنها لا حياة لها إطلاقا، فليست حتى كالإنسان الميت الذي له حياة برزخية

وَ ما يَشْعُرُونَ أي ما تشعر تلك الأصنام أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي في أيّ وقت يكون بعثها و نشورها، و هذا للمقابلة و إلا فليس للأصنام بعث بالمعنى الواقعي، و الحاصل أن ما هو ميت لا يقدر على حس و حركة، و من هو لا يعلم حتى يبعث كيف يكون إلها، و الحال أن الإله يجب أن يكون حيّا حتى يكون خالقا مدبرا، و يجب أن يعلم متى يبعث المخلوقين للجزاء و الحساب؟

[23] و إذ تقرر أن هذه الأصنام لا تكون آلهة ف إِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 205

[سورة النحل (16): الآيات 23 الى 24]

لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)

لا شريك له فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم طبعا من لا يؤمن بالإله الواحد، و إلا فلو كان مؤمنا كان معتقدا بالمعاد، و من هذه الجهة دخلت الفاء في «فالذين» فهو كقولك زيد عالم، فمن يناوئه يكون كذا، للتلازم بين العلم و لزوم الاحترام. قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للحق، فليس مرضهم مرضا سطحيا قابلا للعلاج، و إنما الداء كامن في قلوبهم وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ الاستكبار طلب الترفع- لمن ليس رفيعا- فهم يترفعون أنفسهم عن الإذعان بلا حق أو حجة أو برهان و إنما مانعهم عن الإيمان الكبر و الطغيان.

[24] لا جَرَمَ أي حقا، من جرم «باب ضرب» بمعنى قطع، يقال جرم الشي ء أي قطعه و منه «الجرم» كأنه قطع لروابط الاجتماع، ف «لا جرم» يعني لا قطع، و إنما الأمر كذلك، و لذا يستعمل بمعنى لا بد و لا محالة، و

كثيرا ما يتحول إلى معنى القسم، يقال «لا جرم لأفعلنّ» أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ يفعلونه سرا وَ ما يُعْلِنُونَ أي يفعلونه علنا، فهو عالم بجميع أعمالهم فيجازيهم على ما ارتكبوا من الآثام إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الذين يتكبرون و يأنفون اتباع الأنبياء، و عدم محبة اللّه يلازم كرهه و غضبه.

[25] إنهم لا يؤمنون بالله، و لا بالمعاد، أما بالنسبة للرسالة فمن الطبيعي أن ينكرونها بعد إنكارهم لذينك الأمرين وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمشركين عبدة الأصنام ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ يريد السائل أن يستخبر اعتقادهم حول القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 206

[سورة النحل (16): آية 25]

لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)

و هل أنهم يعتقدون به أم لا؟ قالُوا في الجواب أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، أي قصصهم الخيالية الوهمية فقد كانوا يقولون عن القرآن إنه خرافات القدماء لا حصة له من الحقيقة و الواقع، و ليس المراد لهم أنه منزل من عنده سبحانه لأنهم ينكرون الإله، و ينكرون ما أنزل، و إنما يريدون رمي القرآن بالخرافة و الأسطورة، و قد كان أحدهم يقول: إن محمدا يأتيكم بأخبار أنبياء الروم- يريدون الأنبياء المبعوثين حول الشام، فقد كان الشام يومئذ من ممتلكات الروم- و إنما أتيتكم بأخبار ملوك الفرس، ثم يقص عليهم قصصا وهمية من الأكاسرة و من إليهم.

[26] و إنما كان هؤلاء المشركون يكفرون بالله و المعاد و الرسالة لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام للعاقبة، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» فإن قصد أولئك ليس حمل الأوزار، و إنما عاقبة تكذيبهم أن يحملوا ذنوبهم- فإن الوزر بمعنى

الذنب- كاملة بلا نقص في يوم القيامة فإن من لا إيمان له يحمل ذنبه كاملا بخلاف من له الإيمان فإنه ينقص من ذنبه و يعفى عنه لمكان إيمانه وَ يحملون هؤلاء الكفار- الرؤساء- في يوم القيامة، بالإضافة إلى أوزار أنفسهم مِنْ أَوْزارِ أي بعض ذنوب الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من أتباعهم، فإن الرؤساء سبب إضلال الأتباع، و إنما يحملون بعض ذنوب أولئك مما صار الرؤساء السبب أما غيرها من سائر ذنوبهم، كما لو قتلوا إنسانا أو شربوا خمرا، أو ما أشبه مما لا يرتبط بهؤلاء الرؤساء فهم المسؤولون عنها دون الرؤساء بِغَيْرِ عِلْمٍ

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 207

[سورة النحل (16): آية 26]

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)

أي أن إضلالهم كان بغير علم إذ إن الرؤساء لم يعلموا بصحة عبادة الأصنام و مع ذلك دعوا الناس إليها، و هذا لزيادة تقريعهم، إذ كيف يجوز لهم أن يدعو الناس إلى شي ء هم لا يعلمون صحته؟ أَلا فلينتبه السامع ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس الحمل حملهم لأوزار أنفسهم و بعض أوزار أتباعهم، فإن ذلك موجب للعذاب و العقاب.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا و أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا «1»

[27] و إذ سبق أن المشركين يقولون عن القرآن أنه أساطير الأولين، و بطبيعة الحال إنهم يمكرون و يحتالون لإخماد صوت الأنبياء، فليعلموا، و

يعلم معهم غيرهم أن لا محصّل لمكرهم و لا نجاح لخططهم ف قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار و دبّروا المؤامرات لإبطال الدين، و إخماد صوت المرسلين فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ أي توجه سبحانه نحو بنائهم، و المراد بالبنيان، ما بنوه من المكر و الحيلة، تشبيها بالأبنية الخارجية مِنَ الْقَواعِدِ أي من أسسه، كالذي يهدم بناء بهدم أساسه و أصله فقد أبطل سبحانه أصل حيلتهم و مكرهم.

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ أي سقط على الكفار السَّقْفُ أي سقف بنيانهم

______________________________

(1) المستدرك: ج 12 ص 230.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 208

[سورة النحل (16): آية 27]

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)

مِنْ فَوْقِهِمْ فلم يسقط من جوانبهم، فإن السقف قد يسقط لكن على جانب الإنسان فلا يتأذى منه كثيرا، أما إذا سقط من فوقه، طبّقه، مما يوجب هلاكه وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الهلاك تحت السقف مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ إذ كانوا يزعمون أن بنيانهم قوي محكم، فكان احتمالهم للهلاك من ناحية خارجية غير جهة بنائهم، فإذا بالبناء الذي بنوه ليكون لهم ملجأ و محتمي صار قبرا لهم، إن الإنسان ليبني البناء ثم يحبس فيه ليستريح، لكن شخصا يأتي و يهدم البناء من أساسه حتى يقع السقف على الباني، إن هذا مثل الكفار الذين يقاتلون الأنبياء عليهم السّلام فهم يمكرون لإخماد صوت الحق، حتى إذا ظنوا أن مكرهم قد استحكم و أنهم يستريحون تحت ظله، فلا يلفحهم الدين، دبّر سبحانه ما يهدم مكرهم من أصله، فإذا بهم ينكشفون للمجتمع بصورتهم البشعة، و قد تعالت كلمة اللّه سبحانه، و علا صوت الحق، حيث

ذهب الكفار و مكائدهم أدراج الخسران و الهلاك، و كثيرا ما يأخذهم عذاب اللّه في الدنيا، حيث إنهم غافلون غير شاعرين.

[28] هذا حال من مكر بالأنبياء عليهم السّلام في الدنيا، أما حالهم في الآخرة ثُمَ بعد الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ اللّه سبحانه و يذلهم و يفضحهم على رؤوس الأشهاد وَ يَقُولُ لهم على سبيل التقريع و التوبيخ أَيْنَ شُرَكائِيَ الموهومون الذين كنتم تشركونهم معي و تزعمون أنهم شركائي في الخلق و العبادة و سائر شؤون الألوهية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 209

[سورة النحل (16): آية 28]

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ تعادون المؤمنين فِيهِمْ أي بسببهم فإن الكافرين كانوا يعادون المؤمنين لأنهم لا يتخذون الأصنام آلهة، فهم لأجل الجمادات الصم البكم كانوا يعادون إخوانهم المؤمنين؟ فلا يجد الكفّار جوابا فقد تكشف لديهم الأمور و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون.

و هنا يتعرض بعض المؤمنين للجواب، قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الأنبياء و الأئمة و الملائكة و الصالحين إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ الفضيحة و العذاب، في هذا اليوم عَلَى الْكافِرِينَ و إنما يقول ذلك لزيادة التقريع و التوبيخ، فإن الشماتة تؤثر في النفس ما لا يؤثر العذاب في الجسم.

[29] و إذ رأينا أحوال الكافرين في دنياهم حيث «أتاهم العذاب» و في آخرتهم حيث لهم الخزي و السوء، فلننظر إلى أحوالهم حال النزع و عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة، فها هم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ أي تقبض أرواحهم الْمَلائِكَةُ الذين أرسلهم اللّه سبحانه لهذه المهمة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال كون أولئك الكفّار ظلموا أنفسهم، بأن عصوا فاستحقّوا العذاب و

الهوان، و النون من «ظالمي» محذوف لإضافته إلى أنفسهم.

فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أظهروا أولئك الكفار المسالمة، و هو تشبيه بمن يلقي شيئا، لكن الإلقاء هنا معقول كما يقال «فلان يلقي الخطابة» في مقابل الإلقاء المحسوس نحو «ألقى عصاه» ثم ... ماذا هو السلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 210

[سورة النحل (16): الآيات 29 الى 30]

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30)

الذي يلقونه؟ إنه قولهم ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فقد أنكروا عند الملائكة كفرهم و عصيانهم في دار الدنيا و ظنوا أن الملائكة كالحكام في الدنيا يتمكن المراوغ إنكار ما سبق من جرمه عندهم، و إن إنكارهم يفيدهم و قد تستمر هذه المراوغة بهم حتى في الآخرة يأتون حالفين لله قائلين (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» إذ يأتي الجواب (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) «2» و هنا عند قبض الروح يأتي الجواب بَلى إنكم كنتم تعملون السوء إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من المنكرات و المعاصي و الكفر و الشرك، و لا ينفعكم الإنكار.

[30] فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كل صنف من بابه الخاص به خالِدِينَ فِيها أي في حال أنكم تخلدون فيها و تبقون هناك أبد الآبدين فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي بئس منزلهم، فإن مثوى، محل من «ثوى» بمعنى اتخذ محلا و مكانا، و قد كان هؤلاء الكفار متكبرين يستكبرون و يترفعون عن الإذعان لله و رسوله و الأحكام.

[31] و إذ رأينا الحوار بين السائلين و بين الكفار و ما صاروا إليه أخيرا من الخلود في

النار، فلننظر إلى المحاورة بين السائلين و بين المؤمنين وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي للمؤمنين الذين اتقوا معاصي اللّه سبحانه، و القائل لهم الأنبياء أو الملائكة أو الأئمة أو نحوهم

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) الأنعام: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 211

[سورة النحل (16): آية 31]

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)

ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ هل أنه صدق أو كذب خير أم شر؟ قالُوا في الجواب أنزل خَيْراً فإن القرآن خير و سعادة للدنيا و الآخرة، ثم يفصلون أنه كيف يكون خيرا، قائلين لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الإيمان و الأعمال فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي لهم مكافأة حسنة، فإن الإيمان موجب لاطمئنان القلب و سعادة الحياة، لأنه بما يقرره من المناهج يضمن خير الإنسان و سعادته.

وَ لَدارُ الْآخِرَةِ لمن آمن و اتقى خَيْرٌ من الدنيا، لأن نعيمها لا يشوبه الكدر، و ليس له زوال و اضمحلال بخلاف دار الدنيا وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي و الآخرة نعم دار المتقين الذين اتقوا الكفر و المعاصي، و هذا تأكيد لقوله «خير».

[32] جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل عن «دار» و الجنة هي البستان، و عدن بمعنى الخلود، من عدن بالمكان أي أقام فيه و منه «المعدن» لأنه المقيم في الأرض يَدْخُلُونَها أي يدخل المتقون تلك الجنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها لَهُمْ أي للمتقين فِيها أي في تلك الجنّات ما يَشاؤُنَ من الملذات كائنة ما كانت، اما ما يستحيل فإنهم لا يشتهونه كَذلِكَ الذي تقدم من الخلود في الجنات و لهم ما يشتهون يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 212

[سورة النحل (16): الآيات 32

الى 33]

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)

الكفر و المعاصي.

[33] هذه آخرة المتقين، و تلك دنياهم، فلننظر وقت انتقالهم من الدنيا إلى الآخرة، كما نظرنا إلى حال الكفّار حال الانتقال الَّذِينَ صفة «المتقين» تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة بأمر اللّه سبحانه طَيِّبِينَ أي حال كونهم طيبي القلوب و الأعمال، لم يظلموا أنفسهم و لا أحدا غيرهم يَقُولُونَ أي تقول الملائكة لهم عند الوفاة سَلامٌ عَلَيْكُمْ فأنتم في سلام من كل سوء و مكروه ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

فقد ورد أن من مات قامت قيامته، و أن القبر للمؤمن روضة من روضات الجنان

«1»، و لذا يصح أن يقال لهم حال الفزع ادخلوا الجنة.

[34] و إذا تم السياق في المقابلة بين حال المؤمنين و حال الكافرين في الدنيا و عند الفزع و في الآخرة، رجع إلى الحوار مع المشركين و الاحتجاج عليهم و بيان عقائدهم و أقوالهم و أعمالهم هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم، إنه استفهام إنكاري، أي ما ينتظر هؤلاء الكفار شيئا إلا الموت، فقد تمت عليهم الحجة، و بانت لديهم المحجة، فإنهم معاندون لا يستعدون للإيمان، و إنما ينتظرون أن تأتيهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 213

[سورة النحل (16): الآيات 34 الى 35]

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَ قالَ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)

بإهلاكهم بعذاب الاستئصال كَذلِكَ أي كفعل هؤلاء الذين لا يؤمنون حتى يموتوا أو يعذبوا فَعَلَ الكفار الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فإنهم لم يؤمنوا بالرسل، حتى جاء أمر اللّه بإهلاكهم و تدميرهم وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ حيث أهلكهم و أرسل عليهم العذاب وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر و العصيان و كان العذاب جزاء أعمالهم، كالقطع الذي يصيب السارق فإنه جزاء سرقته لا أن القاضي ظلمه.

[35] فَأَصابَهُمْ أي وصل إلى أولئك الذين من قبلهم من الكفار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي عقاب أعمالهم و سمي العقاب سيئة لأنه يسيئ إلى الشخص، و للتجانس اللفظي كقوله سبحانه (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) «1» وَ حاقَ بِهِمْ أحاط بهم و وصل إليهم ما كانُوا أي العذاب الذي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أو المراد نتيجة استهزاءهم و عاقبة سخريتهم.

[36] ثم يأتي السياق ليبين مقولة جديدة من مقالات المشركين، إنهم في هذه المرة يتفلسفون ناسبين كفرهم و أعمالهم السيئة إلى إرادته سبحانه وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بأن جعلوا مع اللّه شريكا لَوْ شاءَ اللَّهُ أن نعبده وحده و لا نتخذ معه شريكا ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ من

______________________________

(1) الشورى: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 214

الأصنام و الأوثان، فإنا حين نرى أنا عبدناها علمنا أن اللّه أراد عبادتنا لها، إذ لو لم يرد عبادتنا لها لمنعنا عن ذلك بالجبر.

نَحْنُ وَ لا آباؤُنا بدل عن الضمير في «عبدنا» أي لم نكن نعبد نحن و آبائنا، الأصنام لو لم يرد اللّه

وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي لو شاء اللّه عدم تحريمنا للسائبة و البحيرة و غيرهما لمنعنا عن ذلك، فلم نكن لنحرم شيئا من دون إرادته و رضاه، فقد اعتقدوا الخرافة و عملوا المعاصي، و نسبوها إلى اللّه سبحانه حين قيل لهم أنهم على باطل و أن أعمالهم توجب السخط و العقاب كَذلِكَ أي كفعل هؤلاء في الكفر و العصيان و نسبة أعمالهم إليه تعالى فَعَلَ الكفار الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ و إنما قال «فعل» مع أن الاعتقاد ليس فعلا؟

للتغليب، أو لأن الكلام كان في العبادة، و هي فعل، و لقد كان كلامهم من السخافة بحيث لا يستحق الجواب، فهل سبحانه يجبر أحدا على عمل؟ إنه خلاف العقل و الوجدان، و إلّا لارتفعت جميع القوانين و لكان المجرم كالمحسن، و بطلت الحكومات و الأقضية فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ استفهام إنكاري، أي ليس على الرسل إلا أن يبلّغوا أوامر اللّه سبحانه بكل جلاء و وضوح ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حيّ عن بينة، و إن هذا هو اللازم في اللطف أن يبعث اللّه رسولا مبينا، أما أن يمنع العاصي بالجبر و الإكراه فإنه خلاف العقل و البرهان، و إلا كان الإنسان كآلة صماء لا فرق بينه و بين الحديد المسيّر في جهاز متحرك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 215

[سورة النحل (16): آية 36]

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

[37] و كيف يشاء سبحانه الكفر و المعاصي، و الحال أنه قد بعث الأنبياء و الرسل لإرشاد

الناس و هدايتهم وَ لَقَدْ بَعَثْنا أي أرسلنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا كما بعثناك يا رسول اللّه إلى هؤلاء، ليقول لهم الرسول أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي لا تطيعوه، و المراد بالطاغوت، الشي ء الكثير الطغيان من شيطان أو إنسان آمر بالقبيح، و يستعمل الطاغوت في الآلهة الحجرية مجازا بالمشابهة، لأنها تعبد كما يعبد الرؤساء و الشياطين كما قال سبحانه: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً) «1» فَمِنْهُمْ أي بعض تلك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ أي هداه سبحانه إلى الإيمان بأن لطف به الألطاف الخفية حتى استقام على الطريق بعد أصل الإيمان و قد كان ذلك بمعنى الهداية المتوسطة بين الهداية التي هي إرائة الطريق، و الهداية التي هي الإيصال إلى المطلوب، فإن الإنسان إذا أراه اللّه سبحانه الطريق فسار عليه، لطف به ألطافا خفية، كما قال سبحانه: (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) «2» وَ مِنْهُمْ أي بعض تلك الأمم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي ثبتت عليه و ألزمته، لأنه أعرض عن الرشاد فانحرف حتى صارت الضلالة من ملازماته فَسِيرُوا أيها الناس فِي الْأَرْضِ إلى هنا

______________________________

(1) التوبة: 31.

(2) العنكبوت: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 216

[سورة النحل (16): آية 37]

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

و هناك لتعتبروا بآثار الأمم السابقة فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل، فإنكم ترون بلادهم خالية و آثارهم دارسة، و قد جرت الرياح على محل ديارهم فكأنهم كانوا على ميعاد كما قال سبحانه: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ* وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) «1» و من غريب الأمر

أنا نرى ذلك في غالب البلاد و الأصقاع فعندنا خرائب «بابل» و «سامراء» و أطراف «الطاق» ببغداد.

[38] و إذ قد جرت سنة اللّه سبحانه أن يترك الضال في غوايته لا يلطف به الألطاف الخفية، كما كان سابقا حال الأمم الخالية كذلك فهذه الأمة أيضا كتلك إن من ضل و حاد عن الطريق لا ينفعه اهتمام الرسول بإيمانه ف إِنْ تَحْرِصْ يا رسول اللّه و تتعب نفسك عَلى هُداهُمْ أي على أن يهتدوا و يؤمنوا فَإِنَ حرصك لا ينفع إذ إن اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ أي لا يلطف بمن تركه ليضل- كما شاء هو- بعد أن أراه الطريق فلم يقبل، كالأب الذي لا يعتني بولده إذا رآه لا يطيع أوامره، فنقول لمن حاول الإصلاح بينهما: لا تفعل فإن الأب لا يلطف بهذا الذي تركه و لم يعتن له وَ ما لَهُمْ أي لأولئك الضالين مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم و يخلصونهم من عذاب اللّه و انتقامه.

______________________________

(1) الدخان: 26- 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 217

[سورة النحل (16): الآيات 38 الى 39]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39)

[39] و لقد كان الكفار ينكرون البعث و يجادلون لنفيه، و حيث يعجزون عن الإتيان بالحجة يلتجئون إلى الحلف، كشأن العاجزين في مقام الاحتجاج و الدليل وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي حلف هؤلاء الكفّار بالله سبحانه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مجتهدين في أيمانهم قد بلغوا في اليمين مبلغ التأكيد بما قدروا عليه، فإن «جهد» مصدر وضع موضع الحال، و التقدير «يجتهدون اجتهادا في أيمانهم» مثلا قالوا «و

اللات و عزى و مناة و كل مقدساتنا ..» لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ أي لا يحييه للحساب و الكتاب و الجزاء، و قد كذّبهم سبحانه بقوله بَلى ليس الأمر كما تقولون بل يبعثهم اللّه جميعا، و قد وعد اللّه ذلك وَعْداً يكون ذلك الوعد عَلَيْهِ أي على اللّه حَقًّا ليس له خلف، فإن المخلف لا يكون إلا جاهلا أو عاجزا أو خبيثا و اللّه سبحانه منزه عن ذلك كله وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ البعث، لكفرهم بالله، و عدم إيمانهم بالأنبياء المخبرين.

[40] و إنما يبعث اللّه الخلائق، و يحشرهم للجزاء و إلّا لكان ظلم الظالم الذي لم ينتقم منه في الدنيا خلاف عدله سبحانه، فإنه كيف أمكن الظالم من الظلم و هو قادر على دفعه، بلا جزاء شي ء للظالم، و لا جزاء حسن للمظلوم، و في يوم الجزاء يبين اللّه لَهُمُ أي للناس الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من العقائد و الأعمال، فيقول عمل فلان كان حقّا، و عمل فلان كان باطلا، و هكذا، و البيان، كناية عن الجزاء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 218

[سورة النحل (16): الآيات 40 الى 41]

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)

لأنه إنما يقع بعد البيان، كما تقول للمجرم: سأعلمك غدا، تريد إنك تجزيه بإجرامه وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كفرهم بالله، و إنكارهم للبعث، و جحدهم الأنبياء، يعلمون كذبهم فيجازون عليه.

[41] و لقد كان أكبر حجج المنكرين للبعث أنه غير ممكن، فكيف يمكن أن تعود العظام الرميم إنسانا سويا؟ (قالَ مَنْ

يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ) «1»؟

و لذا ردهم سبحانه بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإنا نخلق الأشياء بمجرد الإرادة التي تجلو في كلمة «كن» و بمجرد هذا القول يكون ذلك الشي ء المراد، فكيف لا نقدر على إحياء الأموات، و قد كان خلق الإنسان ابتداء أصعب- في نظر الناس- من إعادته، فهل نقدر على ذلك الأصعب و لا نقدر على الأسهل؟

[42] أولئك الكفّار تلك معتقداتهم و أعمالهم و جزائنا لهم وَ أما المؤمنون ف الَّذِينَ هاجَرُوا ديارهم و بلادهم فِي اللَّهِ أي في سبيل اللّه و لأجل أمره و ابتغاء مرضاته فرارا بدينهم مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ظلمهم الكفار، كما كان أهل مكة يظلمون المسلمين و يؤذونهم، فهاجر قسم منهم إلى الحبشة و قسم إلى المدينة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي نعطيهم مبوّء و منزلا، نحو

______________________________

(1) يس: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 219

[سورة النحل (16): الآيات 42 الى 43]

الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43)

(وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) «1» فِي الدُّنْيا دارا حَسَنَةً يسكنون فيها بكل هدوء و اطمئنان.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ لهم جزاء أن ظلموا أو شردوا أَكْبَرُ من حسنة الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لأوصل عملهم إلى ما أعدّ اللّه لهم في الآخرة، لعرفوا أن ذلك الأجر خير من أجر الدنيا، و إنما جي ء بهذه الجملة لبيان أنهم مع إيمانهم بالبعث لا يعلمون ما أعد اللّه لهم من الأجر و الثواب، و إنما يعتقدون بذلك إجمالا،

ورد أن هذه الآية نزلت في المعذبين بمكة، مثل صهيب و عمار و بلال و خباب و

غيرهم مكنهم اللّه بالمدينة و قد ذكر أن صهيبا قال لأهل مكة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم و إن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي و دعوني فأعطاهم ماله و هاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[43] ثم وصف سبحانه الذين هاجروا بقوله الَّذِينَ صَبَرُوا على الإيمان، و على أذى المشركين لهم وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوّضون أمورهم إليه، و يكلون شؤونهم إلى جنابه سبحانه، و لعل الإتيان بفعل المستقبل لإفادة استمرارهم في التوكل، و إن انقضى صبرهم الذي صبروه على أذى الكفار قبل الهجرة.

[44] و إذ قابل السياق بين الكفار و المؤمنين، رجع إلى الاحتجاج مع الكفار، فقد كانوا ينكرون أن يكون الرسول بشرا فقال سبحانه

______________________________

(1) الحج: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 220

[سورة النحل (16): آية 44]

بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه، إلى الأمم الماضية إِلَّا رِجالًا من البشر، لا ملائكة و لا جنّا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم بشر كسائر البشر في الخلقة و الطبيعة إلا أنهم، يمتازون بالوحي، و هذا لا ينافي كونهم أعلى درجة من سائر الناس بفطرتهم، فإن الكلام في مقابل الملائكة و الجن فَسْئَلُوا أيها المنكرون لبشرية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب عن أنبياءهم هل كانوا بشرا أم غير بشر؟.

إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ إنهم كانوا بشرا أم لا، و ما ورد في الأحاديث من أهل الذكر هم آل محمد عليهم السّلام فالمراد أنهم من المصاديق الظاهرة لأهل الذكر الذين يجب الرجوع إليهم، حيث يستفاد من الآية قاعدة

كلية عقلائية مقررة في الشريعة، هي سؤال أهل العلم عما لا يعلمه الإنسان، و بطبيعة الحال يجيب أهل الذكر أن من أرسل سابقا كانوا بشرا، حتى المسيحيون المألّهون لعيسى عليه السّلام لا ينكرون بشرية سائر الأنبياء كآدم و موسى و إبراهيم عليهم السّلام و غيرهم.

[45] بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ متعلق ب «نوحي إليهم» أي كنا نوحي إلى الأنبياء عليهم السّلام السابقين بالأدلة البينة الواضحة، و الزبر «الكتب المتفرقة» من زبر بمعنى كتب، أو متعلق بأرسلنا، أي «ما أرسلنا بالبينات و الزبر إلا رجالا» وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الذِّكْرَ أي القرآن كما أنزلنا إلى الأنبياء من قبلك، و إنما سمي القرآن بالذكر لأنه مذكر بالله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 221

[سورة النحل (16): الآيات 45 الى 46]

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)

سبحانه، بعد ما نسيه الإنسان، و الذكر يشير إلى ما أودع في فطرة الإنسان من معرفته سبحانه لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من الأدلة على المعارف، و ما فرضه سبحانه عليهم من الأحكام وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي لكي يتفكروا في الآيات الكونية، فإن الإنسان إذا ألفت إلى شي ء أخذ يتفكر حوله، و الحاصل إن الإنزال لسببين تبيينك للناس، و تفكرهم.

[46] ثم يعد سبحانه المشركين و العاصين بالعذاب إن تمادوا في كفرهم و غيّهم أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي عملوها، و المراد دبّروا المكائد لإخماد صوت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هدم الإسلام أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون و الاستفهام تهويلي جي ء لبيان أنه يلزم عليهم

أن يحتملوا ذلك أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بإنزال صاعقة عليهم، أو غلبة النبي عليهم في حرب فجائية، فيقتلون و يؤسرون.

[47] أَوْ يَأْخُذَهُمْ اللّه فِي تَقَلُّبِهِمْ أي في حالة من حالات تحوّلهم من هنا إلى هناك، أو من عمل إلى عمل، في ليل أو نهار، بأن يميتهم موت فجأة فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ لا يتمكنون من تعجيز اللّه حتى لا يقدر عليهم، فإنه سبحانه لا يمتنع عليه شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 222

[سورة النحل (16): الآيات 47 الى 48]

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48)

[48] أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ منهم أي في حال يقظة و حذر، فإن الترصد و الحذر لا ينفع في الفرار من عذاب اللّه سبحانه فَإِنَّ رَبَّكُمْ أيها البشر لَرَؤُفٌ بكم رَحِيمٌ حتى بالعاصين أنه مع قدرته لا يفعل بكم ذلك لكي تتوبوا و تعودوا، فإن قطعتم الصلة تماما، و ما بقي فيكم رجاء عود، فإن هناك يحل العقاب و لا يفيد كونكم من حضر، أو سفر، في غفلة أو تخوف، و من غريب أمر الإنسان أنه مع ما يرى من أحوال الأمم السابقة و ما يحلّ بمن حواليه من العذاب و النكال، يسدر في غيّه و لا يرعوي عن ضلاله و إثمه! [49] إن كل ما في الكون يوحي بالإيمان فكيف لا يؤمن هذا الإنسان؟ و كل ما في الكون يوحي بقدرة اللّه و إرادته الشاملة، فكيف لا يخاف الإنسان قدرته و بطشه و يسدر في غيّه؟ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي أليس قد رأى

هؤلاء الكفار إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من حجر أو شجر أو إنسان أو حيوان أو غيرها يَتَفَيَّؤُا من الفي ء، و هو الظل الراجع بعد ما فنى بالشمس، فالظل بعد الظهر يسمى فيئا، و قبل الظهر لا يسمى ذلك ظِلالُهُ أي ظل ما خلق اللّه من شي ء، يعني يتراجع ظل كل شي ء عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ أي عن الطرفين، فهذا ظل يمتد و يتطاول نحو اليمين فيما إذا طلعت الشمس، و ذلك ظل يمتد و يتطاول نحو اليسار فيما إذا مالت الشمس عن دائرة نصف النهار، و مشهد الظلال مشهد مثير يوحي بمعنى الحياة المتحركة، فالظل يمتد و يتقلص و ينعدم دلالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 223

على حركة الكون دائبا سريعا، فمن يا ترى سخر هذا المتحرك ليسير من هنا و هناك؟ أو ليس هناك إله له؟ أو ليس أن الإله الذي يحرك هذا الفلك العظيم وسيع القدرة و يقدر على كل شي ء؟

و لعل ذكر «اليمين» مفردا و «الشمائل» جمع «شمال» جمعا، لنكتة معنوية هي أن الخير من جنس واحد، فهو كالواحد، دون غيره فهو كأجناس، فاليمين لأنه أشبه بالخير جاء مفردا، و الشمال لأنه أشبه بمقابله جاء جمعا، كما قال سبحانه: (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) «1» و (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) «2» و كما نشاهد من أن الراحة شي ء، و الأتعاب أشياء، و الصحة شي ء و الأمراض أقسام، أو لأن الفي ء دائما يفي ء نحو الشمال، فإن الشمس إذا طلعت وقع لكل شاخص ظل طويل نحو المغرب، فيأخذ في النقصان قليلا قليلا، إلى أن يبلغ ناحية المشرق و هكذا يرجع حتى تغرب الشمس فكل هذا حركة للظل نحو الشمال، فالحركة نحو اليمين

مرة واحدة و نحو الشمال طول اليوم سُجَّداً جمع ساجد، أي أن تلك الأشياء كلها بظلالها خاضعة لِلَّهِ كما قال سبحانه في آية أخرى: (وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ) «3» و الخضوع هو السجود ففي الإنسان بشكل و في غيره بشكل آخر وَ هُمْ داخِرُونَ أي خاضعون كمال الخضوع من دخر، بمعنى صغر و خضع.

فإن السجود قد يكون مع كمال الصغار، و قد يكون بدونه، و إنما

______________________________

(1) المائدة: 17.

(2) البقرة: 258.

(3) الرعد: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 224

[سورة النحل (16): الآيات 49 الى 50]

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

جي ء بجمع العاقل لوجود العقلاء فيهم فالتغليب أورث ذلك، لأنه حيث وصفهم بالسجود الذي هو فعل العقلاء ناسب الإتيان بجمع العاقل، أو لأن الأشياء تعقل و إن لم يكن لها كعقول البشر، كما قال سبحانه: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) «1» [50] و إذ ذكر سبحانه إن الأشياء بظلالها تسجد لله تعالى، بيّن سجود الأحياء بصورة خاصة، تخصيصا بعد التعميم لأهميتها، و ربما يقال أن «سجدا» في الآية السابقة ترجع إلى الظلال، فيما في هذه الآية ليس تأكيدا بل تأسيسا وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ أي يخضع غاية الخضوع ما فِي السَّماواتِ من الطيور و نحوها وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تدب في الأرض أو في البحر، فإن «دب» بمعنى مشى، و السباحة نوع من المشي وَ الْمَلائِكَةُ يسجدون لله، فما بال الإنسان لا يسجد لله سبحانه في هذا الجو الذي يسجد له كل جماد و نبات

و حيوان و ملك؟

وَ هُمْ أي أن الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ في سجودهم لله.

[51] يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ و الإتيان بهذا البيان زيادة في الخوف، فإن خوف الشخص بما يصيبه من فوقه أكثر، فهم يخافون عقاب اللّه أن يشملهم من فوقهم، و أما لبيان أن الخوف من اللّه الذي هو فوقهم- فوقا منزليا لا مكانيا- و من المعلوم أن الخوف من ذي الرتبة العالية

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 225

[سورة النحل (16): الآيات 51 الى 52]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)

أكثر من المساوي و نحوه وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فليس امتثالهم خاصا بالسجود، بل إنهم يفعلون كل ما يأمرهم به سبحانه، و على هذا فخوفهم من عظمته سبحانه، فإن الشخص يخاف العظيم و يهابه، و إن عرف أنه لا يعذبه و لا يؤذيه، أو أن خوفهم من أن يعصون فيعاقبهم، كما عوقب «فطرس».

[52] و إذ تحقق خضوع الكون للّه الواحد، فما بال هؤلاء الكفار المشركين يتخذون آلهة متعددة وَ قالَ اللَّهُ بلسان أنبيائه عليهم السّلام و أصفيائه، للبشر لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ هذا نهي عن أقل التعدد، و المراد به المثال، فالأكثر لا يصح بطريق أولى، و لأن من أخذ الأكثر فقد أخذ الإثنين، و لا مفهوم للعدد هنا من حيث الزيادة، بل من حيث النقيصة، و جي ء باثنين للاتساق مع قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة هو الخوف، أي خافوا مني وحدي، و تقديم «إياي» لإفادة الحصر.

[53] و كيف تتخذون آلهة متعددة وَ الحال

أن لَهُ وحده ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالكل ملكه و من خلقه ظرفا و مظروفا، و قد تقدم أنه قد يطلق الظرف و يراد به الأعم، كما قد يطلق المظروف و يراد به الأعم وَ لَهُ وحده الدِّينُ أي الطريقة التي يتبعها الإنسان لسعادته واصِباً من وصب، بمعنى دام و وصل، أي واصلا من السابق إلى هذا الوقت، فلا دين صحيح إلا دينه، أو المراد بالدين «الجزاء» أي أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 226

[سورة النحل (16): الآيات 53 الى 55]

وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

الجزاء بيده نحو «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» دائما، فليس الجزاء بيد غيره، فهو إله واحد، و مالك واحد، و الدين له وحده فكيف تتخذون إلها غيره و تجعلون له شريكا؟ و بعد هذا كله أَ فَغَيْرَ اللَّهِ من الأصنام و شبهها تَتَّقُونَ و تخشون أيها المشركون، و هو استفهام استنكاري للتوبيخ و التقريع.

[54] ثم بعد مقام الألوهية و الملكية و الدين وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أن جميع ما يرتبط بكم من النعم إنما هو من اللّه سبحانه وحده، فله النعم وحده- أيضا- ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ و نزل بكم الضُّرُّ من خوف أو مرض أو فقر أو شدة فَإِلَيْهِ سبحانه- وحده- تَجْئَرُونَ أي تتضرعون لكشفه و إزالته، فهو وحده كاشف ضركم، أيضا، فأين تذهبون باتخاذ غيره إلها؟

[55] و بعد ذلك كله إن الإنسان لمشرك كفور ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي دفع الضرر الذي وصل إليكم، و حيث أن الضرّ

كأنه شي ء يحيط بالإنسان، عبّر عن دفعه بالكشف، فكأن الإنسان مستور تحته ثم يظهر، إذا رفع عنه إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ فجأة و من غير ترقب، جماعة منكم أيها البشر بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجعلون له شريكا.

[56] إنهم يشركون لمقابلة نعمتنا بالكفران، من باب «اتق شر من أحسنت إليه» و «يجزي كما يجزي سنمار» إنهم يشركون لِيَكْفُرُوا اللام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 227

[سورة النحل (16): آية 56]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)

للمقابلة أي أن شركهم لقصدهم الكفر بِما آتَيْناهُمْ أي أعطيناهم من النعم، كأنهم لا غرض لهم إلا مقابلة النعم بالكفران فَتَمَتَّعُوا أيها الكفار، تلذذوا بمتاع الحياة و هو أمر قصد به التهديد و الوعيد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أعمالهم، في القبر أو القيامة، أو في الدنيا، فإن الانحراف عن مناهج اللّه سبحانه يوجب الدمار و الانهيار.

[57] إن الانحراف في عقيدة هؤلاء المشركين أوجب الانحراف في عباداتهم و سلوكهم الاجتماعي، فهم يجعلون لغير اللّه بعض ما رزقهم اللّه سبحانه، فينذرون للأصنام، كما يئدون البنات خوف العار فهم يعبدون غير اللّه، و ينذرون لغير اللّه، و يخرقون منهاج اللّه وَ يَجْعَلُونَ أي يجعل هؤلاء المشركون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لما لا يعلم المشركون بواقعه و حقيقته- الأصنام- فضمير الجميع للمشركين، و عائد «ما» محذوف، أو المراد «للأصنام التي لا تعلم هي» و جي ء بلفظ العاقل لها، تماشيا مع زعم المشركين أنها تعقل، و قد تكرر مثل ذلك في القرآن الحكيم نَصِيباً و قسما مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأنعام و الحرث فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا و عجيب أن يجعل رزق اللّه لغير اللّه، فقد كانوا يتقربون إلى الأصنام بالذبائح

و النذورات تَاللَّهِ أي و اللّه و «التاء» تأتي لقسم يستغرب فيها لَتُسْئَلُنَ أيها المشركون في الآخرة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 228

[سورة النحل (16): الآيات 57 الى 58]

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58)

كانوا ينسبون أعمالهم إلى اللّه سبحانه كما قال سبحانه في آية أخرى:

(آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) «1»؟

[58] وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ فكان المشركون يقولون إن لله البنات سُبْحانَهُ إنه منزّه عن ذلك، منصوب بفعل مقدر أي أسبحه سبحانه وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الأولاد البنين دون البنات، فهم يرون أن من نصيبهم الذكور، و من نصيب اللّه البنات، و هذا تجرؤ مزدوج: جعل الأولاد لله و كونهم بناتا، بينما أن الذكور من حصتهم وحدهم- في زعمهم- [59] وَ إلى أي حدّ أنهم يكرهون البنات- التي جعلوها لله سبحانه- إلى حد أنه إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى بأن أتت امرأته الحامل بمولود مؤنث، و هي بشارة حقيقية، فإن الأولاد بنين و بنات نعم من عند اللّه سبحانه ظَلَ أي استمر من ذلك الوقت إلى الليل، فإن ظل بمعنى بقي إلى الليل وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي مائلا إلى السواد، من كثرة الكراهية و الغضب، فإن الإنسان إذا غضب غضبا شديدا توجه الدم الكثير نحو خارج بدنه، يحمل معه الروح، لدفع ذلك المكروه، و حيث أن جلد الوجه رقيق تظهر آثار الدم المتراكم عليه، و لون الدم لدى التراكم مائل إلى السواد وَ هُوَ كَظِيمٌ أي ممتلئ غيظا و غضبا، لكنه يكظم غيضه، لما لا يجد له منفذا.

______________________________

(1) يونس:

60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 229

[سورة النحل (16): الآيات 59 الى 60]

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

[60] يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستتر من أهله و عشيرته حياء و خجلا مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من ولادة البنت له، و يأخذ يتفكر في أمر البنت أَ يُمْسِكُهُ أي هل يبقي المولود- البنت- عَلى هُونٍ أي ذل و هوان، لنفسه، أو للبنت أَمْ يَدُسُّهُ أي يدفن المولود- البنت- حيا فِي التُّرابِ فقد كانوا يدفنون البنات و يقولون نعم الصهر القبر، و لهم في ذلك قضايا، و إليه الإشارة بقوله سبحانه: (وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) «1» أَلا فلينتبه السامع ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الحكم حكم هؤلاء بأن لله البنات- التي يكرهونها هذه الكراهية الشديدة- و لهم البنين- وحدهم لا يشركهم فيهم اللّه سبحانه- كيف اختاروا له الشي ء القبيح- في نظرهم- و لهم الأفضل؟

[61] لقد كان الكفار يجعلون اللّه سبحانه مثلا للشخص القبيح- في نظرهم- فهو أب البنات، و يجعلون أنفسهم مثلا للشخص الحسن، فهم آباء البنين، و لكن الواقع بخلاف ذلك و لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم المشركون الذين لا يؤمنون بالتوحيد- للتلازم بينهما- و قد كان عدم إيمانهم بالجزاء على أعمالهم السيئة و أقوالهم القبيحة جرأتهم على ما يقولون و ينسبون إليه سبحانه من اتخاذ البنات مَثَلُ السَّوْءِ فإن الإنسان السي ء عقيدة و عملا يمثل له بالمثل السيئ فيقال عن اليهود-

______________________________

(1) التكوير: 9 و 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 230

[سورة

النحل (16): آية 61]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61)

مثلا-: كمثل الحمار، و عن بلعم: كمثل الكلب وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى كالنور، في (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ) «1» فإن أعلى الأمثلة الخيّرة الجميلة له سبحانه، لأنه المنزّه عن كل دنس وَ هُوَ الْعَزِيزُ القاهر الغالب الذي لا يمتنع عليه شي ء الْحَكِيمُ في أفعاله، فعدم أخذه لهؤلاء الكفار عاجلا، إنما هو بمقتضى الحكمة، لا لأنه عاجز لا يقدر.

[62] إن اللّه سبحانه بحكمته يمهل العاصين لعلهم يرجعوا، و من علم أنه لا يرجع فإنه يمهله ليتم عليه الحجّة و يأتي الوقت المحدّد له حسب الحكمة البالغة وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ بأنواع العقاب النَّاسَ العاصين بسبب ظلمهم بالكفر و العصيان ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض- المعلوم من السياق- مِنْ دَابَّةٍ تدب إما هلاك الإنسان فلأنه ظلم و إجرام، و إما هلاك سائر الدواب فلأنها خلقت لأجل الإنسان «كما

في الحديث القدسي: خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلي»

فإذا هلك الأصل هلك الفرع، أو المراد بالدابة «الإنسان الظالم» و التعبير ب «ما» عنهم للإهانة، و العموم المقصود هو الإنسان- على هذا- لأنه هو محور الكلام، و من القاعدة أن العموم ينصب على المحور، فإذا قال الصياد: ليس في هذه الصحراء شي ء، أراد ما يصاد- لا الحطب- بخلاف ما لو قال الحطّاب: ليس فيها شي ء، فإنه يريد الحطب- لا الصيد- وَ لكِنْ لا يؤاخذهم سبحانه بأعمالهم

______________________________

(1) النور: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 231

[سورة النحل (16): آية 62]

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ

أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

الظالمة بل يُؤَخِّرُهُمْ أي يؤخر إهلاكهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سمّي عنده، أي يمهلهم إلى وقت سماه و أجل حدّه، و هو الوقت المضروب لهلاكهم و موتهم.

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي وقت هلاكهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً لا يطلبون التأخير- لعلمهم بأنه لا يفيد- و المراد بالساعة، المدة من الزمان قليلة كانت أم كثيرة وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يطلبون تقديمه، فإن كان وقت هلاكهم الساعة الرابعة فجاء أجلهم ليصل إليهم في ذلك الوقت، لا يتقدم بأن يميتهم في الساعة الثالثة، و لا يتأخّر بأن يميتهم في الساعة الخامسة- و قد مرّ تفسير هذه الآية سابقا.

[63] وَ يَجْعَلُونَ أي يجعل هؤلاء المشركين لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ كالبنات و الشركاء و أمثال ذلك مما يكرهونه هم بأنفسهم، فقد كانوا يكرهون البنات و يكرهون الشركاء وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي تخبر ألسنتهم بالكذب، في نسبة الحسن- أي البنين- إلى أنفسهم، و إنما قال «و تصف ألسنتهم» للإشارة إلى أن وصفهم لفظي لا عمقي فهم لا يعتقدون بذلك عن صميم القلب و إنما ذلك لفظ يقولونه- تقليدا و بلا حجة- أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى هذا بدل عن «الكذب» أي أن قولهم لنا الصفة الحسنى- و ذلك أن لنا البنين- كذب و صفته ألسنتهم. و كان تسمية ذلك و صفا باعتبار أنهم كانوا يقولون أن اللّه أب البنات، و نحن آباء البنين، فقد كانوا يصفونه سبحانه بما هو قبيح لديهم، و يصفون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 232

[سورة النحل (16): آية 63]

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)

أنفسهم بصفة هي حسنة لديهم، و إنما ذكر

ذلك بعد ما سبق من قوله سبحانه «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ» لأمرين:

الأول: إن هذا عام يشمل البنات و غيرها.

و الثاني: لترتيب الحكم عليهم بالنار لمقالتهم هذه- هنا- لا جَرَمَ أي حقا، و من هذه الجهة- و قد تقدم تفصيل هذه الكلمة- أَنَّ لَهُمُ النَّارَ جزاء لقولهم ذلك و نسبتهم إليه سبحانه ما لا يليق به وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي معجّلون إلى النار، يلاقونها سريعا، من الفرط بمعنى ما يسبق،

ففي الدعاء على الطفل الميت: «اللهم اجعله لأبويه و لنا سلفا و فرطا و أجرا»

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني فرطكم على الحوض» «1»

[64] و القوم ليسوا بأول أمة كذّبت و عصت، فقد كانت عادة الأمم السالفة أن تكفر و تأثم- و كان هذا تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما يلاقيه من تكذيبهم و أذاهم- تَاللَّهِ التاء للقسم، و هي كثيرة الإتيان في الأمر المستغرب لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول اللّه فخالفوا الرسل و لم يطيعوا و زين لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فكان الكفر و الانحراف في نظرهم أحسن من الإيمان و الاستقامة، فتركوا الرسل و اتبعوا الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي أن الشيطان متولي أمورهم و هم يتبعونه الْيَوْمَ في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 109.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 233

[سورة النحل (16): الآيات 64 الى 65]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

الآخرة، و يتبرأ كل من

الشيطان و تلك الأمم بعضهم من بعضهم إذ يقول لهم (فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) «1» و قوله «اليوم» و قد انقضى ذلك اليوم- إذ الكلام حول الأمم السالفة- من باب حكاية حال ماضية، نحو (وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) «2» [65] و هناك تلبيسات من الشيطان و اتباع له، منهم المشركون الذين جعلوا لله البنات، و منهم أهل الكتاب الذين ضلوا، فإنزال هذا الكتاب للفصل بين قضاياهم و بين الحق من الاختلافات، هل هو مع إحداها أو مخالف للجميع؟ وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ أي للناس- المفهوم من السياق- الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فمثلا اختلفوا في التوحيد و الشرك، و كون اللّه أبا أم لا، و إنه جسم أم ليس بجسم، و إن الشي ء الفلاني حرام أم حلال؟ و هكذا وَ هُدىً أي أن القرآن يهديهم إلى الحق، بالاضافة إلى بيان الحق من الاختلافات وَ رَحْمَةً سببا للرحمة فإن من تمسك بالقرآن رحمه اللّه سبحانه و تفضل عليه بالغفران و النعمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم هم المستفيدون، و إن كان فيه صلاحية الهداية و الرحمة لكل البشر.

[66] ثم يرجع السياق إلى تعداد نعم اللّه الدالة على وجوده و علمه و قدرته و لطفه و سائر صفاته وَ اللَّهُ وحده أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من جهة العلو

______________________________

(1) إبراهيم: 23.

(2) الكهف: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 234

[سورة النحل (16): آية 66]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66)

ماءً أي المطر فَأَحْيا بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فإنّ موت الأرض

جدبها و عدم النبات و حياتها الخصب و النبات، و إنما سميت حياة لأن الأرض عند نزول المطر تشتغل و تعمل و هما من آثار الحياة بخلاف الأرض حين انقطاع المطر فهي جامدة راكدة إِنَّ فِي ذلِكَ الإحياء بعد الموت لَآيَةً حجة و برهانا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و تعقل، فإن السماع كثيرا ما يكون كناية عن ذلك، بعلاقة السبب و المسبب.

[67] وَ إِنَّ لَكُمْ أيها البشر فِي الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً أي عظة و اعتبار كأن الإنسان يعبر من الجهل و الضلالة- بسببها- إلى العلم و الهدى، كالذي يعبر من هذا الشاطئ إلى ذاك، و إنما كانت عبرة لأنها تدل على قدرة اللّه و بديع صنعه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي بطن كل واحد منها، فإنه يجوز إرجاع ضمير المفرد إلى الجمع، باعتبار كل واحد، كما قال سبحانه: (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) «1» مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ هو المدفوع للحيوان وَ دَمٍ فإن الغذاء إذا دخل الجسم تحول إلى سائل غليظ أو رقيق في المعدة، ثم تشرب الكبد صفوه و تبقى في الكرش ثقله، ثم إن الكبد تحوّل الصفو إلى الدم و هو يصعد إلى الجسم كله ليغذيه و يصير بدل ما يتحلّل من الأجزاء- بفعل

______________________________

(1) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 235

[سورة النحل (16): الآيات 67 الى 68]

وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68)

الحرارة الخارجية و الداخلية- و إذا وصل الدم إلى غدد اللبن في الضرع تحوّل

إلى اللبن لَبَناً خالِصاً عما سواه فليس مخلوطا بشي ء من فرث أو دم فقد تخلص اللبن من الفرث أولا، و من الدم ثانيا، فهو خارج من بينهما سائِغاً يسوغه الإنسان، فلا يؤذي الحلق و الحنجرة لِلشَّارِبِينَ فهل هناك غيره سبحانه يعمل هذا؟

[68] وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ أي من كل واحد من تلك الثمرات- على ما تقدم في الآية السابقة- سَكَراً أي خلا- كما في بعض التفاسير- وَ رِزْقاً حَسَناً فمن جعل الثمرة؟ و من جعلها بحيث تتقبل أي تحوّل خلّا، أو طعاما حسنا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً دلالة على وجوده سبحانه و صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يعملون عقولهم ليدركوا الحقائق و ينتقلوا من الأثر إلى المؤثر.

[69] و من آياته سبحانه، العسل بتلك الكيفية العجيبة التي ينتجه النحل وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهمها إلهاما خفيا، فإن اللّه سبحانه هو الذي جعل الحيوانات تشعر بما عندها من الشعور و الإدراك أَنِ اتَّخِذِي و إنما أنث لأنه للجنس مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فإن بعضها تتخذ بيتها في الجبل وَ مِنَ الشَّجَرِ و بعضها تتخذ بيتها من الشجر وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ أي يجعلونه عريشا كالكروم و السقوف، و ذلك لأن النحل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 236

[سورة النحل (16): آية 69]

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

تتخذ في الأعالي بيتها ليسهل لها المراودة إليها، و يكون أبعد عن تناول العابثين.

[70] ثُمَّ كُلِي يا أيتها النحل، أصله «أكل» حذفت الهمزة تخفيفا، و كذا «مر» من «أمر» مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ النقية، من أي نوع منها شئت فَاسْلُكِي

في ذهابك إلى الثمار و رجوعك إلى بيتك سُبُلَ رَبِّكِ الطرق التي جعلها اللّه سبحانه في الهواء و هذا للإشارة إلى المنظر الجميل الذي يولده ذهاب النحل و إيابها، فيراها الإنسان ذاهبة عائدة لتصنع العسل فيعطف قلبه و تتأثر بالحنان أعصابه ذُلُلًا جمع ذليل، أي مذللة موطئة هيّنة، و هي حال عن السبل، أي الطرق في حال كونها مذللة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها أي بطون النحل شَرابٌ طيب، هو العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فمنه شديد البياض، و منه أصفر، و منه مائل إلى الحمرة فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ فإن العسل ينفع من الأمراض الباردة، فليس المراد أنه شفاء لجميع الأمراض، و إنما هو من قبيل القضايا الطبيعية، كقولك الشي ء الفلاني مليّن لا تريد أنه في كل مزاج و طبع و حالة، بل تريد أن طبيعته كذلك.

إِنَّ فِي ذلِكَ الشأن المتعلق بالنحل، من صنع بيوتها بتلك الهندسة المسدسة، و ذهابها و إيابها و شربها رحيق الأزهار، و إعطائها العسل الملوّن الشافي لَآيَةً دلالة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الآثار و يستدلون بها على وجود المؤثر و علمه و قدرته و سائر صفاته، و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 237

[سورة النحل (16): آية 70]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

أردف سبحانه في هذه الآيات نعما جميلة متشابهة في كونها عصيرة الأشياء فالمطر عصير السحاب، و اللبن عصير الفرث و الدم، و السكر و الرزق الحسن عصير الثمار و الأشجار، و العسل عصير النحل، و قد هيأ اللّه سبحانه هذه الأرزاق الطيبة النظيفة للإنسان، من السماء و الأرض، و الجبال و الأشجار، و الطيور و البهائم،

ليشكر الإنسان و يعرف باريه.

[71] و قد جعل اللّه لكم حياة و رزقا، و أزواجا، بعد تلك النعم السابقة، فهل تؤمنون بعد ذلك بالباطل (أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) «1»؟ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ أيها البشر ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم، فحياتكم و موتكم منه وَ مِنْكُمْ أيها البشر مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه و أحقره و هو الهرم الذي يشابه الطفولية في نقصان العقل و القوة، فينحرف، و لعل تسميته «ردّا» لأنه ارتداد إلى حالة الصغر فيعود كما كان لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للعاقبة، أي عاقبة الردة عدم علمه بشي ء لأنه خرف و ذهب عقله، بعد أن كان عالما، يعلم الأشياء، و يعرف الأمور إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمصالح عباده و لذا يفعل بهم هذه الأحوال قَدِيرٌ على ما يشاء من تدبير أمورهم و إماتتهم بعد إحيائهم، و لعل الإتيان بهذه الصفة «و منكم ...» لكسر كبرياء الإنسان و أن يتذكر ما يصيبه بعد القوة و العلم، من الضعف و الجهل، لعلّه يتوب و يئوب ... كما إن نفس تلك الحالة مما تقرب الإنسان إلى الطاعة فقد تحطمت فيه الشهوات،

______________________________

(1) العنكبوت: 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 238

[سورة النحل (16): آية 71]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

و لم يبق منه إلا قلب خافق ضعيف يتأثر سريعا، و يئوب بعد ما عمل المعاصي و الآثام.

[72] وَ اللَّهُ سبحانه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ إن الحي- الذي أشير إليه في الآية السابقة يحتاج إلى الرزق- و نرى أن الأرزاق مختلفة، فمن جعل هذا التفاضل؟ إنه اللّه سبحانه، و

لماذا جعل؟

ذلك لإدارة شؤون الكون فلو لا هذا التفاضل من كان يقوم بالأعمال الخدمية من تنظيف و تصنيع و هكذا؟ و لو لا الأغنياء من كان يزرع الأراضي الشاسعة لتخزين الحنطة و الشعير و سائر المآكل و من كان يجلب الأجناس من البلاد النائية؟ و قد افتكر الجهّال أن يهدموا نظام اللّه سبحانه في التفاضل، فأولدوا- الشيوعية- لكنهم باءوا بالفشل أوّلا- حيث إن المجتمع عاد إلى طبقتين أيضا: الأغنياء و الفقراء، فالأغنياء هم الحزب، و الفقراء هم سائر الناس، و قد أضيف إلى التجار قوة الدولة ليستنزفوا حتى الحبة الأخيرة من كيس الفقير، و لذا يعيش الناس في بلاد الشيوعيين في أتعس حالة، و ذلك ليس من جهة عدم تطبيق النظام، بل من جهة غلطية النظام، و تردّوا إلى الحضيض ثانيا- فلم يكن الإنسان يسمح بأن يعمل ليأكل ثمر عمله غيره، و لذا لجأ التجار الجدد إلى الظلم و الجبر- الديكتاتورية- فاضطهد الشعب، و لم ينتج ذلك عن عمله بكل قواه فتأخر الاقتصاد.

و أقل نظرة إلى البلاد المختلفة في النظام الشيوعي و غير الشيوعي- مع حفظ نسبة كبر الدولة، عند المقارنة- كاف لإدراك هذه الحقيقة المرة، و الإسلام كما لا يرتضي الشيوعية لكونها خطأ، لا يرتضي الرأسمالية لكونها خطأ أيضا، و إنما له نظام خاص لا كهذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 239

و لا كتلك، و المقصود هنا الإشارة إلى أن التفاضل موجود لا محالة حتى عند من يزعم الشيوع و الاشتراك، و إن العمل لأجل إزالته خطأ يعود بأفظع الجرائم و بلا فائدة .. و المراد بالرزق جميع أنواع الاحتياج من مأكل و ملبس و مسكن و غيرها فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا فضلهم اللّه

سبحانه بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يكون هو و إياهم سواء، فهل وجدت أحدا فعل ذلك؟ و إذ لا يرد المثري رزقه على عبيده حتى يتساوون فكيف تجعلون مخلوقات اللّه سبحانه- و هي الأصنام- متساوية له في العبادة و الطاعة؟ إن من لا يستعد أن يكون هو و عبيده متساويين في الرزق، كيف يجوز أن يكون الخالق و المخلوق متساويين في الألوهية؟ قال ابن عباس: يقول: إذا لم ترضوا أن تجعلوا عبيدكم شركاءكم فكيف جعلتهم عيسى إلها معه و هو عبده؟ و نزلت في نصارى نجران ... و «رادّي» من ردّ، اسم فاعل حذف علامة الجمع و هو «النون» للإضافة، و على متعلق ب «رادّي» أي لا يردون على ما ملكت أيمانهم- و هم العبيد- حتى ينتج ذلك أن يكونوا سواء، و لذا جي ء ب «فاء» العطف أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ استفهام إنكاري أي هل يجحد هؤلاء نعمة اللّه على البشر حتى يجعلوا عبيده أمثاله؟ أم لا يجحدون النعمة فكيف يجعلون المنعم و المنعم عليه سواء في الألوهية، و هم لا يرضون التساوي في المال بين السادة و العبيد؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 240

[سورة النحل (16): الآيات 72 الى 73]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73)

[73] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس أنفسكم أَزْواجاً فليست النساء من جنس

آخر، و هذا فضلان، الأول جعل الأزواج، و الثاني كونهن من نفس الجنس، لأن الإنسان بجنسه آلف، و لنوعه أميل، قال الشاعر «كل جنس لجنسه يألف» وَ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ تأنسون بهم، و يكونون عونا لكم، و سببا لامتدادكم في الحياة وَ حَفَدَةً جمع حفيد، و هم أبناء البنات و أبناء البنين، أو الخدم و من يشبهه، أو الأعم منهما، لأن معنى الحافد المسرع إلى الخدمة، فإن كان المراد الأول كان عطفا على البنين، و إن كان غيره كان عطفا في المعنى، أي جعل لكم حفدة وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الأشياء الطيبة من اللذائذ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ استفهام إنكاري أي كيف يؤمن الكفار بالباطل و هو الأصنام وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فإن كفران النعمة أن يعبد الإنسان غير رازقه، و المتفضل عليه، كأن يأخذ الأجر من زيد و يعمل لخالد.

[74] ثم بين سبحانه، كيف أنهم يؤمنون بالباطل وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سواه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً فإن الأصنام لا تملك و لا تقدر أن ترزق أحدا مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً متعلق به «رزقا» أي لا تملك رزقا من السماء، كالمطر، و لا من الأرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 241

[سورة النحل (16): الآيات 74 الى 75]

فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)

كالثمر، و شيئا بيان لرزقا، أي لا يملك أيّ شي ء من رزق السماء و الأرض وَ لا يَسْتَطِيعُونَ

أن يملكوه، لأن الملك بيده سبحانه.

[75] فَلا تَضْرِبُوا أيها الناس لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي الأشباه، و هي الأصنام، فقد كانوا يجعلونها أشباها لله في الألوهية، و يضربون لله المثل بها، فإنك إذا جعلت خالدا قرين زيد، ضربت المثل لزيد بخالد، فقلت، إن شخصا كزيد، و هو خالد يفعل كذا، أو لا يفعل كذا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أن لا مثل له، و لا إله سواه، وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بعدم المثل له، لأنهم ما كانوا يتفكرون، و إلا فلو تفكروا لعلموا ذلك.

[76] و إذ تقدم المثال بالعبيد و السادة في قوله «فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا» يأتي السياق ليبين هذا المثل، بوجه آخر فيقول سبحانه ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للمشركين في اتخاذهم الأصنام شركاء لله سبحانه و إنما بيّن هذا المثل، ليقيسوا عليه أمر الألوهية، فيدركوا خطأ جعلهم الشركاء، فإن الإنسان، ليعرف بالمثل ما لا يعرفه بالبراهين و الأدلة عَبْداً مَمْلُوكاً عطف بيان على المثل لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ مما يقدر عليه السادة من الأخذ و العطاء، و سائر التصرفات، و هنا تنبيه لا بد من الإشارة إليه، و هو أنه إذا وقعت حرب بين المسلمين و غيرهم- و الحرب لا تكون طبعا من جانب المسلمين تعديا- كما قرر في محله، قرر الإسلام أخذ الأسرى، ثم التفدية و الاسترقاق، فالاسترقاق، إنما ينشأ من المتعدين في الحروب، و هذا يبقى رقّا هو و عقبه ما لم يتحرر- و التحرر له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 242

أسباب كثيرة، اضطرارية أو اختيارية، مما لا يبقى العقب رقا غالبا- و قد جعل الإسلام هذا النظام مراعاة لمصالح شتى، منها أن لا يرهق كاهل الدولة بالمساجين، و منها أن يكون الأسراء موزعين حتى يذوب

الكفر و الباطل شيئا فشيئا، و يتعلموا معالم الإسلام، بطبيعة كونهم في بيوت المسلمين و تحت رقابتهم و معاشرتهم، و منها أن لا يتجرأ الكفار على المحاربة و الاعتداء لأن الناس مستعدون للسجن، و لا يستعدون للاسترقاق، و منها توسعة البلاد، و اختلاط الأمم في بوتقة واحدة، و تقدم الحياة و منها غير ذلك، .. و هذا النظام أفضل بكثير من نظام الدول في أسرى الحرب إيجابيا و سلبيا، ثم الرق محترم معال، من قبل مولاه، و إذا صار في شدة أعتقه الإسلام من بيت المال، كما قال سبحانه (وَ فِي الرِّقابِ) «1» و مثل هذا النظام من أصح الأنظمة، إلا أن الرقيق لما كان في الغرب كان بغير هذا الشكل، بل بشكل مزري فظيع- في جميع موارده و مصادره- جاء «لنكولن» ليحرر العبيد و أخذ بعض المسلمين المنهزمين- امام التيار الغربي- هذا التحرر شيئا بديعا، فجعلوا يرددونه من غير وعي و إدراك، حتى أن جماعة من المتنورين، قالوا إن الإسلام أراد تحرير العبيد تدريجيا و لكن الظروف لم تسمح له، تمشيا مع خطة «إذابة الإسلام في بوتقة الغرب» كما صنعوا بأحكام كثيرة هذا العمل المشين، و لذا كان من اللازم أن نقول: إن النظام الإسلامي في الرقيق، و في غيره، باق على حاله، و لم يتبدل من الإسلام شي ء أبدا و من يريد التبدل، فهو بين جاهل بالأنظمة الإسلامية و فلسفتها و جمال أحكامها أو معاند، و من يفعل ذلك، فقد أخذ معول

______________________________

(1) البقرة: 178.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 243

[سورة النحل (16): آية 76]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا

يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

الهدم لجميع أحكام الإسلام، إذ لو فتح هذا الباب في حكمه، لكان منفتحا في كل حكم، فما الفارق؟ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً و هم السادة الذين رزقهم الله رزقا حسنا، بلا وساطة سيد فإن الرزق كلما كان أقل واسطة كان أهنأ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً لأنه مالك لا يخشى أحدا، و ليس عليه رقيب فيما يعطيه هَلْ يَسْتَوُونَ أولئك العبيد، و هؤلاء السادة؟ و إنما أتى بصيغة الجمع لأن المراد ب «عبدا» و «من» الجنس؟ و إذا كان الجواب، أنهما لا يتساويان قيل لهم: فكيف تساوون بين الله المالك، و بين الأصنام المملوكة؟ فتعبدون كليهما على حد سواء، و تجعلون للأصنام، ما للإله من الألوهية و الربوبية؟

الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده لا شريك له، و ليس حمد لغيره فإنه الإله الواحد المستحق للحمد، دون سواه، بَلْ أَكْثَرُهُمْ و هم المشركون لا يَعْلَمُونَ هذه الحقيقة، و هي أن الحمد له وحده و لا يستحق ما سواه الحمد.

[77] وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا آخر لبيان عدم استواء الله سبحانه بالأصنام، ليعرف المشركون من المثل خطأ طريقتهم الاشتراكية رَجُلَيْنِ بدل مثلا أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا ينطق لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من التفهيم، و التفهم، لأنه عاجز عن الكلام- و الغالب أن الأبكم أصم- وَ هُوَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 244

[سورة النحل (16): آية 77]

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77)

أي هذا الرجل الأبكم كَلٌ أي ثقل و وبال، يقال كلّ عن الأمر، إذا ثقل عليه عَلى مَوْلاهُ

وليه المتولي لأموره أَيْنَما يُوَجِّهْهُ مولاه لا يَأْتِ الأبكم بِخَيْرٍ فلا منفعة لمولاه فيه، فإنه أينما يبعثه لقضاء حاجة من حوائجه، لا يقدر على قضائها إذ لا يتمكن على التفهيم، و التفهم و هما عماد قضاء الحوائج هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي هذا الأبكم الذي صفته ذلك وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فهو ذو كلام واضح و بالإضافة إلى ذلك يأمر بالحق و العدل فهو كامل في ذاته، مكمل لغيره، مقابل الأبكم الذي لم يكن كاملا لذاته و لا قادرا على قضاء الحوائج ليكمل نواقص غيره وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق سوّي لا ينحرف كما ينحرف الأبكم لعدم تفهمه عن الناس، ليمشي مستقيما، بل يمشي حسب جهله فيضل و ينحرف؟؟ و بالطبع يكون الجواب: كلا، إنهما لا يتساويان، و هنا يأتي التقريع فكيف تساوون مع الله الأصنام، و النسبة بينهما أبعد من النسبة بين الأبكم و الناطق؟

[78] وَ إذ قد تحقق أنه لا شركة في الألوهية، و إنه لا إله إلا إله واحد، فلنعلم أن لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فما غاب عن الحواس، لعدم وجوده أو لوجوده، و لكن الإنسان لا يدركه لضعف حواسه، إن جميع ذلك لله، فإنه القادر على إيجادها، كما أنه هو القادر على الموجود فيها بالتصرف في شؤونها، و هي تحت سلطة الله سبحانه، و يعلم جميع مزاياها، فهو إله واحد مالك عالم، و أمر الآخرة بيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 245

[سورة النحل (16): آية 78]

وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ أي ساعة الحشر و وقت القيامة، أمره و إيجاده، و

إنفاذه إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ فهو في مثل هذا الوقت القليل يأتي به إن شاء، و اللمح هو الطرف أَوْ هُوَ أَقْرَبُ من ذلك، و الترديد للإيضاح في التشبيه، فإذا قلت: زيد كالأسد احتمل في القوة، أو في القتل، أو في الشجاعة، فاذا قلت: أو هو أشجع أفاد إنك قصدت الشجاعة، ثم أن لمح البصر لا بد له من زمان، و الأقرب منه أن يكون زمانه نصف ذلك الزمان، و نحوه إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و من قدرته يأتي بالساعة في أي وقت شاء، سريعا بدون حاجة إلى تعب و تهيئة مقدمات، فليخضع الإنسان لهذا الإله المالك، العالم، الذي بيده الجزاء و الحساب و لا يجعل له شريكا.

[79] ثم يرجع السياق، ليعدد جملة أخرى من النعم، و كان الفصل بين كل جملة و جملة بأمور مرتبطة خارجة عن صميم النعم، للايقاظ و التفنن، كما هو أسلوب البلغاء في الكلام، فإن الكلام ذا الوقع الواحد، يوجب الكلل و الملل وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ أيها البشر مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فمن يا ترى، يقدر على هذا الإخراج بالأجهزة و اللوازم التي جعلها في داخل الرحم إلى فم المخرج؟ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً فإن الإنسان جاهل محض عند الولادة وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ السمع يراد به الجنس، و الاختلاف بين الألفاظ بالجمع و المفرد للتفنن، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، أي أنه تفضل عليكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 246

[سورة النحل (16): الآيات 79 الى 80]

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ

جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80)

بالحواس لتستقوا بها المعلومات، و بالقلب لتعوا الأشياء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا نعمه سبحانه.

[80] أَ لَمْ يَرَوْا ألم ينظروا و يتدبروا إِلَى الطَّيْرِ المراد به الجنس و لذا جي ء له بالحال جمعا، مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ إنه تشبيه بالشي ء المسخر الذي يجي ء و يذهب لمصلحة الذي سخره فإن الإنسان يرى الطير يجي ء و يذهب و يعلوا و يسف في وسط السماء، و المراد بها جهة العلو ما يُمْسِكُهُنَ أي ما يحفظهن من السقوط على الأرض إِلَّا اللَّهُ سبحانه، بما جعل في الكون من نواميس، ففي داخل الطير ناموس، و في الهواء ناموس، يتعاونان على تحليق الطائر، فمن جعل هذه النواميس غيره سبحانه؟ إِنَّ فِي ذلِكَ الإمساك لئلا يسقط لَآياتٍ دلالات على عظيم القدرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ باللّه، أما غير المؤمن فإنه لا يتفكر حتى تنفعه الآيات فتخصيص المؤمنين، لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[81] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً محلا للسكنى و الاطمئنان، فجعل الأرض بحيث تقبل السكنى، و تهيئة المجتمع بحيث يكون الإنسان في محله مطمئنا، نعمتان عظيمتان، و الذين عندهم علم الجيولوجيا يقولون: إن الإنسان لا يتمكن من الاستقرار هناك- لعدم الجاذبية- و المشردون الذين لا مأوى لهم، يطمئنون فيه، يعلمون قدر هذه النعمة العظيمة، و قد تبادر إلى الذهن من هذه البيوت، الأبنية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 247

[سورة النحل (16): آية 81]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ

لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)

وَ هناك قسم آخر من البيوت، فإنه سبحانه قد جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ إما المراد الجلد بالذات، أو الأعم منه و من الشعر، فإن الشعر أيضا «من جلد» بُيُوتاً هي الخباء تَسْتَخِفُّونَها تطلبون خفتها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي وقت ارتحالكم من مكان إلى مكان من ضعن بمعنى ارتحل وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ في مكان، فإنها سهلة النصب و التقويض فإن أهل الصحراء يطلبون الماء و المرعى فينزلون هنا و هناك، و هذه الأخبية سهلة لهم في النصب و الطي و الحمل وَ جعل لكم مِنْ أَصْوافِها أي صوف الأنعام و هي للضأن وَ أَوْبارِها جمع وبر، و هو للإبل وَ أَشْعارِها جمع شعر، و هو للماعز أَثاثاً و هو كل ما يفرش و يلبس، و يستعمل في مثل هذه الشؤون وَ مَتاعاً آلة للتمتع بالبيع و الشراء و سائر الشؤون التي لا تسمى «أثاثا» إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإن هذه تبقى مدة و ليست تفنى سريعا.

[82] وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ أيها البشر مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي أشياء تستظلون بها في الحر و البرد، فمن جعل الأبنية و الأشجار بحيث يمنع الشمس عن النفوذ فيها، فلو كانت جميعها كالزجاج، كان الإنسان يتأثر و يتأذى من حر الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع «كن» أي مواضع تسكنون بها من كهوف و بيوت تنحتون من الجبال للمسكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 248

[سورة النحل (16): الآيات 82 الى 83]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83)

وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال، و هو اللباس، كالقميص و نحوه تَقِيكُمُ من وقي يقي بمعنى

حفظ، أي تحفظكم تلك الألبسة من الْحَرَّ كما تقيكم من البرد، و ذكر «الحر» من باب المثال، كما تقول اقرأ «قل هو اللّه» أو قل «بسم اللّه» تريد جمع السورة و الآية، و لعل تخصيص الحر بالذكر دون البرد، لأن الحر هو الشائع عند أهل الحجاز، فبلادهم بلاد حارة وَ جعل لكم سَرابِيلَ تَقِيكُمُ أي تحفظكم من بَأْسَكُمْ أي الحروب، كالدروع و نحوها، فمن يا ترى خلق القطن و الكتان و الحرير و الصوف، ليستعملها الإنسان في سرباله؟

و من يا ترى خلق الحديد و جعله خاضعا للنار، حتى تصنع منه الدروع، و نحوها؟ إنه هو اللّه وحده لا شريك له كَذلِكَ أي كما جعل لكم هذه الأشياء يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بأن يتفضل عليكم في سائر حوائجكم التي هي لا تدخل تحت الإحصاء- في مختلف دروب الحياة المعقدة- لَعَلَّكُمْ لكي تُسْلِمُونَ للّه سبحانه، و تخضعون لإرادته.

[83] فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن التسليم للّه سبحانه فلا يضرك يا رسول اللّه ذلك، إذ إنما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ الواضح، و قد فعلت ذلك.

[84] إن الكفار لا ينكرون ما ينكرون لجهلهم و عدم معرفتهم و إنما يجحدون اللّه و آياته، تعنتا و عنادا إنهم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ الدالة على وجوده،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 249

[سورة النحل (16): الآيات 84 الى 85]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

و سائر صفاته ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي ينكرون كونها من اللّه سبحانه، و يتخذون الكفر و الشرك طريقة لأنفسهم وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ و إنما جعل الكفر لأكثرهم، لأن منهم من لم

تتم عليه الحجة، فقوله «يعرفون» بهذه القرينة صفة لمن قامت لديه الحجة لا لجميعهم.

[85] ثم يرجع السياق إلى موقف الكفار يوم القيامة وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ نَبْعَثُ أي نحضر للشهادة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد على الكفار بأنهم كفروا و أشركوا و عصوا، و لعل المراد بالشهداء- هنا- النبيون بقرينة أنه لكل أمة شهيد و ما سيأتي من إشهاد الرسول على الكفار في زمانه، و هناك الشهيد يتكلم بما علم من أعمال القوم و معتقداتهم، و يظن الكفار أنهم كالدنيا يتمكنون من المغالطة و التهريج، ليبرءوا ساحتهم و لكن ليس هناك كذلك ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الكلام و الدفاع، في هذا الموقف، فإن للقيامة مواقف، لكل موقف شأن، و لفظة «ثم» للترتيب في الكلام، لا في الخارج- كما قرر في الأدب- وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقال استعتب زيد، أي أرضي من العتبى بمعنى الرضا، أي لا يسترضون و لا يستصلحون، كما كان يفعل بهم في الدنيا فليس هناك أحد يقول لهم: أرضوا ربكم بإطاعة أوامره، إذ ليست الآخرة دار تكليف.

[86] و في ساحة القيامة يرى الكفار العذاب، و قد جرت العادة في الدنيا أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 299

[سورة النحل (16): آية 86]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)

أهل السجن لما يرون السجن يستنقذون بالناس، و كثيرا ما يوجد من ينقذهم، و لكن الآخرة ليست كذلك وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم، أو غيرهم بالكفر و المعاصي الْعَذابَ المهيئ لهم فاستنقذوا لم يفدهم ذلك، فإنه لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ

العذاب تخفيفا في الكم و الزمان، أو الكيف و المقدار وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون، كما كان المجرم في الدنيا يمهل و يؤجل أمره بالوسائط و نحوها، حتى يجد مخرجا.

[87] و هناك في ساحة المحشر، يرى المشركون بعض الآلهة التي كانوا يعبدونها و يشركون باللّه بسببها، كالمسيح عليه السّلام، و الملائكة، و علي عليه السّلام وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا باللّه شُرَكاءَهُمْ أي الشركاء الذين زعموا أنهم شركاء للّه، و هنا يضاف الشركاء إليهم، لا إلى اللّه سبحانه قالُوا أي المشركون مشيرين، إلى الشركاء يا رَبَّنا هؤُلاءِ الذين في ساحة المحشر شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا في الدنيا نَدْعُوا هم مِنْ دُونِكَ و كأنهم يريدون بذلك تخفيف الأمر على أنفسهم، ليأتوا بعنصر جديد في معرض المحاكمة، فإن المجرم المراوغ دائما يأتي بعنصر جديد في المحاكمة، ليصرف وجوه الناس إليه، و ليتحمّل معه شيئا من ثقل المحكمة، و عند ذاك يفزع الشركاء من هذه المفاجئة المدهشة فَأَلْقَوْا أي الشركاء إِلَيْهِمُ إلى المشركين الْقَوْلَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 251

[سورة النحل (16): الآيات 87 الى 89]

وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

يلقون إليهم هذا الكلام قائلين: إِنَّكُمْ أيها المشركون لَكاذِبُونَ فلم يكن للّه شريك و لا يرتبط الأمر بنا.

[88] وَ أَلْقَوْا المشركون إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة السَّلَمَ أي الاستسلام و الخضوع، فقد كانوا

في الدنيا يتكبرون على اللّه، و ينفرون من أوامره، و يحاربونه، أما في ذلك اليوم، فإنهم مستسلمون، لم يجدوا نصيرا و لا ظهيرا وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فقد ذهبت افتراءاتهم أدراج الرياح، و لم يجدوا في آلهتهم المزعومة من يشفع لهم.

[89] و هنا يأتي دور العذاب بعد أن تمت الحجة، و قد هي ء لهولاء عذاب مع عذاب الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يؤمنوا وَ صَدُّوا أي منعوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بأن صرفوهم عن الإيمان به سبحانه زِدْناهُمْ عَذاباً ثانيا لإضلالهم فَوْقَ الْعَذابِ الأول المتهيئ لهم لضلالهم بسبب ما كانُوا يُفْسِدُونَ في الأرض، بالصد عن سبيل اللّه.

[90] تقدم أن على كل أمة شهيد، و هنا يأتي الكلام ليبين أن الشهداء من أنفس الناس، بالإضافة إلى الملائكة الشهود و أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشهد على أمته، تخصيصا، لبيان موقفه مع الكافرين الذين أعرضوا عن الإيمان به، و فيه تسلية له، و تهديد لهم أن خصمكم غدا يكون صاحب الفضل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 252

[سورة النحل (16): آية 90]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

فيكم فاحذروه وَ اذكر يا رسول اللّه يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فإن الصالحين من كل أمة، يشهدون على الطالحين بالكفر و الشرك و الفسق و العصيان وَ جِئْنا بِكَ يا رسول اللّه شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ القوم المعاصرون لك، وَ هناك لا حجة لقومك، فقد نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن تِبْياناً بيانا لِكُلِّ شَيْ ءٍ فلا مجال لهم، لأن يقولوا ما عرفنا، و ما علمنا، و المراد

ب «كل شي ء» الأمور العامة التي يحتاج إليها الإنسان في أمر دينه و دنياه، فقد اشتمل القرآن الحكيم على الخطوط العامة للمبدأ و المعاد و النظام العام للدنيا السعيدة وَ هُدىً أي هداية عن الضلال وَ رَحْمَةً أي سبب تفضل و ترحم فإن من اتبع القرآن رحمه اللّه سبحانه، و تفضل عليه وَ بُشْرى بشارة لسعادة الدنيا و الآخرة لِلْمُسْلِمِينَ الذين آمنوا بك و أسلموا للّه سبحانه و لأوامره.

[91] ثم يأتي السياق، لبيان بعض ما في الكتب من الهدى و الرحمة و البشرى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ بأن يعدل الناس في سلوكهم، فلا يجوروا و لا يظلموا، من غير فرق بين أفراد الإنسان فإن كل إنسان لا بد له من عمل لنفسه و لغيره، و هو إما عادل في عمله، أو منحرف وَ الْإِحْسانِ و هو فوق العدل، فإهدائك إلى من أهدى إليك عدل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 253

[سورة النحل (16): آية 91]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91)

و إلى من لم يهد إليك إحسان، و هكذا وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقرباء حقوقهم، و هذا عام بالنسبة إلى كل أحد، و خاص بالنسبة إلى أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، فإنه سبحانه أمر بمودتهم و صلتهم

و قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا من بعدي أبدا»

«1» وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ

أي الخلة الفاحشة، و هي ما كان متفاحش القبح مجاوزة كالزنا و نحوه وَ الْمُنْكَرِ و هو كل معصية، و إن لم تكن فاحشة، كترك جواب المسلم، و إنما ذكر الفحشاء مع دخوله في المنكر، لأهميته وَ الْبَغْيِ أي الظلم و ذكره لأهميته أيضا يَعِظُكُمْ اللّه أيها البشر، فإن أوامره و نواهيه لخيركم و صلاحكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتفكروا، فتذكروا ما أودع في فطرتكم من حسن تلك الأشياء، و قبح هذه الأشياء.

[92] وَ أَوْفُوا أيها الناس بِعَهْدِ اللَّهِ فإن المعاهدة مع أيّ شخص كان، عهد للّه حيث أمر اللّه بوفائه إِذا عاهَدْتُمْ أو المراد إذا قال الإنسان عليه عهد للّه أن يفعل كذا، لزم عليه أن يفعل وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ جمع يمين و هي الحلف، أي لا تتركوا متعلقها بَعْدَ تَوْكِيدِها بعد ما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 150.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 254

[سورة النحل (16): آية 92]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

أكدتم لها بذكر اللّه، فإن الإنسان، قد يحلف بدون ذكر اسم اللّه، كأن يقول «أحلف أن أفعل كذا» و قد يؤكدها بقوله «أحلف باللّه أن أفعل كذا» و هذا يحرم نقضه وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ في عهودكم و أيمانكم كَفِيلًا إذ تسمية اللّه معناها أنه سبحانه كفيل بإنجاز هذا الوعد و الإتيان بمتعلق القسم، فلا تخالفوا بعد ذلك ف إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض العهد و اليمين، فيجازيكم على فعلكم السيئ.

[93] إن الوفاء بالعهد من أكثر الأمور تأكيدا

لدى الإسلام، سواء كان العهد مع اللّه أو مع رسوله، أو مع الأئمة، أو مع سائر الناس، و لذا لا يترك هذا الحكم سبحانه إلا و يؤكده بضرب المثل، ليكون أوقع في النفس، و يتعاون العقل و العاطفة في إنفاذه وَ لا تَكُونُوا أيها الناس في نقض الأيمان و العهود كالمرأة التي نَقَضَتْ غَزْلَها و فلّته مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ بأن غزلت ثم نقضت بعد تكرار و فشل و شدة، قالوا: فقد كانت امرأة تسمى ريطة من تميم، و كانت حمقاء، فإذا أصبحت أخذت هي و جيرانها تغزل إلى انتصاف النهار، ثم هي تنقض غزلها و تأمرهن أن ينقضن ما غزلن و لا يزال هذا دأبها، فإن الرجل الذي ينقض العهد و اليمين، يكون كتلك المرأة، في أنه بعد إبرام العهد، ينقضه أَنْكاثاً جمع «نكث» و هو الغزل من الصوف و الشعر ببرم ثم ينكث و ينقض ليغزل ثانية، و لقد كان بعض المعاهدين مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينقضون عهدهم معهم، بحجة أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه قلة ضعيفة، و أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 255

قريش، و سائر الكفار كثرة قوية، و لكن هذا المبرر من عموم لا وجه له، و إلا فما فائدة العهود و الأيمان؟ تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ أي لا تكونوا بحيث تتخذون عهودكم و حلفكم دَخَلًا أي خدعة و مكرا، فإن أصل الدخل ما أدخل في الشي ء على وجه الفساد بَيْنَكُمْ فإن اليمين دخلت بين الطائفتين على وجه الفساد، لأنها تسبب أن يتنازل جانب- و هم المسلمون- عن بعض منافعهم مراعاة لليمين و العهد بينهم و بين الكافرين، بينما أن الجانب

الثاني- و هم الكفار- لا يتنازلون على شي ء من شؤونهم، فهم ما داموا يرون ضعف أنفسهم عن مقاومة المسلمين يحتمون باليمين، فإذا رأوا أنفسهم أقوياء نقضوها، ليكونوا على المسلمين و هذا بخلاف العهد من الإنسان الوفي، فإنه دخل بين الطرفين على وجه الصلاح، و إذ يعطي الطرفين الأمن و الطمأنينة و إنما كان الكفار ينقضون العهد حيث أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ «أربى» أفعل من الربا، و هو الزيادة، و منه الربا في المعاملة، أي لا تتخذوا الأيمان دخلا بسبب كون أمة أكثر عددا و قوة من أمة، و الحاصل، لا تنكثوا أيمانكم، في حال كونكم اتخذتموها خديعة تريدون بالنكث الوصول مع أمة أخرى هي أكثر عددا من الأمة الأولى التي كانت طرف عهدكم إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ أي يفعل بكم فعل المختبر بِهِ أي تكون أمة أربى من أمة، ليظهر مدى وفائكم بالعهد، فإن الوفاء بالعهود لا تظهر قيمته فيما كان الأمر على قدم المساواة مع طرف المعاهدة و غيرهم، و إنما تظهر القيمة فيما كان الميزان غير معتدل، و تكون الأمة غير المعاهد معها، أقوى من المعاهد معها، هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 256

[سورة النحل (16): الآيات 93 الى 94]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94)

وظيفتكم أيها المعاهدون، أما الجانبان المتخالفان الذين عاهدتم مع أحدهما، فإن الفصل بينهم سيكون في يوم القيامة، بعد أن لم يرضخ أحدهما للحق الذي يراه في جانب

خصمه، وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيانا يعقبه الجزاء ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أو أن المراد لزوم وفاء المعاهد بعهده، و إن رأى أنه على خلاف مع من عاهد معه، فإن وظيفته الوفاء، أما التخالف بينهما، فإنه سيفصل يوم القيامة، و هذا أظهر باعتبار الخطاب في «لكم».

[94] إن الخلاف لا بد و أن يفصل في الآخرة، أما في الدنيا، فإن الطبيعة البشرية ركبت بحيث لا تتفق، فبعض يختار الضلال، و بعض يختار الهدى وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يجبركم جميعا على الهداية لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ذات دين واحد، و طريقة واحدة، و لكنه لا يشاء ذلك، لأنه يبطل الثواب و العقاب و المدح و الذم و إنما أراد سبحانه أن تكونوا مختارين وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أي يتركه حتى يضل بعد أن أراه الطريق، فلم يسلكه، كالملك الذي يترك المدينة العاصية، حتى تفعل ما تشاء من الاجرام و القتل و السفك، بعد أن بيّن لهم القوانين فلم يتبعوها وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالألطاف الخفية، بعد أن أراهم الطريق فسلكوها وَ لَتُسْئَلُنَ أيها البشر ضالكم و مهديكم عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الخير و الشر و الهدى و الضلال.

[95] ثم يمضي السياق يؤكد على الوفاء بالأيمان- و اليمين و العهد يطلق كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 257

واحد منهما على الآخر- وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ غشا و خدعة تريدون بذلك انتهاز المنافع و اهتبال الفرص، فتعاهدون هذا لتأمنوا جانبه، فإذا رأيتم عدم أمنكم من جهة أخرى، نقضتم هذا العهد، لتعاهدوا ذلك الجانب الثاني، فقد صارت الأيمان داخلة بينكم للإفساد، لأن الجانب المقابل يركن إليها، فلا يستعد، و ذلك موجب لاضمحلاله و انهياره فَتَزِلَّ

قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فإن العهد قد أثبت القدم إذا صار كل جانب مطمئن الخاطر مرتاح البال، لا يهمه من جانب صاحبه شي ء أما إذا نقض العهد كان النقض زلّة للقدم، فلا اطمئنان، و ذلك يوجب زعزعة الحياة السعيدة، و ارتفاع الثقة بين الناس في معاملاتهم و معاهداتهم وَ تَذُوقُوا السُّوءَ و بال نقض أيمانكم في الدنيا و الآخرة بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بسبب صدكم عن طريقه سبحانه، فإن الوفاء بالعهد طريقه الذي جعله للسعادة و الطمأنينة فالنقص صاد عن هذا الطريق، لأنه يجرّئ الناس على مثل عمله، و لا يكون حينئذ اطمئنان من أحد على أحد وَ لَكُمْ بالإضافة إلى ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، و ما ورد من كون الآيات في علي عليه السّلام بالنسبة إلى قصة الغدير، فإن ذلك بيان لمصداق ظاهر من مصاديق الآية، و إلا فالحكم عام، و العلة مستوعبة، و لا يظن الناقض، أنه ربح، حيث اختار الربح على الوفاء، فإنه إذا راج النقيض سيأتي يوم ينقض عليه، و هو خسران، فأضاع بذلك شرف المعاهدة و لحقه الخسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 258

[سورة النحل (16): الآيات 95 الى 96]

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)

الذي فر منه، و هكذا جميع أحكامه سبحانه، فإن من تخلف عنها للذة أو منفعة، كيل له الصاع صاعين.

[96] وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا بأن تنقضوا عهدكم مع غيركم، لثمن قليل، و منفعة ضئيلة، فإن عهدا بينكم هو عند اللّه، و من خالفه

لأجل مصلحة، فإنه إنما باع عهد اللّه و اشترى تلك المصلحة التي مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الأجر و المصلحة المترتبين على الوفاء بالعهد- عهد اللّه- إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ مما أعده لمن و في بالعهد هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل، و تلك المصلحة التي تترتب على نقض العهد فيما بينكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان لكم علم.

[97] ما عِنْدَكُمْ أيها البشر يَنْفَدُ يتم و يخلص، و لنفرض أنكم حصلتم من وراء نقضكم للعهد على ملك الدنيا، فإنه فإن زائل وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الأجر و الثواب المترتب على الوفاء بالعهد باقٍ أبد الآبدين وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا فيما أمرناهم به، و بالأخص بقواعد عهودهم، و إن أوجب ذلك ذهاب مصالح كثيرة من أيديهم أَجْرَهُمْ و ثواب بقائهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فلا نعطيهم جزاء أعمالهم السيئة، و إنما جزاء أعمالهم الحسنة، التي هي أحسن أعمالهم، ليس ذلك في الآخرة، فحسب، بل في الدنيا أيضا، و إنا لنرى الإمام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 259

[سورة النحل (16): آية 97]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

المرتضى عليه السّلام حين قيل له في الشورى: نبايعك على كتاب اللّه، و سنة رسوله، و سيرة الشيخين، رفض الأخير من الفقرات الثلاث، و لم ينل الإمبراطورية الإسلامية، لأجل هذا الرفض، و قبل عثمان الثلاث، لكنه خالف، فقد حمد الإمام في الدنيا لصبره، بما نرى إلى اليوم، أما عثمان، فكان جزاؤه في نقضه للعهد، ما رأينا إلى هذا اليوم، و ثم قيل للإمام إن إبقاء معاوية لأيام قلائل، يمهد له الإمبراطورية الهادئة،

لكن الإمام رفض، و معاوية عثر و اهتبل، فما مصيره في الدنيا، إلا اللعن و العار، بينما مصير الإمام الصابر ما نراه، و في الإسلام أمثلة كثيرة ترشد إلى مصير الوفي الصابر، و إن رفّت ألوية الغادر المستعجل أياما، قال الشاعر:

للمتقين من الدنيا عواقبهاو إن تعجّل فيها الظالم الآثم

[98] و ليس الجزاء الأحسن خاصا بمن و في بعهده و صبر، بل كل من عمل صالحا، فإن له نفس ذلك الجزاء الأحسن مَنْ عَمِلَ عملا صالِحاً لا يشوبه فساد و باطل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى تأكيد حتى يشمل الحكم، لكلا الصنفين، و لا يتوهم أنه خاص بالذكور وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فإن الإيمان شرط قبول الأعمال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فإن الحياة الطيبة، إنما تهيئ باتباع منهاج اللّه سبحانه، فإذا عمل الجميع بذلك المنهاج، صارت الحياة كلها بردا و سلاما، أما إذا عمل البعض، فهو يستفيد من طيب الحياة بقدر عمله، و لنأخذ أن الحياة الطيبة ترتكز على الفضيلة و الأمن و الغنى، فإذا عمل صار من نصيب كل واحد تلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 260

الحياة، أما إذا عمل البعض، كانت له فضيلة الاطمئنان القلبي، و فضيلة القناعة، و فضيلة الأخلاق الطيبة و ما إليها، و إن تكدرت حياته، بما يتوجه إليه من غيره، من الاضراب و الفقر الذين أحدثهما غيره، ممن لا يسير على منهاج اللّه سبحانه، نعم لو لم يعمل صالحا، فقد- مع فقد الأمن و الغنى- الفضيلة أيضا، فلا اطمئنان له و هو ضجر من الحياة، سيئ الخلق، و هكذا وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أي نعطيهم أَجْرَهُمْ في الدنيا و الآخرة بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ كما مرّ، فإن الدنيا كالآخرة تظهر فيها نتائج الأعمال،

فمن أهان الناس أهين، و من احترمهم احترم، و على هذا المنوال من أكل كثيرا أتخم، و من أكل قليلا سلم، و من اقتصد لم يفتقر، و من أسرف تمسكن.

ورد أن رجلا من حضر موت، يقال له عبدان الأشرع، قال: يا رسول اللّه، إن امرئ القيس الكندي، جاورني في أرض، فاقتطع من أرضي، فذهب بها مني، و القوم يعلمون إني لصادق، و لكنه أكرم عليهم مني، فسأل رسول اللّه امرء القيس عنه؟ فقال: لا أدري ما يقول، فأمره أن يحلف، فقال عبدان: إنه فاجر لا يبالي أن يحلف، فقال: إن لم يكن لك شهود، فخذ بيمينه، فلما قام ليحلف أنظره، فانصرفا، فنزل قوله: (وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) «1» الآيتان، فلما قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال امرئ القيس: أما ما عندي فينفد، و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه، و لم أدر كم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، و مثلها معها، بما أكلت من ثمرها، فنزل فيه، و من عمل صالحا الآية.

______________________________

(1) النحل: 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 261

[سورة النحل (16): الآيات 98 الى 100]

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

[99] و إذ تقدم الكلام حول الهدى و الضلال، و الرسول و المرسل إليه يتكلم السياق حول الكتاب الذي نزل على الرسول ليبين شيئا من آدابه، و عن أقوال المشركين حوله، و قد مرّ أن هذه السورة تعالج جوانب العقيدة و المبدأ و المعاد فَإِذا قَرَأْتَ يا رسول اللّه أو أيها

القارئ الْقُرْآنَ و المراد إذا أردت قراءة القرآن، و قد تقدم أن كلا من الفعل و الإرادة يستعمل في معنى الآخر فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي الجأ إليه مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، الذي يرمى إليه باللعن، كما يرجم الزاني بالحجارة، و إنما استحبت الاستعاذة، ليسلم الإنسان في التلاوة من الغلط، الذي يلقيه الشيطان في فم التالي.

[100] إِنَّهُ يعني الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي تسلط و قدرة عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمورهم، فإن الشيطان يطرد من عند المؤمن، و في الأحاديث، إن الملائكة تطرده، فمن استعاذ بالله حفظه سبحانه من شره.

[101] إِنَّما سُلْطانُهُ أي تسلط الشيطان عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يطيعونه، و يقبلون أوامره، فإنه مسلط عليهم، موجه لهم سبل الغي و الضلال وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ فالمنحرف في العقيدة بالشرك، و المنحرف بالعمل بإتيان المعاصي، يتسلط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 262

[سورة النحل (16): آية 101]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)

عليهما الشيطان، و يستدرجهم في المعصية و الكفر، حتى يأتيهم الموت، و هم بتلك الحالة، و من أظهر مصاديق «من به مشرك» الطائفة التي تعبد الشيطان و تتخذه إلها.

[102] وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بأن نسخنا حكما، كان في الشريعة السابقة، و أتينا بحكم آخر مكانه، لأنه أصلح لهذه الأمة من ذلك الحكم المنسوخ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لأنه يعلم المصالح الكامنة في الأحكام، و إن لكل حكم ظرفا خاصا، و لذا يبدل حكما إلى حكم، كما قال سبحانه (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)

«1» قالُوا أي قال الكفار إِنَّما أَنْتَ يا محمد مُفْتَرٍ تفتري على اللّه، فكيف أنه نسخ الحكم السابق، و قد حاجّ بعضهم الرسول قائلا: إن كان الحكم الأول صالحا، كان الحكم الثاني فاسدا، فكيف يأمر اللّه بالفساد؟ و إذا كان الحكم الثاني صالحا، فكيف أمر اللّه سبحانه بالحكم الأول؟ و الجواب واضح، فإن الأحكام كالأدوية، فكما لا يصلح أن يقال للطبيب، لماذا بدلت الدواء؟ كذلك لا يصلح أن يقال للرسول ذلك، إن البشرية ترقّت في زمن الرسول، و استعدت لإعطاء النسخة الأخيرة من الأحكام، كالطالب الذي يدرس في الثانوية، ما لا يدرس في الابتدائية، ثم أن قولهم «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» كان مطلقا، و تخصيصه بهذه الحالة- أي حالة تبديل الآية- لأنهم كانوا يهرجون عند ذلك أكثر، و يستدلون به على أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مفتر على

______________________________

(1) البقرة: 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 263

[سورة النحل (16): الآيات 102 الى 103]

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

اللّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ و لا يدركون المصالح و المفاسد، أي لست مفتريا، و إنما هذا القول ناشئ عن جهل أكثرهم، و تخصيص الأكثر لأن جماعة منهم كانوا يعلمون- كما قال سبحانه: (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) «1»-، و إنما يخفون عنادا و حسدا.

[103] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء الذين يقولون أنت مفتر نَزَّلَهُ أي نزل الناسخ، أو نزل القرآن رُوحُ الْقُدُسِ و المراد به جبرئيل عليه السّلام لأنه بمنزلة الروح للنزاهة، كأن النزاهة و القداسة

جسم، و جبرئيل عليه السّلام روحها مِنْ رَبِّكَ إنزالا بِالْحَقِ فلم يكن الإنزال من الشياطين- كما كان يزعم بعضهم- و لا بالباطل، فإن الكلام قد يكون حقا مطابقا للواقع، و لكن قوله و إنزاله باطل، كما كان يقول الخوارج «لا حكم إلا لله» فإنها كلمة حق، لكن قولهم لها في مورد التحكيم كان باطلا، و القرآن هو حق بذاته، و إنزاله أيضا بالحق لِيُثَبِّتَ بالقرآن الَّذِينَ آمَنُوا به على إيمانهم وَ هُدىً أي أن القرآن هداية للناس نحو السبيل الصحيح وَ بُشْرى أي بشارة بما يسعدهم في الدنيا و الآخرة لِلْمُسْلِمِينَ أما غيرهم، فإن القرآن ينذرهم بالنار و الجحيم لا بالجنة و النعيم.

[104] لقد كان المشركون يرمون القرآن بكل ما يأتي في مخيلتهم، قاصدين

______________________________

(1) البقرة: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 264

[سورة النحل (16): آية 104]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

الانتقاص منه، و إنزال مرتبته لدى الجهّال، فكانوا يقولون أنه كلام الرسول، أساطير الأولين، سحر، كهانة، شعر، كلام الشياطين، إلى غيرها، و من جملة ما يقولون ما حكى سبحانه هنا وَ لَقَدْ نَعْلَمُ قد للتحقيق، و إن كان دخل على المستقبل، كما يأتي كثيرا لذلك، و يحتمل أن يكون بمعنى التقليل، و هذا يكون شبه التهديد، حتى لا يستريح المجرم، كما تقول لولدك يمكن أن أفهم ما تعمله في الخفاء أَنَّهُمْ أي الكفار يَقُولُونَ على القرآن إِنَّما يُعَلِّمُهُ أي يعلم الرسول بالقرآن، بَشَرٌ هو أبو فكيهة مولى ابن الحضرمي، كان أعجمي اللسان، و كان قد اتبع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آمن به، و كان من أهل الكتاب، فقالت قريش هذا و

اللّه يعلم محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد رد سبحانه مقالة هؤلاء الكفار بقوله لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ من ألحد، بمعنى أمال، و منه «اللحد» لميله، و «الملحد» لأنه مائل عن الحق، أي أن لسان الرجل الذي ينسبون القرآن إليه أَعْجَمِيٌ لا يفصح، و الفرق بين الأعجمي و العجمي، إن الأول لمن لا يفصح، و لو كان عربيا، و الثاني، لمن ليس بعربي، و إن كان فصيحا وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ واضح، و إذا كانت فصحاء قريش، عاجزين عن الإتيان بمثله فصاحة و جمالا، فهل يقدر إنسان أعجمي عن الإتيان بمثله؟ لكن المعاند لا يسمع الحجة، و إنما يريد الطعن.

[105] ثم يسلى سبحانه نبيه، عن هذا الوحي الظالم، بقوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 265

[سورة النحل (16): الآيات 105 الى 106]

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ بعد ما أتم اللّه الحجة عليهم، بإراءتهم الطريق لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يلطف بهم الألطاف التي يلطف بها على المؤمنين، فهو يجازيهم بجزاء أعمالهم، بقطع اللطف عنهم، بينما يسبغه على سائر المؤمنين وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم موجع، أما في الآخرة فظاهر، و أما في الدنيا، فهم يحترقون بنيران الحسد و الحقد، و عيشهم ضنك، و لا اطمئنان لقلوبهم.

[106] إنهم كانوا ينسبون الرسول إلى الافتراء، بينما الافتراء من شأنهم، فغير المؤمن بالله الذي لا يرى تبعة لأعماله هو الذي يفتري، أما المؤمن،

فإنه نزيه عن الافتراء، فكيف بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الافتراء أصله من باب «فرى» بمعنى قطع، فكأن المفتري قطع شيئا من الباطل ليريه بصورة الحق، و لذا يصح إسناده إلى الكذب، أي يقطع الكذب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ و المعاد، و لا يخافون الجزاء و الحساب، وَ أُولئِكَ الذين لا يؤمنون هُمُ الْكاذِبُونَ فالكذب منحصر فيهم، لا إنك كاذب- كما يقولون-.

[107] و في سياق الحديث عن الكفار، يذكر سبحانه ما أعدّ لهم من غضب اللّه، و العذاب العظيم مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ بعد أن ذاق حلاوة الإيمان، و عرف الحق من الباطل، و هذا مبتدأ خبره «فعليهم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 266

[سورة النحل (16): آية 107]

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107)

و قد استثنى من هذه الجملة استثناء، كما أوضح الكافر من بعد الإيمان بتوضيح، فالأول قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ بأن أكرهه الكفار على أن يتكلم بالكفر، فأظهر الكفر تقية، كما قال سبحانه (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) «1» وَ الحال أن قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ فلم يرتد، و إن أظهر اللفظ فقط، و إنما جي ء بهذا الحال، لأن بعض الناس، يدخلون في أمر إكراها، لكنهم بعد ذلك يذعنون له إذعانا، فليس المستثنى من «كفر بعد إيمانه» مثل هذا، و إنما من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان، و الثاني قوله وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي أن المراد ب «من كفر» من اتسع قلبه للكفر مقابل من ضاق صدره- و قد مرّ سابقا أنه كيف يضيق الصدر- أما شرحه و اتساعه، فإن الإنسان إذا ارتاح إلى

شي ء، فإنه يهدأ جسمه و يخف دمه، فيكون انتشار رئته أقل، و لذا يحس بنوع من التوسع في صدره فَعَلَيْهِمْ خبر «من» و جاء «الفاء» في الخبر، لأن المبتدأ في معنى الشرط غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ يعامل معهم معاملة الغضبان، و هي تركهم، و عدم الاهتمام بشأنهم وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو عذاب النار، التي لا زوال لها، و لا اضمحلال.

[108] و إنما عليهم الغضب و لهم العذاب ذلِكَ بسبب أنهم اسْتَحَبُّوا أي آثروا و قدموا، و طلبوا حب الْحَياةَ الدُّنْيا و التلذذ

______________________________

(1) آل عمران: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 267

[سورة النحل (16): آية 108]

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108)

بنعيمها الفاني الزائل المكدّر عَلَى الْآخِرَةِ الباقية الصافية وَ ب أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه سبحانه لما رأى إعراضهم، لم يهدهم بألطافه الخفية، فصاروا من الأشقياء باستمرارهم في الكفر و الفساد حتى استحقوا الغضب و العذاب.

و قد ورد أن سبب نزول «إلا من أكره» هو عمار بن ياسر «رضي اللّه عنه» و قصته على ما ذكروا أن قريشا أكرهوه، كما أكرهوا أباه ياسر، و أمه سمية على الارتداد، فأبى أبواه، فقتلوهما شر قتلة- و هما أول شهيدين في الإسلام- و أما عمار فإنه أعطاهم بلسانه ما أرادوا- مكرها- فجاء البعض إلى الرسول قائلين. إن عمارا قد كفر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلا إن عمارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه، فأتى عمار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يبكي فجعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمسح

عينيه، قائلا:

مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت

«1»، و

ورد أيضا أن قوله «و لكن من شرح» نزل في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، من بني عامر بن لؤي «2»

[109] أُولئِكَ الذين شرحوا بالكفر صدرا من الذين كفروا بعد إيمانهم، هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يفقهون وَ على سَمْعِهِمْ فلا يحلو كلام الحق في آذانهم وَ على أَبْصارِهِمْ فلا ينظرون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 203.

(2) نفس المصدر السابق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 268

[سورة النحل (16): الآيات 109 الى 110]

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)

إلى الحق بنظر كونه حقا، و إنما بنظر الإهانة و الاحتقار، فإنهم لما أعرضوا عن الهدى الذي أراهم اللّه سبحانه إياه تركهم، حتى يكون طابعهم الكفر في حواسهم الباطنة و الظاهرة، و هكذا يهوي الإنسان إلى الدركات، كما يترقى إلى الدرجات، و بلوغ الأمرين، اتباع هذا السبيل، أو ذاك السبيل وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ إنهم نزلوا منزلة الغافلين، و إنهم لم يكونوا بغافلين عن المبدأ و المعاد، و لوازمهما لأن التارك للأثر ينزل منزلة الجاهل و الغافل، فإذا رأى زيد الأسد المقبل، فلم يفر، يقال عنه، أنه جاهل، أو غافل عن وجود الأسد، و إلا لماذا لم يفر؟

[110] لا جَرَمَ أي حقا- و قد تقدم تفسيره- أَنَّهُمْ أي هؤلاء الذين كفروا بالله، شارحين بالكفر صدرا فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، و كل شي ء يتعلق بهم، بينما ربح المؤمنون أنفسهم و الجنة.

[111] أما من أكره، و قلبه مطمئن بالإيمان ثُمَ للتراخي في

اللفظ، أو المراد التراخي في الزمان إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ هاجَرُوا معك إلى المدينة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا عن دينهم و أكرهوا، حتى نالوا بلسانهم ما أراد الكفار ثُمَّ جاهَدُوا بعد ما هاجروا مع الرسول وَ صَبَرُوا على تعب الجهاد، و على مكاره الأيام الواردة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 269

[سورة النحل (16): آية 111]

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)

المسلمين إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه مِنْ بَعْدِها أي بعد تلك الفتنة لَغَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ يرحمهم و يتفضل عليهم، إن عملهم ذلك، لم يكن موجبا للعصيان، لكن حيث أن كون الفتنة تؤدي ببعض الناس حتى يرتدوا حقيقة، كان ظهور الغفران و الرحمة، إنما هو بعد الهجرة و الجهاد و الصبر، و كثيرا ما يطلق الفعل على ظهوره، يقال:

كفر فلان، أي أظهر كفره و إن كان كافرا قلبا قبل ذلك، و في بعض التفاسير، إن هذه الآية نزلت بالنسبة إلى من فتنوا من ضعفاء الإيمان، الذين فتنوا حقيقة، و كفروا قلبا و لفظا، ثم رجعوا إلى الإسلام و حسن إيمانهم، فإن قبول توبتهم كان مشروطا بالهجرة و الجهاد و الصبر، و قد أكد «من بعد» لتقرير ذلك.

[112] و إذ ذكر عقاب الكافرين، و ثواب المؤمنين، جاء السياق ليبين وقت الجزاء، فاذكر يا رسول اللّه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ صالحا كان أم طالحا، و هو يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي تخاصم الحكام و الشهود و تباحث معهم حول شخصها، فيقول الكفار (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» و يقول الاتباع (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) «2» و يقولون (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا

سادَتَنا وَ كُبَراءَنا) «3» إلى غير ذلك وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) الأعراف: 39.

(3) الأحزاب: 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 270

[سورة النحل (16): آية 112]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)

أي تعطى جزاء أعمالها وافيا غير منقوص، خيرا كان عملها أم شرا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في الجزاء، بأن يعاقب البري ء، أو يزاد على عقاب المجرم، أو ينقص من أجر المحسن.

[113] إن الكفار في الآخرة، يجزون جزاء كفرهم، فهل الدنيا تمر عليهم بسلام؟ كلا! فإن اللّه سبحانه، جعل الكون، و قرر فيه مناهج، ثم أرشد إلى تلك المناهج على لسان الأنبياء، فمن أطاع سعد، إذ هو يمشي على المنهاج الكوني فلا يصطدم، و من عصى اصطدم بالمنهاج و صارت عاقبته الدمار، كمن يخالف أمر الطبيب فإنه يشتد به المرض حتى يهلك، و قد سبق أن ضرب اللّه سبحانه مثلين للشركاء، و هنا مثل ثالث للبلدة التي تطغى و تخالف أمر ربها وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لكل قوم أنعم اللّه عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا بها، فأنزل اللّه بهم نقمته قَرْيَةً أي مدينة، فإن القرية تطلق على المدينة، كما قال: (وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ) «1» (مِنْ قَرْيَتِكَ) «2» كانَتْ تلك القرية آمِنَةً يعيش أهلها في أمن مُطْمَئِنَّةً من جهة معيشتها، فهي ساكنة هادئة لا يحتاج أهلها إلى التحول و الانتقال يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً أي واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فإن القرية، إذا سكنت و هدأت حسن زرعها و تجارتها، فالأرزاق تأتيها من أطرافها القريبة و البعيدة، فَكَفَرَتْ أي تلك

______________________________

(1) الكهف: 60.

(2) محمد:

14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 271

[سورة النحل (16): الآيات 113 الى 114]

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

القرية، و المراد أهلها بعلاقة الحال و المحل بِأَنْعُمِ اللَّهِ فلم يؤدوا شكرها، فإن شكر النعم الإطاعة و الإيمان، فإذا كفروا و عصوا كان كفرانا للنعمة فَأَذاقَهَا اللَّهُ أي أذاق سبحانه تلك القرية لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ أي أخذهم بالجوع، فذهب رزقهم، و بالخوف فذهب أمنهم بِما كانُوا يَصْنَعُونَ أي بسبب صنيعهم الكفر و الطغيان، و قد كان التعبير باللباس بليغا جدا حيث دل على أن الخوف و الجوع شمل جميع البدن، لا البطن و القلب فقط، للدلالة على كثرة الأمرين، فإن الإنسان إذا جاع كثيرا ظهر الهزال في جميع جسده، و إذا خاف كثيرا ظهر أثر الخوف الذي هو الانكماش للجلد، و الاصفرار على جميع البدن، و قد قال سبحانه «أذاقها» فليس مجرد إمساس، بل ذوق، فإنه أعمق تأثيرا عن الإمساس، و لقد كان هذا المثل منطبقا على مكة تماما، حيث كفر أهلها بعد ذلك الأمن و الرفاه.

[114] وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ كالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي جاء أهل مكة، و قد كان من أنفسهم فَكَذَّبُوهُ و لم يؤمنوا به و برسالته فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ بالجوع و الخوف وَ هُمْ ظالِمُونَ فلم يكن تعذيبهم ظلما منه سبحانه، بل ذلك جزاء أعمالهم و ظلمهم أنفسهم و غيرهم.

[115] و حيث عرفتم أيها الناس جزاء الكفران، فلا تتركوا الشكر و الإيمان، إن أردتم دوام النعم فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الأطعمة المحللة

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 272

[سورة النحل (16): آية 115]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

حَلالًا شرعا طَيِّباً طبا و مذاقا، فإن كل حلال طيب، و كل طيب حلال، و «كلوا» أمر بمعنى الإباحة وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ بالإيمان و الإطاعة، فإنك إذا أنعم عليك زيد ثم أنكرت وجوده أو خالفت أوامره كنت معرضا نفسك لسخطه إذ كفرت بنعمته إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ أي اللّه سبحانه تَعْبُدُونَ أما من لا يعبد الإله فالأمر بإقامته على الإيمان، و أن يشكر إحسانه تعالى، عبث، إذ من لا يقبل الأصل لا يقبل الفرع، فليس مفهوم الآية، لا تشكروا إن لم تعبدوه، فإنه سالبة بانتفاء الموضوع حينئذ.

[116] و حيث أباح سبحانه المحللات الطيبات، ذكر سبحانه المحرمات، ليتميز بعضها من بعض، و هذا في قبال ما كانوا يحرصون، من البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، لأن الحصر حقيقي، حتى يقال ما بال بعض الأشياء لم تذكر هنا و قد تقرر في البلاغة، أن الحصر إضافي إذا كان في قبال شي ء، فإذا قيل لك: أن في الدار ملكين، تقول ليس فيها إلا ملك واحد، تريد أنه ليس فيها ملك ثان، لا أنه ليس فيها أحد غير الملك فإن هذا الحصر لا ينافي وجود العشرات من الناس فيها إِنَّما حَرَّمَ اللّه عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها وَ الدَّمَ غير المتخلف في الأجزاء المحللة وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و سائر أشيائه، كالشحم و اللبن و نحوهما، و هذه الثلاثة حرمت لما يوجب من الضرر البالغ على الجسم وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي سمي غير

اسم اللّه عند

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 273

[سورة النحل (16): آية 116]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)

ذبحه، فإن الكفار كانوا يسمون الأصنام لدى ذبحهم للذبائح- و قد تقدم تفصيل ذلك- و هنا إنما حرّم، لأنه يوذي العقيدة، و كذا نرى في الإسلام أن الأحكام تشرّع لصيانة العقيدة، كما تشرع لصيانه الجسم، فالبول نجس لضرره، و الكافر نجس لأنه يضر العقيدة، و هكذا فَمَنِ اضْطُرَّ أي تناول هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ أي لم يكن طالبا له، حتى أوقع نفسه فيه، بل اضطراره صار صدفة وَ لا عادٍ أي غير متعد لحد الاضطرار، كأن يكون مضطرا إلى نصف رطل، فيأكل رطلا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر هذا العمل القبيح في نفسه- و إن لم تكن معصية- رَحِيمٌ يرحم المتناول، و يتفضل عليه من إحسانه، و غالبا يأتي وصف «رحيم» بعد «غفور» للدلالة على أنه سبحانه ليس كالبشر منتهى عطفهم و لطفهم أن يغمضوا عن المجرم، فإنه بالإضافة إلى العفو عنه يتفضل عليه.

[117] و إذ تبين الحلال من الحرام، فما بال بعض الناس يتصرفون في هذه الأحكام حسب أهوائهم بلا حجة أو برهان؟ وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ أيها الناس الْكَذِبَ مفعول تصف مصداق ل «ما» أي لا تقول للكذب الذي تصفه ألسنتكم هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ فإن الواقع يوصف بالصدق و الكذب، فإذا قلت: زيد قائم، و صفت الخارج بأنه قيام زيد، فإن كان مطابقا للخارج كان صدقا، و إلا كان كذبا، و الحاصل لا تقولوا لما حللتموه بأنفسكم مثل الميتة هذا حلال

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 274

[سورة النحل (16): الآيات 117 الى 118]

مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

و لما حرمتموه مثل السائبة، هذا حرام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي لتكذبوا على اللّه في إضافة التحريم إليه، اللام للعاقبة أي نتيجة تحليلكم و تحريمكم، و عاقبة الافتراء على اللّه، بمعنى أن هذا العمل، لا يكون إلا افتراء إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بالجنان، إذ مصيرهم إلى النار.

[118] إنما الدنيا التي يكذبون لأجلها مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هي شي ء ينتفعون به، و يتمتعون منه في أيام قلائل وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع يوم القيامة، و أي عاقل يشتري العذاب الأليم، لمتاع قليل؟

[119] و هنا يتساءل الإنسان، كيف أن بعض الأشياء محرمة على اليهود، و هي طيبات، و قد سبق أن الطيبات محللة؟ و الجواب، أن التحريم عليهم كان لحكمة خارجية، و هي أنهم ظلموا، و إذا حرّم سبحانه بعض الطيبات كما تحرم ابنك عن بعض الأمتعة- المباحة لسائر أبنائك تأديبا- وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا أي صاروا يهودا، و الصيرورة باعتبار أن اختيار الدين، إنما هو بعد البلوغ حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه مِنْ قَبْلُ إما متعلق ب «عليك» أو ب «حرمنا» كما قال سبحانه في سورة الأنعام: (وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) «1»

______________________________

(1) الأنعام: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 275

[سورة النحل (16): الآيات 119 الى 120]

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ

لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)

وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريمهم هذه الأشياء عليهم و حرمناهم منها وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ و كان جزاء ظلمهم تأديبهم بتحريمهم بعض الطيبات عليهم.

[120] و لا يظن اليهود و غير اليهود، أن من عصى فأدّبه سبحانه، أو أوعده النار فإن الأمر قد تحتم و لا مرجع بعد ذلك، فإن اللّه سبحانه يغفر لمن تاب ثُمَ بعد الوعيد و التحريم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي الشي ء القبيح السي ء بِجَهالَةٍ و كل عاصي، فهو جاهل في عصيانه، و إن علم بأنه معصية، لأنه لا يعلم مدى تأثيرها، و لو علم لا نقلع ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السوء وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، فيما بعد، بأن لم يعصوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي بعد التوبة لَغَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ يتفضل عليهم بالإنعام و الإحسان.

[121] و قد كان كل من اليهود و المشركين- الذين تقدمت أحوالهم- ينسب آراءه و أعماله إلى إبراهيم عليه السّلام، حيث يدعي كل طائفة من الطائفتين إن إبراهيم أباه، و إنه هو الذي اتبع تعاليمه، فاليهود من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و كفار مكة- غالبا- من أولاد إسماعيل بن إبراهيم، و لذا يأتي السياق ليفند مزاعم الجانبين، و إن إبراهيم لم يكن كما يزعمون إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً و إنما كان بقية أهل العالم أمة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 276

[سورة النحل (16): الآيات 121 الى 123]

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

و إبراهيم أمة، لأنه كان مسلما، و الباقون كفارا قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا لله من القنوت بمعنى الخضوع و الانقطاع إليه سبحانه حَنِيفاً مائلا عن طريق الكفار، فإنه من حنف، بمعنى مال أو بمعنى مستقيما،

قال الباقر عليه السّلام في تفسير الآية: إنه كان على دين لم يكن أحد غيره، فكأنه أمة واحدة و أما قانتا فالمطيع، و أما الحنيف فالمسلم

وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما تزعمون أنتم أيها المشركون.

[122] شاكِراً لِأَنْعُمِهِ أنعم جمع نعمة، أي أنه كان شاكرا لنعم اللّه سبحانه، فلم يك يكفر بها كما هو دأبكم أيها الكفار الذين تنسبون أنفسكم إليه عليه السّلام اجْتَباهُ أي اختاره سبحانه للرسالة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو صراط التوحيد و الإسلام، و لم يكن ذا صراط منحرف كطرقكم الملتوية، فكيف تنسبون أنفسكم إليه؟

[123] وَ آتَيْناهُ أي أعطينا إبراهيم فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي نعمة، و المراد بها الحسنة الكاملة، التي يدخل فيها كل شي ء من النبوة و العلم و المال و الأولاد و غيرها، كما قال سبحانه: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) «1» و ليس الإفراد فيها لقصد الفرد، كما لا يخفى وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فله جزاؤهم من الجنان و النعيم.

[124] و إذ تبين حال إبراهيم، فأنت يا رسول اللّه المتبع له، لا اليهود

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 277

[سورة النحل (16): آية 124]

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

و المشركون ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه-

بعد فترة طويلة بينك و بين إبراهيم- أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي طريقته و سنته في التوحيد، و سائر المعارف، مقابل اتباع طريقة الكفار أو طريقة اليهود حَنِيفاً في حال كونك حنيفا عن الباطل، أو في حال كون إبراهيم حنيفا وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما يزعم هؤلاء، و هذا للتأكيد، بأنه لم يكن كما زعموا، و إن كان قد سبق أنه عليه السّلام لم يك مشركا.

[125] و حيث ندّد سبحانه بالمشركين بقوله «وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» عطف على اليهود بالتشديد بهم فكيف أنهم يدعون اتباع إبراهيم، فهم غافلون لأحكام اللّه سبحانه من أول الأمر، و الشاهد لذلك يوم السبت الذي حرّم اللّه فيه الصيد لهم، فاستحلوه، و صادوا فيه، فلعنهم اللّه و مسخهم قردة و خنازير إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي قرر تحريم الاصطياد فيه عَلَى اليهود الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في إبراهيم عليه السّلام، فتبع بعض سبيله، بأن اتبعوا موسى عليه السّلام، و خالف بعض، بأن انحرفوا عن الدين، أو أن الضمير يرجع إلى «السبت» أي جعل السبت على أولئك الذين اختلفوا في السبت، فحرموه جماعة منهم بكفهم عن الاصطياد، و أحلوه جماعة بالاصطياد فيه، و ليس السبت- كناية عن الدين الذي لهم السبت- مرتبطا بالمسلمين و بمناهجك يا رسول اللّه، كما نقول «السبت لأصحابه» تريد أن اليهودية لليهود لا ترتبط بنا وَ إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 278

[سورة النحل (16): الآيات 125 الى 126]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ

وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

من أمور دينهم فيميز المحق من المبطل و يجازي كلّا حسب عمله، أما أنت فلا ترتبط بهم، و إنما ترتبط بإبراهيم عليه السّلام، كما نقول لمن يقف متفرجا على تخاصم، اذهب أنت في طريقك، أما هؤلاء، فإن المحكمة تفصل بينهم.

[126] و إذ كنت يا رسول اللّه متبعا طريق إبراهيم عليه السّلام، غير مرتبط باليهود و المشركين فعليك أن تدعو الناس إلى هذه الطريقة ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي ادع الناس إلى طريقه سبحانه بِالْحِكْمَةِ و هي وضع الشي ء موضعه، بأن تكون الدعوة حكيمة في الأسلوب و الزمان و المكان وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بأن تكون الدعوة وعظا حسنا، لا يسبب تشريد الناس، بل إقبالهم، فقد يقول الإنسان للفاسق: يا فاسق و يبصق في وجهه- فإنه يزيده عنادا- و قد يقول له: أيها الأخ إنك شاب لطيف، فلما ذا لا تسلك سبيل ربك الذي نهاك عن العمل الكذائي، و هكذا وَ جادِلْهُمْ أي حاجج و ناظر من كفر و عصى بِالَّتِي أي بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق، حيث لا تثير عنادهم، و لا تجرح كبريائهم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول اللّه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و أعرف بطباعهم و نفسياتهم، فأمره إياك بالدعوة هكذا ليس إلا لأنه أعلم بما يصلحهم وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين اهتدوا فجزاؤهم عليه، و ليس عليك إلا الدعوة بهذه الكيفية.

[127] و لقد كانت الدعوة معرضة لأصناف الأخطار، و الداعي و من تبعه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 279

لصنوف الإهانة و الأذى، و لذا كان من اللازم تشريع قانون المجازاة، إلى جنب

الأمر بالدعوة فما ذا يصنع النبي و من تبعه بالكفار الذين يؤذونهم في سبيل الدعوة؟ وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أي أردتم معاقبة من آذاكم و أهانكم فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي بقدر ما تعدوا عليكم، بلا زيادة، فإن المظلوم قد يخرج عن الاعتدال، فينتقم أكثر مما أهين، أ رأيت من يكثر السباب لمن سبّه مرة، أو من أشبهه وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ فلم تعاقبوا أصلا و تركتم القصاص و المجازاة لَهُوَ أي الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لأنه يعود عليهم بخير الدنيا و سعادة الآخرة، و في صيرورة الإنسان مظلوما انتصار له، بينما أن المقتضى لا يأخذ محلا من القلوب، و من مصاديق هذا الحكم ما

ورد عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في تفسير الآية- أنه قال يوم أحد: من له علم بعمي حمزة؟ فقال الحارث بن الصمت: أنا أعرف موضعه، فجاء حتى وقف على حمزة، فكره أن يرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبره، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: اطلب يا علي عمك، فجاء علي عليه السّلام فوقف على حمزة، فكره أن يرجع إليه، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حتى وقف عليه، فلما رأى ما فعل به بكى، ثم قال: ما وقفت موقفا قط أغيظ عليّ من هذا المكان، لإن أمكنني اللّه من قريش، لأمثلنّ سبعين رجلا منهم، فنزل عليه جبرئيل، فقال: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَ اصْبِرْ» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل أصبر «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 20

ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 280

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

أقول: فإن قيل كيف قال الرسول لأمثلنّ، مع أن كلام الرسول ليس إلا وحيا؟ و الجواب أنه ما المانع في كونه وحيا، أن ينزل لإظهار سوء فعلهم، و أنهم استحقوا مثل ذلك الجزاء، و كان وحيا ما نزل من القرآن؟ و خلف الوعيد ليس قبيحا.

[128] وَ اصْبِرْ يا رسول اللّه فيما تلاقيه من المكاره في سبيل الدعوة، و لا تنافي بين الأمرين، فإن التخيير عام لكل واحد، و هذا خاص بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلا بتوفيقه و أمره و تحت نظره وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فإن من يدعو إلى الرشاد، لا بد و أن يحزن إذا رأى الإعراض، لكن اللّه سبحانه ينهى نبيه عن الحزن- نهي إشفاق و إرشاد- كي لا يضيع حزنه عبثا وَ لا تَكُ يا رسول اللّه فِي ضَيْقٍ أي لا يضيق صدرك مِمَّا يَمْكُرُونَ يدبرون من الحيل و المكايد، لإطفاء الإسلام، و إخماد صوت الحق، فإنهم لا يقدرون على ذلك.

[129] و الزم جانب التقوى في الدعوة، و في سائر الأمور ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر و المعاصي، معهم بالمعونة و النصر و النجاة و الحفظ وَ مع الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ يحسنون في أعمالهم، و هو فوق التقوى، فإن التقوى- مثلا- أن لا تكذب، و الإحسان، أن تسبح اللّه بلسانك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 281

تقريب القران إلى الأذهان الجزء

الخامس عشر من آية (1) سورة الإسراء إلى آية (75) سورة الكهف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 282

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 283

17 سورة الإسراء مكية- مدنية/ آياتها (112)

سميت هذه السورة بهذا الاسم لاشتمالها على الفعل من «الإسراء» في قوله تعالى «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» و تسمى أيضا سورة «بني إسرائيل» لاشتمالها على لفظة «بني إسرائيل»، و هي مكية، إلا آيات، و لذا نرى الجو العام فيها، كالجو في غالب السور المكية، يعالج قضايا العقيدة، و تشتمل هذه السورة على إحدى معجزات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكثار، و هي ذهابه ليلا من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، حينما عرج به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء، ليرى آيات اللّه سبحانه في الملكوت عيانا. و حيث أن سورة النحل اختتمت بذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، تفتح هذه السورة بذلك.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله الرحمن الرحيم، فهو إله كل شي ء، مستحق لجميع أنواع الإعظام و الإكرام، أليس هو اللّه- و إنه اسم للذات المستحق لجميع أصناف المحامد-؟ و أليس هو رحمانا رحيما، متفضلا على العباد- حتى العاصين- بأنواع الإحسان و الامتنان، فمن أحق منه بذكر اسمه في أول الأشياء، و ابتداء الأعمال و الأمور؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 284

[سورة الإسراء (17): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

[2] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «سبحان»

منصوب بفعل مقدر، أي أسبح سبحان الإله الذي سار بالنبي ليلا، فإن الإسراء هو السير ليلا، و المراد بالعبد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه من أفضل صفاته أن يكون عبدا- كامل العبودية- لله، قالوا: و لذا قدم على الرسالة في التشهد «و أشهد أن محمدا عبده و رسوله» لَيْلًا للتوضيح و التأكيد مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ في مكة، و الكثيرون على أن ذلك كان من دار «أم هاني» بنت «أبي طالب» و إنما أطلق المسجد الحرام عليه، بعلاقة الكل و الجزء، فإن الجزء قد يطلق على الكل، للملابسة بينهما، فمكة يطلق عليها المسجد الحرام إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي الأبعد، فقد كان أهل مكة يسمون بيت المقدس بالمسجد الأقصى، لبعده عن محلهم، مقابل المسجد الأدنى الذي هو المسجد الحرام- عندهم- ثم أن هذا السير من مكة إلى المسجد الأقصى، يسمى في عرفنا ب «الإسراء» لأنه سير من هنا إلى هناك، ثم صعود الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المسجد الأقصى إلى السماء يسمى «معراجا» لعروجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هناك إلى السماوات، و قد كان الإسراء و المعراج في ليلة واحدة، في اليقظة ببدنه الشريف، حسب ما انعقد عليه إجماع علمائنا، و دلّ عليه ظاهر القرآن الحكيم، و الروايات المتواترة، الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فإن حول المسجد الأقصى، كان مبعث الأنبياء، و خصوصا العظام منهم، كموسى و عيسى و إبراهيم و صالح و شعيب و يعقوب و إسحاق و إسماعيل و غيرهم عليهم السّلام، و لعل هذا الإسراء كان لأجل التلميح إلى ربط الديانات الكبرى العالمية و اليهودية و المسيحية و الإسلام بعضها ببعض، في

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 3، ص: 285

أصل جوهرها قبل التحريف في الدينين السابقين، و على أيّ فقد كان حول المسجد الأقصى مباركا ببعث الأنبياء، و نشر تعاليم السماء، و كأنه سبحانه اختار هذه المناطق، لأنها الوسط بين الشرق و الغرب، فزحف الدين منها إلى العالم هين يسير بخلاف ما لو كان الدين من أقصى الشرق و الغرب، و إنما أسرينا بالرسول لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لبعض الآيات الكونية في الأرض و السماء إِنَّهُ تعالى هُوَ السَّمِيعُ لكل الأصوات فيسمع قول المكذب و المصدق الْبَصِيرُ بما يرى، فيرى المؤمن و الكافر و الحركات و السكنات، ثم أن قصة المعراج ليست عجيبة على اللّه سبحانه، و من يؤمن بأصل القرآن، و إمكان الوحي و الرسالة لا بد و أن يؤمن بهذه القصة، و الا فأي فرق بينه و بينها؟

نعم يستغرب هذه القصة الطبيعيون، و من إليهم ممن ضيقوا دائرة معارفهم في المحسوسات، و لم يؤمنوا بما وراء الطبيعة (وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا) «1» و لا بأس بالإشارة إلى مجمل من القصة، و تفصيلها في الكتب المفصلة:

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتاني جبرئيل و أنا بمكة، فقال: قم يا محمد، فقمت معه، و خرجت إلى الباب، فإذا جبرئيل و معه ميكائيل و إسرافيل، فأتى جبرئيل بالبراق، و كان فوق الحمار دون البغل، خدّه كخد الإنسان و ذنبه كذنب البقر، و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنة، و له جناحان من فخذيه، فقال لي جبرئيل: اركب، فركبت و مضيت، حتى انتهيت إلى بيت المقدس، فلما انتهيت إلى بيت المقدس، إذا بملائكة

______________________________

(1) الجاثية: 25. تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 286

من السماء نزلت بالبشارة و الكرامة من عند رب العزة، و صليت في بيت المقدس، و بشرني إبراهيم في رهط من الأنبياء، ثم وصف موسى و عيسى ثم أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة، فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا، فصعدت إلى السماء الدنيا، و رأيت عجائبها، و ملائكتها يسلمون عليّ، ثم صعد بي جبرئيل إلى الثانية فرأيت عيسى ابن مريم و يحيى ابن زكريا، ثم صعد بي إلى الثالثة، فرأيت فيها يوسف، ثم إلى الرابعة، فرأيت فيها إدريس، ثم إلى الخامسة، فرأيت فيها هارون، ثم صعد بي إلى السادسة، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض، و فيها الكروبين، ثم إلى السماء السابعة، فرأيت فيها إبراهيم، قال ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين و وصف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك إلى أن قال: ثم كلمني ربي و كلمته، و رأيت الجنة و النار و العرش و السدرة، ثم رجعت إلى مكة، فلما أصبحت حدثت به الناس، فكذبني أبو جهل و المشركون، و قال مطعم بن عدى: أ تزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب، ثم قالت قريش: أخبرنا عما رأيت، فقلت: مررت بعير بني فلان، و قد ضلوا بعيرا لهم، و هم في طلبه، و في رحلهم قعب مملوء من ماء، فشربت الماء، ثم غطيته كما كان، فاسألوهم، هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا هذه آية قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت بعير بني فلان، فنفر بكرة فلان، فانكسرت يدها، فاسألوهم عن ذلك؟ فقالوا هذه آية أخرى، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية، و هم يقولون: لقد

قضى محمد بيننا و بينه قضاء بيّنا، و جلسوا ينتظرون حتى تطلع الشمس، فيكذبوه، فقال قائل: و اللّه إن الشمس قد طلعت، و قال آخر: و اللّه هذه الإبل قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 287

[سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)

طلعت يقدمها أورق، و لما جاءت العير و سألوهم عن ما ذكره الرسول؟

تبين صدقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكنهم أبوا إلا الكفر و الفساد، و لم يؤمنوا «1».

[3] و بمناسبة الحديث عن المسجد الأقصى، يأتي السياق لبيان أحوال موسى عليه السّلام، و بني إسرائيل الذين كانوا هناك، و ما جرى عليهم حين أفسدوا و عملوا بالمعاصي وَ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ هو التوراة، كما أعطيناك يا رسول اللّه القران وَ جَعَلْناهُ أي الكتاب الذي هو التوراة هُدىً هداية و إرشادا إلى الحق لِبَنِي إِسْرائِيلَ و هم اليهود، سموا بذلك، لأنهم من أبناء يعقوب، و كان يسمى «إسرائيل» و معناه «عبد اللّه»، و كان أول الهدى الذي أنزل لأجله التوراة أَلَّا تَتَّخِذُوا أيها اليهود مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا تتوكلون عليه في أموركم، بل هو اللّه الواحد الذي لا شريك له.

[4] يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فأنتم أيها اليهود من أولاد أولئك الآباء الطاهرين المؤمنين الذين أنعمنا عليهم بإنجائهم من الغرق، حيث آمنوا بالله و رسله فلا تنحرفوا، بعد ما رأيتم نعمتي عليكم و على آبائكم من قبل، و فيه تلميح إلى ذكر نوح، بعد ذكر محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موسى عليه السّلام

إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً فهو عبد كمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أسرى بعبده» شكور يقابل نعم اللّه سبحانه بالشكر لا بالكفر. و هو تعريض باليهود الذين كفروا.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 288

[سورة الإسراء (17): آية 4]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)

[5] وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي أعلمنا بني إسرائيل فِي الْكِتابِ الذي أنزلناه على موسى، و هو التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ أي تفسدون في الأرض التي تسكنونها و هي بيت المقدس مرتين، بالكفر و إظهار المعاصي، قال ابن عباس: كان فسادهم الأول قتل زكريا، و الثاني قتل يحيى بن زكريا، ثم سلط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس في قتل زكريا، و سلط عليهم في قتل يحيى بخت نصر، و هو رجل من بابل، أقول: من عجيب أمر اليهود، أنهم يعملون و يعملون حتى يكون لهم سلطان و قوة، ثم يتخذون ذلك وسيلة للفساد، فيسلط اللّه عليهم من يبيدهم و يكثر القتل فيهم،- كما هي السنة الجارية أن من تكبر و فسد يبتلى بمن ينتقم منه- و إذا ذهب سلطانهم أخذوا في العمل من جديد، و هكذا دواليك، و في التاريخ القريب، لما قويت شوكتهم، أخذوا في الفساد، حتى سلط عليهم «هتلر» فقتلهم و شردهم، ثم نراهم من جديد- بعد تلك الاضطهادات، و بعد أن صارت لهم قوة- أخذوا يعيثون في فلسطين الفساد، فمن يا ترى يسلط عليهم هذه المرة؟ وَ لَتَعْلُنَ أي ترتفعن بعد ذلك عُلُوًّا كَبِيراً إما المراد قوتهم و شوكتهم بعد المرتين أو المراد استكبارهم و ظلمهم

و تعديهم، كما حدث في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث استكبروا و طغوا بالكفر بالرسول و أذى المؤمنين، و ما ورد في بعض الروايات من تطبيق الآية على هذه الأمة في ظلمهم الأئمة عليهم السّلام، فإن ذلك من باب القاعدة الكلية التي تنص على أن مثل القرآن مثل الشمس التي تطلع كل يوم على جميع الناس، فالقرآن ينطبق في كل زمان على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 289

[سورة الإسراء (17): آية 5]

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)

الناس، مدائحه على الأخيار و تنقيصاته على الأشرار.

[6] فَإِذا جاءَ وقت وَعْدُ نا بالانتقام عن أُولاهُما و المراد بالوعد الموعود، و المراد بأولاهما أولى المرتين اللتين تفسدون فيهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أيها اليهود عِباداً لَنا أي سلطنا عليكم بعض الملوك أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أصحاب شوكة و قوة و نجدة، و معنى بعثه سبحانه أنه يخلي بينهم و بين اليهود حتى يفعلوا بهم ما يشاءون، و هكذا كقوله سبحانه: (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) «1» فإن الملك إذا قوى طائفة و خلّى بينهم و بين سائر الناس حتى يفسدوا فيهم، يقال أن الملك أرسلهم، فَجاسُوا أي العباد المنتقمون خِلالَ الدِّيارِ أي طافوا وسط ديار اليهود، و تفحصوا و تحسبوا هل بقي منهم أحد حتى يقتلوه و يأسروه وَ كانَ ما وعدناهم من إرسال العباد للانتقام منهم وَعْداً منا مَفْعُولًا كائنا لا محالة لا خلف فيه، قد كان ذلك كما ذكره التاريخ، و من لطيف المقارنة أن يرى الإنسان أن اللّه الرؤوف الرحيم بعباده حتى أن من لطفه يبعث الرسول على الكفار ليهديهم (لَقَدْ

مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ) «2» يرسل على أهل الكتاب عبادا ليبطشوا بهم و يكثروا فيهم القتل و الهتك و السبي، حيث يخالفون الأوامر، و يفسدون و يعملون بالمعاصي.

______________________________

(1) مريم: 84.

(2) آل عمران: 165.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 290

[سورة الإسراء (17): الآيات 6 الى 7]

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)

[7] ثُمَ بعد التدمير و الفناء جزاء لأعمالكم السيئة رَدَدْنا لَكُمُ أيها اليهود الْكَرَّةَ أي الرجوع إلى الملك و السلطان و القوة و الشوكة عَلَيْهِمْ أي على أولئك الأعداء- و هم عباد لنا-، فيرجع إليكم ما فقدتموه- بعد تمام العقاب، لما ارتكبتموه- وَ أَمْدَدْناكُمْ أي أعطيناكم مددا و كثرة بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ فأكثرنا أموالكم و نفوسكم وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي عددا و أنصارا من عدوكم، و نفير جمع «نفر» كعبد جمع عبيد، و النفر هو الشخص من الإنسان، و قبل أن يبين سبحانه قصة فسادهم الثاني، و الانتقام منهم، يبين أن الأمر بأيديكم، فإن شئتم أحسنتم حتى لا يصيبكم المكروه، و إن شئتم أسأتم أن يصيبكم، فإن ما يراه الإنسان، إنما هو نتيجة عمله، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[8] لكن بنى إسرائيل لا يعتبرون، و إن رأوا ألف مرة جزاء أعمالهم السيئة، و قال لهم سبحانه إِنْ أَحْسَنْتُمْ عملتم بالأعمال الحسنة أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فإنكم بأنفسكم ترون جزاء تلك الأعمال حسنا مرضيا

وَ إِنْ أَسَأْتُمْ عملتم الأعمال السيئة فَلَها أي فلأنفسكم عملتم، و ترون جزاءها سيئا و قبيحا، و إنما لم يقل فعليها- بلفظة على- حتى يقابل «لأنفسكم» في اللفظ فيفسدون مرة ثانية فَإِذا جاءَ وَعْدُ الانتقام لفساد المرة الْآخِرَةِ أي الفساد الثاني ليسلط عليكم الأعداء مرة ثانية حتى لِيَسُوؤُا بالقتل و النهب و الهتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 291

[سورة الإسراء (17): الآيات 8 الى 9]

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9)

و الأسر وُجُوهَكُمْ فيظهر آثار المساءة على وجوهكم، فإن الإنسان إذا ملي ء قلبه بالإساءة و الإذلال، ظهر أثارها على وجهه، فهو كناية عن شدة المساءة وَ لِيَدْخُلُوا أولئك الأعداء الْمَسْجِدَ الأقصى، أقدس محلاتكم بالإذلال و الاستخفاف كَما دَخَلُوهُ الأعداء أَوَّلَ مَرَّةٍ عند الانتقام الأول وَ لِيُتَبِّرُوا أي الأعداء من تبّر بمعنى أهلك و دمّر ما عَلَوْا أي كل شي ء تمكنوا من التسلط عليه، و غلبوا عليه من بلادكم و أموالكم و نسائكم و غيرها تَتْبِيراً أي تدميرا كاملا شاملا، بحيث لا يخلو منه مكان، و لا فرد منكم.

[9] عَسى أي لعل رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد ذلك، إن أطعتم، بعد هذا الانتقام الثاني، و تصفية الحساب وَ إِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد و الإفساد عُدْنا إلى الانتقام و العقاب، و هل انقلعوا!؟ كلا إنهم لا يجدون فرصة إلا و يفسدون وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محل حصر و حبس، فاليهود الذين أفسدوا لم يكن الانتقام منهم في الدنيا فقط، بل من ورائهم جهنم فهم فيها في ذلّ

و سجن، لا خلاص لهم عنها.

[10] و بمناسبة ذكر كتاب موسى يأتي الحديث عن كتاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي البشر للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 292

[سورة الإسراء (17): الآيات 10 الى 11]

وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

و أحسنها و أشد استقامة من جميعها، فإن الطرق السابقة، و إن كانت مستقيمة، لكنها مستقيمة في ظروف خاصة، أما القرآن، فإنه يرشد إلى الطريقة المستقيمة أبدا، و لذا فهو لا ينسخ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي إنهم مع إيمانهم يعملون الأعمال الصالحة ب أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً في الآخرة، و ثوابا عظيما.

[11] وَ يبين هذا القرآن إلى جنب ذلك أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بأن فسدت عقيدتهم، و ذكر هذا للتلازم بينه و بين عدم الإيمان بالإله أو بالرسالة أَعْتَدْنا أي هيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا في الآخرة.

[12] إن القرآن يبشر المؤمن العامل بالصالحات، الثواب، و غير المؤمن بالعقاب، فهل الإنسان يترك ما يضره، و يفعل ما ينفعه؟ كلا، إن الإنسان يطلب ما هو شر له في الدنيا، فكيف يعمل الصالح، لدفع ما هو شر في الآخرة؟ وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي يطلب ما هو شر له، فالربا و الزنا و القمار و الخمر و سائر الأشياء التي يعود شرها إلى الإنسان، نراه يطلبه للذة عاجلة من غير نظر إلى عواقب الأمور، و لو كانت قريبة في الدنيا دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كما يطلب ما هو خير له من الطيبات و المباحات وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا

يتعجل باللذائذ، و إن كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 293

[سورة الإسراء (17): آية 12]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

لها عاقبة و خيمة و مستقبل سيئ.

[13] ثم ينتقل السياق من قضايا الرسل و الأمم إلى الآيات الكونية، و موقف الإنسان في هذه الحياة، و ما سيلاقي من ثواب أو عقاب جزاء أعماله وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ من آيات اللّه سبحانه، ففي خلقهما و تنظيم المعاش و الاستراحة للبشر بها، دلالة على وجود إله عليم قدير حكيم فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إضافة الآية إلى الليل بيانية، أي جعلنا الليل- الذي هو آية- ممحيا، فكما أن الخط إذا محي يبقى بعض آثاره، و البناء إذا أزيل يبقى بعض أطلاله، كذلك الأشياء تظهر في الليل، كالشي ء الذي محي، فيرى بعضها و لا يرى بعضها، فنسبة المحو إلى الليل و هو للأجسام التي فيه- مجاز- بعلاقة الحال و المحل، و هذا من بدائع البلاغة وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ أي النهار الذي هو آية مُبْصِرَةً فقد نسب الإبصار الذي هو للإنسان و الحيوان إلى النهار، مجازا بعلاقة الحال و المحل، أو السبب و المسبب أو النهار سبب الإبصار، و إنما جعلنا كذلك لِتَبْتَغُوا أي تطلبوا بسبب هاتين الآيتين فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في النهار المال و المعاش، و في الليل الراحة و الأولاد، فإن كل ذلك فضل منه سبحانه، وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ فإن السنة تتولد من الأيام، كما يتولد منها الأسبوع و الشهر وَ الْحِسابَ آجال العقود و المفاوضات و الديون و الأسفار و

غيرها مما يعدّ، فيؤتي به أول موعده وَ كُلَّ شَيْ ءٍ من كليات ما يحتاج إليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 294

[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 14]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)

البشر في دنياه و آخرته فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا فأصول العقيدة و الاجتماع و غيرهما كلها مفصلة في الكتاب، أو المراد أن جميع الأمور الكونية، قد روعيت فيها الدقة و التفصيل- أى التمييز فليس هناك شي ء خلق صدفة أو جزافا، أو بلا رعاية جهاتها و خصوصياتها، و يشهد لذلك هذا النظام الواضح في الدورة الفلكية المولّدة لليل و النهار بكل دقّة و إتقان.

[14] و إذا كان للكون إله مدبّر، و إذ كان كل ما في الكون تحت نظام و دقة، فإن الإنسان لا يخرج عن هذا النظام و الدقة، إن كل عمل يعمله، إنما هو تحت حساب إله قدير عالم، و إذا قام الجزاء انكشف له و للناس كل ما عمله من خير أو شر، صلاح أو فساد وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ اى عمله، و سمي طائرا، لأنه يسنح كالطائر الذي يطير عن يمين الإنسان أو شماله، و معنى الإلزام أنه معه لا يفارقه، فلا يتمكن الإنسان الخلاص من تبعة عمله، إلا إذا أعدم العمل بالتوبة فِي عُنُقِهِ فإن العنق موضع القلادة التي تزين، أو الجامعة التي تشين وَ نُخْرِجُ لَهُ أي للإنسان يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً مكتوب فيه جميع أعماله، و في الأحاديث، أنه مكتوب فيه حتى النفخ في النار يَلْقاهُ يلقى كتابه مَنْشُوراً مفتوحا، ليطلع عليه هو و غيره.

[15] و يقال له عندئذ اقْرَأْ كِتابَكَ

الذي أمليته و كتبه الحافظان،

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: يذكر العبد جميع أعماله، و ما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا، ما لهذا الكتاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 295

[سورة الإسراء (17): آية 15]

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)

لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها

«1» كَفى بِنَفْسِكَ أيها الإنسان في هذا الْيَوْمَ يوم القيامة عَلَيْكَ أي على نفسك حَسِيباً محاسبا، لأنه يرى أعماله، و جزاء كل عمل، فلا يحتاج إلى غيره حتى يحاسبه، و هذا غاية في الدقة و الإنصاف، حيث أن العامل هو المحاسب، و إنما كانت الدقة، لأنه لا يزيد على السيئات شيئا، و لا ينقص من الحسنات شيئا.

[16] و إذ تبين أن هناك حساب على الأعمال، و أن خيره و شره، لا بد و أن يلاقيه الإنسان يوم الجزاء ف مَنِ اهْتَدى إلى الإيمان و الإطاعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن نفع هداه يعود إليه وَ مَنْ ضَلَ عن الطريق بالكفر أو العصيان فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي يعود ضرر ضلاله على نفسه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ لا تحمل نفس حاملة للذنوب وِزْرَ أُخْرى أي ذنوب نفس أخرى، فلكل إنسان ذنبه، أما من ضل غيره، فإنه يحمل ذنب نفسه و ذنب إضلاله، فهو أيضا حامل لذنب نفسه، كما قال سبحانه (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) «2» و على هذا، فلا يظن إنسان، أن من يأمره بالكفر أو العصيان يحمل تبعته يوم القيامة وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ أي

إنما لا نعذب أحدا من الكفار و العصاة حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا يبين أن على الكفر

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 284.

(2) النحل: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 296

[سورة الإسراء (17): الآيات 16 الى 17]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

و العصيان العقاب، و للإيمان و الإطاعة الثواب، ثم إذا خالفوا عذبناهم، بعد إتمام الحجة، و قيام الأدلة و البراهين، فالأوامر العقلية قبل إتمام الحجة الخارجية، لا توجب عقابا لمن خالفها.

[17] إن اللّه لا يعذب حتى يبعث رسولا و حجة ليدل الناس على مواقع المحظور- كما سبق- فإذا عتت قرية عن الطريق المستقيم، لا يعذبها اللّه سبحانه بمجرد ذلك، و إنما يبعث الرسول بالأوامر و النواهي، و هناك يخالف المترفون و السادة الأعلون- و يتبعهم الجمهور طبعا- فيستحقوا العقاب بعد تمام الحجة وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً لأنها أسرفت في الكفر و الفساد، لم نهلكها بدون إتمام الحجة، بل أَمَرْنا مُتْرَفِيها بأوامرنا، و إنما خص المترفين، مع أن الأمر عام لكل الناس، لأنهم هم الذين إن أطاعوا أطاع الناس، و إن عصوا عصى الناس، و لذا كان الأنبياء، يذهبون إلى الملوك، و يعارضون السلطان بادئ ذي بدء، فإن الناس على دين ملوكها و كبرائها فَفَسَقُوا فِيها أي خرجوا عن الطاعة في تلك القرية، تقول: أمرته فعصاني، أي أمرته بأوامري فعصاني، و لم يمتثل، و هناك حيث خالفوا أوامر الرسل، و تمت عليهم الحجة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي ثبت على تلك القرية، قولنا بالهلاك و الدمار فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً أي أهلكناها

إهلاكا.

[18] و قد جرت هذه السنة في الأمم السابقة وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن و هو الأمة يقال لها قرن، لتقارن سن أفرادها تقريبا، كما يقال للزمان قرن، باعتبار تقارن أعمار من فيه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 297

[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 19]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)

مِنْ بَعْدِ نُوحٍ و إنما خص بما بعد نوح، لأن المعروف عند المخاطبين كان هذا الزمان، أما قبل نوح، فالتاريخ لديهم مجهول، و من البلاغة، أن يتكلم الإنسان مع الناس على قدر مداركهم، فإنه أقل مؤونة، و أقرب إلى القبول وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي يكفيه مطلعا، فليخف الإنسان من الإله العالم بالذنوب، فلا يفعل ما يوجب سخطه و عذابه بَصِيراً يبصر الذنوب، فليخجل الإنسان أن يعصي أمامه.

[19] و إذ تبين عاقبة العاصي، و عاقبة المطيع، فليتقدم كل إنسان بما يختاره من الأمرين، فإن الطريق أمامه مفتوح مَنْ كانَ يُرِيدُ الدنيا الْعاجِلَةَ فقط بدون تفكّر لما يأتي، و إرادة للدار الآجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في العاجلة ما نَشاءُ من الثروة و الفقر، و الصحة و المرض، و الأمن و الخوف، و غيرها لِمَنْ نُرِيدُ فليس كل من يريد العاجلة يعطاها، كما أن من يعطى العاجلة لا يعطاها كما يشاء، و إنما كما يشاء سبحانه حسب حكمته البالغة، و تقديره الحكيم ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة يَصْلاها أي يصل بصلاها، و يحترق بنارها في حال كونه مَذْمُوماً ملوما مَدْحُوراً مطرودا عن

الخير و السعادة.

[20] وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ في ضمن إرادته للدنيا، كما قال سبحانه في آية أخرى (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1» فعمل للآخرة،

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 298

[سورة الإسراء (17): الآيات 20 الى 21]

كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)

كما يعمل للدنيا، و لم يأت بما ينافي الآخرة وَ سَعى لَها أي للآخرة سَعْيَها السعي المناسب لها، و اللائق بشأنها، بأن عمل الأعمال الصالحة وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فإن العمل الصالح بدون الإيمان لا يفيد فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً يشكره اللّه سبحانه، بأن يعطي جزاؤهم، فإن الشكر لشي ء إعطاء جزائه، و إكرام العامل له.

[21] ثم ذكر سبحانه أنه في الدنيا لا يمنع لطفه عن الشخصين، فهو كما يعطي المؤمن يعطي الفاسق، لكن الفرق في السعادة هنا، فإن الفاسق لا يهنأ بالسعادة، كما أن الآخرة خاصة بالمؤمن كُلًّا من المؤمن و الكافر نُمِدُّ أي نعطيهم من الدنيا هؤُلاءِ الذين يريدون الآخرة وَ هَؤُلاءِ الذين يريدون العاجلة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يا رسول اللّه، أي نعمته و فضله وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا، فإنه يشمل البرّ و الفاجر.

[22] و إذ يريد أهل الدنيا الدرجات الرفيعة هنا، فليرد أهل الآخرة إياها هناك انْظُرْ يا رسول اللّه كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعض الناس على البعض الآخر في الدنيا، فبعضهم أغنياء إلى منتهى الحد، و بعضهم متوسطون، و بعضهم فقراء، و بعضهم أصحاب مناصب، و بعضهم عاديون و هكذا وَ لَلْآخِرَةُ اللام للتأكيد أَكْبَرُ دَرَجاتٍ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 299

[سورة الإسراء (17): الآيات 22 الى 23]

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)

درجاتها أكبر من درجات الدنيا وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا فمدى المفاضلة هناك أوسع،

و في بعض الأحاديث، أن أقل المؤمنين ثوابا من يعطي من الجنان بقدر الدنيا سبع مرات «1».

[23] و بمناسبة الحديث عن الآخرة، و عطاء اللّه سبحانه، و من يريد العاجلة و الآجلة، يأتي الحديث حول طائفة من الأحكام التي توجب السعادة، أو الشقاء، مبتدئا بتصحيح العقيدة لا تَجْعَلْ أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فلا إله إلا هو فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا يعني إن فعلت ذلك، بأن اعتقدت بأكثر من إله واحد، تبقى بقية عمرك- فإن قعد يطلق على البقاء و الاستمرار- مذموما، يذمك العقلاء، و أهل الدين، مخذولا يخذلك اللّه سبحانه، بمعنى أنه يقطع لطفه الخاص عنك، حتى تبقى بغير عنايته و نصرته.

[24] و كما نهى سبحانه عن الشرك في العقيدة نهى عن الشرك في العبادة وَ قَضى رَبُّكَ أي أمر أمر إلزام و فرض أَلَّا تَعْبُدُوا أيها البشر أصله «أن لا» أدغمت النون في اللام، لقاعدة «يرملون» إِلَّا إِيَّاهُ فالعبادة خاصة، و هي مشتقة من «عبد» أي الإتيان برسوم العبودية، و كون الإنسان عبدا له سيّد وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي قضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين، و هما الأب- يسمى والدا لأنه يلد بإخراج المني-

______________________________

(1) قريبا منه في بحار الأنوار: ج 8 ص 200.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 300

تقريب القرآن

إلى الأذهان ج 3 349

و الأم، و الإحسان فوق العدل كما تقدم، ثم بين سبحانه لزوم الإحسان في حال كبرهما، لأن الإنسان، إذا كبر يسي ء خلقه، و يكثر طلبه، و من طرف ثان، أن الولد- كما هو عادة كل إنسان- إذا كبر و رشد، رأى نفسه في غنى عنهما، فكان مقتضى عدم الإحسان إليهما موجودا عنده من جهتين، و لذا يخص سبحانه هذا الحال بالذكر، و قد قال بعض العارفين: إن أباك و أمك أحسنا إليك، و هما يريدان بقاءك، و يهفو قلبهما إليك، و أنت تحسن إليهما- إن تحسن- و أنت ترى استغناك عنهما، فلا يبلغ إحسانك إحسانهما- مهما أحسنت- و ليعلم الولد أن الدار دار مكافات، فمن أحسن إلى أبويه أحسن أولاده إليه، و من أساء إليهما أساءوا إليه، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ أيها الولد و «إما» أصله «إن ما» دخلت ما الزائدة، على إن الشرطية للتزيين الْكِبَرَ الشيخوخة، و الكثرة في السن أَحَدُهُما أي أحد الأبوين، و هو فاعل «يبلغن» و الكبر مفعوله، أي إن عاش أحدهما أَوْ كِلاهُما عندك حتى كبرا، و بلغا مبلغا كبيرا من العمر فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ و هي كلمة تستعمل عند الضجر، في قول مثل هذه اللفظة البسيطة، منهي عنه في الشريعة،

و قد قال الصادق عليه السّلام: لو علم اللّه لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى بها

«1» وَ لا تَنْهَرْهُما النهر هو الزجر بإغلاظ و صياح، أي لا تزجرهما، و إن أرادا منك شيئا لا تطردهما، كما قال سبحانه (وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) «2» وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 71 ص 42.

(2) الضحى: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3،

ص: 301

[سورة الإسراء (17): الآيات 24 الى 25]

وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

خاطبهما، و تكلم معهما بكلام لطيف حسن جميل.

[25] وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ فكما أن فرخ الطائر يخفض جناحه لأبويه، تذللا و خضوعا، فافعل أنت ذلك بأبويك مِنَ الرَّحْمَةِ أي اعمل هذا العمل من جهة الرحمة، و العطف بهما، لا كالطائر الذي يفعل ذلك من جهة طلب الغذاء، فإن الإنسان قد يتواضع رحمة، و قد يتواضع طمعا أو طلبا، أو ما أشبه وَ قُلْ داعيا لهما رَبِّ ارْحَمْهُما تفضل عليهما باللطف و الكرامة كَما رَبَّيانِي أي جزاء تربيتهما لي في حال كوني صَغِيراً فإنك يا رب أجزهما على أتعابهما، فإني لا أقدر على جزائهما، و في الآثار الواردة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام كثرة مدهشة من التأكيدات العجيبة حول الوالدين، و خصوصا الأم «1».

[26] أيها الأولاد إن اللّه سبحانه يعلم أعمالكم و أقوالكم و نواياكم حول الوالدين فاحذروا مخالفته، كما يعلم كل شي ء، ظاهر و خفي من كل أحد رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من غيره، فإنه يعلم وساوس الصدور، و بلبلة النفوس، فاحذروا النوايا السيئة، فكيف بالأعمال السيئة تجاه الأبوين إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ في أعمالكم و أقوالكم و نواياكم فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوَّابِينَ الذين كلما أذنبوا آبوا- أي

______________________________

(1) عدة الداعي: ص 85.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 302

[سورة الإسراء (17): آية 26]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26)

رجعوا و استغفروا- غَفُوراً يغفر

لهم، فإذا صدرت منكم زلّة تجاه الوالدين، أو نويتم نية سوء، و قد كان علم سبحانه أنكم صالحون، فتبتم تاب عليكم، و إذ تكثر الإساءة تجاههما، جاء بلفظ «الأوّاب» فإن غير الصالحين يتمادون في إساءاتهم، أما الصالح، فإنه كلما مرّ به خاطر، أو يعمل عملا منافيا، فإنه يئوب و يرجع، و يتوب إلى اللّه سبحانه، و هو يغفر له إذ يعلم صلاحه.

[27] و إذ ذكر السياق المنعم الأول- و هو اللّه- و لزوم إطاعته و شكره و عبادته، و المنعم الثاني، و هما الأبوان، و لزوم برّهما جاء إلى سائر ذوي الحقوق، فقال سبحانه وَ آتِ أي أعط ذَا الْقُرْبى ذا- بمعنى صاحب- و القربى مؤنث الأقرب، و هي صفة لمحذوف هو «صلة» أي صاحب الصلة، و النسبة القريبة إليك من الإخوان و الأجداد، و الأعمام و الأخوال و الأولاد حَقَّهُ الذي قرره اللّه سبحانه له من النفقة و الإكرام، و المزاورة و غيرها، و ما ورد في الأحاديث، أن المراد بذلك أقرباء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو خصوص الصديقة الطاهرة صلوات اللّه عليها «1»، فإنما ذلك من باب المصداق،

فقد روى الشيعة و السنة، أنه لما نزلت هذه الآية، سأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل: من ذا القربى؟

و ما حقه؟ فقال جبرئيل: ذا القربى فاطمة، و حقها فدك، و قال: أمرك ربك أن تعطي فدكا لفاطمة عليها السّلام، فأعطاها إياها

«2»، و كانت في يدها، حتى غصبوها منها بعد وفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْمِسْكِينَ أي

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 9 ص 105.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 29 ص 117.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 303

[سورة الإسراء (17): الآيات 27 الى 28]

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)

أعط المسكين- و هو الفقير- حقه من الحق الواجب، كالزكاة و الخمس، أو المستحب، كالصدقة وَ ابْنَ السَّبِيلِ و هو المنقطع في سفره، ينسب إلى الطريق لعدم معرفة أبيه، و إعطاء حقه من الزكاة و الخمس، أو الصلة و الخير وَ لا تُبَذِّرْ في الإعطاء، بأن تفرق أموالك على نحو الإسراف حتى تبقى بغير زاد تَبْذِيراً مصدر تأكيدي، و هذا كما قال سبحانه: (وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) «1» فكل من البخل و الإسراف منهي عنه، و الأوسط السخاء.

[28] إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ الذين يسرفون أموالهم، و الإسراف هو أن يعطي الإنسان المال في غير حق، سواء أعطى قليلا لمن لا يستحق، أو جاوز في الكثرة حد الوسط، فإن كلا الطرفين باطل لا يجوز كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ يقال فلان أخو فلان، أي قرينه و شبهه، أي إن المبذر قرين الشيطان، و شبيه له في المعصية و الانحراف وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً كثير الكفر، يكفر مرة ثم أخرى، لأن كل عمل يمكن أن يؤتى به بإيمان أو كفر، و كان تخصيص هذه الصفة بالذكر- هنا- لأن المبذر يكون بكل مرة من تبذيره كافرا بالنعمة، إذ لم يشكرها بجعلها في موضعها، كما أمر اللّه سبحانه.

[29] وَ إِمَّا أي «إن ما» فإن للشرط و ما زائدة للزينة، أي إن

______________________________

(1) الإسراء: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 304

[سورة الإسراء (17): آية 29]

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ

لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)

تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ عن ذي القربى و المسكين، و ابن السبيل، بأن ليس لك مال تنفق عليهم، فتضطر للإعراض عنهم حياء و استتارا ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها بأن لم يك إعراضك عنهم عن خسة نفس، و إنما تبتغي بذلك أن يتفضل اللّه عليك فتعطيهم، و في هذا أدب النفس، بأن يكون المعدم ينوي الإنفاق إن وجد فَقُلْ لَهُمْ أي المسؤول عنه قَوْلًا مَيْسُوراً أي قولا بلطف و لين يتيسر عليك، فإن القول اللين ميسور، ممكن أن يقال، بخلاف القول الغليظ البذي ء، الذي هو معسور يصعب أن يقال.

[30] و إذ أمر سبحانه بالإنفاق، و نهى عن الإسراف شبّه جانبي الرذيلة و هما البخل و الإسراف بمن يده مغلولة إلى عنقه لا يمكن أن يحركها، و بمن بسط يده حتى لا يبقى فيها شي ء، إذ لا قبض فيها ليبقى فيها مال، و الآية و إن كانت بهذا الصدد، لكنها عامة لكل إفراط و تفريط في الجهات الحيوية وَ لا تَجْعَلْ أيها الإنسان يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ بأن لا تعطي شيئا فتكون كالإنسان الذي يده مغلولة، لا يتمكن على القبض و البسط، و جاء بالعنق لأن الغل، كذلك مانع عن كل تحريك، بخلاف غل اليد وحدها وَ لا تَبْسُطْها أي لا تبسط يدك كُلَّ الْبَسْطِ بأن تعطي جميع ما عندك، حتى لا يبقى لك شي ء، فتكون كالذي بسط يده لا يستقر فيها أي شي ء فَتَقْعُدَ أي تبقى مَلُوماً يلومك العقل و الشرع مَحْسُوراً من حسر إذا انكشف، يقال حسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 305

[سورة الإسراء (17): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ

خَبِيراً بَصِيراً (30) وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)

عن ذراعه، و المحسور هو العريان، كما

قال الصادق عليه السّلام: فهو كناية عن الإنسان الذي لا مال له، كأنه عريان من الثياب

«1»، و ما دل على إن الإمام الحسن عليه السّلام بذل جميع ماله لا ينافي ذلك، لأنه كان علم أنه لا يقعد محسورا، و إنما يأتيه المال من الحقوق، و غيرها.

[31] إنك ببخلك لا تقدر أن تضيق على الناس، أو تبقي لنفسك، و لا بسرفك تقدر أن توسع عليهم، بل اللّه سبحانه هو المقدر للأرزاق يبسطها أو يقبضها، فلا تفعل ما يضرك و لا ينفع غيرك إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَ يَقْدِرُ أي يضيق فلا بخلك ينجيك من الضيق إن قدّر لك، و لا إنفاقك يسبب لك ضيقا، إن وسع اللّه عليك.

قال الشاعر:

إذا أقبل الدنيا عليك فجد بهاعلى الناس طرا قبل أن تتفلّت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت و لا البخل يبقيها إذا هي ولّت

إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً فهو عن خبرة و بصيرة يضيّق و يوسع، و عن خبرة و بصيرة يأمر بالتوسط بين البخل و الإسراف.

[32] و لقد تفشت في المجتمع الجاهلي سيئات عجيبة، فقد كانوا يئدون البنات خوف العار، و يقتلون الأولاد خوف الفقر و يكرهون فتياتهم

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 93 ص 163.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 306

[سورة الإسراء (17): آية 32]

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)

على الزنى لاكتساب الأموال، و يتعاطون الخمر و المسير افتخارا، حتى جاء القرآن الحكيم و نهى عن كل ذلك وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ

بنين و بنات خَشْيَةَ إِمْلاقٍ الإملاق الفقر، يقال أملق الرجل إذا افتقر، و «خشية» مفعول له، أي لا تقتلوهم لخوف الفقر و العجز عن النفقة عليهم نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ فإن الرزق منه سبحانه، فلا كلّ عليكم منهم، و الأسباب الظاهرية في ذلك واضحة فإن الأرض و الشمس و الماء و الهواء مصدر الأرزاق، و يحصلها الإنسان من الطبيعة بالعمل، فبحسب كل فرد الرزق مخزون، و بعمله يخرج ذلك الرزق، و هذه الآية تناسب مجتمعنا الحاضر الذي يمنع من النسل خوف الفقر، فإن أهل الخبرة، ذكروا أن الكون يتحمل أضعاف هذا البشر الموجود الآن إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً أي إثما كَبِيراً فإنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا- و من قتل الأولاد- إسقاط الجنين- فإنه محرم أكيد و موجب للدية، كما قرر في الفقه.

[33] وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى و هو إتيان المرأة، بغير حلية، و النهي عن الاقتراب مبالغة في النهي عن الشي ء، فإن من اقترب إلى شي ء كاد أن يقع فيه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي معصية عظيمة متعدية عن حدود العصيان العادي، فإن فحش بمعنى تعدى الحدود، و منه الدم الفاحش أي الأكثر من الدرهم- المعفو عنه في الصلاة- وَ ساءَ سَبِيلًا أي أن سبيل الزنى سبيل سيئ، لأنه يوجب الأمراض و إسراف المياه و اختلاط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 307

[سورة الإسراء (17): الآيات 33 الى 34]

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ

إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34)

الأنساب، و هدم نظام العائلة، إلى غيرها من المفاسد.

[34] وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها مقابل الكافر الحربي المهدور دمه، و الذي يقتل لحدّ أو قصاص إِلَّا بِالْحَقِ و هو ما كان لحد- كالمرتد- أو قصاص- كما لو قتل إنسانا عمدا- أو لأنه كافر حربي أو ما أشبه ذلك وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً قتله شخص ظالما في قتله إياه فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ أي ولي المقتول، و هو الأولى به، حسب مراتب الإرث سُلْطاناً أي تسلطا على قتل القاتل قصاصا فَلا يُسْرِفْ الولي فِي الْقَتْلِ و القصاص، بأن يقتل غير القاتل- كالثأر- أو يمثل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي إن اللّه سبحانه ينصر ولي المقتول، و نصرته أن سمح له بقتل القاتل، و أمر الحكّام بتنفيذ ذلك، و قد كانت عادة الجاهليين السائدة إلى هذا اليوم عند بعض جهلاء المسلمين أنهم يقتلون من عشيرة القاتل البري ء، لأنه صدر القتل من أحد أفراد عشيرته، و هذا هو الحرام و الإسراف في القتل.

[35] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ مبالغة، في النهي عن التصرف في ماله بغير حق، و لأن من رعى حول الحمى، أوشك أن يقع فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالصفة التي هي أحسن الصفات، و بالقربة التي هي خير أنواع الاقتراب، و ذلك بأن يصرفه على اليتيم حسب المصلحة و الاقتصاد، أو يتاجر له فيه تجارة مأمونة من الضرر، ربحها لليتيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 308

[سورة الإسراء (17): آية 35]

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)

حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ أي قواه الكامنة فيه التي تظهر لدى البلوغ و الرشد-

كما مر في سورة الأنعام- وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ مع اللّه و مع الناس، و لا تنقضوا العهد، بأن تخالفوا مقتضاه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا عنه، يسأل اللّه المعاهد، هل وفيت بعهدك؟ فإن و في، فله الجزاء الحسن، و إن لم يف، فله الخزي و العقاب.

[36] وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ بأن لا تعطوا ناقصا، و لا تأخذوا زائدا بل الوفاء هو الأخذ و العطاء حسب الوزن و الكيل المقرر وَ زِنُوا من «وزن» «يزن» بِالْقِسْطاسِ هو الميزان الْمُسْتَقِيمِ الذي لا ينحرف، أي إذا أردتم التعامل، فليكن بينكم الوزن بالموازين الصحيحة المعتدلة، التي لا تنحرف قلة أو كثرة ذلِكَ الوفاء في الكيل و الوزن خَيْرٌ لكم إذ المجتمع إذا صار باخسا، يتضرر الإنسان عند الشراء، بقدر ما يسرق عند البيع، و يوجب رفع الثقة، و ذهاب البركة؛ و تفشي المخاصمة وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أن أوله و مرجعه و مصيره أحسن من مصير التطفيف و التلاعب بالمكايل و الموازين، و من آل يؤول بمعنى رجع و صار إليه، أما في الآخرة، فالعذاب و النكال لمن بخس الناس حقوقهم، و تلاعب بالكيل و الوزن (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) «1».

______________________________

(1) المطففين: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 309

[سورة الإسراء (17): الآيات 36 الى 37]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37)

[37] وَ لا تَقْفُ القفو اتباع الأثر، و منه القيافة، فإن القائف يتبع الآثار، ليلحق بهذا أو ذاك أي لا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ و معنى الاتباع أن يظهر ما

جهله على نحو يرى أنه علمه، بأن يقول ما لا يعلم، أو يكتب ما هو مجهول لديه و نحوهما، فإذا قال «زيد في الدار» و هو لا يعلم ذلك، فقد تبع مجهولا، فإن كونه في الدار مجهول له و مع ذلك، فقد قاله- كأنه تابع له- إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ أي القلب كُلُّ أُولئِكَ الثلاثة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فيما صدر منه، فالسمع مسئول لم سمع ما سمع؟ و البصر مسئول لما نظر إلى ما نظر؟ و القلب مسئول لم عزم، و وعى ما عزم عليه و وعاه؟ فإذا عمل كل واحد من هذه الثلاثة، ما لا يعلمه استحق العقاب، و هذا من باب المثال، و إلا فجميع الجوارح مسئولة عما اقترفتها خيرا كان أم شرا، فيلزم التثبت في كل شي ء، حتى يعلم الإنسان وجهه، ثم يعمل به أو يدعه، أما أن يتحرك وراء المجهول، فيسمع ما لا يعلم حليته، أو ينظر إلى ما لم يعلم جواز نظره إليه، أو يظن- بقلبه- سوءا فيما لا يدري، و نحوه أن يعقد قلبه على اعتقاد لا يدري صحته، و هكذا أعمال اليد و الرجل و الفرج و اللسان و غيرها، فإن ذلك موجب للحظر.

[38] وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً المرح الخيلاء و التكبر، و إنما قال «في الأرض» لأن المشي كثيرا ما يستعمل في غير معنى الذهاب، كما قال سبحانه (وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) «1» و كثيرا ما يأخذ الإنسان

______________________________

(1) ص: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 310

[سورة الإسراء (17): الآيات 38 الى 39]

كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ

اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)

الكبر، فيظن أنه عظيم، حيث رأى لنفسه مالا أو جمالا، أو منصبا أو ما أشبه، لكنه غافل عن أنه صغير عاجز، فهذه الأرض تحت رجله، و هذه الجبال مطلة عليه، أيهما أعظم، أهو، أم هما، و هل يتمكن الإنسان، أن يشق الأرض شقا، فيجعلها نصفين؟ أو هل يمكن أن يطول نفسه حتى يبلغ طول الجبال؟ كلا، فما هذا الضرب على الأرض بغرور، و ما هذا الكبر و الاستعلاء، فالأرض التي يضربها برجله، لا يتمكن من التصرف فيها، و الجبال التي تعلوه لا يتمكن من الوصول في طوله إليها إِنَّكَ أيها المرح لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقدر على شق الأرض وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا و ارتفاعا.

[39] كُلُّ ذلِكَ الذي تقدم من المحرمات التي نهى اللّه عنها كانَ سَيِّئُهُ إنما قال «سيئه» للدلالة على أنها سيئات، و إلا فمقتضى القاعدة أن يقال «كان» فقط عِنْدَ رَبِّكَ يا رسول اللّه مَكْرُوهاً فإنه سبحانه يكره هذه الخصال الخمس و العشرين التي ذكرت من قوله سبحانه (لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) «1» إلى هنا.

[40] ذلِكَ الذي تقدم من النواهي عن الكفر و القبائح مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يا رسول اللّه مِنَ الْحِكْمَةِ و هي العلم بوضع الأشياء مواضعها اللائقة بها، فإن ترك المعاصي من الحكمة، ثم يرتد السياق إلى ما

______________________________

(1) الإسراء: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 311

[سورة الإسراء (17): آية 40]

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)

ابتدأ به النواهي من قوله «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن تعبد إلهين اثنين أو أكثر، و

الخطاب عام، و إن كان في الصورة موجها إلى النبي على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ تطرح فيها جزاء للشرك مَلُوماً تلومك نفسك، و الناس و الملائكة مَدْحُوراً مطرودا عن رحمة اللّه و فضله، من دحر بمعنى طرد.

[41] و إذ جرى الكلام حول الشرك المرتبط بالعقيدة نحو المبدأ، جاء السياق ليعطف بعض خرافات الكفار إلى ذلك، فقد زعموا أن اللّه أخذ زوجة جنية، كما قال (وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) «1» فأولدت له بنات هي الملائكة، أما البنون، فقد جعلها سبحانه لهم فقط، فلم يتخذ ابنا، فقال في معرض الإنكار و الرد عليهم، أَ فَأَصْفاكُمْ أي هل خصكم رَبُّكُمْ أيها المشركون القائلون، بأن الملائكة بنات اللّه بِالْبَنِينَ فجعل لكم الأولاد الذكور وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً «من»، إما لبيان الجنس، أي اتخذ جنس الملائكة بناتا، أو للتبعيض، أي جعل بعض الملائكة إناثا إِنَّكُمْ أيها الكفار لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بجعلكم الأولاد لله ثم بتفضلكم عليه، بجعل البنين لأنفسكم، و البنات لله سبحانه.

______________________________

(1) الصافات: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 312

[سورة الإسراء (17): الآيات 41 الى 42]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)

[42] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا الحق فِي هذَا الْقُرْآنِ فجئنا بأساليب شتى، و طرق متنوعة، لبيان التوحيد و قضية المبدأ، و التصريف التحويل من حالة إلى حالة، و من صورة إلى صورة لِيَذَّكَّرُوا أي يتذكروا خالقهم، و يعرفوا الحق وَ لكن عكسوا الأمر في ما يَزِيدُهُمْ بيان الحق، و القرآن إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق، و نفرة من

الواقع و الحقيقة.

[43] ثم عطف سبحانه إلى المشركين، ليستدل عليهم، بأنه لا يمكن تعدد الآلهة قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع اللّه آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ و الاستدلال عام، حتى لن يقول بإلهين اثنين، و إنما ذكر «الآلهة» حسب اعتقاد الكفار، ليطالب الاحتجاج كلامهم إِذاً في حين التعدد لَابْتَغَوْا تلك الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ صاحب العرش، و هو اللّه سبحانه سَبِيلًا أي طلبوا طريقا يقربهم إلى مالك العرش، أو طلبوا سبيلا إلى مغالبة مالك العرش و الترفع عليه، ليكونوا هم الآلهة العليا، لا مالك العرش، فإذا قيل: أي تلازم بين التعدد و بين تقرب تلك الآلهة إلى ذي العرش؟ و ما الدليل على إنهم لا يبتغون، حتى يبطل المقدم- و هو التعدد- «على المعنى الأول» و أي تلازم بين التعدد و التغالب بين تلك الآلهة، و بين إله العرش؟ و ما الدليل على أنهم لا يتغالبون؟ «على المعنى الثاني» قلنا: إن الآلهة الصغرى، لا بد و أن تكون ناقصة و مدركة نقصها قابلة للاكتمال- و لو نوعا ما- فإدراكها يدفعها إلى التقرب، لتكميل النقص- فالتلازم مبني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 313

[سورة الإسراء (17): الآيات 43 الى 44]

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

على مقدمات أربع: نقصها و إدراكها و قابليتها للكمال، و حفزها نحو الكمال، و كلها مسلمة، لأنها من لوازم الإله، و أما الدليل على أنهم لا يبتغون، لأنهم لو ابتغوا لعلمنا ذلك، فيخبرنا الأنبياء الصادقون، فعدم إخبارهم لذلك، دليل على

العدم «هذا كله على المعنى الأول» و أما التلازم، و نهي التالي على المعنى الثاني، فنقول لو كان هناك آلهة متعددة، لكانت متساوية، و التساوي نقص في الإله، لأنه يوجب عدم استقلاله في الكون، و هذا النقص لا ينعدم، إلا بإعدام الإله الآخر، و ذلك مقتضى للخصومة بين الآلهة، و لا يقال إن كل إله يعلم أنه لا يقوى على إعدام الآخر، فلا يخاصمه؟ لأنا نقول: إن قدر هذا الإله على إعدام ذلك خاصمه، و إن لم يقدر على إعدامه لم يكن إلها، إذ الإله هو القادر على كل شي ء، و أما الدليل على عدم المخاصمة، ما نرى من سير الكون باعتدال، فلو وقعت الخصومة، لاضطربت الأكوان تبعا للخصام و المشاجرة «1» [44] سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها وَ تَعالى أي ترفع، بمعنى أنه أرفع و أسمى عَمَّا يَقُولُونَ أي يقول هؤلاء الكفار من التعدد، و اتخاذ الأولاد عُلُوًّا كَبِيراً فلا نسبة بينه و بين الشركاء و الأولاد، كما تقول، إن الفقيه أعلى من الحمال علوا كثيرا، فلا نسبة بينهما- في العلم-.

[45] تُسَبِّحُ لَهُ أي تنزهه عن الصاحبة و الولد و الشريك، و كل نقص السَّماواتُ السَّبْعُ فإنها أدلة على وجوده و نزاهته، إذ غير المنزه عن

______________________________

(1) إن الدليل مفصل مذكور في الفلسفة و الكلام، نكتفي منه بهذا القدر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 314

[سورة الإسراء (17): آية 45]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45)

النقائص المتصف بالمحامد، لا يمكن أن يكون إلها لها، و المراد بالسماوات، إما أجرام، يعلمها اللّه سبحانه، في الفضاء المهول، و إما المدارات السبع السيارة- كما قالوا- وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ أي في

السماوات و الأرض، و إنما جي ء بضمير العاقل، للتلازم بين التسبيح و بين العقل، و لعل لهذه الأشياء إدراك لا نعرف كيف هو وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ «إن» نافية، أي ما من شي ء إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه بالثناء الجميل، فإذا أثنى الإنسان بالجميل على أحد- كأن قال فلان عالم- كان تنزيها عن الجهل، و تحميدا بالعلم، و قد مرّ أن التسبيح، قد يكون بالحمد، و قد يكون بغير الحمد، فقد يقال فلان غير زان فهو تنزيه فقط و قد يقال فلان عفيف فهو تنزيه بالحمد، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ أيها البشر تَسْبِيحَهُمْ إن كان المراد تسبيحهم تنزيهم لله سبحانه بلسان الحال، من باب أن المصنوع المتقن، يدل على وجود الصانع و علمه و قدرته و حياته و حكمته، فعدم فقهنا لتسبيحهم بمعنى عدم إدراك ذلك بالحواس أصلا، إذ ليس صوت فيسمع أو طعم فيذاق أو منظر فيرى، و هكذا، و إن كان المراد تنزيههم له بكيفية خاصة، فعدم فقهنا لتسبيحهم لقصور مداركنا عن الدرك، كما تقصر حواسنا عن إدراك الملائكة إِنَّهُ سبحانه كانَ حَلِيماً و من حلمه أنه لا يعجل بالعقاب على من ينسب إليه هذه النسب غَفُوراً يغفر لمن تاب فلا يأس من رحمته سبحانه لمن تمادى في غيّه، ثم أقلع و أناب.

[46] إن الكفار قد عرفنا مقالاتهم التافهة السخيفة حول التوحيد و الألوهية، فلننظر إلى عملهم مع الرسول و القرآن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 315

[سورة الإسراء (17): آية 46]

وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يا رسول اللّه جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هم الذين لا يؤمنون بالإله، و إنما يعبر عن ذلك، بعدم الإيمان بالآخرة، للتلازم بينهما، و بيان أن المؤمن بالتوحيد، لا بد و إن يؤمن بالآخرة حِجاباً مَسْتُوراً عن الأعين، فإن ذلك الحجاب لا يراه الناس، و إنما جعله سبحانه على الكفار ليرهبوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يؤذوه،

فقد ورد أن الكفار كانوا يؤذون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالليل إذا تلى القرآن، و صلى عند الكعبة، و كانوا يرمونه بالحجارة، و يمنعونه من دعاء الناس إلى الدين، فحال اللّه سبحانه بينه و بينهم، حتى لا يؤذوه

«1»، و قد يقال عن هذا الحجاب أنه طبيعي لكل إنسان يدعو إلى الحق في سلام، فإن الحق، إذا أثار أهل الباطل، كان السّلام المحتف به يولد فيهم هيبة لا يتمكنون من الاقتراب إلى الداعي.

[47] و من المعلوم أن المبطل إذا ركب رأسه، مصمما على الإعراض، تولدت فيه ملكة تغلف قلبه عن الانصياع، كما أن سمعه يخرج عن النطاق العادي للإسماع، إذ لا يستعد لاستماع الحق، و اللّه سبحانه، حيث يريهم أنهم أعرضوا عن الحق بادئ ذي بدء تركهم و شأنهم، فلا يلطف بهم الألطاف الخفية التي يلطفها على المؤمنين الذين رأوا الحق فاتبعوه، و بمناسبة بيان الحجاب الفاصل بين الرسول و بين الكفار، يأتي الكلام حول سائر الأشياء الحائلة، بينهم و بين الرسول عن أذاهم و حجاب يمنعهم عن الاستفادة من الحق وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 256.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 316

[سورة الإسراء (17): آية 47]

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ

يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)

أي أغطية و أغلفة أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا القرآن، أولئك يفقهوه وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ جمع أذن وَقْراً و هو الثقل، أي إنما تركناهم متى أصبحت قلوبهم كأنها في غطاء، حيث الإنكار ملكة لهم، و حتى أصبحت آذانهم كأن فيها الثقل، و إنما نسب سبحانه الجعل إلى نفسه لأنه تركهم حتى وصلت حالتهم إلى ذلك وَ إِذا ذَكَرْتَ يا رسول اللّه رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ بأن قلت أنه إله واحد، و قرأت القرآن الدال على التوحيد، و بطلان التعدد و الشرك وَلَّوْا أي أعرضوا هؤلاء الكفار عَلى أَدْبارِهِمْ إفادة لتأكيد الإعراض، فإن الإنسان قد يعرض و هو جالس أو واقف، و قد يعرض و يذهب مدبرا دلالة على زيادة الإنكار نُفُوراً مصدر تأكيدي، لما دل عليه، ولّوا أي نفروا نفورا.

[48] إنهم قد يحضرون مجالسك للاستماع، لكن لا للتفهم، بل ليروا ذلك فيحيكون المؤامرة ضد القرآن، و ضد الرسول نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي بالنحو الذي يستمعون به- فما، موصولة- فإن الاستماع على أنحاء قد يكون للتفهم، و قد يكون للاستهزاء، و قد يكون للرد، إلى غير ذلك، فإنا نعلم غرضهم في الاستماع، و سنجازيهم عليه إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي زمان استماعهم لقراءتك وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي و الزمان الذي يناجي بعضهم بعضا، ماذا يقولون عن القرآن، و عن الرسول، فيقول بعضهم إنه سحر، و آخر إنه كهانة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 317

[سورة الإسراء (17): الآيات 48 الى 49]

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49)

و آخر إنه

شعر، إلى غير ذلك و قوله «هم نجوى» من باب «زيد عدل» مبالغة، أو التقدير «ذوو نجوى» إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون، و المراد بالخطاب المؤمنون، و إلا فهم ما كانوا تابعين إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي قد سحروه، فاختلط عقله، فإنه كثيرا ما يختلط عقل المسحور.

[49] انْظُرْ يا رسول اللّه، إلى هؤلاء المعاندين كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فقالوا شاعر، و كاهن، و مجنون، و ساحر، و مسحور، و غير ذلك فَضَلُّوا ضلالا شديدا، فإن الإنسان إذا ضل ابتداء، فلم يتماد فيه رجع عن غيّه، أما إذا تمادى و جعل يجمع اللقطات حول ضلاله يستحكم ضلاله، فَلا يَسْتَطِيعُونَ لتكذيبك، و الوقيعة فيك سَبِيلًا صحيحا، أو لا يستطيعون طريقا للرجوع، لأنهم، قد تمادوا، فصارت الضلالة ملكة لهم، و الإنسان إذا صار كذلك صعب رجوعه، فالمراد بعدم الاستطاعة العرفي لا الحقيقي.

[50] و إذ رأينا مقالاتهم السخيفة حول المبدأ، و حول الرسول و القرآن، فلنسمع كلامهم حول المعاد وَ قالُوا أي قال هؤلاء الكفار أَ إِذا كُنَّا عِظاماً استفهام إنكاري استهزائي يعني متنا، و ذهب لحومنا، و بقي من أجسامنا العظام المجردة، وَ رُفاتاً هو ما يتكسر، و يبلى من العظام و غيرها، و اللفظ مفرد، من رفت، بمعنى بلى و تحطم أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ نحيى للحساب خَلْقاً جَدِيداً بعد الفناء و البلى؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 318

[سورة الإسراء (17): الآيات 50 الى 51]

قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)

هذا لا يكون أبدا.

[51] قُلْ يا رسول اللّه لهم مستهزئا

بهم- كما يستهزئون هم- كُونُوا حِجارَةً بعد الموت أَوْ حَدِيداً مما هو أبعد في نظركم، من الرفاة من جهة قبول الحياة.

[52] أَوْ خَلْقاً آخر غيرهما و غير الرفاة، كأن ليصبحوا خزفا أو مدرا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ من حيث بعده عن الحياة، تصوروا ما شئتم، فإنكم ستبعثون، و اللّه القادر على الابتداء، قادر على الإعادة (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) «1» فَسَيَقُولُونَ إذا صرنا كذلك ف- مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة، بعد أن صرنا حجرا، أو حديدا، أو ما أشبه؟ قُلِ يا رسول اللّه لهم الَّذِي فَطَرَكُمْ و خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و هو اللّه سبحانه، بل الخلق أول مرة أبعد في نظر الإنسان من الإعادة، و إن كان الأمران عند اللّه سيّان فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركون نحوك رؤوسهم تحريك استهزاء و تعجب و تكذيب، يقال أنغض رأسه إذا حركه بارتفاع و انخفاض وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ أي في أي وقت يكون البعث؟ قُلِ يا رسول اللّه في جوابهم عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً لعله قريب، فإن كل آت قريب،

و قد كتب الإمام

______________________________

(1) يس: 80. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 319

[سورة الإسراء (17): الآيات 52 الى 53]

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53)

الحسين عليه السّلام إلى محمد بن علي «بسم اللّه الرحمن الرحيم، كأن الدنيا لم تكن، و كأن الآخرة لم تزل، و السّلام» «1»

[53] إن البعث إنما يكون يَوْمَ يَدْعُوكُمْ اللّه من قبوركم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي يكون جوابا مقارنا لحمده خوفا منه، فإن الإنسان الخائف يمدح المخوف منه، ليستعطفه و يستجلب

رضاه وَ تَظُنُّونَ في ذلك اليوم إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم و بقيتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا فقد استقلوا مدة بقائهم في الدنيا، حتى أنه حين يقال لهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) «2»، و في آية أخرى (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ..) «3» و نحن نرى ماضي أعمارنا، كأنه لم يكن إلا مدة يسيرة.

[54] و إذا رأينا عاقبة المكذبين القائلين سيئا، فليتوجه المؤمنون إلى مقالهم، فلا يكون إلا حسنا، سواء كان مرتبطا بالاعتقاد، أو بغيره وَ قُلْ يا رسول اللّه لِعِبادِي الذين يسمعون منك يَقُولُوا جزم الفعل، لأنه في جواب الأمر، المقالة و الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ من سائر المقالات و الكلمات، و هي في الاعتقادات كلمة الشهادتين، و في الاجتماعيات كلمة الإصلاح، و هكذا، فإن الكلمة توجب الفتن و الاضطراب إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد و يغري بعضهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 87.

(2) المؤمنون: 113 و 114.

(3) يونس: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 320

[سورة الإسراء (17): الآيات 54 الى 55]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)

ببعض، إذا صدرت منهم الكلمة السيئة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في جميع الأوقات لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة، و أيّة عداوة أكثر من إفساد الدنيا و الآخرة.

[55] و لا بد بعد هذه التوصية، و غيرها، أن تخرج من الإنسان الكلمة السيئة، فليكن الإنسان عند ذلك بين الخوف و الرجاء، و لا يكن يزك نفسه، فالله

أعلم به من غيره، و حتى من نفسه، إذ كثيرا ما لا يعلم الإنسان مقدار الجرم الذي اقترفه، بينما اللّه عالم بذلك، رَبُّكُمْ أيها البشر أَعْلَمُ بِكُمْ و بما أجرمتم من الآثام إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ و ليست إرادته اعتباطية، بل تابعة لموازين عادلة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بما عملتم من المعاصي، و قلتم من الكلمات السيئة وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ على البشر وَكِيلًا حتى تكون أنت المسؤول عن جرائمهم، بل أنت داع و هاد، فعليك أن تقول كما أمرنا «قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» و عليهم العمل، فإن لم يعملوا، كان حسابهم على ربهم، إن شاء رحم و عفى، و إن شاء عذب و أهان.

[56] إن علم اللّه ليس خاصا بهؤلاء وَ رَبُّكَ يا رسول اللّه أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل تحت علمه الشامل ملائكة كانوا، أم بشرا أم جنا، و بمقتضى علمه الشامل بالبواطن، فضل بعض النبيين على بعض، و منه يعرف وجه تفضيل النبيين على سائر الناس، و إنما جي ء بهذا الأمر هنا، لأن سوق الآيات حول العقيدة مبدءها و رسالتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 321

[سورة الإسراء (17): الآيات 56 الى 57]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

و معادها وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ حيث إن نفسياتهم كانت مختلفة، بعضها أرقى من بعض وَ آتَيْنا داوُدَ النبي عليه السّلام زَبُوراً كما أتيناك القرآن، فلا مجال للكفار، أن يقولوا: إن الأنبياء عليهم السّلام جاءوا بخوارق كونية،

فما معنى مجيئك، بهذا الكتاب؟

و هلا كان كعصى موسى أو إبراء الأكمه و الأبرص كعيسى؟

[57] و لقد كان المشركون يعبدون من دون اللّه المسيح و عزير و الملائكة، فيأتي السياق للاحتجاج عليهم، حيث أن الجو العام حول العقيدة قُلِ يا رسول اللّه لهؤلاء المشركين الذين يعبدون هؤلاء ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ بأنهم آلهة مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه، ادعوهم ليكشفوا ضركم، و ما يصيبكم من البلاء و المحنة فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ بأن يرفعوا البلاء رأسا وَ لا تَحْوِيلًا بأن يحولوه من مكان إلى مكان، إنهم إنما يفعلون ما يفعلون بإذن اللّه و أمره و إرادته، أما أن يستقلوا بلا دخل اللّه سبحانه إطلاقا، فإنه لا يكون.

[58] أُولئِكَ الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم هؤلاء المشركون آلهة يَبْتَغُونَ و يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يتوسلون إليه سبحانه للتقرب منه، أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الأقرب من هؤلاء الآلهة- كعيسى- عليه السّلام يطلب القرب إلى اللّه فكيف يكون إلها من حاله كذلك؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 322

[سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 59]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)

وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إن الأقرب من آلهتهم يطلب القرب إلى اللّه بالطاعة، و هو خائف منه، راج لطفه، فهل يمكن أن يكون إلها في عرض إله السماء، كما يزعم المشركون؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا رسول اللّه كانَ مَحْذُوراً أي يحذر منه و يتقى، حتى أن أكبر آلهة هؤلاء يخافه، فكيف

لا يخافون هؤلاء، و يتمادون في الشرك و الضلالة و العصيان؟

[59] فليخف هؤلاء الكفار عذاب اللّه سبحانه، و ليحذروا أن يحل بهم العذاب المقرر لبعض القرى حين يتمادون في الغي وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي ما من بلدة، و القرية هي البلدة إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالإماتة، فإن يوم القيامة لا يأتي إلا بعد موت الجميع أَوْ مُعَذِّبُوها أي معذبوا أهلها، بعلاقة الحال و المحل- كما سبق- عَذاباً شَدِيداً فلا يتمادى هؤلاء في غيهم، فإن مصيرهم الموت و العذاب هناك، إن لم يعذبوا هنا كانَ ذلِكَ الإهلاك إماتة، و العذاب فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي قد سطر و كتب، فلا مفر لأحد، و لا منجى لبشر.

[60] و ليترك هؤلاء الكفار غيهم و طلباتهم السخيفة التي طلبوها، بأن تأتي يا رسول اللّه بالخوارق، فقد كفاهم القرآن حجة و برهانا وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ الرسل بِالْآياتِ الخارقة التي يطلبها الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 323

[سورة الإسراء (17): آية 60]

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي الأمم السابقة، فقد كانت الخوارق المقترحة تصاحب الرسالات، لتصديق الكفار، و لتخويفهم من عاقبة التكذيب، لكن حين لم تكن الخارقة تنفع، فإن المنصف يؤمن بدونها، و الجاحد لا يؤمن حتى بها- كما حدث في قصة صالح، حيث طلبوا الناقة، ثم لم يؤمنوا- جاءت الرسالة الأخيرة، بدون تلبية لمثل هذا الطلب، و هنا سؤال:

إن الخارقة لو كانت تنفع، فلما ذا تجردت منها الرسالة الأخيرة؟ و إن كانت لا تنفع، فلما ذا

صاحبتها الرسالات السابقة؟ و الجواب إنها لا تنفع، و لكن جي ء بها حتى تكون حجة لتلك الأمة و لسائر الأمم بأن الخارقة لا تفيد في إيمان المعاند، و قد رأيتم ذلك و جربتموه، و إن كان اللّه سبحانه يعلم ذلك من الأزل وَ آتَيْنا ثَمُودَ أي قبيلة ثمود، قوم صالح النبي عليه السّلام النَّاقَةَ العجيبة، آية مُبْصِرَةً لهم، تبصرهم صدق صالح، و أنه نبي من عند اللّه فَظَلَمُوا أنفسهم بسببها إذ كفروا، فأخذهم العذاب وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ التي نرسلها مع الرسل إِلَّا تَخْوِيفاً و إذ لم ينفع هذا النوع من التخويف- كما جربتم- فلا علينا إلا أن نتم الحجة، أما إعطاء الخوارق الأنبياء، فلا يلزم في الحكمة.

[61] وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهو يعلم ضمائرهم و نفسياتهم، كالمحيط الذي يشتمل على المحاط، فلا يخرج منه شي ء، إن اللّه سبحانه محيط بالناس مطلع على جميع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 324

خصوصياتهم، أي فهل تحتاج إلى أكثر من قصة ناقة صالح، شاهدا لما ذكرناه، من أن الناس لا يؤمنون بالخارق؟ و هذا كما إذا قلت لزيد:

إن عمروا رجل بخيل، ثم ذكرت له شاهدا على بخله، بأنه نهر الفقير الفلاني، تقول: و إذ قلت لك أن عمروا بخيل. و هنا يأتي سؤال أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لو كان لا يأتي بالخارق، فكيف أخبر بأنه يدخل مكة، كما قال سبحانه (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ) «1» أ ليس الإخبار بما يأتي خارقا؟ و كيف أخبر بأنه رأى عند المعراج شجرة الزقوم في الجحيم، أليس الإخبار عن الغيب خارقا؟ و

الجواب أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخبر بذينيك الأمرين، دليلا على نبوته «كما جاء صالح بالناقة دليلا على نبوته» و إنما أخبر بذلك فتنة و امتحانا للناس، ليظهر المؤمن إيمانا راسخا من غيره، كما ظهر شك البعض في قصة الحديبية، و كما يكون الإخبار عن الزقوم في النار، محلا لشك بعض ضعفاء الإيمان، كيف تنبت في النار الشجرة؟ و هنا أمور، الأول، أن ما ذكرنا من كون «الرؤيا» قصة دخول مكة، لا ينافي عدم كون هذه السورة مدنية، لأنه ذكر جمع من المفسرين، أن جملة من آيات هذه السورة مدنية، الثاني إنا لا نعلم مراده تعالى من هذه الآية الكريمة، و إنما ذكرنا ذلك التفسير اتباعا لجماعة من المفسرين، و حيث رأيناه أقرب إلى ارتباط الآية، بما قبلها، و ارتباط بعض أجزائها ببعض، أما مراده سبحانه، فهو خاف علينا، و لم يرد شي ء مفصل من المعصوم، نقطع، بأنه عليه السّلام فسّر الآية تفسيرا، لا تأويلا، و من باب المصداق، و ما أشبه، حتى نتبعه، الثالث، ورد في جملة من

______________________________

(1) الفتح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 325

الروايات، أن المراد بالرؤية، ما أري النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منامه، من أن نبي أميّة ينزون على منبره كنزو القرد، و أنهم المراد بالشجرة الملعونة،

فقد روي أن الإمام سئل عن هذه الآية، فقال: إن رسول اللّه نام، فرأى أن بني أميّة يصعدون منبره، يصدون الناس، كلما صعد منهم رجل، رأى رسول اللّه الذلة و المسكنة «أي لأمته» فاستيقظ جزوعا من ذلك، فكان الذين رآهم اثني عشر من بني أمية، فأتاه جبرئيل بهذه الآية

«1»، إلى غير ذلك من الأحاديث

المتواترة، و الذي احتمل أن هذا من باب التأويل، و ذكر المصداق للآيات في كل زمان، كما ذكرنا مكررا، و إن كان من المحتمل أن «الرؤيا» يراد بها هذه، فيكون الارتباط في أجزاء الآية، إن إخبارك يا رسول اللّه بهذه الرؤيا، و أنه سيكون ذلك مستقبلا ليس من الخوارق التي ذكرنا في شأنها «و ما منعنا» و إنما هي للفتنة و الاختبار، و سنجري في تفسير الآية، على ما ذكرنا أولا- و اللّه العالم- وَ ما جَعَلْنَا يا رسول اللّه الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ حيث رأيت أنك تدخل المسجد الحرام آمنا، و أخبرت بذلك قومك، عن الغيب إِلَّا فِتْنَةً و اختبارا لِلنَّاسِ ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره، و لم تكن خارقة تزيد إثبات نبوتك بها- من قبيل ناقة صالح- وَ ما جعلنا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ التي رأيتها في معراجك في الجحيم، و هي شجرة الزقوم، و معنى كونها ملعونة أنها مبعدة عن الخير، لا تأتي بخير، و إنما تأتي بشرّ، و عذاب للكفار، إلا فتنة للناس ليتميز المصدّق بها من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 33 ص 209.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 326

[سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 62]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62)

المكذّب، فقوله «و الشجرة» عطف على «الرؤيا» و قوله فِي الْقُرْآنِ بمعنى أنها ذكرت في القرآن، فالظرف متعلق ب «الشجرة» وَ نُخَوِّفُهُمْ أي نخوف هؤلاء الكفار، بما نأتي لهم من الأدلة على هلاك المكذبين، و سوء مصير الكافرين فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فإن المعاند، كلما

رأى قوة حجة الطرف، زاد عنادا و إصرارا، ليقاوم بعناده و إصراره الحجة أكثر فأكثر.

[62] وَ اذكر يا رسول اللّه لهؤلاء- لعلهم يعتبرون، و يعرفون أن الشيطان قد خدعهم، حسب سابق وعده بإهلاك الناس- إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و قد كانت السجدة لله سبحانه، و التعظيم لآدم، حيث جعل قبلة، كما أن سجدتنا لله، و فيها تعظيم الكعبة، حيث أنها إليها فَسَجَدُوا جميعا إِلَّا إِبْلِيسَ لم يسجد كبرا و حسدا قالَ مبرّرا لفعله ذلك أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ يا رب في حال كونه طِيناً؟ و أنا أشرف منه، فكيف يسجد الأشرف للأدنى؟.

[63] و حين رأى الشيطان، أنه طرد عن ساحة القرب، على كبره، في عدم سجوده لآدم قالَ لله سبحانه أَ رَأَيْتَكَ أي أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ استفهام استنكاري، هذا آدم هو الذي كرمته عليّ، و فضلته و شرفته على مثلي؟ ثم قال لَئِنْ أَخَّرْتَنِ و لم تمتني، يا رب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 327

[سورة الإسراء (17): الآيات 63 الى 64]

قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ حسب ما وعده سبحانه (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) «1» لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ الاحتناك الاقتطاع من الأصل، أي لأقطعنهم عن الطريق، إلى سبيل الغواية إِلَّا قَلِيلًا منهم من حفظته يا رب عن الكفر و المعاصي، كما قال سبحانه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) «2».

[64] قالَ الله سبحانه في جواب إبليس، و تهديده بإغواء ذرية آدم اذْهَبْ يا إبليس فَمَنْ

تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم، بأن كفر أو عصى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أنت على كبرك و اغوائك، و هم على غوايتهم و ضلالتهم جَزاءً مَوْفُوراً كاملا غير ناقص، من الوفر بمعنى الكمال.

[65] وَ اسْتَفْزِزْ يا إبليس من استفز، بمعنى استنهض، كأن الشيطان يطلب نهوضهم للكفر و المعصية مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم، و المراد بالأمر التهديد بِصَوْتِكَ تشبيه له بالداعي الذي يصيح بالناس حتى يتبعوه وَ أَجْلِبْ يا إبليس، يقال أجلب الرجل على صاحبه، إذا توعده بالشر، و جمع عليه الجيش، لأنه جلب و أحضر على ضرر صاحبه عَلَيْهِمْ على ذرية آدم بِخَيْلِكَ بفرسانك

______________________________

(1) الحجر: 38 و 39.

(2) الحجر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 328

[سورة الإسراء (17): الآيات 65 الى 66]

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66)

الراكبين وَ رَجِلِكَ أي راجليك، و هو كناية عن إعمال جميع قواه، كما أن من يريد هزيمة عدوه يجمع له كل فارس و راجل له وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بأن تعطيهم بعض الحرام، و تأخذ منهم في سبيل الحرام وَ الْأَوْلادِ بأن تأتي إليهم بأولاد الحرام، و تجعلهم يضعون أولادهم في المحرمات، و يضلونهم، كأن المال و الولد الحلال، ما هو من الله و إلى الله، أما الحرام منهما، فما هو من الشيطان و إلى الشيطان- بجميع صور ذلك- وَ عِدْهُمْ أي منّهم بالأماني الكاذبة المسببة لضلالهم و عصيانهم، ثم ذكر سبحانه ملتفتا إلى المخاطبين، الذين سيقت هذه الآيات لإرشادهم، و أنهم إنما يتبعون الشيطان وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً فإنه يزين لهم الخطأ

كأنه صواب، و الباطل كأنه حق، فيغرهم بذلك و يغشهم.

[66] ثم ذكر سبحانه أن الشيطان لا يقدر على كل ذرية آدم عليه السّلام إِنَّ عِبادِي الذين أطاعوني لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ سلطة و قدرة، لأنهم الأصفياء الذين لا يرضخون لإغوائك، و لا يتبعون خطواتك وَ كَفى بِرَبِّكَ يا رسول الله على العباد وَكِيلًا حافظ للعباد الصالحين من مكائد إبليس.

[67] ثم عطف السياق نحو الآيات الكونية الدالة على وجوده، محذرا إياهم عقابه، بعد ما أراهم أنهم وقعوا في حبائل الشيطان، فمن الجدير بهم أن يخلصوا أنفسهم رَبُّكُمُ أيها البشر هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 329

[سورة الإسراء (17): الآيات 67 الى 68]

وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68)

الَّذِي يُزْجِي الإزجاء سوق الشي ء حالا بعد حال لَكُمُ الْفُلْكَ أي يسوقها و يجريها باستمرار على الماء فِي الْبَحْرِ فمن يفعل ذلك بكم غيره سبحانه؟ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا من فضله سبحانه الأموال بالتجارة، و نحوها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فقد تفضّل عليكم بهذه النعمة، فجعل الماء بحيث يجري، و السفينة بحيث لا تغرق.

[68] وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي المصيبة و الشدة فِي الْبَحْرِ حيث انقطعتم عن العلاج، فإن في البحر يكون الإنسان مضطرا إذا أصابه مكروه، لأنه لا يجد عونا و مهربا، و خصوصا إذا سكنت الرياح أو اضطربت الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عنكم ذكر كل معبود إلا الله سبحانه، فلا ترجون هناك النجاة إلا من عنده فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من البحر إِلَى

الْبَرِّ فأمنتم الأخطار أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان به و عن طاعته وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كثير الكفر، فإن له في كل لحظة كفرا جديدا، أو المراد كثير الكفران، إذ كل نعمة تحتاج شكرا.

[69] أَ فَأَمِنْتُمْ أيها البشر- بعد ما أنجاكم إلى البر- أَنْ يَخْسِفَ الله بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ بأن تهلكون بالبر، حيث تخسف الأرض بكم، فإنكم لم تخرجوا من سلطان الله سواء كنتم في بحر أو بر، و إنه قادر أن يهلككم، أينما كنتم، فكيف تعرضون، إذا وصلتم إلى البر؟ و إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 330

[سورة الإسراء (17): الآيات 69 الى 70]

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)

قال «جانب البر» لأن المراد طرفه الذي يسكنون فيه، أو المراد ساحل البحر، بمجرد خروجهم، فإن الساحل جانب البر، و قد أريد أنهم في وقت يظنون أنهم خلصوا من الهلاك، و يرتاحون غاية الارتياح، معرضون للأخطار أَوْ يُرْسِلَ الله عَلَيْكُمْ من السماء حاصِباً أي حجارة تحصبون بها، و الحصب بمعنى الرمي، فهل أمنتم ذلك؟

ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي حافظا يحفظكم من بأس الله سبحانه.

[70] أَمْ أَمِنْتُمْ أيها البشر الذين نجوتم من الغرق و الهلاك في البحر أَنْ يُعِيدَكُمْ الله فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى مرة ثانية، بأن يلقي في ذهنكم السفر، فتركبون البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القصف الكسر بشدة أي إذا ركبتم السفينة مرة ثانية، يرسل الله عليكم ريحا شديدة، كاسرة تكسر السفينة فَيُغْرِقَكُمْ

بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم الحاصل منكم حين وصلتم إلى البر، كما قال «أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ أي بذلك الغرق تَبِيعاً أي تابعا يتبع أو أهلا لكم للمطالبة بدمائكم؟

[71] و كيف يكفر البشر بالإله الذي كرّمه و فضله؟ وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ تكريما ذاتيا بالعقل، و حسن الخلقة، و تهيئة أسباب الراحة له، و تسخير كل شي ء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من أنواع التكريم وَ حَمَلْناهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 331

[سورة الإسراء (17): آية 71]

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)

أي هيأنا لهم وسائل الركوب فِي الْبَرِّ بالخيل و البغال و الحمير، و منه هذه الآلات الحديثة، فإنها تحمل الإنسان بفضل الله سبحانه، و إلا فمن خلق الحديد، و من جعل للنار قوة السير، و من هيّأ وسائل الآلة؟ وَ الْبَحْرِ بالسفن وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أكلا و شربا و لبسا، و نكاحا، و غيرها، فإن كل ذلك رزق خصهم الله سبحانه به، و إن اشتركت بعض الحيوانات في بعضها، و لكن ليس بهذا العموم، و الشمول، و الكيفية المرفهة وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا إما المراد أنهم مفضلون على الكثير دون الكل، بأن يكون الملائكة أفضل من الإنسان جنسا، و إما المراد أن التفضيل على كثير- فليس المراد المفهوم، بل المراد الخلق الكثير الذي ملأ ما بين السماء و الأرض، أن الناس مفضل عليه، ف «من» بيانية، لا تبعيضية- و لعل هذا هو الأقرب، إلى ما دل على أن الإنسان أفضل ما خلقه الله سبحانه، و إن كان الأول أقرب إلى

اللفظ، و لا يخفى أن تفضيل الطبيعة، بما هي طبيعة و تكريمها، لا ينافي وجود السيئ، كما لا ينافي وجود بعض المفضلين في سائر الأجناس، فإذا قلت الرجل خير من المرأة، تريد أن هذا الجنس أفضل، و إن كان في جنس الرجال قابيل، الذي هو أسوأ من كل امرأة، و في جنس النساء فاطمة الزهراء عليه السّلام المفضلة على من دون الرسول و الوصي من الرجال.

[72] و من تفضيل الله سبحانه البشر على سائر الخلق، أن جعل لهم أئمة يهدونهم الطريق، و يكونون واسطة بينهم و بين الله سبحانه، في أخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 332

[سورة الإسراء (17): آية 72]

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)

الأحكام و إعطائها الأنام، و قد اتبع بعضهم هذا المنهاج، فاهتدوا، و تخلف بعضهم، فاتبع أئمة ضلالة، فضلوا و غووا، فليتذكر الإنسان يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ كل جماعة و فئة من الناس بِإِمامِهِمْ الذي ائتموا به، نبيا كان أو وصيا، أو شقيا، و هناك تظهر الفئات المختلفة، كل فئة لها إمام خاص، و لون خاص و لواء خاص فَمَنْ أُوتِيَ أي أعطى كِتابَهُ المدروج فيه أعماله بِيَمِينِهِ دل ذلك على أنه من أهل السعادة و الخير فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فرحين مسرورين ليزدادوا سرورا و فرحا بما يرون فيه من الطاعات و العبادات، و الأعمال الحسنة المرضية وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي مقدار الفتيل، و هو الخيط الرفيع في شق النوات، كأنه مفتول.

[73] و من أوتي كتابه بيساره، أو من وراء ظهره فهو محزون، و يحشر هناك أعمى، فلا يتمكن من قراءة كتابه وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن طريق الهدى

و الرشاد فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى لا يبصر شيئا في ذلك المزدحم الهائل، و الموقف الرهيب وَ أَضَلُّ سَبِيلًا إذ الضلال في الدنيا لا يظهر على الإنسان، بما يميزه عن بقية الأفراد المهتدين، أما هناك فإنه يظهر في عمى العين، و اسوداد الوجه، و سائر العلائم، و يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 333

[سورة الإسراء (17): الآيات 73 الى 74]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74)

(رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «1»، و كأنهم في بعض المواقف عميان، و في بعض المواقف مبصرون.

[74] ثم يأتي السياق ليبين موقف القوم من الرسول و القرآن، و تهديدهم بمصير آل فرعون، حيث عارضوا موسى، فأهلكهم الله سبحانه وَ إِنْ كادُوا «إن» مخففة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن محذوف، أي أن المشركين الذين تقدم ذكرهم، هم قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ أي يزلونك و يصرفونك يا رسول الله عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي عن القرآن الذي أوحيناه إليك، و الأحكام التي ألقيناها إليك، فقد حاولوا هذه المحاولة، في صور متعددة، تطميعا و تخويفا و استهزاء، بحيث أنه لو لا الرسول المعصوم، لزل و انصرف، فإنهم «كادوا» و «قاربوا» لكن الرسول كان أصلد من الجبل، فقد أرادوا زحزحته لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا وافقهم في أهوائهم، كان مفتريا على الله بغير القرآن، فإن القرآن على منهاج، و هم على منهاج آخر وَ إِذاً أي افتروك و افتريت لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي

جعلوك صديقهم، و أظهروا خلتك.

[75] وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي حفظناك بالعصمة التي جعلناها فيك، و العصمة حالة في الإنسان، تبعث على أن يرى المعصية قبيحة للغاية، و الطاعة جميلة للغاية، حتى أنه لا يترك الطاعة، و لا يفعل المعصية لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ

______________________________

(1) طه: 126 و 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 334

[سورة الإسراء (17): آية 75]

إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)

أي لقد قاربت أن تميل إلى الكفار شَيْئاً قَلِيلًا ركونا قليلا، و اعتمادا يسيرا، فتعطيهم بعض ما سألوك، و لا تقوم بمهمة التبليغ كما ينبغي، و هذا حقيقة واضحة، فإن الإنسان مهما يكن صلبا، لا يتمكن أن يقاطع الجميع في جميع الخطوط، و لا أقل أن يلاحظ بعض المصالح، أما المعصوم، فلا يتطرق إليه ذلك أبدا، فإن الانحراف اليسير، أول الطريق ينتهي إلى أعظم الانحراف في آخره، و هيهات أن يساوم الرسول الأشراف و الكفار، على دين أو عقيدة أو سلوك مهما كان طفيفا.

[76] إِذاً لو فعلت ذلك الركون لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ عذاب الْحَياةِ الذي نعذب به المشرك في الدنيا، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1» و إنما يضاعف له العذاب، لأن القائد يتحمل عقاب نفسه، و عقاب أتباعه- لو انحرف- بخلاف الإنسان العادي، الذي لا يتحمل إلّا عقاب نفسه وَ ضِعْفَ عذاب الْمَماتِ في الآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي لا ينصرك أحد على ضررنا، بأن ينقذك من عذابنا، و من المعلوم، أن المقصود بأمثال هذه الآية الكريمة تنبيه الأمة، و إلقاء اليأس في قلوب المشركين عن أن يتبعهم الرسول،

و قد قال هو صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، في جواب الكفار، الذين طلبوا منه أن يترك أمره: «و الله لو وضعوا الشمس في يميني، و القمر

______________________________

(1) طه: 125. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 335

[سورة الإسراء (17): الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

في يساري، على أن أترك هذا الأمر، لما فعلت» «1».

[77] وَ إِنْ كادُوا إن مخففة من الثقيلة، أي إنهم كادوا- بمعنى قربوا، أو مكروا- لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي يزعجونك، و يشردونك مِنَ الْأَرْضِ أرض مكة حتى لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ليصفو لهم الجو وَ إِذاً لو أخرجوك لا يَلْبَثُونَ أي لا يبقون خِلافَكَ من بعد إخراجك إِلَّا قَلِيلًا مدة يسيرة، فقد جرت سنة الله سبحانه، أن يهلك الكفار إذا شردوا رسلهم، و أخرجوهم من بلادهم.

[78] سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا فقد جرت سنتنا و طريقتنا في باب الرسل السابقين، أن الكفار، لو أخرجوهم من بلادهم، عذبنا الأمة بعد قليل، حتى لا يلبثون بعدهم إلا قليلا من الزمان، و «سنة» منصوبة بفعل مقدر، أي سننّا ذلك سنّة، وَ لا تَجِدُ يا رسول الله لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا، فإنها جارية مستمرة، فلا يتمكن أحد أن يقلب السنة عن وجهها، أما هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإن الكفار هموا بقتله، و إنه هو الذي فرّ من بين أيديهم، بالإضافة إلى أنهم لم يلبثوا خلافه إلا قليلا، حيث قتلوا يوم بدر، بعد سنة من الهجرة تقريبا، و هكذا توالت عليهم النكبات، و قد ورد في شأن نزول هذه الآية، قولان، الأول،

أنه في شأن أهل مكة، حيث هموا بإخراج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 54.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 336

[سورة الإسراء (17): آية 78]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78)

من مكة، و الثاني، أنها نزلت في اليهود بالمدينة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما قدم المدينة، أتاه جماعة من اليهود، فقالوا: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، و إنما أرض الأنبياء الشام، فأت الشام «1» كما أنه ورد في باب نزول قوله «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» أقوال نختار منها،

أنها نزلت في «و فد ثقيف» جاءوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال لا ننحني بفنون الصلاة، و لا نكسر أصنامنا بأيدينا، و تمتعنا باللات سنة، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود فأما كسر أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم «ثم أرسل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كسرها» و أما الطاعة للات، فإني غير ممتعكم بها «2».

[79] أَقِمِ يا رسول الله الصَّلاةَ فإنها توجب تثبيت العقيدة، و دوام الصلة بالله سبحانه، و لعل الإتيان بها هنا، لما تقدم من قوله «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ» بالإضافة إلى أن الجو العام، هو جو العقيدة التي لا تترسخ، و لا تكون ثابتة ذات تأثير إلا بالصلاة، و ما أشبهها من الذكر الدائم، فإن الروح كالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة للنماء و البقاء لِدُلُوكِ الشَّمْسِ من دلك،

بمعنى إمرار الشي ء على شي ء بشدة، و منه يقال للحلاق «دلّاك» و المراد بدلوك وقت الظهر، فإن الشمس تدلك نصف النهار، سواء اعتبرنا الدائرة الوهمية المنصفة للأفق، إلى قسمي الشرق و الغرب، أم لا إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي شدة ظلام الليل، و ذلك منتصف الليل، و هذه إشارة إلى أربع صلوات: الظهرين و المغربين،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 279.

(2) مجمع البيان: ج 6 ص 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 337

[سورة الإسراء (17): آية 79]

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)

فإن وقت الأولين من الزوال إلى الغروب، و وقت الأخيرين من الغروب إلى نصف الليل وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ أي ائت بما يقرأ وقت الفجر- و هو الصبح- و المراد به صلاة الصبح، فقد أشارت الآية إلى الصلوات الخمس اليومية إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ أي صلاته التي تقرأ، و يؤتى بها كانَ مَشْهُوداً تشهدها ملائكة الليل قبل رجوعهم إلى السماء، و ملائكة النهار أول ما ينزلون، فقد وردت أحاديث بذلك.

[80] وَ مِنَ اللَّيْلِ أي بعض الليل فَتَهَجَّدْ الهجود النوم، و تهجد بمعنى تحرج النوم نحو «تأثم» بمعنى تحرج الإثم و اجتنبه بِهِ أي الليل نافِلَةً صلاة ليست بفريضة، و إنما هي زائدة على الفرائض، و هي صلاة الليل الإحدى عشرة ركعة لَكَ فإنها لنفعك، و ليست كسائر الصلوات اليومية فريضة ملقاة على عاتق الإنسان عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ أي لعل الإتيان بهذه الصلاة، أو بهذه الصلوات كلها توجب أن يعطيك الله سبحانه مَقاماً مَحْمُوداً يحمده الناس و الملائكة لرفعته و سموه، إن الآية الكريمة، و لو كانت خطابا للرسول- بحسب الظاهر- إلا أنها عامة لكل أحد، فما دل على

أن نافلة الليل، كانت واجبة على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، أو ما أشبه، فإنما ذلك بدليل خارجي، و هو من باب المصداق- كما ذكرنا مكررا- و كان ذكر نافلة الليل دون سائر النوافل لأهميتها الأكيدة في الشريعة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 338

[سورة الإسراء (17): الآيات 80 الى 82]

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)

[81] وَ قُلْ يا رسول الله يا رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخال صدق وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي إخراج صدق، فإنهما مصدران بصيغة المفعول، و هذا دعاء لكون دخول الأمور و خروجها يتسم بالصدق و الاستقامة، لا الكذب و الانحراف، فإن الإنسان قد يدخل في الأمور- أيّ أمر كان من أمور الدنيا أو الآخرة- بالصدق و الاستقامة، و قد يدخل بالانحراف و الكذب و الالتواء، و هكذا الخروج من الأمور، و قد ورد أنها نزلت يوم فتح مكة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أراد دخولها أنزل الله هذه الآية وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ من عندك سُلْطاناً سلطة و عزا نَصِيراً أنتصر به على أعدائك حجة و قوة، و رعبا في قلوبهم، و لقد ناسبت الآية، ما أراد المشركون من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الانحراف، كما قال «وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ».

[82] وَ قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الطامعين فيك،

الراجين بقاء كيانهم جاءَ الْحَقُ و هو الدين و الإسلام و القرآن وَ زَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب و انفضح و ظهر بطلانه،

و قد ورد أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ورد مكة فاتحا، رأى حول الكعبة، ثلاثمئة و ستين صنما فأخذ يقرأ هذه الآية، و يشير إليها بعصاه، فتنكس واقعة على الأرض

إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا، فإن طبيعة الباطل لا استقرار له، و لا بقاء.

[83] إن الحق المتمثل في القرآن، لقد جاء، و إنه يشفي المؤمنين شفاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 339

[سورة الإسراء (17): آية 83]

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)

روحيا و جسميا، كما أنه يزيد الظالمين خسارا، فإنهم يعارضوه، و يقابلوه بما يوجب زيادة وزرهم وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ «من» بيان المنزل المستفاد من «ننزل» ما هُوَ شِفاءٌ شفاء لأرواحهم المريضة بالأخلاق السيئة و الرذيلة، و شفاء لأجسامهم، فإن الإنسان إذا تعدلت مناهج حياته صح جسمه وَ رَحْمَةٌ أسباب ترحم و لطف من الله لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم إذ يطيعونه، يكونون مورد لطفه و رحمته وَ لا يَزِيدُ القرآن الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف و السلوك المعوج إِلَّا خَساراً أي خسارة على خسارتهم، لكفرهم به و انحرافهم عن سبيله و ضلالهم و مقاومتهم له.

[84] و إذا ترك الإنسان الشفاء و الرحمة، و أخذ يسلك سبيل الغي، فإنه يتقلب في أوضار الكفر و الضلالة كيفما كان حاله وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة و الرفاه و الأمن و السلام و غيرها أَعْرَضَ عن طاعة اللّه و عبادته وَ نَأى بِجانِبِهِ أي ابتعد بطرفه عنا، كأنه لوى جنبه- كناية عن إعراضه،

و عدم العمل بما يلزم أن يعمل به، من شكر النعمة، و الطاعة للمنعم- فيتكبر و يتجبر و يطغى، حين رأى نفسه مستغنيا وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الفقر و المرض و الخوف، و ما أشبهها، لم يصبر، و لم يدع الله لرفعها بل كانَ يَؤُساً كثير اليأس قانطا، فلا هو في الرخاء يشكر، و لا في البلاء يصبر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 340

[سورة الإسراء (17): الآيات 84 الى 85]

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

[85] هذا حال الإنسان الظالم الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا، أما المؤمن فهو بعكس ذلك، لا يزيده الرخاء و البلاء، إلا ثوابا و انقطاعا إليه سبحانه و شكرا و طاعة، فكل من الطائفتين، تعمل على الشكل الذي اختاره من الكفر و الإيمان قُلْ يا رسول الله كُلٌ من المؤمن و الكافر يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ الشاكلة الطريقة، لمشاكلة بعض الطرق لبعض، و في هذا تهديد لمن يسلك الطريق المنحرف، كأنه يقال اعملوا فسترون جزاء عملكم فَرَبُّكُمْ أيها الناس أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا هل المؤمن سبيله أحسن أم الكافر؟

[86] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الرُّوحِ ما هو؟ و حيث أن مثل هذه الأسئلة توجب تبديد الطاقة العقلية فيما لا يعني، لم يجب القرآن الحكيم على هذا السؤال إشارة إلى لزوم أن يصرف الإنسان طاقته فيما يهمه من أمر دنياه و آخرته، لا فيما لا يهمه قُلِ يا رسول الله في جوابهم الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فهو من الأمور التي تكونت بأمر الله سبحانه، و لا يعلم ما

هو إلا الله سبحانه، و من أعلمه إياه وَ ما أُوتِيتُمْ أيها البشر مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فإن الأسرار الكونية فوق حد الإحصاء، و ما يعلمه البشر ليس إلا جزءا ضئيلا من الأسرار، فمن الأفضل أن يصرف الإنسان وقته الغالي القصير فيما ينفعه، لا فيما لا ينفعه، أقول: لا يبعد أنهم أرادوا بالروح الروح الذي يأتي بالقرآن، أو القرآن ذاته، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 341

[سورة الإسراء (17): الآيات 86 الى 87]

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

قال سبحانه (وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) «1» و هذا أقرب إلى السياق، حيث إن الكلام حول العقيدة، و الرسالة، و القرآن،

و قد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الآية، فقال: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة عليهم السّلام و هو من الملكوت «2».

[87] إن الإنسان لم يؤت إلا قليلا من العلم، و إن القرآن الذي يرشد الإنسان إلى مناهج الحياة بعد إرشاده إلى العقيدة الصحيحة، أنه من أمر الله سبحانه و فضله على البشر، حدوثا و بقاء، و لو شاء لمحاه من بين الناس حتى يرجعوا جهالا، و هذا كما تقول لتلميذك: أنت لا تعرف شيئا، و ما تعرفه فإنه مني، و لو شئت لأخذت كتب علمك، حتى تبقى جاهلا، كما كنت وَ لَئِنْ شِئْنا و أردنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن بأن نمحي صورته من ذهنك، و نرفع نسخه من بين الناس ثُمَ لو فعلنا

ذلك لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي بالذي أوحينا إليك عَلَيْنا وَكِيلًا فلا أحد يقدر على استرداده منا، أي لا تجد موكلا بالقرآن لك، على ضررنا، و خلاف إرادتنا، يستوفيه منا ليسلمه إليك.

[88] إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إن الذي و هبك هذا القرآن، و أبقاه عندك، هو تفضل الله سبحانه عليك- و الاستثناء منقطع- إِنَّ فَضْلَهُ تعالى

______________________________

(1) الشورى: 53.

(2) الكافي: ج 1 ص 273.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 342

[سورة الإسراء (17): الآيات 88 الى 89]

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً حيث أنعم عليك بالنبوة، و بإعطاء القرآن، و بإبقائه عندك، و هذا لتنبيه الناس حتى يشكروا هذه النعمة العظيمة، فإن القرآن أعظم نعم الله سبحانه، حيث يقرر الحياة السعيدة، مما لا تصل إليها البشرية بعقليتها، و لو صقلت ألف عام.

[89] فإن القرآن ليس كلاما عاديا، يتمكن كل أحد من الإتيان بمثله قُلْ يا رسول الله لهؤلاء لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُ متعاونين بعضهم مع بعض عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في جميع خصوصياته البلاغية و المنهجية و العلمية، و سائر وجوه الإعجاز المقررة في كتب الكلام، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لأنه خارج عن طوقهم و قدرتهم وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً معينا و ظهرا يساعد بعضهم بعضا، و قد مضى على القرآن ألف و أربعمائة عام، و لم يأت من يأتي بمثل القرآن، نعم جاء مسيلمة بالمضحكات، و جاء الباب بالمبكيات، أما من كان أبلغ الناس، ففكر و قدر،

ثم قال إن هذا إلّا سحر يؤثر، و كما أنه لم يأت بعصى موسى عليه السّلام و إحياء عيسى عليه السّلام، و غرق نوح عليه السّلام أحد كذلك لم يأت بقرآن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحد.

[90] وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ بيّنا للناس، و جئنا بالأمثلة المختلفة في ألبسة شتى، كالإتيان بقصة موسى في سبعين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 343

[سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 92]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92)

لباس، و هكذا، و هذا معنى التصريف، فإنه أن يقلب الشي ء الواحد في صور شتى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للحق مع إتمام الحجة عليهم.

[91] إن الله أعطى القرآن إلى البشر معجزة للرسول و منهاجا للحياة السعيدة و كلمة باقية يستنير بها الأقوام، و يهتدون سبيلا، لكن الكفار الذين أبوا إلا الجحود و التوغل في العناد، أغمضوا النظر عنه، و أخذوا يتطلبون خوارق مادية لا تنفعهم في الحياة و لا تبقى مع الأجيال و إنما طلبوها لمجرد العناد بعد وضوح الحجة، وَ قالُوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأنك رسول الله، و إن ما جئت به هو من عند الله حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي حتى تشقق الأرض، و تخرج منها عين ماء نستفيد منها، فإن أرض مكة قليلة الماء تحتاج إلى العيون و الأنهار.

[92] أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بأن تدعو

ربك فيحدث لك جنة في طرفة عين مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ من الماء خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً تشقيقا، حتى يجري الماء في تلك الأنهر.

[93] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يهددهم بالعذاب من السماء، و قد ذكر سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 344

[سورة الإسراء (17): آية 93]

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)

(وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) «1» فهنا يقولون أسقط علينا- حسب زعمك: إنك تقدر على كل شي ء، و إنك رسول الله- السماء.

كِسَفاً و هي جمع كسفة، بمعنى القطعة، وزن السدرة، و سدر و كسفا حال من السماء، و لا يخفى أنه بناء على كون السماء هي المدار، يكون كلامهم هذا حسب زعمهم، بأن السماء جسم، أما قوله «وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً» فلعل المراد، الكسف التي منشأها السماء، فإن القطع المعدنية تقذف من جانب العلو، كما ذكره أهل الفلك أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي في حال كونهم قبيلة قبيلة، و صنفا صنفا حتى نشاهدهم فنصدق بك، و لعلهم أخذوا ذلك من قوله سبحانه (وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) «2» و لم يعرفوا أن المراد «جاء أمر ربك» و أن الملائكة يوم تأتي (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) «3» [94] أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي بيت مملوء من ذهب، و أصله من الزخرفة، و هي الزينة، فكأن إطلاقه على الذهب مجازا من باب الأولى، لأن الذهب يزين به أَوْ تَرْقى

و تصعد فِي السَّماءِ بأن نراك قد صعدت وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ و صعودك، لأنا نحتمل، أن ذلك من باب السحر، و أنك قد تصرفت في أبصارنا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من

______________________________

(1) الطور: 45.

(2) الفجر: 23.

(3) الفرقان: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 345

جانب الله نَقْرَؤُهُ مكتوب فيه نبوتك و صدقك في دعاويك، و قد كانوا من الجهل و الغباوة بحيث يفرقون بين الصعود، و بين الإنزال بالكتاب، فإن من يتمكن من السحر في الصعود، يتمكن من السحر في إنزال الكتاب أيضا قُلْ يا رسول الله في جواب هذه الاقتراحات سُبْحانَ رَبِّي أي أنزه ربي عن المثل و الذمائم و هذه جملة تستعمل للتعجب، و كان الأصل في ذلك، أن المعنى كون الله منزها، أما ما جرى بيننا، فليس منزها هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي لست أنا إلا رسول، فالواجب علىّ أن آتى بمنهاج السماء، و معي من الأدلة ما تثبت أني رسول، أما أن آتى بكل ما يقترح الناس من الخوارق، فإن هذا ليس من شأن الرسول، فإن كان الشخص من أهل الإنصاف، كفاه ما جئت به من القرآن الحكيم دليلا، و إن كان الشخص معاندا فلا يؤمن و لو جئت له بألف دليل، و قد كانت الأمم تسأل أنبياءها بالمقترحات، ثم لم تؤمن، كما حدث في قصة صالح النبي عليه السّلام، و

قد ورد في شأن نزول هذه الآيات: أن جماعة من قريش و هم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و أبو سيفان بن حرب و الأسود بن المطلب و زمعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبو جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف

و العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج و النضر بن الحارث، و أبو البختري ابن هشام، اجتمعوا عند الكعبة و قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكلموه و خاصموه، فبعثوا إليه، أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك، فبادر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم، و كان حريصا على رشدهم، فجلس إليهم، فقالوا يا محمد إنا دعوناك لنعذر إليك، فلا نعلم أحد أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة، و عبت الدين، و سفهت الأحلام، و فرقت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 346

[سورة الإسراء (17): آية 94]

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94)

الجماعة، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك، و إن كنت تطلب الشرف سودناك علينا، و إن كانت علة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي ء من ذلك، بل بعثني الله إليكم رسولا، و أنزل كتابا، فإن قبلتم ما جئت به، فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردوه أصبر حتى يحكم الله بيننا؟ قالوا فما أحد ليس أضيق بلدا منا، فاسأل ربك أن يسيّر هذه الجبال، و يجري لنا أنهارا كأنها الشام و العراق، و أن يبعث لنا من مضى، و ليكن فيهم قصي، فإنه شيخ صدوق، لنسألهم عما تقول، أحق أم باطل؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بهذا بعثت، قالوا: فإن لم تفعل ذلك، فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك، و يجعل لنا جنات و كنوزا و قصورا من ذهب؟ فقال صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم: ما بهذا بعثت، و قد جئتكم بما بعثني الله به، فإن قبلتم، و إلا فهو يحكم بيني و بينكم، قالوا: فأسقط علينا السماء، كما زعمت إن ربك، إن شاء فعل ذلك؟ قال ذاك إلى الله إن شاء فعل، و قال قائل منهم لا نؤمن، حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا، فقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قام معه عبد الله ابن أبي أمية المخزومي ابن عمة عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل، ثم سألوك أن تجعل ما تخوفهم به؟ فلم تفعل، فو الله لن أومن بك أبدا، حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثم ترقى فيه و أنا أنظر و يأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك و كتاب يشهد لك، فأنزل الله سبحانه الآيات «1»

[95] ثم ذكر سبحانه، أن سبب امتناع هؤلاء عن الإيمان بالرسول، إنكارهم

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 347

[سورة الإسراء (17): آية 95]

قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95)

لأن يكون البشر رسولا، إما لأنهم يظنون أن منصب الرسالة فوق أن يناله بشر- أو للحسد- أو نحو ذلك وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي لم يصرف المشركين عن الإيمان بالرسول و تصديقه إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي حين أتتهم الهداية و الرشاد، إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء عن «شي ء» المحذوف الذي هو فاعل «منع» فالاستثناء مفرغ أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي كيف يمكن أن يرسل الله بشرا للرسالة و أداء الوحي؟

و المراد ب «قولهم» شبهتهم التي

تظهر بالقول.

[96] قُلْ يا رسول الله لهم: إن الملائكة لا تصلح لأن ترسل إلى البشر الجمهور، لأنه ليس من جنسهم، و لا تصلح الأرض محلّا لهم، فإن الله سبحانه قادر على كل شي ء، لكن الله تعالى جعل للأرض قوانين عامة، و أجرى سننه وفق تلك القوانين، و من تلك القوانين، كون الرسول من جنس البشر، و إن الملك لا ينسجم، كما أن الحيوان لا ينسجم مع البشر بأن يكون رسولا إليه، فإذا طلب طالب أن يكون الطير رسولا، كيف يكون مضحكا- و إن كانت قدرة الله فوق ذلك- كذلك من يطلب أن يكون الملك رسولا؟ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ و لم يكن بشر فيها يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين قاطنين، فإن المشي و الاطمئنان كناية عن ذلك، إذ غير الساكن لا يكون ماشيا مطمئنا، بل يمشي مضطربا قلبه، يهفو نحو وطنه و محله لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ أي من جانب العلو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 348

[سورة الإسراء (17): الآيات 96 الى 97]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)

مَلَكاً رَسُولًا أي رسولا من جنس الملك، لأنه حينئذ ينسجم مع المرسل إليهم، أما و في الأرض بشر، فالرسول لا بد و أن يكون من جنسهم، ثم لماذا الملائكة؟ أ للتعنت و الاقتراح؟ فلا يفيد الملائكة أيضا، أم للحجة و البرهان؟ فالرسول معه ما يدل حجة و برهانا، و لا يقاس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم بسائر الناس، فإنه صالح لأن يعاشر الملائكة بخلاف غيرهم فلا يستشكل بأنه ما الفرق بين الرسول و غيره؟

[97] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون أن يكون الرسول إليهم ملكا و لا يقتنعون بك كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فالله شاهد على رسالتي، حيث أجرى على لساني القرآن الذي عجزتم عن الإتيان بمثله، فلو كنت كاذبا في دعواي لزم- في الحكمة- أن لا أتمكن على شي ء يعجز البشر عنه، فإجراء الله المعجزة على يدي دليل على صدق دعواي، كما أن إمضاء الرئيس إذا كان مع المستخدم كفاه دليلا على كونه من قبل الرئيس إِنَّهُ سبحانه كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً مطلعا على أحوالهم بَصِيراً يبصر حركاتهم و سكناتهم فلو افترى عليه أحد، لزم عليه- في الحكمة- أن يفضحه، لا أن يجري بعض النواميس الخارقة على يده.

[98] إن هؤلاء الكفار تركوا عقولهم، و ركبوا أهواءهم، و لذا تركهم سبحانه في ضلالهم يعمهون، و إلا فما حجة من تمت عليهم الحجة، و وضحت لهم المحجة؟ وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بأن يلطف عليه الألطاف الخفية، حين رأى منه الإيمان و الإذعان فَهُوَ الْمُهْتَدِ حقيقة الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 349

رأى السبيل، و آمن و أخذ الله بيده إلى النجاح و السعادة- و الياء من المهتد محذوف تخفيفا- وَ مَنْ يُضْلِلْ الله، بأن منع منه الألطاف الخفية، بعد أن أراه السبيل فأعرض و لم يؤمن، كالسيد الذي يعرض عن عبده، حيث يراه يعمل باطلا، فيتركه حتى يضل، فإنه يقال في العرف: إن السيد أفسد عبده، حيث لم يضرب على يده فَلَنْ تَجِدَ يا رسول الله لَهُمْ أي للضال أَوْلِياءَ يتولون شؤونه و ينصرونه مِنْ دُونِهِ أي من

دون الله، و من يتولاه في الظاهر، فليست ولايته كولاية الله التي تهيئ خير الدنيا و الآخرة، فالمراد بالنفي، نفي الأنبياء حقيقة، لا نفي الأولياء صورة، فهو

كقوله عليه السّلام: يا أشباه الرجال و لا رجال

«1» إن حال الضالين في الدنيا، أنه لن تجد لهم أولياء، أما حالهم في الآخرة وَ نَحْشُرُهُمْ أي نجمعهم للحساب، فإن الحشر بمعنى الجمع يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فإنهم يسحبون على وجوههم إلى النار، كما يفعل في الدنيا، بمن يراد كمال إهانته، في حال كونهم عُمْياً جمع أعمى، و هو الذي لا بصر له وَ بُكْماً جمع أبكم، و هو الذي لا يتمكن من الكلام، وَ صُمًّا جمع أصم، و هو الذي لا يسمع، فهم بهذه الحالة المزرية المخزية يحشرون هناك فقد عموا عن الحق في الدنيا، و لم ينطقوا بالشهادة و الخير، و لم يعيروا أسماعهم للدعوة، فليكونوا هناك كذلك جزاء لما اقترفوه هنا، مَأْواهُمْ أي محلهم و مصيرهم و منزلهم، من أوى يأوى، بمعنى

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 27 ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 399

[سورة الإسراء (17): الآيات 98 الى 99]

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99)

اتخذ المأوى جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها، و المراد أنه كلما أشرفت على الخمود، و إلّا فنار جهنم لا تنقض أبدا زِدْناهُمْ سَعِيراً أي اشتعالا و التهابا و توقدا.

[99] ذلِكَ العذاب

في المحشر و في النار جَزاؤُهُمْ الذي استحقوه بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا و لم يؤمنوا بها وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً بأن تبددت لحومنا بعد الموت، حتى لم تبق إلا العظام وَ رُفاتاً مما تهشم بالفت، كالأعواد اليابسة البالية أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ محيون بعد الموت خَلْقاً جَدِيداً كما كنا سابقا؟ قالوا ذلك على وجه الإنكار.

[100] أَ وَ لَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم هؤلاء المنكرون للبعث أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أوجدهما من العدم قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإن الإنسان بعد الحشر مثل الإنسان قبل الموت- باعتبار- كما أنه هو باعتبار آخر، فإن الإعادة ليست أصعب من الابتداء، كما قال سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) «1» وَ جَعَلَ الله لَهُمْ أي لهؤلاء في الإعادة أَجَلًا أي وقتا لا رَيْبَ فِيهِ فإنه من الوضوح

______________________________

(1) يس: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 351

[سورة الإسراء (17): آية 100]

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)

بحيث لا ينبغي الارتياب و الشك فيه، فهو نفي الريب الصحيح بلسان نفي الحقيقة، نحو «و لا رجال» فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذي ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، فإن الإنسان إذا لم يرضخ لأوامر الله تعالى، فقد ظلم نفسه، حيث عرضها للعقاب الدائم إِلَّا كُفُوراً أي جحودا للسماء.

[101] إن من يأمر غيره بالكرم، لا بد و أن يكون كريما، و إلا قيل: «لا تبغ منقبة و تأتي ضدها» فهؤلاء الكفار الذين كفروا بالله و رسوله و المعاد، و الذين اقترحوا البيت من الذهب، و تفجير العين، و البساتين، و غيرها، أن ملكوا كل شي ء، لم يكونوا يبذلون شيئا، فهم أشحاء في الإعطاء،

أسخياء في الطلب قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي و خزائن رحمة الله، هي الماء، و التراب، و الشمس، و الهواء، التي تتولد منها الأشياء و الإرادة الأزلية التي تهب الحياة و الفضيلة، و غيرهما، فكما أن الخزينة مركز الجواهر و النقود، كذلك هذه الأشياء مصدر ما في الكون من الوجود و النفائس إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ و لم تبذلوا خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لأجل خشية أن تفتقروا إذا بذلتم- مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا- فمن هذا النحو من الشح و البخل شأنه، كيف يقترح هذه الاقتراحات المادية الدسمة؟

وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا، من «قتر» بمعنى ضيق في النفقة، و القتور صيغة مبالغة، و هذا شبه الاستهزاء بالمقترحين، و السخرية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 352

[سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 102]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102)

باقتراحهم، كما قال سبحانه (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) «1» [102] إن الأمة المعاندة، لا تفيدها الخوارق، فهؤلاء، و إن طلبوها، و علقوا إيمانهم بها، إلا أنها إذا جاءت لا يؤمنون، حالهم حال الأمة السابقة، أليس جاء موسى بأعظم من هذه الخوارق، و لم تنفع كلها في إيمان قوم فرعون؟ و هل الأمم إلا أمثالا؟ وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي خوارق واضحات، و هي «اليد» و «العصا» و «الحجر» و «البحر» و «الطوفان» و «و الجراد» و «القمل» و «الضفادع» و «الدم» كما ورد بذلك الآيات

و الروايات- و قد مر تفسيرها- فَسْئَلْ يا رسول الله بَنِي إِسْرائِيلَ اليهود المعاصرين لك، و إنما أمر بالسؤال، ليكون كلام اليهود أبلغ في الحجة، فإن كفار مكة المقترحين، كانوا أسمع من اليهود، فهم يذعنون لليهود بما لا يذعنون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جاءَهُمْ و مع كل هذه الآيات فَقالَ لَهُ أي لموسى عليه السّلام فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قد سحروك و ذهب عقلك، و لذا تدعي النبوة، أو أن المراد «ساحرا» فوضع المفعول موضع الفاعل- كما ذكر أهل الأدب- أن كلّا من الفاعل و المفعول ينوب مناب الآخر.

[103] قالَ موسى عليه السّلام في جواب فرعون لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون

______________________________

(1) البقرة: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 353

[سورة الإسراء (17): الآيات 103 الى 104]

فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات، و لعل الإتيان ب «هؤلاء» التي هي للعاقل، كون الآيات تعمل عمل العاقل، فالعصا تصير ثعبانا تأكل، و الجراد تهاجم مهاجمة العاقل، و هكذا إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليست سحرا، و لست أنا مسحورا بَصائِرَ أي أنزلها لأجل أن تكون حججا و براهين، فبصائر جمع بصيرة، بمعنى مبصرة، أو المراد ذات بصائر، أو أطلق البصيرة على سبب البصيرة مبالغة، أو مجازا لعلاقة السبب و المسبب وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً من ثبره الله بمعنى أهلكه، و الثبور بمعنى الهلاك، و المراد به الهلاك على الكفر، و إنما قال «أظن» لعدم علمه بذلك، و إنما ظن حسب الظاهر من عناده، مع احتماله إيمانه،

أو للتشابه اللفظي، و إن كان عالما بذلك، فإن الظن يستعمل بمعنى العلم.

[104] فَأَرادَ فرعون بعد إتمام الحجة عليه، حيث لم يجد مخلصا من موسى و حججه القوية أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي يزعج بني إسرائيل و يطردهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر، مقر سلطته فَأَغْرَقْناهُ أي أغرقنا فرعون وَ مَنْ مَعَهُ من جنوده و أشراف قومه جَمِيعاً لم ينج منهم أحد، و هكذا مصير الكفار أعداء الله و رسوله.

[105] وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد هلاك فرعون و قومه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 354

[سورة الإسراء (17): آية 105]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105)

أي كونوا فيها، مقابل إرادة فرعون تبعيدكم، و المراد إما أرض مصر، فقد سكنها بنوا إسرائيل فيما بعد، أو الأعم مقابل إرادة فرعون إخراجهم من أرض مصر و الشام و فلسطين- كما ذكر بعض أهل التفسير- أو مطلق الأرض، أي بقوا هؤلاء، و ذهب أعداءهم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ و هي القيامة جِئْنا بِكُمْ يا بني إسرائيل لَفِيفاً قد لف بعضكم في بعض، فلكم إرث الأرض هنا، و لكم الآخرة هناك، أو المراد لفيفا أنتم في آل فرعون، ليجازى أولئك هناك، كما جوزوا هنا.

[106] و إذ قد تقرر، أن الاقتراحات لا معنى لها، و أن القران هو وحده كاف دلالة للنبوة، و حجة على القوم، يرتد السياق إلى هذا الكتاب الحكيم ليبين ما هو وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا القرآن بالحق، فإنا لم ننزل القران، إلا للإيمان به، و اتباع سبيله، مقابل إنزال الشياطين الكذب على الكهان وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ أي و قد كان القرآن مصاحبا للحق، فما فيه هدى

و نور و مطابق للواقع، مقابل ما نزل بالحق، و لكنه لا يصحب الحق، كما لو أعطى الولي عبده كتابا، ليعمل فيه، و قد كتب فيه اشتباها شي ء باطل، فإن إعطاء المولى بالحق، لأنه له السلطة على العبد، و قصده الحق، لكن الكتاب المعطى، كان مصاحبا للباطل، و الحاصل أن هذا القرآن حق فاعلا و فعلا، أو المراد أن الإنزال كان بالحق، و الوصول إلى الرسول كان بالحق، فلم يطرئه تحريف في البين، و إن شئت قلت إن الملحوظ إما جهتا الفاعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 355

[سورة الإسراء (17): الآيات 106 الى 107]

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107)

و الفعل، أو الفاعل و القابل وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا مُبَشِّراً لمن آمن، و أطاع بالثواب وَ نَذِيراً لمن كفر، أو عصى بالعقاب.

[107] وَ أنزلناه قُرْآناً فَرَقْناهُ في نيف و عشرين سنة، فلم ننزله جملة واحدة، و إنما تدريجا منجما، من فرق بمعنى التفريق، و الإرسال جزءا فجزءا لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على تؤدة، و في أزمنة مختلفة، من مكث بمعنى لبث، فقد جاء القرآن ليربي الأمة تربية إسلامية، و ذلك يحتاج إلى التدريج، و أن ينزل بكل مناسبة جزء منه، ليكون تحريكا، و ليس كالكتب المدونة، كتابا يقرأه الإنسان ليعلم ما فيه- فحسب- أو فكرة يستعرضها الشخص، و قد أدّى القرآن مفعوله، بهذه الحكمة المفرقة له أزمانا و مناسبات، حتى ربي الجيل و اندفع، و باندفاع أولئك يندفع المسلمون إلى الأبد وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على

حسب الحاجة، و وقوع الحوادث، لا جملة و مجموعا، و كان لفظ «التنزيل» حيث أنه من باب التفعيل دال على التكثير في النزول الملازم للتدريج.

[108] و إذ تبين حقيقة القرآن، و كونه منزلا من عند الله بالحق، و فيه الحق، فمن شاء فليؤمن، و من شاء فليكفر، فقد ثبتت الحجة من جانب الله تعالى، و لم يبق إلا الإطاعة أو العصيان قُلْ يا رسول الله للكفار آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإنّا قد تم من جانبنا الأمر، و بقي في جانبكم، فمن أراد الخير فليؤمن، و من أراد الشر فلا يؤمن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 356

[سورة الإسراء (17): الآيات 108 الى 109]

وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

أما العلماء فإنهم يؤمنون- طبعا- لما يرون فيه من الحق إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطاهم الله علم الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء عليهم السّلام مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول هذا القرآن، كعبد الله بن سلام و غيره، من اليهود و النصارى إِذا يُتْلى أي يقرأ عَلَيْهِمْ القران يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي يسقطون على وجوههم، و أذقان جمع ذقن، و هو منتهى الوجه، و إنما خص الذقن لأن من سجد كان أقرب شي ء منه إلى الأرض ذقنه سُجَّداً جمع ساجد، و ذلك لأن الإنسان الذي يخر على الأرض للسجود، إذا لم يتمالك نفسه، وقع ذقنه أولا على الأرض، فليس المراد أنهم يجعلون أذقانهم فقط.

[109] وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن الباطل، فما أرسله من القرآن حق، لا يشوبه شي ء إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا «إن» مخففة من الثقيلة، أي أنه كان وعد الله

سبحانه في الكتب السابقة بإرسال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال الكتاب لمفعولا- يفعل- فلا خلف فيه، و ها نحن نرى الوعد قد أنجز فآمنا و صدقنا.

[110] إنهم يغلبهم التأثر، حتى أنهم يبكون من شدة التأثر الحاصل لهم من استماع القرآن وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ فهم يسقطون على الأذقان، و يسجدون و يبكون من شدة ما خالج نفوسهم من التأثر بالقرآن و بعظمة الله سبحانه وَ يَزِيدُهُمْ ما في القرآن من المواعظ و العبر خُشُوعاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 357

[سورة الإسراء (17): آية 110]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110)

على خشوعهم بأصل تلاوته.

[111] و إذ قد تمت الحجة عليهم، فلم يبق عند المشركين، إلا أن يقولوا «و ما الرحمن»؟ فقد كانوا يكرهون هذا الاسم، بلا حجة، أو بتعليل أنهم يناقشون في أصل الإله، و في وحدته، و في أن يسمى رحمانا؟

و لذا يؤمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحاجهم في هذا أيضا، فإن الله هو الرحمن، فهما لفظان على معنى واحد، فما هذا اللجاج و السخافة؟

قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فقولوا يا الله، أو قولوا يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فكلاهما تعبير عن الذات الواحد المستجمع لجميع صفات الكمال، و القادر و الخالق و الرازق و الحي و القيوم، و غيرها من سائر أسمائه و هي علاماته التي تشير إليه لذلك الذات، سواء أشرتم إليه بيا الله، أو بيا رحمن، و ذكر بعض في شأن نزول هذه الآية

أن

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ساجدا ذات ليلة بمكة يدعوا «يا رحمن يا رحيم» فقال المشركون هذا يزعم أن له إلها واحدا، و هو يدعو مثنى مثنى، فنزلت هذه الآية

، و قد كان المشركون يؤذون الرسول إذا قام للصلاة، و بهذه المناسبة جاء الأمر بالتوسط في الصلاة،

فقد روي عن الصادق عليه السّلام أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان إذا صلى فجهر في صلاته، سمع المشركون، فشتموه و آذوه، فأمر سبحانه بترك الجهر، و كان ذلك بمكة في أول الأمر

«1» وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها فإن الإخفات أبعد عن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 28 ص 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 358

[سورة الإسراء (17): آية 111]

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

الخشوع، إذ أن الصوت المتوسط، يدخل السمع، فيكون تلقي القلب له أكثر و يكون للخشوع أقرب وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ الجهر و الإخفات، و «ذلك» إشارة إلى كل واحد منهما سَبِيلًا،

و عن الصادق عليه السّلام المخافتة ما دون سمعك، و الجهر أن ترفع صوتك شديدا «1»

[112] و أخيرا تلخص العقيدة في هذه الجمل وَ قُلِ يا رسول الله الْحَمْدُ لِلَّهِ لا يستحق أحد الحمد سواه، إذ هو الإله المتفرد الواحد الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يقول اليهود عزير ابن الله، و النصارى المسيح ابن الله، و المشركون الملائكة بنات الله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما يجعل المشركون لله شركاء في ملكه و سلطانه، و لعل الإتيان بقوله «في الملك» للإشارة

إلى رد دعوى المشركين، فإن كان له شريك، فما ذا صنع شريكه في السماوات و الأرض؟ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌ يلي شؤونه و ينصره سواء كان إلها، أو محالفا، و قوله مِنَ الذُّلِ لأن الشخص قد يتخذ وليا من ذلة و عجز في نفسه يريد أن يتقوى بذلك الولي، أنه سبحانه ليس له ولي من هذا القبيل، و إنما له أولياء من المتقين تفضل عليهم بولايتهم جودا و كرما وَ كَبِّرْهُ يا رسول الله تَكْبِيراً لائقا بشأنه فهو أكبر من كل كبير و أعظم من كل عظيم، و هكذا تختم السورة بالتكبير، كما بدأت بالتسبيح.

______________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 315.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 359

18 سورة الكهف مكيّة/ آياتها (111)

سميت السورة بهذا الاسم، لأن فيها لفظة «الكهف» و قصة أصحاب الكهف، و الكهف هو مغارة الجبل، ضيق فمها، واسع داخلها، و هذه السورة كسائر السور المكية، تعالج قضية العقيدة، في أسلوب قصصي رائع، و ليست القصص القرآنية من نسج الخيال، و إنما قصص حقيقية، اقتبست منها محل الحاجة، لتبني الكيان البشري، بما يوفر له السعادة و الخير، و إذ ختمت سورة بني إسرائيل بتحميد الله سبحانه، ابتدأت هذه السورة بتحميده أيضا.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسمك يا الله، فإن اسم الله إذا وضع على شي ء أمن كل الأخطار، كيف لا، و قد ارتبط بخالق الأرض و السماء، و الحافظ القائم على كل شي ء، و هو الرحمن الرحيم، الذي يتفضل بالرحم على كل شي ء، كما قال سبحانه، (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» و ليس الرحم في الله سبحانه، بمعناه في البشر، إذ لا تأثر له سبحانه، و إنما بمعنى التفضل، كما قالوا: «خذ الغايات و اترك

المبادي».

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 360

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ أي أن جنس الحمد له سبحانه، إذ جميع المحامد راجعة إليه، حتى أن الغير لو تفضل على الإنسان بشي ء، فإن فضله ذلك في طول أفضال الله سبحانه الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْكِتابَ أي القرآن وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي اعوجاجا، بأن يكون بعض مناهجه معوجة، أو بعض ما أخبر به من أصول المبدأ و المعاد و القصص مخالفة للواقع.

[3] في حال كون الكتاب قَيِّماً معتدلا مستقيما، و إنما أنزل الكتاب لِيُنْذِرَ الرسول الناس بَأْساً شَدِيداً أي عذابا شديدا و نكالا مِنْ لَدُنْهُ من عنده، إن لم يؤمنوا، و ركبوا رؤوسهم سادرين في غيّهم، وَ يُبَشِّرَ الرسول الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صحّت عقيدتهم يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ و هي الأعمال التي أمر الله بها، و قد ذكرنا أن ذلك يلازم عدم الإتيان بالمعاصي، فإنه لا يقال لمن اختلط بين الأمرين، أنه يعمل الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً في الدنيا بالرفاه و السلام و الصحة و ما أشبه، و في الآخرة بالثواب و الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 361

[سورة الكهف (18): الآيات 3 الى 5]

ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5)

[4] في حال

كون المؤمنين العاملين بالصالحات ماكِثِينَ أي لابثين باقين فِيهِ في ذلك الأجر أَبَداً فإنه لا انقطاع للجنة، و لا زوال لنعيمها.

[5] وَ يُنْذِرَ الرسول- بصورة خاصة، بعد ذلك الإنذار العام لكل من خالف- الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً و هم اليهود و النصارى، فإنهم ما دام هذا الاعتقاد عندهم، منذرين، مهددين في الدنيا بالخزي، و في الآخرة بالعذاب، فإن الاختلافات الشديدة بين اليهود و النصارى من جانب، و بين طوائف كل دين منهما مدهش جدا، حتى أن الاختلاف بين المسلمين و بينهما، أو بين طوائف المسلمين، ليس عشر معشار ذلك، و لذلك تاريخ و تفصيل نكتفي منه بهذه الجملة، و هو أن «سلامة موسى» يذكر في كتاب «حرية الفكر» أن خصاما وقع بين طائفتين مسيحيتين في «ألمانيا» زهقت- من جرائه- أربعة عشر مليون من مجموع السكان الذين هم ثمانية عشر مليونا!! [6] ما لَهُمْ أي لهؤلاء الذين قالوا اتخذ الله ولدا بِهِ قولهم هذا مِنْ عِلْمٍ و إنما يقولون ذلك تقليدا وَ لا لِآبائِهِمْ علم بذلك، و إنما قالوه اعتباطا كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت الكلمة كلمة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي أفواه هؤلاء الكفار، فقد قالوها و أظهروها مع ما فيها من الإساءة و القبح، و أفواه جمع «فوه» بمعنى الفم، و الكلمة حيث تطلق على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 362

[سورة الكهف (18): الآيات 6 الى 7]

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)

المكتوب و الملفوظ، و ما أشبههما، أتى بقيد «من أفواههم» إِنْ يَقُولُونَ أي ما يقول هؤلاء إِلَّا كَذِباً و افتراء على الله سبحانه، فهو سبحانه

منزه عن الولد.

[7] و لقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يغتم غما شديدا حيث يرى هؤلاء منحرفين بهذه المثابة، فسلّاه سبحانه أن لا يغتم لهم، فإن انحرافهم لا يضر إلا أنفسهم، أما الرسول فقد أعذر في الهداية و الإرشاد فَلَعَلَّكَ يا رسول الله باخِعٌ أي مهلك نَفْسَكَ غمّا و حزنا عَلى آثارِهِمْ أي ما يظهر منهم من الأثر، فإن الكافر يظهر منه آثار الكفر، كما أن المؤمن يظهر منه آثار الإيمان إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي بالقرآن، فإنه حديث الله سبحانه لهداية البشر أَسَفاً تمييز لباخع نفسك.

[8] إن بدء الأمر من الله و أن إليه المصير، و قد جعل سبحانه أمور الدنيا ليختبر الصالح من الطالح، فليس على الداعي أن يهتم هذا الاهتمام المؤدي إلى الهلاك، إذا رأى إعراض الناس، فإن الناس لا بد فيهم من تغره الحياة، فما إعراضهم بعجيب، و هذا كما تقول: لا تغتم أيها المدير، فقد جعلت المدرسة للاختبار فإذا رأيت سقوط بعض الطلاب، فإنه أمر طبيعي إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من أنواع المخلوقات المختلفة، من جماد و حيوان و إنسان زِينَةً لَها أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 363

[سورة الكهف (18): الآيات 8 الى 9]

وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)

للأرض، و بذلك يمكن اختبار الناس، إذ لو لا المغريات، لم يكن الاختبار، لِنَبْلُوَهُمْ أي نمتحنهم- لا لأن نعلم، بل لأن يظهر باطن كل أحد، إذ هو سبحانه عالم بهم، منذ الأزل- أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا من الآخر، و أيهم أسوء عملا.

[9] منا المبدأ و إلينا المصير وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ أي

سوف نجعل ما عَلَيْها أي ما على الأرض من الزينة صَعِيداً الصعيد ظهر الأرض جُرُزاً و هي الأرض التي لا نبات لها، يقال جرزت الأرض إذا جدبت و يبست، أي أن ما على الأرض يهشم و يفنى، حتى تبقى أرضا جرزا لا شي ء عليها، فكأن التقدير «لجاعلون ما على الأرض معدوما، حتى تصبح صعيدا جرزا».

[10] و إذا كانت الأرض محلا لاختبار الناس، فمن الأفضل أن يؤمن الإنسان حتى يسعد، كما سعد أصحاب الكهف حتى أطاعوا، و خرجوا عن الامتحان، فائزين ناجحين أَمْ حَسِبْتَ يا رسول الله، أي هل ظننت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ و هم جماعة فروا من ملكهم الكافر، ليعبدوا الله وحده، ثم خافوا، فالتجئوا إلى كهف- أي مغارة في الجبل- و ناموا و شاء الله أن يطيل نومهم مئات السنين، ثم أيقظهم، حتى يري للناس و لأنفسهم كون الله قادر على كل شي ء، و أن قصة البعث حق وَ الرَّقِيمِ و هو اللوح الذي رقم فيه أحوال هؤلاء كانُوا مِنْ آياتِنا الدالة على قدرتنا عَجَباً؟ كلا ليس ذلك بعجب من قدرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 364

[سورة الكهف (18): آية 10]

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)

الله سبحانه، فخلق السماوات و الأرض و ما فيهما أعجب، و كان الإتيان بالاستفهام الاستنكاري، لبيان أن لله سبحانه كثير أمثال هذه الآية، فليست قصتهم عجيبة متفردة،

و قد ورد في سبب نزول هذه السورة، أن جماعة من كفار مكة، أرسلوا رسولين إلى اليهود، ليسألان منهم عن أحوال الرسول، هل هو صادق أم لا فلما جاءا إلى اليهود و استفسروهم أمره، قال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث

مسائل، فإن أخبركم باثنتين، و لم يخبر بالثالثة فهو نبي مرسل و إن لم يفعل فهو رجل مشغول اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب و اسألوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان أمره؟ و اسألوه عن الروح ما هو؟

و جاء الرجلان أهل مكة و أخبراهم بالخبر، و جاء إلى الرسول الكفار ليسألونه فنزلت هذه السورة تخبرهم عن أصحاب أهل الكهف، و ذي القرنين

، أما بالنسبة إلى الروح، فنزلت قوله سبحانه (وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) «1» [11] اذكر يا رسول الله إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ «أوى» أي التجأ و اتخذ المأوى و «الفتية» جمع فتى، أي الشبّان و «الكهف» المغارة في الجبل إذا كانت وسيعة، و إلا فهو «غار» و إنما أووا إلى الكهف هربا من الملك «دقيانوس» بدينهم، لئلّا يقتلهم فَقالُوا حين أووا رَبَّنا آتِنا أي أعطنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً نعمة و فضلا ننجوا بها من قومنا

______________________________

(1) الإسراء: 86.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 365

[سورة الكهف (18): الآيات 11 الى 12]

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)

وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل لنا في أمرنا ما نصيب الرشد.

[12] و لما التجأوا إلى الكهف أخذهم النوم فناموا فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي أنمناهم، فإن الضرب على الأذن كناية عن ذلك، لأن الإنسان إذا نام لا يسمع شيئا، فكأنه ضرب على أذنه بحائل يمنع عن السماع، أما نوم العين، فليس مناطا، إذ كثيرا ما

تنام العين و لا تنام الأذن لوعي القلب فِي الْكَهْفِ أي حال كونهم في الكهف سِنِينَ عَدَداً سنين تعد عدا، إذ كانت ذات عدد، و هذا لإفادة الكثرة؛ إذ القلة لا تحتاج إلى العدّ.

[13] ثُمَ بعد النوم الطويل بَعَثْناهُمْ من رقدتهم، و أيقضناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أي ليظهر معلومنا في الخارج، فإن العلم ذو إضافة بين الصفة و بين المعلوم، فإذا لم تكن صفة، لم يكن علم، و إذا لم يكن معلوم خارجي لم يكن علمه بالمعلوم الخارجي أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أيّ الفئتين، فئة المؤمنين، و فئة الكافرين- كما ذكر بعض-.

أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي أحسن إحصاء لمدة لبث أولئك في الكهف، «ما» في «لما لبثوا» مصدرية زمانية أي لمدة لبثهم، ثم أنه لو كان المراد بالحزبين، المؤمنين، و الكافرين، تبين أن هناك كان نزاع و خصام في مدة لبثهم بين الطائفتين، و لماذا كان ذلك؟ و من كان الطرفان؟ ذلك غير معلوم لنا، و إن كان المراد بالحزبين الفئتين من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 366

[سورة الكهف (18): الآيات 13 الى 14]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13) وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)

نفس أصحاب الكهف، كما أشار إليه سبحانه في آية أخرى، «وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ» كان المقصود أن يعلموا هم بأنفسهم مدة لبثهم، و هذا أقرب إلى النظر، فقد كان هناك بعث لهم عن النوم و كان اطلاع الناس عليهم، فكان بعثهم من النوم، ليكون علمهم بقدرة الله سبحانه عيانا، و اطلاع الناس عليهم ليعلم الناس ذلك، فمآل الآية

«بعثناهم ليعلموا مدة نومهم» فإن كون بعضهم أحصى من بعض، فرع العلم، و لذا جعل كناية عنه و هذا كما يقول المعلم: أعطيناكم- أيها التلاميذ- هذا الكتاب لنعرف أيكم أكثر ذكاء، فإن المعلم يعلم ذلك، و إنما يريد أن يظهره لأنفسهم.

[14] و بعد الإشارة الإجمالية إلى القصة يأتي البيان بشي ء من التفصيل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يا رسول الله، و كان التصدير بلفظ «نحن» لإفادة صدق القصة و مطابقتها للواقع في المزايا و الخصوصيات، فإن القصص كثيرا ما يزاد فيها و ينقص نَبَأَهُمْ أي خبرهم بِالْحَقِ بالصدق و الصحة، بلا خلاف الواقع إِنَّهُمْ أي إن أصحاب الكهف فِتْيَةٌ شبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً أي بصيرة في الدين، فإن الهداية و الضلالة، إذا ابتدأ بها الإنسان زادت تدريجا، لما يجمع الذهن لها من الشواهد و المقومات.

[15] وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي شددنا عليها كأن القلب إذا لم يربط عليه يكون مضطربا متفككا، كالأشياء الرخوة، فإذا شد عليه برباط الإيمان، صار صلدا قويا إِذْ قامُوا أي استقاموا، فهو كناية عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 367

[سورة الكهف (18): الآيات 15 الى 16]

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

ذلك، لأن القائم يستعد للحركة، و كذلك من قوي عزمه و استقام فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو إلهنا، و خالقنا، لا الأصنام التي يعبدها الملك «دقيانوس» و أهل المملكة لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعترف بإله غيره، و لا

نعبد إلها سواه لَقَدْ قُلْنا إِذاً إذا دعونا غير إله السماء و الأرض شَطَطاً أي كذبا و باطلا.

[16] ثم تذاكروا فيما بينهم أحوال أهل المملكة و أنهم كيف ضلوا السبيل بدون حجة قائلين هؤُلاءِ قَوْمُنَا جماعتنا من أهل المملكة اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أي من دون الله آلِهَةً من الأصنام يعبدونها لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على فعل أنفسهم، أو على تلك الآلهة، و قد أجريت مجرى العقلاء، تماشيا مع منطق القوم، و «لو لا» بمعنى «هلّا» للزجر،- أي إن كانوا صادقين، فلما ذا لا يأتون لصحة هؤلاء الآلهة بِسُلْطانٍ أي دليل بَيِّنٍ واضح، فما الدليل على كون هذه الأصنام آلهة؟ و إذ لا دليل لهم فَمَنْ أَظْلَمُ أكثر ظلما و تعديا مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نسب إليه ما ليس منه، فإن غالب عبّاد الأصنام ينسبون تعدد الآلهة إليه سبحانه.

[17] ثم قال بعض أصحاب الكهف لبعض وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ أي اعتزلتم القوم، و تجنبتم فعلتهم، و عبادتهم للأصنام وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 368

[سورة الكهف (18): آية 17]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)

بمعنى تركتم معبوداتهم التي يعبدونها إلا الله الذي تعبدونه أنتم، كما يعبده أولئك فَأْوُوا أي صيروا إِلَى الْكَهْفِ و هي مغارة الجبل «أفسوس» قرب «دمشق الشام» يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي يبسط لكم ربكم بعض رحمته التي يرحمكم بها، و ينجيكم من قومكم بسببها وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً الرفق هو اليسر

و اللطف، أي يسهل عليكم ما تخافون من الملك و ظلمه، بأن يهيئ لكم يسرا و لطفا و رفقا.

[18] و قد ذهب الجميع إلى الكهف، و كان معهم راعي مع كلبه، و قد تعبوا من المشي، فناموا لكي يستريحوا، و كان باب الغار نحو القطب الشمالي، حتى أن الشمس لا تؤذيهم بحرّها، و إن دخلت عليهم أشعتها وَ تَرَى الشَّمْسَ أي لو كنت هناك لرأيت الشمس إِذا طَلَعَتْ من المشرق تَزاوَرُ أي تميل عَنْ باب كَهْفِهِمْ المتجه نحو الشمال ذاتَ الْيَمِينِ أي إلى جهة يمين الكهف- لمن أراد الخروج منه- فإن الإنسان إذا وقف على باب الكهف متجها نحو الشمال يكون يمينه طرف المشرق، و شماله طرف المغرب- عكس الواقف تجاه القبلة- وَ إِذا غَرَبَتْ أي أرادت الغروب تَقْرِضُهُمْ من القرض بمعنى القطع، يقال قرضت الموضع إذا قطعته و جاوزته، أي تجاوز الشمس كهفهم ذاتَ الشِّمالِ أي جهة الشمال فهي تدور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 369

[سورة الكهف (18): آية 18]

وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)

من خلفهم، إذ الشمس تدور في جانب الجنوب من «الشام» وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ أي فضاء متسع مِنْهُ أي من الكهف، فقد كانت له ساحة وسيعة، ناموا هناك، فلم يكن تصيبهم الشمس ليتأذوا بحرّها و تبليهم أشعتها ذلِكَ الوضع لهم في الكهف لا تؤذيهم الشمس، و هم نيام مستريحون مدى السنين الطوال مِنْ آياتِ اللَّهِ حججه و براهينه، فإن ذلك يدل على وجوده و علمه و قدرته و سائر صفاته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق، بأن لطف

به الألطاف الخفية- بعد أن سلك السبيل الذي أراه سبحانه، لكل مؤمن و كافر- فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رشد، و أصاب الخير و السعادة وَ مَنْ يُضْلِلْ بترك الألطاف الخفية بالنسبة إليه، بعد أن أعرض عن الهداية فَلَنْ تَجِدَ لَهُ يا رسول الله وَلِيًّا مُرْشِداً من يتولى شؤونه، و يرشده إلى الحق، إذ لا مرشد إلا الله سبحانه.

[19] وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً لو رأيتهم هناك في الكهف، و هم نيام لظننتهم يقظين منتبهين، قيل: لأن عيونهم كانت مفتوحة وَ هُمْ رُقُودٌ و الحال أنهم كانوا نائمين، فإن الإنسان كثيرا ما تبقى عينه مفتوحة عند النوم، إذا أخذه المنام قبل أن يغمض عينه- لشدة تعب أو ما أشبه- وَ نُقَلِّبُهُمْ في نومهم ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ أي إلى جهة اليمين وجهة الشمال، حتى لا تأكل الأرض أبدانهم، فإن الشي ء إذا بقي مدة طويلة على الأرض، انقلب ترابا، و قد طال نوم هؤلاء مئات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 370

[سورة الكهف (18): آية 19]

وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19)

السنين، فلو لم يكن يقلبهم الله سبحانه، لما سلمت جنوبهم و ظهورهم الملصقة بالأرض وَ كَلْبُهُمْ فإن راعيا تبعهم و معه كلبه، و لما ذهب القوم إلى الكهف، بقي الكلب ببابه يحرسهم باسِطٌ ذِراعَيْهِ هو أن يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع يديه بِالْوَصِيدِ أي بفناء الكهف، في منظر الحارس، فإن الحيوانات تخاف الكلب، فلا تتقدم إليهم بسوء، و كان لهم من الهيبة،

بحيث، لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أيها السامع لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت عنهم موليا فارا وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي امتلأ قلبك من رعبهم، و الخوف الذي يدخل قلبك من منظرهم، فإن الإنسان، إذا رأى جماعة نائمين في كهف خارج المدينة، حيث لا أحد و لا صوت، و كلب في باب الكهف، دخلت قلبه الهواجس، و أخذ بالفرار لئلا يصيبه أذى من جانبهم، فيحتمل أنهم لصوص، فيقومون ليؤذوه أو أموات فيراه أحد عندهم، و يخبر السلطة، فيسأل عن شأنهم و يبتلى بهم أو سحرة اجتمعوا هنا بهذه الكيفية، فيسحروه، أو غير ذلك؟

[20] إنهم ناموا ما شاء الله أن يناموا ثلاثمائة سنين، أو أكثر- بقدرة الله تعالى و إرادته- ثم شاءت إرادته أن يوقظهم من رقدتهم الطويلة، و قد مات الملك «دقيانوس» و تبدلت الأقوام و البلاد وَ كَذلِكَ أي كما فعلنا لهم تلك الخوارق بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ليسأل بعضهم بعضا، و المراد وصولهم إلى نتيجة التساؤل، و هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 371

علمهم بمدة نومهم، من باب ذكر السبب، و إرادة المسبب، فإن القائل ينتهي إلى معرفة المدة مما يزيدهم علما على علم، و إيمانا على إيمان قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أحد الفتية، يسأل أصدقائه كَمْ لَبِثْتُمْ في نومكم قالُوا في الجواب لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالوا و قد ناموا غدوة، و استيقظوا في آخر النهار، و لذا لما نظروا إلى الشمس و هي في وقت العصر، قالوا «يوما» باعتبار طول النهار «أو بعض يوم» باعتبار استثناء الباقي من النهار، ثم تركوا هذا الموضوع الذي لا يهمهم، و إن أحسوا بنوم طويل، و جوع شديد، و أرجعوا علم ذلك إلى الله قالُوا رَبُّكُمْ

أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي بمدة لبثكم، و من هذا يظهر أنه احتمل بعضهم أنهم ناموا يومين أو أكثر فَابْعَثُوا أي أرسلوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ الورق اسم جنس للدرهم، و لذا وصفت ب «هذه» مؤنثا، باعتبار التعدد من الدرهم إِلَى الْمَدِينَةِ أي البلدة التي خرجوا منها فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أيّ الحوانيت و المحلات أَزْكى أطهر و أنظف و أطيب طَعاماً ليشتري منها، فَلْيَأْتِكُمْ أي ذلك المبعوث بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى و لْيَتَلَطَّفْ قالوا إن التاء في هذه الكلمة، نصف القران الحكيم بحسب الحروف، و إن كان نصفه بحسب الأجزاء، ما يأتي من قوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 372

[سورة الكهف (18): الآيات 20 الى 21]

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)

(قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ) «1» و المعنى أن يعامل البائع بلطف و دقة، و لا يماكس في الشراء، حتى لا ينجر الأمر إلى معرفته، ثم يؤخذ إلى الملك، و نقع في المحذور الذي فررنا منه وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أي لا يخبرن هذا الذاهب لاشتراء الطعام عنكم- أيها الرفقة- أَحَداً من أهل المدينة، فإنهم إن علموا بمكانكم، و شاع خبركم، وقعتم في المحذور.

[21] إِنَّهُمْ أي الملك و من حوله إِنْ يَظْهَرُوا أي يشرفوا و يطلعوا عَلَيْكُمْ و يعرفوا مكانكم يَرْجُمُوكُمْ بالحجارة جزاء لما فعلتم من ترك آلهتهم، و اختياركم الإيمان بالله أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يردوكم إلى دينكم

السابق، و هو عبادة الأصنام وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أي إذا فعلتم ذلك الرجوع إلى دينهم أَبَداً فإن الإنسان إذا كفر، و بقي على كفره، حتى مات، خلد في النار، و هذا ما جرت العادة بأن الإنسان إذا دخل في دين، فإنه يدخل فيه قلبا و قالبا، فلا يقال: أنه كان بإمكانهم التقية؟

[22] لكن الله سبحانه شاء أن يطلع عليهم الملك و حاشيته فقد جاء أحد ليخبر الملك «دقيانوس» بأنهم هربوا، فأمر أن يسد عليهم باب الكهف، و يدعوهم كما هم في الكهف، ليكون قبرا لهم، و قد كتب

______________________________

(1) الكهف: 76.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 373

بعض العاملين في بناء الباب لوحا فيه أسماءهم، و سائر خصوصياتهم، و مضى زمان حتى أراد الله سبحانه، إعلام أمرهم، إذ هدم الحائط، و تيقضوا، و جاء أحدهم يشتري الطعام، و إذا به يرى مدينة جديدة، و لما أراد الاشتراء، تخالف هو و البائع، مما يوجب رفع أمرهما إلى الملك وَ كَذلِكَ أي كما أنمناهم، و أيقظناهم من نومهم- بتلك الكيفية العجيبة- أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ يقال: أعثر زيد على عمر الناس، أي سبب اطلاعهم عليه، يعني أعلمنا الناس بهم و بمكانهم- فقد كان الملك مؤمنا- فلما أخبر بالخبر جاء إلى الكهف ليحقق عن القضية لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و النشور حَقٌ فإنه لو لا بعث الله إياهم، لم يكن من الطبيعي هذا النوم الطويل يتلوه البعث و اليقظة وَ أَنَّ السَّاعَةَ أي يوم القيامة الذي تبعث فيه الأموات لا رَيْبَ فِيها أي ليست مجالا للريب و الشك، لأن حالهم في نومهم و انتباههم كحال من يموت ثم يحيى، و لما أن جاء الملك المؤمن و حاشيته، ليعرفوا خبرهم،

تقدم ذلك الذي ذهب لاشتراء الطعام، و أخبر إخوانه بخبر المدينة، و أنهم قد ناموا سنين طوالا، فلم يحب أصدقائه اطلاع الناس عليهم، و أن يكونوا مشهورين في المدينة، و لذا ناموا و طلبوا من الله سبحانه أن يميتهم، و قبض الله أرواحهم في الساعة- استجابة لدعائهم- و هناك اختلف من في حاشية الملك حول كيفية البنيان إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي كان العثور حال التنازع، كما هو المعتاد أن يقع التنازع و الاختلاف حول القضايا الخارقة، فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا، كما تبنى المقابر. و قال آخرون: بل ابنوا عليهم مسجدا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 374

[سورة الكهف (18): آية 22]

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)

فَقالُوا أي قال جماعة من حضر ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي ابنوا على فم الكهف بنيانا يسترهم عن الأنظار، كما تبنى القبور رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ و لعل الاشتباه حول دينهم، و أنهم هل يستحقون بناء المسجد حولهم، أم لا؟ هو الذي أوجب أن يقول بعضهم ابنوا عليهم بنيانا فإن قوله «ربهم أعلم بهم» كاشف عن ذلك قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي غلبوا على الآخرين، في أمر البناء عليهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً محلا للعبادة و السجود، و قد بنوا المسجد، و لا زال المسجد إلى هذا اليوم موجودا في جبل مطل على دمشق، يزوره القاصدون، و يصلون فيه، و هكذا يبقي الله سبحانه كل ما يرتبط به مثالا و عبرة بينما يذهب الطغاة مع الزمن، فلا ترى لهم

من باقية.

[23] و قد اختلف الناس حول عدد أصحاب الكهف، لكن ليس مهمة القرآن بيان ذلك، و إنما المهم أخذ العبرة في القصة، فهم بأيّ عدد كانوا، كان ذلك دليلا على وجود الله و قدرته، و أنه يعيد الأموات أحياء و إن مرت قرون، و طالت أزمان سَيَقُولُونَ أي يقول قوم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ التقدير هم ثلاثة، و إنما جاء «السين» لاحتمال أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أخبر بالخبر، اختلف الأقوام الذين كانوا في عصره، و يحتمل أن يكون ذلك حكاية حال ماضية، فإذا لوحظ حال الاطلاع عليهم، و البنيان حولهم، كان مستقبل ذلك الحين، تختلف الأقوال في عددهم- كما هو العادة الجارية في أمثال هذه القضايا- وَ يَقُولُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 375

أي جماعة آخرون هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و كأنه لم يكن قائل بأنهم أربعة خامسهم كلبهم رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قذفا للقول في محل غيب عن الحواس تشبيه بمن يقذف الحجارة، في محل مجهول مظلم، يريد الهدف وَ يَقُولُونَ أي جماعة آخرون سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ و إنما دخلت الواو هنا للتفنن الذي هو نوع من أنواع البلاغة- لا واو الثمانية- قال في مجمع البيان: قيل بأن هذا إخبار من الله تعالى، بأنه سيقع نزاع في عددهم، ثم وقع ذلك، لما وفد نصارى نجران إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقالت اليعقوبية منهم، كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، و قالت النسطورية كانوا خمسة سادسهم كلبهم، و قال المسلمون، كانوا سبعة و ثامنهم كلبهم «1» قُلْ يا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ و أنهم

كم كانوا، و ليس القرآن بحاجة إلى ذكرهم عددا، حتى يوقع نفسه، في خلاف لا فائدة فيه و ما يَعْلَمُهُمْ أي لا يعلم عددهم أحد إِلَّا قَلِيلٌ من الناس كالنبي و أوصياؤه فَلا تُمارِ أي لا تجادل يا رسول الله فِيهِمْ أي في عددهم، و إنهم كم كانوا إِلَّا مِراءً ظاهِراً سطحيا، أي بدون تعميق و تدقيق، و إنما تذكر لهم القصة، كما أوحيت إليك، إذ لا فائدة في الجدال، في هذه الأمور وَ لا تَسْتَفْتِ يا رسول الله،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 328.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 376

[سورة الكهف (18): الآيات 23 الى 24]

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24)

أي لا تستخبر فِيهِمْ في أهل الكهف، و مقدار عددهم مِنْهُمْ من أهل الكتاب أَحَداً فإنك تعلم أكثر منهم ثم لا شأن في هذه الخصوصيات، مع منهج الإسلام، حتى يطول الجدال حولها، و يصير موضع السؤال و الاستفتاء؟

[24] و بمناسبة النهي عن الجدال في الماضي الغائب عن الحواس، يأتي النهي عن التكلم حول المستقبل المجهول، إلا أن يكل الإنسان أمره، إلى إرادة الله سبحانه، فإن المستقبل أكثر عناصره بيد الله، و إنما أقله بيد الإنسان، فليكف الإنسان عن التكلم فيه، و ليس معنى هذا، أنه لا يعمل و لا يفكر للمستقبل و إنما معناه أن لا يرى المستقبل كله بيده، و لا يحسب لله سبحانه الحساب- كما هو شأن الماديين- وَ لا تَقُولَنَ يا رسول الله لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أو بعد غد، و انّما «غدا» من باب المثال.

[25] إِلَّا

أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا أن تقول «إن شاء الله» و هذا تعليم من الله سبحانه للعباد، إذا أرادوا أن يقولوا شيئا عن المستقبل يعلقوه بالمشيئة، إثباتا، أو استثناء كأن يقول: أذهب إن شاء الله، أو أذهب إلا أن يشاء الله، و المعنى على الثاني، إلا أن يشاء الله غيره- بأن لا اذهب- وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ الاستثناء، فإنك إذا ذكرت شيئا عن المستقبل بدون قولة «إن شاء الله» فإذا تذكرت ذلك، فقل وقت التذكر هذه الكلمة وَ قُلْ بعد ما تذكرت إنك نسيت قولة «إن شاء الله» عَسى أي لعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 377

[سورة الكهف (18): آية 25]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25)

أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا الشي ء الذي نسيت الكلمة معه رَشَداً أي أدنى إلى الصواب، كأنه حيث لم يذكر المشيئة، صار ذلك المستقبل المنوي فعله، غير لائق بالإتيان، فيرجو منه سبحانه لأحسن منه و أقرب إلى الرشد، فإذا قال «سأفعل لإعطاء زيد» و لم يستثن، ثم تذكر فليقل، «إن شاء الله، و لعله يوفقني لشي ء أحسن من إعطاء زيد»- و هذا المعنى على ما ذكره بعض أهل التفسير، و ليس بعيدا من السياق-.

[26] ثم يرجع السياق إلى قصة أصحاب الكهف وَ لَبِثُوا أي مكث الفتية، و هم نيام فِي كَهْفِهِمْ و الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هذه المدة الطويلة بقوا هناك أحياء، نيام، بدون أن يصيبهم شي ء وَ ازْدَادُوا أي زاد بعض الناس على هذه المدة تِسْعاً أي تسع سنين، فقال: إن مدة لبثهم ثلاثمائة و تسع سنوات،

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال في تفسير الآية،

عند أهل الكتاب: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية، و الله تعالى ذكر السنة القمرية، و التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين، فيكون العدد ثلاثمائة و تسع سنين

«1»، أقول: و ذلك لأن السنة القمرية في الغالب «ثلاثمائة و خمس و خمسون» يوما، و السنة الشمسية «ثلاثمائة و خمس و ستون» يوما، فكل مائة سنة قمرية، تنقص عن مائة سنة شمسية ألف يوم، و ألف يوم يقرب من ثلاث سنوات، و على هذا فليس المراد من و ازدادوا كون الزيادة، صادرة من أهل الكتاب، بل المراد أنه زيد هذا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 334.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 378

[سورة الكهف (18): آية 26]

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

المقدار، فإن الإنسان، إذا أراد أن يقول شيئا بدون أن ينسب القول إلى نفسه، يقول «يقولون كذا» و الفعل يلاحظ- في يقولون- مجردا عن الفاعل.

[27] قُلِ يا رسول الله اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بمقدار لبثهم. في المجمع معناه: إن حاجّك «يا محمد» أهل الكتاب في ذلك، فقل الله أعلم بما لبثوا، و ذلك أن أهل نجران، قالوا: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، و أما التسع، فلا علم لنا بها ..

و روي أن يهوديا، سأل علي ابن أبي طالب عليه السّلام عن مدة لبثهم، فأخبر عليه السّلام بما في القرآن، فقال إنما نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال: بسني الشمس، و هذا بسني القمر

«1» لَهُ لله غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما غاب عن الحواس في السماوات و في الأرض سواء كان من الأمور الماضية أو

الأمور المستقبلية، و معنى كونه لله أنه مربوط بالله، وجودا و علما و غيرهما، و كأنه إعراض عن تحديد المدة، لأن هذه الخصوصية ليست بمهمة، و إنما المهم اللبث مثل هذه المدة الطويلة، مما يدل على قدرة الله سبحانه على إحياء الأموات أَبْصِرْ بِهِ أي بالله سبحانه وَ أَسْمِعْ هذان للتعجب، و المعنى التعجب من أنه تعالى يرى كل متبصر، و يسمع كل مسموع، أي ما أبصره و ما أسمعه، و من المعلوم، أن القالب، هو التعجب، و المغزى بيان علمه الواسع، بحيث يرى كل شي ء و يسمع كل صوت، و إنما جي ء بهذا التعجب هنا تعقيبا على قوله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 334.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 379

[سورة الكهف (18): الآيات 27 الى 28]

وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)

«لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» فإن العلم بكل غائب سابقا و مستقبلا، يستلزم السمع و البصر العام لكل شي ء ما لَهُمْ أي ليس لأهل السماوات و الأرض، و جي ء بضمير العاقل، مع أن المراد ليس لأي شي ء في السماوات و الأرض- ظرفا و مظروفا عاقلا و غير عاقل- تغليبا مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ فلا يتول شؤون الكون سواه، فهو المالك، السميع البصير، المتولي للإرادة وَ لا يُشْرِكُ الله تعالى مع نفسه فِي حُكْمِهِ أوامره و نواهيه أَحَداً فهو الحاكم وحده في كل الأشياء حكما

تكوينيا أو تشريعيا، فإن له الخلق و الأمر.

[28] وَ اتْلُ يا رسول الله، أي اقرأ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ فهو الميزان للأمور، لا ما يقوله الناس، و لا ما عندهم من المعلومات لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فما قاله هو الحق الذي لا يقبل أيّ تغيير أو تبديل، فليس مثل كلمات الناس تتبدل حسب الظروف و المصالح و الشفاعة و التوسط و ما أشبهها، وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول الله مِنْ دُونِهِ تعالى مُلْتَحَداً من التحد بمعنى مال، أي لا تجد ملجأ سواه تلجأ إليه و تلتحد نحوه، فلا تستفت أحدا في شأن من الشؤون، و لا تنظر إلى ما يقوله هذا أو ذاك، بل اتبع الحق النازل عليك.

[29] و إذ ليس هناك ملجأ يلجأ إليه الإنسان، ليقيه من مكاره الدهر، و يسعده في الآخرة، فما أجدر بالرسول، أن يتلو كتاب الله عاملا به، و يصبر مع المؤمنين، و إن أصابه الكفار بأذى وَ اصْبِرْ يا رسول الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 380

نَفْسَكَ أي احبس نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ أي الصباح وَ الْعَشِيِ أي المساء، لا شغل لهم سوى الله سبحانه يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي رضاه، أما بمعنى يريدون الوجه الذي أمر به، فتكون الإضافة للتشريف، أو تشبيه بمن له وجه، و يعمل الإنسان عملا لوجهه، فتكون الإضافة مجازا، و حيث إن الإنسان، إذا عمل عملا لأحد، لاحظ أنه يواجه المعمول له، و تقع عينه في وجهه، فيخجل منه، إن لم يعمل حسب رضاه، قيل «يعمل فلان لوجه فلان» وَ لا تَعْدُ من عدى يعدو- على وزن «غزي يغزو»- بمعنى تجاوز، أي لا تتجاوز عَيْناكَ يا رسول الله عَنْهُمْ أي عن أولئك

الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي، و «عيناك» فاعل «تعد» فهو صيغة تأنيث، لا صيغة خطاب، و المعنى لا تتجاوز عينك عن هؤلاء المؤمنين إلى أبناء الدنيا تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي في حال كونك مريدا زينة هذه الحياة، و لم يكن يريد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، و إنما جاء النهي إرشادا للأمة، و تقريعا للعظماء و الأشراف، الذين أرادوا من الرسول أن يطرد الفقراء- في منطقتهم- كبلال، و عمار، و خباب، و صهيب، و ابن مسعود، و أضرابهم، ليدنوا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأشراف قالوا: إنه لا يمكن أن نجتمع نحن بهؤلاء، فإذا أردت اقترابنا فاطرد هؤلاء من عندك، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حريصا على إيمان الأشراف، و استقائهم من المعرفة، لعلهم يهتدوا، لكن إن طرد هؤلاء و تقريب أولئك في منطق الإسلام، طرد للمؤمنين، و تقريب لزينة الحياة، و من طريف الأمر، أن الأمر بقي هكذا إلى اليوم، فالغالب أن المؤمنين- لقلة علاقتهم بزينة الحياة-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 381

[سورة الكهف (18): آية 29]

وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

لا يجمعون مالا، و لا يأبهون بالمظاهر، و يجتمعون حول كبراء أهل الدين. و الأشراف و الأغنياء، قلوبهم غامرة من الإيمان، و ظواهرهم عامرة بالزخارف، ثم يريدون أن يضيفوا إلى أنفسهم شرف قرب الكبير الديني- لمجرد الظاهر أيضا- فيقولون: اطرد أولئك حتى نقترب منك، و ماذا يصنع الكبير هل يطردهم؟ و هم

الذين يعطون الحقوق، و لهم الكلمة في حلّ كثير من المشاكل، أم يطرد الفقراء؟ و كيف يطرد قلبا عامرا، لقلب غامر؟ لكن الواجب أن لا يطرد المؤمن مهما كلف الأمر، اتباعا لقوله سبحانه «و لا تعد عيناك عنهم» و الله الذي بيده الملك يعطيه ما ينتظر من الأشراف، بدون وساطتهم، و هو على كل شي ء قدير وَ لا تُطِعْ يا رسول الله في طرد المؤمنين مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا و إنما أغفلناه، لأنه سار مع هواه، فتركناه حتى يتردى في الغفلة و الحرمان، لا يذكر الله سبحانه إلا قليلا وَ اتَّبَعَ هَواهُ فالهوى يقوده- لا الهدى- وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي سرفا و إفراطا، لا ينتظم بنظام واحد، فإن أهل اليمين يجمع جميع أمورهم نطاق الدين، أما أهل الهوى، فكل يوم مع مهوى، كالعنب الفرط الذي انسلخ من عنقوده، فلم يجمعها جامع.

[30] وَ قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الذين يريدون أن تطرد الفقراء، ليقتربوا منك الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ و الرب رب الجميع، يستوي عنده الفقير و الغني، فليس لي أن أطرد بعضا لبعض، و إنما أنا مبلغ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ حتى ينال السعادة وَ مَنْ شاءَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 382

فَلْيَكْفُرْ فإن كفره لا يضر الله شيئا، و إنما جاز التهديد بلفظ الأمر، لأن المهدد، كالمأمور بإهانة نفسه، أو من باب حمل الضد على الضد إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي، أو ظلموا غيرهم بالتعدي و الإيذاء ناراً أَحاطَ بِهِمْ و اشتمل عليهم بحيث لا منفذ لهم منها سُرادِقُها السرادق الفسطاط و ما أشبه، شبه به لهب النار، لأنه مخروطي كالسرادق، و لعل هو المراد بقوله: (ظِلٍّ ذِي

ثَلاثِ شُعَبٍ) «1» أي ثلاثة أضلاع بشكل مخروطي، فقد كانوا في الحياة بين ثلاث، المؤمنون و الكافرون و المنافقون، فليكونوا هناك كذلك بين ثلاث شعب من النار التي تظللهم و تحيط بهم وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا أي طلبوا الغوث، و العون مما بهم من العطش و الحر يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ هو ما أذيب من النحاس و الرصاص، و شبههما، أو كدردي الزيت المغليّ، فيقدم إليهم هذا الماء الذي إذا قربه من فيه، سقط لحم وجهه من شدة الحرّ يَشْوِي الْوُجُوهَ أي ينضجها عند دنوه منها، كما قال سبحانه في آية أخرى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ) «2» بِئْسَ الشَّرابُ ذلك المهل وَ ساءَتْ النار مُرْتَفَقاً

______________________________

(1) المرسلات: 31.

(2) المؤمنون: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 383

[سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

أي مسكنا لهم، مأخوذ من المرافقة، و هي الترافق، كأنها محل ارتفاق و أخذ الرفقة.

[31] ذلك لمن ظلم و كفر، أما من آمن، فلننظر ماذا جزاءه؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا، بالمعتقدات الحقة وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات التي تصلح، مقابل الأعمال الفاسدة التي لا تصلح إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فلا تذهب أعمالهم ضياعا، و هدرا، إنما يلاقون جزاءهم هنالك، و هذا كالتسلية فإن كثيرا ممن عمل صالحا هنا لا يلاقي تسبيحا و تحسينا من المجتمع، فلا يضيق بذلك أنه موعود هناك بالجزاء الكافي.

[32] أُولئِكَ

المؤمنون العاملون بالصالحات لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين الخلود، من عدن بالمكان إذا أقام فيه، فإن كل مؤمن يعطى جنانا، لا جنة واحدة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت قصورهم، و هذا أكثر لذة، من أن يكون النهر فوقهم، كما في بعض الأراضي المنخفضة المجاورة للأنهر المرتفعة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أساور جمع سوار، و هو ما يحلّى به اليد في عظم الذراع، و هناك يكون السوار تحلية اليد للرجل كالمرأة، و قد كانت الملوك سابقا يلبسون السوار، و لذا أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعض المسلمين، بأنه يلبس سوار كسرى، و كان كما ذكر وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً جمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 384

[سورة الكهف (18): آية 32]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32)

أخضر مِنْ سُنْدُسٍ هو الديباج الغليظ وَ إِسْتَبْرَقٍ هو الديباج الرقيق، و الخشن أكثر هيبة، كما أن اللين أكثر راحة للبدن مُتَّكِئِينَ أي في حالة هم متكئون فِيها في تلك الجنات عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة و هي السرير، أو الذي في حجلة العروس خاصة نِعْمَ الثَّوابُ و الجزاء، ثوابهم و جزاؤهم وَ حَسُنَتْ الأرائك مُرْتَفَقاً أي محل ارتفاق و منزل مرافقة، مقابل حال الظالمين، الذي مرّ قبل أسطر.

[33] و هنا يضرب سبحانه لحال المؤمن، و حال الكافر مثلا، فإن الكافر الذي يبطره النعيم، و ينسى الشكر، و يظن أن الإكرام الذي أكرم به هنا باق له أبدا، و إنه إذا انتقل إلى الدار الآخرة يكون له كل شي ء مهيئ، لكن نعمته- هنا- لا تدوم، و هناك يؤخذ بما عمل هنا من

السيئات، حيث لا ينفع فيه وعظ المؤمن و إرشاده، بل يركب رأسه و يسير في غلوّه وَ اضْرِبْ يا رسول الله لَهُمْ أي لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان مَثَلًا رَجُلَيْنِ مؤمن و كافر جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ و إنما أتى بالتثنية دلالة للزيادة، و قد ذكره علي بن إبراهيم قال: إنه يريد رجلا كان له بستانان كبيران كثيرا الثمار، و كان له جار فقير، فافتخر الغني على الفقير، فقال له: أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا «1»، أقول:

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 342.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 385

[سورة الكهف (18): الآيات 33 الى 34]

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34)

و إنما سميت الجنة جنة، لأن الأشجار تجنها و تسترها مِنْ أَعْنابٍ مما يزيد جمال البستان بالعروش وَ حَفَفْناهُما أي أطفنا بهما بِنَخْلٍ بأن كانت النخيل دائرة مدار الجنتين، و في وسطهما الكروم و الأعناب وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما بين البساتين زَرْعاً فزرع متوسط، و نخيل محيطة، و أعناب محاطة، هكذا كان منظر جنتي ذلك الرجل الظالم لنفسه، بهذه الزينة و الجمال.

[34] كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ كانت في وقت الازدهار و الثمار آتَتْ أي أعطت و أظهرت أُكُلَها أي ثمرتها و غلتها و الأكل هو ما يؤكل من الثمار وَ لَمْ تَظْلِمْ إحداهما مِنْهُ أي من الأكل شَيْئاً أي لم تنقص الثمرة، و إنما أتت كاملة، و الإتيان بلفظ الظلم، للمقابلة مع قوله سبحانه «و هو ظالم» فإن الجنة لم تظلم، لكن الإنسان ظلم وَ فَجَّرْنا أي شققنا خِلالَهُما وسط الجنتين

نَهَراً يسقيهما، فيكون الماء في وسط الجنة، لسهولة السقي، و هذا يوجب كون الجنة أجمل منظرا و أحسن ثمرا لسقاية الثمر بالماء الدائم.

[35] وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ هذا كنتيجة ما تقدم، فإن الإنسان إذا عدد أموال أحد، يجمل القول و يقول «إن له مالا» يريد مالا عظيما فَقالَ هذا الرجل المالك للجنتين لِصاحِبِهِ أي صديقه المؤمن وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يخاطبه في الكلام، و يراجعه في القول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 386

[سورة الكهف (18): الآيات 35 الى 36]

وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)

أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا فها أنا صاحب جنتين، و أنت فقير وَ أَعَزُّ نَفَراً أي أقوى عشيرة و رهطا، و إنما سميت العشيرة نفرا لأنهم ينفرون معه في حوائجه، و كان هذا الكلام من الرجل الكافر، كان تفنيدا لما يقوله المؤمن، من أن المؤمن أكرم على الله، فهو يريد أنه أكرم، و لذا أعطاه الله هذا الملك و العشيرة، بينما الرجل المؤمن لا مال له و لا رهط.

[36] وَ دَخَلَ الرجل الثري صاحب الجنتين جَنَّتَهُ بستانه وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفران و العصيان، فقال كما يقول كل مغرور غافل قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك و تفنى، من «باد» بمعنى هلك هذِهِ الجنة أَبَداً و هذا كلام الإنسان المغرور الكافر، الذي لا يحسب لله سبحانه و لتقديره حسابا.

[37] وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة قائِمَةً فلا بعث هناك و لا حساب، و ما تقوله أنت أيها الصاحب المؤمن، ليس إلا و هما و خرافة وَ لَئِنْ صدق

زعمك، و كان هناك بعث و حساب و رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أي ردوني إليه بعد موتي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة، أو من هذه الحياة مُنْقَلَباً أي انقلابا و رجوعا، فهو مصدر ميمي، و هكذا يقول الكفار المغرورون بل يزعمون أنهم في الآخرة كرماء، كما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 387

[سورة الكهف (18): الآيات 37 الى 38]

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)

الدنيا، أليس الله أعطاهم هذه النعمة لكرمهم عليه؟ فيعطيهم في الآخرة خيرا من ذلك، لكن هناك يقال لهم (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ!!) «1» [38] و لما أتم الكافر كلامه، و أبدى غروره و دخيلة نفسه الجاهلة الغبية قالَ لَهُ صاحِبُهُ أي صديقه المؤمن، و الصاحب كل من صحب الإنسان وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أي يخاطبه و يجيبه عما قال أَ كَفَرْتَ أي هل كفرت أيها الصاحب الثري، و هو استفهام إنكاري، أي كيف تكفر بِالَّذِي أي الله الذي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أولا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثانيا ثُمَّ سَوَّاكَ أي جعلك و عدلك رَجُلًا فإن التراب ينقلب نباتا، ثم لحما في الحيوان، أو فواكه، فإذا أكله الإنسان، انقلب منيّا و نطفة ينشأ منها الإنسان، و بعد ذلك يشتد و يستوي حتى يكون رجلا، و إنّما كفّره، لأنه أنكر المعاد و شك فيه، حيث قال «وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي».

[39] لكِنَّا أصله «لكن» «أنا» حذفت الهمزة تخفيفا، و أدغمت النون في النون هُوَ اللَّهُ رَبِّي فإني أعتز بتوحيده، و اتباع سبيله، إن اعتززت أنت

بجنتك وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لا أجعل أحدا شريكا معه في الألوهية و العبادة، و لعله إنّما ذكر تلك تعريضا بالكافر الذي أشرك

______________________________

(1) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 388

[سورة الكهف (18): الآيات 39 الى 40]

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40)

حيث رأى بعض الحول و القوة من غيره سبحانه، إذ زعم أن جنته دائمة، لا مدخلية للتقدير فيها.

[40] ثم ندّد المؤمن بصاحبه الكافر و كفرانه للنعمة، قائلا وَ لَوْ لا هي كلمة ردع و تقريع، أي هلّا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ بأن تكل الأمر إلى مشيئته، و ترى أن الجنة، إنّما هي صارت بإرادته و تقديره لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فالإنسان مهما كان قويا، و مدبّرا في أموره، فإن ذلك كله من الله سبحانه، إذن فالجنة منه سبحانه، و إن توسط هناك تدبيرك و تقديرك للأمور و قوتك البدنية و الفكرية إِنْ تَرَنِ أيها الصاحب الكافر أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً أي إن كنت تراني اليوم، فقيرا لا مال لي، و لا أولاد، كما قلت «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً».

[41] فليس ذلك دليلا على أن الله لم يرد بي خيرا، فلعله ادخر لي ذلك في الآخرة، أو يعطيني في المستقبل أكثر منك، كما تقتضي مصلحته، و تفضي إرادته فَعَسى أي لعل رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ جنانا و أموالا وَ يُرْسِلَ ربي عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً أي

عذابا و إنما سمي العذاب به، لأنه بالحساب و المقابلة لما عمل الإنسان من باب علاقة السبب و المسبب، فإن الحساب للأعمال السيئة سبب للعذاب مِنَ السَّماءِ و المراد به الصاعقة، أو الأمطار الغزيرة السائلة أو البرد القارس المفني فَتُصْبِحَ جنتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 389

[سورة الكهف (18): الآيات 41 الى 42]

أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)

صَعِيداً أي أرضا مستوية، قد بادت أشجارها، و انطمست أنهارها زَلَقاً يزلق عليها القدم، و هذا مقابل قول الكافر «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً».

[42] أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها الجاري في أنهارها غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأعماق فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء طَلَباً فتموت الأشجار و الزرع، و تذهب طراوة الجنة و النهر، و هنا انتهى الكلام بين الطرفين، و لم يفد الكافر الإنذار و الإرشاد، فلننظر ماذا حدث بعد ذلك؟.

[43] وَ أُحِيطَ العذاب بِثَمَرِهِ فقد أرسل الله سبحانه نارا فاحترقت الأشجار، و غارت الأنهار، و معنى أحيط، أن العذاب أخذه من كل جانب، كالمحيط بالشي ء الذي يحيط من جوانبه الستة فَأَصْبَحَ الرجل الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ تحسرا و حزنا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي في البستان، من الأموال و الأتعاب، و معنى تقليب الكف، جعل ظهرها مكان بطنها، و هو ما يفعله السائل، و المتندم، المحزون، و كأنه إشارة إلى عدم الحيلة و المهرب، كأن الأمر ظاهر لا يمكن الفرار منه- كبطن الكف- لا ملجأ و التواء، حتى يخفي الإنسان نفسه هناك ليخلص من التبعة وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها،

أي أن الجنة ساقطة على عروشها، أي عروش الكروم، فالعروش ساقطة، و الأشجار و النخيل، فوق العروش ساقطة، و ذلك لأن السقف ينهدم أولا، ثم ينهدم الحائط عليه وَ يَقُولُ الكافر إذ رأى ذلك يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً فلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 390

[سورة الكهف (18): الآيات 43 الى 44]

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

أكن أجعل من قوتي و مالي شريكا لله سبحانه فأظن أن القوة هي التي أشركت مع الله في إيجاد هذا البستان، حتى أراني أنه الله سبحانه هو الوحيد في التأثير، و أن القوة لا أثر لها إطلاقا، كما قال صاحبي المؤمن «قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله».

[44] و قد زعم الكافر أنه «أعز نفرا» فأين أنفاره في إنقاذه من هذا العذاب؟

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ أي للكافر فِئَةٌ أي جماعة، و تسمى عشيرة الإنسان فئة، لأنه يفي ء إليهم، و يرجع في أموره إلى رأيهم يَنْصُرُونَهُ حتى يحولوا بينه و بين العذاب الذي أحيط بثمره مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير الله سبحانه، فالله سبحانه هو الناصر الوحيد، و من ليس مع الله لا ناصر له، و إنما ينتصر بعض الكفار، حيث أنه سبحانه يخلي بينه و بين النصرة المؤقتة وَ ما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا بالنصرة عن العذاب، فلا هو قدر على دفع العذاب، و لا كان له فئة يتمكنون من ذلك.

[45] هُنالِكَ أي في مثل ذلك المقام و الحال، حال إتيان العذاب، لا يفيد الفئة و الامتناع، و إنما الْوَلايَةُ و التوالي للأمور، و التصرف في

الشؤون لِلَّهِ الْحَقِ فهو حق، و ما عداه باطل، و إنما قال «هنالك» لأن الولاية في الظروف العادية، التي أرسل الله الزمام فيها، و لا يريد إنفاذ أمر للناس بعضهم لبعض، أما إذا شاء شيئا، فلو اجتمع أهل السماوات و الأرض لا يقدرون على خلافه هُوَ خَيْرٌ ثَواباً من أموال الدنيا، ألم يقل الكافر للمؤمن «لأجدن خيرا»؟ و «أنا أكثر منك مالا و أعز

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 391

[سورة الكهف (18): آية 45]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45)

نفرا»؟ كلا! إن ثواب الله خير، و هو معدّ للمؤمن وَ خَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة، فطاعته و الإيمان به، توجب خير العقبى، لا الكفر و الكفران.

[46] لما أتم سبحانه هذا المثل، جاء بمثل ثان منتزع عن المثل الأول، فإذا بالحياة الدنيا كلها كتلك الجنة، فإنها أمور مؤقتة لا بقاء لها و لا دوام، فلا يطمئن الإنسان إليها، و إنما يرجو ثواب الله، و يعمل للآخرة الباقية وَ اضْرِبْ لَهُمْ يا رسول الله مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كلها من أولها إلى آخرها، فإنما مثلها كمثل ماء يعني المطر أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ من جهة العلو فَاخْتَلَطَ بِهِ أي بذلك الماء نَباتُ الْأَرْضِ إما المراد سقط على النبات، و كان الاختلاط بهذا القدر مبالغة في بيان العادوية للحياة إلى هذا الحد، فإن الماء الساقط على النبات سرعان ما يزول، و إما المراد بيان السرعة في مجي ء الحياة و ذهابها، كما أن الماء يسرع في تسبيبه لإنبات النبات، حتى كأنه اختلاط لا إنبات بوقته الطويل فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي كسيرا مفتتا حين اليبس،

و كان لحظة لم تمر، و إذا بالحياة تذهب و تذبل، و إذا بالحي يتهشم و يتحطم و يتكسر تَذْرُوهُ الرِّياحُ فتنقله من موضع إلى موضع، و تفرقه، حتى يكون مبدّدا، كأن لم يكن وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً لا يمتنع عليه شي ء، فهو المنشئ المفني، و لا يخرج شي ء عن طوق قدرته، فلا يظن أحد بما أوتي من طول و قوة، أنه قادر على أن يخرج من سلطان الله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 392

[سورة الكهف (18): الآيات 46 الى 47]

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46) وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47)

[47] و إذا رأينا الحياة الدنيا و عرفنا قدرها و مدتها و قيمتها، فليعرف الإنسان ما هو مربوط بهذه الحياة، و ما هو مربوط بتلك الحياة، حتى يعرف ما ينبغي أن يهتم به مما ينبغي أن لا يهتم به الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا فهما مما يتزين الإنسان بهما في هذه الحياة وَ الأعمال الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و هي الحسنات التي أريد بها وجه الله سبحانه، فإنها هي التي تبقى و تصلح للإسعاد، و كان الإتيان ب «الباقيات»، لأن المقام مقام ما يفنى و ما يبقى خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً إن ما يرجع على الإنسان من تلك الباقيات- و هو الثواب، لأنه من تاب إذا رجع- خير مما يرجع إلى الإنسان من المال و البنون، فإن ما يرجع من المال و البنون، إنما هو خاص بهذه الحياة، أما ما يرجع منها، فإنه عند ربك، ولديه، و ما عند الله خير و

أبقى وَ خَيْرٌ أَمَلًا فإن أمل الإنسان في الباقي، خير من أمل الإنسان في الفاني، و لا يخفى أن المال و البنين إذا أريد بهما وجه الله سبحانه، دخلا في الباقيات الصالحات، و كانا مصداقا للزينة، و البقاء معا، كما قال سبحانه «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» «1» و كما أن ما في بعض الروايات، من مصاديق الباقيات الصالحات.

[48] وَ إذ ذكر الباقيات الصالحات، فلنعرف وقت ذلك، فاذكر يا رسول الله يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نجعلها تسير، فإن من أهوال القيامة، أن الجبال تنقلع و تأخذ في السير، و تكون كالهباء المنثور وَ تَرَى الْأَرْضَ كلها

______________________________

(1) البقرة: 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 393

[سورة الكهف (18): آية 48]

وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)

بارِزَةً ظاهرة لا يكنها جبل، أو بناء، أو شجر، فلا ترى فيها عوجا، و لا أمتا وَ حَشَرْناهُمْ أي جمعنا البشر كلهم، بأن نحييهم و نجمعهم في موقف واحد فَلَمْ نُغادِرْ أي لم نترك مِنْهُمْ أَحَداً و المغادرة الترك، و منه الغدر لأنه ترك الوفاء، و الغدير لأنه يترك فيه الماء.

[49] وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ أي أن البشر جميعهم يعرضون على الله سبحانه يوم القيامة، و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، إذ الإنسان دائما عند الله سبحانه، و في علمه و تحت سمعه و بصره، لكن هناك يتمثل الإنسان كالذي يعرض أمام الحاكم ليحكم عليه صَفًّا أي في حال كونهم مصطفين صفا، صف الأخيار و صف الفجار، و هكذا كل جنس مع جنسه، و كل مذهب مع رئيسه، كما قال سبحانه (يَوْمَ

نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) «1» و يقال لهم من قبله سبحانه لَقَدْ جِئْتُمُونا أيها البشر كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عراة حفاة عزلا ضعفاء عاجزين منفردين ليس معكم شي ء من أموال الدنيا و مناصبها، و سائر زهرتها، و لم تكونوا تزعمون ذلك بَلْ زَعَمْتُمْ و ظننتم في دار الدنيا أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً في القيامة للحساب و الجزاء، و هذا إنما يقال بالنسبة إلى الكفار، فإن الكلام حولهم الآن- عند تبليغ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم الأحكام-.

______________________________

(1) الإسراء: 72.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 394

[سورة الكهف (18): آية 49]

وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

[50] وَ هنالك وُضِعَ الْكِتابُ أي يوضع كتاب أعمالهم، فإن المستقبل المحقق الوقوع، ينزل منزلة الماضي، و الكتاب اسم جنس، أي جنس الكتاب المكتوب فيه أعمال العباد، و وضعه إنما هو للمحاسبة و إعلام كل أحد بما عمل و ما يجزى فَتَرَى يا رسول الله، أو كل من يأتي منه الرؤية الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا، و اقترفوا الكفر و العصيان مُشْفِقِينَ أي خائفين، من الإشفاق بمعنى الخوف، و يقال للصديق «مشفق» لأنه يخاف على صديقه من العطب مِمَّا فِيهِ أي مما في الكتاب من بيان أعمالهم السيئة وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا احضر فهذا وقتك، و هذه لفظة قد يدخلها الثأر، يقولها الإنسان، إذا وقع في شدة، و كان الأصل فيها، أن يدعو الإنسان على نفسه بالهلاك، ليستريح من هذه الشدة ما لِهذَا الْكِتابِ أي أيّ

شي ء لكتاب عملنا لا يُغادِرُ أي لا يدع و لا يترك سيئة صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها و عدّها و أدرجها، و أصل «ما لهذا» استفهام عن النفع العائد إلى الشخص العامل عملا، تقول «ما لزيد يتكلم بهذا»؟ إي أيّ نفع له، ثم استعمل في كل استفهام استنكاري، تقول ما لهذا الحائط مائل؟ و ما لهذا الحيوان مريض؟ و هكذا وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أمامهم، لا مهرب لهم عنها، مقابل الإنسان الذي يعمل عملا، ثم ينساه، و ينسى المجتمع له، فكأنه غائب وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً و إنما يعطيهم جزاء أعمالهم، فلا يثبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 395

[سورة الكهف (18): آية 50]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)

لهم سيئة لم يقترفوها، و لا يزيد في جزاء سيئة اقترفوها، و إن كان الأنسب بالسياق الأول، و بالعموم اللفظي الثاني، بل هو أعم، فيشمل حتى المؤمنين، فإنه سبحانه لا يظلمهم بعدم جزاء حسناتهم، أو التنقيص من أجورهم.

[51] إن المجرمين الذين لهم ذلك المصير المخزي، ليعلموا أنهم يتركون عبادة الله، إلى عبادة شيطان فاسق هو لهم عدو، فليرأبوا بأنفسهم عن إطاعة مثله وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ في بدء خلقة البشر فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و هو الشيطان كانَ مِنَ الْجِنِ الساكنين في الأرض، ثم ارتفع مقامه بالعبادة حتى صار في زمرة الملائكة، و شمله أمر السجود فَفَسَقَ أي خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إذ لم يسجد لآدم كبرا و حسدا، و الفسق، بمعنى الخروج، و

يسمى الفاسق فاسقا، لأنه خارج عن طاعة الله، و إذ عرفتم أيها المجرمون أصل الشيطان، و مصيره الذي آل إليه أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ تتبعونهم و تطيعونهم، و قد ورد أن للشيطان نسلا، و لكن بدون ازدواج مِنْ دُونِي أي من دون الله سبحانه وَ الحال أن هُمْ أي الشيطان و ذريته لَكُمْ أيها المجرمون عَدُوٌّ و هذا استفهام استنكاري، فكيف يترك الإنسان من يحبه ليتولى من يعاديه؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي إن الشيطان بئس البدل الذي اختاروه على الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 396

[سورة الكهف (18): الآيات 51 الى 52]

ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52)

[52] و كيف تتولون الشيطان و ذريته، مع إن الله هو الخالق و العالم، و أنه هو المتفرد الوحيد في الكون، فليس الأبالسة لهم حضور وقت خلق السماوات و الأرض، حتى يكون لهم علم و معرفة بالأمور، و لا أنهم أعضاء الله في الخلق و تسيير الكون حتى يكون لهم قوة و دخالة في الشؤون، و الإنسان لا يتملق إلا للعالم القوي المشارك؟ ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرت إبليس و ذريته، و ما اتخذتهم شهودا على خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ حتى يعرفوا الأسرار و الكون، و يكون لهم هذا الشرف، حتى يقول أحد من حضر خلق الكون، لا بد و أن يكون له منزلة، و مقام يستحق به التولي و الإطاعة وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ فلا كان بعضهم حاضرا و شاهدا عند خلقي لبعضهم الآخرين، أو المراد أن أرواحهم لم

تحضر خلق أجسادهم، فإن الأرواح- في البشر- كانت مخلوقة قبل خلق الأجساد وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ أي الشياطين الذين يضلون البشر و يغوونهم عَضُداً أي عونا في تسيير الكون، و الإتيان ب «المضلين» عوض الضمير، ك «هم» كبيان علة لعدم الاتخاذ، و تقريع لمن يتخذهم أولياء، فالله العالم الحكيم لم يتخذ الشيطان عونا، فكيف يتخذه الإنسان وليا؟ ثم أنه سبحانه لا يتخذ أي أحد عضدا، و إنما جي ء هنا بهذا مجاراة في الكلام.

[53] قد علمنا مبدأ الشيطان، و علمنا أنه لم يشهد شيئا، و لا أشرك في شي ء، فلنرى مصيره و مصير المجرمين الذين اتخذوه وليا من دون الله، و أطاعوه وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يَقُولُ الله سبحانه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 397

[سورة الكهف (18): آية 53]

وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)

و هو يوم القيامة، فإنه سبحانه يخاطب المشركين قائلا نادُوا أيها المجرمون شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركاء معي في الألوهية، كذبا و افتراء، نادوهم ليدفعوا عنكم العذاب و ينصرونكم في هذا الموقع العصيب فَدَعَوْهُمْ أي دعا المشركون الشركاء، و استنجدوا بهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ مجرد إجابة، فكيف بالانتصار و التخليص وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين المشركين و بين آلهتهم مَوْبِقاً أي محل هلاك، و هو اسم مكان من وبق بمعنى هلك، و لعل المراد أن العلاقة الكائنة بين الكفار و آلهتهم، إنما هي علاقة هلاك و خزي، مقابل علاقة المؤمنين بالله سبحانه، فإنها علاقة نجاة و فوز.

[54] وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ التي أوقدت لهم فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و إنما جي ء بالظن إشعارا لحالة المجرم، فإنه يحتمل أن ينجو بشفاعة أو نحوها، و هكذا

نفسية كل إنسان يرى العقاب المحقق، فإن نفسه تبقى في حال تردد و إن كان أغلب ظنه الهلاك، و حلول العقاب به، و المواقعة هي ملابسة الشي ء بشدة، و منه وقائع الحرب، و كأنه جي ء من باب المفاعلة، للدلالة على أن الشيئين وقع كل واحد منهما على الآخر بشدة، حتى أن الواقع دخل في ذلك، و ذلك دخل في الواقع، فالمجرمون يقعون في النار، و النار تدخل أجوافهم وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها أي عن النار مَصْرِفاً أي موضعا ينصرفون إليه منها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 398

[سورة الكهف (18): الآيات 54 الى 55]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)

[55] لقد كان لهم مصرف عن النار، لو أنهم صرفوا قلوبهم إلى ما جاء في القرآن من المثل، فاهتدوا بهداه، و انتهجوا منهاجه، لكنهم لم يؤمنوا، فصار أمرهم إلى الخسار و النار وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينتفعون به، لو أنهم وعوا و أرادوا الرشد، و معنى التصريف، ترديد الأمثال في قوالب شتى و ألبسة مختلفة، فصرفنا الأمثال، ليجدوا في الآخرة المصرف عن النار وَ لكن لم ينتفعوا فقد كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ أنه شي ء خلقه الله، كما خلق سائر الأشياء، لكن تلك الأشياء تخضع لأوامره طائعة، أو سائلة- كما رأينا في الملائكة عند خلق آدم- أما الإنسان فإنه أكثر شي ء جَدَلًا فإنه يجادل في الحق، و إن رآه، و أخيرا يغلب هواه على الحق،- إلا من عصمه سبحانه-.

[56] وَ

ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى استفهام إنكاري، أي أيّ شي ء يمنع الإنسان عن الإيمان بعد أن رأى الهداية، و دل على الطريق وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لما فات منهم من الذنوب و الآثام إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي عادتنا الجارية في الأمم السابقة، الذين كانوا يكذبون الرسل حتى تأتيهم العقوبة الصارمة فتهلكهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي مقابلا لهم، و مواجها إياهم، من غير أن يأخذهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 399

[سورة الكهف (18): الآيات 56 الى 57]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)

فيؤمنوا خوفا و جبرا، و المعنى أنهم بامتناعهم عن الإيمان- بعد مجي ء الهدى- بمنزلة من يطلب الهلاك، أو يطلب أن يرى العذاب، فيؤمن خوفا من حلوله به، إن لم يؤمن، و هذا كقولك لابنك: إنك لا تقبل قولي، إلا أن تضرب، أو ترى العصا مرفوعة لضربك.

[57] و هل الإتيان بالعذاب لإهلاكهم، أو لجبرهم على الإيمان، من شأن المرسلين؟ كلا إن شأنهم هو البلاغ، أما العذاب، فإنه بيد الله، لا يرسله إلا لمصلحة و حكمة وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أطاع بالثواب وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر أو عصى بالعقاب وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ فيناظرون مع الرسول و المؤمنين، بما هو باطل، و غير حقيقة لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا بِهِ الْحَقَ و يبطلوه انتصارا لدينهم،

و طريقتهم المنحرفة وَ اتَّخَذُوا أي الكفار آياتِي يعني القرآن وَ ما أُنْذِرُوا به البعث و النار هُزُواً أي مهزوّا به، فإنهم يسخرون من هذه الآيات و الإنذارات، و سيصلون إلى جزاء أعمالهم.

[58] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ليس أحد أكثر ظلما من مثل هذا الشخص، الذي يذكّر بآيات الله، بأن يذكره النبي بالأدلة على وجود الله و علمه و قدرته فَأَعْرَضَ عَنْها و لم ينتفع بها، و «من أظلم» إضافي لا حقيقي، ككثير من أمثاله المستعملة في القرآن الحكيم، فإن البلاغة تقتضي ملاحظة الظروف المحيطة و الملابسات، في النفي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 449

و الإثبات و الحصر و ما أشبه، فإذا سأل أحد الطلاب، هل في المدينة أحد؟ أراد من الطلاب، و إذا سأل التاجر من زميله، هل هناك شي ء؟

أراد التجارة، و إذا قال الإنسان لا دولة أقوى من الدولة الفلانية، أراد من الدول المعاصرة، و هكذا إذا قال أحد لا أشقى من هذا الرجل «في قصة قتل وقعت، مثلا» أراد في هذه القصة، و هكذا مثله كثير في القرآن مثل (وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) «1» (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) «2» (وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) «3» إلى غير ذلك وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي نسي المعاصي التي صدرت منه، و كأنه قدمها لآخرته، و إنما نسبت إلى اليد، لأن اليد هي العضو العامل في البدن كثيرا، و إلا فالمعاصي تصدر من جميع الأعضاء، فذلك بعلاقة الجزء و الكل، كاستعمال الرقبة، و إرادة الإنسان، و التذكير باعتبار أن في فطرة الإنسان دلالات على

الصانع، فالأنبياء يذكرون الإنسان، كما أن النسيان يراد به عدم المبالاة و إن كان ذاكرا لها، و الإنسان إذا استمرأ المعاصي، تكون ملكة له، حتى إن قلبه لا يستعد لقبول الحق، كأنه في غشاء، و حتى إن أذنه لا تستعد لاستماع الحق، كأن فيها وقرا، و هذا ينسب إليه سبحانه، لأنه خلق الإنسان هكذا، بحيث أنه إذا تمادى في شي ء صار ملكة له، و لأنه تعالى يترك الإنسان، حتى يتردى، فلا يجبره على الإطاعة و الإيمان، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قلوب هؤلاء الكفار أَكِنَّةً و هي جمع كنان بمعنى

______________________________

(1) البقرة: 48.

(2) البقرة: 115.

(3) آل عمران: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 401

[سورة الكهف (18): آية 58]

وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)

الغشاء أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا القرآن، بعد ما أعرضوا عن الحق وَ فِي آذانِهِمْ جعلنا وَقْراً أي ثقلا، تشبيه بالذي في أذنه صمم، حيث لا يسمع أصلا وَ إِنْ تَدْعُهُمْ يا رسول الله إِلَى الْهُدى لأن يهتدوا و يسلكوا السبيل الصحيح فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أي حين تمادوا في الغي حتى جعل على قلوبهم أكنة، و في آذانهم وقرا أَبَداً و عدم اهتدائهم ليس بالجبر، و إنما بالاختيار، أي إنهم ما داموا كذلك لا يهتدون.

[59] وَ رَبُّكَ يا رسول الله الْغَفُورُ الذي يستر على عباده كثيرا، و إن استحقوا الفضيحة ذُو الرَّحْمَةِ يرحمهم و يتفضل عليهم، و إن أثموا و حادوا، و لذا لا يعجّل لهؤلاء بالعذاب، و إن علم أنهم لن يهتدوا أبدا لَوْ يُؤاخِذُهُمْ الله بِما كَسَبُوا من الكفر و الآثام، أي لو أراد أخذهم-

فإن الفعل يستعمل بمعنى الإرادة- لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا، و أهلكهم كما أهلك القرون السابقة، لما انقطع عنهم الرجاء بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لأخذهم، و الانتقام منهم لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ أي دون ذلك الموعد مَوْئِلًا أي محل التجاء و فرار، فهو الموعد الذي لا بد أن يصلوا إليه، و لا يكون دونه محل آخر يفرون من الموعد إلى ذلك المحل، و هذا من باب التشبيه، و مجمل المعنى، أن الله من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 402

[سورة الكهف (18): الآيات 59 الى 60]

وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)

رحمته و فضله، لا يأخذ هؤلاء فورا، بل أنه تفضل عليهم بامتداد أجلهم إلى موعده، و ذلك منتهى الرجاء العادي في إيمانهم، أما إذا لم يؤمنوا و جاء الموعد، فلا مناص، و لا خلاص.

[60] و لا يغرنّ هؤلاء طول بقائهم في الدنيا ألا يعتبرون بالقرى التي أهلكناها حين ظلموا و عتوا؟ وَ تِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد و ثمود، و قوم لوط و نوح، و غيرها أَهْلَكْناهُمْ أي أهل القرية لَمَّا ظَلَمُوا بتكذيب الأنبياء، و العصيان عن أوامر السماء وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي هلاكهم، فالمهلك مصدر ميمي مَوْعِداً خاصا، فلم نأخذهم حتى وصلوا إلى ذلك الموعد، و حينذاك حل بهم العقاب.

[61] و إذ أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس بقصة أصحاب الكهف، سألوه عن قصة العالم الذي أمر الله موسى أن يتبعه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، و هذه القصة تشترك مع القصة السابقة، في اشتمالها على بعض آيات الله سبحانه «كإحياء

السمكة» كما أنها تشترك مع تلك في سير موسى كأصحاب الكهف، سيرا إلى الله سبحانه و لمرضاته وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ مُوسى بن عمران نبي بني إسرائيل، صاحب الدعوة المشهورة التي اعتنقتها اليهود لِفَتاهُ أي شابه الذي كان يلازمه و يخدمه، و هو يوشع بن نون، و قد كان وصيا لموسى، إن الله قد أمرني أن أتبع رجلا عند ملتقى البحرين، و أتعلم منه فتزود يوشع حوتا مملوحا و خرجا لا أَبْرَحُ أي لا أزال أسير إلى المقصد الذي أمرني الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 403

[سورة الكهف (18): الآيات 61 الى 62]

فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)

حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فيه أقوال و قد رجح بعض أهل الاطلاع، أنه محل التقاء البحر الأحمر و البحر الأبيض، أو مجمع خليجي العقبة و السويس في البحر الأحمر، و قد كان الموعد هناك أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي زمانا طويلا، و هذا كما يقول القائل أسير وراء مطلبي إلى النجف، أو إلى ما شاء الله، فيما كان أكثر الاحتمال وجود المطلب في النجف، و الحقب الدهر، أو ثمانين سنة، و المراد: السير حتى الوصول إلى المطلب.

[62] فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي محل اجتماع البحرين نَسِيا حُوتَهُما فقد ورد أنهما هناك رأيا إنسانا، و ذهب يوشع لغسل السمكة، فحييت بإذن الله سبحانه، و فلتت من يد يوشع في البحر و نسي يوشع القصة، كما نسي موسى عليه السّلام أن يسأله، ثم أخذا يسيران فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ أي السبيل الذي اختاره سَرَباً أي مسلكا يذهب

فيه.

[63] فَلَمَّا جاوَزا أي موسى عليه السّلام و يوشع، ذلك المكان، و أخذا يسيران، أحس موسى عليه السّلام بالجوع قالَ موسى لِفَتاهُ يوشع آتِنا أي جئ إلينا غَداءَنا أي طعامنا للغداء لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا و شدة، فلنأكل الحوت لنتقوى، و يذهب التعب عنا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 404

[سورة الكهف (18): الآيات 63 الى 64]

قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64)

[64] قالَ يوشع في جواب موسى أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا أي هل تذكر زمان نزلنا إِلَى الصَّخْرَةِ التي كانت هناك عند مجمع البحرين، أو المراد أ رأيت ما دهاني، على نحو الاستفهام الاعتذاري فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ الذي كان معنا، و لعله عليه السّلام كان نسي الحوت عند غسله، أو المراد أنه نسيه بعد ما وضعه على الصخرة، كما في بعض التفاسير، ثم اعتذر من موسى عليه السّلام أنه لم يخبره بقصة الحوت قائلا وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بضم الهاء في «أنسانيه» لأنه يجوز فيه أربعة أوجه «بالضم» و «الكسر» و في كل واحد منهما بالإشباع، و بدونه، هذا حسب الأصل، لكن في القرآن بالضم أَنْ أَذْكُرَهُ في موضع نصب بدل من الهاء في أنسانيه، أي ما أنساني أن أذكره إلا الشيطان، و ذلك لأنه لو ذكر لموسى عليه السّلام قصة الحوت عند الصخرة، لما جاوزها موسى وَ اتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً فإنه قد حيي و فلت من يدي، و عجبا منصوب مصدرا نوعيا، أي اتخاذا عجبا، أو سبيلا عجبا، فقد

ذكر بعض المفسرين أن الماء انجاب عن الحوت، و بقي كالكوّة في البحر «1».

[65] و لما سمع موسى عليه السّلام بقصة الحوت قالَ ذلِكَ الذي تقوله، من أن الحوت قد حيي ما كُنَّا نَبْغِ أي نبغي و نطلب، و حذف «يا» يبغ، تخفيفا، فقد كانت حياة الحوت آية ذلك الرجل الذي أطلبه، و لعل الله

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 6 ص 364.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 405

[سورة الكهف (18): الآيات 65 الى 66]

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66)

سبحانه كان أخبر موسى عليه السّلام، بأن آية ذلك الرجل ظهور خارقة منه، لا كما قيل أن الآية كانت إحياء السمكة الميتة، حتى يقال: كيف يجوز- على هذا- أن يقصد موسى أكل السمكة، حين قال لفتاه آتنا غداءنا؟ فَارْتَدَّا أي رجع موسى عليه السّلام و فتاه عَلى آثارِهِما أي الآثار التي تعديا منها يريدان نفس الطريق الذي سارا فيه قَصَصاً من قصّ، بمعنى اتبع الأثر، فهو مفعول مطلق لقوله «ارتدا» أي ارتدا ارتدادا و رجعا رجوعا.

[66] و لما وصلا إلى محل الحوت فَوَجَدا موسى و فتاه عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو خضر عليه السّلام، و قد ورد أنه كان نبيا مرسلا، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، و الإقرار بأنبيائه و رسله و كتبه، و كانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة، و لا أرض بيضاء، إلا اهتزت خضراء، و إنما سمى خضرا لذلك، و كان اسمه «بليابن» آتَيْناهُ أي أعطيناه رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي فضلا من طرفنا، و كل رحمة من عنده سبحانه، و

إنما الإتيان هنا بذلك للإشارة إلى فضله سبحانه عليه، و قد كان من فضله سبحانه عليه النبوة، و طول العمر، و غيرهما وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً فكان علمه غير محتاج إلى التحصيل.

[67] قالَ لَهُ مُوسى بعد التعارف و التسليم هَلْ أَتَّبِعُكَ يا خضر- و من هنا يسدل الستار على أمر فتى موسى عليه السّلام و كأنه رجع من هناك، فلم يكن معهما بعد التلاقي- عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي هل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 406

[سورة الكهف (18): الآيات 67 الى 69]

قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)

تجوّز لي، أن أكون معك، لتعلمني من بعض علومك التي علمك الله إياها، أي علما ذا رشد، و هو علم الغيب، و يظهر من الحوار و النتائج في تصرفات الخضر، أن موسى أراد أن يرى كيفية علم الغيب، لا أن يتعلم هو ذلك، فالمراد من أن تعلمني أن تريني بعض علم الغيب، كيف تعمل بما تظهر نتائجه بعدا و مستقبلا؟.

[68] قالَ خضر لموسى عليه السّلام إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي يثقل عليك الصبر، بحيث لا تطيقه، و لقد كان موسى عليه السّلام مأمورا بالظاهر، فلا يعمل عملا، إلا إذا أتمت موازينه و مقاييسه الشرعية، أما خضر عليه السّلام، فقد كان يعلم بالغيب و يعمل بحسبه، و لا مانع من أن يرسل الله نبيا بهذا، و نبيا بذلك، و قد استدل بعض بذلك، على أن للشريعة ظاهرا و باطنا، لكن فيه أنه لم يدل دليل على مثل ذلك في شريعة الإسلام.

[69] ثم

قال خضر لموسى عليه السّلام وَ كَيْفَ تَصْبِرُ يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً بما ترى ظاهره منكرا، و لا تعلم باطنه؟

[70] قالَ موسى عليه السّلام سَتَجِدُنِي يا خضر إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً لما أراه منك مما لا أعلم وجهه وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فلا أخالفك فيما تأمرني به من الصبر، حتى ينكشف وجه الحكمة، لكن الله سبحانه لم يشأ ذلك، إذ لم يقوّ في موسى عزيمة الصبر، و لذا سأل، و لم يصبر، و لم يكن ذلك خلفا لوعده، حتى يقال كيف خلف النبي الوعد؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 407

[سورة الكهف (18): الآيات 70 الى 73]

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)

[71] قالَ خضر عليه السّلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي و كنت معي تشاهد بعض الأشياء، التي لا تستقيم مع ظواهر الشريعة فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ تراه حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فإني أنا أفسره لك فيما بعد، و على هذا القرار تبع موسى خضرا عليه السّلام.

[72] فَانْطَلَقا معا يمشيان على شاطئ البحر حَتَّى وصلا إلى سفينة و إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها خضر، بأن قطع بعض ألواحها، حتى دخلها الماء قالَ موسى مستنكرا هذا العمل أَ خَرَقْتَها يا خضر لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ فما هذا العمل العجيب منك؟!- لَقَدْ جِئْتَ يا خضر شَيْئاً إِمْراً أي منكرا عظيما، فإن إمر في اللغة، بمعنى الداهية العظيمة، و هو مشتق من

الأمر، لأنه الفاسد الذي يحتاج أن يؤمر بتركه.

[73] قالَ خضر أَ لَمْ أَقُلْ لك إِنَّكَ يا موسى لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً فقد شرطت على اتباعك لي أن تصبر، فكيف اعترضت عليّ هذا الاعتراض، و لم تصبر حتى أحدثك بالنتيجة؟

[74] قالَ موسى عليه السّلام بعد أن تذكر الشرط لا تُؤاخِذْنِي يا خضر بِما نَسِيتُ من الشرط حين سألتك و اعترضت عليك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 408

[سورة الكهف (18): آية 74]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)

وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي لا تكلفني مشقة، بل عاملني باليسر، يقال أرهقه عسرا إذا كلفه أمرا يثقل عليه، و قد قال جماعة إن النسيان هنا، و في قوله «نسيا حوتهما» و قوله في قصة آدم «فنسي» و ما أشبه يراد به الترك، لا النسيان الذي هو ضد الذكر، و إنما يطلق على الترك النسيان، لأنه من أسبابه، و شبيه به في النتيجة، كما قال سبحانه (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «1» مع أن الله سبحانه لا ينسى، و قوله (نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) «2» و إنما قالوا ذلك، لما دل على أن الأنبياء عليهم السّلام معصومين من السهو و النسيان و الخطأ، و ما أشبه.

[75] و قبل خضر من موسى عذره و أو صلتهما السفينة إلى المحل المقصود و نزلا منها فَانْطَلَقا يمشيان حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً أي ولدا و قد كان غلاما يلعب مع الصبيان- كما في بعض التفاسير «3»- فَقَتَلَهُ أخذ خضر سكينا، و قتل الغلام بلا سوء، و لا جهة ظاهرة قالَ موسى عليه السّلام مستوحشا من هذا العمل العجيب، بلا مبرر

ظاهر أَ قَتَلْتَ يا خضر نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير إن كان قتل نفسا، حتى يستحق القصاص؟ فما هذا العمل منك يا خضر لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا فظيعا.

______________________________

(1) التوبة: 67.

(2) الجائية: 35.

(3) مجمع البيان: ج 6 ص 369.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 409

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّادس عشر من آية (76) سورة الكهف إلى آية (136) سورة طه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 410

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 411

[سورة الكهف (18): الآيات 75 الى 77]

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)

[76] قالَ خضر لموسى عليه السّلام أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لما تبعتني مشترطا بأنك لا تعارضني في أعمالي، حتى أبين لك وجهها فيما بعد؟

[77] قالَ موسى عليه السّلام معتذرا إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المدة فَلا تُصاحِبْنِي لا تتركني أصحبك قَدْ بَلَغْتَ يا خضر مِنْ لَدُنِّي عُذْراً، قد أعذرت فيما بيني و بينك و «عذرا» مفعول بلغت، أي قد بلغت إلى حال يعذرك الناس بالنسبة إلي لو نحيتني عن نفسك، فلقد خولف الشرط- حينذاك- ثلاث مرات.

[78] فَانْطَلَقا يمشيان حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ و هي قرية ناصرة، التي سميت النصارى

بهذا الاسم لانتسابهم إلى هذا المحل اسْتَطْعَما أَهْلَها أي سألاهم الطعام فَأَبَوْا، أهل القرية أَنْ يُضَيِّفُوهُما، أن يقبلوهما ضيفين، يقال ضيف زيد عمروا، أي قبله ضيفا عنده فَوَجَدا خضر و موسى فِيها، في تلك القرية جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ وصف الجدار بالإرادة مجاز، لأنه شبيه بالمريد، في أنه انحنى مائلا للانهدام، و الانقضاض بمعنى السقوط بسرعة فَأَقامَهُ سواه و عدله قالَ موسى كيف تصلح شؤون هؤلاء، و هم قد بخلوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 412

[سورة الكهف (18): الآيات 78 الى 79]

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79)

عليك بالضيافة لَوْ شِئْتَ هذا العمل لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لكي نسد بذلك الأجر جوعنا؟

[79] و لما اعترض موسى عليه السّلام على خضر هذا الاعتراض الثالث قالَ خضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ أي هذا وقت الفراغ، أو هذا الإنكار علي هو المفرق بيننا، لأنك قلت «إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي» سَأُنَبِّئُكَ يا موسى أي أخبرك، و لعل دخول السين لأجل إن بين هذه القضية و بين الإخبار، كان فصل زمان قليل بِتَأْوِيلِ بتفسير، و إنما سمي تأويلا، لأن تلك الأعمال إنما صدرت لأجل ذلك الأول و الأخير، الذي ترجع إليه ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فبادرت بالاعتراض، و السؤال عنها.

[80] أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ ملكا لهم، و المراد بالمساكين هم الفقراء الذين أسكنتهم الحاجة، فلا يقدرون على حركة يقدر عليها الأغنياء يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يتعيشون بهذه السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، أحدث فيها عيبا، يسبب عدم الرغبة فيها

وَ كانَ وَراءَهُمْ أي في عقب هؤلاء المساكين أصحاب السفينة مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً أما إذا كانت السفينة معيبة، فإن الملك لم يكن يأخذها، و يعيرها أهمية، فأردت إبقاء هذه السفينة بيد أصحابها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 413

[سورة الكهف (18): الآيات 80 الى 82]

وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81) وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

المساكين، و إنقاذها من يد الغاصب.

[81] وَ أَمَّا الْغُلامُ الذي قتله فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و كان هو كافرا- كما يظهر من القرينة- فَخَشِينا إن بقي في الحياة أَنْ يُرْهِقَهُما الإرهاق، إدراك الشي ء بما يغشاه و غلام مراهق إذا قرب أن يغشها حال البلوغ، أن يغشي الغلام أبويه، و يتسلط عليهما طُغْياناً وَ كُفْراً فيطغيان و يكفران، ثم إن الخشية كانت علما، فإنها تستعمل مع العلم و الشك، و الظن و الوهم.

[82] فَأَرَدْنا بقتل الغلام أَنْ يُبْدِلَهُما الأبوين رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ من هذا الغلام زَكاةً، طهارة، و إنما قال ذلك مقابل قول موسى عليه السّلام- نفسا زكية- وَ أَقْرَبَ رُحْماً أي أرحم بالأبوين، فإن رحم بمعنى رحمة، و المراد «الخير» عرفا، لا حقيقة، إذ لا خير في الكافر، حتى يرجح المؤمن عليه بصيغة التفضيل، و قد ورد أن الله سبحانه عرض لهما بجارية كانت أم جماعة من الأنبياء [83] وَ أَمَّا الْجِدارُ الذي أقمته، و

لم أتخذ أجرا عليه فإنما أقمته لأنه كان لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ أي في المدينة التي استطعمنا أهلها، فلم يضيفونا وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ورد أنه كان لوحا من ذهب، فيه كلمات من الإيمان فكان كنزا مالا، و كنزا علما وَ كانَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 414

أَبُوهُما صالِحاً قد دفن هذا الكنز للغلامين، و جعل الجدار علامة له- و لعله كان قد أوصى بعض خواصه، أن الغلامين إذا كبرا، فليذهبا إلى محل الجدار ليجدا فيه إرثا لهما مني- و حيث إن الجدار إذا سقط ذهب الأثر، و لم يصل الإرث إلى الغلامين، و أراد سبحانه انتفاعهما به لصلاح أبيهما، أمرني بإقامة الجدار فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى أَنْ يَبْلُغا أي يبلغ الغلامان أَشُدَّهُما يكبرا و يعقلا و يبلغا قوتهما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما لينتفعا به علما و مالا رَحْمَةً و فضلا مِنْ رَبِّكَ عليهما وَ ما فَعَلْتُهُ أي ما فعلت شيئا من الأمور الثلاثة، التي استغربتها عَنْ أَمْرِي و من قبل نفسي، و إنما فعلت ما فعلت بأمر الله و إذنه و إجازته ذلِكَ الذي قلته لك في وجه الأمور الثلاثة تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً و ثقل عليك، حيث لم تكن تعرف وجهه.

و هنا أسئلة هي: أولا، إنه كيف يجوز تخريب شي ء؟ ألا يوجب ذلك الضمان؟ و ثانيا كيف يجوز القصاص قبل الجناية؟ و ثالثا كيف أخلف موسى الوعد حيث شرط أن لا يسأل، و قد سأل؟ و رابعا كيف يكون موسى، و هو أفضل تابعا لخضر، و هل يجوز أمر الأفضل باتباع المفضول؟ و خامسا كيف نسي موسى، و الأنبياء منزهون عن النسيان؟

و الجواب عن الأولين، أن ذلك كان جائزا في

شريعة الخضر، و ما المانع عن ذلك؟ و عن الثالث، أن موسى علق عدم السؤال بالمشيئة، فلم يكن خلف. و عن الرابع، أن الأفضل، يجوز أن يتعلم من غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 415

[سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 85]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)

الأفضل كما أن الرسول كان يتعلم من جبرائيل. و عن الخامس، قالوا أن المراد بالنسيان نتيجة النسيان- كما سبق تقريره- فلا ينافي ذلك القاعدة العامة في عصمة الأنبياء.

[84] و إذ أتم السياق قصة موسى و الخضر عليه السّلام، عطف على السؤال الآخر الذي وجه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول ذي القرنين، فقال سبحانه وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي عن خبره، و قصته، و قد ورد في الأحاديث أنه لم يكن نبيا و لا ملكا، و إنما كان عبدا أحب الله و أحبه الله، و جاء إلى قومه، يدعوهم فضربوا على قرنه- أي طرف رأسه- فذهب عنهم، ثم أتى إليهم مرة أخرى، و دعاهم، فلم يجيبوا له، بل ضربوه على قرنه الآخر، فذهب عنهم، ثم جاء في الثالثة و ملك البلاد، قُلْ يا رسول الله في جوابهم سَأَتْلُوا أي أقرأ عَلَيْكُمْ مِنْهُ من ذي القرنين ذِكْراً خبرا و قصة.

[85] إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ بأن سلطناه عليها، و بسطنا ملكه فيها وَ آتَيْناهُ أعطيناه مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً أي علما يتسبب به إلى ما يريد، و طريقا يتوصل به إلى ما يحب، فقد أعطي أسباب الحكم، و أسباب العمران، و أسباب السلطة.

[86]

فَأَتْبَعَ سَبَباً أي اقتضى أحد تلك الأسباب موجها وجهه نحو المغرب، و سالكا طريقه إلى هنالك، فإن الإنسان بدون السبب- من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 416

[سورة الكهف (18): آية 86]

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86)

مال، و لوازم السفر التي هي أسبابه- لا يتمكن الوصول إلى مقصده.

[87] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ناحية المغرب من المعمورة في ذلك الوقت، فهو كما نقول اليوم «موسكو» مشرق الأرض و «لندن» مغرب الأرض وَجَدَها أي وجد ذو القرنين الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ فالإنسان، إذا كان في طرف مغربه جبل رأى الشمس تغرب خلف الجبل، و إذا كان صحراء رآها تغرب في الصحراء، و إذا كان بحر وجدها تغرب في البحر، و كأن ذو القرنين وصل إلى محل من شاطئ المحيط الأطلسي- و كان يسمى بحر الظلمات- فوجد الشمس تغرب في البحر، فإن البحر يسمى في اللغة «عينا» كما أن «حمئة» بمعنى كدرة، أي في بحر ذي كدرة، في لون مائه، أو المراد أنه رآها قد غربت، في عين كبيرة ذات حمئة، و لا يخفى أن الآية تقول «وجدها» فهي حكاية عما جاء في نظر ذي القرنين، لا عن الواقع وَ وَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين قَوْماً يسكنون هناك قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ كان المراد بالقول إلهام إليه، بالإلقاء في قلبه، إن الأمر بيده، فإن شاء عذبهم، و إن شاء اتخذ فيهم سيرة حسنة، فقد جرت البلاغة، أن يؤتى بلفظ القول، و يراد به التمكين من الشي ء، فيقول الملك: قلت للوزير، اعمل ما شئت

من الخير و الشر، و سترى جزاءك، يريد أنه مكنه ليعمل ما يشاء إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ هؤلاء، كما هي عادة الملوك، إذا دخلوا قرية أفسدوها، و جعلوا أعزة أهلها أذلة وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بأن تسير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 417

[سورة الكهف (18): الآيات 87 الى 89]

قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89)

فيهم بسيرة حسنة، و تعمل معهم العدل، فإن كلا الأمرين بيدك، و أنت قادر على الأمرين.

[88] لكن ذا القرنين بيّن سياسته في هؤلاء، و في سائر المدن التي يفتحها، ليس بيانا عمليا، و إنما أنه قال ذلك قولا بلسانه، لبيان منهجه بصورة عامة قالَ ذو القرنين أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالكفر أو سائر أنواع العصيان فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ حسب ما يستحق من النكال و العقاب ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ بعد هذه الحياة الدنيا، و معنى الرد إلى الله سبحانه، أنه يرد إلى حكمه، و موقع جزائه الذي قرره فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً منكرا غير معهود، من الشدة و الغلظة.

[89] وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ عملا صالِحاً و هذا مقابل من ظلم فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى «الحسنى» خبر «فله» و هي صفة لمحذوف، أي الخلة الحسنة، و جزاء مصدر وقع موقع الحال، أي فله الحسنى في حال كونها جزاء له وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي قولا جميلا، بغير أن نشق عليه، و المراد بالقول المعاملة معه معاملة حسنة، في مقابل من ظلم و الذي سوف نعذبه، و كان الإتيان هناك ب «سوف» و هنا

ب «السين» لإفادة تأخير العقاب هناك لعله يتوب، و تقديم الثواب هنا بفترة يسيرة ريثما يحقق أمره.

[90] ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً فأنهى رحلته الأولى نحو المغرب،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 418

[سورة الكهف (18): الآيات 90 الى 92]

حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

ليبدأ رحلته الثانية نحو المشرق، فسلك طريقا، هو سبب الوصول إلى المشرق.

[91] حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي أول العمارة من الجانب الشرقي من الأرض وَجَدَها وجد الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً فكانوا عراة لا يجدون ما يسترون به أنفسهم من لفح الشمس الحارة، أو المراد أن القوم في أرض مستوية، لا جبال فيها، و لا أشجار تسترهم عن حر الشمس، كبعض صحارى إفريقيا.

[92] كَذلِكَ الذي ذكرنا كانت رحلة ذي القرنين وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين، بما عند ذي القرنين من الآلات و الجيوش و العدة، و النوايا التي في صدره، فقد كان مكشوفا لدينا، كما كان القوم مكشوفين للشمس.

[93] ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً و سلك سبيلا ثالثا في رحلته الثالثة، يتسبب به للوصول إلى مكان آخر، و هناك وصل إلى محل كان فيه أقوام مختلفة، لا تفهم لغتهم، و قد كان هذا المكان بقرب جبلين، بينهما ممر، و كان وراء الجبلين قبيلتان تسميان «يأجوج» و «مأجوج» و كانت القبيلتان تنزلان من هذا الممر على القوم، فتعيثان فيهم الفساد، و هناك عند ما رأى القوم ذا القرنين الملك المظفر القوي، طلبوا منه أن يسد عليهم هذا الممر، ليأمنوا شر يأجوج

و مأجوج ففعل ذو القرنين ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 419

[سورة الكهف (18): الآيات 93 الى 95]

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95)

طلبوا منه، ثم شكر الله على أن وفقه لهذا العمل، و أخبر القوم، أن هذا السد يبقى حتى يوم القيامة، إذ تسوى الأرض، فيكون السد دكا، كسائر الارتفاعات.

[94] حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الحاجزين، و هما جبلان أو السدان اللذان كان بينهما ممر وَجَدَ مِنْ دُونِهِما من ورائهما و بالقرب منهما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يعرفون كلام أحد، لأن لهم لغة خاصة، فغرابة لغتهم، و قلة فطنتهم، أورثت الصعوبة في التفاهم معهم.

[95] قالُوا قال أولئك القوم يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ و إنما قال «مفسدون» لأنهما قبيلتان، فباعتبار أفرادهما جي ء بالفعل جمعا، و المراد بالأرض أرضهم، لا كل الأرض كما هو واضح فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ يا ذا القرنين خَرْجاً أي بعضا من أموالنا، و إنما سمي الخرج بذلك لخروجه من مال الإنسان، كما سمي الدمل خراجا لخروجه من البدن عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ بين يأجوج و مأجوج سَدًّا حائطا بين هذين الجبلين ليسد الممر الذي ينزلان منه إلينا و قد كان طلبهم في صورة الاستفهام من باب التأدب.

[96] قالَ ذو القرنين ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما أعطاني الله من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 420

[سورة

الكهف (18): الآيات 96 الى 97]

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)

المال و المكنة خير من خرجكم، فلا أحتاج إلى أموالكم لتكون أجرة لي في بناء السد فَأَعِينُونِي أيها القوم بِقُوَّةٍ من رجال، و أدوات السد لأبني لكم السد أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ أيها القوم وَ بَيْنَهُمْ بين يأجوج و مأجوج رَدْماً سدا قويا، و الردم أقوى من السد.

[97] آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي جيئوا بقطع الحديد، مفرده زبرة، و هي الجملة المجتمعة، فامتثلوا أوامره و جاءوا بقطع الحديد حَتَّى إِذا ساوى الحديد بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي امتلأ الممر بين الجبلين، و يسمى الجبل صدفا، لأنه يصدف، و يمنع عما وراءه، كأنه سد و حاجز قالَ ذو القرنين لهم انْفُخُوا في النار بالمنافخ، موجها النفخ نحو الحديد المتراكم بين الجبلين، فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي جعل الحديد المتراكم كالنار في وهجها و لهيبها، و لزم بعض الزبر بعضها الآخر قالَ ذو القرنين آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي جيئوا بالقطر، و هو النحاس المذاب، حتى أفرغ على الحديد الذي صار كالنار، حتى يصير السد أقوى، و يأخذ القطر بالفرج و الخلايا.

[98] ففعلوا ما قال لهم ذو القرنين، و إذا بسد محكم، لا يتمكن أحد أن يخربه أو يحدث فيه خللا، و لما جاء موعد مجي ء يأجوج و مأجوج، و جاءوا لم يقدروا من المرور فَمَا اسْطاعُوا أصله استطاع حذف التاء تخفيفا، أي لم يستطع يأجوج و مأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 421

[سورة الكهف (18): الآيات 98 الى 100]

قالَ هذا رَحْمَةٌ

مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100)

و يصعدوه، يقال ظهر السطح أي علاه وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أن ينقبوا السد من أسفله، و يحدثوا فيه فجوة، و سربا و نفقا، ليأتوا إلى أولئك، و بذلك استراح القوم من شرهم.

[99] و لما أتم ذو القرنين السد لم يأخذه البطر و الكبر، كما هو عادة الملوك بل قالَ متواضعا مذكرا أنه من فضل الله سبحانه عليه و عليهم هذا السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي حيث أمكنني من ذلك، و أراحكم من شر المفسدين فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بقيام القيامة جَعَلَهُ سبحانه دَكَّاءَ أي مدكوكا متساويا مع الأرض وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي بإتيان القيامة حَقًّا لا خلف فيه.

[100] و حيث ينتهي السياق من قصة الملك العادل ذي القرنين، و كيف سار و كيف عمر و عدل، و بمناسبة «وعد ربي» يأتي السياق ليبين أحوال القيامة وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة يَمُوجُ فِي بَعْضٍ مختلطين كحال المياه المائجة باضطراب، و الضمير، إما يعود إلى يأجوج و مأجوج، و إما يعود إلى الناس، المفهوم من الكلام وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ لأجل إحياء البشر بعد موتهم فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي جمعنا الخلائق كلهم في صعيد واحد مجتمعين للحساب.

[101] وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم لِلْكافِرِينَ عَرْضاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 422

[سورة الكهف (18): الآيات 101 الى 103]

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا

أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)

فأظهرناها لهم حتى شاهدوها، و رأوا ألوان عذابها.

[102] و من هم الكافرون؟ الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي لا ينظرون إلى ما أذكرهم به من الآيات الكونية، كالذي عينه لا ترى شيئا، إن أولئك يرون اليوم العذاب المهيأ لهم، جزاء أن أغمضوا أعينهم عن الحق وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي لا يتمكنون- من كفرهم و عنادهم- أن يسمعوا إنذاري و مواعظي، و هكذا كما يقال فلان لا يستطيع النظر إليك، أي يثقل عليه ذلك، و من المعلوم، أن سمع الكفار يشترك مع بصرهم في سماع أصوات العذاب، كما كان يشترك في الإعراض عن ذكر الله.

[103] أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا هل زعموا و ظنوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ينصرونهم لدى الحاجة، كما هو شأن الولي؟ إن هذا الزعم باطل، فإن الأصنام، و الملائكة و المسيح و غيرهم، ممن اتخذهم الكفار آلهة و أولياء لا ينصرونهم، و لا يدفعون العذاب عنهم، فليس الزعم في اتخاذ الآلهة، و إنما الزعم في اتخاذ الآلهة أولياء للنصرة و الدفاع إِنَّا أَعْتَدْنا و هيئنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي منزلا مهيأ لهم، يردونها بمجرد ورودهم، بلا حاجة إلى تعب منا فإن الأمر مهيأ للنزلاء.

[104] قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار، أو لكل من يسمع مؤمنا كان أم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 423

[سورة الكهف (18): الآيات 104 الى 105]

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)

كافرا هَلْ نُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِالْأَخْسَرِينَ أي بأخسر الناس أَعْمالًا الذين تكون

خسائرهم أكثر من خسائر غيرهم؟

[105] الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما سعوا و عملوا في هذه الحياة ضل و ضاع عنهم وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً يظنون أنهم يعملون حسنا، و الذين ضل، من تتمة الاستفهام، بدل من «الأخسرين».

[106] أُولئِكَ و هذا جواب عن الاستفهام، هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ أي جحدوا آيات الله، فلم يستدلوا بها على الله سبحانه و صفاته، و سائر شؤونه، و جحدوا المعاد الذي فيه لقاء الله سبحانه، بمعنى لقاء جزائه و حسابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت و ضاعت أعمالهم الحسنة، إنهم كانوا مؤمنين، كانت أعمالهم مصونة محفوظة، أما و قد كفروا، فقد حبطت أعمالهم فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي لا مرتبة لهم، و لا نعير لهم أهمية، و لا قيمة لهم عندنا، فإن الشي ء الخفيف الذي لا يوزن، لا قيمة له، و لذا جعل عدم الوزن كفاية عن عدم القيمة، و إنما كان هؤلاء أخسرين أعمالا، لأن هناك أعمالا للدنيا يرى العامل جزاؤها في الدنيا، و أعمالا للآخرة يرى العامل جزاؤها في الآخرة، أما أعمال هؤلاء فهي بزعمهم للآخرة، و لا يرون لها جزاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 424

[سورة الكهف (18): الآيات 106 الى 109]

ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)

أصلا، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و التفصيل غير مراد هنا- كغالب هذه المواضع من أشباهه-

[107] ذلِكَ كما ذكرنا جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ و لماذا؟ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرهم وَ اتَّخَذُوا آياتِي الكونية و الشرعية وَ رُسُلِي هُزُواً أي مهزوا به، فقد كانوا يستهزئون بالآيات الكونية، و القرآن و الرسول، فقد حبطت أعمالهم الصالحة، و جوزوا النار بكفرهم و استهزائهم.

[108] لقد كان ذلك حال الكافر، فما هو حال المؤمن؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي تصلح للسعادة كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ الفردوس هي الجنة التي يجتمع فيها الملاذ، من أشجار و أنهار و أزهار و أطيار نُزُلًا منزلا مهيئا لهم.

[109] في حال كونهم خالِدِينَ دائمين فِيها أبدا لا يَبْغُونَ لا يطلبون عَنْها عن تلك الجنات حِوَلًا تحولا إلى موضع آخر لطيبها و ملاذها.

[110] ثم يأتي السياق ليندد بالكفار الذين ينكرون كل شي ء استنادا إلى علمهم المحدود، و كأنهم يعلمون كل شي ء، ألا فليعلم البشر أن علمه لا شي ء، في مقابل مخلوقات الله التي لا حد لها، و يصور هذا الخلق الذي لا يتناهى في مثال «إن البحر لو كان مدادا، و كتب به كلمات الله بقيت الكلمات، و نفد البحر» فكيف يمكن للإنسان أن ينكر الجنة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 425

[سورة الكهف (18): آية 110]

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

أو النار، أو سائر ما يخبر به الأنبياء مما وراء الغيب، قُلْ يا رسول الله لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي جنس البحر ليشمل جميع البحار مِداداً لكتابة كَلِماتُ رَبِّي ما أظهره و ألقاه من الموجودات، فإنها كلمات الله سبحانه، تشبيها بالكلام الذي يلقيه الإنسان و يظهره في

الخارج لَنَفِدَ ماء الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي في الكتابة، فإنها تبقى غير مكتوبة كلها، و قد خلص و تم ماء البحر وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل البحر مَدَداً له و عونا، فإن كلمات الله أكثر من أن تنفدها بحار العالم، و بحار أخر تمدها.

[111] و أخيرا يوجز القول حول التوحيد و الرسالة و المعاد، مما كان مرمى السورة من أولها إلى آخرها قُلْ يا رسول الله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الأكل و الشرب و الملامسة و غيرها من الشؤون البشرية، فلست ملكا أو غيره، و إنما الفرق بيني و بينكم أنه يُوحى إِلَيَ فلوجهة ربط بالله سبحانه جعلني مستعدا لتلقي الوحي و خصني الله بذلك من بينكم، و أهم ما يوحى إلي هو أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له و لا شبيه فَمَنْ كانَ منكم يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يطمع في ثوابه و حسن جزائه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يسعد به في الآخرة وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً فلا يجعل له شريكا في العبادة، كما لا يجعل له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 426

شريكا في الألوهية، و الإسلام كله يتلخص في هذه الأمور الأربعة، التوحيد و شؤونه التي منها العدل و الرسالة، و شؤونها التي منها الإمامة، و المعاد ..، و ثم العمل الصالح، بلا شرك عبادي، فالعبادة له وحده، كما أن الألوهية له وحده،

و قد ورد، أن من الشرك الرياء «1»

______________________________

(1) ثواب الأعمال: ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 427

19 سورة مريم مكية/ آياتها (99)

سميت بهذا الاسم لاشتمالها على اسم مريم أم عيسى و قصتها، و هي مكية، و لذا تراها تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية، و حيث ختمت سورة

الكهف بذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» افتتحت هذه السورة، بذكر بعض الأنبياء السابقين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين في بدء أمورنا باسم الإله الرحمن الرحيم، ليتفضل علينا بالرحمة في الدنيا و في الآخرة، فإن ذكر صفة من صفات الكريم تدل- تلميحا- إلى تطلب الذاكر من تلك الصفة، إذ الإنسان لا يخصص صفة بالذكر، إلا و هو مريد للنيل منها، فإذا قال المجرم أيها الغافر، أراد الغفران، و إذا قال الفقير أيها الغني، أراد الثروة، و هكذا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 428

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)

[2] كهيعص أي أن «كاف» «هاء» «ياء» «عين» «صاد» هي التي يركب منها هذا القرآن، فإن القرآن مركب من هذه الحروف و أمثالها، و هنا حذف الخبر، بخلاف مثل «الم، ذلِكَ الْكِتابُ» و قد عرفت أن في فواتح السور أقوالا و ما ذكرناه أحدها، و هناك قول آخر أنها رموز و لا تنافي بين القولين و لا بين سائر الأقوال،

و قد ورد أن «كاف» اسم كربلاء و «هاء» هلاك العترة و «ياء» يزيد و «عين» عطش الآل عليهم السّلام و «صاد» صبرهم

«1»، فهي كالرموز اللاسلكية التي تختار لمعرفة الطرفين دون سواهم لحكمة.

[3] هذا الذي نريد بيانه ذِكْرُ و خبر رَحْمَتِ رَبِّكَ ل عَبْدَهُ زَكَرِيَّا النبي عليه السّلام و المراد برحمة الله له استجابته دعاء زكريا حين سأله الولد، فقد تفضل عليه سبحانه بيحيى عليه السّلام.

[4]

و قد كانت الرحمة إِذْ نادى حين دعا زكريا رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا دعاء في خفية لم يجهر به، و لعل سر الإخفاء، أن الناس لو علموا بأنه يطلب الولد سخروا منه؟، كيف يسأل الولد و هو شيخ فان؟، أم كيف بقي في نفسه بقايا من طلب الملذات ..؟

[5] قالَ زكريا في دعائه يا رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف عظمي، و إسناد الضعف إلى العظم، أبلغ في الدلالة على الضعف، إذ العظم الذي هو أصلب شي ء في الجسم، إذا ضعف ضعفت سائر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 88 ص 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 429

[سورة مريم (19): الآيات 5 الى 6]

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

الأشياء وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فإن الشيب و البياض، إذا ظهر في الرأس و غمرها، كانت الرأس كالمشتعل في التلألؤ و البريق، و هذا أبلغ، من «اشتعل الشيب في الرأس» وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ بدعوتي إياك فيما مضى، يا رَبِّ شَقِيًّا مخيبا محروما، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى، يا رَبِّ شَقِيًّا مخيبا محروما، فإنك قد عودتني الإجابة فيما مضى، و أنا في سن الشباب و القوة، فلا بد أنك لا تحرمني هذا الدعاء و أنا في حال المشيب و الضعف.

[6] و إذ ذكر عليه السّلام حاله المستحق للترحم و رجائه الذي عوده باريه باستجابة دعائه بين ما يخشاه و ما يطلبه وَ إِنِّي يا رب خِفْتُ الْمَوالِيَ جمع مولى، و هو الأولى بالتصرف في الأموال بعد الإنسان بالإرث، مِنْ وَرائِي أي من خلفي الذين يرثونني، أخشاهم أن لا

يعملوا، بما يبقى لهم مني على وجه الصلاح وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد، فليس لي منها أولاد حتى يقوموا بواجب تراثي من بعدي من الصلاح و الإصلاح فَهَبْ لِي يا رب مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك وَلِيًّا ولدا يلي أموري من بعدي، و يكون هو الأولى بميراثي.

[7] يَرِثُنِي ذلك الولي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لعل ذلك باعتبار أم الولد، أي زوجة زكريا، فقد كانت خالة «مريم» من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السّلام. و لذا كان عيسى عليه السّلام، من نسل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 430

[سورة مريم (19): الآيات 7 الى 8]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)

إبراهيم، و قال «آل يعقوب» لاحترامهم بكون الأنبياء فيهم وَ اجْعَلْهُ أي اجعل ذلك الولد يا رَبِّ رَضِيًّا مرضيا عندك، ممثلا لأمرك، فلا يكن فاسدا، لا يصلح لإرثي، و الرضى صفة لنفس الولد، لكنها تلازم كونه مرضيا.

[8] و قد استجاب الله دعاءه فناداه يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ ولد اسْمُهُ يَحْيى و لعله سماه سبحانه بهذا الاسم، كناية عن أنه يحيى حياة صالحة لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فلم يسمي أحد ولده بهذا الاسم، و إنما ابتكر هذا الاسم لولدك تكريما لك، فإن لكل جديد لذة و لكل تخصيص كرامة.

[9] و لقد فوجئ زكريا بهذه الاستجابة المسرة، كيف يكون له ولد، و هو شيخ، و امرأته عاقر لم تلد في شبابها، فكيف و أنها شاخت و هرمت؟

و لذا أراد السؤال عن الكيفية قالَ زكريا يا

رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون لي غلام، و لعل سؤاله كان حول رجوعه شابا، أو عن امرأة جديدة، أو بهذه الحالة عن هذه المرأة العاقر؟ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد وَ قَدْ بَلَغْتُ أنا مِنَ الْكِبَرِ في العمر عِتِيًّا العتي هو الذي بلغ به طول العمر إلى حالة اليبس و الجفاف، كأنه ليس فيه مادة صالحة لنشأة الولد؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 431

[سورة مريم (19): الآيات 9 الى 11]

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11)

[10] قالَ سبحانه في جوابه كَذلِكَ أي بهذه الحالة نعطيكما الولد قالَ رَبُّكَ هُوَ أي إعطاء الولد في هذه الحال- حال كبرك، و كون زوجك عاقرا- عَلَيَّ هَيِّنٌ أي سهل يسير، و القائل هو الله سبحانه، و قد جرت العادة أن يذكر الشخص اسمه، فيقول محمد لأولاده مثلا:

يقول لكم محمد، أن لا تجالسوا الأشرار، يريد نفسه وَ قَدْ خَلَقْتُكَ يا زكريا مِنْ قَبْلُ أي سابقا وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً أصلا فإعطاء الولد من كبيرين أهون من خلق الإنسان من العدم، فإن من قدر على ذلك الأصعب- في نظرك- يقدر على هذا الأسهل.

[11] قالَ زكريا عليه السّلام يا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة دالة على وقت صيرورة الولد الذي بشرتني به قالَ الله تعالى آيَتُكَ علامتك التي تدلك على وقت صيرورة الولد أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تتمكن من الكلام مع الناس ثَلاثَ لَيالٍ و في سورة آل عمران

ثلاثة أيام، و من ذلك يظهر أن عدم تمكنه عليه السّلام من التكلم مع الناس، كان ثلاثة أيام بلياليها سَوِيًّا في حال كونك سوي الخلق ليس بك خرس أو آفة، فإذا أردت التسبيح و الذكر تمكنت من ذلك، و إذا أردت التكلم مع الناس، لم تتمكن، و قد كان هذا يناسب حال زكريا المقتضي للانقطاع إلى الله سبحانه يذكره، و يشكره، على أن أنعم عليه بهذه النعمة.

[12] و كأن زكريا عليه السّلام كانت له غرفة خاصة في بيت المقدس، و كان قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 432

[سورة مريم (19): الآيات 12 الى 13]

يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13)

بشر العباد بما بشر به، و ذكر لهم العلامة، فلما اعتقل لسانه، أراد أن يفهمهم الأمر ليشاركوا معه في الذكر و التسبيح، فإن الإنسان يذكر الله عند ما يرى من العجائب فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ غرفته المسماة ب الْمِحْرابِ و يسمى محل الصلاة محرابا، لأنه محل محاربة الإنسان مع الشيطان، يريد الشيطان أن يصده عن الصلاة، و هو يحاربه حتى يصلي فَأَوْحى أي أشار زكريا عليه السّلام إِلَيْهِمْ بدون أن يتكلم، لأنه لم يكن يقدر على الكلام مع الناس أَنْ سَبِّحُوا الله سبحانه بُكْرَةً أي صباحا وَ عَشِيًّا أي مساء.

[13] فولد يحيى و كبر حتى صار صبيا، و إذا به يسمع النداء من قبل الله سبحانه يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ بأن تعمل بها بكل استقامة، و المراد بالقوة، القوة النفسية، التي لا يقف دونها شي ء لمن عزم و صمم وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ النبوة، لأنها توجب أن يحكم الشخص بين

الناس، فيأمرهم، و ينهاهم، و يفصل قضاياهم صَبِيًّا في حال كونه صبيا، فإن الله كما قدر على أن يمنحه لوالديه بعد الهرم، قدر على أن يتفضل عليه بمؤهلات النبوة.

[14] وَ آتيناه حَناناً و عطفا و شفقة على الناس، كما هو من لوازم النبوة، حتى يتمكن من إرشاد الناس، فإن أول مؤهلات المرشد، أن يكون ذا حنان و عطف مِنْ لَدُنَّا أي من عندنا، و الإضافة إليه سبحانه- و إن كان كل حنان من عنده- للتشريف وَ آتيناه زَكاةً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 433

[سورة مريم (19): الآيات 14 الى 15]

وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

أي طهارة و عفة و نموا وَ كانَ تَقِيًّا يتقي المحارم و الآثام.

[15] وَ آتيناه بَرًّا و إحسانا بِوالِدَيْهِ فكان بارا بهما محسنا إليهما وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً أي متكبرا متطاولا على الناس يجبرهم على حسب شهواته، و هذه الصفة «الجبار» ليست حسنة، إلا من الله سبحانه، و معناها فيه، إنه يأمر الخلق و ينهاهم حسب المصلحة، و هو القاهر فوقهم يميتهم و يحييهم حسب الحكمة، كما تطلق عليه سبحانه بمعنى جبر الكسر، و من هذا قال العباس بن علي عليه السّلام، لما قطعوا يساره:

يا نفس لا تخشي من الكفارو أبشري برحمة الجبار «1»

جبر الكسر، مع قطع اليد و كسرها عَصِيًّا أي عاصيا لربه، فإن فعيل قد يأتي للفاعل، و قد يأتي للمفعول نحو جريح بمعنى المجروح.

[16] وَ سَلامٌ عَلَيْهِ أي على يحيى، و المراد بالسلام السلامة، في هذه الأيام الثلاثة، التي نقرر كل يوم منها مصيرا طويلا يَوْمَ وُلِدَ فإن يوم الولادة يقرر

مصير الحياة، فإذا ولد الإنسان سالما من العيوب، كان سالما ما دام العمر،- إلا أن يحدث حدث عليه- و إن ولد معيوبا كأن كان أعمى أو أعرج أو ما أشبه، تكبد طول حياته ذلك وَ يَوْمَ يَمُوتُ فإن الإنسان إذا سلم هذا اليوم من عذاب الله سبحانه، كان سالما في

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 434

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 18]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)

البرزخ الطويل الأمد وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا أي يحيى للحساب و الجزاء، فإذا سلم في ذلك اليوم، كان سالما من العذاب و الشقاء أبد الدهر، و هذا هو معنى السلام على الميت، يعني لتكن سالما من العذاب هناك في قبرك و آخرتك.

[17] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن مَرْيَمَ أي قصة مريم الطاهرة، و ولادتها لعيسى عليه السّلام من غير أب إِذِ حين انْتَبَذَتْ النبذ أصله الطرح، و الانتباذ منه، إلا أنه يستعمل بمعنى التنحي يقال: انتبذ فلان ناحية أي تنحى ناحية، كأنه طرح فيها، و المراد أن مريم انفردت و تنحت مِنْ أَهْلِها أبويها، و سائر قراباتها مَكاناً شَرْقِيًّا طرف مشرق الأهل، بحيث كان أهلها في طرف الغرب، و هي في وجهة شرقهم، و لعلها أرادت الاغتسال، و لذا اختارت هذا الطرف، حتى لا تتأذى بالبرد، بل تشرق الشمس عليها- و هذا هو المستفاد من كلام بعض المفسرين-.

[18] فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ دون الأهل حِجاباً سترا ضربته ليحجبها عن أهلها، و هذا

يؤيد الاحتمال السابق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا أي روحا من طرفنا- و الإضافة للتشرف- و كان ذلك الروح جبرائيل عليه السّلام، و قد كان استحاش مريم شديدا حين رأت الروح فَتَمَثَّلَ الروح لَها لمريم عليه السّلام بَشَراً سَوِيًّا أي شابا مكتملا غير ناقص الخلق.

[19] و اضطربت مريم عليها السّلام لهذا الحادث المدهش، فاستعاذت بالله من شر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 435

[سورة مريم (19): الآيات 19 الى 21]

قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)

الرجل، لأنها لم تعرفه، و قد جرت العادة، أن مثل هذا الرجل يقصد السوء قالَتْ مريم عليها السّلام إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ أيها الرجل إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا فإن التقي إذا خوف خاف بخلاف الشقي الذي لا يرعوي، و لو بألف تخويف و إنذار، كما تقول إن كنت مؤمنا لا تفعل كذا.

[20] قالَ جبرائيل عليه السّلام في جوابها يعرفها بنفسه، لست أنا إنسانا تخافين منه إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ مرسل من طرفه إليك يا مريم لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا ولدا طاهرا طيبا.

[21] فازداد تحير مريم عليها السّلام، فسألت قالَتْ أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ ولد وَ الحال أنه لَمْ يَمْسَسْنِي على وجه الزوجية بَشَرٌ و هل الغلام، إلا من الزوجين بعد الملامسة وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا أي زانية، فإن الولد في العادة يكون بأحد هذين الطريقين، و لم يك أحدهما.

[22] قالَ جبرائيل عليه السّلام في جواب سؤال مريم عليها السّلام كَذلِكِ أي كذا الذي ذكرت لك ف «الكاف»

حرف جر للتشبيه و «ذا» للإشارة و «لك» للخطاب قالَ رَبُّكِ هُوَ أي إعطاء الولد من غير أب عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل لا يحتاج إلى الكلفة وَ لِنَجْعَلَهُ نجعل هذا الولد آيَةً لِلنَّاسِ حجة من عندنا على الناس، فإن عيسى عليه السّلام كان حجة الله على البشر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 436

[سورة مريم (19): الآيات 22 الى 23]

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23)

وَ رَحْمَةً مِنَّا على البشر نرحمهم به و نهديهم إلى الطريق بسببه وَ كانَ إعطاؤك الولد أَمْراً مَقْضِيًّا أي كائنا مفروغا منه محتوما، فلا ينفع التكلّم لدفع هذا القضاء.

[23] فنفخ جبرائيل في جيب مريم عليها السّلام، فاكتمل عيسى في بطنها في الساعة بقدرة الله تعالى فَحَمَلَتْهُ أي حملت مريم بعيسى عليه السّلام فَانْتَبَذَتْ بِهِ تنحت مريم بالولد- أي معه- مَكاناً قَصِيًّا أي محلا بعيدا عن أهلها، لئلّا يروها على حالة الحمل، و لقد كانت مدة حملها تسع ساعات، و في بعض الروايات، أنها جاءت إلى كربلاء من بيت المقدس، بقدرة الله تعالى، و هو المراد بالمكان القصي «1» [24] فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي ألجأها الطلق، و هو وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليها، و الجذع ساق النخلة، و حيث فكرت في حالتها أخذت الدهشة منها كل مأخذ، و لذا قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا الحادث قالت ذلك حياء و خجلا و تحيرا، و «مت» بكسر الميم من «مات يميت» على وزن «تعب» و من أخذه من «مات يموت» احتاج إلى التكلف وَ كُنْتُ نَسْياً أي ما من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا ذكري عند الناس لا يذكرني

أحد، و هناك جاءت بعيسى عليه السّلام وليدا كاملا جميلا.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 14 ص 517.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 437

[سورة مريم (19): الآيات 24 الى 26]

فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

[25] فَناداها عيسى عليه السّلام، أو جبرائيل، مِنْ تَحْتِها أي أسفل منها، فإنها كانت على أكمة، و لعل هذا يرجح كون المراد بالمنادي عيسى عليه السّلام- كما اختاره سعيد بن جبير- أَلَّا تَحْزَنِي من هذه الحادثة، و الحزن هو الغم الكامن في النفس قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ يا مريم تَحْتَكِ أي الأسفل منك سَرِيًّا أي جدولا ساريا،

و قد قال الإمام الباقر عليه السّلام إن عيسى عليه السّلام ضرب برجله الأرض، فسار الماء «1»

[26] وَ هُزِّي يا مريم إِلَيْكِ أي اجذبي نحو نفسك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ليقع فيها الهز تُساقِطْ النخلة عَلَيْكِ رُطَباً جديدا جَنِيًّا طريا، قد جني الساعة، و الحلو خصوصا الرطب من أفضل ما تتغذى به المرأة التي ولدت.

[27] فَكُلِي من الرطب وَ اشْرَبِي من ماء الجدول وَ قَرِّي عَيْناً طيبي نفسا بهذا الولد، و ذلك، لأن الإنسان المذهول تطير عينه هنا و هناك، أما مطمئن النفس فإنه تقر و تستقر عينه، حسب الموازين العقلانية فَإِمَّا أصلها «إن» الشرطية و «ما» الزائدة للتجميل، ثم أدغمت النون في الميم تَرَيِنَ مضارع، من رأى مؤكد بالنون الثقيلة مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فسألك عن الولد، من أين أتيت به، و أنت غير متزوجة؟

فَقُولِي الظاهر، أن المراد الإشارة بهذا المعنى، لا لفظ القول،

فإن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 438

[سورة مريم (19): الآيات 27 الى 28]

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

القول يستعمل للعمل و الإشارة، كما يستعمل اللفظ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً و قد كان الصوم بمعنى الكف عن الكلام، كما كان كفا عن الطعام، و أمره سبحانه ب «قولي» يفيد لزوم أن تنذر هذا الصوم، و لذا نذرت ذلك فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا منسوب إلى الإنس، لإفادة الوحدة، و لعل ذلك، لأجل أن لا تقع في المجادلة مع الناس، و الاكتفاء بكلام عيسى الرضيع.

[28] و هنا و قد رأت مريم عليها السّلام، المعجزات الباهرات، و ها هو وليدها الذي يتكلم على خلاف العادة، معها حجة قاطعة على براءتها فَأَتَتْ مريم عليها السّلام بِهِ أي بعيسى عليه السّلام قَوْمَها أي إلى قومها تَحْمِلُهُ على يديها، و لما رآها القوم، استنكروا طفلها ف قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي أمرا عظيما عجيبا، من فرى بمعنى قطع، كأن من يأتي بشي ء عجيب، قد قطع مدهشا، لا يلائم سائر الأشياء، و منه الافتراء.

[29] يا أُخْتَ هارُونَ

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن هارون كان رجلا صالحا في بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح

«1»، و على هذا كان المعنى يا شبيهة هارون في الصلاح، كيف أتيت بهذا الولد، من غير زواج و لا نكاح ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ يعمل القبيح

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 226.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 439

[سورة مريم (19):

الآيات 29 الى 31]

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)

وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية، فأنت من أبوين صالحين، فكيف جئت بهذا الولد من غير أب؟

[30] فلم تجب مريم عليها السّلام لكلامهم و إنما فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام، و أومأت بأن كلموه، و اسألوا منه ما شئتم، فتعجبوا من إشارتها، و قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا و قولهم في المهد، يراد الشأنية، لا الفعلية، و هل طفل شأنه أن يوضع في المهد يتكلم؟

[31] و هنا أنطق الله عيسى ليدافع عن أمه، و يبرئ ساحتها، و يقطع الجدال ف قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ و قد كان أول ما تكلم هذا، ليفند مزاعم الذين يأتون و يقولون إنه الله آتانِيَ الْكِتابَ أي أعطاني الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا ظاهر اللفظ أنه قد أوتي الكتاب و النبوة، و هو في ذلك السن، و هذا غير غريب، فقد وردت أحاديث، إن الأنبياء، كانوا أنوارا، قبل أن يأتوا إلى هذه الدنيا.

[32] وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً ذا بركة و خير أَيْنَ ما كُنْتُ فليس كالثري، أو ذي الجاه الذي لا خير له، إذا لم يكن عند ثروته، و في محل منصبه، بل يعلم الخير و يشفي المرضى، أينما كان وَ أَوْصانِي الله سبحانه بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ بأن أصلي و أنفق ما دُمْتُ حَيًّا ما بقيت مكلفا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 440

[سورة مريم (19): الآيات 32 الى 34]

وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَ

السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

[33] وَ جعلني بَرًّا أي بارا بِوالِدَتِي مريم الطاهرة وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متجبرا طاغيا شَقِيًّا من الأشقياء، فإني بلطفه و كرمه كنت هكذا، و ليس معنى ذلك أن الله يجعل الجبابرة الأشقياء كذلك، بل إن الله سبحانه يتركهم، إذا رأى منهم الانحراف، حتى يضلهم الشيطان، و ترديهم النفس الأمارة بالسوء.

[34] وَ السَّلامُ أي السلامة من العاهات الجسمية و الروحية عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، وَ يَوْمَ أَمُوتُ بعد ما ما أنزل من السماء وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا في القيامة، و قد مر وجه ذلك في قصة يحيى عليه السّلام.

[35] و إذ أتم السياق قصة عيسى عليه السّلام، فيما هو محل الحاجة، عطف على النصارى الذين يقولون إنه الله، أو ابن الله أو شريك الله، و اليهود الذين يقولون فيه السوء، فقال سبحانه ذلِكَ الذي تقدم أحواله عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الذي جاء إلى الدنيا، و كان صاحب شريعة، ثم رفع إلى السماء قَوْلَ الْحَقِ أي أقول قول الحق، أو خذه قول الحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكّون، فزعمت اليهود أنه لغير رشده، و كان ساحرا كذابا، و زعمت النصارى أنه ابن الله، و أمه ثالث الأقانيم، فإن كلا القولين باطل، لا يدل عليهما دليل، بل العقل دل على خلاف هذين القولين الزائفين، و قوله «يمترون» من المرية، و هو الشك و إنما سمي شكا مع أنهم بحسب الظاهر يوقنون بذلك، لأن ما خالف الواقع كان بالشك أشبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 441

[سورة مريم (19): الآيات 35 الى 37]

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ

إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

[36] ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ فإن اتخاذ الولد حقيقة محال، و الولد تشريفا، بأن يتبنى، خلاف شأنه سبحانه، و «من» لإفادة النفي مطلقا، واحدا كان الولد أم متعددا سُبْحانَهُ أي أنزهه عن اتخاذ الولد تنزيها، و ليس أمر عجيب ولادة عيسى عليه السّلام من غير أب، فإنه تعالى إِذا قَضى أَمْراً و أراد شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ للشي ء الذي أراده كُنْ إما لفظا، أو ذلك حكاية عن إرادته تعالى فَيَكُونُ ذلك الشي ء.

[37] ثم أتم الكلام سبحانه حول قصة عيسى عليه السّلام بقوله وَ أوصاني إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ أيها البشر، فلست أنا إلها، و هل يبقى بعد شهادة عيسى كلام؟ فَاعْبُدُوهُ وحده هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا عوج فيه، و لا انحراف، و من الظريف أن كتاب «العهدين» مشتمل على تصريح عيسى، بأن الله ربه، بل لقد زاد النصارى، أن لمريم أم عيسى زوجا يسمى «يوسف» و مع ذلك، قالوا بأنه الله، أو أنه ابن الله.

[38] و مع هذه الحجج عقليها، و شرعيها، لم يقنع النصارى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ الأحزاب جمع حزب، و هو الفئة من الناس، ذات لون واحد في العقيدة، أو العمل، أي من بين أهل الكتاب، فقالت اليعقوبية منهم، هو الله، و قالت النسطورية منهم هو ابن الله، و قالت الإسرائيلية منهم ثالث ثلاثة فَوَيْلٌ أي شدة العذاب، فإن ويل كلمة وعيد لِلَّذِينَ كَفَرُوا بالله، و اتخذوا عيسى ربا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 442

[سورة مريم (19):

الآيات 38 الى 40]

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)

أو شريكا، أو ابنا له مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من محضر، أو هو مصدر ميمي، أي من حضورهم في يوم عظيم هو يوم القيامة، فإنهم يفضحون و يعاقبون على رؤوس الأشهاد.

[39] إن الكافرين في يوم القيامة، حيث لا ينفعهم السمع و البصر، يكونون أقوى الناس سماعا و إبصارا، أما في الدنيا، و حيث أن السمع و البصر وسيلة الهداية و السعادة، فإنهم لا يسمعون، و لا يبصرون أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ بهم، أي ما أسمعهم و أبصرهم، و ذلك صيغة التعجب على معنى ما أسمعهم و أبصرهم يَوْمَ يَأْتُونَنا أي في القيامة لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يسمعون الهدى، و لا يبصرون الطريق.

[40] وَ أَنْذِرْهُمْ أي أنذر يا رسول الله الناس، يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الإنسان، و يندم على ما فات منه من السعادة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ حين فرغ من الأمور، و انقطعت الآمال، فالمؤمن يتحسر على أنه لم لم يعمل أكثر؟ و الكافر و العاصي يتحسران، على أنه لم كفر و عصى، حتى يلقى العذاب و الهوان وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ الآن في الدنيا عن ذلك وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ حتى لا يتحسروا هناك حسرة الكافر على ما قدمت يداه.

[41] إنه لا بد و أن يأتي ذلك اليوم حين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 443

[سورة مريم (19): الآيات 41 الى 42]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها فكل ما في الأرض ما ليس ملكا لإنسان، و كل ما فيها مما هو ملك البشر، يبقى هنا بدون مالك، و لفظة «نحن» للتأكيد، كما إن إرث الأرض كناية عن عدم وجود إنسان فيها، حتى تكون الأرض محتملة لحيازته وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ بأعمالهم، حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا، فنجازيهم عليها.

[42] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي في القرآن إِبْراهِيمَ و ليس الذكر إنشاء الإنسان الكلام، حتى يقال إن الله هو الذاكر لا الرسول، بل الذكر هو أن يذكر شيئا سواء كان منشئا له أم ناقلا، و قد جاءت قصة إبراهيم لتفنيد مزاعم العرب الذين عبدوا الشركاء، و تذكيرهم، بأن إبراهيم جدهم هو الذي حارب الشرك، كما جاءت قصة عيسى عليه السّلام من قبل لتفنيد مزاعم النصارى، حيث يجعلون لله ولدا، و بيان أن عيسى المسيح عليه السّلام لم يكن ابنا لله، و إنما كان عبدا رسولا إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً كثير التصديق لله سبحانه في جميع الأمور أو كثير الصدق نَبِيًّا مرسلا من قبل الله سبحانه، و هو من النبوة بمعنى الرفعة، أو من النبأ بمعنى الخبر، لأن النبي رفيع الشأن مخبر عن الله سبحانه.

[43] اذكره إِذْ قالَ حين قوله لِأَبِيهِ أي لعمه آزر، فإن العادة أن يسمى العم أبا، كما تسمى الخالة أما يا أَبَتِ أي يا أبي و التاء عوض عن الياء، كما قال ابن مالك:

و في النداء أبت، أمت عرض و اكسر أو افتح و من اليا التاء عوض

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 444

[سورة مريم (19): الآيات 43 الى 45]

يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)

لِمَ تَعْبُدُ أي لماذا تعبد ما لا يَسْمَعُ أي الصنم الذي لا يسمع الكلام وَ لا يُبْصِرُ شيئا وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً أي لا يكفيك حاجة من حوائجك يقال أغنى عنه، إذا جلب إليه نفعا، أو دفع عنه ضررا؟

[44] يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله سبحانه، و بالأمور الكونية ما لَمْ يَأْتِكَ فلست أنت تعلم حول المبدأ، و المعاد و الكون ما أعلمه أنا فَاتَّبِعْنِي فيما أدعوك إليه أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما لا عوج فيه و لا انحراف و هو صراط الحقيقة في باب المبدأ، و سائر الشؤون لا الضلال، كما عليه عبدة الأصنام.

[45] يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه، فإن من يطيع أحدا يكون كالعابد له، إذ العابد يطيع المعبود، فهو مجاز من باب التشبيه، و مثله اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا أي عاصيا، فكيف تطيع من يعصي إلهك و خالقك؟ و من المحتمل أن يكون آزر معترفا بالإله، و إنما يعبد الأصنام تقربا إليه، و لذا نفّره إبراهيم عن عبادة الشيطان بأنه عاص لله.

[46] يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ أي يلامسك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرحمن الذي هو مصدر الرحمة و التفضل، يعذبك، بما تخالفه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 445

[سورة مريم (19): الآيات 46 الى 47]

قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ

آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47)

و تطيع الشيطان، و تعبد الأصنام فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا بأن يكلك الله إلى الشيطان، حتى تكون وليا و تابعا له، لا وليا لله و تابعا إياه، و الشيطان لا يغني عن وليه شيئا، فتخسر الدنيا و الآخرة.

[47] قالَ آزر، مجيبا لإبراهيم في دعوته أَ راغِبٌ أي هل تنفر أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي معرض عنها يا إِبْراهِيمُ فإن رغب، إذا عدي ب «عن» كان بمعنى النفرة، و إذا عدي ب «في» كان بمعنى الطلب، و الاستفهام إنكاري لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن دعوتك، و إعراضك عن الأصنام لَأَرْجُمَنَّكَ بالحجارة، فابتعد عني وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا أي فارقني و تنح عني دهرا طويلا، فإن الملي بمعنى الدهر الطويل، من ملو، يقال كنت عنده ملوا أي زمانا طويلا.

[48] قالَ إبراهيم عليه السّلام في جواب آزر سَلامٌ عَلَيْكَ أي كن سالما، و هذه كلمة يقولها الإنسان الحليم عند ملاقاة الجاهل، كما قال سبحانه (وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) «1» و ذلك من باب ترقيق الجو، و لتلطيف نفس الجاهل العاتية، حتى لا تزيده الدعوة و الكلام بغضا و عنادا فوق ما كان سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي أطلب منه الغفران لك، و ذلك بأن يهديك حتى تستحق الغفران إِنَّهُ سبحانه كانَ بِي حَفِيًّا لطيفا بارا، فلعله يقبل استغفاري و يهديك الصراط.

______________________________

(1) الفرقان: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 446

[سورة مريم (19): الآيات 48 الى 50]

وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا

لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

[49] وَ أَعْتَزِلُكُمْ أتنحى عنكم- أنت و القوم- و قد سبق أن دعا إبراهيم القوم، فلم ينفع فيهم الدعاء، و لذا قرر أن يعتزلهم إلى مكان آخر يدعو فيه، لعلهم يجيبون الدعوة، فقد طاف إبراهيم عليه السّلام- لتركيز دعوة التوحيد- العراق و الشام و مصر و الحجاز وَ أعتزل ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أتنحى عن أصنامكم، إذ المبتعد عن بلد، يبتعد عن كل شي ء فيه وَ أَدْعُوا رَبِّي لكم بالهداية عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي لهدايتكم شَقِيًّا فيستجب دعائي في هدايتكم، أي لعله سبحانه يقبل الدعاء، و يردكم عن الضلال إلى الهدى، و ليس هذا تكرارا، فإن ما سبق، كان خاصا بآزر، و هذا عام لكل القوم.

[50] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ إبراهيم وَ اعتزل ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فارقهم، و هاجر إلى الأرض المقدسة، لم نتركه وحده يقاسي الوحدة، و الغربة، بل تفضلنا عليه بما يؤنس وحشته، و يجمع شمله وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولدا صلبيا وَ يَعْقُوبَ ولد الولد وَ كُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا يهدي الناس إلى الحق، فقد كثرنا إبراهيم عددا، كما كثرنا الدعوة التي دعا بها إلى الله سبحانه، فشددنا أزره بالأنبياء عليهم السّلام، الذين ينتهجون نهجه في الدعوة.

[51] وَ وَهَبْنا لَهُمْ لإبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام مِنْ رَحْمَتِنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 447

[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 52]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)

و تفضلنا عليه وَ جَعَلْنا لَهُمْ لإبراهيم و

إسحاق و يعقوب عليهم السّلام لِسانَ صِدْقٍ فقد كانوا صادقين في دعوتهم يصدقهم الناس، جزاء لاستقامتهم في الدعوة، في قبال ذلك التكذيب الذي واجه القوم به إبراهيم، قبل الاعتزال عَلِيًّا أي في حال كون ذلك اللسان عليا رفيعا، ينظر إليه الناس برفعة، حتى إذا قال شيئا أطاعوه، و سمعوا منه.

[52] ثم يأتي السياق، ليبين دعوة الأنبياء عليهم السّلام، و تفضل الله عليهم، إجمالا بدون تفصيل، إذ المقصود بيان الدعاة و الدعوة وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ أي اذكر يا رسول الله في القرآن مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قد أخلصه الله سبحانه لنفسه، كما قال سبحانه (وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) «1» ف «مخلص» اسم مفعول من أخلص وَ كانَ رَسُولًا إلى فرعون و ملأه، و إلى سائر البشر نَبِيًّا يأتيه الوحي من قبل الله سبحانه.

[53] وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور اسم جبل كان يناجي عليه موسى عليه السّلام ربه، أي ناديناه من طرف ذلك الجبل، طرفه الأيمن لا الأيسر، و ذلك حين أقبل من «مدين» و رأى النار في الشجرة، و لما دنا منها سمع الصوت (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) «2»

______________________________

(1) طه: 42.

(2) القصص: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 448

[سورة مريم (19): الآيات 53 الى 54]

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54)

وَ قَرَّبْناهُ إلينا في حال كونه نَجِيًّا نناجيه بكلام خفي لا يسمعه غيره، فقد كان القرب إلى هذا الحد حد المناجاة و الإسرار في الأذن، لكن المراد ليس القرب المكاني- فإنه سبحانه منزه عن المكان- و إنما القرب المعنوي الذي هو عبارة عن جعل نفس

موسى عليه السّلام بحيث يتمكن من تلقي كلام الله سبحانه، ثم إن من المعلوم، إن الله لا يكلم باللسان- لأنه منزه عن الجسم و عوارضه- و إنما يخلق الصوت، فيسمعه من كملت نفسه، و أراد سبحانه إسماعه.

[54] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لموسى مِنْ رَحْمَتِنا و تفضلنا عليه أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا فأنعمنا على موسى بجعل هارون نبيا، يشد أزره و يساعده في الدعوة، إجابة لدعائه، حيث قال (وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) «1» [55] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن إِسْماعِيلَ بن حزقيل، كما ورد في الأحاديث، لا إسماعيل بن إبراهيم الخليل إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ إذا وعد و في، و لو طالت المدة،

فقد ورد عن الصادق عليه السّلام إنه إنما سمي صادق الوعد، لأنه وعد رجلا في مكان، فانتظره في ذلك المكان سنة، فسماه الله عز و جل صادق الوعد ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك، فقال له إسماعيل ما زلت منتظرا لك «2»

أقول: ليس معنى ذلك إن إسماعيل لم يعمل عملا في تلك

______________________________

(1) طه: 30- 33.

(2) الكافي: ج 2 ص 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 449

[سورة مريم (19): الآيات 55 الى 56]

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56)

المدة، فلعله كان مشتغلا بأمره- التبليغ- أو العمل أو نحوهما، فلا يقال: كيف يترك الإنسان عمله سنة لوعد، أليس عدم مجي ء الصاحب دليل على خلفه، حتى يكون إسماعيل في حل منه؟ وَ كانَ رَسُولًا إلى قومه نَبِيًّا يوحى إليه، من قبل الله سبحانه،

و قد ورد أن

الله عز و جل بعثه إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه فأتاه ملك، فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال لي أسوة بما يصنع بالأنبياء «1»

[56] وَ كانَ إسماعيل يَأْمُرُ أَهْلَهُ أي عائلته، أو عشيرته، أو قومه- فإن الأهل يطلق على كل واحد من هؤلاء- و إن كان الأنسب بمقام النبوة إرادة المعنى الثالث بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ المراد بهذين اللفظين الخضوع لله سبحانه، و إعطائه الفقراء و إن كان بغير صورة الصلاة و الزكاة في هذه الشريعة فإن الصلاة بمعنى العطف، و الزكاة بمعنى النمو، و في الصلاة عطف نحوه سبحانه، و في الزكاة نمو للمال وَ كانَ إسماعيل عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا رضي سبحانه عن أعماله و أخلاقه و سيرته.

[57] وَ اذْكُرْ يا رسول الله فِي الْكِتابِ أي القرآن إِدْرِيسَ سمي بذلك لكثرة دراسته للكتب، و قد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، و هو أول من خط بالقلم و خاط، و نظر في الحساب، و قد كان الناس قبله

______________________________

(1) راجع القصص للجزائري: ص 316.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 499

[سورة مريم (19): الآيات 57 الى 58]

وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58)

يلبسون الجلود- كما روي- إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً كثير الصدق، أو كثير التصديق لله سبحانه نَبِيًّا يوحى إليه من قبله سبحانه.

[58] وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أي إلى مكان عليّ رفيع، إما رتبة بأن كانت رتبته، و منزلته عند

الله رفيعة، و إما محلا،

فقد ورد أنه رفع إلى السماء،

و هناك قبض روحه ملك الموت.

[59] أُولئِكَ الذين تقدم أسماءهم الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالنبوة، و المنزلة الرفيعة مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ أبو البشر عليه السّلام. وَ من ذرية مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ يعني يعقوب عليه السّلام، و إنما ذكر سبحانه هذا التفصيل مع إن الجميع من ذرية آدم، لبيان ذكر مراتبهم في شرف الانتساب، أو شرف التفضل، فمن كان منسوبا إلى إبراهم أشرف نسبا ممن لا ينتسب إليه، و إنما ينتسب إلى آدم عليه السّلام فقط، كما أن من حمل أبوه في السفينة كان التفضل عليه أكثر ممن لم يحمل، بأن كان قبل الطوفان وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا أي أنعمنا عليهم، في جملة من هديناهم إلى الحق، و اخترناهم للنبوة و الإرشاد، إن أولئك كلهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ و تقرأ عندهم آياتُ الرَّحْمنِ الدالة على وجوده و صفاته خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد، أي ساجدين لله سبحانه، تعظيما له و لكلامه و آياته وَ بُكِيًّا باكين، فإن «بكى» على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 451

[سورة مريم (19): الآيات 59 الى 61]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)

«فعول» جمع «باك» و نصب سجدا و بكي على الحال عن ضمير «خروا».

[60] فأولئك الأنبياء المختارون، الذين يسجدون لتلاوة آيات الله، و تفيض أعينهم من الدمع عند قراءة كتابه فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ جماعة من

نسلهم و ذريتهم أَضاعُوا الصَّلاةَ كاليهود خلف إسرائيل، و المشركين من خلف إبراهيم عليه السّلام، و هكذا وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الملذات الزائلة، إذا رأوها ذهبوا وراءها، ليتبعوها، أولئك الأخيار جاء من بعدهم هؤلاء الأشرار فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ أي يلقى هذا الخلف غَيًّا ضلالا، و ضياعا في الدنيا بالعيش الضنك، و في الآخرة بالعذاب و النار، أو المراد يلقون جزاء غيهم، يقال فلان يرى عمله، أي يرى جزاء عمله.

[61] إِلَّا مَنْ تابَ عما سلف منه من المعاصي وَ آمَنَ إيمانا صحيحا صادقا وَ عَمِلَ صالِحاً في مقابل العمل السيئ، الذي كان يعمله فَأُولئِكَ التائبون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لا يبخسون من جزاء أعمالهم الحسنة، و إنما يعطى جزاؤهم كاملا غير منقوص.

[62] ثم وصف سبحانه الجنة بقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ و المراد بالجنة هناك الجنس، و لذا صح وصفها بالجمع و العدن بمعنى الإقامة، من عدن بالمكان، إذا أقام فيه الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ المتفضل الراحم عِبادَهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 452

[سورة مريم (19): الآيات 62 الى 63]

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)

المطيعين بِالْغَيْبِ أي وعدهم، بما هو غائب عن حواسهم، و لعل ذكر هذا الوصف، لمدح المؤمنين بالجنة حيث أن العامل للغيب أكثر تحسينا من العامل لما يراه حاضر عنده، أو لوصف الجنة، كأنه يقال، إن ما وعدتم به غائب لا تدرون ما هو؟ إِنَّهُ تعالى كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يأتي بالتأكيد، و لا خلف فيه، و المراد ب «وعده» أي ما وعد به، أقيم المصدر مقام المفعول، أو المراد وقت وعده.

[63] لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمع المؤمنون

فِيها في تلك الجنات لَغْواً كلاما بلا ثمر، سواء كان من قبيل السب و الاستهزاء، أم من قبيل الكلمات التي لا فائدة فيها إِلَّا سَلاماً حيث يسلم الملائكة عليهم، و يسلم بعضهم على بعض، و هذا الاستثناء منقطع، كأنه قال «لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما و لا يسمعون اللغو» و الاستثناء من باب المثال، و إلا فهناك يتكلم بعضهم مع بعض، أو المراد بالسلام كل كلام فيه سلامة من الباطل و اللغو و الإيذاء و ما أشبه، فالمراد «السلام» وصفا، لا لفظا وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها في تلك الجنات بُكْرَةً صباحا وَ عَشِيًّا مساء، فإن ذينك الوقتين، يتعارف فيهما الأكل لهم، و إلا فلهم ما يشتهون في كل وقت (أُكُلُها دائِمٌ) «1» ثم إنه لا عشاء هناك، إذ لا ليل، و إنما ذلك من باب التشبيه.

[64] تِلْكَ التي ذكرت أوصافها، بالخلود، و التعدد، و السلام، و وفرة

______________________________

(1) الرعد: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 453

[سورة مريم (19): الآيات 64 الى 65]

وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

الأرزاق، هي الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا أي نعطيه إرثا بعض عبادنا من مَنْ كانَ تَقِيًّا يتقي الكفر و الآثام، التي قلنا عنها «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» و إنما سمي إرثا، لأنه يأتي الإنسان بعقب أعماله في الدنيا، كما أن الإرث يأتي الإنسان بعقب موت قريب له، أما النسب فلا يجدي إرثه في دخول الجنة فقد ورث أولئك الأنبياء خلف أضاعوا الصلاة فلم ينفعهم النسب في إرث

الجنة.

[65] وَ ما نَتَنَزَّلُ نحن أهل الجنة محلا من الجنان إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فالمواضع هناك معينة، لأصحابها، لا يتمكن أحد من التخلف عن موضعه، و هذا من باب الالتفات من الغيبة إلى التكلم- حيث إن الكلام كان حول أهل الجنة، و إن المتقين هم الوارثون لها- و ما ذكرناه من أن الآية من كلام أهل الجنة هو الأنسب بالسياق، و هناك قول آخر، إن الآية حكاية عن كلام جبرائيل للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قال له: ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا أي أمامنا وَ ما خَلْفَنا أي ورائنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ أي المحل الذي نحن فيه، فإنه المالك المطلق للجنة، و لا ينزل أحد في موضع منها، إلا بإذنه و أمره وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ينسى لأحد مقامه، و ما يستحقه، بل يعطي كل واحد من الجنة المكان الذي هو بقدر عمله.

[66] إنه رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كما كان رب أمام الجنة و خلفها، و ما بينهما فهو المالك المطلق للكونين فَاعْبُدْهُ أيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 454

[سورة مريم (19): الآيات 66 الى 68]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)

الإنسان، أو أيها الرسول وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ على تحمل المشاق، و لا تكن كمن أضاع الصلاة، و اتبع الشهوات، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي من يسمى بكونه إلها- عن استحقاق- بمعنى أنه لا مثل له، حتى يعلم ذلك و يعبد معه

شريكا له.

[67] إنه هو الله الواحد الذي لا شريك له، له الأرض و السماء و الجنة، لكن الإنسان العاتي، لا يعترف بالمعاد، و يتعجب من أنه كيف يمكن إعادة الإنسان بعد الممات! وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ و المراد به هذا النوع، لأكل فرد منه أَ إِذا ما مِتُ «ما» زائدة، لتزيين الكلام لَسَوْفَ أُخْرَجُ من قبري حَيًّا على نحو الاستفهام الإنكاري.

[68] فرد عليه سبحانه بقوله أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ المنكر للمعاد أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي سابقا- قبل أن يكون هذا الكلام- وَ الحال أنه لَمْ يَكُ شَيْئاً فإن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة.

[69] فَوَ رَبِّكَ يا رسول الله لَنَحْشُرَنَّهُمْ نجمعهم للحساب يوم القيامة وَ الشَّياطِينَ نحشر الشياطين معهم، لنجمع بين القادة و الأتباع، بين من كان يوسوس في صدورهم بعدم البعث، و الذين اتبعوهم في الإنكار ثُمَ بعد الحشر لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ في أطرافها، في حال كونهم جِثِيًّا جمع جاثي، و هو الذي برك على ركبتيه، فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 455

[سورة مريم (19): الآيات 69 الى 71]

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)

هناك في صور مزرية مهانة مقترنين مع الشياطين، جاثين على الركب، تلفحهم نار الجحيم، كالمجرم الذي يجثو مع سائر المجرمين حول السجن، يرى الذل و الصفاد، و قد كان هذا جزائهم، حيث تكبروا في الدنيا، و لم يطيعوا الأوامر، و أنكروا المعاد.

[70] ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ لنستخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ من كل جماعة، شايعوا طريقة خاصة أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا «العتي» مصدر «كالعتو» و

هو التمرد و العصيان، أي نبدأ بالأعتى، فالأعتى، لنقلهم في جهنم أولا فأولا.

[71] ثُمَ هذا للتراخي في الكلام، لا في الزمان، و كأنه يأتى به للسياق و التناسب لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها أي بالنار صِلِيًّا الصلي مصدر صلى يصلي، يقال صلى اللحم يصليه صليا شواه و ألقاه في النار للطبخ و الإحراق، و مثله أصلاه و صلّاه، و المعنى أنه لا يجار على أحد هناك، بل إنما يصلى الكافر و العاصي حسب عملهما.

[72] وَ إِنْ مِنْكُمْ أي ما منكم أحد أيها البشر إِلَّا وارِدُها أي مشرف عليها، كما قال سبحانه: (وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) «1»، أي أشرف،

قال الصادق عليه السّلام: أما تسمع الرجل يقول، وردنا ماء بني فلان، فهو الورود و لم يدخل

«2»، أقول: و لعل ذلك باعتبار العبور من جهنم على

______________________________

(1) القصص: 24.

(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 291.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 456

[سورة مريم (19): الآيات 72 الى 73]

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73)

الصراط، فإن العابر يقال له الوارد، فمن عبر المدينة على مركوب له، يقال: ورد بلدة فلان كانَ عَلى رَبِّكَ ورود الجميع حَتْماً لازما مَقْضِيًّا قد قضاه و قدره.

[73] ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي، أو ظلموا غيرهم فِيها أي في النار جِثِيًّا باركين على ركبهم، يريدون النهوض، فلا يتمكنون، كما لا يقدرون على الاستراحة، فهم دائمو العذاب، و المراد ب «نذر» نلقيهم فيها، حتى يبقون في جهنم.

[74] إن الظالمين هناك مصيرهم

النار، كما عرفنا، فما كان عملهم، حتى استحقوا هذه النار؟ وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي الأدلة المنزلة في القرآن، أو مطلقا بَيِّناتٍ في حال كونها واضحات الدلالة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و الرسول، و ما جاء به لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين و الكافرين خَيْرٌ مَقاماً فهل مقامنا، و مالنا من الدنيا خير أم مقامكم و مالكم في الدنيا؟ وَ أينا أَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا، فإن الكفار يتفاخرون على المسلمين، بأنهم أحسن منهم حالا، فما حصل المؤمنون من إيمانهم؟ فلو كان الإيمان يقود الإنسان إلى السعادة فلما ذا نرى أن المؤمنين في ضنك و ضيق و الكفار في سعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 457

[سورة مريم (19): الآيات 74 الى 75]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75)

و رفاه؟ لكن هذه مغالطة، فالمؤمنون إنما هم في ضيق لمدة يسيرة و من جراء عدم تكالبهم على الدنيا، مع إن من المؤمنين منعمين في الدنيا، كما يرينا التاريخ، و سيجزون هنالك بأحسن و أفضل من دنيا الكافرين- بالنسبة إلى هذه الفترة الضيقة أيضا-.

[75] إن عاقبة الكفر لا بد و أن تكون الهلاك و الدمار، و أن تمشي في أيام قليلة على زخارف الدنيا و بهرجها وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للرسول مِنْ قَرْنٍ من الأجيال البشرية هُمْ أَحْسَنُ من هؤلاء المتبجحون القائلون «أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» أَثاثاً أي متاعا و زينة وَ رِءْياً أي منظرا و

هيئة، فإن الله الذي أهلك الأمم، التي كانت أكثر جمالا و مالا، قادر على هلاك هؤلاء، فليحدوا من كفرهم و كبرهم، و إلا كان مصيرهم مصير أولئك.

[76] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المتبجحين مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ و الكفر فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي فدعه لأن يسعفه الله سبحانه بالمال و العمر و سائر الأمور المرتبطة بالدنيا، و هذا تهديد في صورة الأمر، كما نقول «دع الله يمهل الظالم» نريد أنه و إن أمهل لمصلحة، فإن عاقبته لا بد و أن تكون إلى الخسار و الفناء، حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أي أمهلهم سبحانه، حتى جاء الوقت المقدر لأخذهم إِمَّا الْعَذابَ الذي يجعل لهم في الدنيا وَ إِمَّا السَّاعَةَ بأن ماتوا فقامت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 458

[سورة مريم (19): آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)

قيامتهم، و عذبوا في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حين أخذ الله لهم، إما بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً هل مكان المؤمنين الناجين شرا أم مكانهم في العذاب وَ من هو أَضْعَفُ جُنْداً هل جند المؤمنين أضعف أم الكافرين؟ إنهم هنالك يعرفون أيهما كان خير مقاما و أحسن نديا، و هذا كما تقول للطالب الكسول- الذي يضحك من جدك في الدرس- ستعرف لدى الامتحان أينا أحسن؟

[77] إن للمؤمنين العاقبة الحسنى، إما في الدنيا، أو في الآخرة، و للكافرين العاقبة السيئة، إما في الدنيا أو في الآخرة، و بالإضافة إلى العاقبة الحسنى، فالمؤمن يزداد هدى في هذه النشأة، و له الباقيات في تلك النشأة، فله ثلاث أقسام من الخير، بينما ليس للكافر إلا الدنيا المنغصة لذاتها فقط،

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى الإيمان و الإسلام هُدىً و رشادا، فإن الإنسان في الدنيا يحتاج في كل خطوة هداية و رشادا، و هكذا يأخذ الله بيد المهتدي في كل خطوة خطوة، ليزيده هداية وَ الْباقِياتُ أي الأعمال التي تبقى الصَّالِحاتُ مما قدمها الإنسان إلى آخرته خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً مما يصرفه الكفار في هذه الحياة من الملذات وَ خَيْرٌ مَرَدًّا أي عاقبة و منفعة، من رد بمعنى رجع، فإن ثواب ذلك أحسن من لذة الكفار، و إن ما يرجع الإنسان المؤمن إليه في الآخرة من عمله خير مما يرجع الكافر، و الحاصل أن الكافر إذا أنفق درهما في الخمر التذ هنا، و جوزي بالنار هناك، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 459

[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 79]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79)

المؤمن إذا أنفق درهما في الصدقة، كان ثواب درهم أكثر لذة من لذة الخمر للكافر، و جوزي هناك بالنعيم.

[78]

ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام: أن العاص بن وائل، كان يطلبه خباب ابن الأرت دينا، فأتاه يتقاضاه، فقال له العاص: ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى، قال: فالموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا «1»، فنزلت هذه الآيات

أَ فَرَأَيْتَ يا رسول الله، و هذه الجملة تستعمل للتعجب، أي هل رأيت كذا حتى تتعجب الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا و هو العاص وَ قالَ لَأُوتَيَنَ في الجنة مالًا وَ وَلَداً فقد كان الكفار

يزعمون أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فإن كانت هناك جنة فلهم النصيب الأوفر فيها.

[79] أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي هل اطلع هذا القائل على الغيب، فعرف أنه هناك، يعطى الأموال و الأولاد؟ و الأصل «أ أطلع» فلما دخلت همزة الاستفهام على الفعل الماضي من باب «الافتعال»- إذ الأصل «أتطلع» فأدغمت التاء في الطاء- سقطت همزة الوصل تخفيفا أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن صارت بينه و بين الله معاهدة، بأن له المال و الولد هناك؟

و إذا لم يكن أحد الأمرين، فمن أين يقول: «لأوتين مالا و ولدا»؟

[80] كَلَّا ليس الأمر على ما زعم، فإنه لا يعطى هناك مالا و ولدا،

______________________________

(1) المناقب: ج 1 ص 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 460

[سورة مريم (19): الآيات 80 الى 82]

وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

و سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ لنجازيه به في القيامة، و المراد أمر الحفظة بكتابة مقاله وَ نَمُدُّ لَهُ في الآخرة مِنَ الْعَذابِ مَدًّا فلا ينقطع عذابه، و إنما يمتد أبد الدهر.

[81] إنه هنالك لا يظفر بالمال و الولد، و ماله و ولده هنا أيضا، يترك لنا، فلا ينتفع بهما وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ أي ما يتلفظ به من المال و الولد، إذ هو قال: «لأوتين مالا و ولدا» وَ يَأْتِينا فَرْداً هو وحده، بلا شي ء يفيده مما جمعه و اتخذه هنا من أموال و أولاد، إن العاص مثال الإنسان العاتي، فكم له من أمثال من الكفار و المردة في هذه الحياة، أ رأيتهم حتى تأخذ العبرة منهم، و تقف على عقولهم المتحجرة و أدمغتهم البليدة؟

[82] و

من نقل كلامهم السخيف يعطف السياق نحو عقائدهم السخيفة وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله و سواه آلِهَةً المراد بذلك الجنس، أي اتخذوا هذا الجنس، حتى يشمل الفرد أيضا، فإن كلا من الجنس و الجمع، ينوب مقام الآخر- كما سبق- لِيَكُونُوا أي تلك الآلهة، و إنما جاء بلفظ العاقل، جريا على مزاعم القوم، فإنهم كانوا يطلقون عليها لفظ العاقل لَهُمْ أي لهؤلاء الكفار عِزًّا فقد كانوا يعتزون بالآلهة في الدنيا، و يظنون أنهم شفعاء لهم في الآخرة.

[83] كَلَّا ليس الأمر كما ظنوا، فليست الأصنام، إلا سبب ذلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 461

[سورة مريم (19): الآيات 83 الى 84]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

و انحطاطهم في الدنيا، و في الآخرة، أما في الدنيا فقد كشفت عن سخافة عقولهم، و أما في الآخرة ف سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ لهذه الآلهة، فإنهم هناك يحلفون (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1» وَ يَكُونُونَ هؤلاء المشركون عَلَيْهِمْ أي على تلك الآلهة ضِدًّا و معارضا، أو المراد أن الآلهة تكون جاحدة للمشركين، حيث يقولون: (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) «2» و أنهم يكونون ضدا للمشركين، كما قال سبحانه: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) «3».

[84] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ أي خلينا بينهم و بين الكفار ليسيئوا إليهم ما يشاءون، يقال لمن خلى بين كلبه و بين عدوه ليؤذيه: أرسل كلبه عليه، حيث كان بإمكانه أن يمنعه، فلم يمنعه تَؤُزُّهُمْ أي تزعجهم أَزًّا إزعاجا و تغريهم بالشر و العصيان، فكما قد فعلنا هذا بالكفار- جزاء إعراضهم عن

الحق- كذلك نفعل بهم في الآخرة، و نمدهم من العذاب مدا.

[85] فَلا تَعْجَلْ يا رسول اللّه عَلَيْهِمْ بأن تطلب لهم من الله العذاب، فإنهم مأخوذون لا محالة، و إنما التأخير ليزدادوا إثما إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أي نحسب أعمالهم عَدًّا تأكيد في العد، حتى نعطيهم جزاء عملهم في الآخرة.

______________________________

(1) الأنعام: 24.

(2) القصص: 64.

(3) البقرة: 167.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 462

[سورة مريم (19): الآيات 85 الى 88]

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88)

[86] و سيرون جزاؤهم في يوم القيامة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ أي نجمع المتقين الذين اتقوا الكفر و الآثام إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً و معنى إلى الرحمن إلى دار كرامته و فضله، و الوفد جمع وافد، بمعنى المشرف، و يستعمل في الجماعة التي تذهب من مكان إلى مكان.

[87] وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كالدواب التي تساق من خلفها، و المراد بالمجرم الذي أتى بالجريمة إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً حال من المجرمين، و الورد هي الجماعة التي ترد الماء، أي أنهم يردون جهنم، كالإبل العطاش التي ترد الماء.

[88] لا يَمْلِكُونَ أي لا يملك المجرمون الشَّفاعَةَ فلا يتمكنون أن يشفعون لغيرهم، و لا يتمكن أحد أن يشفع لهم إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني إلا الذين كانت بينهم و بين الله سبحانه، معاهدة، بأن يطيعه و يعطيه الجزاء الحسن، فإنه هو الذي يملك أن يشفع إذا كان صالحا، أو يشفع له إذا صدرت منه زلات، و الاستثناء منقطع، و التقدير لا يملك أحد الشفاعة إلا هؤلاء، أما المجرمون فلا يملكونها.

[89] و كيف يملك الشفاعة من جاهر الله

بالكفر و العصيان وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً بأن جعل المسيح، أو العزير، أو الملائكة ولدا له، كما تقول النصارى و اليهود و المشركون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 463

[سورة مريم (19): الآيات 89 الى 93]

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93)

[90] لَقَدْ جِئْتُمْ أيها القائلون بهذه المقالات شَيْئاً إِدًّا الإد الأمر العظيم، أي لقد قلتم بمقالة عظيمة القبح منكرة، فكيف يتخذ الله ولدا؟

[91] تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ أي يتشققن مِنْهُ من هذا الكلام، و المعنى لو كانت السماوات تنشق، و تخرق من قول منكر لكانت تنشق من هذا الكلام وَ كادت تَنْشَقُّ الْأَرْضُ تفطر و تتشقق وَ كادت تَخِرُّ الْجِبالُ أي تسقط على الأرض هَدًّا أي كسرا شديدا، فإن الهد الهدم بصوت شديد.

[92] كاد كل ذلك ل أَنْ دَعَوْا هؤلاء الكفار لِلرَّحْمنِ وَلَداً و معنى دعوا، أي سموا و جعلوا.

[93] وَ الحال أنه ما يَنْبَغِي أي لا يمكن لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فإن الولد الحقيقي غير معقول، و الولد بالتبني لا يصلح لأنه عبث لغو، و الحكيم منزه عن ذلك.

[94] إِنْ ما كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الأنس و الجن و الملائكة إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً فكيف يمكن للعبد أن يكون ولدا؟

و «آتي» هنا مثل قوله: (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «1» أي أنهم عبيد لله سبحانه

______________________________

(1) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 464

[سورة مريم (19): الآيات 94 الى 96]

لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ

آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)

تكوينا و خلقة، فليس له منهم أولاد.

[95] إن الجميع يأتون الله عبيدا ف لَقَدْ أَحْصاهُمْ الله سبحانه وَ عَدَّهُمْ عَدًّا فلا أحد منهم يتمكن أن لا يأتيه، و لعل الفرق بين الإحصاء و العد، إن الأول الحساب و الإحاطة بهم في الجملة، فإن الإحصاء بمعنى الضبط، و ذلك لا يلازم التعداد الدقيق.

[96] وَ كُلُّهُمْ أي كل من في السماوات و الأرض آتِيهِ يأتيه يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً غير متصل بعشيرته، و خدمه و أصدقائه، ممن كان كذلك، كيف يمكن أن يكون ابنا لله سبحانه، و هل الابن، إلا مكرم محترم، لا يعد في جملة العبيد، و لا يساق مساقهم؟

[97] إن الهول ليأخذ بنواد الإنسان حين يسمع هذا العد و الإتيان، فهل المؤمنون أيضا يقاسون هذا الهول و الوحشة؟ كلا! ف إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول العقائدية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، و قد ذكرنا سابقا أن ذلك يلازم- عرفا- عدم الإتيان بالسيئات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي سيحيطهم بالمودة و الحب، ففي الدنيا يحبهم الناس، و في الآخرة يحاطون بود الله سبحانه لهم، و ود الملائكة إياهم، و ود الشفعاء و الأنبياء و الأئمة لهم، و هل يستوحش من يحاط بمثل هذا الود؟ و ما ورد من تفسير الآية من إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ هو الإمام المرتضى، فهو من باب بيان المصداق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 465

[سورة مريم (19): الآيات 97 الى 98]

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ

أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

البارز، و إلا فالرسول، و سائر الأئمة، و الصديقة، و المؤمنون كلهم داخلون في هذا العموم.

[98] إن هذه البشرى للمؤمنين، و ذلك الإنذار للكافرين و القرآن ميسر بلسان العرب، ليعرفه من حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولا، ثم يحملوه إلى سائر الناس ثانيا فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي سهلنا القرآن لك حيث إنه بِلِسانِكَ و على لغتك، حتى تتمكن من التفهيم له بالنسبة إلى العرب المحيطين بك لِتُبَشِّرَ بِهِ بهذا القرآن الْمُتَّقِينَ تبشرهم بالجنة و الثواب وَ تُنْذِرَ بِهِ بسبب القرآن قَوْماً لُدًّا اللد جمع ألد، و هو المخاصم الشديد الخصومة، و القرآن مبشر لكل مؤمن، و إن لم يكن متقيا، و منذر لكل كافر، و إن لم يكن لدا، إلا أن البشارة الكاملة، و الإنذار الشديد للطائفتين.

[99] وَ أخيرا فليتذكر هؤلاء كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء القوم المكذبين مِنْ قَرْنٍ من أمم كذبوا الرسل هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل يقع أحد منهم تحت حاسة من حواسك، فتراهم، أو تلمسهم أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا، يعني أنهم ذهبوا و انقطعوا، حتى لا يرى لهم شخص، و لا يسمع لهم صوت، و يكون مصير هؤلاء كأولئك، عما قليل، فليبادروا إلى التوبة، لينالوا غفران الله تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 466

20 سورة طه مكية/ آياتها (136)

سميت السورة بهذا الاسم «طه» لافتتاحها بهذه اللفظة. و هي كسائر السور المكية تبين أصول الاعتقاد، في جو قصصي جذاب.

و حيث ختمت سورة «مريم» بإنزال القرآن «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ» افتتحت هذه السورة بذلك «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله، شعارا للمسلم، و تبركا بهذا الاسم الكريم، الذي هو المتفضل

بالرحمة لعباده المؤمنين و غير المؤمنين، كما قال سبحانه: (وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ) «1» و التكرار في الصفة للتأكيد على أنه سبحانه متصف بها، مقابل الذين زعموا أن الإله قاس غليظ، و هكذا عرّفوه للناس.

______________________________

(1) الأعراف: 157.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 467

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)

[2] طه فيه أقوال: منها أنه رمز بين الله و الرسول، و منها أن المراد: أن القرآن المعجز مؤلف من «طاء» و «هاء» و سائر حروف الهجاء، التي هي من جنسهما، و منها أنه اسم للرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

قال الصادق عليه السّلام: «و أما طه: فاسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معناه: يا طالب الحق الهادي إليه» «1».

[3] ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْقُرْآنَ لِتَشْقى الشقاء استمرار ما يشق على النفس، و السعادة عكسه، أي لم يكن نزول القرآن عليك لأجل شقائك و إنما لأجل سعادتك و راحتك.

فقد روي عن الإمام الكاظم عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام أنه قال: لقد قام رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورمت قدماه و اصفر وجهه، يقوم الليل أجمع، فقال الله عز و جل: «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به «2».

[4] إِلَّا تَذْكِرَةً أي إنما هو تذكرة و ذكرى لِمَنْ يَخْشى الله سبحانه، و التذكرة و التذكير مصدران لباب التفعيل، و إنما كان تذكرة لأن الأصول و الفروع

بصورتها الإجمالية كامنة في نفس كل إنسان.

[5] و قد نزل تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ و إنما كان تنزيلا لأن الله سبحانه أعلى مرتبة عن البشر فما يأتي منه تنزيل و إن لم يكن علو خارجي، أو باعتبار إتيان جبرائيل به من السماء وَ السَّماواتِ الْعُلى أي الرفيعة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 86.

(2) المستدرك: ج 4 ص 118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 468

[سورة طه (20): الآيات 5 الى 7]

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7)

العالية، و هو جمع العلياء، كالدنى جمع الدنيا، مؤنث الأعلى و الأدنى، فالذي خلق الكون هو الذي أرسل هذا المنهاج، فما أجدر به أن يتبع منهاج المالك العالم.

[6] و هو الرَّحْمنُ الذي يترحم و يتفضل فله الخلق و الرحم عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي استولى و هو كناية عن المالكية المطلقة، يقال جلس الملك على العرش أي استولى و سيطر على المملكة.

[7] لَهُ ما فِي السَّماواتِ ظرفا و مظروفا، و قد تقدم أنه قد يطلق أحدهما و يراد به الأمران وَ ما فِي الْأَرْضِ مما قرب منهما كالإنسان و الحيوان و النبات و الأنهار و غيرهما وَ ما بَيْنَهُما من الفضاء، و الهواء، و سائر الأشياء المتوسطة بينهما وَ ما تَحْتَ الثَّرى و هو التراب، و ما تحته كالمعادن و الكنوز و هذا لتأكيد كونه مالكا مطلقا لكل شي ء.

[8] و هو بالإضافة إلى كونه خالقا مالكا راحما مستوليا، عالما بكل شي ء وَ إِنْ تَجْهَرْ يا رسول اللّه أو كل من يأتي منه الجهر بِالْقَوْلِ بأن ترفع صوتك

بما تقول، و قد أطلق «تجهر» و أريد منه «إرادة الجهر» أي لا حاجة إلى الجهر في الدعاء فَإِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ السِّرَّ الذي يناجي به أحدنا غيره وَ أَخْفى من السر كالذي في الصدور من الأفكار و الوساوس، فقد خلق هو سبحانه جهر الكون و سره «و هو ما تحت الثرى» و يعلم جهر الصوت و سره و الأخفى من السر،

و قد روي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 469

[سورة طه (20): الآيات 8 الى 10]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10)

عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام: إن السر ما أخفيته من نفسك و أخفى منه ما خطر ببالك ثم نسيته «1».

[9] إن هذه كلها صفات ل اللَّهُ الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الأسماء الحسنة كالخالق و الرازق، و المنعم و ما أشبه، مقابل أسماء السوء كالظالم و الفاسق و الجائر و نحوها، و «حسنى» مؤنث أحسن، جي ء مؤنثا باعتبار الجمع.

[10] ثم يأتي السياق لعرض جانب من جوانب قصة موسى، فإن هذه القصة توافق المسلمين من بدء ولادة الإسلام إلى يوم الرجعة، فما أحوجهم بالتملي منها، و الاعتبار بها، و قد تكررت هذه القصة في القرآن بأساليب مختلفة و صور متنوعة، و الغالب الإشارة في كل قصة منها إلى جانب من الجوانب و بمناسبة من المناسبات وَ هَلْ أَتاكَ يا رسول اللّه حَدِيثُ مُوسى و هذا استفهام تقريري، نحو قول أحدنا لغيره هل سمعت بخبر فلان؟

[11] إِذْ رَأى ناراً

فإن موسى عليه السّلام لما فر من فرعون جاء إلى مدين و تزوج هناك بابنة شعيب، ثم استأذن شعيب في الخروج إلى أمه فخرج بأهله فلما وافى وادي طور و فيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و قد أضل الطريق و تفرقت ماشيته فرأى من جانب الطور ما يشبه النار حتى ظنها نارا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي الزموا مكانكم

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 4 ص 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 470

[سورة طه (20): الآيات 11 الى 13]

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)

قليلا إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرت نارا هناك، فإن الإيناس وجدان الشي ء الذي يؤنس به لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها من تلك النار بِقَبَسٍ شعلة أقتبسها و آخذها لندفأ و نصطلي أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي أجد على النار هاديا يدلني على الطريق، فإن النار غالبا لا تخلو من أهل عند ما أشعلوها.

[12] فَلَمَّا أَتاها أي جاء موسى إلى النار وجدها تتقد في شجرة نُودِيَ من طرف الشجرة يا مُوسى

[13] إِنِّي المتكلم معك أَنَا رَبُّكَ و قد علم موسى صدق الكلام لخوارق ظهرت عند ذلك مما دلت على أن النداء ليس إلا من جانبه سبحانه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي انزعهما، فإن الإنسان إذا أراد أن يمشي في محل مقدس كان من الاحترام أن يمشي حافيا إِنَّكَ يا موسى بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المنزه عن الأنجاس طُوىً اسم الوادي، أو لأنه طوي بالقدس مرتين، مرة بتقديس الأرواح و اصطفاء الملائكة، و مرة باصطفاء موسى، و تكليم الله معه،

فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم إنه سئل عن الوادي المقدس؟ فقال: لأنه قدست فيه الأرواح و اصطفيت فيه الملائكة، و كلّم الله عز و جل موسى تكليما «1».

[14] وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ أي اصطفيتك للرسالة فَاسْتَمِعْ يا موسى

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 471

[سورة طه (20): الآيات 14 الى 15]

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15)

لِما يُوحى إليك من كلامه، فاصغه و اعمل به.

[15] و لما استعد موسى عليه السّلام للاستماع أوحى إليه الله قائلا: إِنَّنِي المتكلم معك أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فلا شريك لي و لا مثيل فَاعْبُدْنِي أي ائت برسوم العبودية لأجلي خالصا وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ائت بها كاملة بآدابها و شروطها لِذِكْرِي لأن تذكرني بالتسبيح و التحميد و التكبير و التهليل و التمجيد، فإن الصلاة إنما شرعت لكونها ذكر الله سبحانه.

[16] هذا حول المبدأ، أما المعاد إِنَّ السَّاعَةَ يوم القيامة الذي يحشر فيه الخلائق آتِيَةٌ لا محالة أَكادُ أُخْفِيها قد يعبر بهذا التعبير لبيان أن الشي ء ظاهر و لكن المتكلم يريد إخفاءه، يقول أكاد أخفي قلمي- فيما إذا كان ظاهرا- و قد يعبر لبيان أن الشي ء ظاهر قريب بإخفاء، فهو كالشي ء الذي يراد إخفاءه، ليس ظاهرا كل الظهور، و لا مخفيا كل الإخفاء، و الظاهر أن هذا المعنى هو المراد هنا، إذ الساعة بين الظهور و الخفاء، فأصلها ظاهر، و وقتها مخفي، و إنما يراد إخفاءها بهذا المقدار لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى فإن الساعة لو كانت ظاهرة لكل أحد لم يكن سعي الناس في الطاعة إلا خوفا

من العاقبة الحتمية المعلومة لديهم، أما إذا كانت مخفية- و لو في الجملة- كان الجزاء حسب السعي الطبيعي، لا السعي الجبري، و قد كان من حكم إخفاء الساعة إن الإنسان لا يدري متى تأتي فهو بين خوف و رجاء، ألا ترى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 472

[سورة طه (20): الآيات 16 الى 18]

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18)

أن الموت لو كان معلوم الوقت، كان هذا العالم بغير هذا الشكل الذي نراه إذ وقف من قرب أجله عن العمل، و غلا من بعد في الإسراف و التبذير، و هكذا، و معنى بما تسعى: ما تعمل من خير أو شر.

[17] فَلا يَصُدَّنَّكَ لا يمنعنك يا موسى عَنْها عن الساعة، و المراد عن الاستعداد و التهيؤ لها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها بأن يوسوس إليك لتترك التهيؤ و العمل لأجلها وَ اتَّبَعَ هَواهُ بأن عمل حسب ما يشتهيه لا حسب ما ينقذه عند الساعة فَتَرْدى أي تهلك كما هلك الذي لا يؤمن.

[18] ثم خاطبه سبحانه بقوله: وَ ما تِلْكَ ما هذا الشي ء الذي بِيَمِينِكَ في يدك اليمنى يا مُوسى و قد علم الله ما في يده، و لذا قال ما تِلْكَ بالإشارة إلى المؤنث رعاية لكون العصا مؤنثة، و إنما أراد توجيه موسى عليه السّلام إليها، ليوقع المعجز بها.

[19] قالَ موسى عليه السّلام في الجواب هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أعتمد عليها في مشيي، فإن التوكؤ بمعنى التحامل على العصا في المشي، و التوكؤ و الاتكاء بمعنى واحد، كالتوقي

و الاتقاء وَ أَهُشُّ بِها و الهش ضرب ورق الشجر ليتساقط، أي أسقط بها ورق الشجر عَلى غَنَمِي أي لغنمي، و حيث إن الورق يقع من فوق على الغنم جي ء ب «على» وَ لِيَ فِيها في العصا مَآرِبُ جمع مأرب و هي الحاجة أُخْرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 473

[سورة طه (20): الآيات 19 الى 22]

قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22)

و إنما جاء المفرد صفة الجمع، باعتبار الجماعة، كصرد السباع، و محاربة اللصوص، و تركيزها لإلقاء شي ء عليها وقاية من الشمس و غيرها.

[20] قالَ الله سبحانه أَلْقِها أي اطرح العصا يا مُوسى

[21] فَأَلْقاها موسى فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى أي فإذا بها انقلبت حية و أخذت تمشي سريعا.

[22] و لما رأى موسى عليه السّلام إنها انقلبت حية خاف منها خوفا شديدا ف قالَ الله سبحانه خُذْها أي الحية وَ لا تَخَفْ منها أن تلدغك سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سنرجعها إلى حالتها المتقدمة، فتقلب عصا كما كانت، و السيرة: الطريقة، و استعمالها بمعنى الحالة مجاز من باب التشبيه. فإن الحالة للشي ء كالطريقة المستمرة له.

[23] وَ اضْمُمْ يَدَكَ يا موسى إِلى جَناحِكَ الجناح هو اليد، سميت به تشبيها بجناح الطائر، أي ضع يدك تحت إبطك، ثم أخرجها فإنها تَخْرُجْ بَيْضاءَ تشرق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير عاهة و مرض فليس بياضها من قبيل بياض البرص، ففعل موسى عليه السّلام ذلك، و إذا بيده كالشمس الطالعة تضي ء لها الدنيا، و كان إذا أراد إرجاعها كالسابق، أدخلها تحت إبطه ثانيا فإذا

أخرجها كانت كالحالة السابقة آيَةً أُخْرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 474

[سورة طه (20): الآيات 23 الى 28]

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27)

يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)

أي علامة ثانية على صدق دعواك النبوة و نصب «آية» على تقدير: نزيدك بها، أو تقدير تخرج بها.

[24] و لِنُرِيَكَ يا موسى في المستقبل، أي نجري يديك مِنْ آياتِنَا حججنا و براهيننا الْكُبْرى أي الآية الكبرى.

[25] و إذ زودناك بهذه الآيات ف اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ فادعه إلي إِنَّهُ طَغى تجبر و تجاوز الحد، من الطغيان.

[26] قالَ موسى عليه السّلام عند ذلك يا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي و شرح الصدر توسعته، و هو كناية عن عدم الضجر بالتكذيب، و ذلك لأن المتضجر تشتد فيه الحرارة، فتنتفخ رئته أكثر من المعتاد لتجذب الهواء المبرد للقلب أكثر، و بانتفاخها يضيق الصدر، لأنها فيه.

[27] وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل لي أمر التبليغ، حتى لا يكون عسيرا لدي.

[28] وَ احْلُلْ أي فك عُقْدَةً مِنْ لِسانِي فقد كان موسى عليه السّلام يعقد لسانه في الكلام، فدعا الله سبحانه أن يحل هذه العقدة من لسانه لئلا يقع في معرض الاستهزاء.

[29] و ل يَفْقَهُوا أي يفهم فرعون و حاشيته قَوْلِي كلامي. و

قد روي عن الباقر عليه السّلام أن فرعون كان يقتل أولاد بني إسرائيل كلما يلدون و يربي موسى عليه السّلام و يكرمه و لا يعلم أن هلاكه على يديه، و لما درج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 475

[سورة طه (20): الآيات 29 الى 32]

وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30)

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)

موسى كان يوما عند فرعون فعطس، فقال: الحمد لله رب العالمين فأنكر فرعون ذلك عليه و لطمه، و قال: ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته و كان طويل اللحية فهبلها، أي قلعها فآلمه ألما شديدا، فهمّ فرعون لقتله، فقالت له امرأته: هذا غلام حدث لا يدري ما يقول فقال فرعون: بلى يدري، فقالت له: ضع بين يديك تمرا و جمرا فإن ميز بين التمر و الجمر فهو الذي تقول، فوضع بين يديه تمرا و جمرا و قال له: كل فمد يده إلى التمر فجاء جبرائيل فصرفها إلى الجمر فأخذ الجمر في فيه فاحترق لسانه و صاح و بكى، فقالت آسية لفرعون: ألم أقل لك إنه لم يعقل؟ فعفا عنه. أقول: و من هنا كان في لسان موسى شبه العقدة، فلا يتمكن أن يتكلم إلا و يعقد لسانه، حتى دعا الله، فرفع عنه.

[30] وَ اجْعَلْ لِي يا رب وَزِيراً مِنْ أَهْلِي يعاضدني و يساعدني في الدعوة، و ليكن من أهلي، لأن الأهل أعطف على الإنسان من الأجنبي و أقرب إلى الانسجام و الألفة.

[31] هارُونَ أي ليكن ذلك الوزير هارون أَخِي و كان أخاه لأبيه و أمه، و كان بمصر.

[32] اشْدُدْ بِهِ أي قوّ بسبب هارون أَزْرِي أي ظهري، و منه المئزر لما يشد على الظهر.

[33] وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجمع بيني و بينه في النبوة ليكون هو نبيا أيضا، و هذا غير كونه وزيرا له، و إنما طلبه لأن النبي له أقوى داع إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 476

[سورة طه (20): الآيات 33 الى 38]

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ

كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37)

إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38)

الهداية بخلاف مجرد الوزير.

[34] إن الدعوة تحتاج إلى عبادة كثيرة توجب قوة الصلة بالله سبحانه حتى يتمكن الإنسان بتلك الصلة القوية أن يحمل المشاق، و كثرة العبادة تتأتى لمن له معاون و شريك، لأن النفس تنشط عند الاجتماع في العمل بما لا تنشط عند الانفراد، فمهمة الدعوة تحتاج إلى شريك يقوم بمساعدة الإنسان لتهيئة النفس و تربية الروح، و لذا قال عليه السّلام: كَيْ نُسَبِّحَكَ يا رب كَثِيراً فننزهك عما لا يليق بك.

[35] وَ كي نَذْكُرَكَ كَثِيراً حتى تشتد الصلة و يكون الله هو المتجلي الوحيد في النفس.

[36] إِنَّكَ يا رب كُنْتَ بِنا بَصِيراً فتعلم احتياجنا إلى هذه الأشياء، مما لا تتأتى إلا بالوزير الظهير.

[37] قالَ الله سبحانه، في جواب طلبات موسى عليه السّلام قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي سؤالك و طلبك يا مُوسى فقد حلت عقدة لسانك، و جعلنا هارون نبيا و وزيرا لك.

[38] وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ يا موسى مَرَّةً أُخْرى غير هذه المرة التي مننا عليك فيها بالنبوة و إجابة الدعاء.

[39] و تلك المنة و النعمة عليك كانت في حال صغرك إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمناها ما يُوحى أي المطلب الذي كان من شأنه أن يلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 477

[سورة طه (20): آية 39]

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)

إليها لنجاتك.

[40] و كان الإلهام أَنِ اقْذِفِيهِ أي اطرحي أيتها الأم ولدك موسى فِي التَّابُوتِ و هو صندوق من

خشب، ثم سدي رأس التابوت حتى لا يدخل فيه الماء فَاقْذِفِيهِ اطرحي التابوت فِي الْيَمِ أي البحر، و هو البحر الأحمر الموجود في مصر، ثم يحمل التابوت الماء، حتى يصل قرب الساحل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ و هو شاطئ البحر، ثم ماذا؟ يَأْخُذْهُ أي يأخذ التابوت عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ و هو فرعون فقد كان عدوا لله سبحانه و عدوا لموسى بالذات، حيث إنه قرأ و علم إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون على يده ذهاب ملكه، فأمر أن يقتل الأولاد الذين يولدون في بني إسرائيل، و من خوف القتل، صنعت أم موسى تابوتا، و جعلته فيه، و قذفته في البحر، لئلا ترى قتل ولدها، و ليصنع معه ما شاء وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ يا موسى مَحَبَّةً مِنِّي أي من جانبي، حتى أن كل من يراك أحبك حتى أن فرعون بمجرد ما رآه أحبه، و لم يقتله وَ لِتُصْنَعَ اللام جارة، لا لام الأمر، و إن مقدّرة، و لذا نصب الفعل، أي ولعة أن تصنع و تربى عَلى عَيْنِي تحت رقابتي و بمرأى مني، ألقيت عليك محبة، فإن المحبة موجبة للرعاية التي كنى عنها ب «لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» إذ بين العناية و الرعاية و بين النظر تلازم السبب و المسبب، إذ رؤية الإنسان لأحد و كونه تحت نظره، موجب لرعايته، و كلمة «على عيني» تشمل على الاحترام،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 478

[سورة طه (20): آية 40]

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)

و

الحفظ في أعز الأماكن، فإن الاحترام مستفاد من لفظة «على» و بناء على ما ذكر فجواب «لتصنع» محذوف لدلالة الجملة السابقة عليه.

[41] إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ الظرف متعلق بتصنع، أي كان ذلك في زمان مشي أختك، أو لأجل أن تصنع على عيني قدرنا مشي أختك فَتَقُولُ أختك لآل فرعون، حيث أرادوا لك مرضعة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ يقوم بشؤونه؟ فَرَجَعْناكَ يا موسى إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برؤيتك و حياطتك، و قرار العين كناية عن السرور، مقابل الواله الذي تطير عينه هنا و هناك وَ لا تَحْزَنَ لا يحزن قلبها، فيضفي رجوعك عليها الهدوء و السكينة في ظاهرها و باطنها.

ورد أن موسى لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعه، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط تحفظهن، و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل قولهم: أنه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يديه، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس، فلما وضعت أم موسى بموسى، نظرت إليه و حزنت و اغتمت و بكت، و قالت: يذبح الساعة فعطف الله بقلب الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قوله «و ألقيت عليك محبة مني» فأحبته القبطية الموكلة به، و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت: ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليم، و هو البحر و لا تخافي

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 479

و لا تحزني إنا رادوه إليك و جاعلوه من المرسلين، فوضعته في التابوت و أطبقت عليه و ألقته في النيل، و كان لفرعون قصور على شط النيل منزهات، فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج، و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصره، فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه، فلما فتحه وجد فيه صبيا، فقال: هذا إسرائيلي، فألقى الله في قلب فرعون لموسى محبة شديدة و كذلك في قلب آسية، و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و هم لا يشعرون أنه موسى، و لم يكن لفرعون ولد فقال: ادنوا له ظئرا لتربيته، فجاءوا بعدة نساء قد قتل أولادهن فلم يشرب لبن أحد من النساء و هو قول الله تعالى: (وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) «1» و بلغ أمه أن فرعون قد أخذه فحزنت و بكت كما قال الله تعالى: وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قال: كادت أن تخبر بخبره أو تموت ثم حفظت نفسها فكانت كما قال الله: لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين، ثم قالت لأخته: قصيه، أي اتبعيه، فجاءت أخت موسى إلى قصر فرعون، فبصرت به عن جنب أي عن بعد و هم لا يشعرون، فلما لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتم فرعون غما شديدا، فقالت أخت موسى: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم و هم له ناصحون؟ فقالوا: نعم.

فجاءت بأمه فلما أخذته بحجرها، و ألقمته ثدييها التقمه و شرب، ففرح فرعون و أهله و أكرموا أمه، فقال

لها: ربيه لنا فإنا نجزيك خيرا، و قد كان الفصل بين إلقاء الأم لموسى في البحر ورده إليها

______________________________

(1) القصص: 13. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 480

[سورة طه (20): آية 41]

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)

ثلاثة أيام

«1» وَ قَتَلْتَ يا موسى نَفْساً من القبط، فقد كان في مصر طائفتان، القبط و هم قوم فرعون، و الإسرائيليون و هم أحفاد يعقوب، و كان القبط كفارا و الإسرائيليون مسلمون حيث ورثوا الدين و الإسلام عن آبائهم، فقد قال لهم يعقوب حين موته: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) «2» فمر موسى ذات يوم على رجلين أحدهما قبطي و الآخر إسرائيلي يتشاجران فاستغاث بموسى الإسرائيلي، و هناك تقدم موسى و ضرب القبطي ضربة مات منها فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ حيث أمرناك و ألهمنا إليك أن تفر من مصر لئلا يقتلك فرعون، فقد جاءه آت ليقول له: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) «3» وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك اختبارا، و ابتليناك ابتلاء من الخوف في مصر، ثم قتل القبطي، ثم الفرار من الوطن واجلا خائفا ثم غير ذلك من أنواع المصائب، التي تؤهل الإنسان للقيام بالمهام فبعد ذلك كله فَلَبِثْتَ و بقيت سِنِينَ عشرة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند شعيب النبي عليه السّلام حيث تزوج موسى بابنته، و مدين على ثمان مراحل من مصر- كما في الصافي- ثُمَ بعد تلك الامتحانات و المشاق جِئْتَ عَلى قَدَرٍ بتقدير من الله، لإنجاز المهمة و أداء الرسالة يا مُوسى فلتتذكر النعم، و لتستعد للرسالة.

[42] وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي فأنت مصنوع لأجل العمل لله وحده، فلا شي ء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 25.

(2) البقرة: 133.

(3) القصص: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص:

481

[سورة طه (20): الآيات 42 الى 45]

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)

منك للدنيا أو لأهلك. و إنما خالص محض للرسالة و التبليغ.

[43] اذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ أَخُوكَ أي و ليذهب أخوك هارون، مثل «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» أي نحن بما عندنا راضون، و أنت بما عندك راض بِآياتِي أي مصاحبين للأدلة و البراهين الدالة على صدقكما في دعوى النبوة وَ لا تَنِيا من ونى يني، بمعنى الضعف و الفتور فِي ذِكْرِي أي لا تضعفا في أداء رسالتي، بل بلغا بكل جد و اهتمام.

[44] اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ كرر الأمر بالذهاب، توطئة لذكر المتعلق- و هو فرعون- إِنَّهُ طَغى تجاوز الحد في الظلم و الاعتداء.

[45] فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً أي أرفقا به في الدعوة و لا تغلظا له في البلاغ و الإرشاد لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ نعم الله عليه التي قد نساها أَوْ يَخْشى عذاب الله، فيؤمن شكرا، أو حذرا، و الرفق و اللين يؤثران بما لا يؤثر الغلظة و الخشونة.

[46] قالا أي قال موسى و هارون عليه السّلام يا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يتقدم فينا بعذاب و يعجل علينا، من فرط بمعنى تقدم، و منه يسمى الإسراف إفراطا لأنه تقدم على الحق أَوْ أَنْ يَطْغى بأن تصير دعوتنا له سببا لطغيانه بأن يكثر من الاجرام، كما هو عادة المتجبرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 482

[سورة طه (20): الآيات 46 الى 48]

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى

(46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48)

إذا ذكّروا بالحق ازدادوا تجبرا و عتوا.

[47] قالَ الله عز و جل لهما لا تَخافا من فرطه أو طغيانه إِنَّنِي مَعَكُما بالعلم و الاطلاع أسندكما و أحفظكما أَسْمَعُ حواركما و إياه وَ أَرى مجلسكما و مجلسه، فألهمكما مما لا يسبب طغيانه و غلوائه، و أمنعه من أن يطغى.

[48] فَأْتِياهُ أي اذهبا إليه فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أرسلنا إليك خالقك و إلهك فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي بلغاه هذه الرسالة من طرفي، و هي أن يطلق سراح بني إسرائيل، و يجعلهم أحرارا كما يشاءون حتى ب تحت لواء موسى و هارون وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالاستعمال في الأعمال الشاقة، فقد كانت بنو إسرائيل تحت تعذيب فرعون و أسره، فكان منهم الأسراء في السجون، و منهم المسخر في أعمال البناء، و منهم المسخر في سائر الشؤون الشاقة المتعبة قَدْ جِئْناكَ أي أتينا إليك يا فرعون بِآيَةٍ حجة و برهان مِنْ رَبِّكَ تدل على صدقنا و صحة دعوانا النبوة، و المراد بالآية الجنس لتشمل العصا و اليد و غيرهما وَ السَّلامُ أي السلامة من عذاب الله عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى و لم يتبع الهوى، فإن اهتديت سلمت من بأس الله و إلا كنت معرضا للخطر.

[49] إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من قبل الله سبحانه أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 483

[سورة طه (20): الآيات 49 الى 52]

قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ

ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52)

بآيات الله وَ تَوَلَّى أي أعرض عن الهداية، فإن كذبت و توليت كان لك العذاب و النكال، و إلا آمنت و سلمت.

[50] قالَ فرعون لهما فَمَنْ رَبُّكُما و لم يقل ربي لأنه لم يكن يعترف به يا مُوسى و جعل الخطاب لموسى لأنه هو المتكلم، و قد أراد فرعون السؤال عن جنس الله هل هو بشر أو غيره؟ لكن موسى أجاب ببيان صفات الله سبحانه، لأن الله لا يعرف كنهه.

[51] قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ فخلق هذه الأشياء كلها منه، و المراد بالخلق الوجود، لأنه سبب للوجود ثُمَّ هَدى أي هداه طريقه في الحياة كيف يبقى و يعيش، فقد هدى الله الأشياء إلى طرقها الفطرية الطبيعية إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم جمادا، و إن كانت الهداية في النبات و الجماد على ضرب من التوسع.

[52] قالَ فرعون، موجها لموسى عليه السّلام سؤالا ثانيا فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى أي ما شأن الأمم الماضية، فأين ذهبت؟ و ماذا مصيرها؟ و من كان ربها فقد هلكت، و لا تعرف لها ربا؟ و لعله أراد بذلك أن يقول أن هذا القرن كتلك القرون، فهي كما عاشت لا تعترف بالرب كذلك هذا القرن، فما هذا الذي جئتم به؟

[53] لكن موسى عليه السّلام لم يكن ليشغل نفسه بالبحث حول أولئك، فإنه أمر لا يرتبط بالدعوة فعلا، و قال أرباب المناظرة، أن من عدم الفطنة أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 484

[سورة طه (20): آية 53]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)

يشغل الإنسان نفسه بما لا يرتبط بمبحثه في الصميم، و لذا قالَ عليه السّلام عِلْمُها أي علم تلك القرون عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي لذلك الكتاب، أو لا يخطئ في أمر تلك القرون وَ لا يَنْسى ما فيه، يعني أن الله سبحانه هو العالم بشؤون تلك الأمم و قد أثبت شؤونها في كتاب خاص لا يتطرق إليه الضلال، و لا الغلط.

[54] ثم رجع موسى عليه السّلام إلى صميم الموضوع و هو التعريف بإله الكون بذكر صفاته و آثاره، فإن ربي هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً كالمهد للطفل الذي يستقر فيه و يكون سببا لراحته و صحته وَ سَلَكَ لَكُمْ السلك هو إدخال الشي ء في الشي ء أي أدخل لأجلكم فِيها أي في الأرض سُبُلًا جمع سبيل، أي طرقا لسيركم من محلكم إلى مقصدكم.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لشربكم و التمتع به في سائر حوائجكم، ثم التفت السياق من الغيبة إلى التكلم، بإتيان جملة خارجة عن كلام موسى، لينتقل بالناس من محيط القصة إلى المشافهة و المشاهدة، و ذلك أبلغ تأثيرا في نفس السامع، كما وقع مثله في سورة الحمد فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى جمع شتيت، كمرضى جمع مريض، و المراد بالنبات الجنس و لذا وصف بالجمع، نحو «الدرهم البيض» و النباتات مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الروائح و الخواص و الأوزان و غير ذلك، فمن يا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 485

[سورة طه (20): الآيات 54 الى 57]

كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها

نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57)

ترى جعل كل ذلك؟ أم من يقدر على أن يخرج هذا المختلف العجيب الاختلاف من أرض واحدة و ماء واحد.

[55] كُلُوا أيها البشر من هذا النبات المختلف وَ ارْعَوْا فيها أَنْعامَكُمْ أي أسيموهم حيواناتكم إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من آيات الله سبحانه لَآياتٍ دلالات على وجود الله و علمه و قدرته لِأُولِي النُّهى جمع نهية و هي العقل، و إنما قيل له نهية، لأنه ينهى الإنسان عن الفساد، أي أن أصحاب العقول يعتبرون بهذه الآيات و يستدلون بها على وجود الله سبحانه.

[56] مِنْها من الأرض المتقدمة في قوله «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» خَلَقْناكُمْ فإن كل إنسان أوله تراب ثم ينقلب نباتا يأكله الإنسان- أو الحيوان الذي يأكله الإنسان أيضا- فيصير منيا ثم إنسانا وَ فِيها نُعِيدُكُمْ إعادة، إذ الإنسان بعد ما يبلى ينقلب ترابا وَ مِنْها من الأرض نُخْرِجُكُمْ تارَةً أي مرة أُخْرى للحساب و الجزاء و ذلك يوم القيامة.

[57] وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ أرينا فرعون آياتِنا الدالة على صدق موسى و هي المعجزات التسع كُلَّها كل الآيات التي زود بها موسى دلالة لصدقه فَكَذَّبَ فرعون بجميعها وَ أَبى أي امتنع أن يؤمن و يصدق.

[58] و لما أفحم فرعون لم يجد بدا من أن يتوسل بالكذب و الافتراء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 486

[سورة طه (20): الآيات 58 الى 59]

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)

و الجدال بالباطل، كما هو عادة كل مبطل

قالَ مخاطبا لموسى أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى هل تريد أن تخرجنا من أرض مصر؟ و لم يرد موسى ذلك و إنما أراد أن يبهته فرعون ليجلب أهواء الناس إلى نفسه، مبينا أن موسى لو سيطر أخرجنا من بلادنا ليعطي أزمتها بيد قومه بني إسرائيل.

[59] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي مثل سحرك ليعرف الناس إنك كاذب، و إنما تريد أن تتوصل بواسطة السحر إلى الملك و الرئاسة فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وقتا خاصا و مكانا خاصا ليأتي كل فريق بسحره حتى يظهر لمن الغلبة في ذلك لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ أي لا يقع من أحد منا خلف في حضور ذلك المكان مَكاناً سُوىً أي منتصفا بيننا و بينك فلا يكون أقرب إليك و لا إلينا، و كأنه كان لموسى مكانا خاصا في مصر يقاس المحل بالنسبة إليه كما يقاس بالنسبة إلى قصر فرعون، و «مكانا» إما عطف بتقدير الواو، لو أريد من الموعد الزمان، و إما بدل بعض عن كل لو أريد من الموعد الأعم.

[60] قالَ موسى عليه السّلام مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ فقد كان لهم يوم يسمى يوم الزينة، لأن الناس يتزينون فيه و يزينون الأسواق وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ أي يجمع الناس ليشاهدوا أينا أصدق، قالوا و قد جرت عادتهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 487

[سورة طه (20): الآيات 60 الى 62]

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62)

أن يجمع الناس في يوم الزينة في محل خاص، و لذا لم يتعرض للمكان لمعلومية المحل من

حشر الناس ضُحًى أي وقت ارتفاع الشمس في ذلك اليوم لئلا يلتبس عليهم الأمر بواسطة الظلمة، و قد جعل يوم الزينة، لأن الناس فيه مستعدون و لا يشتبه من لا يعرف الحساب وقته.

[61] فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف عن المجلس على هذا الموعد فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي كل ما قدر عليه من المكر، و ذلك بجمع السحرة من أطراف مملكته ثُمَّ أَتى إلى الموعد، في يوم الزينة.

[62] و لما اصطف الجانبان، فرعون و السحرة و ملأه، و موسى و هارون و من معهما قالَ لَهُمْ أي لأولئك الذين جاءوا لمبارزته مُوسى وَيْلَكُمْ هي كلمة وعيد و تهديد أي ألزمكم الله العذاب و النكال بسبب ما قصدتم من إبطال آيات الله، و ما جئتم به من السحر لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تجعلوا له شريكا، أو تنسبوا معجزاته إلى السحر، فإنه افتراء على الله الذي زودني بهذه المعجزات.

فَيُسْحِتَكُمْ أي يهلككم، فإن سحت و أسحت بمعنى أهلك بِعَذابٍ من عنده يأخذكم و يفنيكم وَ قَدْ خابَ أي خسر مَنِ افْتَرى على الله الكذب و نسب إليه باطلا، و إنما يخسر دنياه و آخرته.

[63] و قد ألقى موسى عليه السّلام هذا الكلام مقدمة للشروع في المباراة، لعلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 488

[سورة طه (20): الآيات 63 الى 64]

قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

يتعظون و لا يعرضون أنفسهم للخطر و الهلاك، و قد أحدث هذا الكلام بين صفوف القوم شقا و تنازعا فصار بعضهم مع موسى و بعضهم مع فرعون، و أخذوا يتناجون بينهم هل يصدق موسى عليه

السّلام أم لا؟ و هكذا تأخذ البليغة مكانتها في النفوس، و إن لم تؤثر في الإتباع حالا فَتَنازَعُوا أي تنازع أصحاب فرعون، في أَمْرَهُمْ و أخذ كل قسم منهم طرفا من طرفي موسى و فرعون بَيْنَهُمْ جي ء بهذه اللفظة، لئلا يسبق إلى الذهن كون التنازع كان بين الجانبين وَ أَسَرُّوا النَّجْوى أي أخذ بعضهم يناجي الآخر سرا حول موسى و أنه هو صادق أم لا؟

[64] و أخيرا أخذ أصحاب فرعون يؤيدون كلام فرعون و يحركون الناس من جهة العاطفة ليقووا به قلوب المترددين قالُوا إِنْ أي نعم- كما قال فرعون: أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك- هذانِ موسى و هارون لَساحِرانِ فما العصي و اليد إلا سحرا يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ أيها الأقباط مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما فإنهم لو غلبوا أخرجوا كل مخالف لهم عن البلاد المصرية وَ يريدان أن يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي طريقة دينكم، لتكونوا متدينين مثلهما و تتركوا طريقة آبائكم و «المثلى» مؤنث الأمثل، أي الأفضل و الأحسن.

[65] ثم قالوا للمترددين منهم فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فلا تدعوا شيئا منه إلا جئتم به ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا واحدا، بلا تفرق، و ليس المراد الإتيان في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 489

[سورة طه (20): الآيات 65 الى 66]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)

المستقبل و إنما المراد أن يكونوا صفا واحدا وقت المباراة، فإن التفرقة تضر الحركة بقدر ما تنفع الطرف المقاتل وَ قَدْ أَفْلَحَ و فاز الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي من قد غلب و علا من جانبنا أو جانب موسى عليه السّلام فلا تفوتنكم الفرصة.

[66]

و بعد توحيد الصفوف، و تقوية قلوب المترددين بهذه الكلمات و أمثالها، توجهت السحرة نحو موسى عليه السّلام قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نحن أَوَّلَ مَنْ أَلْقى سحره ثم تلقي أنت؟

[67] قالَ موسى عليه السّلام بَلْ أَلْقُوا أنتم ما معكم و لعل أمره بابتدائهم لإشعار المجتمع بعدم الاكتراث بهم، فإن الإنسان الذي يطمئن من نفسه، لا يهمه تقدم غيره عليه، و امتثل السحرة و ألقوا ما معهم فَإِذا حِبالُهُمْ جمع حبل وَ عِصِيُّهُمْ جمع عصي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي إلى موسى مِنْ سِحْرِهِمْ أي من أهل سحر السحرة أَنَّها تَسْعى فكان سعيها خيالا لا حقيقة، و في آية أخرى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) «1» و كان الإتيان ب «يخيل إليه» نسبة إلى موسى عليه السّلام بيان عظمة السحر، حتى أنه أثر في موسى النبي عليه السّلام، و خيل إليه كما تريد ذلك الآية التالية أيضا.

______________________________

(1) الأعراف: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 490

[سورة طه (20): الآيات 67 الى 70]

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70)

[68] فَأَوْجَسَ فأحس فِي نَفْسِهِ خِيفَةً خوفا من تلك الحبال و العصي مُوسى فاعل أوجس،

و روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام: لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال و دول الضلال «1»

[69] قُلْنا لموسى حين خاف لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى عليهم فإن عصاك تبطل سحرهم و تظهر زيفهم.

[70] وَ أَلْقِ أي

اطرح إلى الأرض ما فِي يَمِينِكَ أي العصا تَلْقَفْ تبتلع ما صَنَعُوا من الحبال و العصي إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ خبر «ما» أي إن الذي صنعوه هو كيد الساحر و مكره و تدبيره الخفي، و ليس له حقيقة يخشى منها وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي لا يفوز الساحر ببغيته و مطلبه، و من عجيب الأمر أن السحرة دائما مهانون، لا يتمكنون من إدارة أمورهم مع ما يصنعون من الأمور المدهشة الجالبة حَيْثُ أَتى أي أنى وجد، أو حيث أتى بسحره.

[71] فألقى موسى عليه السّلام عصاه، و إذا بها ثعبان مبين تبتلع عصي السحرة و حبالهم، و فر الناس ذعرا من خوفها فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي أنهم ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين خاضعين لله الذي يدعو إليه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 141.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 491

[سورة طه (20): آية 71]

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71)

موسى عليه السّلام و كان الإتيان بالمجهول «ألقى» لإفادة أن عملهم هذا كان باندفاع و انهيار، لا كسجدة الإنسان الهادئ قالُوا للملأ حوله آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى و لعل تقدم هارون لكونه الأخ الأكبر- كما في بعض التفاسير أنه كان أكبر الأخوين- أو للقافية.

[72] و قد أحدث إيمان السحرة اضطرابا عجيبا في صف فرعون حتى خاف فرعون أن يتبعه الناس و لم ير عاجلا إلا اللجوء إلى القوة فتوجه إلى السحرة مهددا قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي كيف آمنتم بموسى، و إنما عدي باللام لاشتماله على معنى التصديق قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

فكيف خالفتم طريقتي بدون الإذن و تحصيل الرخصة؟ ثم أراد أن يعمي على الناس قصة كون العصا إعجازا، فأتى بالكذب و المغالطة، تبريرا لموقفه من موسى عليه السّلام و من السحرة الذين اتبعوه لكي لا يلام بأنه لما ظهر الحق أعرض عنه إِنَّهُ أي موسى عليه السّلام لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فإنه أستاذكم في علم السحر، و قد تواطأتم على أن يأتي هو بأعظم أقسام السحر، و تأتون أنتم ببعض أقسامه الأدنى، لتروا للناس غلبته ثم تؤمنون به ليؤمن الناس- خدعة منكم للجماهير- تريدون السيطرة على البلاد، ثم أخذ يهددهم كما هو دأب الطغاة حيث يعجزون عن القلوب يلجئون إلى تعذيب الأبدان فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ فتقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو بالعكس، ليختل توازن البدن، و يكون عذابه أكثر ما دام الإنسان حيا وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ الصلب هو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 492

[سورة طه (20): الآيات 72 الى 73]

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73)

الشنق، و له أقسام منها أن يدق يدا المصلوب بجذع أفقي نصب على جذع عمودي، فيبقى المصلوب في أذية يوما أو أياما حتى يموت فِي جُذُوعِ النَّخْلِ و إنما عدي بعلى لإشراب الصلب معنى الرفع، أي أرفعنكم للصلب على أصول نخل التمر. وَ لَتَعْلَمُنَ أيها السحرة أَيُّنا أيّ منا و من موسى فيما يدعي و يقول «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» أَشَدُّ عَذاباً من الآخر وَ أَبْقى أي أدوم عذابا؟ و قد كان ظن أن عذابه أشد و

أبقى من عذاب الله سبحانه.

[73] قالُوا أي قالت السحرة في جواب تهديد فرعون لَنْ نُؤْثِرَكَ أي لن نفضلك و نختارك يا فرعون عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ أي الأدلة الواضحة، فإن البقاء في طريقتك معناه إنا رجحناك على الأدلة التي دلتنا على صحة طريقة موسى عليه السّلام وَ على الَّذِي فَطَرَنا أي لن نختارك ربا- بعد هذا- على الله الذي فطرنا و خلقنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاصنع ما أنت صانعه بنا من التعذيب إِنَّما تَقْضِي أي تحكم علينا في هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا و هي دار زائلة لا يهمنا ما يصنع بنا فيها.

[74] إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا أي معاصينا التي سلفت منا من الكفر و الآثام وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فإن السحر خصوصا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 493

[سورة طه (20): الآيات 74 الى 76]

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74) وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

إذا كان لإبطال نبوة من أعظم الآثام، و لا يرتفع إثمه بالإكراه إذا كان في مقابلة النبي، و قد كان فرعون أكرههم على السحر في مقابل موسى،

فقد روي أن السحرة قالوا لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم إياه فإذا هو نائم و عصاه تحرسه فقالوا ليس هذا بسحر إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم للسحر «1»

وَ اللَّهُ خَيْرٌ لنا منك وَ هو أَبْقى أي أكثر بقاء، فإذا آمنا به كان أحسن لنا من بقائنا في طريقتك، و إن خيرك

ليسير و بقائك لقليل.

[75] إِنَّهُ الضمير للشأن مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً كافرا أو عاصيا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العذاب وَ لا يَحْيى حياة فيها راحة، أي لا يبقى حيا في راحة، و إنما هو حي في أنواع الشدائد و الآلام.

[76] وَ مَنْ يَأْتِهِ أي يذهب إلى الله سبحانه حينما يموت مُؤْمِناً مصدقا بالله و رسله و ما جاءوا به و قَدْ عَمِلَ الأعمال الصَّالِحاتِ فكان صحيح العقيدة و العمل فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جمع عليا، تأنيث أعلى، أي له درجات رفيعة في الجنة.

[77] ثم بين الدرجات بأنها في جَنَّاتُ عَدْنٍ أي بساتين إقامة و بقاء، من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 494

[سورة طه (20): آية 77]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77)

عدن بالمكان إذا أقام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ في حال كونهم خالِدِينَ فِيها إلى الأبد وَ ذلِكَ الثواب جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر بالإيمان و الطاعة.

[78] و لما أتمت الحجة على فرعون و ملأه، و لم يؤمنوا، صار القرار من الله سبحانه أن يهلكه مع حاشيته إنجازا لما وعد به موسى، و قال موسى عليه السّلام لقومه (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) «1» وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل و الذين آمنوا بك، ليلا و إنما أمروا بالسير ليلا لئلا يراهم فرعون فيمنعهم من المسير مع موسى عليه السّلام فَاضْرِبْ لَهُمْ أي لمن معك طَرِيقاً أي اضرب بعصاك فِي الْبَحْرِ يوجد لسيرهم في وسط البحر طريق يَبَساً أي يابسا لا تَخافُ

نهي في صيغة الخبر، تأكيد لعدم الخوف دَرَكاً أي إدراك فرعون لك وَ لا تَخْشى من الغرق، ففعل موسى ما أمره الله سبحانه، فإنهم لما وصلوا إلى البحر الأحمر متجهين نحو الشام، ضرب بعصاه على البحر، فانفلق الماء، و انفتحت لهم اثنتي عشرة طريقا، ليسير كل قبيلة من القبائل الإسرائيلية من طريق خاص بهم، و لما عرف فرعون بفرار بني إسرائيل بقيادة موسى جهز الجيش ليتبعهم و يردهم.

______________________________

(1) الأعراف: 130.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 495

[سورة طه (20): الآيات 78 الى 80]

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (80)

[79] فَأَتْبَعَهُمْ أي اتبع موسى عليه السّلام و بني إسرائيل فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ مع جنوده، أي ذهبوا خلفهم، حتى وصلوا إلى البحر و رأوا أنهم قد دخلوا البحر يريدون العبور، و هنا توقف فرعون أولا، و خاف من الغرق إن دخل سكك البحر التي انشق الماء عنها بقدرة الله عز و جل، لكنه أخيرا دخل مع جيشه، فلما توسطوه، و خرج أصحاب موسى من البحر انطبق الماء على آل فرعون فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي جاءهم الماء حتى غطاهم و أحاط بهم، و قوله «ما غشيهم» للتهويل كي يبقى من النفس منه هول و خوف.

[80] وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ في هذه الحياة بسوقهم إلى البحر الذي لم يكن طريقا، حتى سبب هلاكهم، و في الحياة الآخرة بأن أراهم طريقة منحرفة لا تصل إلا إلى النار وَ ما هَدى إلى طريق الحق، فقد بقي في الإضلال إلى آخر عمره، و

كان الإتيان بجملة «ما هدى» لإفادة أنه لم يرجع عن إضلاله، فإن «أضل» إنما يدل على الابتداء في الإضلال، أما البقاء فيه فإنه لا يفيده.

[81] يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون، و قد رأيتم كيف أنجيناكم، بعبوركم من البحر بالإعجاز، و إهلاك فرعون و جنوده هناك وَ واعَدْناكُمْ أي واعدنا الكليم موسى عليه السّلام أن يأتي جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي الطرف الأيمن من الجبل المسمى بالطور، لإعطاء التوراة، و حيث إن الوعد لرئيس القوم وعد لكل القوم قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 496

[سورة طه (20): الآيات 81 الى 82]

كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)

«و واعدناكم» و الإتيان من باب المفاعلة كأنه لا بد كون الوعد من الطرفين الإعطاء و الأخذ بخلاف مثل وعدته أي المتكلم له مع الأمر فإنه وعد، لا مواعدة وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ و هو نوع من الصمغ الحلو وَ السَّلْوى و هو طير لذيذ يسمى السماني، و ذلك حين كنتم في التيه- كما مر تفصيله في سورة البقرة-.

[82] و قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ المراد بالأمر الإباحة، أي أبحنا لكم أكل الطيبات وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فيما رزقناكم، بأن تستعملوه في الحرام، كالربا و الاحتكار و الغش و أشباهها، فإنها طغيان و تعد عن الحد في الرزق الحلال فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي لو طغيتم في رزقي و الفعل مجزوم- بالفتحة- لكونه في جواب النهي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي بأنه عمل بالمعاصي فاستحق العقاب فَقَدْ هَوى أي هلك، كالذي

يهوي من السطح إلى الأسفل.

[83] ثم بينا لكم أن من هوى لا ينقطع عن الله إلى الأبد، بل باب التوبة مفتوح أمامه وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ مبالغة من الغفران لِمَنْ تابَ عن معاصيه السابقة التي أظهرها الشرك وَ آمَنَ بالله و رسوله و ما أنزل وَ عَمِلَ صالِحاً بأن صحت عقيدته و عمله ثُمَّ اهْتَدى أي بقي على الهداية إلى أن يموت، أو المراد بيان أن الاهتداء ليس عقيدة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 497

[سورة طه (20): الآيات 83 الى 85]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)

القلب، و عملا بالجوارح، و إنما يحتاج إلى رسوخ الإيمان و التحلي بنور الهداية، و إنما العقيدة و العمل مقدمتان له و مهيئان الجو لإشراقه.

[84] ثم إن الله سبحانه إنجازا لما وعد به موسى عليه السّلام، من إعطائه الكتاب الذي فيه أحكامه، فقد انقطع القوم عن أحكام فرعون و أنظمته، و احتاجوا إلى أنظمة لحياتهم، و دستور لعملهم، أمر موسى عليه السّلام أن يأتي إلى الطور مع جماعة من قومه، و صام موسى أربعين يوما مقدمة لذلك، حتى تصفو نفسه، و تستعد لهذا اللقاء، و لما أتم الصيام تعجل للذهاب إلى الجبل، في حين كان القوم بعد في سفح الجبل، فقال له سبحانه وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أيّ شي ء صار سببا لأن تتقدم على القوم و تصعد قبلهم؟ و حيث أن عجل أشرب معنى التجاوز عدي ب «عن».

[85] قالَ موسى عليه السّلام في الجواب هُمْ القوم أُولاءِ جمع الذي، أي هم الذين

عَلى أَثَرِي من ورائي يدركونني عن قريب وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ يا رَبِّ لِتَرْضى أي لتزداد رضا عني أو لتعجل الرضى عني.

[86] قالَ الله تعالى فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي امتحناهم ليظهر قدرهم، فإن الإنسان إذا ألف عادة أشكل عليه الإقلاع عنها مِنْ بَعْدِكَ أي من بعد مجيئك إلى الطور، و قد كان غياب موسى عليه السّلام عن قومه أربعين ليلة وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ فقد كانت نفوس القوم تألف الوثن، و لذا لما جاوزوا البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قالوا: يا موسى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 498

[سورة طه (20): آية 86]

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)

اجعل لنا إلها كما لهم آلهة و لما غاب موسى انتهز السامري الفرصة، فأمرهم بجمع حليهم و صنع منها عجلا جسدا و قال هذا إلهكم و إله موسى، و عبده بنو إسرائيل، و هذا كان إضلال السامري، كما أنه كان امتحان الله لهم، و قد خلي بين السامري و بين ما يفعل ليظهر دفائن قلوبهم.

[87] فلما أخذ موسى عليه السّلام الكتاب من الله سبحانه فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً في حالة غضب على ما اقترفوا من الإثم، و أسف أي حزن و تحسر عليهم، كيف أنهم ضلوا بعد تلك المصاعب و الأتعاب، و لما وصل إلى القوم قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بإعطائكم الكتاب و جعلكم ورثة الأرض و إدخالكم الجنة؟ فلم انصرفتم عن وعد الله سبحانه إلى عبادة العجل الذي لا يعقل و لا ينفعكم أبدا؟

أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ الذي عهدتكم بإتيان التوراة حتى تعتذرون بأنك أخلفت العهد، و لذا عدلنا عنك و عن إلهك إلى هذا العجل؟ أَمْ لم يطل العهد و إنما أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فإن فعلكم هذا فعل من يريد إحلال العقاب به، و إلا فما هو السبب لذلك؟ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي الذي وعدتموني بأن تكونوا على عهدكم باقين حتى آتيكم بالكتاب، فقد أمرهم موسى عليه السّلام أن يعملوا تحت إمرة هارون أخيه، حتى يرجع إليهم، و لكنهم خرجوا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 499

[سورة طه (20): الآيات 87 الى 88]

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88)

طاعته، فأخلفوا موعد موسى عليه السّلام.

[88] قالُوا أي قال بنو إسرائيل في جواب اعتراضه و توبيخه ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي و نحن نملك من أمرنا شيئا، فإن الملك مثلث الميم بمعنى ما يملك الإنسان، يعني لم يكن ملكنا و باختيارنا الوفاء و الخلف حتى نفي، و إنما أجبرنا على خلف الوعد وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي حملنا- من مصر- أثقالا من الذهب من حلي آل فرعون، فقد كانت لديهم حلي من القبط قد استعاروها منهم و ما ألقاه البحر على الساحل بعد غرقهم، و الأوزار جمع وزر، بمعنى الثقل، و سمي الحلي وزرا لثقله جسما أو رتبة فَقَذَفْناها أي تلك الأوزار ألقيناها في البوتقة في النار فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ ما معه في النار، ليسبك الجميع عجلا، أو المراد قذفوها ليتخلصوا منها حيث كانت محرمة و كذلك قذف

ما معه السامري ثم جمعها و جعلها عجلا.

[89] فَأَخْرَجَ السامري، و هو رجل منهم يلقب بهذا اللقب- و لعل اللفظ معرب و إلا فأصله في التوراة يلفظ بشكل آخر- لَهُمْ عِجْلًا و هو ولد البقر جَسَداً لا روح فيه، و يقال الجسد لما لا روح فيه- غالبا- لَهُ خُوارٌ كخوار العجل قال بعض المفسرين إنه جعل من العجل منافذ إذا هب الريح فيها خرج من العجل صوت يشبه صوت العجل فَقالُوا السامري و أعوانه هذا العجل إِلهُكُمْ يا بني إسرائيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 549

[سورة طه (20): الآيات 89 الى 90]

أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89) وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90)

وَ إِلهُ مُوسى فقد نسي موسى عليه السّلام أن إلهه هنا، فذهب إلى الطور يطلبه.

[90] أَ فَلا يَرَوْنَ ألا يرى بنو إسرائيل أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «أن» مخففة من الثقيلة، و اسمه ضمير محذوف، أي أن العجل «لا يرجع» فاعله محذوف يرجع إلى العجل و قَوْلًا تميز، أي لا يرجع إليهم رجوعا قوليا، كما تقول «لا يأتي قولا» أي لا يقول القول، فكأن من يقول، يرجع هو إلى الطرف، و هو من باب علاقة العلة و المعلول، فقد عبر عن إرجاع القول برجوع النفس، و المعنى أ فلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه لا يرد عليهم جوابا وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً و كيف يتمكن أن يضرهم أو ينفعهم ذهب مصوغ؟

[91] وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ أي

لبني إسرائيل هارُونُ أخو موسى عليه السّلام المخلف عندهم مِنْ قَبْلُ عود موسى إليهم حينما اتخذوا العجل يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي امتحنتم بهذا العجل، ليعلم أيكم يعبده و أيكم يتركه، بل يبقى على عبادة ربه، فلا تعبدوا العجل وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ الذي رحمكم بنجاتكم من آل فرعون و تفضل عليكم بكل شي ء فَاتَّبِعُونِي فيما أدعوكم إليه وَ أَطِيعُوا أَمْرِي في عبادة الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 501

[سورة طه (20): الآيات 91 الى 93]

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)

[92] قالُوا أي الذين عبدوا العجل لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ لا نزال مقيمين على عبادته، فإن برح بمعنى زال، و عكف بمعنى أقام حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فننظر هل يعبده كما عبدناه، و كما أخبرنا السامري قائلا: هذا إلهكم و إله موسى، أم لا يعبده؟

[93] و لما رجع موسى عليه السّلام و رأى أنهم عبدوا العجل كما أخبره سبحانه من الطور، توجه إلى هارون و قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل، عن اتباعي، و قوله:

[94] أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي في الغضب الشديد لله و مقاتلة عبّاد العجل أو الخروج من بينهم، متعلق بمحذوف أي ما هو السبب في أن لا تتبعن، كما أن متعلق «ما منعك» محذوف، و كثيرا ما يستعمل البلغاء مثل هذا تأكيدا للنفي، فإن حذف المتعلق في «ما منعك» يحدث في الذهن فجوة وسيعة و هولا، كما أن حذف الفعل في «ألا تتبعن» يوهم ابتداء الإنكار، و مثله شائع كما قال سبحانه: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) «1» و

قوله:

«ما يمنع القوم أن لا يعملوا حسنا» و قوله: «و قد رأى المنع في أن لا يجاريهم» و لذا كان «ألا تتبعن» أول الآية.

أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي هل عصيت أمري الذي أمرتك؟ كما قال سبحانه:

______________________________

(1) الأعراف: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 502

[سورة طه (20): آية 94]

قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

(وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) «1» فكيف لم تصلح؟ ثم أخذ موسى بلحية أخيه و رأسه يجره إليه، و ألقى الألواح من يده تضجرا، و لم يك هذا العمل من موسى لأنه شديد الغضب، كما يقول البعض، كما أنه لم يك ذلك لأنه ظن بهارون سوءا و إنما جرت عادة العقلاء على أن يبدوا استنكارهم الشديد لغير المجرم، في أقوال و أعمال، ليعرف المجرم وقع الجرم، و لا يكون هو المعتب الأول، لئلا يثأر نفسه، فإنك إذا أردت أن تفهم جارك سوء عمله من إلقاء القمامة على باب البيت، تقول لولدك: «لماذا يصب القذارة على باب دارنا؟ هل أنت أعمى حتى لا تمنع الصاب؟ و لو رأيت القمامة بعد هذا لضربتك» و إنما الولد بري ء مثلك و أنت تعلم ذلك، و إنما تريد إفهام الجار، على طريقة «إياك أعني و اسمعي يا جارة» و هذا من فنون الأدب و البلاغة.

[95] قالَ هارون مخاطبا لموسى يَا بْنَ أُمَ و إنما خص الأم بالذكر، استعطافا و ترقيقا ليسكن الغضب المشتعل في موسى على عبّاد العجل لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي و لم يقل هارون ذلك، إلا لكي يعرف بنو

إسرائيل أنه لم يكن المذنب في القصة، لا لأنه رأى موسى غضبان عليه إِنِّي خَشِيتُ لو فارقتهم و خرجت من بينهم أَنْ تَقُولَ أنت فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ إذ خروج الزعيم من بين القوم يؤدي إلى تفرقهم، كما أن محاربته لهم تؤدي إلى التفرقة، و قد كان عذر هارون عليه السّلام صحيحا، فإن الناس لا يتبعون الخلف كما يتبعون

______________________________

(1) الأعراف: 143.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 503

[سورة طه (20): الآيات 95 الى 96]

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)

الرئيس، و بأدنى شي ء يتفرقون عليه وَ تقول لَمْ تَرْقُبْ يا هارون قَوْلِي أي لم تحفظ وصيتي في ما أوصيتك به أن أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين، فتقول لي إنك لم تصلح حين سببت التفرقة بين القوم، بغضبك الشديد عليهم، أو مقاتلتك لهم، أو خروجك من بينهم.

[96] و لما أظهر موسى عليه السّلام براءة ساحة أخيه، و أبدى لومه الشديد و غضبه على عبّاد العجل في هذه الصورة، و بهذا القالب توجه إلى السامري رأس الفتنة قالَ موسى عليه السّلام فَما خَطْبُكَ أي ما شأنك و ما الذي دعاك إلى ما صنعت يا سامِرِيُ حيث أضللت الناس؟

[97] قالَ السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي رأيت ما لم يروه أو فطنت بما لم يفطنوا به، فقد رأيت جبرائيل على فرس- في صورته البشرية- فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ تراب أَثَرِ الرَّسُولِ تحت قوائم فرسه فَنَبَذْتُها طرحت تلك النبذة في العجل الذي صنعته من الذهب فكان له هذا الخوار من أثر ذلك التراب وَ كَذلِكَ الذي حدثتك يا موسى سَوَّلَتْ لِي

نَفْسِي أي زينته لي حتى أوجه بني إسرائيل إلى نفسي، و قد احتمل بعض المفسرين أن هذا الكلام كان كذبا من السامري أراد به أن يبرر ساحته و يظهر فضله في أنه فطن بما لم يفطن به بنو إسرائيل، و لو ورد بما ذكره أثر صحيح لم يك مخالفا للمقاييس إذ رؤية الإنسان للملك ممكن، كما إن الخوار لأجل الأثر ممكن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 504

[سورة طه (20): آية 97]

قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)

و لا يوجب عذر من يعبد العجل، إذ لا عذر بعد تمام الحجة، أ رأيت لو جاء أحد الآن و قال: إن هذه الفأرة إلهكم، و على يده فأرة مصنوعة من النحاس لكنها تتحرك، هل يكون المعترف بكونها إلها معذورا؟

[98] ثم أعلن موسى عليه السّلام طرد السامري عن جماعة بني إسرائيل إلى الأبد قالَ للسامري فَاذْهَبْ من بيننا فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ فقد كان إذا مسه أحد أخذته الحمى عقوبة لما اقترف من صنع العجل، كما أن الماس كانت تأخذه الحمى بمسه السامري، فمعنى لا مساس: لا أمس أحدا و لا يمسني أحد. و

قد ورد في الحديث أن السامري كان سخيا

و لذا لم يقتله موسى عليه السّلام وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لعذابك الشديد في يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن تخلف ذلك الوعد، بل يأتيك بالقطع و اليقين وَ انْظُرْ يا سامري إِلى إِلهِكَ أي العجل الذي كنت تسميه إلها الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي مقيما تعبده و ترشد الناس إلى

عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار حتى يذوب ثُمَ لنبردنه بالمبرد حتى يصير كالتراب ثم لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِ أي البحر نَسْفاً أي لنذريه، و قد أراد عليه السّلام بذلك بيان أن الشي ء الذي يحرق بالنار، و يبرد، و ينسف في البحر لا يكون إلها، فإن بني إسرائيل قد علقت نفوسهم بما تنظر إليه عيونهم، فكان هذا العمل أدعى لردعهم عن عبادة العجل- و هذا العمل، من قبيل ما ذكرنا أن البليغ قد يظهر ما ينويه في العمل لتقريع المجرم، فإن العجل لم يكن مذنبا، أو يفهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 505

[سورة طه (20): الآيات 98 الى 101]

إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)

هذا العمل، و إنما أريد بذلك تقريع غيره-.

[99] إِنَّما إِلهُكُمُ يا بني إسرائيل اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو المستحق للعبادة، لا العجل المصنوع من الذهب وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي أن علمه وسع كل شي ء، فهو عالم بكل شي ء، و إنما جي ء بهذه الصفة لبيان أن أعمالكم كلها معلومة لديه، فلا يعمل الإنسان ما ينافي أمره و رضاه، كما أنه تعريض بالعجل الذي لا يعلم شيئا، كيف يكون إلها؟

[100] كَذلِكَ الذي قصصنا عليك يا رسول الله نبأ موسى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من أخبار الأنبياء عليهم السّلام السابقين و أممهم و ما فيه عبرة و عظة وَ قَدْ آتَيْناكَ أي أعطيناك يا رسول الله مِنْ لَدُنَّا من عندنا، فنحن المصدر،

لا إنا واسطة ذِكْراً أي القرآن الذي يذكر الناس بالمبدأ و المعاد، و سائر المعارف، مما هي مفطورة في خلقتهم، و إنما القرآن يذكرهم بها.

[101] مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي عن هذا الذكر فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً حملا ثقيلا من الآثام و المعاصي.

[102] في حال كونهم خالِدِينَ فِيهِ في ثقل ذلك الحمل، و المراد الخلود في جزائه، و هو النار- بعلاقة السبب و المسبب-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 506

[سورة طه (20): الآيات 102 الى 104]

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)

وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي بئس الحمل حملهم، في ذلك اليوم المهول، فإنه حمل يوجب إدخالهم النار.

[103] ثم بين يوم القيامة بأنه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ و الصور هو: البوق الذي ينفخ و يصيح فيه إسرافيل مخاطبا الأرواح لتلتحق بأجسادها، قائلا للناس: أحيوا بأمر الله سبحانه، و هي النفخة الثانية وَ نَحْشُرُ نجمع الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان يَوْمَئِذٍ أي من يوم النفخ زُرْقاً جمع أزرق، فإن الإنسان المكدر المهموم تعلو وجهه زرقة.

[104] يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتكلمون بإخفات و سر، فإن الإنسان إذا أخذته الدهشة أو الجلال لا يتكلم إلا خفية و نجوى، يقول بعضهم لبعض: إِنْ لَبِثْتُمْ ما بقيتم و مكثتم في الدنيا إِلَّا عَشْراً عشرة ليالي، فإنهم يقللون مدة لبثهم في الدنيا، و هكذا الإنسان يقلل ما مضى من عمره، كأنه شي ء يسير.

[105] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ لا يغيب عنا شي ء، و المراد أن سرهم لا يخفى علينا إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أرشدهم في الحساب،

و أصوبهم في الرأي إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي ما بقيتم في الدنيا إلا يوما واحدا، و إنما كان أرشدهم لأن من كان أرشد يرى عمر الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 507

[سورة طه (20): الآيات 105 الى 108]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)

أقل، لما يرى من زوالها بسرعة.

[106] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الْجِبالِ ما حالها يوم القيامة فَقُلْ يا رسول الله يَنْسِفُها أي يقلعها و يدكها رَبِّي نَسْفاً و دكا،

فقد جاء رجل من ثقيف سائلا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمتها؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها «1»

[107] فَيَذَرُها أي يذر الجبال و يجعلها قاعاً أي أرضا ملساء منكشفة صَفْصَفاً أي مستوية لا علو فيها و لا نتوء، و الصفصف هو:

المستوي من الأرض.

[108] لا تَرى فِيها في تلك القاع المصفصف المكون من الجبال، حيث انتثرت على الأرض عِوَجاً اعوجاجا بالعلو و الانخفاض وَ لا أَمْتاً أي أكمة، قالوا: العوج الانخفاض، و الأمت الارتفاع.

[109] يَوْمَئِذٍ أي في يوم القيامة يَتَّبِعُونَ يتبع الناس الدَّاعِيَ الذي يدعوهم للحياة و للجمع في المحشر لا عِوَجَ لَهُ أي لا اعوجاج للداعي بحيث يدعو بعضا و يذر بعضا، و إنما دعوة عامة شاملة للجميع وَ خَشَعَتِ خضعت الْأَصْواتُ فلا ترتفع لِلرَّحْمنِ الذي يتفضل عليهم هناك كما تفضل عليهم هنا فَلا تَسْمَعُ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7

ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 508

[سورة طه (20): الآيات 109 الى 111]

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)

من الناس، أيها السامع إِلَّا هَمْساً صوتا خفيا.

[110] يَوْمَئِذٍ في يوم القيامة لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ لأحد من المجرمين إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بأن يشفع له، أو يشفع، فهناك كل من الشافع و المشفوع له يلزم أن يكون بتعيين الله سبحانه وَ رَضِيَ الرحمن لَهُ لذلك الشافع أو المشفوع له قَوْلًا أي من كان مرضي القول، بأن كان مؤمنا له مقام الشفاعة بالنسبة إلى الشافع- و مؤمنا غير مستحق للعقاب القطعي- بالنسبة إلى المشفوع له.

[111] و ليس هناك الأمر اعتباطا، كالدنيا التي لا يعلم الحاكم فيها، ما يستحق المحكوم له، إن هناك في معرض الإله العالم بكل شي ء فإنه سبحانه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما عمل الإنسان و قدمه إلى الآخرة- في حياته- وَ ما خَلْفَهُمْ أي ما خلفوه في الدنيا من الآثار الصالحة أو الفاسدة وَ لا يُحِيطُونَ أولئك بِهِ أي بالله عِلْماً فهو يعلمهم، و هم لا يعلمون منه إلا بقدر ما شاء.

[112] وَ هناك عَنَتِ أي خضعت و ذلت الْوُجُوهُ و إنما نسب الخضوع إلى الوجوه لأنها يظهر فيها أثر الخضوع لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ فليس ميتا لا يعلم، و لا غائبا لا يدرك، و إنما هو حي قائم على كل الأمور مطلع عليها وَ قَدْ خابَ خسر مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي نوع من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 509

[سورة طه (20):

الآيات 112 الى 114]

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

الظلم كان شركا، أو عصيانا، فإنه يخسر ثواب الله سبحانه، و يخسر نفسه فيما لو أدخل النار.

[113] وَ أما مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ مقابل من عمل ظلما وَ هُوَ مُؤْمِنٌ في العقيدة بما يلزم الإيمان به فَلا يَخافُ من الآخرة ظُلْماً إذ لا ظلم هناك على أحد، بل عدل و فضل وَ لا هَضْماً بأن يهضم من حقوقه و ينقص من ثوابه، و الظلم أن يعاقب بلا سبب، و الهضم أن ينقص من حسناته.

[114] وَ كَذلِكَ الذي أخبرناك من القصص و أخبار القيامة أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا ليعرفه قومك، فإنه بلسانهم و لغتهم، لئلا يقولوا لم نكن نعلم وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا فيه من جنس الوعيد، و التصريف هو تحويل المعنى الواحد في قوالب متعددة للفائدة، و الوعيد هو الإيعاد بالنار و العقاب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقي هؤلاء المعاصي و الآثام أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً بأن يذكرهم القرآن بمصائر الأمم المكذبة فيتذكرون و ينقطعون عن الكفر و الآثام، و الفرق بين الأمرين إن إحداث الذكر، مقدمة للتقوى، فإن الإنسان إذا تذكر كان معرضا لأن يتقي حيث يجيش في نفسه الخوف و ينتهي بالآخرة إلى التقوى.

[115] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ الذي عنت له الوجوه، و يعاقب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 510

[سورة طه

(20): آية 115]

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)

المجرمين، و يثبت المطيعين، الذي أنزل القرآن ليكون درسا و تذكرة وَ قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية، فأنزل سبحانه لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ قراءة مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي يتم الوحي، بل أصبر حتى يتم جبرائيل ما جاء به ثم اقرأ ما جاء، و قضى بمعنى تم، كما قال سبحانه: (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) «1» وَ قُلْ يا رسول الله، يا رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فإن العلم هو الاطلاع على الكون ما سبق و ما حضر و ما يأتي، و ذلك من أوسع الأمور، فالإحاطة به غير ميسور لغير الله سبحانه، و هو الذي هيأ الأسباب للبشر لتعلم بعضها، و لذا يأمر الله الرسول، بأن يدعو للزيادة في العلم، فإنه كلما زاد علم الإنسان، زادت قيمته و أجره و قربه من الله سبحانه- فيما لو عمل بما علم- [116] و بمناسبة مبادرة الرسول في تلاوة القرآن قبل أن يقضى إليه وحيه خوف النسيان، كما في سورة أخرى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «2» يأتي الكلام حول نسيان آدم عليه السّلام ما عهد الله معه، وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ بأن لا يأكل من الشجرة إن أحب البقاء في الجنة، و قلنا له: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «3» مِنْ قَبْلُ أي سابقا فَنَسِيَ العهد، إما حقيقة، أو المراد أنه ترك العهد، فكان كالناسي، من قبيل (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) «4» و هذا أقرب إلى الاعتقاد

بأن

______________________________

(1) النساء: 104.

(2) الأعلى: 7.

(3) طه: 119 و 120.

(4) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 511

[سورة طه (20): الآيات 116 الى 117]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117)

الأنبياء معصومون عن كل الخطأ و النسيان وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي تصميم رأي و ثبات أمر، أو المراد أنه لم يكن من الأنبياء أولي العزم، و هم خمسة: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد عليهم السّلام.

[117] و إذ جاء ذكر من آدم عليه السّلام ناسب السياق بيان قصته، كما قال سبحانه: (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) «1» و لأنه بدء الخلقة، و بعد ذلك يأتي الختام، ليناسب الجو العام للسورة، التي هي حول العقيدة.

وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ قولا لفظيا، بخلق صوت سمعوه، أو إلهاما و نقرا في القلب، و الملائكة مشتقة من «ألك» بمعنى الرسالة، و سموا بذلك لأنهم رسل الله سبحانه في أوامره و تبليغاته اسْجُدُوا لِآدَمَ إذا سويته و نفخت فيه من روحي فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه أَبى و امتنع من السجود كبرا و طغيانا.

[118] فَقُلْنا يا آدَمُ أي قلنا لآدم بعد كبر الشيطان عن سجدته إِنَّ هذا الشيطان عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ حواء، يريد بكما الشر و الخديعة فلا تغترا به و احفظا أنفسكما عن كيده و مكره فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يكون سبب خروجكما من الجنة بأن تطيعاه فيما نهى الله سبحانه- نهي تنزيه- ليكون مصيركما الخروج فَتَشْقى أي فتقع في

______________________________

(1) طه: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص:

512

[سورة طه (20): الآيات 118 الى 120]

إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120)

تعب العمل و كد الاكتساب و زحمات الدنيا، فإن الشقاء التعب، كما تقدم في قوله: (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1» و إنما جاء بالمفرد لأن المخاطب آدم، و رعاية لرؤوس الآي، و إلا فالمراد شقاء كليهما.

[119] ثم بين سبحانه محاسن البقاء في الجنة التي تزول بالخروج منها، و قد كان الأمر للإرشاد كأوامر الطبيب الذي يقول إن عملت بهذه الوصفة، لم تمرض، فإن أمره إرشادي ليس بواجب و إنما تعود الفائدة إلى المريض بذاته إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي في الجنة لسعة طعامها و عدم التعب في تناوله وَ لا تَعْرى لكثرة ثياب الجنة، فلا يبقى الإنسان فيها عاريا، و بحاجة إلى الكد و العمل لتحصيل الثياب.

[120] وَ أَنَّكَ يا آدم لا تَظْمَؤُا فِيها أي لا تعطش في الجنة لوفرة مياهها وَ لا تَضْحى يقال ضحى الرجل إذا برز للشمس، أي لا يصيبك حر الشمس.

[121] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ أي ألقى في نفس آدم الشَّيْطانُ إلقاء خفية قالَ يا آدَمُ إنك لا تبقى في الجنة أبدا إلا أن تعمل بوصيتي و تأخذ بإرشادي ف هَلْ أَدُلُّكَ و أعرفك عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الشجرة التي من أكل منها خلد في الجنة و لم يخرج منها أبدا وَ مُلْكٍ لا يَبْلى لا

______________________________

(1) طه: 2 و 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 513

[سورة طه (20): آية 121]

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ

وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121)

يفنى و لا يزول؟

[122] و قد مال آدم إلى كلامه، إذ أقسم له أنه ناصح مشفق، و لم يكن آدم سمع أحدا يحلف بالله كاذبا و حيث أمرهما بالأكل من الشجرة المنهية، تذكر آدم نهي الله سبحانه بقوله لهما: (وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) «1» لكن الشيطان تدارك الأمر و قال (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) «2» يعني أن النهي إنما هو لأجل أن تبقيان على حالتكما الإنسانية، فإذا أكلتما أصبحتما ملكين، و بالنتيجة نفذت المكيدة فيهما فَأَكَلا آدم و حواء مِنْها من تلك الشجرة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهرت لهما عورتهما، حيث أن بمجرد الأكل، سقطت ملابسهما عن أبدانهما، كما قال سبحانه: (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) «3» و السوءة هي العورة وَ طَفِقا أي شرع آدم و حواء يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يلصقان على أنفسهما- ليخرجا من العري و ظهور السوءة- مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ من أوراق أشجارها.

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ خالف أمره الإرشادي، فإن الأمر على ثلاثة أقسام: الوجوبي، و الندبي، و الإرشادي، و في مخالفة كل منها يستعمل لفظ العصيان، يقول الطبيب لمريضه المخالف لإرشاده: لم عصيتني حتى يدوم مرضك؟ فَغَوى أي ضل الطريق المسعد له.

______________________________

(1) البقرة: 36.

(2) الأعراف: 21.

(3) الأعراف: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 514

[سورة طه (20): الآيات 122 الى 123]

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123)

فإن الغواية ضلال الطريق، و هو كما يصح في مخالفة الوجوب، يصح في مخالفة الإرشاد، فإن الأكل من الشجرة سبب

أن يخرج من الجنة، و أي ضلال عن السعادة أكبر من هذا؟

[123] فندم آدم مما فعله و عرف أن الشيطان غره و حلف بالله كاذبا، فأخذ يتوب و يبكي ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اصطفاه و اختاره لأن يكون نبيا و غفر ذنبه في مخالفته للأمر الإرشادي فَتابَ عَلَيْهِ التوبة هي الرجوع، فإن الإنسان العاصي يبتعد عن الله، و الله سبحانه يعرض عنه، فإذا ندم الإنسان و استغفر، و تاب إلى الله، تاب الله عليه و رجع إليه وَ هَدى أي هداه لمصالحه، و أراه الطريق الموجب لعودته إلى الجنة، بعد ما غوى و ضل الطريق.

[124] قالَ الله سبحانه اهْبِطا أيها الفريقان فريق آدم و حواء، و فريق الشيطان مِنْها أي اخرجا من الجنة جَمِيعاً كلكم، و الهبوط إما باعتبار علو الجنة حسا عن الأرض، و إما باعتبار علوها رتبة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن الشيطان عدو لآدم و حواء، و هما عدوان له، و باعتبار آخر، أن الرجل و المرأة أيضا عدو بعضهم لبعض فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً «إن» للشرط و «ما» زائدة لتجميل الكلام، أي إن أتاكم من طرفي أسباب الهداية، بأن أمرتكم بأوامر تهديكم إلى طريق الحق في الدنيا، و السعادة في الآخرة فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ و أخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 515

[سورة طه (20): الآيات 124 الى 126]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126)

بأوامري و إرشاداتي فَلا يَضِلُ طريق السعادة، كما غوى آدم وَ لا يَشْقى لا يبقى في تعب و نصب كما شقي

آدم أي وقع في النصب و التعب- و هذا خطاب عام لكل البشر، و إن كان طرف الخطاب هم الثلاثة-.

[125] وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي بأن لم يتبع أوامري، التي ذكرته بها، و سميت الأوامر ذكرا، لما أودع في فطرة الإنسان من أصولها و جذورها فَإِنَّ لَهُ في الدنيا مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقة، و ذلك لأن أوامر الله سبحانه أكثر ملائمة للحياة، فالإعراض عنها يوجب ضيق العيش ماديا أو روحيا و لذا نرى أن الكفار حتى في أوج ماديتهم الظاهرية في أضنك الحالات الروحية و أضيق المجالات النفسية وَ نَحْشُرُهُ نحشر المعرض، و معنى الحشر جمعه مع سائر بني نوعه في يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى العين، لا يرى شيئا، [126] و كم يتأذى الإنسان في ساحة مهولة مدتها خمسون ألف سنة، و فيها من الأهوال ما تذهل البصير فكيف بالأعمى، و لذا يسأل الكافر قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى أي لماذا أحضرتني في هذا الموقف أعمى البصر وَ الحال أني في الدنيا قَدْ كُنْتُ بَصِيراً أرى الأشياء؟

[127] قالَ الله في جوابه كَذلِكَ العمى الذي أصابك هنا. كما كنت في الدنيا، فقد كنت في الدنيا أعمى البصيرة، و لذا ابتليت هنا بعمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 516

[سورة طه (20): الآيات 127 الى 128]

وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127) أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)

البصر فقد أَتَتْكَ و جاءتك آياتُنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا فَنَسِيتَها تركتها فعل الناسي بالمنسي، و أعرضت عنها و أغفلت بصيرتك دونها وَ كَذلِكَ أي كنسيانك عن

الآيات الْيَوْمَ في القيامة تُنْسى تهمل و لا يعتنى بشأنك، بل تبقى في تعب العمى و نصب الأهوال المتراكمة التي تلقفك من هنا و هناك.

[128] وَ كَذلِكَ أي كما جزينا من نسي الآيات بالضنك و العمى و النسيان له نَجْزِي كل مَنْ أَسْرَفَ جاوز الحد بالكفر و العصيان وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بيان لقوله «من أسرف» أو لأن عدم الإيمان تسبقه حالة نفسية تجاوز به عن الحد وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ للمسرف أَشَدُّ من الضنك في الدنيا وَ أَبْقى أكثر بقاء، فإن الضنك في الدنيا هين زائل، أما عذاب الآخرة فهو شديد باق.

[129] ثم بين سبحانه أن الكفار في ضلالة حيث لم يعتبروا بما مضى من عذاب اللّه للأمم السالفة أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ استفهام إنكاري توبيخي، أي ألم يرشد هؤلاء كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ هذا فاعل يهد، أي إهلاكنا للقرون السابقة، لم يصر سببا لهداية هؤلاء إلى الحق، و خوفهم من العقاب في الدنيا أن تمادوا في غيهم و كفرهم يَمْشُونَ هؤلاء الكفار المعاصرين لك يا رسول الله فِي مَساكِنِهِمْ فقد كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 517

[سورة طه (20): الآيات 129 الى 130]

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130)

كفار مكة يمرون بمساكن عاد و ثمود و قوم لوط عند ذهابهم إلى الشام، و يرون آثارهم و علاماتهم، كما قال سبحانه: (وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَ بِاللَّيْلِ) «1» أ فلا يخافون أن يصيبهم ما أصاب أولئك إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك

لأولئك لَآياتٍ لعبر و دلالات لِأُولِي النُّهى النهى جمع نهية، و هو العقل أي لأصحاب العقول، يعتبروا بها و لا يعملوا مثل أعمال أولئك حتى يبتلوا بمثل مصيرهم.

[130] وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن الكفار في الدنيا، فقد أراد الله سبحانه، و إرادته كلمته، أن لا يعذب هؤلاء في الدنيا بمثل عذاب الأمم السابقة، و لعل ذلك لأجل أن هذه الأمة تأتي بأولاد و ذراري صالحين، كما صار من أبي عامر «حنظلة» و من أبي سفيان «أم حبيبة» و هكذا، و الله سبحانه لا يعذب إلا إذا لم يكن صالح في ذرية الكافر كما قال سبحانه: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) «2» و قال (وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) «3» لَكانَ العذاب لِزاماً لهم، و اللزام مصدر، وصف به كقولك زيد عدل وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عطف على «كلمة» أي لو لا الكلمة و الأجل المسمى أي المدة التي سميت لهؤلاء الكفار لكان العذاب لازما لهم.

[131] و إذ كان لهؤلاء الكفار مدة لا بد أن يقضوها حتى يأتيهم الموت، و إن الله لم يشأ هلاكهم مثل إهلاكه للأمم السابقة فَاصْبِرْ يا رسول الله

______________________________

(1) الصافات: 138 و 139.

(2) الفتح: 26.

(3) نوح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 518

[سورة طه (20): آية 131]

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131)

عَلى ما يَقُولُونَ في شأن التوحيد و الرسالة و سائر أنواع أذاهم وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزه الله بالحمد، فإن الحمد ثناء و تنزيه- كما تقدم- قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صباحا وَ قَبْلَ غُرُوبِها أي عصرا وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ

فَسَبِّحْ آناء الليل ساعاته، و هو جمع «إنى» على وزن «إلى» و لعل الإتيان ب «من» دون «في» لإفادة الابتداء و الشروع أي أشرع بالتسبيح من ساعات الليل وَ سبح أَطْرافَ النَّهارِ بالإضافة إلى قبل الغروب و الطلوع، كما بعد الطلوع و وقت الضحى، و أول الظهر و عند وقت العصر لَعَلَّكَ يا رسول الله تَرْضى فإن الإنسان الدائم الاتصال بالله، الذي يذكره صباحا و مساء و في ساعات الليل و ساعات النهار، تطمئن نفسه بالله، و يرضى لمقدراته و أحكامه و سنته لأن يكون عارفا بالله هادئا إلى ما قضى و قدر، فالرضا من ثمار التسبيح، كما قال سبحانه: (وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) «1» و (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) «2» ثم إن تكرار التسبيح لتعلق أحدهما بالصباح و المساء، و أحدهما بآناء الليل و أطراف النهار.

[132] اتصل بالله سبحانه و قر نفسا بفضله و لطفه و ذكره وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر نظر رغبة و ميل- فإن الرؤية قسم من إمداد العين

______________________________

(1) التغابن: 12.

(2) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 519

نحو الشي ء لأن الإنسان يتصل بذلك الشي ء بواسطة إلقاء شعاع عينه عليه، و إن قلنا في مسألة الرؤية بالانطباع- إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ الضمير يعود إلى «ما» أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من البشر أو من الكفار، و المعنى لا ترغب في الجاه و المال و البنين التي متع بها الناس، فإنها أمور زائلة فانية، و لا ينبغي للإنسان أن يرغب فيها، فإنما هي زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا الزهرة هي النور الذي يرون عند الرؤية، و لذا يقال لكل شي ء مستنير زاهر، و نصبها على كونها حالا من «ما» أي

أن ما متعنا القوم، إنما هي بهجة الحياة العاجلة و نضارتها لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي نمتحنهم بسببه، و الضمير يعود إلى «ما» و جي ء ب «في» لأن الإنسان يعيش في وسط تلك البهجة و النضارة.

و ليس المعنى أن لا يرغب الإنسان في الحياة، بل المعنى أن لا يجعل الحياة منتهى نظره- بل ينظر إليها نظرا عرضيا، و لذا قال سبحانه: (وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) «1» وَ رِزْقُ رَبِّكَ الذي وعدك في الآخرة خَيْرٌ من متعة الحياة الدنيا وَ أَبْقى أي أكثر بقاء لأن الحياة الدنيا فانية، و تلك الحياة باقية، أو أن المراد، أن متع الكفار من الحرام، و رزق الله من الحلال خير لعدم العقاب فيه، و أبقى لأنه ذو بركة و بقاء بخلاف الحرام الذي لا بركة فيه، كما قال سبحانه: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ) «2»

______________________________

(1) البقرة: 202.

(2) البقرة: 277.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 520

[سورة طه (20): الآيات 132 الى 133]

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)

[133] و إذا توجهت أنت إلى الله سبحانه و لم تمد عينيك إلى زهرة الحياة، فاللازم أن توجه عائلتك إلى الله سبحانه، كما توجهت أنت وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ فإنها عمود الدين، و الصلة بين الله و بين العبد وَ اصْطَبِرْ أي اصبر، و كأن الاصطبار أقوى دلالة من الصبر. لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. عَلَيْها على الصلاة فإن فيها صعوبة التكرار كل يوم خمس مرات، مما

لا يتأتى إلا بصبر طويل، و لعل تخصيص الأهل، لكونهم الأسوة، و لفرض تعليم المسلمين فإن الواجب على المسلم أن يبدأ بأهله، ثم بين سبحانه أن هذا التكليف ليس مستلزما للمشقة كطلب سائر الموالي من عبيدهم أن يكتسبوا لهم و يأتوا لهم بالرزق لا نَسْئَلُكَ يا رسول الله رِزْقاً بل عبادة و طاعة نَحْنُ نَرْزُقُكَ فإن من يرزق لا يطلب الرزق وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فرزقك في الحياة علينا، و عاقبتك في الآخرة على التقوى، و في الأحاديث ما حاصله أن الله و كل أمر الدنيا إلى نفسه، و أمر الآخرة إلى الناس، فاللازم أن يعمل الإنسان حتى ينال سعادة الآخرة.

[134] و في ختام السورة يأتي الحديث عن المتكبرين و الكفار الذين لا يؤمنون و يأتون بحجج واهية، حيث أن الجو العام للسورة كان حول العقيدة، و المؤمنين و المكذبين وَ قالُوا يعني الكفار لَوْ لا أي لماذا لا يَأْتِينا الرسول بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي بخارقة نقترحها عليه؟

فقد كانوا يقترحون خوارق تعنتا لا حقيقة و استظهارا أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 521

[سورة طه (20): الآيات 134 الى 135]

وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى (135)

ألم تصل إليهم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى بيان ما في الكتب الأولى من أخبار الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم كحال أولئك الأمم، إذا جئناهم بآية كفروا، فتحل عليهم العقوبة؟ أو المراد إنا جئناهم بآية، و هي القرآن

الذي هو مشتمل على الحجج التي كانت في الصحف السابقة، و هل من بينة و حجة بعد القرآن؟ و «بينة» صفة «آية» المقدرة، أي الآية البينة- بمعنى الواضحة-.

[135] لقد تمت على هؤلاء الحجة بنزول القرآن، فإن يهلكوا بعد ذلك، و يدخلوا النار، فليس إلا من أنفسهم و لسوء تلقيهم للآيات وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ أي أهلكنا هؤلاء الكفار بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن أو من قبل الرسول- أهلكناهم بأعمالهم السيئة، و بكفرهم- لَقالُوا و احتجوا على الله سبحانه يا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي لماذا لم ترسل إلينا من يبين لنا أوامرك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ و نعمل بما فيها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ بالعذاب وَ نَخْزى من النار؟ و قد كان حينذاك الحق معهم، فكيف يعذب من لم يتم عليه الحجة؟ أما و قد أرسلنا الرسول و عصوا، فإنهم قد استحقوا العذاب و لو عذبناهم لا مجال لهم للاحتجاج.

[136] و إذ قد تمت الحجة عليهم، و لم يؤمنوا، فلينتظروا العذاب قُلْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 522

يا رسول الله لهم كُلٌ أيّ واحد منا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر ليرى المصير، و ينظر لمن الغلب، و أينا يعذب و أينا ينعم؟ فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا أيها الكفار- و هذا أمر للتهديد- فَسَتَعْلَمُونَ إذا متّم مَنْ منا و منكم أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ أي الطريق المستقيم، و الدين الصحيح وَ مَنِ اهْتَدى إلى الحق، هل نحن أم أنتم؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 523

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّابع عشر من آية (1) سورة الأنبياء إلى آية (79) سورة الحج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 524

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة

و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 525

21 سورة الأنبياء مكية/ آياتها (113)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على ذكر الأنبياء عليهم السّلام و قصصهم، و هذه السورة كسائر السور المكية تعالج قضايا العقيدة، الألوهية، و الرسالة، و المعاد و حيث ختمت سورة «طه» بالوعيد، فتحت هذه السورة بذكر القيامة التي هي محل الثواب و العذاب.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أستعين باسم الله ليكون الله معينا، و إنما الإتيان بالاسم، دون «بالله» لإفادة سمو المسمى حتى كأنه أرفع من أن يستعان به، كما في الدعاء «لاذ الفقراء بجنابك» و الجناب هو العتبة، لإيهام أن الله سبحانه أسمى من أن يلوذ بذاته الفقراء، و هو الرحمن الرحيم الذي يترحم على عباده بالفضل عليهم، فهو يعين بفضله من استعان به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 526

[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

[2] اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ الاقتراب: افتعال من القرب، يعني قرب وقت حساب الناس، و المراد به إما القبر، و إما الموت فإن كليهما قريب و إن ظن الإنسان بعدهما، و لذا

قال الرسول: بعثت أنا و الساعة كهاتين- و أشار بإصبعيه-

وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الساعة لا يستعدون لها و لأهوالها بالأعمال الصالحة مُعْرِضُونَ عن التذكر و الاستعداد.

[3] ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ أي جديد، كالآيات التي تنزل، و الأحكام التي توحى، لأجل تذكيرهم و

إرشادهم إِلَّا اسْتَمَعُوهُ مجرد سماع بآذانهم وَ هُمْ يَلْعَبُونَ مشغولون باللعب، لا يبالون بالذكر، فإن الدنيا لعب و لهو.

[4] في حال كونهم لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي أن قلوبهم في لهو، و هو مقابل الجد، فآذانهم تسمع، و قلوبهم لا تطيع وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان، أخذ يناجي بعضهم بعضا في شأن القرآن و الرسول يقولون هَلْ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ استفهام إنكاري، أي ليس الرسول إلا أحد أفراد البشر فكيف يدعي النبوة؟ و كيف يؤمن به الناس، و الحال أنه ليس من الملائكة حتى يليق بهذا المنصب الذي يدعيه، ثم أرادوا زيادة تنفير الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقول بعضهم لبعض أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 527

[سورة الأنبياء (21): الآيات 4 الى 5]

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)

كيف تقبلون السحر الذي أتى به محمد، و تأتون بمعنى تذهبون إلى السحر وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ و الحال أنتم ترون أنه سحر.

[5] قالَ رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جواب هؤلاء، و كان الإتيان بالفعل الماضي لإشعارهم بعدم أهمية إشكالهم، فإذا أشكل عليك إنسان تقول: قلت لك سابقا، تريد أن هذا الإشكال ليس بالجديد، و إنما قد أكل الدهر عليه و شرب رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ أي يعلم كل ما يقال حول القرآن و الرسول، في جملة سائر الأقوال التي يعلمها فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فأين ما

كان القول يعلمه و لا يغيب عنه، و هذا كالتهديد، بأن أقوالهم محفوظة سيجازون عليها وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم التي يتناجون بها الْعَلِيمُ بأفعالهم و ضمائرهم.

[6] إنهم ما آمنوا بالرسول و القرآن بَلْ قالُوا حول القرآن إنه أَضْغاثُ أَحْلامٍ أضغاث جمع ضغث، و هو: الخلط من الشي ء، و الأحلام جمع حلم، و هو: المنام، يعني: إن الرسول يرى في المنام أحلاما مضطربة فيلفقها و يصنعها قرآنا بَلْ قال بعضهم افْتَراهُ فليس الله نزل شيئا و إنما هو يكذب على الله سبحانه في نسبة القرآن إليه بَلْ قال جماعة هُوَ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاعِرٌ و أن القرآن شعر، فقد كان القرآن بهرهم لا يدرون ماذا يقولون حوله، فمرة يقولون حلم، و أخرى كذب عن عمد، و ثالثة شعر و رابعة سحر و هكذا فَلْيَأْتِنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن كان صادقا بِآيَةٍ خارقة تدل على صدقه، كما زود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 528

[سورة الأنبياء (21): الآيات 6 الى 7]

ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)

موسى بالعصا، و صالح بالناقة و هكذا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ من الأنبياء عليهم السّلام بمثل هذه الآيات.

[7] و قد أجابهم الله سبحانه في طلبهم هذا بأنه ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي أهل قرية أَهْلَكْناها لتكذيبها الأنبياء عليهم السّلام، بعد ما أعطيناهم الآيات المقترحة، كما أرادوها أَ فَهُمْ أي فهل بعد أولئك هؤلاء المقترحون يُؤْمِنُونَ كلا إنهم كالأمم السابقة، لا يؤمنون و إن أرسلنا إليهم مثل تلك الآيات، فإن الإنسان نوع

واحد، و ما كان عليه السابقون هو الذي يكون عليه اللاحقون، فإن أرادوا الحجة فقد تمت عليهم، و إن أرادوا العناد، فالمعاند لا يؤمن مهما كان.

[8] أما ما ذكروا من أنك بشر و كيف يكون البشر رسولا؟ فإن الأنبياء عليهم السّلام السابقين أيضا كانوا بشرا وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا رسول الله إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فهم بشر يمتازون عن سائر الناس بما أوحى إليهم فَسْئَلُوا أيها الكفار المجادلون أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب، و يسمون بأهل الذكر، لأن الكتاب يسمى ذكرا، حيث إنه يذكر الناس بما أودع في فطرتهم من المبدأ و المعاد و المعارف إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فإنهم يجيبون بأن الأنبياء عليهم السّلام كانوا بشرا، و ما روي من تفسير الآية بالأئمة عليهم السّلام فإنه من باب المصداق الظاهر بالنسبة إلى هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 529

[سورة الأنبياء (21): الآيات 8 الى 9]

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

الأمة، فإن الأئمة عليهم السّلام هم أهل الكتاب الذين يعلمونه و يعرفون حدوده و أحكامه، كما أن العلماء و من إليهم أيضا من أهل الذكر.

[9] و قد كان الكفار يقولون (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) «1» ظانين أن الرسول يجب أن لا يأكل و لا يمشي، فردهم الله سبحانه بأن الأنبياء عليهم السّلام السابقين كانوا كذلك وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي أجسادا، و إنما جي ء بالمفرد باعتبار كل واحد لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ و الجسد يطلق على الميت، أو ما يشبهه، كأنه أخذ فيه معنى الفراغ من الروح أو الطعام وَ ما كانُوا

أولئك الأنبياء خالِدِينَ لا يموتون، بل كانوا يعيشون حياة البشر، و يموتون مماتهم، و أنت يا رسول الله أحدهم فلا مجال لقولهم كيف يكون الرسول بشرا؟

[10] و لا يهمك يا رسول الله تكذيب هؤلاء فإن العاقبة المنتظرة لك، كما إن الأنبياء السابقين كانت لهم العاقبة الحميدة ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بأن وفينا بوعدنا لهم، حيث وعدناهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) «2» و نصرناهم في خاتمة المطاف فَأَنْجَيْناهُمْ من كيد الأعداء وَ أنجينا مَنْ نَشاءُ من المؤمنين بهم، كما حدث في قصة نوح و موسى و إبراهيم و لوط و عيسى و غيرهم وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا في الكفر

______________________________

(1) الفرقان: 8.

(2) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 530

[سورة الأنبياء (21): الآيات 10 الى 12]

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10) وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12)

و المعاصي، و هذا بشارة للنبي و المؤمنين، و تهديد للكفار، و نحن إذ نقرأ هذه الآية نرى أن الله سبحانه صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الوعد فقد أنجاه و المؤمنين و نصره على الكفار، و أهلك المسرفين، كما وعده هنا، و قد مرّ على القصة أربعة عشر قرنا، إذ السورة مكية- كما سبق- [11] و ما لهؤلاء الكفار لا يعقلون،؟ إنهم إن عقلوا علموا أن هذا الكتاب الذي يحاربونه أشد محاربة كتاب فيه شرف لهم إن آمنوا به لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها العرب كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم إن تمسكتم به فإنه يخلد ذكركم و مزاياكم أَ فَلا تَعْقِلُونَ هذا الأمر الواضح؟ فتتبعون الكتاب و تتمسكون به.

[12] و

إن أعرضتم و لم يعظكم التبشير و التخويف فانتظروا عاقبة المكذبين وَ كَمْ قَصَمْنا أي أهلكنا، و أصل القصم كسر الظهر الذي يكون مع الصوت مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي ما أكثر ما أهلكنا و عذبنا أهل القرى الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي وَ أَنْشَأْنا أوجدنا بَعْدَها أي بعد تلك القرية، بمعنى بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فنحن لسنا بحاجة إلى أحد، و لا يصعب علينا تبديل أناس بأناس.

[13] و حيث أردنا إهلاك القرية فجاءهم آثار العذاب أخذوا يفرقون من العذاب فَلَمَّا أَحَسُّوا أي أدركوا بحواسهم بَأْسَنا عذابنا إِذا هُمْ مِنْها أي من العقوبة، أو من القرية يَرْكُضُونَ هاربين من العذاب،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 531

[سورة الأنبياء (21): الآيات 13 الى 15]

لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)

كما جرت العادة بأن الإنسان إذا رأى العذاب قد جاء من ناحية يركض هاربا منه لئلا يشمله.

[14] لكن هل كان فرارهم و ركضهم نافعا؟ كلا! فقد كان لسان الحال يقول لهم- حين ذاك- لا تَرْكُضُوا فإن الفرار لا ينفع وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أي: أسباب ترفكم من زخارف الدنيا وَ مَساكِنِكُمْ ارجعوا إلى بيوتكم، فأين تفرون و تتركون هذه الأشياء النفيسة؟ و قد كان هذا القول لهم من باب التقريع و الاستهزاء لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فإن الإنسان المترف الذي في منزله يسأله الناس الحوائج، فارجعوا إلى محلكم و جاهكم الذي كان يقف الناس لأجله على أبوابكم يسألون الحوائج.

[15] و لم يعد عند فرارهم جواب منهم على هذا الاستهزاء، بل قالُوا: يا وَيْلَنا أي

يا سوء حالنا، أو يا قوم ويلنا، و الويل كلمة يقولها من يطلب الهلاك تضجرا من الحالة التي هو فيها، فالمعنى يا ويل احضر فهذا وقتك أو يا قوم إن ويلنا حضر إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث لم نؤمن و كذبنا الأنبياء.

[16] فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمة، أي يا ويلنا دَعْواهُمْ أي دعاءهم و ذكرهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي محصودا قد شملهم العذاب الذي فروا منه، حتى كأنهم السنبل المحصود الذي يقطع فلا حياة فيه خامِدِينَ ساكني الحركات، من خمد ضد اشتعل، فكأنهم لم يكونوا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 532

[سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 18]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)

[17] إن الكفار بلهوهم و لعبهم يزعمون أنهم خلقوا للهو و اللعب بينما إن الكون كله خلق للجد و لغايات و حكم عالية، فكيف يصرف هؤلاء عمرهم لهوا، و يزعمون أن القرآن و الرسالة لعب، ما يأتيهم ذكر إلا و هم يلعبون لاهية قلوبهم، كما قال قائلهم:

لعبت هاشم بالملك فلاخبر جاء و لا وحي نزل

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما من المخلوقات و الموجودات لاعِبِينَ في حال كوننا لاعبين في خلقتها، بل إنما خلقت للجد و للغرض الصحيح، بأن تكون نعمة و دلالة و مقدمة للثواب الدائم.

[18] لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً بأن أردنا أن نلعب و نلهو- على فرض المحال- لَاتَّخَذْناهُ أي جعلنا اللهو مِنْ لَدُنَّا فإن كل لاعب يكون لعبه ملائما لذات اللاعب، فالرجل الكبير يلعب بالكرة،

لا بالدمية، عكس الطفل الذي يلعب بالدمية، و الملك يلهو بالصيد، لا بأخذ الذباب، كما يلهو به الشحاذ، و هكذا لو أراد الله سبحانه أن يتخذ اللهو لكان لهوه من جنس الروحانيات المرتبطة بعالم الله، لا من الماديات الخارجة عن مقامه الرفيع إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ لاتخاذ اللهو، تأكيد لعدم أخذه اللهو، و بعضهم جعل «إن» نافية، أي ما كنا فاعلين.

[19] بَلْ إنا نبطل اللهو و الباطل، فإن الإنسان لم يخلق لأجلها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 533

[سورة الأنبياء (21): الآيات 19 الى 20]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

و لا خلقنا سائر المخلوقات للهو حتى نترك اللهو بحاله ف نَقْذِفُ بِالْحَقِ أي نرمي الحق- كالرامي الذي يرمي الهدف من بعيد، و فيه دلالة على شدة الضرب- عَلَى الْباطِلِ أيّا ما كان لهوا أو غير لهو فَيَدْمَغُهُ يبطله و يفنيه و يمحقه فَإِذا هُوَ أي الباطل زاهِقٌ زائل مضمحل وَ لَكُمُ أيها الكفار الْوَيْلُ و العذاب مِمَّا تَصِفُونَ الله به من أن يتخذ اللهو و الباطل، أو مما تصفون به القرآن من أنه سحر أو شعر أو أحلام أو ما أشبه.

[20] و كيف يستكبر هؤلاء عن الخضوع لله سبحانه، و الحال أنه الملك المطلق، و أن الذين هم أشرف منهم لا يستكبرون عن عبادته؟ وَ لَهُ سبحانه مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من العقلاء، فكيف بغيرهم؟ أو غلب العقلاء على غيرهم، فإن الإنسان في الأرض، و الملائكة في السماء له تعالى، و كذلك سائر الأشياء وَ مَنْ عِنْدَهُ أي الملائكة و المراد ب عِنْدَهُ القرب المعنوي تشبيها له

بالقرب الحسي لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يأنفون و لا يترفعون أن يعبدوه و يطيعوا أوامره وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ الاستحسار الانقطاع من الإعياء، يقال:

استحسر فلان عن عمله، يعني انقطع عنه إعياء، أي إن الملائكة لا يعيون عن العبادة بل إنهم دائمو التعبد.

[21] و لذا قال يُسَبِّحُونَ الله تعالى، أي ينزهونه عما لا يليق بشأنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 534

[سورة الأنبياء (21): الآيات 21 الى 22]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)

اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي فيهما، و الإسناد مجازي، نحو «يا سارق الليلة أهل الدار» لا يَفْتُرُونَ أي لا يأخذهم الفتور و الضعف عن العبادة، هذا حال الملائكة الذين هم أشرف من هؤلاء، فكيف يستكبر هؤلاء؟

[22] و حيث فرغ السياق من تقريع الكفار، حول قولهم عن القرآن و الرسول، و استكبارهم عن عبادة الله سبحانه، أخذ في تقريعهم حول فعلتهم الأخرى، و هي جعل الشركاء لله سبحانه أَمِ اتَّخَذُوا هذا استفهام توبيخي، أي كيف اتخذ هؤلاء الكفار آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ و هي: الأصنام المنحوتة منها، فإن كل صنم من أصل أرضي، و هل الإله يكون من جنس الأرض؟ فهل هُمْ يُنْشِرُونَ أي يقدرون على نشر الأموات، و إحيائهم، كلا! إذن فليسوا هم آلهة، لأن من أول صفات الإله أن يقدر على إحياء الميت، و هذا من التهكم، كما تقول:

إن فلانا يقتدي بالعالم العامل زيد، تريد التهكم بالمقتدي و المقتدى فتأتي بصفة العالم العامل لزيد- و هو خالي عنهما- تهكما.

[23] ثم استدل سبحانه على استحالة تعدد الآلهة لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ المراد إلهان، فأكثر إِلَّا اللَّهُ أي متصفة

بكونها غير الله، و المراد انه لو كان من هذا الجنس أحد غير الله لَفَسَدَتا أي فسدت السماوات و الأرض و ما استقامتا، و المراد بالظرف أعم من المظروف- كما تقدم- و حيث نرى أنهما باقيتان مستقيمتان نستدل بذلك- استدلالا آنيا، أي استدلالا من المعلول إلى العلة- على أنه ليس في الوجود أكثر من إله واحد هو الله سبحانه، و إنما يلازم تعدد الآلهة الفساد، ثم إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 535

الاستدلال على عدم التعدد من وجهين: الأول من ناحية الذات، و الثاني من ناحية اللوازم.

أما الأول: و هو من ناحية الذات، تقريره أنه لو كان إلهان لكان بينهما جامع و لكل منهما مائز، و الجامع غير المائز، فيلزم تركب الإله، و كل تركيب مستلزم لعدم الألوهية، إذ المركب يحتاج إلى الأجزاء و إلى المركّب، و المحتاج مسبوق بالغير، و المسبوق بالغير ممكن لا واجب فليس بإله.

و أما الثاني و هو من ناحية اللوازم، تقريره أنه لو كان إلهان هل يعقل تخالفهما في الإرادة- كأن يريد هذا إحياء زيد و الآخر عدم حياته- أم لا يعقل؟ و كل من المعقولية و عدمها مستلزم لعدم التعدد، أما لو كان تخالفهما في الإرادة معقولا فلا يخرج الحال عن ثلاثة أمور:

إما أن يقع مرادها و هو محال لاستلزامه اجتماع النقيضين. و إما أن لا يقع مرادهما و هو محال لاستلزامه ارتفاع النقيضين. و إما أن يقع مراد أحدهما، و ذلك مستلزم لعدم كون الآخر إلها لأنه محدود القدرة مغلوب على أمره، و أما لو كان تخالفهما في الإرادة غير معقول فليس ذلك لاستحالة ذاتية في مراد أحد الإلهين- كإحياء زيد- و إنما الاستحالة ناشئة من مخالفة

الإله الآخر، و ذلك يستلزم العجز الملازم للإمكان، فهذا الإله الذي لا يعقل أن يريد إحياء زيد عاجز، و العاجز لا يكون إلها، لما تقرر في علم الكلام من أن العاجز لا يعقل أن يكون إلها إذ بساطة الوجود في الإله، و إمكان المهية في المقابل، و وحدة نسبة الإله إلى جميع الممكنات، مستلزم للقدرة المطلقة، و بهذا التقرير تبين: أن الدليل لا يتوقف على تخالف الإرادة خارجا، حتى يقال إنهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 536

[سورة الأنبياء (21): الآيات 23 الى 24]

لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

حكيمان فلا يتخالفان في الإرادة.

فلو فرضنا- مستحيلا- أن هناك إلهين، كان اللازم أن يستقل كل في مراده، و ذلك مستلزم للفساد إذ يريد هذا المطر، و ذاك عدمه مثلا، فيتنازعان مما يؤدي إلى فساد العالم فَسُبْحانَ أي أنزه اللَّهُ تنزيها عما لا يليق به رَبِّ الْعَرْشِ أي مالك الكون، فإن العرش كناية عن الملك، و هناك عرش عظيم جدا، هو الله مالكه، و قد جعله موضع تشريفه للملائكة، كما جعل البيت الحرام موضع تشريفه للبشر عَمَّا يَصِفُونَ الله به- هؤلاء الكفار- من الشريك، فيقولون إن الله متصف بأن له شريك.

[24] إنه تعالى لكون جميع أفعاله عن حكمة و صواب و صلاح لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي ليس له شأنية أن يسأل، إذ الحكيم لا يسأل عنه: لم تفعل؟

فهو من قبيل «لا ريب فيه» الذي كان معناه ليس بموضع ريب و إن ارتاب فيه المبطلون وَ هُمْ أي البشر أو الكفار يُسْئَلُونَ عما

فعلوا لأنهم عبيد مملوكون يخطئون كما يصيبون، و المخطئ يسأل و يحاسب.

[25] و بعد أن استدل القرآن على بطلان التعدد، يأتي السياق ليسأل القائلين بذلك: ما دليلهم؟ فمن ادعى شيئا لا بد و أن يقيم له الدليل، و هؤلاء المشركون لا دليل لهم على ذلك، حتى الدليل الواهي أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا لله شركاء قُلْ يا رسول الله لهم هاتُوا أي ائتوا بُرْهانَكُمْ و دليلكم على تعدد الآلهة، لكنهم لا يأتون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 537

[سورة الأنبياء (21): الآيات 25 الى 26]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26)

بالدليل، إلا قولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) «1» و هل فعل الآباء يكون دليلا و حجة؟

هذا القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين و ليس فيه دلالة على الشرك وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأنبياء و المؤمنين و ليس في ذلك ما يدل على الشرك، فمن أين جئتم أيها المشركون بالشرك؟ إن الذكر الذي أنزله الله على أنبيائه، الذي هو مجموع في القرآن، لا يشير إلى الشركاء، فالمدعي له يدعي الباطل، فلا دليل عقلي له- قل هاتوا برهانكم- و لا دليل شرعي له- فهذا ذكر من معي و ذكر من قبلي و ليس فيه إلا التوحيد- فليس اتخاذهم للشركاء عن علم و دليل بَلْ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر البشر لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ الذي هو التوحيد فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق مقبلون على الباطل.

[26] ثم بين سبحانه كيف أنزل الله الكتب حول التوحيد- بيانا لقوله هذا ذكر من معي و

ذكر من قبلي- وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْ رَسُولٍ «من» تفيد العموم في النفي، و تسمى زائدة، لصحة أن يقال «رسولا» إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ نحن ب أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وحدي لا شريك لي فَاعْبُدُونِ لي فقط دون غيري.

[27] و حيث بين القرآن الحكيم بعض عقائدهم الفاسدة حول التوحيد،

______________________________

(1) الزخرف: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 538

[سورة الأنبياء (21): الآيات 27 الى 29]

لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

و زيف عقيدتهم تعرض إلى عقيدة أخرى زائفة كانوا يعتقدونها، و هي أن لله سبحانه أولادا وَ قالُوا أي بعض الكفار اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي جنس الولد و مرادهم الملائكة سُبْحانَهُ أنزهه تنزيها عن ذلك، فإن الولادة غير معقولة في حقه، و التبني غير صادق بالنسبة إليه بَلْ الملائكة الذين جعلوهم أولاد الله عِبادٌ مُكْرَمُونَ أكرمهم الله سبحانه و فضلهم على كثير من خلقه.

[28] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يتكلمون إلا بما يأمرهم الله سبحانه، فقولهم إثر قوله، و اتباع أمره وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فأقوالهم و أفعالهم كلها بأمر الله و إذنه، و من هذا شأنه لا يكون ولدا.

[29] و هو سبحانه محيط بهم إحاطة علم و قدرة ف يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أمامهم، و ما عملوه و قدموه وَ ما خَلْفَهُمْ أي ورائهم و ما سيعملونه- و ذلك كناية عن الإحاطة بهم- وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى لا يتوسط الملائكة لإنجاء المجرم من عذاب

الله، إلا لمن أراد الله أن يشفعوا له، فحتى شفاعتهم ليست ابتدائية، و إنما تابعة لرضى الله سبحانه وَ هُمْ أولئك الملائكة مِنْ خَشْيَتِهِ من خوف الله سبحانه مُشْفِقُونَ و وجلون، من أشفق بمعنى و جل و خاف.

[30] وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من أولئك الملائكة الأطهار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 539

[سورة الأنبياء (21): آية 30]

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30)

إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ من دون الله فَذلِكَ القائل نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ فهم على طهارتهم و قربهم لا فرق بينهم و بين سائر العبيد في أن المدعي منهم للألوهية نصيبه جهنم، و لعل قسما من المشركين كانوا يعبدون الملائكة، كما يظهر من قوله سبحانه (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) «1» و لذا يأتي هذا الكلام الجازم بأنهم لا يدّعون الألوهية فكيف أنتم تقولون عنهم ذلك، و لو ادعاها أحدهم لجوزي بالنار كَذلِكَ الذي نجزي مدعي الألوهية نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر و العصيان.

[31] ثم يرجع السياق إلى بيان الآيات الكونية الدالة على قدرة الله و عمله و سائر صفاته فيقول سبحانه أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام تقريع و توبيخ أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي كانت كل واحدة منهما متصلة لا تمطر السماء و لا تنبت الأرض النبات، فحمل الرتق على السماوات و الأرض من باب زيد عدل فَفَتَقْناهُما أي شققناهما بإنزال المطر من السماء، فإن السماء- و هي جهة العلو- تشق بالمطر، و إنبات النبات من الأرض وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ فإن أصل الحياة و بقائها بالماء، و

قد ناسبت هذه الجملة الجملة السابقة الدالة على فتق السماء بالمطر أَ فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ما يرون من هذه الآيات

______________________________

(1) الزخرف: 82.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 540

[سورة الأنبياء (21): الآيات 31 الى 32]

وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32)

العظيمة، بالله سبحانه، فمن فتق السماء بالمطر؟ و من فتق الأرض بالنبات؟ و من أوجد الأشياء الحية من النبات؟

[32] وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جمع راسية، و هي الجبال الثوابت التي تمنع الأرض عن الحركة و الاضطراب، كراهة أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تتحرك، من ماد بمعنى تحرك، و ضمير بهم عائد إلى الناس وَ جَعَلْنا فِيها في الأرض أو في الجبال فِجاجاً سُبُلًا الفجاج جمع فج، و هو الطريق الواسع بين جبلين، و سبلا بدل منه، و كان تخصيص الفجاج بالذكر لأن الجبل الذي هو صلب لا يمكن قطعه إذا لم يكن فيها فجاج، كان سببا لقطع الاتصال بين طرفيه، فنعمته جعل الطريق فيها عظيمة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لكي يهتدي الناس إلى بلادهم و مصالحهم بسبب تلك الفجاج، أو لكي يهتدوا إلى خالق السماء بالتذكر و الاعتبار من هذه النعم و الآيات.

[33] وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً فإن طبقة الهواء التي تعلونا محفوظة عن الخلل، و إنما جعلت بمقياس دقيق في جميع شؤونها، و قال بعض علماء الفلك: أن الطبقة «النتروجينية» تحفظ الأرض من القذائف الجوية، فتجعلها رمادا منثورا لئلا تصل إلى الأرض فتؤذي أهلها، و السقف هو ما يعلو الإنسان أو المراد المحفوظ من الشياطين، فإنهم لا يقدرون من الوصول إليها. و استراق

السمع، و قد حفظت بالشهب، كما قال سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 541

[سورة الأنبياء (21): الآيات 33 الى 34]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) «1» وَ هُمْ أي البشر عَنْ آياتِها الكائنة فيها مُعْرِضُونَ فلا يستدلون بها على المؤثر العالم القدير.

[34] وَ هُوَ الله الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ فإن الظلمة شي ء مخلوقة بنفسها أو بخلق ضدها، و هي الضياء وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و خصصا بالذكر مع أن الشمس هي المولدة للنهار، لعدم التلازم كما إذا سكنت الكرات فإن الشمس موجودة و لا نهار و لا ليل بهذه الكيفية الحالية كُلٌ من الشمس و القمر فِي فَلَكٍ أي مدار خاص به يَسْبَحُونَ تشبيه بالإنسان السابح في الماء، و إنما جي ء بلفظ العاقل حيث قال:

يسبحون. لأنه نسب إليهم فعل العقلاء و هو السباحة و لعل لهما عقلا، و لذا ورد في الدعاء خطابا للقمر «أيها الخلق المطيع»- إلى آخره-.

[35] إن الذي خلق الكون هو الذي خلق الحياة و الموت، و لا منجي لبشر من الموت، فليحسن البشر في حال الحياة، حتى لا يأتيه الموت، و قد أسرف مما يسبب له سوء العاقبة وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله الْخُلْدَ أي الخلود و الدوام في الدنيا، و الخضر و عيسى أيضا ليسا من الخالدين، و إن امتدت بهما الحياة إلى مدة بعيدة أَ فَإِنْ مِتَ يا رسول الله أنت فَهُمُ الْخالِدُونَ استفهام إنكار، يعني إن انتظار هؤلاء لموتك غير صحيح إذ

أنهم يموتون فما فائدة موتك لهم، حينما

______________________________

(1) الصافات: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 542

[سورة الأنبياء (21): الآيات 35 الى 36]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)

قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) «1» [36] كُلُّ نَفْسٍ أي حي ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تذوق الموت، و تخرج عن الحياة وَ نَبْلُوكُمْ نمتحنكم أيها البشر و نختبر- و إن كان اختبار الله ليس لأن يعلم هو، فإنه تعالى عالم بكل شي ء، و إنما لأن يعرف نفس الشخص من هو و ما أعماله ليتم على الأشقياء الحجة، و تتم للسعداء السعادة- بِالشَّرِّ كالمرض و الفقر و موت الأقرباء و ما أشبه وَ الْخَيْرِ كالصحة و الغنى و الجاه و ما أشبه فِتْنَةً أي لأجل الامتحان، و المعنى نختبركم بالشدة و الرخاء لأجل الامتحان لنرى من يصبر عند البلاء و من يجزع، و من يشكر عند النعماء و من يبطر وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ إلى ثوابنا و عقابنا، و ذلك حين الموت، لأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، أو حين البعث، و هناك نجزي المحسن بالثواب و نعاقب المسي ء بالعذاب.

[37] و بعد الكلام حول الإله يأتي الكلام حول الرسالة و المعاد و بيان أنهم كيف يستقبلون هذين الأصلين من أصول الإيمان وَ إِذا رَآكَ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا و قد سبق منك أن عبت آلهتهم و سفهت أحلامهم و دعوتهم إلى التوحيد إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً سخرية و استهزاء، يقول بعضهم لبعض أَ هذَا محمد

الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ

______________________________

(1) الطور: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 543

[سورة الأنبياء (21): الآيات 37 الى 38]

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

على طريق الاستفهام الاستهزائي، أي هل هو الشخص الذي يقول عن الآلهة إنها لا تنفع و لا تضر وَ هُمْ بينما يعتقدون بالآلهة الصنمية بِذِكْرِ الرَّحْمنِ الذي خلق و تفضل بالرحم هُمْ كافِرُونَ جاحدون، فأمرهم أدعى إلى العجب و الاستهزاء حيث يؤمنون بالجماد و يكفرون بإله الكون ..؟! [38] و قد كان الكفار يقولون للرسول لو كنت صادقا في أن مصير الكفر و التكذيب العذاب و النكال، فائتنا بذلك العذاب (وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «1»؟ و يريدون بذلك الاستهزاء كما تقول لمن يهددك و لا يقدر على شي ء: افعل بما تهدد، فأجابهم الله سبحانه عن استعجالهم العذاب بقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يعني أنه من فرط استعجاله و قلة صبره كأنه خلق من جنس هو العجل، كما قال الشاعر في عكسه: «و لله مفطور من الصبر قلبه». و هذا من باب المبالغة و حمل المصدر على الذات، لإفادة تلبس الذات بالمصدر دائما و تلازمه معه غالبا سَأُرِيكُمْ آياتِي و الأدلة الدالة على صدق النبي في أن من لم يؤمن يؤخذ بالعذاب، فإن العذاب آية من آيات الله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ في طلب العذاب، فإنه إذا نزل بكم لا مناص لكم عنه و لا خلاص.

[39] وَ يَقُولُونَ الكفار مَتى هذَا الْوَعْدُ الوعد بالعذاب الذي يعدنا

______________________________

(1) يونس: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 544

[سورة الأنبياء (21): الآيات 39 الى 41]

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ

لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41)

محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو بقينا على كفرنا إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون صادِقِينَ في ادعائكم أن العذاب يأخذنا؟.

[40] لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ أي وقت العذاب، لعلموا صدق الرسول و المؤمنين و أنهم كانوا في غفلة و غرور، و قد حذف جواب «لو» تهويلا أن العذاب ليأخذهم من جميع جوانبهم، في صورة فجائية، فإذا بهم يخفون لدفع العذاب، بلمس اليد على وجوههم و ظهورهم، كالإنسان الذي يحترق فيكرر إمرار يده على وجهه و جسمه، ليحول دون الاحتراق، و لكن هناك لا تفيد هذه الحركات، فإنهم لا يَكُفُّونَ و لا يمنعون، بإمرار اليد عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ المشتعلة فيها وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ كما ينصر المحترق في الدنيا حيث يجتمع الناس عليه و يطفئون النار المشتعلة فيه.

[41] بَلْ تَأْتِيهِمْ النار بَغْتَةً أي فجأة، كما كانوا يطلبون استعجال العذاب، إنهم بمجرد الموت تحيط بهم النار فَتَبْهَتُهُمْ و تحيرهم كيف يصنعون فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي لا يقدرون على دفع النار التي أتتهم بغتة وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخرون لوقت آخر ليحدثوا توبة، أو يفكروا في خلاص.

[42] و قد سبق أخذ العذاب أمما استهزءوا بأنبيائهم، بغتة، فليخف هؤلاء عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 545

[سورة الأنبياء (21): الآيات 42 الى 43]

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ

لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

مثل ذلك المصير وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ يا رسول الله، و المستهزئ هم الأمم بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما يستهزئ هؤلاء بك، قائلين (أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) «1» فَحاقَ أي حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي من تلك الأمم- و الضمير عائد إلى مقدر معلوم من السياق، نحو «لأبويه»- ما كانُوا أي و بال ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و المراد أنه حل بهم جزاء سخريتهم.

[43] إنهم قد اتخذوا الأصنام آلهة، فهل الأصنام تحفظهم من عقاب الله إذا جاءهم؟ قُلْ يا رسول الله لهؤلاء مَنْ يَكْلَؤُكُمْ من كلأ بمعنى حفظ، أي من هو الذي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أي من عذاب الله، إذا أراد أن يعذبكم و يأخذكم في ليل أو نهار، و هذا استفهام إنكاري، يعني لا حافظ من بأس الله، و كأن الإتيان بلفظ «الرحمن» لإفادة أنهم قد أغرقوا في العتو حتى استحقوا العقاب من الرحمن الذي شأنه التفضل و الترحم بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يذكرون الله سبحانه حتى يخافوا عقابه و يفكروا في أنه لا عاصم منه إن أراد بهم عذابا و نكالا.

[44] إن هؤلاء يعتمدون في أمورهم على آلهتهم، فهل الآلهة تتمكن من

______________________________

(1) الأنبياء: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 546

[سورة الأنبياء (21): آية 44]

بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (44)

الوقوف أمام العذاب لتصده عن هؤلاء؟ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا أي أ فهل لهم آلهة لها شأنية الوقوف ضدا أمامهم لتمنع عذابنا عنهم؟ كلا! إن الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ فإنها إذا أراد بها أحد شرا لا

تتمكن من الدفاع عن نفسها، فكيف تدافع عن هؤلاء الذين يعبدونها، و جي ء بوصف العاقل للآلهة تمشيا مع اصطلاح القوم، و إلا فالآلهة لا تعقل و لا تدرك وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أي أن هذه الآلهة لا قوة لها من ذاتها، و لا أنها تستمد القوة منا حتى تتمكن من صنع العذاب بتلك القوة، فإنها ليست بصحبتنا حتى تستمد القوى منا، فإن الصاحب يستمد القوة من صاحبه، و هذا جدل تهكمي مع عباد الأصنام كما كانوا يستهزئون بالرسل- في عين أنه تقرير للحقيقة-.

[45] إن سبب كفران هؤلاء ليس لأجل اعتمادهم على الآلهة بَلْ لأجل إنا أنعمنا عليهم فطغوا، و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» فقد مَتَّعْنا هؤُلاءِ الكفار بأنواع النعم وَ كذلك متعنا آباءَهُمْ من قبلهم، و ذلك أدعى للطغيان، فإن الفقير البائس واعي القلب متفتح النفس، أما من ربّي في النعيم من زمان أبيه إلى آخر عمره فإنه يطغى و ينسى حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فغرهم طول العمر و أسباب الرفاه، و قلبوا الشكر كفرا، لكن هؤلاء يلزم أن يعتبروا بمن هو أقوى و أشد، فهذه الدول من أطرافهم، كل يوم تقلص بخراب أطراف بلادها، و غزو

______________________________

(1) العلق: 7- 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 547

[سورة الأنبياء (21): الآيات 45 الى 46]

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46)

الأعداء لها حتى تكون خرائب بعد العمران، و مغلوبة بعد الغلبة و النصر، أ فهل من يقدر على ذلك لا يقدر على أن يسلب النعمة و الحياة من هؤلاء؟ أَ فَلا يَرَوْنَ

أي ألا يرى هؤلاء الكفار الذين أفسدهم العمر الطويل في النعمة الموروثة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي نتوجه إلى أرض الحكومات و بلادهم نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فمن طرف خراب للعمران، و من طرف ذهاب بعدوان، و هذا كما يقال إن الدولة الإسلامية تقلصت، أو أن المسلمين نقصوا من أرض الكفار أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ استفهام إنكاري، أي فهل بعد عدم قدرة الدول على أن تمنع مشيئتنا حول أراضيها، هم يتمكنون من الامتناع عن قدرتنا، فيغلبون علينا في إرادتنا.

[46] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي بما يوحي إلي، بأنكم إذا لم تؤمنوا يأخذكم العذاب، ثم أضرب سبحانه بقوله وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ الصم جمع أصم، فإن الأصم لا يسمع نداء المنادي له، و هؤلاء كالأصم، فإنهم لا يسمعون الإنذار، و لا يعيرون له الاهتمام إِذا ما يُنْذَرُونَ أي في حال إنذارهم و تخويفهم.

[47] إن هؤلاء الكفار- اليوم- لا يعيرون الإنذار اهتماما، أما إذا جاءهم شي ء ضئيل من العذاب اعترفوا بأنهم كانوا في ضلالة وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ مجرد مس، و هو المرور على ظاهر الجسم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 548

[سورة الأنبياء (21): آية 47]

وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

النفحة الوقعة اليسيرة كنفح الطيب الذي هو شي ء يسير من ريحه لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا أي يا قوم ويلنا، أو يا ويلنا أحضر فهذا وقتك- كما سبق- إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حين لم نسمع دعوة الرسول.

[48] وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ فكأن الميزان قطعة من العدل، من شدة أنها تعدل في الوزن و «القسط»

صفة الموازين، فإن المصدر يأتي وضعا للمفرد و التثنية و الجمع، بلفظ واحد، و المراد من الوضع إحضار تلك الموازين ذوات القسط لوزن الأعمال، و هل الموازين كموازين الدنيا، أم المراد بالموازين هم الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و من إليهم، أم هو كناية عن جزاء الأعمال حسب المقاييس المقررة- كما نقول فلان لا ميزان لكلامه- احتمالات؟ هذه الموازين هي لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فحينئذ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بأن ينقص من ثوابه، أو يزداد في عقابه وَ إِنْ كانَ عمله- المفهوم من السياق- مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي بقدر ثقل حبة من الخردل، و هو تشبيه في الصغر و الخفة أَتَيْنا بِها أي أحضرنا تلك الحبة، و المراد إدراجها في الحساب، حسنة كانت أم سيئة وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ «بنا» فاعل «كفى» دخل فيه الباء، لأنه في معنى متعلق الأمر، تقول «اكتف بزيد» و «حاسبين» حال من الضمير، أي إننا يكتفى بنا في الحساب لأعمال هؤلاء من جهة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 549

[سورة الأنبياء (21): الآيات 48 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

عدم نسيان أي جزء من جزئيات أعمالهم، فلا حاجة إلى محاسب آخر، و إنما نحسب لنجازي كل أحد قدر عمله.

[49] و حيث بين السياق قصة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع القوم، ذكر بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إتماما للحجة على الكفار، و تقريرا للأصول التي دعا إليها كل الأنبياء وَ لَقَدْ

آتَيْنا أي أعطينا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ أي الكتاب و البرهان الذي يفرق بين الحق و الباطل وَ ضِياءً أي أعطيناهما ما يضي ء درب الحياة السعيدة في الدنيا و الآخرة، لئلا يقع الناس في الضلال من جراء الظلمة وَ ذِكْراً يذكر البشر بما أودع في فطرته من العقيدة و المعارف لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك كله، أما غير المتقي عن عذاب الله، فإنه لا ينتفع.

[50] ثم بين المتقين بأنهم هم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي يخافون عذابه بِالْغَيْبِ فإن الإنسان لا يحس الله سبحانه بإحدى حواسه الخمسة، و مع ذلك يخشاه، فهو غائب عن الحواس، و لكنه مرهوب للمتقين وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي القيامة مُشْفِقُونَ خائفون و وجلون، لأنهم لا يدرون ماذا يصنع بهم.

[51] و كما آتينا موسى و هارون الكتاب، كذلك آتينا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هذا القرآن ذِكْرٌ مذكر للناس ما أودع في فطرتهم من الأصول و المعارف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 550

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 599

[سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 54]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)

مُبارَكٌ يوجب البركة و النمو، لمن أخذ به أَنْزَلْناهُ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليذكر الناس و يباركهم أَ فَأَنْتُمْ أيها الكفار لَهُ مُنْكِرُونَ تنكرون كونه من عند الله، و هذا استفهام توبيخ و تقريع.

[52] وَ لَقَدْ آتَيْنا أعطينا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي الحجج و الأدلة

التي توجب إرشاده إلى الحق مِنْ قَبْلُ من قبل موسى و هارون، و قبل القرآن وَ كُنَّا بِهِ بإبراهيم عالِمِينَ نعلم أنه صالح للنبوة و الرسالة.

[53] إِذْ قالَ إبراهيم عليه السّلام، و الظرف متعلق ب «آتينا» لِأَبِيهِ أي عمه آزر، فقد جرت العادة بتسمية العم أبا وَ قَوْمِهِ حين رآهم يعبدون الأصنام ما هذِهِ التَّماثِيلُ جمع تمثال، و هو الشي ء المصنوع الشبيه بشي ء من خلق الله سبحانه، سواء كان المشبه به إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو غيرها، و قد يعم فيطلق على الشبيه بخلق الإنسان، فصنع قصر صغير للعب الأطفال أو سيارة صغيرة كذلك يسمى تمثالا الَّتِي أَنْتُمْ أيها القوم لَها عاكِفُونَ أي مستمرون دائمون على عبادتها و الخضوع لها؟

[54] قالُوا في جواب إبراهيم وَجَدْنا آباءَنا لَها أي لهذه التماثيل- و المراد جنسها- عابِدِينَ فإنا قد قلدناهم في عبادتهم لها.

[55] قالَ إبراهيم عليه السّلام لهم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ أيها القوم وَ آباؤُكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 551

[سورة الأنبياء (21): الآيات 55 الى 57]

قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

الذين عبدوها قبلكم فِي ضَلالٍ مُبِينٍ واضح إذ كيف تعبدون ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنكم شيئا؟.

[56] قالُوا أي القوم، لما رأوا من إبراهيم الإصرار على نبذ عبادة الأصنام أَ جِئْتَنا بِالْحَقِ أي هل أنت جاد في كلامك هذا محق عند نفسك تريد بيان الحق بزعمك أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ تمزح و تلعب في كلامك؟ فقد كانوا يستبعدون أن ينكر عليهم أحد

عبادة الأصنام التي ألفوها منذ دهور.

[57] قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم، ما يفيد أنه جاد محق، و لكن غير مجرى الكلام ليكون جوابه مع الدليل و البرهان فلا يبقى محل للمناقشة بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليست هذه أربابا لكم، و إنما هو الله الَّذِي فَطَرَهُنَ أي خلق السماوات و الأرض، و الإتيان بضمير العاقل، إما باعتبار تغليب العقلاء الموجودين فيهما و إما باعتبار أن لهما مرتبة من الإدراك و الشعور وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ «ذا» اشارة إلى المطلب المتقدم، و هو أن الرب هو اله السماء و الأرض و «كم» خطاب للقوم مِنَ الشَّاهِدِينَ أي أشهد بذلك، و هذا لتأكيد الأمر، و إلا فكل مخبر شاهد لما يخبر عنه، و كأن المراد أن إخباري ليس تقليدا و إنما عن حضور و شهادة.

[58] وَ تَاللَّهِ حلف بالله لتأكيد ما يقول، و التاء للتعجب، و إنما جي ء بها لصعوبة الأمر الذي نواه حتى أن الآتي به يستحق التعجب منه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 552

[سورة الأنبياء (21): الآيات 58 الى 59]

فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)

لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي أدبّرن تدبيرا خفيا في باب الأصنام، يسوؤكم ذلك، يقال: كاده إذا دبّر تدبيرا خفيا يوجب مساءته بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي تعرضوا عن المدينة جاعلين ظهوركم عليها تريدون الاجتماع في يوم عيدكم، فقد كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إلى خارج المدينة لأجله فيجتمعون هناك، ثم إذا رجعوا دخلوا بيت الأصنام يسجدون لها، و لما أرادوا الخروج دعوا إبراهيم للخروج معهم فلم يخرج، فلما خرجوا جاء إلى بيت الأصنام و قد خلا

من الناس.

[59] و أخذ فأسا بيده فَجَعَلَهُمْ أي الأصنام- و قد مر وجه الإتيان بضمير العاقل- جُذاذاً أي قطعة قطعة فهو فعال بمعنى مفعول كالحطام، و أصله من الجذ بمعنى القطع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي كبير الأصنام، فإنه عليه السّلام لم يكسره، و إنما أبقاه على حاله، و المراد أكبرهم جسما، أو أكبرهم عظمة عند القوم، و قد علق الفأس في عنق ذلك الكبير، و إنما فعل ذلك لَعَلَّهُمْ أي القوم إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم يَرْجِعُونَ فيسألون عن الفاعل للتحطيم، فينبئهم على خطئهم في العبادة.

[60] و لما رجعوا و رأوا أن الأصنام قد حطمت و كسرت قالُوا قال بعضهم لبعض مَنْ فَعَلَ هذا الكسر و التحطيم بِآلِهَتِنا؟ على نحو الاستفهام الاستنكاري، أو أن من مبتدأ خبره إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ الذي ظلم نفسه و قومه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 553

[سورة الأنبياء (21): الآيات 60 الى 63]

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)

[61] قالُوا أي قال بعضهم في جواب السائلين سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي أن في المدينة شابا يذكر الأصنام بسوء لعله هو الذي صنع هذا الصنيع يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ لا شأن له و لا أهمية، و من هذا يظهر أن إبراهيم عليه السّلام كان شابا حينما فعل ذلك.

[62] قالُوا قال بعض القوم لآخرين فَأْتُوا بِهِ فجيئوا بإبراهيم عليه السّلام عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ بحيث يراه الناس و يكون بمشهدهم و الإتيان بلفظ «على» لعله لكون العين تستوعب الشخص فكأنه عليها لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ بما قاله إبراهيم في شأن

الأصنام، فتكون شهادتهم حجة عليه لا يتمكن من الإنكار، عند إرادة عقابه جزاء لما فعل.

[63] فذهب بعض القوم، و جاءوا بإبراهيم عند الجماهير الحاضرة ف قالُوا لإبراهيم عليه السّلام أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل الشنيع: الكسر و التحطيم بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ على نحو الاستفهام التقريري.

[64] لكن إبراهيم تهكم منهم، و صاغ الجواب في قالب يلفتهم إلى خطأ اتخاذهم لها أربابا قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا الذي بقي سالما و على عنقه الفأس، و الكلام صدق إذ المقصود من الكلام هو الذي يجعله صادقا أو كاذبا، لا القالب المصنوع، ألا ترى أنك لو قلت للبخيل «إنه كريم» لم يكن كذبا، حيث تريد بذلك التهكم، و كذا لو قلت لرجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 554

[سورة الأنبياء (21): الآيات 64 الى 65]

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

شجاع «أنه أسد» لو أردت المجاز، ثم ألفت إبراهيم، إلى موضع العبرة و الحجة بقوله فَسْئَلُوهُمْ أيها القوم، عمن فعل بهم هذا العمل إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ فإنهم يخبرونكم عمن فعل بهم هذا، و قد أراد عليه السّلام بذلك إلفاتهم إلى أنهم كيف يتخذون الأصنام آلهة، و هي لا تنطق و لا تعلم من فعل بهم الكسر و التحطيم، و إلى ما ذكرنا في معنى الآية تشير

الرواية الواردة في الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: إنما قال بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح، و دلالة على أنهم لا يفعلون «1»

[65] و هنا أخذت الموعظة مأخذها، و عمل التنبيه مفعوله فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي إلى أن القوم قال بعضهم لبعض، أو تفكروا في نفوسهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أيها القوم أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ

لأنفسكم حيث تعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على دفع العدو عن نفسها، و حتى على النطق و إظهار من فعل الكسر بها.

[66] ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ كما هو عادة الذي قد تمت عليه الحجة فلا جواب له، و المراد نكسوا رؤوسهم، لكن فاعل النكس لم يظهر، و الإتيان ب «على» لإفادة أن هناك دافعا دفع الرؤوس من فوقها حتى نكست، و أخذوا يجمجمون- مخاطبين إبراهيم، أو أنفسهم- لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف نسأل منهم، كما قلت «فاسألوهم»؟

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 341.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 555

[سورة الأنبياء (21): الآيات 66 الى 69]

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)

[67] و لما رأى إبراهيم عليه السّلام أنهم وصلوا إلى واقع الأمر، و أن عظته قد أثرت، أخذ يبث فيهم دعوته بنبذ الأصنام و اتخاذ الإله معبودا دونها قالَ إبراهيم عليه السّلام لهم أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أي كيف تعبدون الأصنام التي هي لا تنفع و لا تضر، و لو كانت قدرت على النفع و الضرر لدفعت المكروه عن نفسها؟

و الاستفهام توبيخي تقريعي.

[68] أُفٍّ لَكُمْ «أف» كلمة تضجر، أي تبا لأعمالكم و أفعالكم، وَ أف لِما تَعْبُدُونَ أي للأصنام التي تعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي التي هي غير الله سبحانه أَ فَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون بعقولكم إنها ليست آلهة تستحق العبادة و التعظيم.

[69] و قد التجأ القوم-

بعد تمام الحجة عليهم- إلى ما يلتجئ إليه كل جاهل معاند، من التخلص عن الحق بالقوة و العقاب ف قالُوا بعضهم لبعض حَرِّقُوهُ حرقوا إبراهيم بالنار جزاء لما فعل بالأصنام وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالتخلص من أعدائها، و إنزال العقاب الصارم بمن أهانها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ للنصرة لها، فأحرقوا إبراهيم عدوها.

[70] فأمر نمرود الملك الطاغي بجمع الحطب، و قد كان يكفي الحطب القليل لهذا الأمر، لكن الحقد أوجب أن جمعوا من الحطب قدرا مدهشا- بقدر حقدهم لا بقدر حرق إبراهيم- و صنعوا منجنيقا، تقذف، لأنهم لم يكونوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 556

[سورة الأنبياء (21): الآيات 70 الى 71]

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)

يتمكنون من اقتراب تلك النار الكثيرة المهولة، ثم وضعوا إبراهيم في فوهة المنجنيق، بمشهد من الملك و الجماهير، و قذفوه في النار قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً و قد كان أمرا تكوينيا، نحو (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) «1» و السلام أعم من البرد، فإن البرد إذا زاد لم يسلم الإنسان فيه عَلى إِبْراهِيمَ و المراد بالقول إما خلق الصوت، أو الإرادة.

[71] وَ أَرادُوا أي القوم بِهِ بإبراهيم عليه السّلام كَيْداً أي شرا و تدبيرا في هلاكه بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ إذ خسروا كيدهم، بل فوق ذلك أن ظهرت عظمة إبراهيم عليه السّلام، مما سبب لنشر دعوته أكثر من ذي قبل فكأنهم جمعوا إلى خسارتهم بالنسبة إلى عقيدتهم الكافرة، خسارة المغلوبية، فهم الأخسرون.

[72] و قد بقي إبراهيم عليه السّلام في بابل العراق مدة يدعو فلم تنفع القوم الدعوة، بل أرادوا حرقة فلم ينجحوا، و سلط الله عليهم البعوض حتى أخذت لحومهم و

شربت دماءهم و أهلكت واحدة منها نمرود الملك الطاغي، و من ثم هاجر إبراهيم عليه السّلام إلى الشام، لعل القوم هناك يقبلون الدعوة وَ نَجَّيْناهُ أي إبراهيم عليه السّلام وَ لُوطاً و هو من أرحام إبراهيم عليه السّلام، و في بعض التفاسير أنه ابن أخ إبراهيم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها في تلك الأرض و هي الشام لِلْعالَمِينَ لجميع

______________________________

(1) البقرة: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 557

[سورة الأنبياء (21): الآيات 72 الى 73]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73)

الناس، فقد تواترت الأنبياء هناك، و قد كانت الشام تطلق سابقا على ما يشمل لبنان و سورية و فلسطين و الأردن و حواليها.

[73] وَ وَهَبْنا لَهُ لإبراهيم إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً إسحاق بن إبراهيم من سارة و قد دعا عليه السّلام أن يرزق ولدا فأعطاه الله إياه، و يعقوب ولد إسحاق، و قد وهبه الله سبحانه لإبراهيم- حيث إن الحفيد أيضا هبة للجد- و معنى «نافلة»: «زائدة» إذ لم يكن يعقوب حسب دعاء إبراهيم، و إنما كان لطفا محضا منه سبحانه عليه، و تأنيث نافلة باعتبار النفس، و لم يذكر إسماعيل عليه السّلام لعله لكونه على مجرى الطبيعة، إذ «سارة» كانت كبيرة و عقيمة، أما «هاجر» فلم تكن كذلك، و إنما هي شابة ولودة وَ كُلًّا من إبراهيم و إسحاق و يعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوة و الرسالة و الهداية و الإرشاد و سائر الفضائل.

[74] وَ جَعَلْناهُمْ أي الثلاثة أَئِمَّةً جمع إمام، و هو المقتدى، أي يقتدى بهم في أمور الدين

و الدنيا يَهْدُونَ الناس إلى الحق بِأَمْرِنا و أرسلناهم إلى الناس ليرشدوهم وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أوحينا إليهم أن افعلوا الأفعال الخيرة الموجبة للخير و السعادة في الدنيا و الآخرة وَ إِقامَ الصَّلاةِ أي إقامتها، فإن التاء في مصدر باب الأفعال جائز الحذف وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ أي إعطاءها، و تخصيصهما بالذكر بعد دخولهما في عموم الخيرات، لأهميتهما وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 558

[سورة الأنبياء (21): الآيات 74 الى 76]

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)

يعبدوننا، قبال سائر الناس الذين كانوا يعبدون الأصنام.

[75] وَ لُوطاً الذي سبق ذكره، و قد كان نجي من «بابل» مع إبراهيم، إلى الأرض المباركة آتَيْناهُ أعطيناه حُكْماً أي قضاء بين الناس و حكومة، فإن منصب الحكم إنما هو لله سبحانه، ثم لأنبيائه و الأئمة، بإذنه وَ عِلْماً و الحكم غير العلم، و إن استلزم مقدارا منه وَ نَجَّيْناهُ؟ أنقذناه مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ و هي «سدوم» التي كان أهلها يتعاطون اللواط و السحق و الكفر و سائر المنكرات و الخبائث جمع خبيث، و هو الشي ء أو العمل السيئ إِنَّهُمْ أي أهل تلك القرية كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ إضافة القوم إلى عملهم فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله سبحانه، فقد أمر الله سبحانه لوطا أن يخرج من القرية، ثم عذب أهلها بأنواع العذاب- كما مر تفصيله-.

[76] وَ أَدْخَلْناهُ لوطا عليه السّلام فِي رَحْمَتِنا بذلك الخروج عن القرية، فكأنه كان

حينذاك في العذاب، فلما خرج دخل الرحمة إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ و لهذا استحق الدخول في الرحمة، و لم يبق في المدينة ليشمله العذاب و الهلاك.

[77] وَ اذكر يا رسول الله نُوحاً أو هو عطف على «لوطا» أي آتينا نوحا حكما و علما إِذْ نادى أي زمان دعا الله سبحانه مِنْ قَبْلُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 559

[سورة الأنبياء (21): الآيات 77 الى 78]

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78)

من قبل إبراهيم و لوط، فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، و إنما جي ء به متأخرا مع أنه متقدم زمانا، لأن أهل مكة كانوا أقرب إلى إبراهيم زمانا و علما و نسبا، فكان ذكره أجلى، و في مذاقهم أحلى فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه بإهلاك الكفار فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ لعل المراد بهم المؤمنون به مِنَ الْكَرْبِ أي الحزن الْعَظِيمِ الذي لاقاه من الكفار طول تسعمائة و خمسين عاما، فقد كانوا يضحكون منه و يؤذونه و يضربونه.

[78] وَ نَصَرْناهُ أي نصرنا نوحا، بنجاته في السفينة و غرق الكفار بأجمعهم مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و إنما عدي «نصرنا» ب «من» دون «على» لإشراب الفعل معنى «المنع» و كأنه قال: النصر بالسير من وسطهم نحو سرت من البصرة إِنَّهُمْ أي المكذبين كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فكأنهم كانوا قطعة من سوء، حيث إن عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم كانت كلها سيئة فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ بأن أنزلناه السماء مدرارا، و فجرنا الأرض عيونا، حتى غرق كل شي ء في الماء، فلم ينج إلا نوح و من حمل

معه في السفينة.

[79] وَ اذكر يا رسول الله، أو أعطينا الحكم و العلم داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي الزرع إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 560

أي في الوقت الذي تفرقت فيه الغنم ليلا، فإن نفش بمعنى تفرق الإبل أو الغنم ليلا ليرعى بدون راع وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ حاضرين، نسمع و نرى كيف حكما، و الإتيان بالجمع «حكمهم» باعتبار الحاكمين و طرفي النزاع.

روي عن الصادق عليه السّلام أنه قال كان في بني إسرائيل رجل و كان له كرم و نفشت فيه غنم لرجل بالليل و قضمته و أفسدته، فجاء به صاحب الكرم إلى داود فاستعدى على صاحب الغنم فقال داود عليه السّلام: اذهبا إلى سليمان ليحكم بينكما فذهبا إليه فقال سليمان: إن كانت الغنم أكلت الأصل و الفرع فعلى صاحب الغنم أن يدفع إلى صاحب الكرم الغنم و ما في بطنها، و إن كانت ذهبت بالفرع و لم تذهب بالأصل فإنه يدفع ولدها إلى صاحب الكرم، و كان هذا حكم داود و إنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده و لم يختلفا في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال «كنا لحكمهما شاهدين» «1»

أقول: و كأن الحكم في تلك الأمة كان كذلك أما في شريعتنا فإن الحكم ضمان صاحب الغنم ما أتلفته لصاحب الكرم، دون أن يكون الأرش معينا في الغنم، و قد روي هذا الحكم بشكل آخر، و إن داود و سليمان اختلفا في القضاء و كان حكم سليمان أقرب، و إن كان كلاهما صحيحا، و ذلك كما لو أتاك آت فقال: إن فلانا كسر إنائي، فقلت له: يعطيك إناء

مثله، و قال قاض آخر: يعطيك ثمنه فكلاهما جائز بالتراضي، و إن كان المثل أقرب من القيمة، في المثلي،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 131.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 561

[سورة الأنبياء (21): الآيات 79 الى 80]

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)

و بالعكس في القيمي.

[80] فَفَهَّمْناها أي علمنا سُلَيْمانَ كيفية الحكومة بين الراعي و الزارع وَ كُلًّا من داود و سليمان آتَيْنا أي أعطيناه حُكْماً في الخصومات، أو حكما على الناس وَ عِلْماً و كان تخصيص سليمان بقوله «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» لأن المقصود كان إظهار فضل سليمان ليعرف بنو إسرائيل من وصي داود، كما في الأحاديث وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ و معنى التسخير السير معه في التسبيح، فإنك إذا عودت طيرا أن يتكلم بما تكلمت به أنت، يقال أنك سخرت ذلك الطير، فكأنه صار طوع إرادتك يتكلم إذا تكلمت و يسكت إذا سكت يُسَبِّحْنَ الجبال معه، و الإتيان بضمير العاقل لأن التسبيح فعل العاقل وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال، أي و سخرنا معه الطير، فإنها كانت تسبح بتسبيحه.

قال الصادق عليه السّلام: إن داود خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلا جاوبه

وَ كُنَّا فاعِلِينَ لذلك، و كان المراد بذلك أن هذا الأمر ليس عجيبا من قدرتنا، و إن كان مستغربا عندكم.

[81] وَ عَلَّمْناهُ أي علمنا داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللبوس هو السلاح الذي يلبس كالدرع، فإنه عليه السّلام أول من صنع الدرع، و قد كان الحديد لينا في

يده كالعجين، يسرد منه الدروع لِتُحْصِنَكُمْ أي تحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ من وقع السلاح فيكم- كالسيف و الرمح- في الحرب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 562

[سورة الأنبياء (21): الآيات 81 الى 82]

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)

فَهَلْ أَنْتُمْ أيها الناس شاكِرُونَ لهذه النعمة التي تقيكم من الأعداء، فإن الدرع أحسن وقاية للبدن مقابل الآلات الحربية.

[82] وَ سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود الرِّيحَ عاصِفَةً أي شديدة الهبوب، فإذا أراد أن تعصف الريح عصفت، و إذا أراد أن ترخي أرخيت تَجْرِي الريح بِأَمْرِهِ أي أمر سليمان إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها و هي الشام، التي بارك الله فيها بكثرة الأنبياء عليهم السّلام، و كثرة الثمار، و طيب الهواء، و قد سبق أن المراد بالشام ما يشمل سورية و فلسطين و لبنان و الأردن، فقد كان لسليمان عليه السّلام بساط يجلس عليه هو و حاشيته فتحمله الريح و يسير بهم من القدس إلى الشام- و قد كان السير بينهما يستغرق شهرا على الماشية- في نصف يوم، و كذلك ترجع بهم هذه المسافة في نصف يوم، كما قال سبحانه في آية أخرى:

(غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ) «1» و حيث أن هذا كان مورد استغراب عقبه سبحانه بهذه الجملة فقال وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فإنما أعطيناه ما أعطينا لعلمنا بالمصالح و طرف الأمور.

[83] وَ سخرنا لسليمان مِنَ الشَّياطِينِ و المراد بالشيطان هنا الجن، فإنهما مخلوقان أحدهما يضل البشر من نسل إبليس، و الآخر كالإنسان إلا أنه مختف، و الظاهر أنهما في الأصل كانا

من جنس واحد، و لذا

______________________________

(1) سبأ: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 563

[سورة الأنبياء (21): الآيات 83 الى 84]

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)

قال سبحانه في حق إبليس «كان من الجن» و يسمى كل واحد منهما باسم الآخر «الجن» لكونهما مستترين، «و الشيطان» لكونهما ذوي تدبير و حيلة، و الظرف في موضوع حال من سخرنا مَنْ يَغُوصُونَ في البحر، و الغوص هو أن ينزل في البحر لأجل إخراج اللؤلؤ و ما أشبه لَهُ أي لسليمان وَ يَعْمَلُونَ له عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى ذلك، أو أدون من الغوص- من حيث الصعوبة- كبناء المحاريب و التماثيل و أشباههما وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي نحفظ الشياطين عن الإفساد و الهروب، و سائر ما ينبغي الحفظ منه.

[84] وَ اذكر يا رسول الله أَيُّوبَ حين دعا ربه لما امتدت به المحنة و البلاء إِذْ نادى رَبَّهُ مستجيرا ليشفيه قائلا في دعائه رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أي نالني الضر و المرض وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي أكثر رحما من رحم كل راحم، و هذا تأدب في طلب إزالة البلاء، فقد ابتلاه الله سبحانه بهلاك أولاده و ذهاب أمواله و المرض في بدنه، كما يأتي قصته في سورة «ص» إن شاء الله تعالى.

[85] فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه و نداءه، و كان الإتيان من باب الاستفعال الظاهر في الطلب، لأجل أمره سبحانه بأن يجاب دعاءه، بما جعل من العلل الكونية و الأسباب التي تترتب عليها مسبباتها، فكأنه تعالى طلب أن يجاب أيوب فَكَشَفْنا ما

بِهِ أي رفعنا و أزلنا الشي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 564

[سورة الأنبياء (21): آية 85]

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)

الذي كان بأيوب مِنْ ضُرٍّ في بدنه و ماله و ولده، و كأن الضر ستر يشتمل على الإنسان، فإذا أزيل، انكشف ما تحته وَ آتَيْناهُ أي أعطيناه و رددنا إليه أَهْلَهُ أولاده الذين ماتوا ابتلاء و اختبارا وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ

قال الإمام الصادق عليه السّلام: إن الله سبحانه رد على أيوب أهله الذين هلكوا و أعطاه مثلهم معهم و كذلك رد الله عليه أمواله و مواشيه بأعيانها و أعطاه مثلها معها، و الله سبحانه قادر على إحياء الأموات، كما هو قادر على أن يعطي الإنسان أولادا و أموالا «1»

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إن كشف ضره و إعطاء ما فقده، و مثله معه، كان فضلا و لطفا من لدنا لأيوب، و كل رحمة منه سبحانه، إلا أن التخصيص هنا للتشريف وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي لأجل أن يكون ذلك موعظة و تذكيرا لمن عبدنا و أنه إذا أخذنا منه شيئا فإنا نرده إليه مع الزائد، و إن الأخذ لمصلحة و حكمة.

[86] وَ اذكر يا رسول الله إِسْماعِيلَ بن إبراهيم عليه السّلام و حيث لم يذكر هناك، ذكره هنا مستقلا وَ إِدْرِيسَ و هو أول من خاط اللباس بوحي الله سبحانه وَ ذَا الْكِفْلِ

و قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه يوشع بن نون

كُلٌ أي كل هؤلاء الأنبياء مِنَ الصَّابِرِينَ أي من الأنبياء الذين صبروا على مشاق التكليف، و لم

______________________________

(1) الخرائج: ج 2 ص 933.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 565

[سورة الأنبياء (21): الآيات 86 الى 87]

وَ أَدْخَلْناهُمْ

فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)

يزيغوا عن أوامره سبحانه.

[87] وَ أَدْخَلْناهُمْ أدخلنا هؤلاء الأنبياء عليهم السّلام فِي رَحْمَتِنا بأن غمرناهم في الرحمة بعد أن كانوا في مشقة و أذى من قومهم، و من التكاليف المتوجهة إليهم إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقد كانوا صالحين في حياتهم، و لذا جوزوا بتلك الرحمة التي غمرتهم، و حيث أن المقصود في سرد صبر الأنبياء أولا ثم فضل الله عليهم جزاء صبرهم ثانيا، ألمح السياق إلى هاتين الخصوصيتين، بالنسبة إلى هؤلاء الأنبياء بدون ذكر قصصهم، كما أن سائر القصص قد أتيت بإيجاز و إشارة.

[88] وَ اذكر يا رسول الله ذَا النُّونِ «النون» هو الحوت، أي صاحب الحوت، و هو يونس عليه السّلام، الذي التقمه الحوت إِذْ ذَهَبَ أي حين فارق قومه، و ذهب عنهم مُغاضِباً من غاضب، بمعنى غضب، و كأنه أتى من باب المفاعلة للدلالة على كون الغضب من الطرفين أو المراد المغاضب المراغم، يعني أنه خرج رغما على أنف قومه، حيث أراد إهلاكهم فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيق عليه، فقد ضاق هو بالدعوة و تكذيب القوم، فخرج من بين القوم ظانا أن ذلك ليس بترك أولى حتى يجزيه سبحانه بضيق صدره ضيقا في مكانه، يهون عند ضيق مكانه ضيق صدره بالمكذبين من قومه.

و قد يقال: أن خروجه هل كان طاعة لله، أم عصيانا؟ فإن كان طاعة فلم ضيق الله عليه؟ و إن كان عصيانا كان ذلك خلاف ما هو مسلم من عصمة الأنبياء عليهم السّلام؟ و الجواب: أنه كان ترك أولى،

فقد كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 566

من الأولى أن لا يخرج، و لم يكن عصيانا، كأكل آدم من الشجرة الذي كان ترك أولى، و على أي حال فقد أرسل الله سبحانه يونس إلى قوم كان عددهم مائة ألف أو يزيدون و لبث فيهم أكثر من ثلاثين سنة- كما

ورد- فلم يؤمن من القوم إلا نفران «روبيل» و «تنوخا» فخرج من القوم داعيا عليهم بالعذاب، و كان ذلك جائزا في نفسه، و إن كان الأولى بمقام النبوة أن يستأذن الله سبحانه لذلك، فوصل إلى شاطئ البحر و ركب سفينة كانت تريد الأبحار

- و في بعض التفاسير أنه عليه السّلام أراد أن يذهب إلى قوم آخرين يدعوهم- و لما توسطت السفينة البحر، جاء حوت فاتحا فاه، بحيث لم تتمكن السفينة من المضي إلا بإطعامه، فأقرعوا فيما بينهم من يطرحوه للحوت و خرج السهم باسم يونس، فألقوه في فم الحوت فابتلعه، لكن الله سبحانه حفظه عن أن يموت و هو قادر على كل شي ء «1» فَنادى يونس فِي الظُّلُماتِ ظلمة البحر، و ظلمة الليل، و ظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها عن القبيح، و كأن الإتيان بالتسبيح في هذه المقامات دفعا لتوهم متوهم يظن أن العمل الصادر منه سبحانه ليس كما ينبغي إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ في خروجي من المدينة و دعائي على أهلها، و الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و ذلك يلائم التحريم، و ترك الأولى، كما قال موسى عليه السّلام (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) «2»

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 126.

(2) النمل: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 567

[سورة الأنبياء (21): الآيات 88 الى 90]

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ

مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

و قوله سبحانه لآدم و حواء: (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) «1» [89] فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه، فقد كان ذكره تعريضا بطلب خلاصه، في أدب و لطف وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ الذي أخذ به، بأن ألقاه الحوت إلى الشاطئ، بعد أربعين يوما كان في بطنه وَ كَذلِكَ أي كما أنجينا يونس نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ الذين يدعوننا و يستغفرون لسالف ذنوبهم [90] وَ اذكر يا رسول الله زَكَرِيَّا النبي عليه السّلام إِذْ نادى رَبَّهُ أي حين دعا الله سبحانه أن يعطيه الولد، حيث لم يكن له ولد يخلفه، فقال يا رَبِّ لا تَذَرْنِي أي لا تدعني فَرْداً وحيدا بلا أولاد، و بدون عقب وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ و قد كان هذا تأدبا من زكريا عليه السّلام فهو لا يطلب الولد لأنه غير معترف بأن وارثة الله خير وراثة، كما يظن بعض الناس أنهم إذا ماتوا بلا عقب لا أحد في الكون يرعى شؤونهم الدنيوية أو الدينية و إنما يطلب بعد الاعتراف لما يعرف من جريان العادة الكونية على أن الولد و العقب هو السبب العادي الذي جعله الله سبحانه للخلافة و القيام مقام الآباء في إدارة شؤونهم.

[91] فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى ليخلفه من بعده وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ

______________________________

(1) البقرة: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 568

[سورة الأنبياء (21): آية 91]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها

وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)

إذ كانت عقيمة لا تلد و كان الإتيان ب «وهبنا» قبل «أصلحنا» مع أنه بعده خارجا، لبيان المبادرة في استجابة دعائه عليه السّلام، كأنه لا فصل بين الدعاء و الهبة إِنَّهُمْ أي زكريا و زوجه و يحيى- كما هو ظاهر السياق- كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ في الأعمال الخيرية، مقابل الذين يتلكئون و يتباطئون في عمل الخير، و هكذا دائما أهل الآخرة إنهم يبادرون في الطاعة، بخلاف أهل الدنيا وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً راغبين في ثوابنا و خائفين من عقابنا، و هكذا الإنسان الكامل، إنه بين الخوف و الرجاء وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ خاضعين متواضعين لا كأهل الدنيا الذين يطغون و يستعلون عن الأوامر و الزواجر.

[92] و بمناسبة ذكر «زكريا» ذكر السياق «مريم» الطاهرة القريبة له وَ اذكر يا رسول الله المرأة الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظت نفسها عن الفساد، و هذا لرد اليهود الذين قالوا فيهما شرا فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا النافخ كان جبرائيل لكنه حيث كان بأمر الله تعالى، نسب النفخ إليه تعالى، و الروح أضيف إليه سبحانه تشريفا، كإضافة البيت إليه، و قد كان النفخ في جيب ثوبها، و تكوّن من ذلك النفخ المسيح عليه السّلام وَ جَعَلْناها أي جعلنا مريم وَ ابْنَها المسيح آيَةً لِلْعالَمِينَ أي: دلالة على وجود الله و قدرته، و المراد ب «آية» الجنس،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 569

[سورة الأنبياء (21): الآيات 92 الى 94]

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)

فلا يقال: أنهما آيتان؟

[93] و بعد استعراض

أحوال بعض الأنبياء عليهم السّلام مع أممهم- إجمالا- يأتي السياق ليدل على وحدة العقيدة، و وحدة الأمة، و وحدة الإله، و وحدة رسالة الأنبياء عليهم السّلام إِنَّ هذِهِ البشر المتناثر في الأرض المتباعد في الزمان أُمَّتُكُمْ أيها الأنبياء أُمَّةً واحِدَةً فلا أمم تحت لواء الأنبياء و إنما أمة واحدة، و من خالف و آمن ببعض و كفر ببعض أو قبل حكما و أعرض عن حكم فليس من الأمة، و ليس خاضعا حتى لتنبيه الذي يزعم أنه متبع له وَ أَنَا رَبُّكُمْ رب واحد فَاعْبُدُونِ أي أطيعوني و اتخذوني إلها دون غيري.

[94] لكن المنحرفون لم يكونوا من أنفسهم أمة واحدة، بل خالفوا و تفرقوا وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي فرقوا دينهم فيما بينهم، فإن قطّع و تقطع بمعنى واحد، و هل انتهى الأمر عند ذلك فلا حساب و لا جزاء لما اقترفوه من تقطيع الأمة الواحدة إلى ألوان و أشكال و أمم؟ كلا! كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجازيهم بما فعلوا من التقطيع و التفرقة، و معنى الرجوع إلى الله سبحانه الرجوع إلى حسابه و جزائه، تشبيه بمن يرجع إلى المحكمة بعد الذهاب عنها.

[95] فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي من هذه الجنس، دون جنس السيئات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ صحيح العقيدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 570

[سورة الأنبياء (21): الآيات 95 الى 96]

وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)

فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ فلا يستر ما عمله و لا يبطل، بل يشكر و يثاب عليه وَ إِنَّا لَهُ أي لسعيه كاتِبُونَ و المعنى نأمر الملائكة أن يثبت سعيه لنجازيه عليه في الآخرة.

[96] أما من كفر

و عصى، فأهلكناه في الدنيا بعذاب الاستئصال فلا يظن أحد أنه قد انتهى أمرهم، و أنهم أهلكوا فلا حساب بعد ذلك وَ حَرامٌ أي ممتنع، في الحكمة عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بذنوبها أَنَّهُمْ إلينا لا يَرْجِعُونَ فإن عذابهم في الدنيا لم يكن نهاية أمرهم، بل يرجعون إلينا في الآخرة لنحاسبهم هناك على أعمالهم و نجزيهم بالنار، ف «حرام» مبتدأ، خبره «أنهم» أي ممتنع عدم رجوعهم، و قد عرفت أن تخصيصهم بالذكر دون سائر العاصين، لدفع التوهم المذكور.

[97] إن الأمر يبقى على هذا المنوال، مؤمن و كافر، و موت و هلاك حَتَّى يوم القيامة فينقطع التكليف و تقوم الساعة للحساب و الجزاء، و قد ذكر الله سبحانه علامة لذلك بقوله: إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ أي القبيلتان، و فتحت باعتبار كسر سدهما الذي بناه ذو القرنين، كما تقدم وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي مرتفع من الأرض كالجبال و الآكام يَنْسِلُونَ يسرعون في السير نحو الصحاري و البلاد للفساد و الدمار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 571

[سورة الأنبياء (21): الآيات 97 الى 98]

وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)

[98] وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ أي الموعود الذي هو حق، لا خلف و لا كذب فيه، و هو يوم القيامة فَإِذا هِيَ الضمير للشأن و القصة، يؤتى بها للتهيؤ، و ليستعد السامع لاستماع ما يأتي بعده شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا الشاخصة العين التي لا تطرف من شدة الهول، و لا تسكن، كالإنسان الشاخص الذي يسير بدون سكون و هدوء، فإن الكفار

في يوم القيامة تشخص أبصارهم من شدة الهول، ينظرون هنا و هناك ليجدوا ملجأ أو شفيعا ينجيهم من الأهوال و الكربات، و قوله «فإذا» يتعلق ب «حتى» و معنى «فإذا هي» أن القصة شخوص أبصار الكفار، قائلين يا وَيْلَنا يا قوم ويلنا، أي يا ويلنا أحضر فهذا وقتك، و الويل هو الهلاك و العذاب قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم، فقد كنا في الدنيا لا نأبه و لا نعتني بهذا اليوم و بما ينجي الإنسان من أهواله بَلْ لم تكن غفلة، و إنما كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث نعرض عن الإيمان و العمل الصالح.

[99] و ما مصيرهم هناك؟ إِنَّكُمْ أيها الكفار وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي الأصنام التي تجعلونها آلهة تعبدونها حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها و وقودها، و الحصب كل حجر يرمى به، و لذا قيل للأحجار الصغيرة حصباء، و «ما» لما لا يعقل، فلا يشمل من عبده الناس من الأنبياء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 572

[سورة الأنبياء (21): الآيات 99 الى 102]

لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102)

و الأئمة و الملائكة، و إنما تكون الآلهة حصب جهنم مع أنها لا ذنب لها، إهانة لعبادها و إذلالهم أَنْتُمْ أيها الكفار لَها أي لجهنم وارِدُونَ داخلون، و ذلك جزاؤكم.

[100] لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأصنام آلِهَةً كما تزعمون ما وَرَدُوها ما دخلوا النار و لامتنعوا منها وَ كُلٌ من العابد و المعبود فِيها أي في جهنم خالِدُونَ باقون أبد الآبدين.

[101] لَهُمْ أي

للناس الذين خلدوا فِيها لكفرهم و عصيانهم زَفِيرٌ أي صوت كصوت الحمار و هو التنفس العالي المصاحب للألم و الحزن وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ فهم صمّ، مقابل ما كانوا في الدنيا يصمون عن الحق، و يقولون للمرسلين: في آذاننا و قر.

[102] رأينا حال الكفار في النار، فلننظر إلى المؤمنين في الجنة إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الكلمة الْحُسْنى بأن قلنا إن المؤمن لا يعاقب، بل يثاب، نفي لهم بما وعدناه أُولئِكَ عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ يبعدهم الله سبحانه عنها، حتى لا يرون منظر العذاب، و لا يستمعون لزفيرها، و لا يحسون بحرارتها.

[103] لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتها الذي يحس به

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 573

[سورة الأنبياء (21): الآيات 103 الى 104]

لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104)

وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من الملذات و النعيم خالِدُونَ دائمون فلا زوال لهم عن الجنة و نعيمها، في مقابل أهل النار الذين لا زوال لهم عن الجحيم و العذاب.

[104] لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أي الخوف الأعظم، و هو فزع يوم القيامة المتصل بالدخول في النار، الباقي إلى الأبد وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم بالتهنئة و البشر، قائلين لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا، فأبشروا بالأمن و الفوز و ما أحوج الإنسان هناك أن يتلقاه شخص يهديه السبيل و يرشده الطريق، في يوم الأهوال و الأحزان، في ساحة يجتمع فيها الخلق كلهم، في مدة تطول خمسين ألف سنة، و وراءها إما عذاب دائم أو نعيم مقيم!.

[105] يَوْمَ منصوب على

الظرفية، أي أن ذلك النعيم، و تلك الأهوال، إنما هي في يوم نَطْوِي السَّماءَ فيه، و معنى طي السماء، محوها، و تبديلها دخانا كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ السجل ما يسجل فيه، و هو قد يكون سجلا للكتاب و قد يكون سجلا في قصاص ورق، و السجل الذي يطوى هو سجل الكتاب، و في بعض الروايات، أن السجل اسم ملك يطوي صحف أعمال بني آدم، فالتشبيه إنما هو به، و في ذلك اليوم كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما تمكنا على الابتداء نتمكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 574

[سورة الأنبياء (21): آية 105]

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

على الإعادة أو في الشكل الذي خلقنا من كون الإنسان حاف عاري غير مختون كذلك تكون الإعادة، فالمراد بأول خلق «الخلق أولا» على التقديرين، لا أول الخلق- و هو آدم عليه السّلام- كما هو ظاهر، نعدكم ذلك وَعْداً مصدر تأكيدي عَلَيْنا إنجازه و إنفاذه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ إنا فاعلون لهذا الوعد، و كان لمجرد الربط، لا بمعنى الماضي.

[106] و حيث رأينا إن العاقبة الحسنى في الآخرة لعباد الله الصالحين، فلنرجع إلى الأرض لنرى إن الأرض لمن؟ وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ إما المراد «زبور» داود و المراد بالذكر حينئذ «التوراة» لأنها كانت قبل الزبور، و إما المراد بالزبور الصحف المنزلة على الأنبياء، فإنها من زبر بمعنى كتب، و المراد بالذكر، التذكير بالمبدأ و المعاد و المعارف، و على أي حال فالآية في صدد بيان أن سنة الله جرت على ذلك، و قد كتبها في الكتب السابقة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فإن الأرض في آخر المطاف للصالحين،

و إن سبق تملكها الفاسدون، و قد وردت أحاديث متواترة في تفسير الآية بالإمام الحجة المهدي عليه السّلام، و ذلك من باب أظهر المصاديق فإنه عليه السّلام يرث الأرض كلها و إن كان الأنبياء و الأئمة و الصالحون ورثوا الأرض قبل، إلى هذا الحين، فكلما قام باطل، قام حقه في عقبه ليرث الأرض منه و السر واضح فإن غير الصالح لا يملك إلا شقا واحدا، و الحياة لا تسير بشق واحد، أما الصالح الذي يجمع بين المادة و المعنى، و الإيمان و النشاط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 575

[سورة الأنبياء (21): الآيات 106 الى 108]

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)

فإنه أصلح من الفاسد، و لذا تزحزح الحياة الفاسد- و إن طال أمده- لتخلف الصالح مكانه، ليكون السير عدلا متوازنا.

[107] إِنَّ فِي هذا الذي أخبرتكم به من أن العاقبة في الدنيا و الآخرة لعباد الله الصالحين لَبَلاغاً أي كفاية في البلوغ إلى القصد و هو الحق لِقَوْمٍ عابِدِينَ لله مخلصين في عبادتهم، و إنما خص هؤلاء، لأنهم الذين ينتفعون بالبلاغ.

[108] و إنا لم نكن خصصنا أمة بالبلاغ و إنما البلاغ عام، أما المنتفع به فهو من ألقى السمع و هو شهيد وَ ما أَرْسَلْناكَ يا رسول الله إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ نعمة عليهم جميعا، أما المؤمن فواضح كونه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة بالنسبة إليه، و أما الكافر، فلأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نظم سبل الحياة و أرشد إليها فاقتبس منه الكفار و ما نرى اليوم من الحضارة و التمدن

في العالم فليس إلا من هدى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما نرى فيه من الانحراف و الزيغ فذلك من تحريف مناهج الرسول، فإن حضارة الشرق الروسي مأخوذة من حضارة الغرب، و حضارة الغرب وليدة الحضارة الإسلامية، حيث دخل العلم بلاد الغرب من بلاد الإسلام.

[109] و قد بين سبحانه علة كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة، أنه يبشر بوحدة الإله، فإن الإذعان بذلك رأس الفضائل، و سبب أنواع الرحمة قُلْ يا رسول الله لهؤلاء القوم إِنَّما يُوحى إِلَيَ من عالم الغيب أَنَّما إِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 576

[سورة الأنبياء (21): الآيات 109 الى 111]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)

استفهام تقريري، أي مستسلمون منقادون لذلك، فتتركوا عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد الذي لا شريك له.

[110] فَإِنْ تَوَلَّوْا بأن أعرضوا و لم يقبلوا الإسلام فَقُلْ يا رسول الله آذَنْتُكُمْ أعلمتكم بالتوحيد- و ليس وظيفتي إلا الاعلام و قد فعلت- عَلى سَواءٍ بدون ترجيح، فإن الإعلان عام للجميع، و قد أديت ما علي، و بقي ما عليكم، فإن لم تؤمنوا كان مصيركم الهلاك، أما وقت هلاككم، فعلمه عند الله سبحانه وَ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب و النكال؟ فإن علم ذلك خاص به سبحانه.

[111] و لا يظنن أحد أن الله لا يعلم ما يعمل حتى يفكر الكفار، بأنهم

ينكرون- غدا- ما صدر منهم إِنَّهُ تعالى يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي الكلام الظاهر وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي يعلم سركم، كما يعلم جهركم، و سوف يجازيكم على الجميع.

[112] أما تأخير العذاب فلحكمة اقتضته وَ إِنْ أَدْرِي ما أدري لَعَلَّهُ لعل تأخير العذاب فِتْنَةٌ و امتحان لَكُمْ حتى تظهر نوايا كل أحد جلية، فإن الإنسان كلما بقي ظهرت نواياه أكثر فأكثر وَ مَتاعٌ لأجل تمتعكم بمتاع الحياة إِلى حِينٍ أجلكم المقرر، فليس الإنعام إكراما،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 577

[سورة الأنبياء (21): آية 112]

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)

بل استدراجا.

[113] و أخيرا، بعد إبلاغ الرسول، و بقاء بعض الكفار في غيهم قالَ رسول الله، يا رَبِّ احْكُمْ بيني و بين الكفار بِالْحَقِ و هذا لإظهار إن حكم الله حق فالقيد للتوضيح و التنبيه، لا للاحتراز وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الذي يرحمنا و يتفضل علينا جزاء ما تعبنا و أبلغنا، فلم يذهب البلاغ و الأتعاب سدى الْمُسْتَعانُ نستعين به على كيدكم و تكذيبكم عَلى ما تَصِفُونَ الرسول به من أنه كاذب و مفتر و ساحر و شاعر و مجنون و ما إلى ذلك، فإنه تعالى لا يترك الرسول، ليكيدوا له ما شاءوا، بل يأخذ بيده و يعينه على أمره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 578

22 سورة الحج مدنية/ آياتها (79)

سميت السورة بهذا الاسم، لأن فيها أحكام «الحج» و لفظه و هذه السورة مدنية، إلا آيات منها، و لذا ذكر فيها التشريع الحكومي، كما هو شأن غالب السور المدنية، حيث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظم دنيا المسلمين، إلى جنب دينهم، و يبين لهم الدساتير و المناهج و حيث اختتمت سورة الأنبياء بالتوحيد

و الرسالة، ابتدأت هذه السورة بذكر المعاد، الذي هو ثالث الأصول الثلاثة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نستعين باسم الإله في جميع الشؤون، فالله مصدر كل خير، فالاستعانة به في كل أمر من أمور الدين و الدنيا، و المال و الجاه، و السعادة و الرفاه، و الأمن و السلام، و غيرها، و كأنه لذلك اختير لفظ «الله» لإضافة «الاسم» إليه، و حيث إن النعم كلها تفضل خصص «الرحمن الرحيم» بإتيانهما وصفا له سبحانه، دون سائر الصفات و النعوت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 579

[سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّاسُ المراد العقلاء منهم القابلون للخطاب اتَّقُوا خافوا رَبَّكُمْ فلا تخالفوا أوامره و زواجره إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي زلزلة الأرض حين قيام الساعة و هي يوم القيامة شَيْ ءٌ عَظِيمٌ هائل، فإن من أشراط الساعة زلزلة مهولة تعم الأرض.

[3] يَوْمَ تَرَوْنَها أي ترون تلك الزلزلة، أو تلك الساعة، و العامل في يوم «تذهل» أي إن الذهول في يوم رؤيتكم للساعة تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أي تغفل الأمهات عن أولادها الرضع، مع شدة العلاقة للأم بالنسبة إلى ولدها الرضيع وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها فإن الحبلى إذا اشتد عليها الفزع طرحت جنينها، و هذا إما حقيقة، فإن الساعة تقوم على الناس، و فيهم الأمهات و الحبالى، أو كناية عن شدة الهول، نحو «فلان كثير الرماد» أو «مهزول الفصيل» مما يراد معناه الكنائي لا

اللفظي وَ تَرَى أيها الرائي النَّاسَ سُكارى أي كالسكارى في الدهشة و الذهول من كثرة الخوف، فكما أن السكران لا يشعر كشعور الصاحي كذلك الناس في ذلك اليوم وَ ما هُمْ بِسُكارى من الشراب لم يشربوا الخمر، و إنما شربوا الفزع و الخوف وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ و أهوال القيامة التي يرونها شَدِيدٌ و من شدتها يصيبهم ما يصيبهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 580

[سورة الحج (22): الآيات 3 الى 5]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

[4] يا أيها الناس اتقوا و لا تجادلوا، فإن وراءكم هذا اليوم الشديد وَ لكن مع ذلك مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يُجادِلُ يخاصم و يناقش فِي اللَّهِ من وجوده، في آياته، في صفاته، في سائر شؤونه بِغَيْرِ بدون عِلْمٍ و معرفة وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي أنه مستعد للضلال، فأي شيطان غاو مارد أخذ قياده بسلسلة له و اتبعه، و يا للسخف أن يترك الإنسان الإله، ليتبع كل شيطان مريد؟.

[5] كُتِبَ عَلَيْهِ أي على الشيطان، و المراد أن

الشيطان هكذا أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ أي من اتبع الشيطان فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ أن الشيطان يضل ذلك المتبع وَ يَهْدِيهِ يوصله ذلك الشيطان إِلى عَذابِ السَّعِيرِ السعير اسم جهنم سميت به لأنها تسعر نارها، و المعنى أنه كيف يتبع هذا المجادل الشيطان الذي يضله في الدنيا، عن الطريق و بالآخرة يورده النار في الآخرة؟

[6] ثم استدل سبحانه على من ينكر البعث يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ أي في شك مِنَ الْبَعْثِ يوم القيامة، الذي يبعث و يحيى فيه الأموات، لاستغرابك أن يعود الإنسان حيا بعد ما مات و فنى؟

فاعتبروا بحالكم عند ابتداء الخلقة، إذ إنا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلقنا كل فرد منكم من الأرض، إذ الإنسان تراب ثم نبات يأكله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 581

الإنسان و الحيوان- الذي يأكله الإنسان- فيصير دما ثم منيا، ثم إنسانا، أو المراد ب «خلقناكم» خلقنا جدكم «آدم» عليه السّلام، و من قدر على صنع الإنسان من تراب يقدر على إعادته من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان بعد أن يصبح منيا يكون نطفة، و هي المني المستقر في الرحم ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ و هي القطعة من الدم المتجمد، فإن النطفة تنقلب علقة بعد مدة من بقائها في الرحم ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ و هي شبه قطعة ممضوغة من اللحم، فإن معنى المضغة مقدار ما يمضغ بالأسنان.

مُخَلَّقَةٍ تلك المضغة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي تام الخلقة و غير تام، أو متخذة شكلا بتحولها إلى العظم و اللحم و الصورة، أو تلفظها الرحم قبل ذلك فلا تتخذ خلقه الإنسان، و بناء على هذا المعنى يكون معنى «خلقناكم» إن أصل الإنسان هكذا، حتى يلائم «غير مخلقة» و إنما طورنا الإنسان في

هذه المراحل لِنُبَيِّنَ لَكُمْ قدرتنا، و ندلكم على وجودنا و سائر صفاتنا، فمن يا ترى يقدر على مرحلة واحدة من هذه المراحل؟ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ من ولد و بنت، تام و غير تام، واحد و متعدد، حسن أو قبيح، و هكذا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة محدودة قد سميت عندنا، فمقدار بقاء الجنين في الرحم محدود معين عند الله سبحانه ثُمَ بعد تمام الأجل المقدر نُخْرِجُكُمْ أيها البشر طِفْلًا، و إنما جاء في اللفظ مفردا، باعتبار كل واحد واحد ثُمَ نسير بكم في مراحل الطفولة لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي وقت اشتداد القوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 582

العقلية و البدنية و الغريزية فيكم، و هو مرحلة الشباب.

وَ مِنْكُمْ أي بعضكم مَنْ يُتَوَفَّى بصيغة المجهول، و المتوفى- باسم الفاعل- هو الله سبحانه، أي يكون موته قبل الكبر وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ أي يرجع إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أسوء العمر، و إنما قال «يرد» لأن حالة الشيخوخة كحالة الطفولة، فهو رد إلى تلك، و إنما كان حال الشيخوخة أسوأ العمر مع أنه كحالة الطفولة، لأن حالة الطفولة أفضل منها حيث أن الطفل في حالة النمو و الاكتمال، بخلاف حالة الشيخوخة، فإن الإنسان معها في التردي و الهبوط، و إنما يرد الإنسان إلى أرذل العمر لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي لكي يخرج عن ذلك العلم الذي أتاه، فإن الإنسان ينسى معلوماته و يرتد جاهلا- أو شبه جاهل- و اللام إما للعاقبة، نحو (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1» و إما فيه تلميح إلى أنه يسلب ما كان يتطاول به و يجادل في الله بسببه، أو لام الغاية، أي يرد إلى

هذا الحال، فتضعف روحه كما ضعف جسمه، أي نرده إلى هذه الحالة، لكي لا يعلم، و يصير كيوم طفولته.

وَ كما جرت القدرة في خلق الإنسان بتلك الكيفية المتدرجة، كذلك تَرَى أيها الرائي الْأَرْضَ هامِدَةً أي ساكنة يابسة، لا حركة فيها، و لا نبات، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا أي على الأرض الْماءَ من

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 583

[سورة الحج (22): الآيات 6 الى 7]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

السماء بإنزال المطر، أو نحوه اهْتَزَّتْ الأرض بالنبات، و الاهتزاز شدة الحركة في الجهات وَ رَبَتْ أي انتفخت و نمت وَ أَنْبَتَتْ الأرض مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من أصناف النبات بَهِيجٍ مبهج مونق ذو لون جميل، و المراد بالاهتزاز، اهتزاز الأرض، فإن الأرض تتحرك فعلا و انفعالا بالنبات، و يحتمل أن يكون مجازا يراد به، اهتزاز النبات بعلاقة الحال و المحل، و إن كان هذا بعيدا من السياق.

[7] ذلِكَ الذي سبق ذكره من خلق الإنسان من التراب، ثم تطوره في مراحل الجنين و الطفولة و الشيخوخة، و صنع النبات من الأرض الهامدة بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُ و الإله الحق يقدر على كل شي ء، لا كآلهتكم الباطلة- التي تجادلون في الله من أجلها- لا تقدر على أي شي ء وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى فالميت من الأرض أحياها إنسانا أو نباتا، لا كما أنكرتم البعث، و كنتم في ريب منه وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا تتعجبوا، كيف يمكن إعادة البشر، و أية قدرة تتمكن من ذلك، إن القادر على الابتداء،

قادر على الإعادة.

[8] وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي ليست محل الريب، و إن ارتاب فيها المبطلون و المراد بالساعة القيامة وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ و يحيي مَنْ فِي الْقُبُورِ و قد جاء التأكيد للبعث، أكثر من التأكيد حول المبدأ، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 584

[سورة الحج (22): الآيات 8 الى 9]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)

الناس يستغربون من المعاد، أكثر مما يستغربون من المبدأ، و لذا يتخذون الآلهة و الأصنام، فكأن المبدأ أمر مفروغ منه، و إنما كلامهم حول تعيينه و تشخيصه، أما المعاد فأصله محل ريبهم و إنكارهم.

[9] وَ بعد هذه الدلائل الظاهرة على وجود الله سبحانه هناك مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ فينكر وجوده و قدرته بِغَيْرِ عِلْمٍ و قطع، و إنما هو شاك في نفسه وَ لا هُدىً يهديه إلى ذلك، و لو لم يكن علما وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ ينير القلب و الروح، فلا علم له، و لا دليل عقلي يؤيده، و لا دليل سمعي يستند إليه.

[10] و حاله في الكبر عن قبوله الحق شبيه بالمتكبر الظاهر عليه الكبر في جسمه و أطواره ثانِيَ عِطْفِهِ العطف جانب الإنسان الذي يعطفه و يلويه عند الإعراض عن الشي ء، من تحت إبطه إلى حقوه، و الإنسان غير المعرض، عطفه مستقيم، فإذا أعرض لواه، و بذلك يكون قد ثناه إذ بقي الجانب التحتي قرب الحقو في مكانه و مال الجانب الفوقي تحت الإبط نحو اتجاه الخلف، و هذا كناية عن المتكبر

المعرض، و الجملة حال لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فهو لا يحمل تبعة ضلال نفسه، و إنما يضل غيره أيضا، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان و ذل و فضيحة، فإن الكفار دائما في هوان، حتى إذا ساروا ظاهرا، كما نرى من حال الغرب و الشرق- اليوم- وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار التي تحرقهم، و معنى الإذاقة، إحاطته بالنار، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 585

[سورة الحج (22): الآيات 10 الى 11]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11)

يذوق عطفه المثنى جزاء عمله.

[11] و يقال له حين العذاب ذلِكَ العذاب، و جي ء بالإشارة البعيد، لتوهم الترفع عن قرب العذاب للقائل بِما قَدَّمَتْ يَداكَ من الكفر و العصيان، و نسب التقديم إلى اليد، لأنها الغالبة في إعطاء الأشياء وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ «ظلام» صيغة نسبة، لا مبالغة، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و قد تقدم تفصيله لِلْعَبِيدِ في تعذيبه، و إنما هم استحقوا ذلك بسوء صنيعهم.

[12] لقد رأينا بعض الناس ينكرون الله سبحانه، فلا يؤمنون به، و هناك نموذج آخر من الناس، فلقد آمنوا، و لكن إيمانا، لا عن عمق و استقرار وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الحرف الطرف، و الجانب، أي على جانب واحد من جوانب الحياة، فهو يعبد حالة الرخاء، أو حالة الأمن أو حالة الغنى، و هكذا، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أي بذلك الخير، و

ركن إليه، و عبد الله الذي أعطاه ذلك الخير، وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار و ابتلاء، بفقر، أو مرض، أو خوف، أو ما أشبه انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ بأن كفر بالله، كالذي يقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 586

[سورة الحج (22): الآيات 12 الى 13]

يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

على الأرض على وجهه، بحيث لا يرى، و لا يتنفس براحة، و لا يحس، بل هو في تعب و حرمان، شبّه بذلك الكافر، لأنه مثل ذلك المنقلب في الحرمان خَسِرَ الدُّنْيا إذ فقد الإيمان الموجب للرضا و الاطمئنان و الهدوء وَ الْآخِرَةَ لأنه كفر، و الكفر موجب للعذاب و النار ذلِكَ الخسران للدنيا و الآخرة هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الظاهر الذي لا خسران فوقه، و لا أسوأ حالا منه.

[13] و الذي يعبد الله على حرف، إذا أصابته فتنة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ فإن الإنسان إذا قطع صلته بالله، لا بد و أن يدعو سواه، و سوى الله لا ينفع داعيه، و لا يضر تارك دعوته- فإن النفع و الضرر كليهما بيد الله سبحانه- ذلِكَ الدعاء لما لا يضر و لا ينفع هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فهو خارج عن الجادة، خروجا كثيرا، بحيث لا أحد أبعد منه، إذ ترك الله سبحانه، و اتخذ غيره- و قد مر معنى كون الضلال بعيدا-.

[14] يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إن ما يتخذ الإنسان من دون الله سبحانه سندا، سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا، من حيث ذاته لا يضر و لا

ينفع، و من حيث ما يترتب عليه من الثمار، ضره أقرب من نفعه، فالضر هو انحراف منهاج الحياة المترتب عليه، و العقاب الأخروي، و النفع هو البقاء في حلقة آبائه و أقربائه، الذين هم على شاكلته، و ما يعود لكهنة الأصنام من النذورات و القرابين، و ما أشبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 587

[سورة الحج (22): الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

هذه المنافع، و لكن الضر المترتب أقرب من النفع العائد- و هذا عبارة أخرى عن الضر الكثير، و النفع القليل، و لعل التعبير بأقرب، لأجل أن الضر يتوجه إلى الإنسان بمجرد عبادة الصنم، بخلاف النفع الذي هو متوقف على الإتيان بالنذر، أو نحو ذلك لَبِئْسَ الْمَوْلى أي أن الصنم بئس السيد للعابد له، إذ هو سيد يوجب ضره وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي الصاحب المعاشر المخالط، فهو لا يصلح خليطا و عشيرا، فكيف يصلح أن يكون سيدا؟

[15] مر بنا نموذجان من البشر، فلنمر بالقسم الثالث، و هو المؤمن، و نرى عاقبته إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله، و اليوم الآخر، و سائر الأمور الاعتقادية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة جَنَّاتٍ أي بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها و شوارعها، حتى يكون الإنسان مطلا على النهر حين التنقّل إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فليس مثل الأصنام التي لا تتمكن من نفع عبادها.

[16] أما المؤمن اليائس من نصرة الله،

إذا وقع في الفتنة و البلاء، و لا يرى للآخرة أثرا، كما هو كثير في ضعاف الإيمان- فليفعل ما يشاء، و ليذهب إلى السماء إن تمكن، فإن الله سبحانه، يأبى، إلا أن يجري الأمور بأسبابها، و أن يمتحن الناس، حتى يرى مقاديرهم، و لا يغير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 588

[سورة الحج (22): آية 16]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)

أمره شي ء، و لا راد لقضائه مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا بالغلبة على الكفار، و حل مشاكله، و نجاته من الفتن التي وقع فيها وَ الْآخِرَةِ فهو ضعيف الإيمان بالآخرة، يقول إن لم ينصرني الله في الدنيا، و هي أهون، فكيف ينصرني في الآخرة؟ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي فليوجد سببا موصلا إلى السماء ثُمَّ لْيَقْطَعْ الطرق حتى يصل إلى السماء بذلك السبب، و هذا عبارة عما هو شائع في الألسن- لدى بيان، أن الأمر لا يتغير عما هو عليه- من قولهم: لو ذهبت إلى السماء لم ينفعك، يريدون أن توسط السماء غير منتج لتغيير ما جرى قدر الله عليه فَلْيَنْظُرْ بعد ذلك، و الاستمداد بالسماء هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ أي تدبيره في الذهاب إلى السماء ما يَغِيظُ ما أوجب غيظه من المشكلة و الفتنة التي وقع فيها؟ و الاستفهام للنفي أي لا يذهب حتى هذه الحيلة التي هي أبعد الحيل عن متناول البشر، للخروج عما قدره الله سبحانه، إذن فما ذا ينفع في الخلاص من المشاكل؟ إنه نصر الله سبحانه، إن عون الله و نصره هو الذي يحل المشكلة، أما من يئس من عونه، فلا شي ء ينفعه إطلاقا، حتى الذهاب إلى السماء.

[17] وَ كَذلِكَ الذي تقدم

من بيان حالات الناس في الهدى و الظلال و التوسط، و عواقب كل طائفة أَنْزَلْناهُ أي أنزلنا هذا القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات، لا لبس فيها و لا غموض، لنرشد الناس، إلى ما هم فيه من الهدى و الضلال، و نعرفهم مقاديرهم و عواقبهم وَ بيّنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 589

[سورة الحج (22): الآيات 17 الى 18]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أي يوصله إلى الغاية المطلوبة بعد البيان للكل، و إنما يريد الله هداية من اتبع الحق، فالإرشاد للكل «أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ» و الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب ل «من يريد» الله هدايته، لأنه جاء في طريق الحق، و استرشد بالآيات.

[18] أما لو اختلف الناس في قبول الحق و عدمه، بعد أن كان الإرشاد للجميع، فمصيرهم إلى الله و هو الحاكم بينهم يوم القيامة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بأن اتخذوا الإسلام دينا وَ الَّذِينَ هادُوا الذين اتخذوا اليهودية مسلكا وَ الصَّابِئِينَ و فيهم خلاف، و لا يبعد أن يكون خليطا من الأديان، و لهم باقية إلى اليوم- يسمون «صبّي»- وَ النَّصارى و هم تابعوا عيسى المسيح عليه السّلام، و إن انحرفوا عن تعاليمه وَ الْمَجُوسَ و قد كان لهم نبي

و كتاب، فقتلوا نبيهم و أحرقوا كتابهم وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله سواء اتخذوا الله و الشريك معا، أو اتخذوا الشريك فقط، و يدخل فيهم الدهرية إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحكم بينهم، بأن أيهم المحق، و أيهم المبطل، و يجازيهم حسب أعمالهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ حاضر علما و سمعا و بصرا، فليس فصله إلا بالحق، فإنه مطلع على جميع الخصوصيات.

[19] إن البشر لو استكبروا عن عبادة الله و الخضوع لأمره و نهيه، فالكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 590

[سورة الحج (22): آية 19]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)

كله خاضع له مطيع لأمره أَ لَمْ تَرَ أي ألا تنظر و تعلم أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من عقلاء الملائكة و الجن، فإن الإنسان يعلم ذلك إذا تدبر في الخلق، و الخالق، و إن لم يره ببصره وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ من العلويات فإنها خاضعة لأمره، سائرة حسب ما قرر لها من المنهاج وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ من الأرضيات، فإنها خاضعة لأمره، مستقرة أو متحركة حسب إرادته وَ يسجد له سبحانه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ و هم المؤمنون سجودا متعارفا، و إن سجد الجميع له سجودا تكوينيا، ثم ابتدأ قوله تعالى وَ كَثِيرٌ ممن أبى السجود و الإيمان، و اختار الكفر و العصيان، حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي ثبت و لزم، لأنه أبى و استعلى و تكبر وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ له بأن جعله ذليلا مهينا، حين تكبر و استعلى و لم يسجد فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ لا في

الدنيا و لا في الآخرة، و ما حوله من الحفاوة، أياما قلائل، فإنما هي سراب زائل إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ فالأمور بيده، و الإكرام و الإهانة منه لا من غيره.

[20] و لننظر إلى من يهنه الله و من يكرمه هذانِ أي المؤمنون و الكافرون- و هم الفرق الخمسة المذكورة- خَصْمانِ و الخصم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 591

[سورة الحج (22): الآيات 20 الى 21]

يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)

يطلق على المفرد و المثنى، و المجموع بلفظ واحد اخْتَصَمُوا الإتيان بالجمع، باعتبار الجميع فِي رَبِّهِمْ أي في دين الله سبحانه، أو في وجوده، و سائر شؤونه، و قيل إنها نزلت في المؤمنين و الكافرين، الذين حاربوا يوم بدر، فالمؤمنون هم علي أمير المؤمنين عليه السّلام، و حمزة، و عبيدة، و الكافرون هم الوليد و عتبة و شيبة، و هذا من باب المصداق، كما أن ما ورد من أنها أهل البيت، و بني أمية، من باب المصداق أيضا فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي تفصل لهم الألبسة من عين النار، أو من جسم توقد فيه النار، كالحديد و نحوه يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار المغلي، لتعذب رؤوسهم بالنار و الحرارة كما تعذب سائر أعضائهم بالثياب.

[21] يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب و ينضج بذلك الماء الحميم ما فِي بُطُونِهِمْ من الأعضاء، كالقلب، و الرئة، و الأمعاء، و غيرها وَ الْجُلُودُ فهو حميم يشمل الظاهر و الباطن، و له من الحرارة، ما تذيب الأعضاء و الجلد.

[22] وَ لَهُمْ مَقامِعُ جمع مقمعة، و هي مدقة الرأس من قمع بمعنى دق، و هي أعمدة مِنْ حَدِيدٍ يضرب

بها المجرم على رأسه، لشدة نكاله و عذابه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 592

[سورة الحج (22): الآيات 22 الى 23]

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)

[23] كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها من النار مِنْ غَمٍ كلما حاولوا الخروج من النار، لأجل الغم و الكرب، الذي يصيبهم أُعِيدُوا فِيها أرجعوا إليها، و كأنهم يسيرون قدرا للخلاص، فيعادون إلى مكانهم وَ يقال لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي عذاب النار المحرقة، فالحريق مضاف إليه، لا وصف.

[24] و قد رأينا حال الكافرين، فلننظر إلى أحوال المؤمنين إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بما يلزم الإيمان به من الوصول وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي تصلح للحياة السعيدة، و ذلك بإتيان الواجبات، و ترك المحرمات، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها يُحَلَّوْنَ فِيها يعطون الحليّ و الزينة، التي يلبسونها مِنْ أَساوِرَ من جنس الأساور، و هي جمع سوار، و هو لتحلية اليد مِنْ ذَهَبٍ و كأن الفضة و الذهب هناك غيرهما هنا، فليس الذهب أعلى قيمة من الفضة، فلا يقال كيف قال سبحانه في «هل أتى» لأهل البيت عليهم السّلام «من فضة» و هنا لسائر المؤمنين «من ذهب»؟ وَ يحلون فيها لُؤْلُؤاً في سائر مواضع أجسامهم وَ لِباسُهُمْ فِيها أي في تلك الجنات حَرِيرٌ و هو الديباج المنتوج من دود القز- هنا- أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 593

[سورة الحج (22): الآيات 24 الى 25]

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ

(24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

هناك، فلا نعلم مما ينتج.

[25] ذلك مقامهم، و تلك ألبستهم و زينتهم- في مقابل مكان أهل النار و لباسهم- فلننظر إلى ما يقال لهم، مقابل ما قيل لأهل النار «وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» وَ هُدُوا أي أرشد أهل الجنة- و المرشد هو الله سبحانه الملهم لهم بذلك- إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ فيقول بعضهم لبعض «سلام عليكم» و بالتسليم تتلقاهم الملائكة وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي صراط الله المحمود، و هو الصراط الذي يحمد صانعه الذي يسلكه، في مقابل أهل النار الذين «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها».

[26] و بمناسبة الكلام حول الكفار، يأتي السياق لبيان حال قسم خاص منهم و هم الذين يمنعون عن الحج، و عن الإيمان، ثم يستطرد السياق حول بعض خصوصيات البيت الحرام إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله، و اليوم الآخر وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طريقه المؤدي إلى رضاه، و هو الإيمان به، و العمل الصالح حسب أمره وَ يصدون عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بأن يمنعون الناس عن الحج الَّذِي جَعَلْناهُ و أمر ببنائه لِلنَّاسِ عموما، فما حق الكفار يمنعون الناس عن الحج؟ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ أي المقيم في «مكة» و الضمير راجع إلى المسجد الحرام، باعتبار ملابسته لمكة، فهو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 594

من باب علاقة الكل و الجزء، وَ الْبادِ أي الذي يطرأ و يأتي إليه من الخارج و سمي المسافر به لأنه يظهر و يتبين، بعد أن كان من

الخارج، و المعنى أنه ليس لأحد أن يمنع أحدا، حتى أنه ليس لسكان مكة، أن يغلقوا أبوابهم بوجه المسافرين و لم يكن لدور مكة أبواب، حتى ابتدعها عثمان أو معاوية، كما ورد بذلك التاريخ و الروايات،

ورد أن هذه الآية نزلت في قريش حين صدوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكة، و قد كتب الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إلى عامله بمكة و هو قثم بن العباس، و أمر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا، فإن الله سبحانه يقول سواء العاكف فيه و الباد

«1»، و العاكف المقيم به، و الباد الذي يحج إليه من غير أهله ثم أنه قد حذف خبر إن، لتهويل الأمر، حتى تبقى نفس السامع قلقة، ما مصير هؤلاء المجرمين؟ و ما يكون عقابهم و عذابهم؟

وَ مَنْ يُرِدْ مضارع من الرد، و حذف ياؤه بالجزم ب «من» أي الذي يريد فِيهِ أي في البيت الحرام، تغييرا، أو تبديلا، و قد حذف مفعول يرد ليذهب الذهن كل مذهب بِإِلْحادٍ الإلحاد العدول عن القصد، و منه يسمى اللحد لحدا، لأنه مائل عن استقامة القبر، و الملحد، ملحد لعدوله عن الإيمان بِظُلْمٍ أي ظلما، و هو متعلق بقوله «بإلحاد» أي من أراد في البيت الحرام شيئا غير جائز، بسبب أنه عدل عن القصد ظلما نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم في الدنيا بإجراء الحد و التعزير عليه تشريعا، و ضربه بالبلايا و المحن تكوينا، و في

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 9 ص 358.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 595

[سورة الحج (22): الآيات 26 الى 27]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ

وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

الآخرة بإدخاله النار.

[27] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ بَوَّأْنا أي وطأنا و مهدنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فإن إبراهيم هو الذي بنى البيت، و قد عرفه الله سبحانه، أين يبنيه، و يأتي هذا الكلام عقب الكلام السابق، ليدل على أن البيت، إنما بني لأجل التوحيد و الحج، فما بال الناس يمنعون عن البيت، و ما بالهم يردون فيه بإلحاد بظلم؟ و قلنا له أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي لا تجعل معي شيئا في العبادة، و إنما تبني البيت لتوحيدي، و فيه تعريض بالكفار، الذين نصبوا الأصنام حول البيت يعبدونها مع الله وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ من الأدناس المعنوية و الظاهرية لِلطَّائِفِينَ الذين يطوفون و يدورون حول الكعبة، و الطواف قسم من الخضوع، كأنه يريد أن يبين، أني فداء لصاحب هذا البيت وَ الْقائِمِينَ في عباداتهم تجاه الله سبحانه وَ الرُّكَّعِ جمع راكع السُّجُودِ جمع ساجد، أي الذين يركعون و يسجدون.

[28] وَ أَذِّنْ أي أعلم يا إبراهيم فِي النَّاسِ بِالْحَجِ الحج أصله القصد، ثم خصص بهذا القصد الخاص، و المراد أن يعلن، أن الناس يأتون إلى هذا البيت لعبادة ربهم، و إتيان المناسك المخصوصة الدالة على خضوعهم لله سبحانه،

و قد ورد عن الصادق عليه السّلام أن إبراهيم لما أتم البيت، نادى هلم الحج هلم الحج، فلبى الناس، في أصلاب الرجال لبيك داعي الله، لبيك داعي الله، فمن لبى عشرا حج عشرا، و من لبى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 596

[سورة الحج (22): آية 28]

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى

ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)

خمسا حج خمسا، و من لبى أكثر فبعدد ذلك، و من لبى واحدة حج واحدة، و من لم يلب لم يحج

«1»، و قد وعد الله إبراهيم أن يلبيه الناس، فقال يَأْتُوكَ أي يأتوا إليك يا إبراهيم، لأجل الحج أناس رِجالًا جمع راجل، و هو الماشي الذي لا مركوب له، يسعون على أقدامهم وَ أناس يأتوك عَلى كُلِّ ضامِرٍ من الضمر، و هو الهزال، قد جهده السير، فضمر من الجهد و الجوع و التعب، و إنما خصص هذين، دلالة لتلبية الناس له، حتى الضعفاء منهم الذين لا مركوب لهم، أو هم فقراء، حتى أن مركوبهم ضامر، ليس له ما ينفق عليه، و لا يريحه، حتى يسمن يَأْتِينَ تلك الحيوانات المركوبة الضامرة مِنْ كُلِّ فَجٍ أي طريق عَمِيقٍ بعيد، و هكذا يتقاطر الحجاج على البيت الذي تبنيه يا إبراهيم.

[29] و إنما أمروا بالحج لِيَشْهَدُوا أي يحضروا هناك مَنافِعَ لَهُمْ دنيوية، و أخروية، فالمنافع الدنيوية اقتصادية، و اجتماعية و نفسية، و ما أشبه، و المنافع الأخروية، الجنة و الثواب وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فيجددوا عهدهم به خالصا من كل شائبة فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ و هي أيام الحج، كما يظهر من السياق،

و قد ورد عن علي عليه السّلام أنه الأيام العشر

، و ورد أيضا أنه الأيام الثلاث للتشريق

، و الظاهر أنها من باب

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 206.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 597

[سورة الحج (22): آية 29]

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

بيان بعض المصاديق عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ الأنعام، هي الإبل و البقر و الغنم، و

البهيمة هي التي لا تقدر أن تتكلم، فإنها من الإبهام، و ذلك أنها لا تفصح عن مرادها، كما يفصح الإنسان الناطق، و المراد ب «على» إما ذكر الله على الحيوان حين يذبح أو ينحر، أو المراد أنهم يشكرون الله على أن رزقهم اللحوم، و على أي حال، فهو مصداق للذكر فَكُلُوا أيها الحجاج مِنْها من تلك الأنعام، و الأمر للإباحة، أو للوجوب، فقد ذهب بعض علمائنا إلى وجوب أكل الحاج من ذبيحته وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ و هو الذي ظهر عليه أثر البؤس- أي الجوع و العري- الْفَقِيرَ و كأنه قيد احترازي، لأن يجتنب عن البائس الذي يظهر ذلك، و ليس بفقير واقعا.

[30] ثُمَ عطف لترتيب الكلام، لا لترتيب ما يأتي على ما تقدم لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يقال تفث، يتفث «من باب علم يعلم» أي علاه التفث، و هو الوسخ، و تفثت الدماء مكانه أي لطخته، و يقال: قضى تفثه، أي أزال وسخه، كأنه أتى بما عليه تجاه الوسخ- و هو الإزالة- و المراد هنا إزالة الأوساخ من حلق الشعر، و نتف الإبط، و تنوير العانة، و قص الظفر، مما حرمه الإحرام، فإنها تحل في منى وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ التي نذروها من الذبح و النحر لله سبحانه- علاوة على الهدي- وَ لْيَطَّوَّفُوا أصله «تطوف» من باب التفعل، قلبت التاء طاء، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي البيت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 598

[سورة الحج (22): آية 30]

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

القديم، و الظاهر شمول هذا لكل أقسام الطواف، لما

تقدم، من أن «ثم» لترتيب الكلام، لا لترتيب الأعمال.

[31] ذلِكَ هو الحج الذي أمر الناس أن يأتوه، فأصله و أعماله، و بناءه، و بانيه، كما ذكر وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ «حرمات» جمع حرمة، و هي ما لا يحل انتهاكه، أي الذي لم ينتهك حرمة البيت، و حرمة سائر ما شرع من الأعمال المرتبطة به فَهُوَ أي هذا التعظيم خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ إذ يجزيه بالثواب و اللطف، و حيث إن المشركين جعلوا من حرمات الله، البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، يأتي السياق ليبين إنها ليست من حرمات الله وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ أيها الناس الْأَنْعامُ جميع أقسامها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في سورة المائدة، من المنخنقة و الموقوذة و غيرهما، فإن سورة المائدة نزلت متأخرة عن هذه السورة، و بمناسبة حرمات الله، يبين السياق، أن لا حرمة للأصنام- كما بين، أن لا حرمة للأنعام فَاجْتَنِبُوا أيها الناس، و لعل إتيان الفاء، لترتيب ذلك على الحالة النفسية التي تثار في هذه المشاعر، من التطهر، و الاتجاه إلى الله سبحانه، الرِّجْسَ و هو القذارة المعنوية الحاصلة للإنسان مِنَ الْأَوْثانِ الأصنام وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ أي الافك و البهت، فإن عبادة الأصنام، و جعلها شركاء لله سبحانه، من أكبر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 599

[سورة الحج (22): آية 31]

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31)

أقسام الافك، فقد كان المشركون ينتهكون حرمة البيت، و يحترمون الأصنام، و يحرمون ما أحل الله من الأنعام، و ينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه، فجاء السياق ليشجب جميع هذه الأعمال، و حيث أن مركزها

كانت مكة، حشر الجميع في سياق الحج.

[32] في حال كونهم حُنَفاءَ جمع حنيف، و هو المائل عن الشرك، أي ميلوا عن الشرك نحو الطريق المستقيم، و هو طريق الله تعالى، لِلَّهِ تعالى غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ لا تشركوا بالله غيره وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ و يعبد الأصنام من دونه، فهو مثل إنسان يسقط من السماء، و قبل أن يصل إلى الأرض، خطفته الطيور و الجوارح، ليمزقوه، و يأكلوه لقمة سائغة لهم، أو تأخذه الريح لتطرحه، في مكان بعيد عن الأنظار، حتى لا يبقى أثره، حتى أن جسمه يضيع، فلا قبر له و لا أثر، و هكذا المشرك، إنه خر من أوج الإيمان الرفيع، فأخذه الرؤساء الكافرون، ليجعلوا منه وسيلة لسيادتهم و دنياهم، فيعيشون على لحمه و شخصه، أو يبقى وحده، بلا أن يستهويه أحد، بل ضالا في الحياة، لا يدري من هو، و أين؟ حتى يأتيه الموت، فيضل في بحر الفناء، لا أثر له و لا خبر فَكَأَنَّما خَرَّ أي سقط مِنَ السَّماءِ إلى نحو الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ قبل أن يصل إليها أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تميله- فلا يقع على الأرض، ليراه الناس و يأبهوا به- فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أي بعيد عن الأنظار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 649

[سورة الحج (22): الآيات 32 الى 33]

ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

[33] ذلِكَ الأمر كما ذكرنا من لزوم الإيمان، و ترك الشرك وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ جمع شعيرة، و هي الشي ء الملاصق للبدن، و سمي شعيرة، بعلاقة الملابسة، لأنه يصل بالشعر في

البدن، و المراد هنا الأمور المرتبطة بالله، و هو عام يشمل كل ما ورد به دليل خاص، كالمناسك في الحج، أو دليل عام كالمدارس الدينية التي لم تكن في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، و إنما تشملها الأدلة العامة، و الإتيان بهذه الجملة هنا، بمناسبة أن أعمال الحج من الشعائر فَإِنَّها أي أن تعظيم الشعائر مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «الضمير» في «إنها» عائد إلى الشعائر، و المراد به تعظيم الشعائر، من باب الملابسة- مجازا- و إضافة التقوى إلى القلوب، لأن حقيقة التقوى في القلب، و إنما يظهر أثره على الجوارح و التعظيم حقيقة لا ينشأ إلا من تقوى القلب، أما صورة التعظيم الذي ينشأ من التقليد و نحوه، فإنه ليس تعظيما حقيقة، و إنما صورة تعظيم مجردة.

[34] لَكُمْ أيها الناس فِيها أي في الشعائر مَنافِعُ مادية و معنوية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة معينة، قد سمي أجلها، و ذلك، فإن مصاديق الشعائر الأنعام التي تهدى إلى البيت، و يجوز للإنسان ركوبها، و شرب ألبانها، إلى وقت ذبحها ثُمَّ مَحِلُّها أي الموضع الذي تحل الشعائر فيها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي مكة، فإن الهدايا تساق إليها، حتى تذبح بها، ثم إن من البلاغة في القرآن، أن يذكر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 601

[سورة الحج (22): آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)

الدليل، و الحكم، كما يذكر العام، ليشمل الخاص، فلا غرابة في أن يراد بالشعائر العموم، و يراد ب «لَكُمْ فِيها مَنافِعُ .. إلى آخره-» خصوص الهدي، كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) «1» ف «إنا لا نضيع» عام، و دليل، في وقت واحد، و هكذا من أمثاله، و هو كثير.

[35] و ليس موضع عجب، أن يكون ذبح الأنعام من الشعائر في هذه الأمة، فقد كان ذبحها في كل الأمم من الشعائر، و الذين يثنون على ذبح الحيوان، لم يدركوا طبيعة البشر، التي لا تقوم، إلا باللحوم، و لم يدركوا أن لا فرق بين ذبح الحيوان و موته، فإن الألم الذي يصل إليه من الموت أكثر من الألم الذي يصل إليه من الذبح، و النقض بذبح الإنسان في غير مورده، إذ الإنسان خلق لنفسه، و له خلق الكون- كما يشهد بذلك نفس الكون- فهو غاية لا وسيلة، بخلاف الحيوان الذي هو وسيلة، ثم ماذا يقولون في ركوب الحيوان، و الحمل عليه؟ فهل يرون ذلك خلافا، و أنه مثل ركوب الإنسان و الحمل عليه؟ و ماذا يقولون، في استخدام الإنسان لجنسه في حوائجه الضرورية؟ و كون الألم هنا أقل فلا يبرر، إذ لو كان الإيلام ظلما، لم يكن فرق في أصل القبح بين الظلم القليل و الظلم الكثير، وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً المنسك موضع العبادة، من نسك بمعنى عبد، و النسيكة الذبيحة، لأنها تذبح قربة إلى الله تعالى، و المراد بالمنسك إما البيت، و إما الذبيحة، لأنها موضع العبادة، إذ يقرب بها إلى الله، و الأول أقرب

______________________________

(1) الكهف: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 602

[سورة الحج (22): آية 35]

الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

إلى ظاهر اللفظ، و الثاني أقرب إلى السياق لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي إن جعل العبادة، أو الذبيحة، إنما هو لذكر الله على ما رزقهم من اللحوم، و لو كان المراد بالمنسك، محل العبادة، كان التعليل بمناسبة تلازم محل العبادة و ذبح الحيوان قربانا، كما نرى في الحج، و قد كان في الأمم السابقة، تشريع ذبح الحيوان لله، في محل العبادة، و إنما حرفها المشركون، حيث كانوا يذبحونها للشركاء فَإِلهُكُمْ أيها البشر إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فلا تذبحوا الذبائح لغيره كما كانت عادة أهل الجاهلية و «الفاء» تفريع على العلة في «ليذكروا» بمعنى أن تشريع الذبح، لما كان لذكر اسم الله، فلا تذكروا سواه فَلَهُ وحده أَسْلِمُوا أي انقادوا و أطيعوا وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُخْبِتِينَ الذين يتواضعون لله تعالى، من أخبت خضع.

[36] ثم فسر المخبتين بقوله الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت و اضطربت، فإن الإنسان، إذا ذكر باسم عظيم يكون مآله إليه، و لا يدري هل أنه ناجح أم ساقط، يخشى و يخاف خوف الرسوب، و هذا يدل على كمال الإيمان وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المكاره و الأتعاب و البلايا، يصبرون لأجله سبحانه، و إطاعة لأمره وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ أصله مقيمين، حذف النون، للإضافة وَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 603

[سورة الحج (22): آية 36]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي يبذلون، كما أمر الله سبحانه و «الصابرين» و «المقيمي» عطف على «الذين» و «مما رزقناهم» عطف على «إذا ذكر» أو بتقدير الذين، حتى

ينساق العطف في الجميع.

[37] وَ الْبُدْنَ جمع بدنة، و هي الإبل جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ التي تنحر في الحج تعظيما لأمر الله سبحانه، و خص البدن بالذكر، مع أن البقر و الغنم كذلك، لأن البدن أعظمها مثوبة، و أنفعها للناس، و لعل تخصيص الهدي بالذكر من بين سائر الشعائر، لأن فيها الدين و الدنيا، بخلاف سائر الشعائر، كالطواف و السعي و الرمي، و ما أشبه لَكُمْ أيها المسلمون فِيها أي في البدن خَيْرٌ تنتفعون بلحومها في دنياكم، و بثوابها في آخرتكم فإذا أردتم نحرها للهدي اذكروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها في حال كونها صَوافَ أي قائمات، قد صففن أيديهن و أرجلهن، جمع صافة، و ذلك حين إرادة نحرها فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها بأن سقطت على الأرض، لموتها في أثر النحر، و هي إذا وقعت تقع على جنبها و ذلك كناية عن موتها فَكُلُوا مِنْها الأمر، إما للإباحة، لأن الأكل مباح، أو للوجوب على ما ذهب إليه جماعة من العلماء، من وجوب الأكل من الهدي وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ الذي يقنع بما أعطيته، و هو يسألك الطعام وَ الْمُعْتَرَّ من اعتر، بمعنى اعترى، و هو الفقير الذي يعتري رحلك من غير أن يسأل، و كان الإتيان بهذين الوصفين، لبيان العلة في الإعطاء، و الإلفات إلى خصوصيتها الموجبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 604

[سورة الحج (22): آية 37]

لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

للعطف و الرحمة كَذلِكَ الذي ذكرنا سَخَّرْناها لَكُمْ فإنها مع قوتها مسخرة لكم حتى تتمكنوا من أخذها، و إيقافها صواف و نحوها، بخلاف السباع الممتنعة التي هي لو كانت

دونها لا تنقاد و لا تخضع لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا لطف الله و فضله.

[38] إن الأمر بذبح الهدي، ليس لانتفاع الله سبحانه، فإنه تعالى لا ينتفع بشي ء لَنْ يَنالَ اللَّهَ أي لن يصل إلى الله لُحُومُها ليأكل، أو ينتفع وَ لا دِماؤُها كما تنال الأصنام دماء قرابينها، فإنهم كانوا يلطخون الصنم بدم القربان، ليدل على أنهم عظموه بالقربان من أجله وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ فإن توجه القلوب إليه سبحانه، هو المطلوب المهم الذي أمر به سبحانه، و هو الشي ء الذي يريده، و لذا شبه بما ينال الإنسان و يصل إليه، و إلا فالتقوى أيضا لا يناله سبحانه، و المعنى أن المقصود بالهدي التقوى، لا الهدي في صورته المجردة، إذ لا انتفاع لله سبحانه بصورة الهدي، و إنما الصورة تفيد من يريد الأكل أو الاستعلاء بلطخ الدم كَذلِكَ أي كالذي ذكر من كون لحومها و دمائها باختياركم، سَخَّرَها أي سخر البدن لَكُمْ أيها البشر لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي تعظموه على هدايته إياكم، فإن الإنعام، يوجب الشكر على كل نعمة، فالهداية و التسخير و إن كانا نعمتان، لكن أحدهما توجب الشكر على الأخرى، فلا يقال مقتضى القاعدة أن يقال: «على ما سخر» لا «على ما هدى» وَ بَشِّرِ يا رسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 605

[سورة الحج (22): الآيات 38 الى 39]

إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)

الله الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أعمالهم، فلا يأتون بالسيئات.

[39] و إذ بين سبحانه الشعائر و المشاعر بين جواز الدفاع عنها، فإن العقيدة و الشريعة، تحتاجان إلى

دفاع أصحابها عنهما من الاعتداء، و بين سبحانه، أولا أنه هو المدافع، ثم أذن للمسلمين أن يدافعوا إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فإنه يمنع الكفار عنهم، و ينصرهم على أعدائهم و الإتيان من باب المفاعلة، للالفات إلى المدافعة التي تقع بين الكفار، و بين الأمور التي جعلها الله سبحانه وسيلة للدفاع عن المؤمنين إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ قد خان عهد الله المودع في فطرته، بالتوحيد و الإيمان، و إنما كان خوانا، لأنه يخون في كل خطوة خطوة كَفُورٍ كثير الكفر، فإن الإنسان في كل حركة و سكون، إما يلابس الإيمان أو الكفر.

[40] و إذ تمادى الكفار في غيهم، و أخذوا في تضييق النطاق حول العقيدة و الإيمان، بصد الناس عن الإيمان، و تعذيب المؤمنين بالقتل و الإيذاء و التشريد أُذِنَ و الآذن هو الله سبحانه، و لم يذكر اسمه تعظيما لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم الكفار، و قد حذف متعلق الإذن، و التقدير أذن لهم، أن يقاتلوا، و هذه أول آية نزلت في باب القتال بسبب بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي أن سبب الإذن، كون الكفار ظلموهم وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فلم يكن النصر إلقاء لهم، في التهلكة، بل بسبب أن الله يريد نصرتهم، و الجملة كناية عن إرادة النصرة،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 606

[سورة الحج (22): آية 40]

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

لا بيان قدرة الله على النصر، فإن ذلك مثل أن يقال لك: اذهب

إلى الحرب، فإني قادر على دفع أعدائك.

[41] ثم بين سبحانه كيفية مظلوميتهم توضيحا لقوله «بأنهم ظلموا» الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ و هم المهاجرون الذين أخرجهم الكفار لكثرة أذاهم، حتى اضطروهم إلى الخروج من ديارهم في مكة، بدون أن يكونوا قد اقترفوا إثما أو ذنبا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فقد كان تمسكهم بالله سبحانه، هو سبب إخراج الكفار لهم عن بلادهم، و الاستثناء منقطع، و قد مر أن مثل هذا الاستثناء، لكون الكلام في المستثنى منه مأخوذا على التجرد، فالجملة تنحل إلى ثلاثة أشياء، هكذا «لم يخرجوا من ديارهم» «إلا لقولهم ربنا الله» «و كان إخراجا بغير حق» لكن الاقتصاد في الكلام، يوجب توصيف المستثنى منه بالجملة الثالثة، ثم بين سبحانه، أن الله يدفع غير المؤمنين بالمؤمنين، حتى تبقى معالم الدين وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي أن الله سبحانه يدفع الكفار بسبب الأخيار و ذلك الدفع بإيجابه سبحانه الجهاد و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، و الإرشاد- في الظاهر- و نصره سبحانه لهم- في الباطن- لَهُدِّمَتْ جميع آثار الأديان صَوامِعُ جمع صومعة، و أصلها من الانضمام، و منه الأصمع للألصق الأذنين، و كل منضم فهو متصمع، و الصوامع هي محلات العبادة للنصارى، و لعل وجه تسميتها بهذا الاسم، لأنها تضم العباد و الرهبان وَ بِيَعٌ جمع بيعة، و هي الكنائس لليهود، و محلات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 607

عبادتهم، و لعل وجه التسمية، أن الإنسان الذي يراودها قد باع نفسه من الله سبحانه وَ صَلَواتٌ أي محلات الصلاة، بعلاقة الحال و المحل، و لعله أريد به مواضع عبادة المجوس، و فيها احتمالات أخر وَ مَساجِدُ للمسلمين يُذْكَرُ

فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً الضمير إما عائد إلى المساجد، أو إلى جميع ما تقدم، و المراد أنها كانت تهدم كل في زمان النبي النافذ شرعه، فكانت تهدم البيع في زمان موسى، و الكنائس في زمان عيسى عليه السّلام، و هكذا، و أما أنها كانت تهدم في الوقت الحاضر، فإن هذه المواضع للعبادة خير من عدمها بتسلط أهل الطبيعة، و الدهرية، فإنها علائم من الدين، و آثار من السماء، و إن حرفها أهلها عن الأصل، و كانت باطلة في زمان الإسلام، غير المساجد، فإنه سبحانه له علاقة بها، في مقابل المعطلة و الدهرية، و منه اغتنم المسلمون حين انتصر الفرس على الروم، و كانوا يترقبون غلبة الروم، لأنهم نصارى، على الفرس عباد النار، قال سبحانه (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) «1» وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فإن من نصر شريعة الله، كان الله ناصره، و هذا من باب التشبيه، و إلا فالله غني عن النصرة، ثم إن الله ناصر لمن نصره طبيعي- كما هو غيبي مربوط بما وراء المادة- إذ المؤمن الذي يكمل قواه المادية، و يبرز في الميدان، يكون ضروريا بالقوتين المادية و الروحية، و للقوتين غلبة على القوة

______________________________

(1) الروم: 2- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 608

[سورة الحج (22): آية 41]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

الواحدة في الطرف المقابل، و هي القوة المادية المجردة، أما من لا يكمل قواه المادية، اعتمادا على قواه الروحية فقط، فقد خرج عن أوامر الله سبحانه، الذي قال (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ

مِنْ قُوَّةٍ) «1» و (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) «2» و (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ) «3» و (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا) «4» و (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) «5» و غيرها إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ يقوى على نصرة المؤمنين عَزِيزٌ قاهر لا يغلبه أحد.

[42] ثم وصف سبحانه الذين أذن لهم في القتال، و أخرجوا من ديارهم بقوله أنهم هم الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بأن كانت لهم المكنة و السلطة أَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوها بحقوقها و آدابها، و شرائطها وَ آتَوُا الزَّكاةَ أعطوها إلى من يستحق حسب موازينها وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ و هو كل شي ء أمر به الشرع، أو العقل إيجابا أو ندبا وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل شي ء نهى عنه الشرع أو العقل تحريما، أو تنزيها، و ليس معنى هذا- المفهوم- بأنهم إن لم يمكّنوا لم يقيموا الصلاة- إلى آخره- بل هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ غير المتمكن في الأرض لا يتمكن من أداء هذه الأشياء على وجهها، أو

______________________________

(1) الأنفال: 61.

(2) الصف: 5.

(3) المائدة: 52.

(4) آل عمران: 104.

(5) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 609

[سورة الحج (22): الآيات 42 الى 45]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

من قبيل إن رزقت ولدا فاختنه، حيث لا محل للختان بدون رزق الولد وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ

أي إن الله يرث الأشياء، فالعاقبة، و الخاتمة له، و هذا وعد للمؤمنين، و إيجاد أمل فيهم، بأن يكافحوا و يقاتلوا، لأن الله هو الذي ينصرهم، و تكون العواقب مطابقة لمناهج المسلمين.

[43] ثم سلا سبحانه رسوله، فيما يلاقيه من تكذيب القوم، بأن له أسوة بالأنبياء السابقين وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ يا رسول الله فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ نوحا وَ عادٌ كذبت هودا وَ ثَمُودُ كذبت صالحا.

[44] وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ نمرود و أتباعه، كذبوا إبراهيم عليه السّلام وَ قَوْمُ لُوطٍ كذبت لوطا.

[45] وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ كذبت شعيبا وَ كُذِّبَ مُوسى كذبه فرعون و قومه، و لم يقل «و موسى» لأنه كان يوهم، أن قوم موسى- و هم بنو إسرائيل- كذبوه فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي كتبت أعمالهم، و أمهلتهم حتى استوفوا أعمارهم المقدرة لهم ثُمَ لما انقضى أمرهم أَخَذْتُهُمْ بأصناف العذاب فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ استفهام تقريري، أي كيف كان إنكارهم عليهم، ألم يكن في موقعه، فإنهم لما كفروا، أخذوا بجزاء أعمالهم.

[46] فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كم من قرى، و المراد بها المدن، و «كم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 610

[سورة الحج (22): آية 46]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

خبرية للتكثير أَهْلَكْناها و المراد إهلاك أهلها، بعلاقة الحال و المحل، و ذلك لأن الهلاك يعم نفس القرية، كما يشمل أهلها، فتخرب منازلها و دورها وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي أهلها بالكفر و العصيان فَهِيَ تلك القرية المأخوذة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها أي سقوفها، فإن السقف إذا وقع، وقعت عليه الحيطان و الجدران، و هذا من أبشع أنواع الإهلاك، إذ أهل

الغرفة و المحل إذا سقط عليهم السقف و سقطت الحيطان على السقف تحطمت عظامهم و كثيرا ما لا يظفر لهم على بدن وَ كأين من بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ تعطلت عن الرواد و ذكر البئر، لأن الماء كان من الآبار، في أكثر المدن و القرى، و تعطيلها كان علامة فناء أهلها، حتى أن هذا العصب الحي للحياة، قد تعطل عن العمل وَ كأين من قَصْرٍ مَشِيدٍ أي قد شيد و بني بالجص، و زين بالزخرفة، قد تعطل، فلا ساكن له، و إذ لا ساكن للقصر المشيد، فكيف بالدور و الدكاكين، و نحوها، مما لا قيمة لها في جنب القصر.

[47] أَ فَلَمْ يَسِيرُوا أي هؤلاء الكفار المكذبون بنبوتك فِي الْأَرْضِ اليمن و الشام، و سائر البلاد التي أهلك أهلها، لما كذبوا الرسل، حتى يعتبروا، و يقلعوا عن غيهم؟ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يرون من العبر، و آثار الخرائب التي بقيت بعد إهلاك الأمم السابقة، الذين كذبوا أنبياءهم أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أخبار الأمم السابقة، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 611

[سورة الحج (22): آية 47]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)

الإنسان، إذا سافر، سمع من أهل بلد أخبار الماضين منهم، و أنهم كيف كانوا، و كيف ماتوا، حتى يحكوا لهم، أن أسلافهم أهلكوا حيث كذبوا الأنبياء و عملوا بالكفر و المعاصي، فَإِنَّها الضمير للشأن و القصة، و يأتي هذا الضمير للإلفات و التنبيه، إلى أن ما بعده أمر مهم، فإذا كان مذكر، سمي ضمير الشأن، و إن كان مؤنثا سمي ضمير القصة، و الجملة ما بعد الضمير مفسرة له لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الناظرة إذ

البصر ينظر و يرى وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ و تنفلق عن الهدى الَّتِي فِي الصُّدُورِ و الإتيان بهذا الوصف للتعميم، كقوله (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) «1» [48] وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ يا رسول الله، أي هؤلاء الكفار، فقد كانوا يطلبون من الرسول، أن يأتي به بِالْعَذابِ الذي وعدهم، استهزاء به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن الله سبحانه لا يأتي بالعذاب، إلا في الوقت المحدد له حسب حكمته و مصلحته وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فقد وعد بالعذاب، فيأتيه، كما وعد لهم مدة معينة، فلا يأخذهم قبل انقضائها وَ إِنَّ يَوْماً و هو يوم القيامة عِنْدَ رَبِّكَ في حسابه كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ و هذا تهديد، أي أن وراءهم يوما يعادل ألف سنة، بحساب الإنسان، و إن كان عند الله سبحانه، يعد يوما واحدا، و هذا كما تقول للمجرم،

______________________________

(1) الأنعام: 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 612

[سورة الحج (22): الآيات 48 الى 50]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50)

سيأتي وقتك، و في حساب الحكومة لك يوم هو عشرون سنة في حسابك، تريد أن عليه الحبس تلك المدة.

[49] إنهم كيف يستعجلون بالعذاب؟ ألم يعلموا ماذا صنع بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة؟ وَ كَأَيِّنْ أي: و كم مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها أي أمهلتها لتبلغ أجلها المقدر لها وَ هِيَ ظالِمَةٌ بالكفر و العصيان مستحقة، لتعجيل العقاب ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب لما انقضى أجلها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي أن الكل يصيرون إلى

عقابي و ثوابي و جزائي في القبر، و في القيامة، فلا يغرنهم الأجل المضروب لهم «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» و سيأتي وقت هؤلاء القوم، و إنا إذ ننظر إلى هذه الآيات، نرى أن وقت القوم المكذبين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قد انقضى، و أن الله قد أهلكهم و لم يبق اسمهم إلا للعنة، كما أنهم هناك معذبون في أشد العذاب.

[50] قُلْ يا رسول الله للناس يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ أنذركم بالعذاب في الدنيا و الآخرة مُبِينٌ واضح ظاهر، أنذركم بكل صراحة و وضوح.

[51] فَالَّذِينَ قبلوا الإنذار، بأن آمَنُوا إيمانا صحيحا بالأصول و المعارف وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و لازم ذلك ترك السيئات- كما مر- لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران، إذ هو مصدر ميمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 613

[سورة الحج (22): الآيات 51 الى 52]

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)

وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فيغفر الله ذنوبهم، و يتفضل عليهم بالجنة، التي فيها رزق كريم، مع الكرامة و الحفاوة.

[52] وَ الَّذِينَ لم يقبلوا الإنذار بل سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا و أدلتنا الدالة على التوحيد، و الرسالة، و المعاد، في حال كونهم مريدين أن يعجزونا، و يسلبوا قدرتنا عن الهدى و الإرشاد و الإتيان من باب المفاعلة لأنهم يريدون تعجيز الأنبياء حتى لا يهدوا الناس و الأنبياء يريدون تعجيزهم حتى لا يصدوا السبيل أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ و

هذا من باب كون أولئك مورد الكلام، و إلا فمن كفر كان محله النار، و إن لم يسع معاجزا.

[53] و بمناسبة الكلام حول من يسعون في آيات الله معاجزين، ذكر سبحانه بعض كيفيات سعيهم في إبطال الآيات و ذلك بأنهم يزيدون و ينقصون في الآيات، حتى يبطلوها و يحرفونها حسب أهوائهم، و هكذا يفعل المغرضون دائما بالمصلحين إنهم ينقلون عنهم الكلام بزيادة و نقيصة، يفسحون بذلك مجالا لافتراءاتهم و تخريباتهم، لكن الكفار لا يتمكنون إبطال الآيات بهذه الكيفية الشائنة لأن الله سبحانه من وراءهم يبطل ما حرفوه و يقوي آياته في القلوب، حتى تبقى كالفضة الخالصة لا غش فيها و لا دين وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله مِنْ رَسُولٍ يرسله الله سبحانه وَ لا نَبِيٍ ينبئه الله تعالى، و لعل الاختلاف بينهما- هنا- حسب العموم و الخصوص، فالرسول أخص من النبي،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 614

و إن كان كلاهما مرسلا إِلَّا إِذا تَمَنَّى التمني هو القراءة، يقال تمنى الكتاب إذا قرأه، قال الشاعر:

تمنى كتاب الله أول ليله و آخره لاقى حمام المقادر

أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في قراءته و معنى الإلقاء التحريف بالزيادة و النقصان، و إنما نسب الإلقاء إليه، لأنه من وسوسته، و إغرائه لعملائه الكفار أن يزيدوا، و بهذا الإلقاء يريد الشيطان و أتباعه أن يعجزوا الرسول عن إتمام رسالته- كما سبق قوله: «و الذين سعوا في آياتنا معاجزين» إذ إلقاء التشويش و الاضطراب، يوقف سيرة الدعوة و يكدر صفوها، لكن الله سبحانه يحفظ دينه و قرآنه عن الاختلال فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ بأن يبطله و يزيله بسبب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الرسول،

إذ يبين الرسول للناس أن هذا زائد و هذا ناقص، و هذا أصيل و هذا دخيل ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ بأن يجعلها محكمة لا يتسرب إليها الدخيل فإن المؤمنين إذا علموا أن الكفار بصدد الزيادة و النقصان، التزموا بالكتاب أشد الالتزام مما يوجب إحكامه، فلا يتطرق إليه التغيير و التحريف و قد حاول الكفار ذلك بالنسبة إلى القرآن منذ عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكنهم لم ينجحوا و في زماننا حاول «أتاتورك» أن يلخص القرآن، و صنع منه مهزلة لم يدم إلا يسيرا، حتى نسخه الله، و أحكم آياته، و ثم حاول اليهود من «فلسطين» أن يغيروا القرآن، و طبعوا منه نسخا محرفة، و وزعوها في البلاد، لكنها لم تنجح أيضا، بل قيض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 615

[سورة الحج (22): آية 53]

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)

الله المسلمين، لينبهوا على تحريفهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يفعله الكفار بوسوسة من الشياطين حَكِيمٌ يعمل كل عمل عن حكمة و صلاح، فلا يدع الكتاب الموحي إلى النبي عرضة التلاعب و الزيادة و النقصان.

[54] و إنما لا يعجز الله الشيطان عن هذا العمل، بأن يسلب قدرته منه حتى لا يتمكن من هذه الزيادة و النقصان لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ في الكتاب فِتْنَةً و امتحانا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فإن من مرض قلبه بالشك و الريب، إذا رأى الزيادة و النقصان و الاضطراب رفع اليد عن الإيمان، و دخل في صف الكفار أو المنافقين وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار الذين قست قلوبهم عن قبول الحق، فإن التحريف في الكتاب، على ما

ألقاه الشيطان فتنة لهم، لأنه يزيدهم كفرا و ضلالا فإنه يعطيهم الدلالة، حتى يتمكنوا من الهدم أكثر من ذي قبل وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و النفاق لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ كأنهم في شقة منحرفة عن الجادة المستقيمة و الشقة التي فيها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعيدة جدا عن الجادة، فليسوا كالعصاة الذين هم في شقة قريبة، إذ انحراف العاصي يسير بالنسبة إلى انحراف الكافر و المنافق، و المعنى أن الكفار، و الذين في قلوبهم مرض، الذين يتخذون التحريف، وسيلة للريب و الهدم إنهم بعيدون عن الجادة المستقيمة، و إلا فما يمنعهم عن تصحيح القراءة بسبب الرسول و المؤمنين؟ إنهم يريدون الكفر و النفاق و الشك و التهريج، لا الحق، و لا الواقع، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 616

[سورة الحج (22): الآيات 54 الى 55]

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

يبحثوا الشي ء عن أصله و مورده.

[55] و كما أن التحريف يسبب ضلالا و كفرا للذين في قلوبهم مرض، و القاسية قلوبهم، كذلك يسبب هداية و إيمانا بالنسبة إلى المؤمنين إذ الإنسان الطالب للحقيقة، إنما يقوي إيمانه، إذا رأى الاستقامة في وسط الاضطراب، و رأى الحق في جنب الباطل، فإن الأشياء تعرف بأضدادها فإذا رأى الذين أوتوا العلم القرآن، لم يتغير و لم يتبدل، و قاسوه بما ألقي فيه من التحريف ليروا الفرق الظاهر بين كلام الله و كلام الشيطان، ازدادوا إيمانا و يقينا

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي أعطوا العلم فهم عالمون فاهمون أَنَّهُ أي القرآن الذي أريد فيه الزيادة أو النقصان الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ و لذا بقي ناصعا مشرقا، لم يؤثر فيه التشويش و التحريف فَيُؤْمِنُوا بِهِ بالنسبة إلى غير من آمن إلى هذا الوقت و يثبتوا على الإيمان بالنسبة إلى المؤمن، فإن للإنسان في كل آن إيمان، و في كل لحظة هداية. فإن الإيمان فعل القلب الذي يصدر منه آنا فآنا فَتُخْبِتَ أي تخضع لَهُ أي للقرآن، المستفاد من قوله: إذا تمنى قُلُوبُهُمْ و تكون أكثر إيمانا به و التزاما له وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يهديهم في كل خطوة من خطوات الحياة المظلمة، فمن أسلس قيادة الله بالإيمان، هداه حينا بعد حين إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه و لا انحراف.

[56] أما الكفار، فإنهم يبقون في غيهم إلى أن يموتوا، و ذلك، لأنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 617

[سورة الحج (22): الآيات 56 الى 57]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57)

يسلسوا القياد، و أخذوا في الضلال و الغواية وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن هل هو منزل أم لا؟ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي الموت، أو القيامة بَغْتَةً فجأة، فلا مجال لهم للإيمان، حتى ينجوا من العذاب أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ بأن يأخذهم عذاب الاستئصال و الحاصل أنهم في شك حتى يموتوا، أو يعذبوا بإرسال الله العذاب عليهم، كما كان يعذب الأمم السابقة، و سمي اليوم عقيما، لأنه لا مثل له، فهو فرد كالإنسان العقيم

الذي لا يلد، فهو فرد لا شريك و لا شبيه له.

[57] الْمُلْكُ و السيطرة المطلقة يَوْمَئِذٍ أي يوم إتيان الساعة أو العذاب لِلَّهِ لا شريك له في الملك، حتى ظاهرا بخلاف الدنيا، فإن هناك ملوكا ظاهرين، قد جعلوا الملك لهم يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين المؤمن و الكافر فلا أحد هناك له سيطرة، لنقض حكم الله، و إبطال قضائه فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ التي لا فساد فيها فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ينعمون فيها، و الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، أي في نعيم الجنات.

[58] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله و المعاد وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي الأدلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 618

[سورة الحج (22): الآيات 58 الى 59]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

التي نصبناها للإرشاد و الهداية فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلهم، جزاء لكبريائهم في الدنيا، عن الحق و الإذعان.

[59] و حيث كان الكلام في الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، خصصوا بالذكر، بعد أن شملهم عموم «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» وَ الَّذِينَ هاجَرُوا أوطانهم و أهليهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجله، و بقصد امتثال أوامره، فكأنهم أخذوا يسيرون في الطريق الموصل إليه تعالى ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد، حيث أذن لهم بالمقاتلة أَوْ ماتُوا في الغربة لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً و هو الرزق الذي لا يشوبه كدر و منقصة، أي في الجنة، في قبال تركهم طيبات الدنيا و أرزاقها، و الرزق أعم من المأكل و المسكن و الزوجة و نحوها وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

فقد أطلق الرازق على كل من يتولى إعطاء الرزق لغيره، من أب، و زوج، و سيد و غيرهم، فالله سبحانه خيرهم، إذ رزقه أهنأ و أطيب و بدون من.

[60] لَيُدْخِلَنَّهُمْ الله سبحانه مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ «مدخل» وزن المفعول، و هو اسم مكان، و المراد به الجنة، فإنهم يرضون بها مقاما و منزلا، لما فيها من النعيم المقيم مما تشتهي الأنفس، و تلذ الأعين، وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوالهم، و ما عملوا من الصالحات حَلِيمٌ و هذا تسلية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 619

[سورة الحج (22): آية 60]

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

لهم، بأن الله سبحانه إذا أمهل الكفار، حتى فعلوا ما فعلوا فلم يكن ذلك إحباطا لأعمال المسلمين و عدم الاعتناء بهم، و إنما هو بمقتضى حلمه، و سيعاقبهم على ما اقترفوا و يجزي المسلمين، بما أوذوا في سبيله.

[61] ذلِكَ أي أن الأمر، كما قصصنا عليك وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي جازى الظالم، بمثل ما صنع به من الظلم و التعدي، بأن قاتل المشركين، كما قاتلوه، و أخرجهم كما أخرجوه، و سمى العقاب عقابا، لأنه يلحق الإنسان و يأتي بعقبه، و كان الإتيان من باب المفاعلة، لأجل أن كلّا من الشخصين ليعاقب الآخر، فهذا يظلم ذاك و ذاك يرد عليه ما عمل به، و سمي كل من الأمرين معاقبة للتشابه المسمى ب «الازدواج» كقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1» ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ظلمه الظالم مرة أخرى، و إنما ذكر ذلك، لأن المظلوم غالبا يبغى عليه مرة أخرى، إن اقتص من الظالم لظلمه أولا، فإن من

يبتدئ بالعدوان، لا يترك المظلوم أن يجازيه إلا و يعاقبه مرة أخرى لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فلا ييأس المظلوم من هذا الحيث، و ليعلم أن الله بالمرصاد، فليقدم على وضع حد للظالم برباطة جأش، و قوة قلب، و لعل هذا ليتعلم المسلمين أن لا يحجموا عن الفتك بمن ظلمهم خوف أن يعود الظالمون عليهم بالظلم و الأذى إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ أما البشر فلا يلزمهم الله بالعفو، لأنهم لا يقدرون

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 620

[سورة الحج (22): الآيات 61 الى 62]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

على ذلك غَفُورٌ يغفر الذنب، و ليس كذلك البشر، و إذا أذن لهم في رد الاعتداء و قتال من آذاهم و أضربهم.

[62] ذلِكَ النصر للمؤمنين المظلومين على الكافرين الظالمين، إنما يكون بدليل أن اللَّهَ سبحانه قادر على كل شي ء، كما يقدر على التصرفات الكونية، فمن يقدر على تحريك الكون العظيم، يقدر على نصرة المظلوم، أو المراد أن سنة الله الكونية قد جرت على التغيير و التبديل، فكما لا يبقى ليل و لا نهار أبدا، كذلك لا يكون الغلب للظالمين أبدا، فهو ينصر المظلوم عليهم كما يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يدخله فيه، في أيام الصيف و الخريف، فتنقص من ساعات النهار، لتضاف على ساعات الليل، و ذلك من أول الانقلاب الصيفي إلى أول ليلة من الانقلاب الشتوي وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخله فيه في أيام الشتاء و الربيع، فتنتقص من ساعات الليل، لتضاف على ساعات

النهار، و ذلك من أول الانقلاب الشتوي إلى أول يوم من الانقلاب الصيفي وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يدعو المؤمنين، فيجيب لهم بَصِيرٌ بأحوالهم، فينتقم لهم من الظالمين.

[63] ذلِكَ الذي ذكر من انتقام الله من الظالمين، و نصرة المؤمنين، و أنه هو المصرف للكون بسبب أن اللَّهَ هُوَ الْحَقُ فهو المصرف، و هو المدافع عن المظلوم وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 621

[سورة الحج (22): الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)

هُوَ الْباطِلُ فلا تقدر الآلهة الباطلة على تصريف للكون، كما لا تقدر على نصرة عبادها وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ فهو أعلى من كل شي ء يسمع و يرى كل شي ء و يقدر على كل شي ء الْكَبِيرُ الذي لا شي ء أكبر منه، حتى يتمكن من الوقوف أمامه، و نقض إرادته.

[64] و يشهد لكون التصرفات الكونية لله سبحانه، و أنه العلي الكبير، القادر على نصرة المظلومين، ما يراه الإنسان من الأحالات الطارئة الحكيمة التي تنتاب الكون، مما لا يمكن أن تنسب إلى صنم أو إنسان، أو صدفة مجردة أَ لَمْ تَرَ أيها الرائي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من جهة العلو، المطر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ مزينة بالخضرة و النبات، و في لفظ «تصبح» نكتة بديعة، حتى أنه أجلى أوقات الاخضرار إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده، و من لطفه بهم، زين أرضهم، بما ينتفعون به من الخضر خَبِيرٌ بأحوالهم و حوائجهم فما فعله حكمة و صلاح لهم.

[65] لَهُ ما فِي

السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فكل تصرف في الكون إنما هو منه وحده لا شريك له فيه، وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُ المطلق الذي لا يحتاج إلى مشاور و مشارك فهو وحده يدير الشؤون الكونية الْحَمِيدُ المطلق، الذي له كل الحمد إذ منه كل نعمة و فضل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 622

[سورة الحج (22): الآيات 65 الى 66]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

[66] أَ لَمْ تَرَ أيها الرائي، استفهام إلفاتي للتنبيه أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ فمن هو الذي جعل المخلوقات الأرضية، مسخرة لكم تسيطرون عليها بإرادتكم، فسخر لكم الأنهار، لتجري نحو حوائجكم، و سخر المعادن لتنقاد لأموركم، و سخر الأنعام لمنافعكم، و هكذا وَ الْفُلْكَ على وزن أسد جمع أسد تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ سبحانه، لمنافعكم و مآربكم؟ فمن جعل الماء بحيث يحمل الفلك في قاعدة مطردة كشف عنها «أرخميدس» و المعنى سخر الفلك، في حال جريها في الماء، بإذن الله سبحانه، و إنما قال «بأمره» دون «إذنه» لأن التكوين يحتاج إلى الأمر بأن يقال للشي ء «كن» وَ يُمْسِكُ السَّماءَ يحفظها أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فلا يبطل النظام الكوني، الذي جعله الله سبحانه حتى لا تقع الكواكب على الأرض، و إنما تسير الكواكب في أفلاكها المقررة لها، المعبرة عنها بالسماء، لسموها و علوها و ارتفاعها إِلَّا بِإِذْنِهِ فإذا أذن للسماء أن تقع، و يبطل النظام كما في يوم القيامة، حيث قال (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ

كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) «1» لم يمنع منها شي ء إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ و لذلك سخر لهم ما في الكون و أمسك السماء من الوقوع عليهم.

[67] وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم ترابا ميتا، بأن أعطاكم الحياة

______________________________

(1) الأنبياء: 105.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 623

[سورة الحج (22): آية 67]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)

و الروح ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فهو سبحانه المميت، أما من ظن أنه المميت بقتله إنسانا أو غيره، فقد أخطأ، فإنه إنما يوجد السبب الذي جعله الله وصلة لذلك المسبب، فهو كمن يزعم أنه يحيي بإيجاده الماء العفن المولد للبعوض ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بعد الموت للحشر و النشور إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ كثير الكفر، حيث أنه يكفر بالإله، و يكفر بالبعث، و يكفر بالأدلة مع وضوحها و جلائها.

[68] و إذ قد وضح الدليل، و تمت الحجة، فلا داعي للرسول لأن يشغل نفسه بمنازعة الكفار المنكرين للمبدأ و المعاد لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً مصدر ميمي أي منهجا هُمْ ناسِكُوهُ أي ينتهجونه و يتبعونه في حياتهم فَلا يُنازِعُنَّكَ يا رسول الله، أي لا وجه لنزاع الكفار معك فِي الْأَمْرِ أي أمر الشريعة و أنها لم صارت هكذا؟ و هذا و إن كان في الصورة نهيا للكفار عن المنازعة، لكنه في الحقيقة إرشاد للرسول، بأن لا يشغل نفسه بكلامهم و خصامهم فإن المعاند لا يفيد معه الخصام و الجدال وَ ادْعُ يا رسول الله إِلى رَبِّكَ غير مبال بهم، و لا ملتفت إليهم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ قد شبه الهدى بالطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى مقصده، و الرسول على ذلك الطريق، فليس عليه أن

يعارض و ينازع أصحاب الطرق المنحرفة، و إنما عليه الدعوة، حتى إذا رآه الناس، و رأوا طريقه اتبعوه تلقائيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 624

[سورة الحج (22): الآيات 68 الى 71]

وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)

[69] وَ إِنْ جادَلُوكَ الكفار في منهجك الاعتقادي و العملي، فلا تشغل نفسك بالجدال معهم، بل أجبهم بما يقطع كلامهم فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و هذا كلام الإنسان الذي يريد إظهار خنجره و برمه بما يأتي خصمه من الأعمال، و إن أعماله باطلة، و هو يعلم ذلك [70] اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يفصل بينكم ليجازيكم على أعمالكم فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي تختلفون معي في العقيدة و العمل و كفى بالله عالما حاكما مجازيا، و بهذا ينهي الرسول جدالهم، و يقطع كلامهم، إذ لا فائدة في محاجة المعاند، الذي يرى الحق فينكره.

[71] أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها الإنسان المجادل أو أنه قطع للكلام السابق و توجيه للخطاب نحو الرسول، ليلفت الناس بذلك أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فلا يخفى عليه شي ء كي يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفار إِنَّ ذلِكَ الذي في السماوات و الأرض فِي كِتابٍ أي مثبت في اللوح المحفوظ فلا خافية إلا و الله سبحانه قد أثبتها في كتاب لديه إِنَّ ذلِكَ الثبت في الكتاب، لكل ما في

السماوات و الأرض عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يأتي بمجرد الإرادة، بلا حاجة إلى تعب كتابة كما يحتاج الإنسان إلى ذلك.

[72] وَ بعد وضوح الأدلة، و تمام الحجة يَعْبُدُونَ أي هؤلاء الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 625

[سورة الحج (22): آية 72]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

مِنْ دُونِ اللَّهِ غير الله، و لعل في التعبير ب «من دون» نكتة هي أن ما يعبدونها دون الله في المرتبة، فليست لها رتبة الألوهية، و مقام الله سبحانه، مع إهانة في التعبير للأصنام، حيث عبر عنهم ب «دون» ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ أي بذلك الشي ء الذي يعبدوه سُلْطاناً أي حجة و دليلا وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فلا دليل شرعي على تلك الآلهة أنزله الله، و لا دليل عقلي لهم يعلمونه، و إنما عبادتهم لمجرد تقليد و ظن وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ فإن الأصنام التي يعبدونها، و يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) «1» لا تنصرهم، يوم يأخذهم و بال عبادتهم لها.

[73] وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الكفار آياتُنا الدالة على وجودنا، و سائر شؤوننا، في حال كون تلك الآيات بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات تَعْرِفُ يا رسول الله فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار، فإن «المنكر» هنا «مصدر ميمي» و المعنى أنه تظهر في وجوههم علامة الإنكار، بتقطيب الوجه و الإعراض، و من شدة حنقهم و غيظهم يَكادُونَ يَسْطُونَ من السطو، و هو البطش، للإخافة و الإيذاء، يقال: سطا يسطو، إذا بطش بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا فيفتكون بهم و

يضربونهم، و يقولون فيهم الأقوال البذيئة، من

______________________________

(1) يونس: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 626

[سورة الحج (22): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73)

شدة غضبهم قُلْ يا رسول الله، لهؤلاء الكفار، الذين يكرهون سماع الآيات بهذا النحو من الكراهة الشديدة أَ فَأُنَبِّئُكُمْ أي هل تريدون أن أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ بما يسيئكم أكثر من القرآن، و الآيات التي تسمعونها؟ إنما هو النَّارُ التي تذوقونها جزاء أعمالكم، فإن كراهتكم لها أكثر وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإنها يلاقونها و يلقون فيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي المرجع و المأوى الذي تصيرون إليه و «المصير» فاعل، و المخصوص محذوف.

[74] ثم ضرب سبحانه مثلا لبطلان ألوهية الأصنام التي يعبدها الكفار يا أَيُّهَا النَّاسُ و المراد بهم الكفار ضُرِبَ مَثَلٌ و الضارب للمثل هو الله سبحانه، لكن حيث كان المقصود الفعل دون الفاعل، أتى الفعل مجهولا، كما قرر في البلاغة و قد سبق أن «الضرب» إنما هو باعتبار أن المثل يصطدم بأدمغة الناس فيحدث فيها نقشا و انفعالا فَاسْتَمِعُوا لَهُ و هذا لتأكيد الإلفات نحو المثل ليتركز في الذهن أكثر إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إن الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله، و الإتيان «بالذين» الذي هو للعاقل، باعتبار توهم عبادها عقلها لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً على صغر الذباب، و قلة فائدته، و المراد لا يتمكنون من خلقه وَ لَوِ اجْتَمَعُوا هذه الأصنام المعبودة كلها لَهُ أي لخلق ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 627

[سورة الحج (22): الآيات 74 الى

75]

ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)

الذباب وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً بأن يأكل الذباب بعض الأطعمة لا يَسْتَنْقِذُوهُ أي لا تقدر هذه الأصنام على إنقاذ الشي ء المسلوب مِنْهُ أي من الذباب، فإن هذا مثل لعدم قدرة الآلهة المعبودة، إذ المثل هو بيان مصداق لكلي، فإذا قال الفاعل مرفوع، ثم طلب منه المثل، قال: كزيد، في «قام زيد» و هنا كذلك، فإن القاعدة هي أن هذه الآلهة، لا تقدر على شي ء و مثله: أنها لا تقدر على خلق ذباب، و لا على إنقاذ شي ء سلبه الذباب، قال ابن عباس: كان المشركون يطلون أصنامهم بالزعفران، فيجف فيأتي الذباب فيختلسه، و هناك رواية عن الإمام الصادق عليه السّلام في تفصيل القصة، و إذا كانت الأصنام بهذه المكانة، من الضعف، و عدم القدرة فكيف تتخذونها آلهة؟

ضَعُفَ الطَّالِبُ و هو المشرك الذي يعبد الصنم، و يطلبه وَ الْمَطْلُوبُ الذي هو الصنم، و هنا أقوال أخرى.

[75] ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظمه سبحانه هؤلاء المشركون حق عظمته، حيث جعلوا الأصنام المنحوتة التي لا تقدر، و لا تشعر شركاء له إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ ليقوى على كل شي ء، فكيف يجعل الصنم الضعيف شريكا له؟ عَزِيزٌ غالب على ما يريد، فكيف يجعل الصنم المغلوب الذي لا يملك من أمره شيئا شريكا له؟

[76] و إذ تبين، أن الأصنام ليسوا شركاء لله، لأنها بهذا العجز و الضعف، فليعلم الذين يعبدون الملائكة و الأنبياء، إنما يعبدون هؤلاء عبادا لله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 628

[سورة الحج (22): الآيات 76 الى 77]

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ

وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)

اصطفاهم الله و كيف يكون العبد المصطفى شريكا مع الإله المصطفي اللَّهُ يَصْطَفِي و يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى الأنبياء عليهم السّلام كجبرائيل إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كالملائكة الثلاثة الذين جاءوا إلى إبراهيم و لوط، و هكذا وَ يصطفي مِنَ النَّاسِ رسلا، كالأنبياء عليهم السّلام إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم بَصِيرٌ بأعمالهم، فلا يختار أحدا، يدعي الألوهية و هم تحت سمع الله و بصره، لا يقدرون على مخالفة أمره، و دعوة الناس إلى الاعتقاد بألوهيتهم.

[77] يَعْلَمُ سبحانه ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي ما يقدمه الأنبياء و الملائكة إلى الآخرة وَ ما خَلْفَهُمْ مما يدعون عند الناس من الشريعة، و الأخلاق و غيرها، فهو محيط بهم وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أن الأمور كلها، مرجعها إلى الله ليحكم فيها، و يجازي العاملين عليها، فهو القوي العزيز، المختار، السميع، البصير، العالم، الحكم و المرجع، فهل مثل هذا الإله يقاس بما سواه من الأصنام و الملائكة و النبيين؟

[78] و إذ ظهر أن الله هو الإله الوحيد، فتوجهوا أيها الناس بالعبادة إليه وحده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا خضوعا لله سبحانه وَ اسْجُدُوا لعظمته، و المراد بهما الإتيان بالصلاة و كني عنها بهما، و أما الركوع و السجود لاستحبابهما في أنفسهما وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 629

[سورة الحج (22): آية 78]

وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

العبادة وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و هو جميع أنواع البر، فإن كل فعل يأتي من الإنسان، إما خير و إما شر، و إما لغو، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالفلاح و النجاح في الدنيا و الآخرة.

[79] وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في سبيله سبحانه، و من أجله حَقَّ جِهادِهِ أي بالكيفية التي يستحق الجهاد في الله إياها، و هي بأن يكون الجهاد خالصا بكل ما أوتي الإنسان من قوة مادية أو معنوية، و المراد بالجهاد إما القتال و إما مجاهدة الإنسان في تطبيق ما أمر الله سبحانه، الذي يكون القتال مصداقا من مصاديقه هُوَ سبحانه اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه، فمن اللازم أن تؤدوا الأمانة التي حملها عليكم و رآكم أهلا لها، و فضلكم- دون غيركم- بها وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ و ضيق فإن الجهاد الذي أمركم به هو دون قدرتكم و طاقتكم رأفة بكم و رحمة عليكم، و لذا نرى أن جميع التكاليف، أقل من طاقة الإنسان و قدرته، الزموا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي طريقته، و عليكم بها هُوَ أي أن إبراهيم عليه السّلام أو المراد به «الله» سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ من قبل أن تكونوا وَ فِي هذا القرآن، أو في هذا الوقت أيضا سميتم «مسلمين» فأسلموا و سلموا حسب اسمكم، و إنما اجتباكم، و جعل الرسول فيكم، و سماكم المسلمين، و جعلكم ورثة إبراهيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 630

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يشهد على هذه الأمة بما عملت حيث أنه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم القائم على أموركم و المبين لمنهجكم، و العالم الموجه القائم، يكون الشاهد لمن استقام و على من انحرف وَ تَكُونُوا أنتم أيها المسلمون شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ إذ المسلمون يوجهون الناس، و يحددون سلوكهم و يكونون الناظرين لأعمالهم من استقام و من انحرف، و ما ورد من أن المراد بذلك الأئمة عليهم السّلام فهو من باب المصداق الظاهر الجلي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما لا يخفى و في هذه الآية الكريمة أنواع من التأكيد و التشجيع لقيام المسلمين على حفظ الإسلام و نشره، و الجهاد في سبيله، فالدين دين جدهم و التسمية تسمية إلههم، و هم المختارون لهذه المهمة، و ليس فيه ضيق و لا حرج، و الرسول شاهد عليهم، و هم مفوضون في البلاغ، قوامون على الناس قد جعلهم الإله شهداء على البشر، فما يمنعهم بعد هذه المرتبة الرفيعة، أن يقوموا بواجب الجهاد؟ و بعد هذا كله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ و هذا كما تقول:

أحسنت إليك، فأدّ حقي وَ آتُوا الزَّكاةَ أي أعطوها وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به سبحانه، في كل أفعالكم، فلا تحيدوا عن أوامره قيد شعرة هُوَ مَوْلاكُمْ سيدكم، و هل يعرض الإنسان عن مولى مثل الله سبحانه، ليتخذ سيدا غيره؟ فَنِعْمَ الْمَوْلى للبشر أجمع وَ نِعْمَ النَّصِيرُ فإنه ينصر أولياءه في الحياة الدنيا و في الآخرة، و هل هناك مولى مثله يعطي حتى من عصاه، أو نصير يشبهه بيده أزمة الكون و الحياة؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 631

تقريب القرآن إلى الأذهان الجزء الثّامن عشر من آية (1) سورة المؤمنون إلى آية (21) سورة الفرقان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 632

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 633

23 سورة المؤمنون مكية/ آياتها (119)

سميت هذه السورة ب «المؤمنون» لافتتاحها بهذا اللفظ، و ذكر أوصاف المؤمنين فيها، «المؤمنون» علم للسورة، و لذا يغير إعرابها إضافة «السورة» إليها، و هي كسائر السور المكية، تعالج العقيدة و شؤون التوحيد و ما إليه، و لما أن ختم الله سبحانه سورة «الحج» بأمر المؤمنين بأفعال الخير افتتح هذه السورة بصفات المؤمنين الكاملين في الإيمان، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعانة باسم الله، و ابتداء بذكره الكريم، ليكون فاتحة خير و تعليما للمسلمين، كيف يبتدئون في أعمالهم، و قد وصف بالرحم مكررا، لأن الإنسان مجموعة عجز و ضعف و انهيار، و كل نقص، و ضعف فيه يحتاج إلى الرحم، ليسده و يلمه و يرأبه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 634

[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5)

[2] قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي فازوا بخير الدنيا و سعادة الآخرة، فقد شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، و لم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم، و المؤمن هو المصدق، و إطلاقه في الشريعة منصرف إلى المصدق بوحدانية الله، و بالرسالة، و بالمعاد، و بلوازم الكل.

[3] ثم وصف سبحانه المؤمنين الكاملين بهذه الصفات التالية الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أي إذا صلوا خشعوا و خضعوا، فإن الصلاة حيث كانت ذكرا و تسبيحا و تقديسا، و مكالمة مع الله سبحانه، تقتضي أن يكون الإنسان في

حالة خضوع، فإنه يتكلم مع مالك الكون، كيف لا، و الإنسان يخضع لملك عاجز، ليس له من السطوة إلا ضئيلا! [4] وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو، كل فعل أو قول، أو تفكير، لا فائدة فيها، و من سمات المؤمن الكامل الإيمان، أن يعرض عن ذلك كله، و ما ورد في الأحاديث من تفسير اللغو، بالغناء، أو ما أشبه، فإنه تفسير لبعض المصاديق «1».

[5] وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي مؤدون معطون، و المراد بالزكاة، إما الصدقة الواجبة، و إما مطلق الصلة و الصدقة، و هذا أنسب بكون السورة مكية، لأن الزكاة المفروضة شرعت في المدينة.

[6] وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ فلا يزنون، و لا يلوطون،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 66 ص 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 635

[سورة المؤمنون (23): الآيات 6 الى 8]

إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8)

و لا يستمنون، و لا يمكنون أحدا من أنفسهم، فإن الفرج اسم للعورتين.

[7] إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي نسائهم دائمة كانت، أو محللة، أو منقطعة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء، و نسب الملك إلى الأيمان، لأن اليمين هي العضو الفعالة في الاكتساب فكأنها هي المالكة، من باب علاقة السبب و المسبب أو الكل و الجزء، و الغرض بيان جنس المحللة، فلا ينافي ذلك وجوب اجتنابهن في حال الحيض و الصيام و الإحرام و ما أشبه، كما أن العكس يستفاد من الآية، فيجوز للزوجة و الأمة، بالنسبة إلى الرجال ما يجوز لهم بالنسبة إليها، و بقي ملك المرأة للعبد خارجا عن المنطوق، و عن اللازم فَإِنَّهُمْ

أي الرجال بعدم حفظ فروجهم بالنسبة إلى الزوجة، و ملك اليمين غَيْرُ مَلُومِينَ أي لا يلامون، و كان الإتيان بهذه العبارة للمقابلة، فإن الذي لا يحفظ بالنسبة إلى غيرهما يلام، و من لا يحفظ بالنسبة إليهما لا يلام.

[8] فَمَنِ ابْتَغى أي طلب، و قد أطلق «الابتغاء» و أريد به «العمل» و قد تقدم، أن كلا من «الإرادة» و «الفعل» يستعمل بمعنى الآخر وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر من حلية الأزواج و المملوكات فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ أي المتعدون لحدودهم المتجاوزون الشريعة.

[9] وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ أضيفت الأمانة إليهم، لأنهم محل إيداعها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 636

[سورة المؤمنون (23): الآيات 9 الى 11]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

و يكفي في الإضافة أدنى ملابسة وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ أي حافظون موفون، فإذا عاهدوا عهدا بالنسبة إلى الأمور الدينية، كالمعاهدة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو عاهدوا بالنسبة إلى سائر المعاملات، كالعقود، و فوا بها.

[10] وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ فيقيمونها في أوقاتها بدون تضييع لها، مع آدابها و شرائطها، و قد كرر ذكر الصلاة لما لها من الأهمية، و لبيان أمرين، الأول الخشوع فيها، و الثاني المحافظة عليها.

[11] أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ و الوارث هو الذي ينتقل إليه شي ء من آخر، و المراد به هنا إما إطلاقا، و يكون قوله «الذين يرثون» بيانا لمصداق من مصاديق إرثهم، و المراد حينئذ، إن الخيرات كلها لهم سواء في الدنيا، أو في الآخرة، و أما خصوص ما بيّن في قوله «الذين» فكأن المراد أن هؤلاء كانت لهم الدنيا غير قابلة، حتى أنها لا تكون عوضا لأتعابهم

و أعمالهم، و إنما الجزاء الوافي هو الفردوس، فهم.

[12] الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ يصيرون إليها، بعد الأحوال المتقدمة في الحياة، كما يصير الوارث إلى ما تركه أقرباؤه- بلطف في عكس التشبيه- و الفردوس، هي البستان الجميل، و المراد بها هنا درجة من درجات الجنة هُمْ أي هؤلاء الذين و صفوا بتلك الأوصاف فِيها أي في الفردوس، و هي مؤنث مجازي خالِدُونَ دائمون باقون أبد الآبدين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 637

[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 14]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)

[13] ثم يأتي السياق ليعد منن الله على البشر، و لطفه بهم، مما ينبغي أن يطيعوا أوامره، و يكونوا كما وصفهم في الآيات المتقدمة وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي كل فرد من أفراده مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ السلالة، اسم لما يسل من الشي ء، فإن الإنسان في ابتداء خلقه يسل و يخرج من التراب النظيف، إذ هو الذي يتبدل نباتا، و لذا سمي طينا، لأن التراب ما لم يخلط بالماء لا يكوّن نباتا.

[14] ثُمَ بعد جعل التراب نباتا، صار حيوانا مأكولا، أو أكله إنسان فصار دما في جسمه، و بعد ذلك جَعَلْناهُ أي ذلك الإنسان، الذي نريد تكوينه نُطْفَةً و هي المني إذا استقر في الرحم فِي قَرارٍ أي مستقر مَكِينٍ ذي تمكن على حفظها و تربيتها.

[15] ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً شبيه بالدم المنجمد فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً كقطعة لحم قد مضغت بالأسنان فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً و حيث إن العظام هي العنصر الأشد في الحياة،

خصصت بالذكر، و إلا فالعلقة تكوّن الأعضاء الأصلية للإنسان، لا العظام فقط فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً كاللباس الذي يلبس على الجلد ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فقد نفخ فيه الروح الإنساني، الذي هو من قسم آخر من الخلق، ليس كالخلق المادي الحيواني، و النباتي و الجمادي فَتَبارَكَ اللَّهُ أي تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 638

[سورة المؤمنون (23): الآيات 15 الى 17]

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17)

و دام خيره أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و الخلق يطلق على الصنع، فالنجار خالق الباب، و البناء خالق القصر و الله سبحانه أحسن الخالقين، إذ لا يمكن لأحد من هذا النحو من الخلقة.

[16] ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها البشر من بَعْدَ ذلِكَ الخلق التام لَمَيِّتُونَ تخرج أرواحكم، لتبقى أجساد بلا أرواح حينما تنتهي آجالكم في الدنيا.

[17] ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها البشر يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ أي تقومون من قبوركم للحساب و الجزاء.

[18] و بعد بيان المبدأ للإنسان و معاده، يأتي السياق ليبين مننه سبحانه عليه في هذه الحياة وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ أيها البشر سَبْعَ طَرائِقَ المراد بها السماوات السبع- ظاهرا- و قد تقدم إن علماء الفلك المسلمين يقولون: إن المراد بالسماوات، مدارات الأفلاك، مؤيدين نظريتهم بالرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السّلام، و بعض الشواهد الأخرى، و كونها فوقنا، باعتبار ما نحس، و إن كانت الأرض في الحقيقة، نجمة كسائر النجوم، و طرائق جمع طريقة، و إنما سمى السماء بها لتطارقها، أي كون بعضها فوق بعض وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ و لعل الإتيان بهذه الجملة هنا، لما يتبادر إلى الذهن البدائي، من أن المربي

الخالق لهذا الكون العظيم لا مجال له- عند ذلك- لمراقبة الناس و أعمالهم، فهو يغفل عنهم كما يغفل الملك الكبير ملكه عن خصوصيات الناس و أعمالهم، لكنه سبحانه ليس كذلك، فيتساوى عنده كل معلوم صغيرا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 639

[سورة المؤمنون (23): الآيات 18 الى 19]

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19)

كان أم كبيرا، و لا يشغله شأن عن شأن.

[19] وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ جهة العلو، و هذا مرتبط بخلق سبع طرائق ماءً و هو المطر بِقَدَرٍ و لا يخفى ما في هذا اللفظ من اللفظ، فإن الإنسان البدائي الذهن، حيث يرى كثرة المطر- يظن أنه ليس تحت حساب و تحديد، و لذا جاء هذا اللفظ هنا لينبه على ذلك، و إن المطر مهما كثر فهو بقدر و حد محدود معلوم لديه سبحانه فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له مسكنا، فإن ماء المطر هو الذي يتسرب إلى باطن الأرض، ليجري من الثقوب الأرضية و الجبلية عيونا و أنهارا وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي أن نذهب هذا الماء المسكون في الأرض لَقادِرُونَ بأن نسربه في الأغوار العميقة، حتى لا ينتفع به الإنسان، أو نبخره في الجو، أو نعدمه إعداما مطلقا، فإن من يقدر على إيجاد المعدوم، قادر على إعدام الموجود.

[20] لكنا لم نفعل ذلك حتى تهلكوا، و يهلك الحيوان و النبات، بل تفضلنا عليكم فوق ذلك فَأَنْشَأْنا أو جدنا و اخترعنا لَكُمْ أيها البشر بِهِ أي بسبب هذا الماء جَنَّاتٍ بساتين، و سمي البستان جنة، لأن أشجارها تجن و

تستر أرضها مِنْ نَخِيلٍ جمع نخل، و هو شجر التمر وَ أَعْنابٍ جمع عنب، و المراد به الكروم بعلاقة الحال و المحل لَكُمْ أيها البشر فِيها أي في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ جمع فاكهة، و هي الثمرة، سميت بها لأن الإنسان يتفكه بها، و المراد أنواع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 640

[سورة المؤمنون (23): الآيات 20 الى 21]

وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21)

الفواكه المختلفة، و كان تخصيص النخل و العنب، لكثرتهما في هذه البلاد و عموم الانتفاع بهما وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي من البساتين تأكلون مختلف أنواع الرزق مباشرة، أو بواسطة بيع و إيجار و صرف الثمن و الأجرة في سائر الأرزاق.

[21] و أنشأنا لكم بذلك المطر وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ و المراد بها شجرة الزيتون و «سيناء» اسم الموضع الذي به «جبل طور» قرب الشام، و لعله إنما حضر هذا المحل مع عموم الزيتون في كثير من الأماكن لجودة زيتونها، و اشتهارها لدى المخاطبين بالقرآن الحكيم، كما أن تخصيص الزيتون من بين الثمار بالذكر لنفعه العام في كثير من الحوائج تَنْبُتُ هذه الشجرة بِالدُّهْنِ أي مصاحبة للدهن، فإن الزيتون قطعة من الدهن المنجمد، و لذا يعصر منه الزيت وَ صِبْغٍ عطف على «الدهن» لِلْآكِلِينَ و المعنى أن هذه الشجرة تنبت بالشي ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج منه و كونه أداما يصبغ فيه الخبز، أي يغمس فيه للائتدام، و سمي الإدام صبغا، لأنه يصبغ الخبز بلونه.

[22] وَ إِنَّ لَكُمْ أيها البشر فِي الْأَنْعامِ جمع

نعم، و هي الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً أي اعتبارا و دلالة دالة على وجود الله سبحانه و علمه و قدرته نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي أجوافها من اللبن الطيب المذاق وَ لَكُمْ فِيها أي في الأنعام مَنافِعُ كَثِيرَةٌ فتركبون على الإبل،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 641

[سورة المؤمنون (23): الآيات 22 الى 24]

وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)

و تحرثون بالبقر، و تضخون الماء بهما، و تنتفعون بأشعارها و جلودها و لحومها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي من بعضها، و هو اللحم و الشحم و ما أشبه، أو المراد بالأكل الانتفاع و التكسب بهما.

[23] وَ عَلَيْها المراد به الإبل خاصة وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر تُحْمَلُونَ فأحدهما للبر، و الأخر للبحر، كما قال سبحانه، (وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ) «1» و قد خصص سبحانه هاتين المنفعتين بالذكر لعمومهما، و كثرة الاحتياج إليهما.

[24] ثم يأتي السياق ليبين الرسالة، و بلاغ الرسل، في عقب بيان الأدلة الكونية، فقد كان شأن الرسل أن يلفتوا الناس إلى تلك الأدلة الكونية التي سبق بعضها، ليؤمن الناس بالإله الخالق المنعم وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ليدعوهم إلى عبادة الله و إطاعة أوامره فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ آمنوا به و أطيعوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهذه الأصنام التي تعبدونها ليست بآلهة، و إنما الله إله واحد أَ فَلا تَتَّقُونَ

استفهام إنكاري، أي ألا تخافون عقاب الله في ترك الإيمان؟

[25] فَقالَ الْمَلَأُ أي الأشراف، و سموا ملأ لأنهم يملئون العيون أبهة، و الصدور هيبة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بعضهم لبعض

______________________________

(1) الإسراء: 71.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 642

[سورة المؤمنون (23): الآيات 25 الى 27]

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

ما هذا الذي يدعوكم، و هو نوح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فليس برسول، فإنهم كانوا يزعمون أن الرسول لا يمكن أن يكون بشرا يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي إنما يدعي النبوة لتطيعوه، فيترأس عليكم، و تكونوا أنتم من أتباعه، فيصير له كيان و رئاسة وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول إلى البشر لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً للإرشاد و الإنذار، لا أن يرسل بشرا ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعو إليه نوح من وحدة الإله، و إنه رسول اللّه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في الأمم الماضية أن ينبري أحدهم، فيدعي الرسالة، و يدعو الناس إلى إله واحد.

[26] إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و ما هذه الدعوى التي يدعيها، إلا من آثار ذلك الجنون فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروا بنوح حَتَّى حِينٍ يأتيه الموت فتستريحوا منه، أو المعنى انتظروا به حتى يفيق، و يذهب جنونه فيرجع عن دعواه.

[27] و لما أن رأى نوح إصرار القوم على التكذيب و عدم الإيمان قالَ يا رَبِّ انْصُرْنِي عليهم بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إياي، كأنه

العلة في نصرة الله، إذ لو لا التكذيب لم يحتج إلى نصرة الله تعالى.

[28] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ هو مفرد على وزن قفل بِأَعْيُنِنا أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 643

إنك تحت نظرنا و مراقبتنا كالكبير الذي يقول لغيره: افعل كذا، فأنت مدّ نظري لا يصل إليك أحد بسوء، و أعين جمع عين، و من القاعدة أن يأتي بالجمع ما في الإنسان مثنى، أو باعتبار أن الكبير يتكلم بنحو الجمع دلالة على اشتراكه لمن معه في الرأي وَ وَحْيِنا فإنا نوحي إليك كيفية صنعها فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك القوم، غرقا في الماء وَ فارَ التَّنُّورُ الذي كان علامة لابتداء العذاب و ورد أنه تنور في مسجد الكوفة جعله سبحانه علامة لابتداء الغرق، حتى إذا رأى نوح إنه يفور ماء يركب السفينة، و يحمل المؤمنين و الحيوانات فيها لينجوا جميعا من الغرق فَاسْلُكْ فِيها أي ادخل في السفينة من سلك بمعنى مشى في الطريق، كأنهم يتخذون طريقهم في السفينة مِنْ كُلٍ أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى، و ليس ذلك مستبعدا بالنسبة إلى قدرة الله سبحانه، و إن استبعده بعض، قالوا: كيف يمكن إدخال أهلك و عائلتك في السفينة إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه يهلك في الهالكين مِنْهُمْ أي من أهلك، و هو ولده كنعان الذي سبق من الله سبحانه أن قال يغرق لعمله الفاسد، و حيث كان المقام أن يطلب نوح- حسب الرقة البشرية- نجاة الناس من الغرق، نهاه سبحانه عن ذلك مقدما بقوله وَ لا تُخاطِبْنِي أي لا تتكلم معي يا نوح فِي أمر الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر و العصيان، بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 644

[سورة المؤمنون (23): الآيات 28 الى 30]

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

تتوسط في عدم إهلاكهم ف إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة ورقة نوح عليه السّلام في ذلك الحين، لا ينافي دعائه بإهلاكهم قبلا، فإن للإنسان في حال البلاء رقة عاطفية.

[29] فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أي ركبت، و أخذت مكانك و استقرارك أَنْتَ يا نوح وَ استوى مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ أي السفينة فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا و خلصنا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان.

[30] وَ قُلْ يا رَبِّ أَنْزِلْنِي من السفينة بعد أن جف الماء على الأرض، مُنْزَلًا مُبارَكاً أي إنزالا مع بركة و يمن لكي نعمر الأرض من جديد، و «منزل» مصدر ميمي وَ أَنْتَ يا رب خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إذ أنت القادر على أن تبارك في الإنزال، و تكفي الإنسان شر الآفات دون سواك، ممن ينزل الإنسان منزلا.

[31] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من قصة نوح مع قومه لَآياتٍ دالّات على الشؤون المرتبطة بالإله و الرسالة وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ «إن» مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن محذوف، أي إنه كنا نحن مختبرين للعباد، بإرسال الرسل، حتى إذا لم يؤمنوا أهلكناهم، و هذا شبه تهديد للكفار بأنهم إن لم يؤمنوا كان مصيرهم مصير أولئك في تعميمهم بعذاب الله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 645

[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 33]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا

تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)

[32] ثُمَ بعد إهلاك أولئك أَنْشَأْنا أوجدنا و أحيينا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أي جماعة و أمة، و إنما سمي قرنا، لاقتران بعضهم ببعض في الزمان، و لعل المراد قوم صالح، لقوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) «1» فإنها أخذت قوم صالح «كما سبق».

[33] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، فلم يكن ملكا، و لا من غير قومهم، و هو صالح، فقال لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أي ليس لكم إله غير الله، فهذه الأصنام التي تعبدونها باطلة أَ فَلا تَتَّقُونَ استفهام إنكاري، أي ألا تخافون عذاب الله؟

[34] وَ قالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا قوم صالح وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي قالوا إنهم لا يلاقون الآخرة، لاعتقادهم بعدم وجود الآخرة وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي أنعمنا عليهم في هذه الحياة، و كأن الإتيان بهذا الوصف للدلالة على سوء صنيعهم حيث بدلوا النعمة كفرا ما هذا الذي يدعي الرسالة، و هو صالح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فكيف يمكن أن يكون رسولا؟ بزعمهم إن الرسول

______________________________

(1) الحجر: 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 646

[سورة المؤمنون (23): الآيات 34 الى 37]

وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)

يجب أن يكون ملكا يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ من

أنواع الطعام مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ من الأشربة، فما فضله عليكم حتى يكون رسولا؟.

[35] وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ أيها القوم بَشَراً مِثْلَكُمْ في جميع المزايا البشرية إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ قد خسرتم عقولكم باتباع بشر، و إسلاس قيادكم إليه، و لم يعرف أولئك إن الرسالة، إنما تتبع المزايا النفسية، التي هي متوفرة في صالح دونهم.

[36] ثم أخذ القوم يستغربون من دعوته، و إن هناك معادا يحيون فيه ليحاسبوا أَ يَعِدُكُمْ أي كيف يعدكم صالح أَنَّكُمْ أيها القوم إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً بأن تساقطت لحومكم، حتى صارت ترابا، و بقيت العظام المجردة أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم، أحياء للحساب و الجزاء.

[37] هَيْهاتَ اسم فعل يعد يؤتى به لاستبعاد الأمر هَيْهاتَ كرر تأكيدا لِما تُوعَدُونَ اللام للبيان، أي بعيد في العقل ما يعدكم صالح من الإحياء بعد الموت، لا يمكن أن يكون ذلك.

[38] إِنْ هِيَ أي ليست الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي القريبة التي نحن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 647

[سورة المؤمنون (23): الآيات 38 الى 41]

إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

فيها نَمُوتُ في هذه الحياة وَ نَحْيا في هذه الحياة، فالحياة و الموت مخصوصان بهذه الحياة، فلا حياة بعد الموت، و إنما قدم «نموت» لأن الموت أمامهم، حيث جاءوا إلى الحياة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد ذلك إلى عالم آخر.

[39] إِنْ هُوَ أي ليس صالح رسولا، و إنما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الافتراء يلازم الكذب، و إنما جاء «كذبا» لتأكيده، و لأن

أصل الافتراء من الفري، بمعنى القطع، كأن المفتري يقطع كلاما من الكلمات المكذوبة، ثم ينسبه إلى المفترى عليه وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ مصدقين كلامه فيما يقول.

[40] قالَ صالح عليه السّلام يا رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ بتكذيبهم، أي بسبب أنهم كذبوني فانصرني عليهم.

[41] قالَ الله سبحانه في جواب دعاء صالح عَمَّا قَلِيلٍ «ما» زائدة يؤتى بها لقصد القلة، أي بعد زمان قليل لَيُصْبِحُنَ القوم نادِمِينَ يندمون على الكفر و العصيان، حين يأخذهم العذاب.

[42] فلما تمادوا في كفرهم و عصيانهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبرائيل عليه السّلام، فقد صاح بهم صيحة أخذت ألبابهم، و أزهقت أرواحهم بِالْحَقِ أي كان باستحقاقهم، إذ الكفر و العصيان يعقبهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 648

[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)

الهلاك و الدمار فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً الغثاء ما يحمله السيل، من يابس النبات، و قصب و عيدان و ما أشبه، و المعنى جعلناهم أجسادا هامدة قد يبسوا كما يبس الغثاء، ملقون بغير إكرام و لا احترام فَبُعْداً أي أبعدهم الله عن رحمته، و طردهم عن كل خير لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و الطغيان.

[43] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد هؤلاء قُرُوناً آخَرِينَ أمما، و أهل أعصار، و جماعات آخرين، فكان القوم كلما عصوا و عتوا أخذناهم بالعذاب و أهلكناهم و جئنا بقوم آخرين مكانهم.

[44] أما ما يطلب هؤلاء الكفار من تعجيل العذاب عليهم، فقد كانوا يطلبون من الرسول- على وجه الاستهزاء- أن يعجل عليهم

العذاب إن كان صادقا، فإن العذاب لا يأتي إلا في وقته الذي حدده الله سبحانه له، لا يتقدم و لا يتأخر ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي لا تسبق أية أمة من الأمم أَجَلَها بأن تهلك قبل إتيان الوقت المحدد لها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ أي لا يطلبون تأخير الأجل، بأن يتأخر عن الوقت المحدد له و المراد بعدم طلبهم للتأخير، إن طلب التأخير لا ينفع، فعبر عما لا ينفع فيه بالعدم، كما يعبر عن الرجل الذي لا ينفع فيه بأنه ليس برجل.

[45] ثُمَ من بعد صالح أَرْسَلْنا إلى الأمم رُسُلَنا تَتْرا من المواترة، و هي أن يتبع البعض البعض بدون فصل، فقد كانت الأنبياء يأتي بعضهم بعقب الآخر إتماما للحجة، و توضيحا للمحجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 649

[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 47]

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47)

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها الرسول فاعل، و الأمة مفعول كَذَّبُوهُ و لم يقروا بنبوته فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أتبعنا هلاك بعض الأمم بإهلاك بعضهم السابقين، فجي ء الرسول، و تكذب الأمة فتهلك، ثم فيجي ء رسول آخر، فتكذبه الأمة التالية فتهلك، و هكذا وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس عنهم على طريق المثل في الشر، قالوا: و هو جمع أحدوثة، و لا يقال هذا في الخير، و المعنى إنا أفنيناهم حتى لم يبق بين الناس إلا حديثهم، بعد أن كانوا أمما لها الوجود و الكيان فَبُعْداً عن رحمة الله و فضله لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ إنهم طردوا عن الرحمة كما أهلكوا و طردوا عن الحياة.

[46] ثُمَ

من بعد أولئك الرسل أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا أي بدلائلنا و حججنا وَ سُلْطانٍ برهان مُبِينٍ واضح ظاهر، و لعل المراد بالسلطان الحجة المنطقية، و بالآيات المعجزات الخارقة.

[47] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي جماعته، أو أشراف قومه، و خصوا بالذكر لأنهم إن آمنوا تبعهم الناس، فكان التوجه الأولي إليهم فَاسْتَكْبَرُوا تكبروا عن قبول الحق وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ فقد علوا و اتخذوا الناس خولا لهم.

[48] فمن كبرهم و علوهم قالوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا أي كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 650

[سورة المؤمنون (23): الآيات 48 الى 50]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 699

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

نصدق إنسانين- هما موسى و هارون- في حال كونهما مثلنا خلقة؟ إذ كيف يمكن أن يكون البشر رسولا على بشر مثله؟ وَ قَوْمُهُما أي و الحال أن قوم هذين- و هم بنو إسرائيل- لَنا عابِدُونَ يعبدوننا و يطيعوننا، إنهما و قومهما لنا تبع، فكيف نؤمن بهما؟

[49] فَكَذَّبُوهُما أي كذب فرعون و قومه موسى و هارون فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ الذين أهلكوا بتكذيبهم للرسل، حيث أغرقوا في البحر حتى لم يبق منهم أحد، و قد كان الغرق خاصا بفرعون و جنوده الذين اتبعوا موسى، أما سائر أهل مصر فقد كانوا فيها لم يهلكوا.

[50] وَ لَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى عليه السّلام، بعد إهلاك فرعون و خروجهم من أرض مصر الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ أي لعل بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى يَهْتَدُونَ إلى الحق و الصواب.

[51] وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ أي المسيح عليه

السّلام وَ أُمَّهُ مريم الطاهرة عليها السّلام آيَةً خارقة في جميع شؤونها، فقد حملت بعيسى من غير زوج، و نطق عيسى بالكتاب و هو طفل في المهد، إلى سائر الخوارق، و حيث إن أحدهما كان متشابكا مع الآخر في المزايا، عبر عنهما جميعا ب «آية» و لم يقل «آيتين» وَ آوَيْناهُما أي المسيح و مريم، و الإيواء إعطاء المأوى و هو المنزل إِلى رَبْوَةٍ هي الموضع المرتفع من الأرض، و فيه فضل طيب الهواء، و عدم تسرب الأوساخ إليها، و قربها من أشعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 651

[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 52]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)

الشمس إلى غير ذلك، و قد اختلف في موضع الربوة، و في بعض الأحاديث أن المراد بها النجف، و لعل ذلك بعد ولادتها له مباشرة ذاتِ قَرارٍ أي لم تكن الربوة موضعا صغيرا كالتل، و إنما ربوة فسيحة يتمكن الإنسان من القرار فيها، أو كونها ذات قرار باعتبار ما فيها الثمار و الأشجار، فيتمكن الإنسان من القرار فيها وَ مَعِينٍ أي ذات ماء جار على وجه الأرض ظاهر طيب.

[52] و بعد هذا يأتي الخطاب للرسل، و كأنهم مجتمعون في مكان و زمان ليبين وظيفتهم العامة، بعد بيان أنهم يلازمون الطبيعة البشرية في الأكل و سائر لوازمه يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ فأنتم بشر، لا كما يزعمه الكفار، بأن الرسل يجب أن يكونوا من غير جنس البشر، فلا يأكلون الطعام و لا يمشون في الأسواق، و إنما فرق الرسل من غيرهم، إن الرسل لا يأكلون إلا الطيب،

أما غيرهم فيأكلون الخبيث و الطيب- إن لم يهتدوا بهدى المرسلين- وَ اعْمَلُوا صالِحاً أي العمل الصالح، و لازمه عدم العمل الفاسد إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ أيها الرسل عَلِيمٌ فلا يحق أكل غير الطيب، و العمل غير الصالح، فإنكم بعين الله سبحانه.

[53] وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أيها الرسل، و قد جعل مجموع الأمم، كأمة واحدة للرسل جميعا، لأن للرسل رسالة واحدة إلى مجموع البشر، و إنما الاختلاف جاء من قبل الناس الذين كدروا صفو الأديان و المذاهب أُمَّةً واحِدَةً حال من «أمتكم» وَ أَنَا رَبُّكُمْ فالرب واحد، و الرسالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 652

[سورة المؤمنون (23): الآيات 53 الى 55]

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55)

واحدة، و الأمة واحدة، و المنهاج هو استعمال الطيب، و العمل الصالح فَاتَّقُونِ أي اتقوني فلا تخالفوا أمري.

[54] لقد كانت الرسل كتلة واحدة لهم رسالة واحدة و منهج واحد، و لهم أمة واحدة، و لكن الناس لم يبقوا على تلك الوحدة فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعلوا دينهم الواحد قطعة قطعة، كل جماعة أخذت بقطعة منه، و لقد كان هذا التقطيع بينهم لا يرتبط بالرسل زُبُراً أي كتبا، جمع زبور و هو الكتاب، من زبره، بمعنى كتبه، أي أن كل أمة تمسكت بكتاب واحد و نبذت سائر الكتب، كاليهود الذين نبذوا الإنجيل و القرآن و النصارى الذين نبذوا القرآن كُلُّ حِزْبٍ و أمة بِما لَدَيْهِمْ من الدين فَرِحُونَ راضون مع إنه سبحانه لم يشرع إلا حزبا واحدا و أمة واحدة.

[55] فَذَرْهُمْ اتركهم يا رسول اللّه فِي غَمْرَتِهِمْ أي غفلتهم، و إنما سميت

الغفلة و الضلالة غمرة، لأنها تغمرهم كالماء الذي يغمر الإنسان، فكأنهم مغمورون في الضلالة، مغرقون فيها حَتَّى حِينٍ ينقضي أجلهم و يأتيهم الموت أو العذاب.

[56] ثم ذكر سبحانه إن ما يرون هؤلاء الكفار من أصناف النعم في هذه الحياة ليست تكريما لهم، و إنما هي فتنة و استدراج أَ يَحْسَبُونَ هل يظن هؤلاء أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ «ما» موصولة، أي أن الشي ء الذي نزيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 653

[سورة المؤمنون (23): الآيات 56 الى 58]

نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)

و نعطيه لهم مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ يكون إكراما لهم.

[57] ف نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ و إنها جزاء أعمالهم و ثواب ما يأتون من الكفر و العصيان، كلا، ليس كذلك بَلْ لا يَشْعُرُونَ إنها استدراج و فتنة ليزيد طغيانهم و يبلغوا أجلهم، و قد تمت عليهم الحجة، و ليستحقوا العقاب الأبدي، و لعل الإتيان من باب المسارعة لكون الأصل في أعمال الخير أن يتسارع الناس إليها، ثم استعمل اللفظ في كل عمل خيري، و إن لم يكن هناك طرف آخر، كما قال سبحانه (وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) «1».

[58] و إذ بين سبحانه أحوال الكفار، ألمح إلى أحوال الأخيار إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ أي خوف و عقاب رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ و وجلون، و كأن الخشية شي ء مرتبط بالطرفين الخائف و المخوف منه، و لذا صح «من خشية .. مشفقون» فلا يقال: إن الإشفاق ليس من الخشية، و إنما من نفس المخوف منه؟ حتى يحتاج إلى أن يتكلف لتصحيحة، بأن المراد الإشفاق من هذا القسم، لا من سائر

أقسامه كالخوف من المرض و العدو و الفقر و ما أشبه.

[59] وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ أي بأدلته الكونية و حججه التي يأتي بها الأنبياء يُؤْمِنُونَ أي يصدقون.

______________________________

(1) آل عمران: 134.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 654

[سورة المؤمنون (23): الآيات 59 الى 61]

وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

[60] وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ و إنما ذكر هذا عقب الإيمان بالله، إذ من الممكن أن يؤمن أحد بالله، و مع ذلك يؤمن بالأصنام أيضا، كما كان المشركون كذلك إذ يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» و لعل الإتيان ب «هم» بعد «الذين» لتأكيد تصبيغهم بلون خاص، ف «هم» لا يخالطون بمن سواهم، فإن التركيز على هذه الخصوصية، لا يأتي بمجرد «الذين».

[61] وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من المال وَ الحال أن قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي خائفة مضطربة، أن لا تقبل نفقاتهم و صدقاتهم، فلا يرون فوائدها حيث يعلمون أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ فإن الإنسان المؤمن بالحساب و الجزاء خائف من أعماله بأنها لا تقبل، بخلاف غير المؤمن إذ لا يهمه عدم قبولها «فإنهم» في موضع العلة، أي أن علة الخوف كونهم يبعثون إلينا لنحاسبهم.

[62] أُولئِكَ المتصفون بتلك الأوصاف يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى الطاعات و يسابقون إليها وَ هُمْ لَها أي للخيرات سابِقُونَ إما المراد أنهم يسابقون إليها، فيكون تأكيدا للجملة السابقة، أو المراد أنهم سابقون لأخذ تلك الخيرات في الجنة، فالخيرات لهم حيث عملوا بها، لا للكفار الذين قلوبهم في غمرة،

______________________________

(1) الزمر: 4.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 655

[سورة المؤمنون (23): الآيات 62 الى 63]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)

و يظنون إنا «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ».

[63] إن ما نطلبه من المؤمنين من الإيمان و العمل الصالح، ليس فوق طاقاتهم، حتى يكون للكافر عذر في عدم الإيمان وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي بالمقدار الذي تسع النفس له من التكاليف وَ ثم إن ما يعمله المؤمن، لا يذهب أدراج الرياح بل لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ يكتب فيه كل عمل صالح عمله الإنسان، ليجزي عليه بأفضل مما عمل، و استعمال «النطق» في الكتاب مجاز أريد به الإبراز و الإظهار، لشبهه بالنطق الذي يكون به إبراز ما في ضمير الإنسان و يحتمل أن يكون المراد بالكتاب «اللوح» و قد ورد أن اللوح و «القلم» ملكان، فيكون المنطق حقيقة وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بأن يثبت في الكتاب لهم سيئة لم يعملوها، أو لا يثبت طاعة قد عملوها.

[64] إن الكفار و العصاة لم ينحرفوا لصعوبة التكليف، أو خوف أن ينقص من حسناتهم و يظلمون بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ و غفلة مطبقة تغمرهم مِنْ هذا الكتاب، أو من هذا الذي أرسلنا به الرسول، من مجموع الشريعة و العقيدة وَ لَهُمْ أَعْمالٌ رديئة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي أنزلناه و أمرنا به هُمْ لَها أي لتلك الأعمال عامِلُونَ فهم في غفلة، و أعمالهم على غير هذا النحو، و هذا سبب إعراضهم عن الحق لا صعوبة التكليف و لا خوف أن يظلموا فلا يصلهم جزاء حسناتهم- إن عملوها-.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 3، ص: 656

[سورة المؤمنون (23): الآيات 64 الى 66]

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)

[65] و قد تمادى هؤلاء الكفار في غيهم و ضلالهم حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ و هم المتنعمون منهم بِالْعَذابِ و الاختصاص بهم، لأنهم، هم مورد الكلام، و سبب إضلال الناس، و طبيعي، أن يأخذ العذاب سائرهم، فإن العذاب إذا جاء عم إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يضجون لشدة العذاب و يجزعون، قال «جأر» إذا رفع صوته مستغيثا،

و قد ورد في مصداق من مصاديق هذا العذاب أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا على الكفار، فقال: اللهم أشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلاهم بالقحط، حتى أكلوا الجيف و الكلاب و العظام المحترقة و القذر، و الأولاد «1».

[66] فيقال لهم حينذاك لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ و لا تضجوا إِنَّكُمْ مِنَّا أي من جهتنا و طرفنا لا تُنْصَرُونَ فإن العذاب لا محالة نازل بكم حتى يلحقكم بالنار.

[67] هل نسيتم أعمالكم السابقة؟ و كلما كان يقال لكم: أقلعوا و توبوا، كنتم سادرين في غيكم لا تعيرون الدعوة أي بال؟ فل قَدْ كانَتْ آياتِي الدالة على التوحيد، و سائر الشؤون الدينية تُتْلى عَلَيْكُمْ تقرأ على مسامعكم فَكُنْتُمْ أيها الكفار الذين أخذكم العقاب عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تدبرون و ترجعون القهقرى، فإن الإنسان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 128.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 657

[سورة المؤمنون (23): الآيات 67 الى 68]

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)

الراجع نحو

خلفه يضع عقب قدمه أولا على الأرض، بخلاف الإنسان المقبل الذي يضع صدر قدمه أولا عليها، و النكوص رجوع القهقرى، و هو أقبح أقسام المشي، فقد شبه الإنسان المعرض عن الحق بالذي يتقهقر إذا سمع الحق، كأنه يريد الفرار، مع أن يكون رائيا له، حتى يغالي في الاستهزاء و الاستنكار.

[68] في حال كونهم مُسْتَكْبِرِينَ متكبرين عن قبول الحق بِهِ أي بسبب ما يتلى عليهم من الإيمان، فإن المعاند إذا سمع الحق زاد كبرا و عتوا سامِراً تَهْجُرُونَ أي تقولون الهجر- و هو الكلام البذي ء- حول الرسول و الرسالة، في لياليكم إذا تسمرون، و السمر هو التحدث ليلا، و الإتيان ب «سامر» مفردا مع أنه وصف للجميع، باعتبار كل واحد، و فيه تفنن في الألفاظ مفردا و جمعا، و هو نوع من البلاغة، و يحتمل أن يكون «به» متعلقا ب «تهجرون» أي تهجرون بما يتلى عليكم، و على كل فهذا إشارة إلى ما كان فيه كفار مكة- كما هو عادة كل كافر في كل زمان- أن يسامرون حلقا حلقا، فكان من حديثهم الطعن و الاستهزاء، بالقرآن و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[69] أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الذي أنزل إليهم، حتى يعرفوا صدقه؟ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فرأوه شيئا جديدا، و الناس لا يذعنون للشي ء الجديد، فلقد أرسل الله تعالى إلى البشر أنبياء قبل الرسول، كموسى عليه السّلام و عيسى عليه السّلام، و إبراهيم عليه السّلام، و غيرهم، فما يمنع هؤلاء عن الإيمان؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 658

[سورة المؤمنون (23): الآيات 69 الى 71]

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ

أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)

[70] أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ بالصدق و الأمانة و الصفات الخيرة فَهُمْ لذا لَهُ أي للرسول مُنْكِرُونَ فإن الإنسان إذا رأى من أحد ادعاء كبيرا، و لم يعرف مزايا ذلك الشخص لم يرضخ له، و احتمل فيه الكذب و الدجل، لكن هؤلاء يعرفون الرسول حق معرفته.

[71] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون، و الكلام الذي يقوله إنما هو كلام المجنون؟ فليس هذا صحيحا، حتى عند أولئك الذين رموا به يريدون تنفير الناس عنه بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ الذي لا مرية فيه و لا شبهة وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ فإن هذا هو السبب الوحيد الذي يمنعهم عن الإيمان، و إلا فليس لهم ما يبرر موقفهم العدائي، و لو حجة ضئيلة واهية، و لقد كان هذا عادة الناس، فإن الحق لما يوجب زحزحة بعض مكانهم يكرهونه، و يختلقون حوله ألف و صمة و منقصة.

[72] إنهم يريدون أن يكون الرسول وفق أهوائهم و شهواتهم، حتى يصدقوه، و يعترفوا به، كما قال سبحانه: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) «1» وَ الحق لا يمكن أن يتبع الأهواء ف لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ و ميولهم، كأن يعترف بالأصنام و بسائر ما يأتون من المنكرات لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ فإن هوى هذا الإنسان أن يمطر في غير فصله، و هوى ذاك أن يهلك أعداءه، و هكذا، أو المراد

______________________________

(1) القلم: 10.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 659

[سورة المؤمنون (23): الآيات 72 الى 73]

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ

مُسْتَقِيمٍ (73)

باتباع الحق أهواءهم أن يجعل الله لنفسه شريكا يعطي له التصرف في الملك كما يتصرف هو تعالى، فإنه موجب لتغيير الأجرام و فساد الأوضاع، إذ ليس لأحد من الحكمة كالله سبحانه، و ربما قيل أن فساد السماء عدم المطر، و فساد الأرض عدم النبات، و فساد الناس فيهما بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي أرسلنا إليهم، ما يبقي ذكرهم لدى الأجيال بالخير لو آمنوا به- كما بقي ذكر من آمن بكل تجلة و احترام- فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ الذي فيه شرفهم و حسن سمعتهم مُعْرِضُونَ راضون بالخمول، و أن يذهب حسن سمعتهم أدراج أهوائهم، و لقد حاول القرآن الحكيم إقناعهم بكل الطرق حتى بهذا الطريق، لكنهم أبوا إلا العناد و اللجاج.

[73] أَمْ تَسْأَلُهُمْ يا رسول اللّه خَرْجاً أي أجرا على الرسالة، فإنهم لا يقبلون رسالتك خوفا من المال و الضريبة؟ فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي أجر الله سبحانه لك على إرشادك، و تعليمك خَيْرٌ مما ينتظر من البشر المحتاج المفتقر وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أفضل من جميعهم، لأنه يعطي كثيرا، و لا يطلب في المقابل شيئا، و لا يمن على من يمنحه الرزق.

[74] وَ إِنَّكَ يا رسول اللّه لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فلا التواء في العقيدة و لا انحراف في الشريعة، و إنما سائر العقائد و الطرق ملتوية منحرفة، فهل يخافون إن قبلوا دعوتك أن تضلهم و تحرفهم عن الجادة؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 660

[سورة المؤمنون (23): الآيات 74 الى 76]

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76)

[75] وَ إِنَّ

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ و هذا كناية عن عدم إيمانهم بالدين، إذ الإيمان بالدين كله يلازم الإيمان بالآخرة، و جي ء بهذا التعبير للدلالة على أنهم لا يعرفون مسئولية و جزاء حتى يعدلوا سلوكهم خوفا من العقاب عَنِ الصِّراطِ المستقيم لَناكِبُونَ أي عادلون مائلون، فدينك مستقيم و دينهم منحرف.

[76] و لقد صعب علاج هؤلاء فلا بالفضل يشكرون، و لا عند الضراء يرجعون وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ بأن تفضلنا عليهم وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ و قد سبق أن أهل مكة ابتلوا بالقحط الشديد على أثر دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي لتمادوا في ضلالهم، و «اللج» التمادي و التمسك الشديد بالباطل، و «عمه» عمى القلب، أي إن تفضلنا عليهم بطرتهم النعمة.

[77] و إن أبقيناهم في الضر و أخذناهم بالشدائد، لم تنفعهم في الإقلاع عما يفعلون وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بالصعوبات، كالجدب و ضيق الرزق، و أمثالها فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ الاستكانة: التضرع و الانقياد وَ ما يَتَضَرَّعُونَ إلى اللّه، بأن يرجعوا إليه و ينقادوا لأوامره ليدفع عنهم البلاء، و هؤلاء عكس المؤمنين الذين هم إن أعطوا شكروا و إن منعوا استغفروا، فهم كما قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 661

[سورة المؤمنون (23): الآيات 77 الى 79]

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) «1» [78] و قد كان هذا دأب الكافرين، و حالتهم المستمرة حَتَّى إِذا

فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ بأن لا يكون بعده موضع رجوع و توبة، سواء كان بالموت أو بالإهلاك أو في الآخرة، و في رواية أنه في الرجعة، و هو أيضا مصداق لذلك إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُبْلِسُونَ من أبلس بمعنى تحير و يأس فإنهم سادرون في الكفر و الغي، حتى يصلوا إلى ذلك العذاب، حيث لا مرجع و لا توبة، بل يأس من الخلاص و إبلاس.

[79] ثم أخذ السياق يوقظ وجدان هؤلاء بالنعم الكثيرة التي تدل على وجود منعهما و علمه و قدرته و فضله وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي أَنْشَأَ و خلق لَكُمُ أيها البشر السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ جمع فؤاد، و هو القلب، و الاختلاف في السمع بالإفراد، و في الأبصار و الأفئدة بالجمع، لتفنن بلاغي قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «قليلا» منصوب ب «تشكرون» أي تشكرون اللّه سبحانه قليلا، و «ما» زائدة للتقليل.

[80] وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم و أوجدكم فِي الْأَرْضِ فمن غيره خلقكم أيها البشر؟ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر، هو الجمع، أي تجمعون بعد الموت للحساب و الجزاء، و كما قدر على

______________________________

(1) المعارج: 20- 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 662

[سورة المؤمنون (23): الآيات 80 الى 82]

وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)

الابتداء بأن «ذرأكم» يقدر على الإعادة.

[81] وَ هُوَ اللّه الواحد الَّذِي يُحْيِي الأموات كما أحيى التراب فجعله إنسانا و حيوانا وَ يُمِيتُ الأحياء كما نرى كل يوم، و من زعم انه قادر

على الإماتة فقد أخطأ، فإنه قادر على إيجاد بعض الأسباب أما الإماتة فإنها من اللّه سبحانه، كما أن من زعم أنه قادر على الإحياء- بإلقاء الماء العفن في مكان حتى يولد البعوض- فقد أخطأ وَ لَهُ أي بخلقه و تقديره اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي مجي ء أحدهما خلفة للآخر، يقال اختلفا، إذا جاء أحدهما خلف الآخر، كما قال سبحانه (وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً) «1» أَ فَلا تَعْقِلُونَ؟ أي تعملون عقولكم و تتفكرون في هذه النعم الباهرة، إنها لا بد لها من إله قادر عالم متفضل حكيم.

[82] إن الكفار أعرضوا عن كل هذه الآيات و جميع هذه النعم بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ المنكرون للمبدأ و المعاد.

[83] و ماذا قال الأولون و اتبعهم هؤلاء في تلك المقالة؟ قالُوا أَ إِذا مِتْنا بكسر الميم من «مات» «يميت» على وزن «باع يبيع» وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أي كانت أبداننا ترابا، و بقيت عظامنا أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ نحيى للحساب؟

______________________________

(1) الفرقان: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 663

[سورة المؤمنون (23): الآيات 83 الى 86]

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)

[84] لَقَدْ وُعِدْنا بهذا البعث، و عدونا الأنبياء عليهم السّلام نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ أي من قبل وعدك لنا، وعد الأنبياء عليهم السّلام آباءنا إِنْ هذا أي ما هذا الوعد بالبعث إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الأسطورة هي القصة التي لا حقيقة لها، يعني إن هذه الإخبارات حول المعاد، ليست إلا

أكاذيب لفقها الأولون، و اتخذتها أنت يا محمد.

[85] قُلْ يا رسول اللّه في جواب هؤلاء الذين يستبعدون الحشر و الحساب، و يجعلون لله شركاء، فلقد كانوا مضطربي العقيدة، فقسم منهم يعترف بالله و مع ذلك يتخذ الأصنام، و لذا أراد القرآن أن يستدرجهم ليعترفوا بما هو مسلم فيردهم بذلك عن غيهم، و لذا أخذ يسألهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها؟ فمن خلقها و من مالكها، و كذلك من خلق ما في الأرض و من مالكها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أجيبوني عن هذا السؤال.

[86] سَيَقُولُونَ في الجواب، إن الأرض و من فيها لِلَّهِ وحده، و لعل الإتيان ب «السين» إفادة لتفكرهم مقدارا قليلا حتى يقولوا هذا الجواب قُلْ يا رسول اللّه لهم حين اعترفوا بأنها لله أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بعد ذلك أن ليس للأصنام نصيب في الخلق، فلما ذا تتخذونها آلهة، و إن من يقدر على الابتداء يقدر على الإعادة، فكيف لا تعترفون بالمعاد.

[87] و إذ أجابوا حول الأرض القريبة منهم، فليتوجه السؤال إلى السماء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 664

[سورة المؤمنون (23): الآيات 87 الى 88]

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

قُلْ يا رسول اللّه لهم مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ؟ و كأنهم كانوا يعترفون بأن السماوات سبعة وَ من رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ فقد كانوا يقولون أيضا بوجود العرش، لما ترسخ في أذهانهم من آثار علم الأنبياء السابقين.

[88] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ كل ذلك قُلْ يا رسول اللّه لهم حينما أجابوا أَ فَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون من هذا الإله الذي يملك كل

شي ء أن يعمكم بعذاب إن خالفتم أمره و اتخذتم معه شركاء، و أنكرتم البعث و الحساب؟.

[89] قُلْ يا رسول اللّه لهم مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ الملكوت مبالغة في الملك، كالجبروت مبالغة في الجبر، و المراد بملكوت كل شي ء ملكه و جميع شؤونه، فإن هذه الشؤون التي تتغير في هذا العالم لا بد و أن يكون لها مالك و متصرف وَ هُوَ يُجِيرُ أي يغيث من يشاء، و يحفظه من أن يصل إليه سوء، يقال: أجاره، إذا آمنه من المكروه المتوجه إليه وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يحفظه أحد من السوء إذا أراد بشخص سوءا، فلو أراد- مثلا- زيد بمحمد سوءا، أجاره اللّه من زيد، أما لو أراد اللّه برجل سوءا، فلا شخص يحفظ ذلك الرجل من عقوبة اللّه سبحانه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك، فأجيبوني؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 665

[سورة المؤمنون (23): الآيات 89 الى 91]

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)

[90] سَيَقُولُونَ في الجواب لِلَّهِ أي أن ملكوت كل شي ء و الإجارة و البطش الشديد الذي لا يجار منه، كلها لله سبحانه قُلْ يا رسول اللّه لهم حين أجابوا بذلك فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي كيف يخيل إليكم الحق باطلا، و الصحيح فاسدا، إنكم بعد هذه الاعترافات كيف تجعلون لله شركاء و تنكرون قدرته على البعث و الإحياء، مخدوعين بالتقاليد، كالإنسان المسحور الذي يخيل إليه الباطل و يعرض عن الحق.

[91] بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ أي جئنا إليهم ما هو حق و واقع

من التوحيد و البعث، و لم نأتهم بالكذب وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مقالهم، و هذا مقابل قولهم: إن الرسول كاذب، أو «أنهم» عطف على «بالحق» أي أتيناهم و بينا لهم «أنهم لكاذبون» لكنهم يصرون على كذبهم.

[92] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ كما يزعم النصارى إن المسيح ابن اللّه، و يزعم اليهود إن عزير ابن اللّه، و يزعم المشركون إن الملائكة بنات اللّه، و «من» لتقوية تعميم النفي، فلو كان المراد «التبني» كان المعنى إنه خلاف الواقع، و لو كان المراد «للولادة» كان المعنى إنه مستحيل وَ ما كانَ مَعَهُ أي مع اللّه سبحانه مِنْ إِلهٍ شريكا له إِذاً أي إذا كان معه إله آخر لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي ميز كل إله ما خلقه عما خلق الإله الآخر حتى يستقل بهم، و يمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليهم، و هذا كما يقال «ذهب كل رئيس مع أتباعه» و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 666

[سورة المؤمنون (23): الآيات 92 الى 93]

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)

تشبيه بالذهاب في الأرض الموجب لتمييز الفرق بعضها من بعض وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي طلب بعض الآلهة قهر بعض و الغلبة عليه، ليستقلّ هو بالملك، كما يفعل الملوك في الدنيا، لا يقال أن حكمتهم مانعة عن ذلك؟ لأنا نقول تعدد الإله موجب لإمكان الآلهة، و الإمكان يلازم صفات الممكن التي منها حب الاستعلاء و الغلبة بتوابعه، و قد سبقت الإشارة إلى دليل التمانع في بعض السور المتقدمة سُبْحانَ اللَّهِ أي أنزه اللّه تنزيها عَمَّا يَصِفُونَ الإله به، من قولهم «له ولد» و «له شريك» فإن هذا توصيف

لله تعالى بالولادة و التبني و بالشريك.

[93] إنه سبحانه عالِمِ الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ أي ما حضر لدى الحواس، بأن كان مرئيا أو مسموعا، أو ما أشبه، فهو وحده عالم كل غيب و شهادة، و لو كان معه إله آخر لعلم ذاك، كما يعلم هذا فَتَعالى أي ارتفع- و ليس في الفعل معنى الزمان، كما هو كذلك في كل فعل يجري عليه فيما كان من صفات الذات، نحو «علم» و «قدر» و ما أشبههما- عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الشي ء الذي يشركون الإله به، أو تعالى عن شركهم، فهو أعلى مما يزعم شريكا له.

[94] و حيث لم ينفع في القوم الدليل، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مرشدا له، أن يدعو اللّه سبحانه أن لا يشمله العذاب الذي يأخذ القوم- إن قدر لهم عذاب- بسبب كفرهم و إصرارهم في العناد قُلْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 667

[سورة المؤمنون (23): الآيات 94 الى 96]

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)

يا رسول اللّه يا رَبِّ إِمَّا أصله «إن» الشرطية و «ما» الزائدة التي جي ء بها للتقليل تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ أي إن أريتني ما يوعد هؤلاء الكفار من العذاب و النقمة.

[95] يا رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بل أخرجني من بينهم عند ما تريد إحلال العذاب بهم، لئلا يصيبني ما يصيبهم، و هذا الدعاء في مورده، إذ من الممكن أن تعم الكارثة الصالحين، ليكون زيادة لأجرهم و رفعة لدرجتهم، و في الآية تعريض بالكفار بأنهم حيث أصروا على العصيان

و الطغيان، صاروا معرضا لعقوبة اللّه و عذابه.

[96] وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ يا رسول اللّه ما نَعِدُهُمْ أي ما نعد الكفار من العذاب و النكال لَقادِرُونَ و إنما نمهلهم استدراجا (وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ) «1».

[97] و إذا كان الكفار يصرون في العناد، و يتصدون للنبي و المؤمنين بالإيذاء، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يداريهم، فإن ذلك أكثر نجاحا للدعوة، و خير لتخفيف الأذى، فإن الظالم لا يجد عذرا في إدامة ظلمه لو رأى من الطرف اللين ادْفَعْ يا رسول اللّه بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق السَّيِّئَةَ التي يواجهونك بها، و ذلك بالإغضاء و العفو، و قد يقال: إن الأحسن هو أن يفعل ما يقتضي الحال من العفو

______________________________

(1) الأنفال: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 668

[سورة المؤمنون (23): الآيات 97 الى 99]

وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)

أو النكال، فإن الأحسن بالنسبة إلى بعض العفو، و بالنسبة إلى آخرين الأخذ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ اللّه و الرسول و الرسالة و القرآن و المعاد به فهم تحت علمنا و سنجازيهم على ما يصفون، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تهديد لهم، فإن معنى قول الملك «أنا أعلم ما يفعله المجرم» إنه سيجازيهم بفعله السيئ.

[98] إنهم إنما يصفون ما يصفون من إلقاءات الشياطين و وساوسهم، فمن الجدير بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان معصوما في ذاته- أن يستعيذ بالله من الشيطان كي لا يهمزه، بل لا يحضر عنده مجرد

حضور، فإن حضور الشيطان مكروه لذاته، فإنه يهمز الكفار، و يلقي عليهم الكفر مستمرا، حتى أن يأتيهم الموت وَ هناك يقولون رَبِّ ارْجِعُونِ بلا جدوى ف قُلْ يا رسول اللّه، يا رَبِّ أَعُوذُ بِكَ أي أعتصم و ألوذ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ حتى لا يتمكن الشيطان من همزي، و الهمز شدة الدفع، فإن الشيطان يدفع الإنسان دفعا قويا نحو الكفر و المعاصي، و لذا يجد العاصي من نفسه اندفاعا شديدا نحو العصيان.

[99] وَ أَعُوذُ بِكَ يا رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي يحضرون عندي، فإن حضور الشيطان مكروه، لما له من الشقوة و البعد من الرحمة و إن لم يهمز و لم يوسوس.

[100] لكن الشيطان يحضر الكفار و العصاة، و يدفعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 669

[سورة المؤمنون (23): آية 100]

لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ «الموت» فاعل «جاء» قالَ ذلك الكافر و العاصي- الذي عبر عنه ب «أحدهم»- و قوله هذا إنما يكون إذا أشرف على الموت و رأى آثاره، يا رَبِّ ارْجِعُونِ و الإتيان بالجمع على العادة في التأدب عند مخاطبة الكبراء.

[101] لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في تركتي بأن أودي حق اللّه أو في ما تركت من الدنيا، بأن أعمل حسب أوامر اللّه، و لفظة «ارجعون» و «تركت» باعتبار إشرافه على الآخرة، و إلا فهو بعد في الدنيا، و إنما يرى الملائكة، و هو أخذ في مقدمات العز، أو أن ذلك القول بعد قبض روحه، و معنى «جاء» أنه مات، و الجواب لهذا الطلب كَلَّا لا رجوع إلى الدنيا إِنَّها أي مسألة الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا

فائدة فيها، و لا أثر يترتب عليها، أو المراد أنه وعد كاذب، إذ (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) «1» وَ مِنْ وَرائِهِمْ و إنما جي ء بهذا التعبير، لأن وجهه إلى الدنيا، فكأن ما يأتي خلفه و وراءه بَرْزَخٌ و هو العالم المتوسط بين هذا العالم و عالم الآخرة، و البرزخ- لغة- بمعنى الحاجز بين شيئين إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فهم في العذاب و النكال هناك، و كان الإتيان بهذا، لئلا يظن ظان، أنهم معدومون، حتى يبعثوا، فليس لهم تعب و عذاب في هذه القطعة، فإن

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 670

[سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 103]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103)

قبر الكافر حفرة من حفر النيران.

[102] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ «الصور» هو البوق الذي ينفخ فيه ميكائيل معلنا قيام الساعة فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم النفخ، و الأنساب جمع نسب، و هو صلة الإنسان مع غيره بالأبوة و النبوة، و ما أشبههما، و المراد أن الأنساب لا تنفع هناك للنجاة من العذاب، فنفي الحقيقة باعتبار نفي الصفة نحو «يا أشباه الرجال، و لا رجال» وَ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن شي ء، فقد ساد الموقف سكون الخوف، و سكوت الخشية حتى لا يتجرأ أحد على الكلام، و حيث إن مواقف القيامة كثيرة، لم يكن تناف بين السكوت و عدم التساؤل في موقف، و بين التكلم و التساؤل في موقف آخر.

[103] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ «موازين» جمع «ميزان» و المراد، ثقل

الميزان بالطاعات، و لعل الإتيان بالجمع، لأن لكل عمل ميزانا، فللصلاة ميزان، و للزكاة ميزان، و هكذا فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالدرجات الرفيعة.

[104] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن ارتفعت كفة الصالحات، و ثقلت كفة السيئات فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فكأنهم باعوا نفوسهم بالمعاصي، فذهبت نفوسهم من أيديهم، فهم في تعب، و فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 671

[سورة المؤمنون (23): الآيات 104 الى 108]

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108)

باقون أبد الآبدين، في مقابل المؤمنين الذين أعطوا الطاعة، و أخذوا النفوس، فربحوا نفوسهم، فهم في نعيم مقيم.

[105] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ أي وجوه الخاسرين النَّارُ فاعل تلفح، و اللفح ضرب السموم للوجه، أي يصيب وجوههم لفح النار و لهيبها وَ هُمْ فِيها أي في النار كالِحُونَ من كلح، و الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان، حتى تبدو كالرأس المشوية.

[106] و هناك يشتمون ليزداد عذابهم الروحي على عذابهم الجسمي، فيقال لهم أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي و أدلتي تُتْلى عَلَيْكُمْ و تقرأ عندكم، و الاستفهام تقريري توبيخي فَكُنْتُمْ بِها أي بالآيات تُكَذِّبُونَ فذوقوا جزاء تكذيبكم.

[107] قالُوا في الجواب، يا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا فقادتنا أنفسنا الأمارة إلى هذا الشقاء وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الطريق، يقولون هذا حيث لا مجال هناك إلا للاعتراف، يريدون بذلك الاسترحام.

[108] يا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها من النار فَإِنْ عُدْنا إلى الكفر و التكذيب و العصيان فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا بعد ذلك، و لا حجة لنا أبدا، و

هم يظنون بذلك أنهم يغرون اللّه سبحانه.

[109] قالَ اللّه سبحانه، أو المالك للنار، و هو الملك بها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 672

[سورة المؤمنون (23): الآيات 109 الى 111]

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111)

اخْسَؤُا فِيها أي في النار، أي ابعدوا بعد الكلب، فإن هذه اللفظة لزجر الكلاب، و إنما يقال لهم للإهانة و الإذلال وَ لا تُكَلِّمُونِ أي لا تكلمونني، فأنتم لا تستحقون الخطاب و المكالمة، ألم تكونوا تستهزئون بالمؤمنين في الدنيا؟ فهذا جزاءكم في الآخرة.

[110] ألا تذكرون إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ أي جماعة مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ في الدنيا يا رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أي كانوا يدعون بهذا الدعاء، بعد أن آمنوا بالله سبحانه، و عملوا الصالحات، و الفريق هم الأنبياء و الأئمة و المؤمنون.

[111] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي كنتم تسخرون و تستهزئون منهم، منسوب إلى السخرة، و هو من يسخر به، و كأن النسبة لزيادة الاستهزاء، فإن السخرة يهزأ به، فكيف بمن ينتسب إليه؟ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ أولئك الفريق ذِكْرِي فإن الإنسان إذا اشتغل بالسخرة نسي الذكر و أعرض عنه، و إنما نسب النسيان إليهم لأنهم السبب في التمسخر الموجب لنسيان الذكر وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ أي من أولئك الفريق تَضْحَكُونَ و معنى «منهم» من أعمالهم و أقوالهم.

[112] إِنِّي جَزَيْتُهُمُ أي أعطيت جزاء أولئك الفريق المؤمنين الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم في الدنيا على التكاليف، و على تحمل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 673

[سورة المؤمنون (23): الآيات 112 الى 114]

قالَ

كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)

سخريتكم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون بما أرادوا، فجزاؤكم النار، و جزاؤهم الفوز و الجنة.

[113] ثم يتوجه إلى الكفار لزيادة تقريعهم و بيان أنهم إنما عصوا و ألقوا أنفسهم في هذا العذاب، لوقت قليل في عمر الدنيا قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ مكثتم و بقيتم أيها الكفار فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ أي من جنس هذا العدد مقابل عدد الأيام و عدد الشهور.

[114] قالُوا و قد نسوا مقدار بقاءهم في الدنيا فضؤل في أعينهم مدة البقاء لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالوا ذلك على وجه الحقيقة لنسيانهم المقدار، أو قالوه مجازا، تقليلا لمدة المكث، فإن الزمان إذا مضى يراه الإنسان قليلا فَسْئَلِ يا رب عن مدة مكثنا الْعادِّينَ أي الحسّاب الذين قد عدوا، فإنا لا ندري أ يوما بقينا، أو بعض يوم؟ و قد ورد أن المراد سؤال الملائكة الموكلين بهم، فإنهم عدوا أعمارهم و ساعاتها؟

[115] قالَ اللّه سبحانه، مظهرا، أن ليس المقصود مقدار المكث بالسنين و الشهور، و إنما المقصود بالسؤال أن بقاءكم في الدنيا كان قليلا فقد أذهبتم الآخرة لأجل شهوات زائلة في تلك المدة القليلة إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما كنتم و بقيتم في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا و لو كان سنوات لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و تحسنون التقدير، لعلمتم أن بقاءكم في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 674

[سورة المؤمنون (23): الآيات 115 الى 117]

أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ

إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117)

قليل بالنسبة إلى الآخرة التي لا فناء لها و لا زوال.

[116] أَ فَحَسِبْتُمْ و ظننتم أيها المنكرون للبعث أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً باطلا و لغوا، فلا حساب و لا ثواب و لا عقاب وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ و المراد إلى حكمنا و جزاءنا، إن ظنكم ذلك باطل كذب، و هذا إما كلام مستأنف خطاب للكفار في الدنيا، أو عطف على السابق، و أنه في جملة الكلام الذي يقال للكفار في الآخرة [117] فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُ تعالى أن يكون له شريك أو ولد- و هذا رجوع إلى الكلام السابق حول نفي الولد و الشريك- أنه هو الملك الحق، و ما سواه من دون الآلهة ملوك باطلة موهومة، لا حصة لها من الملك و الخلق لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده لا شريك له رَبُّ الْعَرْشِ أي الملك، أو العرش الذي هو محل تشريفي له سبحانه خلقه ملاذا للملائكة، كما خلق الكعبة ملاذا للناس الْكَرِيمِ فإن للعرش من الكرامة و العظمة قدرا كبيرا.

[118] وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن يجعل لله شريكا لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي في حال كونه لا حجة و لا دليل للداعي بذلك الإله الثاني فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي أن مقدار جزاء سيعلقه في تلك الدعوة الباطلة عند الله، و هذا تهديد للمشركين، بأنه تعالى سوف يحاسبهم على ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 675

[سورة المؤمنون (23): آية 118]

وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

حسابا عسيرا إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي لا يفوزون، و لا يخلصون من العقاب.

[119] وَ قُلْ يا

رسول الله، يا رَبِّ اغْفِرْ الذنوب، فأنت وحدك الغفار، و لا شفعاء من دونك، كما يزعم المشركون وَ ارْحَمْ أي تفضل بالرحم و الخير، فأنت وحدك الراحم المتفضل وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ أفضل المنعمين و أكثرهم فضلا، بل كل نعمة منك، و إنما غيرك لا يملك إلا ما ملكته، فأنت الإله الواحد، و إن إليك المرجع، و إنك الغافر الراحم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 676

24 سورة النور مدنية/ آياتها (65)

سميت السورة بالنور، لاشتمالها على هذه اللفظة، و هي كسائر السور المدنية تتعرض إلى النظام، و تشريع القوانين، و لما اختتمت سورة المؤمنين، بأن الله سبحانه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر و النهي، ابتدأت هذه السورة بذكر الشرائع و فرض النظام الاجتماعي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ استعانة باسم الإله، الذي يعين الإنسان، إذا استعان به، و هو رحمن رحيم، يرحم و يتفضل بما هو أهله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 677

[سورة النور (24): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

[2] هذه سُورَةٌ السورة مأخوذة من سور البناء، و هو ارتفاعه، و منه يسمى سور البلد سورا، و إنما سميت سور القرآن بها، لأنها مرفوعة في النفوس، أو لأنها محيطة بجملة من العقيدة و الآداب أَنْزَلْناها أي أنزلنا هذه السورة، و الإنزال، إما باعتبار مجيئها من فوق، إذ الملك يهبط عن السماء، أو باعتبار أنها جاءت من طرف العلي الأعلى وَ فَرَضْناها أي أوجبنا العمل بها،

و لعل هذا التأكيد لاشتمالها على الحد و ما أشبه، مما يحتاج إلى التأكيد البليغ، فإن الفرائض الشديدة تحتاج إلى قوة في البيان، حتى تحفز تلك القوة على تطبيقها وَ أَنْزَلْنا فِيها في هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات ظاهرات، و الظرف باعتبار المجموع، المظروف باعتبار كل قطعة قطعة، و آية آية لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتذكروا، ما هو كامن في فطرتكم من الأمور المرتبطة بالعقائد و الآداب و الأنظمة، فإن الله سبحانه جعل في النفس فطرة المعارف، كما جعل فيها فطرة الآداب، و إن كانت مجملة تحتاج إلى الشرح و البيان و ذكر المزايا التي لا تصل الفطرة إليها بمجردها.

[3] و بعد تلك المقدمة الشديدة، يأتي النظام الصارم لمن ينحرف عن العفاف الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي و لعل تقديم «الزانية» لكون عملها أشنع، و لأن العطف نحوها أكثر، لرقة جنس المرأة فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، و ذلك بضربهما بالجلد، الذي هو عود طويل على رأسه خيط طويل من الجلد، يؤلم الجسم كثيرا، يستعمله في هذا الزمان أهل الأفراس و العربيات، و لا يخفى أن هذا الحكم إنما هو مقيد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 678

[سورة النور (24): آية 3]

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

ببعض القيود المستفاد من الشرع- كما هو مذكور في كتاب الحدود- وَ لا تَأْخُذْكُمْ أيها الحكام المجرون للحد بِهِما أي بأي من الزاني و الزانية رَأْفَةٌ أي شفقة و رحمة فِي دِينِ اللَّهِ أي في هذا الحد المرتبط بالدين، الذي أنزله الله من السماء إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أي تعتقدون بالله، و تقرون

بالبعث و النشور وَ لْيَشْهَدْ أي اللازم أن يحضر عَذابَهُما أي في حال جلد الزانية و الزاني طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي جماعة منهم، ليكون أردع للزناة، حيث يرون العذاب و الفضيحة، و ينشر الخبر بسبب أولئك مما شاهدوه عيانا، و من الغريب أن بعض الغربيين- الذين أباح قانونهم التنكيل بالبشر، بما لا يتحمل الإنسان على مجرد سماعه، كاستعمال الكلابيب للجسم، و الحقنة بالبيضة و القنينة و الماء الحار، و الحمامات الحارة و الباردة، التي تنقط على رؤوس مجرميهم، و كي البدن بالمكاوي الكهربائية، و أشباهها مما يتقزز منه الجسم، و يستبشعه، حتى من له أقل شعور يعيبون على الإسلام مثل هذا القانون المطهر للمجتمع عن كثير من أنواع الفساد و الرذيلة، نعم إنهم أرادوا أن يزنوا فأباحوا ذلك، و عابوا مثل هذا القانون و لو أرادوا الطهارة لرأوا أن هذا القانون هو القانون العادل الذي لا يجد الإنسان مطهرا للمجتمع مثله.

[4] ثم أراد سبحانه تفظيع الأمر عليهما، فقال الزَّانِي لا يَنْكِحُ أي لا يزني، و النكاح في اللغة هو الوطء إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 679

[سورة النور (24): آية 4]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)

المؤمنة العفيفة لا تكون طرفا لزنى الرجل الزاني، و هذا كقوله سبحانه (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) «1» وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها أي لا يطأها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فإن المؤمن العفيف، لا يكون طرفا لزنى المرأة الزانية، و كأن هذا لدحض زعم بعض الناس الذين يتعاطون الزنى، زاعمين أنهم أعفاء، و إنما طرفهم فقط، رجل سيئ، أو امرأة سيئة، و

قد يرى الإنسان رجلا، يدخل بيت الدعارة زاعما أنه يقضي حاجة، و إنما المرأة هي الزانية، أليس هو يقضي حاجة، و هي شغلها الزنى؟ و كذا في صورة العكس، و قد ذكروا في سبب نزول الآية ما

روي عن الإمامين الباقر و الصادق عليه السّلام، قالا هم رجال و نساء كانوا على عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنى، فنهى الله عن أولئك الرجال و النساء

«2»، و في الآية احتمال آخر و ما ذكرناه هو الظاهر منها بملاحظة بعض القرائن الداخلية و الخارجية وَ حُرِّمَ ذلِكَ النكاح للزاني أو الزانية عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فالمؤمن لا يكون طرف زانية، و المؤمنة لا تكون طرف زان.

[5] ثم انتقل السياق إلى حكم من يرمي المؤمنة بالزنى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون النساء العفيفات بالزنى، بنسبة الزنا إليهن، و «المحصنة» هي المرأة العفيفة و تسمى محصنة، لأنها أحصنت و حفظت نفسها بالعفاف، و لا مفهوم للآية حتى يدل على أن رمي غير

______________________________

(1) النور: 27.

(2) راجع مستدرك الوسائل: ج 14 390.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 680

[سورة النور (24): الآيات 5 الى 6]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)

المحصنة لا حكم له، و إنما سمي بالنسبة رميا، لأنها رمي للقول كما أن قذف الحجارة و نحوها رمي للشي ء ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون على طبق كلام الرامي، بأنهم رأوا زناها عيانا فَاجْلِدُوهُمْ أي اجلدوا الرامين ثَمانِينَ جَلْدَةً و لا يقبل كلامهم بالنسبة إلى المقذوفة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ لأولئك

الرامين شَهادَةً أَبَداً إذا شهدوا على شي ء، ردت شهادتهم وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلا يترتب عليهم ما يترتب على العدول، من الائتمام به، و تقليده، و صحة الطلاق عنده، إلى غير ذلك.

[6] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من هؤلاء القاذفين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الرمي وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، لم يفسقوا من جهة أخرى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ بهم يتفضل عليهم، فإن هؤلاء تقبل شهادتهم و لا يحكم بفسقهم، بل يجري عليهم ما يجري على سائر الناس من الأحكام.

[7] وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي ينسبون زوجاتهم إلى الزنى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون لهم على صحة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ استثناء منقطع أي أنهم يدعون ذلك، و لا شاهد لهم، فاللازم أن يجلدهم الحاكم الشرعي حد القذف، إلا إذا تدارك ذلك بأن حلف خمسة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 681

[سورة النور (24): الآيات 7 الى 8]

وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8)

أيمان، أربع مرات يحلف أنه صادق، و مرة يحلف أن لعنة اللّه عليه، إن كان كاذبا فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ لدرء الحد عنه أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أي يستشهد بالله لصدق مقاله في رمي الزوجة بالزنى فيحلف أربع مرات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله أنها زنت.

[8] وَ الشهادة الْخامِسَةُ المتممة لتلك الشهادات الأربع الموجبة لرفع حد القذف عنه أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ أي طرده عن الرحمة و عذابه عَلَيْهِ و يأتي بضمير المتكلم مكان الضمير الغائب إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رمى زوجته به، فتكون هذه الأيمان الخمسة رافعة للحد الذي استحقه من جهة قذف زوجته بالزنا بدون شهود.

[9] و إذا

حلف الرجل تلك الأيمان الخمسة ثبت الحد على المرأة، و قامت تلك الأيمان مقام الشهود الأربع، و لكن إذا حلفت هي أيضا خمسة أيمان، ارتفع عنها الحد و فرق بينهما، فلا يحل الرجل لها، و لا تحل هي له إلى الأبد وَ يَدْرَؤُا أي يدفع، و فاعله «أن تشهد» عَنْهَا أي عن المرأة الْعَذابَ أي حد الزنى الذي ثبت من حلف الرجل بتلك الأيمان أَنْ تَشْهَدَ المرأة أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ كأن الله سبحانه أخذها شهيدا لها على براءتها، حيث تحلف به إِنَّهُ أي الرجل لَمِنَ الْكاذِبِينَ فلم تزن هي، فتقول- أربع مرات- أشهد بالله، إنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 682

[سورة النور (24): آية 9]

وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)

لمن الكاذبين، فيما قذفني به من الزنى.

[10] وَ تشهد الشهادة الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقول غضب الله علي إِنْ كانَ الرجل مِنَ الصَّادِقِينَ فيما قذفني به من الزنى و هذا الحكم هو المسمى باللعان،

و قد ورد في سبب نزول هذه الآيات، ما ذكره القمي، أنه لما جاء رسول الله، من غزوة تبوك، جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني و كان من الأنصار، و قال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن سحماء، و هي منه حامل، فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه، حتى فعل ذلك أربع مرات، فدخل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فنزل عليه آية اللعان، فخرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلى بالناس العصر، و قال لعويمر ائتني بأهلك، فقد أنزل الله فيكما قرآنا

فجاء إليها، فقال لها: رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعوك و كانت في شرف من قومها، فجاء معها جماعة، فلما دخلت المسجد، قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعويمر: تقدم إلى المنبر، فقال: كيف اصنع؟ قال: تقدم و قل أشهد بالله إني إذا لمن الصادقين فيما رميتها به، فتقدم و قالها، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعدها، فأعادها، ثم قال: أعدها، فأعادها، حتى فعل ذلك أربع مرات، فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رماها به، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له: تنح فتنحى، ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلا أقمت عليك حد الله، فنظرت في وجوه قومها، فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية، فتقدمت إلى المنبر، و قالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 683

[سورة النور (24): آية 10]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

من الكاذبين، فيما رماني به، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعيديها فأعادتها، حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: العني نفسك في الخامسة، إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة: إن غضب الله عليّ، إن كان من الصادقين فيما رماني به، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ويلك إنها موجبة لك، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم لزوجها: اذهب فلا تحل لك أبدا، قال: يا رسول الله، فمالي الذي أعطيتها؟ قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، و إن كنت صادقا، فهو لها، بما استحلك من فرجها، ثم قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن جاءت بالولد أحمش الساقين، أنفس العينين، جعد قطط، فهو للأمر السيئ، و إن جاءت به أشهل و أصهب، فهو لأبيه، فيقال إنها جاءت به على الأمر السيئ فهذه لا تحل لزوجها، و إن جاءت بولد لا يرثه أبوه، و ميراثه لأمه، و إن لم يكن له أم، فلأخواله، و إن قذفه أحد، جلد حد القاذف

«1»، أقول: لقد روي في سبب نزول هذه الآيات، روايات و انتسبت القصة إلى أناس آخرين و لا بعد في ذلك كله، فكم من قضايا تتعدد، و كم من آية نزلت لأمرين أو أكثر.

[11] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بمنعكم عن الزنى و الفواحش و جعل الحدود عليها وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ كثير الرجوع على من عصى و تاب، حَكِيمٌ ذو حكمة في التشريعات، لنالكم عنت و إرهاق في الدنيا، و عذاب في الآخرة ففضله و رحمته في الدنيا يوجبان التيسير، إذ لو لا الفضل لكان يحد القاذف أو المقذوفة، و لو لا قبول التوبة لكان

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 90 ص 71.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 684

[سورة النور (24): آية 11]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)

يعاقب المذنب في الآخرة، و قد حذف جواب لو لا ليترك في

النفس فراغا يوجب قلقها، حتى يعظم لديها الفضل، و قبول التوبة.

[12] و بمناسبة ذكر الحد على القاذف يذكر القرآن الحكيم قصة «الإفك» الذي رمي به إحدى زوجتي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «مارية» أو «عائشة» فقد نسب الخاصة القصة إلى «مارية». و نسب العامة القصة إلى «عائشة» و القصة هي:

قال الإمام الباقر عليه السّلام: لما هلك إبراهيم ابن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حزنا شديدا، فقالت له عائشة، ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريح فبعث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا عليه السّلام و أمره بقتله، فذهب علي عليه السّلام إليه، و معه السيف و كان جريح القبطي في حائط، فضرب علي باب البستان، فأقبل إليه جريح ليفتح له الباب، فلما رأى عليا، عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعا، و لم يفتح باب البستان، فوثب علي عليه السّلام الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه، و ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، و صعد علي عليه السّلام في أثره، فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال و لا للنساء فانصرف علي عليه السّلام إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمي في الوبر، أمضي على ذلك أم أثبت؟ فقال: لا تثبت، قال عليه السّلام: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل

البيت

«1»،

و في حديث آخر فأتى به رسول الله، فقال له: ما شأنك يا جريح؟ فقال: يا رسول الله إن القبط يحبون حشمهم، و من يدخل إلى أهليهم و القبطيون لا يأنسون إلا بالقبطيين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 155. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 685

فبعثني أبوها لأدخل إليها و أخدمها و أؤنسها.

أقول: و لقد كان بعث الإمام- على هذا- ليتبين الأمر و إن كان بصورة إن يقتل جريح، أما ما ذكره العامة، فقد قال في الجوامع: إن سبب الإفك، إن عائشة ضاع عقدها، في غزوة بني المصطلق، و كانت قد خرجت لقضاء حاجة فرجعت طالبة له، و حمل هودجها على بعيرها ظنا منهم أنها فيها، فلما عادت إلى الموضع، وجدتهم قد رحلوا و كان صفوان من وراء الجيش، فلما وصل إلى ذلك الموضع و عرفها أناخ بعيره حتى ركبته، و هو يسوقه حتى أتى الجيش، و قد نزلوا في قائم الظهيرة.

أقول: و هناك نسب المنافقون إلى عائشة و صفوان الإثم و أخذوا يبثونه، و قد أطال العامة في الحديث، لكن الغالب أن طرقه غير صحيحة، و من المحتمل وقوع الأمرين كما في كثير من الآيات القرآنية التي يتعدد سبب نزولها إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بالكذب العظيم الذي قلب وجه الحقيقة، و يقال للكذب الإفك، لأنه يقلب الحقيقة إلى غير واقعه، و أصل الإفك القلب، و لذا قيل لمدائن لوط «مؤتفكات» لأنها قلبت ظهر البطن عُصْبَةٌ أي جماعة مِنْكُمْ أيها المسلمون، و لعل الإتيان بهذه الخصوصية، لإفادة أن الإفك، إنما كان وليد جماعة ذات هدف واحد، فليس كلاما قاله مغرض و إنما حركة مقصودة ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم فليعرف المسلمون تلك العصبة و ليطلعوا على نواياهم لا تَحْسَبُوهُ أيها المسلمون شَرًّا لَكُمْ يذهب بشرفكم و رفعة مقامكم و طهارتكم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إذ يوجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 686

[سورة النور (24): آية 12]

لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)

الأجر، و معرفة المنافقين و تمرين الأمة على الصعوبات كما قال الشاعر:

جزى الله النوائب كل خيرو إن جرعنني غصص بريقي

أهاجتني زمانا كي تريني على ملأ عدوي من صديقي

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من تلك العصبة التي جاءت بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ قدر ما خاض في الحديث حول المرأة البريئة «مارية» وَ الَّذِي تَوَلَّى أي تحمل كِبْرَهُ أي القسط الأكبر مِنْهُمْ أي من العصبة لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي هو الذي أذاعه و أشاعه و أظهره للمجتمع.

[13] ثم عاتب الله سبحانه المسلمين الذين خاضوا في الحديث بدون دراية و معرفة، و إنما تفكها و حديثا لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ «لو لا» للردع، أي هلّا حين سمعتم الإفك من القائلين المغرضين ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً فإن مارية و جريح كانا من نفس المؤمنين و المؤمنات بأنفسهم خيرا فإن مارية و جريح كانا من نفس المؤمنين و المؤمنات، و لم يكونا خارجين عن دينهم، و المراد ظنوا بها خيرا، قال الشاعر:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 687

[سورة النور (24): الآيات 13 الى 15]

لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ

عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَ قالُوا حين سمعوا الخبر هذا إِفْكٌ أي كذب مُبِينٌ ظاهر أي لماذا لم يقولوا هكذا؟

[14] لَوْ لا جاؤُ أي هلّا جاءت العصبة القاذفة عَلَيْهِ أي على الإفك الذي قذفوا مارية به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ كما هو التشريع أن يأتي القاذف بأربعة شهود فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ أي حين لم يكن لهم شهيد يشهد بصدقهم فَأُولئِكَ الذين صنعوا هذا الإفك عِنْدَ اللَّهِ في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ لأن القاذف يرمى بالكذب حتى يقيم الشهود.

[15] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ بأن أمهلكم للتوبة، و لم يعاجلكم بالعقوبة لَمَسَّكُمْ أي أصابكم فِيما أَفَضْتُمْ أي خضتم فِيهِ من الإفك، و الإفاضة في الشي ء الدخول فيه عَذابٌ عَظِيمٌ مؤلم شديد، إذ الإفك كان كبيرا حيث إنه وقيعة في بيت النبي و شرفه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مما يوهن طهارة الرسالة في نظر الناس، فيقول الكفار و المنافقون كيف يأمر النبي بالطهارة، و زوجته على ما هي عليه؟

[16] إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أصله «تتلقونه» حذف إحدى التاءين على القاعدة، فيما إذا اجتمع في أول المضارع تاءان، و المراد تلقي بعضكم هذا الإفك عن بعض بالسؤال عنه و جاء «بألسنتكم» ليوضح، إن التلقي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 688

[سورة النور (24): الآيات 16 الى 18]

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

(18)

لم يكن بمعناه المتعارف، و هو أخذ الشي ء باليد و نحوها وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ جمع فم ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إذ لم تكونوا تعلمون ذلك، و مع ذلك كنتم تتكلمون حوله وَ تَحْسَبُونَهُ أي تظنون ذلك هَيِّناً سهلا وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر، لأنه كذب و افتراء و هتك عرض، و إشاعة فاحشة.

[17] وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي هلّا، إذ سمعتم هذا الإفك قُلْتُمْ لمن قاله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الحديث، أي لا يحل لنا أن نخوض في هذا الأمر سُبْحانَكَ ربنا هذا الذي قالوه بُهْتانٌ عَظِيمٌ أي كذب و افتراء عظيم عقابه، و قوله «سبحانك» لفظ يطلقه الإنسان لدى التعجب و الاستغراب من أمر.

[18] يَعِظُكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي لئلا تعودوا لمثل هذا الإفك، أو كراهة أن تعودوا أَبَداً أي إلى الأبد، طيلة أعماركم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بالله و الرسول و المعاد و الدين.

[19] وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أيها المسلمون الْآياتِ الدالة على أوامره و نواهيه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يصدر منكم حَكِيمٌ فيما يأمركم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 689

[سورة النور (24): الآيات 19 الى 20]

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

و ينهاكم، فإنها طبق الصلاح و الحكمة.

[20] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي تنتشر و تظهر الصفة الفاحشة، من فحش بمعنى تعدى و تسمى المعصية الكبيرة فاحشة، لأنها تتجاوز الحد كثيرا و إن كان كل عصيان يتجاوز الحد المقرر،

و هل المراد ب «يحبون» مجرد الميل القلبي حتى يكون لهذا الميل إثم، أو هو كناية عن القيام بالإشاعة لما سبق من أن كلا من الفعل و الإرادة يستعمل في الآخر فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي بالنسبة إليهم، بأن يقذفوهم بها، أو يوسعون دائرة القذف، صدقا كان أم كذبا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع فِي الدُّنْيا بالجلد و التعزير وَ الْآخِرَةِ بالنار و النكال وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مضار إشاعة الفاحشة، و ما فيها من العقاب و النكال وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فلا تفعلوا ما لا تعلمون إضراره و عقوباته.

[21] وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيها المسلمون حيث عفى عنكم، عن هذه الجريمة، و لم يعاجلكم بالعقاب و أمهلكم لتتوبوا وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، لأخذكم العذاب في هذه النسبة التي نسبتموها إلى مارية زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد حذف جواب «لو لا» تهويلا، كما تقدم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 690

[سورة النور (24): آية 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

[22] و بعد أن أتم الكلام حول هذه الوقعة البشعة التي تبع عصبة من المسلمين الشيطان في تلقيها و إشاعتها، خاطب الله سبحانه المؤمنين بصورة عامة، أن لا يتبعوا الشيطان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ تشبيه بمن يتبع أقدام غيره في السير خلفه، فكأن الشيطان يذهب في طريق العصيان، و العصاة يتبعونه و يجعلون خطواتهم مكان

خطواته وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فليعلم إنه أي الشيطان يسلك به في طريق الغواية و الضلال، إذ هو يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ مؤنث أفحش نحو «حمراء أحمر» أي الصفة التي هي أفحش الصفات الرديئة لأن تعديها عن الحق كثير وَ الْمُنْكَرِ و هو مطلق الإثم، و خصص «الفحشاء» بالذكر لأن الكلام كان حول «الفاحشة» وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ و لعل الفرق بينهما «حيث يجتمعان» أن الرحمة يراد بها ستر الذنب، و الترحم بجبر المنقصة، و الفضل هو الإعطاء زائدا، مثل من كان له مائة، ثم خسر عشرا، إن أعطيته خمسة عشر و كانت العشرة رحمة، و الخمسة فضلا ما زَكى أي ما طهر، و لم ينم في الخير مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ أَحَدٍ أَبَداً «من» زائدة لتعميم النفي وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي أي يطهر عن المعاصي و الآثام، و يسبب النمو و الزيادة له في الخير مَنْ يَشاءُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 691

[سورة النور (24): آية 22]

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

من المؤمنين، من الذين ساروا في الطريق، و امتثلوا الأوامر، كما قال سبحانه (وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) «1» وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم يجزيكم على حسبها عَلِيمٌ بضمائركم و نياتكم، فارتقبوا الأقوال و النيات لكي تحظوا برضاه و فضله.

[23] نقل في الجوامع عن بعض أن آية «و لا يأتل» نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشي ء من الإفك و لا يواسوهم وَ لا يَأْتَلِ

من الألية- على وزن فعلية، بمعنى اليمين و الحلف أو من «الألو» بمعنى التقصير، أي لا يحلف أو لا يقصر أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي الزيادة في أموالهم عن قدر حاجتهم وَ السَّعَةِ أي التوسعة في أرزاقهم أَنْ يُؤْتُوا من فضلهم و سعتهم أُولِي الْقُرْبى أي أقربائهم فلا يحلفوا على عدم إعطاء أقربائهم من فضلهم وَ الْمَساكِينَ من غير أقربائهم وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن القرابة و المسكنة و المهاجرة توجب الترحم، و إعطاء الفضل- و إن كان أصحابها، قد أفاضوا في الإفك- وَ لْيَعْفُوا عنهم فيما اقترفوا من الذنب وَ لْيَصْفَحُوا كأنهم يعطون صفح وجههم إلى أولئك فإن من يريد أن يري الطرف أنه لم ير ما صدر منه أمال وجهه عنه و جعل صفح وجهه إليه أَ لا تُحِبُّونَ يا أصحاب الفضل و السعة أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ

______________________________

(1) العنكبوت: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 692

[سورة النور (24): الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)

فكما تحبون مغفرته، اغفروا لمن أساء فمن غفر الناس غفر الله له؟

أو المراد أن الله يغفر لكم إذا غفرتم لهم وَ اللَّهُ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بعباده، فتخلقوا بأخلاقه، و تأدبوا بأدبه، و اغفروا لمن أساء يغفر الله لكم.

[24] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ أي يقذفون و ينسبون الزنا إلى الْمُحْصَناتِ أي النساء العفائف الْغافِلاتِ عن الفواحش، فهن في غفلة عن الإثم، و إذا بهن يرين إلصاق التهمة البشعة بهن الْمُؤْمِناتِ بالله و رسوله و دينه و اليوم الآخر لُعِنُوا أي طردوا عن رحمة الله سبحانه فِي

الدُّنْيا بأمره سبحانه بجلدهم على قذفهم وَ الْآخِرَةِ بالنكال و العذاب وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو النار التي تنضج الأكباد و الكلى، و سائر ما أعد في جهنم من ألوان العذاب.

[25] يَوْمَ منصوب على الظرفية، أي أن ذلك العذاب يكون في يوم تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ بإنطاق الله لها، بدون أن يريدوا القول هم بأنفسهم، و إنما يشهد لحم اللسان وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بالمعاصي التي ارتكب كل واحدة منها، فتشهد اللسان- مثلا- بأنها كذبت و افترت، و تشهد اليد بأنها تناولت الحرام، و الرجل بأنها مشت إلى السرقة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ كما قال سبحانه في آية أخرى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 693

[سورة النور (24): الآيات 25 الى 26]

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) «1» و في آية أخرى أنهم بعد أداء هذه الجوارح الشهادة يتوجهون إليها و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شي ء.

[26] يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم و هو يوم القيامة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ أي يعطيهم الله جزاءهم العادل، فإن الدين بمعنى الجزاء، أو المراد جزاء دينهم، فالمراد بالدين هو المعنى المتعارف، وَ في ذلك اليوم يَعْلَمُونَ علما وجدانيا قطعيا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ و لا إله سواه، و أنه حق يعطي بالحق و يعاقب بالحق الْمُبِينُ أي الظاهر الذي لا غموض فيه.

[27] إن النفوس الخبيثة لا تألف إلا نفوس النساء الخبيثات، و النفوس الطيبة لا تألف

إلا نفوس النساء الطيبات، فالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، و الطاهر لا يباشر إلا طاهرة مؤمنة، و هكذا العكس، و لم يكن لمسلم أن يزني، و لا لمسلمة أن تزني، و لا يمكن للرسول الطاهر من كل دنس، أن يتزوج بامرأة فاحشة زانية، و الآية، و إن كانت عامة، إلا أنها بمناسبة حديث الإفك الْخَبِيثاتُ من النساء، و الخبيث هو ضد الطيب، و هو ما يكون في ذاته شي ء مكروه، أو عرض عليه ذلك عرض، فمثلا الدم خبيث، و الماء الملاقي له خبيث أيضا لِلْخَبِيثِينَ من الرجال وَ الْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء

______________________________

(1) يس: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 694

[سورة النور (24): آية 27]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

وَ الطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال وَ الطَّيِّبُونَ من الرجال لِلطَّيِّباتِ من النساء أُولئِكَ الطيبات و الطيبون مُبَرَّؤُنَ منزهون مِمَّا يَقُولُونَ فيهم من الافتراء و القذف لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي غفران من الله سبحانه، و ستر لهم عن الفضيحة وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فليس من رزقهم الخبيث، و إنما رزقهم مكرم لهم، و الرزق يطلق على كل عطية، و منحة منه سبحانه، و لو زوجا أو زوجة.

[28] لقد كان في الجاهلية، الرجل يدخل البيت، بلا استئذان، حتى إذا توسطه، قال «دخلت» و ذلك كان خلاف العقل و الأدب، إذ لعل الرجل مع أهله، أو لعل المرأة عارية تغتسل، أو لعلهم يكرهون أن تقع العين على شي ء من أمورهم، و لذا نهى الله سبحانه عن ذلك، و أتى السياق- بمناسبة حكم الزوجين و القذف- إلى بيان حكم البيت الذي يريد

الإنسان أن يدخله، فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ و أما بيت الإنسان نفسه، فلا مانع أن يدخل فيه فجأة، و إن كره في بعض الأحوال أيضا، كأن يطرق الإنسان أهله ليلا حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الاستيناس، طلب الأنس بالعلم أو غيره، يقال اذهب و استأنس، هل ترى أحدا؟ و المعنى حتى تستعلموا و تستأذنوا،

و قد روي إن رجلا قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: استأذن على أمي؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيري، أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فاستأذن عليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 695

[سورة النور (24): آية 28]

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي على أهل البيوت، و هذا هو الترتيب الطبيعي، بأن يستأذن الإنسان، ثم يسلم ذلِكُمْ أي ذلك الدخول بالاستيذان، ثم التسليم و «كم» خطاب خَيْرٌ لَكُمْ أيها المؤمنون، أي ذلك حسن، فليس المعنى على التفضيل، أو أنه تفضيل بالنسبة إلى ما يرى الناس فيه خيرا من الدخول المجرد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي نبين هذا الحكم لكي تتذكروا ما أودع في فطرتكم، من كون ذلك الاستئذان من الأدب، و أنه خير بخلاف الدخول فجأة.

[29] فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي في البيوت أَحَداً بأن لم تعلموا وجود أحد، كما لو استأذنتم، فلم يظهر أن أحدا في البيت فَلا تَدْخُلُوها لا تدخلوا تلك البيوت حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بأن يأذن

لكم أرباب الدار دخولها في أي وقت شئتم، و إن لم يكونوا فيها وَ إِنْ استأذنتم دارا ف قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا بهذا اللفظ، أو بلفظ يفيد معناه فَارْجِعُوا انصرفوا، و لا تلحوا في الدخول و هُوَ أي الانصراف، إذا ظهرت أمارات كراهية دخولكم الدار أَزْكى لَكُمْ أطهر و أحسن، و لعل الإتيان بلفظ «الزكاة» لما فيه من نمو النفس بالعفة، و نمو علاقات الحب بين الأفراد وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول قهرا، أو الانصراف عَلِيمٌ فيجازيكم حسب أعمالكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 696

[سورة النور (24): الآيات 29 الى 30]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30)

[30] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي لا حرج و لا ضرر عليكم أيها المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا بدون الاستئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي لم تعد للسكنى كالخانات و الحمامات و الأرصية فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي استمتاع لكم في تلك البيوت، و هذا القيد عام يشمل حتى من يريد التفرج، لأنه يستمتع بذلك، أو المراد منه بيان أنه لا ينبغي للإنسان أن يدخل محلا لا متاع له فيه فإنه لغو وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من الأمور وَ ما تَكْتُمُونَ في أنفسكم و تخفونها، فلا تفعلوا ما يخالف أوامره، و هذه الخاتمة لإيقاظ الضمير، حتى يكون الإنسان على نفسه رقيبا، أليس هو بعين الله الذي يعلم كل ظاهر و خاف.

[31] ثم انتقل السياق من حكم البيوت إلى حكم النظر، و هو مرتبط بقصة الحياة العائلية، كما كان الحكمان السابقان من

حكم الإفك و القذف، و حكم الاستئذان لدخول البيوت مرتبطين بها نوع ارتباط قُلْ يا رسول الله لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أصل الغض النقصان، يقال: غض من صوته و من بصره، أي قلل منهما و نقص، و المعنى غمض العين عما لا يحل النظر إليه، و إنما جي ء بالغض، و «من» لأن الصرف عن الحرام لا يتوقف على الغمض، بل على الغض لبعض البصر بأن لا يمد عينه نحو المحرم وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن تعاطي اللواط و الزنا، و ما أشبه ذلِكَ الغض من البصر، و الحفظ للفرج أَزْكى لَهُمْ أي أطهر عن لوث المعصية، و قد تقدم أن في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 697

[سورة النور (24): آية 31]

وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

أمثال هذا المقام لا يراد التفضيل من نحو «أزكى» و معنى الزكاة الطهارة و النمو، فإن حفظ العين و الفرج موجب لطهارة النفس، و نمو الأخلاق الرفيعة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ أي عالم بِما يَصْنَعُونَ من النظر أو الغض، و تعاطي الحرام بالفرج و الحفظ.

[32] وَ قُلْ يا رسول الله لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ بأن لا يمدنها إلى ما لا يحل

النظر وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ بأن لا يتعاطين الزنا، و ما أشبه، كالسحق و غيره وَ لا يُبْدِينَ أي لا يظهرن عن عمد زِينَتَهُنَ المراد، إما مواضع الزينة كالمعصم، و الأذن، و الرقبة، و الرجل، أو الزينة نفسها، و إذا صار اللفظ محتملا وجب الاجتناب عن الأمرين تحصيلا للبراءة عما علم إجمالا تحريمه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي من الزينة، و الذي أراه ظاهرا من الآية، أنه استثناء عن الإبداء، يعني، أن ما ظهر بغير اختيارهن، ليس عليه بأس، كما إذا هبت الريح فرفعت العباءة و أبدت الزينة وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَ جمع خمار و هو ما تلف المرأة على رأسها خمارا، لأنه يستر الرأس و ما حولها، فإن مادة «خمر» بمعنى الستر، و منه سمي «الخمر» خمرا، لسترها العقل، عَلى جُيُوبِهِنَ الجيب، هو شق الثوب طرف الصدر، و ذلك لئلا يبدو الصدر من الشق، أو المراد به ستر الوجه و الصدر، فإن سدل طرف الخمار إلى الصدر، مستلزم لستر الوجه، و يؤيد ذلك

ما روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: أنه استقبل شاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 698

من الأنصار امرأة بالمدينة، و كانت النساء يتقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها و هي مقبلة، فلما جازت نظر إليها، و دخل في زقاق قد سماه لبني فلان، فجعل ينظر خلفها و اعترض عظم في الحائط أو زجاجة فشق وجهه، فلما مضت المرأة، نظر، فإذا الدماء تسيل على ثوبه و صدره فقال: و الله لآتين رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لأخبرنه، قال فأتاه، فلما رآه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال له ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل بهذه الآية

وَ

لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ أي لا يظهرن الزينة «1»، و قد كرر ذلك تأكيدا، و في الاستثناء دلالة على ما ذكرناه سابقا، في معنى «إلا ما ظهر منها» إذ السياق الواحد إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ أي أزواجهن أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ أي أب الزوج أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَ و يدخل في الآباء الأجداد، و في الأبناء الأحفاد أَوْ إِخْوانِهِنَ سواء كان أخا للأب أو للأم، أو للأبوين أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ فهن عمات لهم أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ فهن خالات لهم أَوْ نِسائِهِنَ أي النساء المؤمنات، أما أن يظهرن زينتهن لنساء اليهود و المجوس و النصارى و سائر الكفار، فقد أفتى جماعة بعدم حله،

قال الصادق عليه السّلام: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين اليهودية و النصرانية، فإنهن يصفن لأزواجهن

«2» أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من النساء الكافرات، فليس

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 521.

(2) الكافي: ج 5 ص 519.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 699

بأس عليهن أن يظهرن زينتهن إلى تلك الإماء، و إطلاق الآية بالنسبة إلى عبيد النساء مقيد بما

ورد عن الصادق عليه السّلام قال: لا يحل للمرأة أن ينظر عبدها إلى شي ء من جسدها، إلا إلى شعرها، غير متعمد ذلك

«1»، أقول: يعني إذا وقعت عينه عليه، و التخصيص بالشعر لأنه الذي يمكن أن يراه العبد غير متعمد، أما سائر الجسد ففي الغالب كونه مستورا أَوِ التَّابِعِينَ أي المولّى عليهم من الحمقى و البله و من أشبههما و قيل لهم تابعين، لأنهم يتبعون غيرهم من الأولياء، ثم بين ذلك بقوله غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ أي غير أصحاب الحاجة في النساء، فإن «الإربة» بمعنى الحاجة مِنَ الرِّجالِ

قال الباقر عليه السّلام في تفسير الآية: هو الأحمق الذي لا

يأتي النساء و قال الصادق عليه السّلام: الأحمق المولّى عليه الذي لا يأتي النساء، و إنما أبيح بالنسبة، إليه، لأنه لا يميز بين المرأة و غيرها، فهو كالحيوان

«2» أَوِ الطِّفْلِ و المراد به الجنس، و لذا جاء صفته بصيغة الجمع الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا أي لم يطلعوا من الظهور بمعنى الاطلاع عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم تميزهم بين العورة و غيرها، أما الطفل الذي قد ظهر فالمفهوم من الآية الحظر منه، و لم يذكر في الآية الأعمام و الأخوال للإنسان، أو الأب أو الأم، قيل لدخولهم في «الإخوان» فإنهم إخوان الأب و الأم، و قيل لفهم ذلك- عكسيا- من بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، فإذا حل نظر الولد على عمته و خالته، حل نظر العم

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 531.

(2) وسائل الشيعة: ج 20 ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 700

[سورة النور (24): آية 32]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 3 742

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)

و الخال إلى بنت الأخت و بنت الأخ وَ لا يَضْرِبْنَ النساء بِأَرْجُلِهِنَ على الأرض ضربا شديدا ليصوت الخلخال فيعلم أي يعلم الرجل الأجنبي ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ فإن ذلك يورث تهيجا في الرجال، و هل هذا حرام أو مكروه؟ احتمالان وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فيما تفرطون من مخالفة المحرمات، و بالأخص محرمات النظر، فإنه كثير الحدوث لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بسعادة الدارين ..

[33] و بمناسبة حكم النظر و حفظ الفرج يأتي السياق ليبين بعض الأمور المرتبطة بالنكاح وَ أَنْكِحُوا أيها المسلمون الْأَيامى مِنْكُمْ جمع «أيم» و هو

الرجل الذي لا زوج له، و المرأة التي لا زوج لها، و المعنى زوجوا أيها المؤمنون رجالكم الذين لا زوجات لهم، و نسائكم اللاتي لا أزواج لهن.

و قد قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تناكحوا، تناسلوا، تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة و لو بالسقط «1»

و قال الإمام الصادق عليه السّلام: ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب «2»

وَ انكحوا الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ أي الذين هم

______________________________

(1) جامع الأخبار: ص 101.

(2) الفقيه: ج 3 ص 384.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 701

[سورة النور (24): آية 33]

وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)

صالحون من العبيد و الإماء، و هل المراد بالصالحين البالغون الذين يصلحون للنكاح، أو الصالحون من حيث الدين بأن يكونوا مسلمين، أو أن تكون أعمالهم صالحة؟ احتمالات إِنْ يَكُونُوا أولئك الأيامى و العبيد و الإماء، فُقَراءَ و تخشون زيادة فقرهم بالنكاح، فاعلموا أنه ليس كذلك بل يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و هذا كذلك حسب التجربة، و حسب الموازين الاجتماعية، فإن المتزوج الذي يعلم أن وراءه النفقة يجدّ أكثر من العزب، كما أن الناس يعطفون عليه أكثر من عطفهم على غيره، هذا مع الغض عن أن يدين عاملتين تأتي بأكثر من ضعف إنتاج يد واحدة، و إن الله سبحانه يوسع بالطرق الغيبية وَ اللَّهُ واسِعٌ لطفه، و هو مجاز

من باب نسبة الشي ء إلى سببه في اللطف و الرزق، و إنما نسب إلى الله تعالى، لأنه السبب عَلِيمٌ بأحوال الناس، فيعلم حال الفقير و يتفضل عليه.

[34] وَ لْيَسْتَعْفِفِ الاستعفاف هو التعفف بمنع النفس عن الشي ء المرغوب فيه، و لعل الإتيان بالفعل من باب الاستفعال للتنبيه على طلب العفة، و إن كانت النفس تائقة شائقة الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي ما يتوصل به إلى النكاح من المهر و النفقة و الزوجة المناسبة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بأن يوسع عليهم ما به يتمكنون من الزواج، و لا يدخلون في الفاحشة فإن الصبر و إن كان مرا لكن عاقبته حميدة، و هناك من العبيد من يتمكن من الزواج إن كان حرا لأنه يعمل و يكتسب ما يكفيه و عائلته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 702

و لا يتمكن من الزواج و هو تحت رق المولى لأن مولاه فقير لا يملك إعالته و إعالة زوجته، و لذا يحاول أن بفك نفسه بالمكاتبة حتى يتحرر فيتزوج، و المكاتبة هي أن يكتب المولى و العبد كتابا على أن العبد إن دفع إلى مولاه المقدار الكذائي من المال صار حرا، و له أقسام و أحكام، و إذا طلب العبد ذلك ندب قبول طلبه و مكاتبته.

وَ العبيد الَّذِينَ يَبْتَغُونَ و يطلبون الْكِتابَ أي المكاتبة لتحريرهم مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «مما» بيان ل «الذين» أي من العبيد و الإماء فَكاتِبُوهُمْ و جي ء من باب المفاعلة، لأن كل واحد من المولى و العبد يمضي ورقة الكتابة و الاشتراط إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي صلاحا و رشدا يقدرون بذلك على الوفاء بمال الكتابة وَ آتُوهُمْ أي اعطوا أولئك العبيد المكاتبون مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ بأن

يخفف المولى شيئا من المال المقرر، فإن قرر ستة آلاف أخذ منه خمسة و عفى عن ألف، أو إن الخطاب عام بأن يعين الناس المكاتبين ليخلصوا من الرق، و قد قرر الله سبحانه إعطاء المكاتبين من الزكاة كما قال سبحانه: (وَ فِي الرِّقابِ) «1» وَ إذ كان الكلام حول العفاف و الطهر و النكاح و توابعه، جاء النهي الأكيد بالنسبة إلى الذين يكرهون فتياتهم على الزنى ليأخذوا أجره و لا تُكْرِهُوا أيها الرجال

______________________________

(1) البقرة: 178.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 703

[سورة النور (24): آية 34]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

فَتَياتِكُمْ أي الفتيات المرتبطة بكم، و هي عامة لفظا تشمل كل فتاة مرتبطة بالإنسان سواء كانت أمة أم قريبة أم بعيدة، و من الجاهلية التي أعيدت في هذا العصر أجبر بعض الرجال الأسافل بعض نسائهم على البغاء لتحصيل منصب أو مال أو ما أشبه عَلَى الْبِغاءِ أي على الزنى، في المجمع قيل: أن عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى، فلما نزل تحريم الزنى أتين رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشكون إليه فنزلت هذه الآية، و روى القمي- كما في الصافي- عموم ذلك إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا و حصانة عن الزنى، و لا مفهوم للآية، بل المقصود أن الفتاة مع نقص عقلها و كثرة شهوتها إذا لم ترد البغاء فالمولى أحق بعدم الإرادة و الامتناع، فكيف يكره الرجل الفتاة و هي تكره و لا تريد؟ لِتَبْتَغُوا أي تحصلوا بذلك عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي المال الذي هو عرض زائل وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ لعل المعنى من

كان يكرههن في زمان الجاهلية فلا ييأس من روح الله، فإنه إذا آمن و تاب فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ على الزنى- مما قد سلف- غَفُورٌ يغفر سيئاته رَحِيمٌ يتفضل عليه، أو المراد إن كرهت امرأة و زنت عن إكراه فإن الله غفور لها، فقد رفع الإكراه في هذه الأمة، كما ورد في حديث الرفع و غيره.

[35] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ أيها المؤمنون آياتٍ أي أدلة و براهين للأحكام مُبَيِّناتٍ قد أوضحت إيضاحا لا لبس فيها و لا غموض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 704

[سورة النور (24): آية 35]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35)

وَ أنزلنا إليكم مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ حيث ظهر من ذلك المثل- و المراد به الجنس- أن الأمم السابقة لما تعدت و عصت أخذت بأنواع العذاب، لتعتبروا بذلك المثل وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و إنما خص الموعظة بهم، لأنهم الذين ينتفعون بالعظة.

[36] و إذا ذكرت الآيات السابقة الأحكام الأخلاقية الاجتماعية المرتبطة بالطهارة و النزاهة للعين و الفرج و اللسان، و سمت بالإنسان من الآفاق المظلمة إلى الآفاق المنيرة، ناسب ذلك التحدث عن عالم النور، عالم الإله الذي أنار كل شي ء بنور وجهه فقال تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و النور هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره، و هكذا الله سبحانه ظاهر في نفسه مظهر لغيره، بل أن النور الخارجي رشحة من

نوره سبحانه الذي غمر الكون، و أظهر كل شي ء و أوجد كل موجود مَثَلُ نُورِهِ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليدركه الإنسان بقدر حسه كَمِشْكاةٍ لقد كان الناس في الماضي يخرجون كوة في الحائط ثم يجعلون على تلك الكوة لوحا من الزجاج ثم يجعلون المصباح- و هو محل الزيت و الفتيلة- في زجاجة- تسمى بالفانوس- ثم يجعلون تلك الزجاجة في الكوة، و إنما يجعلونها في الكوة ليشع من المصباح الضياء في الداخل و الخارج، و من المعلوم أن نور المصباح إذا أشرق على الزجاج، و كان منحصرا في كوة لا ينتشر كان ضياؤه قويا جدا، و بالأخص إذا كان الزيت نقيا جيدا، إن مثل هذا النور هو مثل نور الله سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 705

و اختلف في لفظ المشكاة هل أنها عربية أو غير عربية؟ فِيها أي في تلك المشكاة مِصْباحٌ و هو السراج الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ و هي «الفانوس» المصنوع من ألواح الزجاج الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ أي الكوكب المضي ء الذي يشبه الدر في ضيائه و صفائه يُوقَدُ ذلك المصباح مِنْ زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أي كثيرة البركة و هي زَيْتُونَةٍ التاء للإفراد، نحو شجر و شجرة، و تمر و تمرة، و خص ذلك لأن دهن الزيت أصفى من سائر الأدهان فيكون نور المصباح الذي أوقد به أحسن و أكثر إضاءة لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ أي أن منبتها في محل وسط فهي ضاحية للشمس تشرق عليها طول النهار، فليست في طرف الشرق حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، و لا في طرف الغرب حتى لا تصيبها الشمس إذا شرقت، فإن الغالب أن الشي ء إذا كان في طرف كان هناك مانع عن إشراق

الشمس عليه إذا كانت في طرف مقابل له يَكادُ زَيْتُها أي زيت هذه الشجرة يُضِي ءُ و ينير وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ أي أن الحاصل من مثل هذا المصباح نور مضاعف، بسبب تلك الأمور المذكورة يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي نور هذا المصباح مَنْ يَشاءُ من السائرين فإنهم إذا رأوا المصباح بهذه الكيفية المضيئة يهتدون إلى الطريق، و لا يبقون حائرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 706

[سورة النور (24): آية 36]

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (36)

في الصحراء، لا يعرفون طريقا، و لا يهتدون سبيلا، و من المحتمل أن يكون ضميره «لنوره» عائدا إلى الله، بأن يكون التمثيل إلى قوله «على نور» أي إن الله يهدي إلى نوره الذي ضرب له المثل من يشاء ممن اتبع الحق و لم يعاند وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ كما ضرب هذا المثل، لبيان نور ذاته، تشبيها للمعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان، و إلا فلا مثل ينطبق تمام الانطباق عليه سبحانه، و لذا قال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) «1» وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم الأمثال المناسبة، التي توجب علما و فقها للناس، تقربهم إلى الحق و تبعدهم عن الباطل، و قد ورد روايات لتطبيق الآية على أهل البيت عليهم السّلام و هي من قبيل التأويل أو ذكر المصاديق و التطبيقات «2».

[37] إن ذلك المصباح المتصف بتلك الصفات إنما هو فِي بُيُوتٍ عامرة بالتقوى ليضاف النور المعنوي إلى النور الظاهري، فإن مثل نور الله نور المصباح الموضوع في المسجد، كيف أن الإنسان يبهره ذلك النور المتلألئ الساطع من أقدس الأماكن و أطهرها، كذلك نور الله سبحانه

أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ رفعا ظاهريا ببناء جدرانها رفيعة شامخة، و رفعا معنويا بأن تحترم و تقدر و تطهر من الأرجاس، و قد ورد في بعض الأحاديث أن بيوت الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام من تلك البيوت «3» وَ يُذْكَرَ فِيهَا أي في تلك البيوت اسْمُهُ الله تعالى في مقابل بيوت الكفار

______________________________

(1) النحل: 75.

(2) بحار الأنوار: ج 4 ص 18.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 23 ص 327.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 707

[سورة النور (24): آية 37]

رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (37)

التي لم يأذن الله أن ترفع إذ من المكروه بناء دار الكافر أعلى من دار المسلم- كما قالوا- و بيوت النيران و المراحيض التي كره ذكر الله فيها بالصلاة و نحوها، و حيث إن الأرض لله، و الذكر مرتبط به سبحانه، كان ترفيع البيت و ذكر اسمه تعالى بحاجة إلى الإذن، و تلك البيوت تتصف بأنها يُسَبِّحُ لَهُ أي لله فِيهَا أي في تلك البيوت بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع أصيل، و هو طرف العصر، و إتيان «الغدو» مفردا جنسا، و الآصال جمعا من التفننات البلاغية.

[38] رِجالٌ هم المؤمنون لا تُلْهِيهِمْ أي لا تشغلهم، من التلهي، بمعنى: الاشتغال، و منه يسمى اللهو لهوا تِجارَةٌ هو مطلق الاكتساب و لو بالرهن و المزارعة و نحوهما وَ لا بَيْعٌ و كان تخصيصه لشيوعه بين أنواع التجارات عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سبحانه وَ إِقامِ الصَّلاةِ أي عن إقامة الصلاة، أصله «إقامة» و الهاء عوض عن «الواو» في «أقوام» لأنه مصدر باب الأفعال، فلما أضيف إلى الصلاة قام المضاف إليه

مقام العوض، و لذا حذف و إن جاز «إقامة الصلاة» أيضا وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ إعطائها أي إن أولئك الرجال بهذه الأوصاف حتى إن ذكر الله و العمل بمرضاته لديهم أهم من الاشتغال بمال الدنيا و أعراضها الزائلة، خلافا لكثير من الناس الذين يشتغلون بالدنيا عن الآخرة يَخافُونَ يَوْماً هو يوم القيامة تَتَقَلَّبُ فِيهِ أي في ذلك الْقُلُوبُ أي يتوجه القلب تارة إلى هنا و أخرى إلى هناك وَ الْأَبْصارُ فتنظر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 708

[سورة النور (24): الآيات 38 الى 39]

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)

العين هنا و هناك، و هكذا عادة الخائف الوجل يفكر في مخلص و نجاة و يتوجه إلى هنا و هناك كي يرى ملاذا و شفيعا و مستندا.

[39] و إنما يفعل أولئك الرجال تلك الأفعال لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا و هي الطاعات، إنهم يترقبون جزاء طاعاتهم، و الطاعة هي أحسن ما عمله الإنسان من الطاعات و المباحات و المكروهات، أو المراد يجزيهم بأحسن مما عملوا، فقد عملوا- مثلا- ما يستحقون به دينارا، فيترقبون إعطاءهم عشرة حسب وعده بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» وَ يَزِيدَهُمْ على ذلك الجزاء مِنْ فَضْلِهِ و زيادته كما قال (وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) «2» وَ اللَّهُ يَرْزُقُ أي يمنح و يعطي مَنْ يَشاءُ من أحسن بِغَيْرِ حِسابٍ كثيرا زائدا، لا يدخل تحت حساب الإنسان، أو المراد يتفضل على الإنسان، فلا يكون فضله مجازاة على

عمل و إنما مجانا و تفضلا.

[40] و بمناسبة ذكر أحوال الرجال الصالحين و ما يجزون من الثواب في الآخرة يأتي ذكر الكفار و ما يلاقون من العذاب على كفرهم وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله و اليوم الآخر أَعْمالُهُمْ التي يعملونها و يعتقدون أنها حسنات كَسَرابٍ هو الحادث في الصحاري وقت الظهر من انعكاس أشعة الشمس على الهواء حتى يظن الإنسان- من بعد- أنه ماء بِقِيعَةٍ

______________________________

(1) الأنعام: 161.

(2) البقرة: 262.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 709

[سورة النور (24): آية 40]

أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

الباء حرف جر، وقيعة جمع قاع و هو الواسع من الأرض المنبسطة، و لعل الإتيان بالجمع، لتعدد الصعد التي يعمل الإنسان الكافر أعماله فيها، في صعيد العبادة للأصنام و في صعيد الإنفاق، و في صعيد الإحسان إلى الأرحام، و هكذا يَحْسَبُهُ أي يحسب ذلك السراب الظَّمْآنُ الذي عطش كثيرا ماءً و تخصيص الظمآن بالذكر، مع أن السراب يتراءى لكل أحد، من جهة أن الظمآن هو الذي يرجوه، فإذا جاءه لم يجده، و يخيب رجاءه في أحرج حالاته حَتَّى إِذا جاءَهُ أي ذهب إلى ذلك السراب ليشرب منه- بظن أنه ماء- فيطفئ عطشه لَمْ يَجِدْهُ أي لم يجد ما زعمه ماء شَيْئاً إذ هو خيال الماء، لا الماء ذاته، و هكذا الكافر يحسب أن له أعمالا خيرة في الآخرة ينتفع بها في أحرج ساعاته، فإذا ذهب إلى الآخرة لم يجد أثرا من أعماله وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله المزعوم أنه باق

له، و المعنى أنه حيث كان يرجو الخير، يرى الحساب و النكال فَوَفَّاهُ أي أعطاه الله وافيا حِسابَهُ الموجب لجزائه على أعماله السيئة في الدنيا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا تعطيل هناك في حساب الخلائق على كثرتهم، و إنما يحاسب سبحانه الجميع في مقدار نصف ساعة- كما ورد- أو المراد سرعة زوال الدنيا و وصول الناس إلى جزاء أعمالهم.

[41] لقد كان المثال الأول للكافر بالنسبة إلى الشخص حال ظمأه يريد الارتواء، و يأتي السياق بمثال ثان لحال الكافر بالنسبة إلى وقت ضلاله يريد الاهتداء و النور فلا يجد، كالإنسان الذي ركب السفينة، فجاء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 710

سحاب و أظلم الآفاق، و ارتفعت الأمواج التي تغمر السفينة، فلا يهتدي سبيلا لينقذه من هذه الهلكة أَوْ كَظُلُماتٍ أي أن أعمالهم كظلمات، بينما أعمال المؤمنين كأنوار تهديهم الطريق، كما قال سبحانه (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ) «1» فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ فالوقت ليل مظلم، و المكان بحر عظيم اللجة لا يرى ساحله، من «لجة» البحر و هي معظمه يَغْشاهُ أي يعلو ذلك البحر اللجي مَوْجٌ و ذلك حين تهب العواصف فتحمل الماء على متنها كالجبال و هو خليط من ماء و هواء مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي فوق ذلك الموج الأول موج آخر، إذ العاصفة إذا هبت كونت موجا و يمشي هذا الموج بسرعة سير العاصفة، فإذا جاءت عاصفة ثانية كونت موجا ثانيا، و ربما يركب الموج الثاني على الموج الأول إذا كانت العاصفة الثانية أشد و حملت موجا كبيرا، أكبر من الموج الأول.

مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ حتى لا يرى بصيص من ضياء القمر و النجوم، حتى يكون الإنسان في وسط ذلك تغشاه ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ

ظلمة البحر المنعكسة في الهواء، و ظلمة الموج الأول، و ظلمة الموج الثاني، و ظلمة السحاب و ظلمة الليل، حتى أن الإنسان في تلك الظلمة إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ من تحت ثيابه لَمْ يَكَدْ يَراها أي

______________________________

(1) الحديد: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 711

[سورة النور (24): آية 41]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41)

لا يقرب رؤيتها لشدة الظلمات، إن لهذا الإنسان كيف حاله في عدم اهتداء الطريق للخلاص و النجاة، كذلك حال الكافر الذي وقع في وسط أعماله المظلمة المتراكمة عليه، فإنه لا يهتدي إلى طريق الهدى، و يكون مصيره الهلاك وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً يهتدي به إلى السعادة، و إنما لم يجعل له نورا لأنه أعرض عن الهدى، فحرم الضياء فَما لَهُ مِنْ نُورٍ لأن الله هو نور السماوات و الأرض، فإذا حرم إنسانا من نوره، لم يكن هناك نور آخر يستنير به الكافر.

[42] و من عجيب أمر الكفار أنهم يغمضون عيونهم في هذا الجو الذي حواهم يأسا بآيات الله سبحانه أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، أو: أيها الرائي، و المراد بالرؤية العلم، أي ألم يصل علمك إلى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ تسبيحا تكوينيا مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و إنا لنرى من في الأرض ينزه خلقهم الله سبحانه عن التعطيل و العجز و الجهل و سائر الصفات السيئة.

و لا بد أن يكون من في السماوات كذلك بالفطرة و الوجدان، فهو مثل أن يقال: ألم تعلم أن النار في «الصين» تحرق، فإن الإنسان يعلم ذلك بالقياس الفطري، أو المراد وصول

العلم إليهم بواسطة الأنبياء عليهم السّلام الذين بينوا أن الملائكة يسبحون الله سبحانه، و لعل المراد ب «من» الأعم من العقلاء، و إنما جي ء ب «من» تغليبا للعقلاء على من سواهم وَ يسبح الطَّيْرُ في حال كونها صَافَّاتٍ أي واقفات في الجو مصطفات الأجنحة في الهواء، و تسبيحها تنزيهها و دلالتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 712

[سورة النور (24): الآيات 42 الى 43]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43)

على وجود خالق قادر عليم حكيم، و كان تخصيص الطير بالذكر إلفاتا إلى هذا المشهد المكرر المدهش إذا فكر الإنسان فيه، فكيف أن الطير الثقيل لا يقع على الأرض، و هو واقف في الجو، بدون رفيف و حركة، و حيث أن المراد بالطير الجنس جي ء بضميرها مؤنثا كُلٌ من في السماوات و الأرض و الطير قَدْ عَلِمَ الله سبحانه صَلاتَهُ أي خضوعه لله وَ تَسْبِيحَهُ تنزيهه له، تكوينيا، أو بألسنتها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ من الأعمال، فعلمه تعالى واسع شامل لكل شي ء.

[43] وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق، كما أنه العالم المطلق وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إلى حسابه و جزائه مآل الكل و مرجع الجميع فهو المبدئ المعيد العالم المالك! و بعد هذا كيف يكفر الإنسان بهذا الإله العظيم؟ إنه لمدهش حقا.

[44] أَ لَمْ تَرَ أي رؤية بالبصر، أو بالعلم، و المخاطب النبي صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم أو كل من يأتي منه الرؤية أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً الإزجاء الدفع و السوق، أي يسوق من هنا و هناك ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بين أجزاء ذلك السحاب المتفرق الآتي من هنا و هناك ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه على بعض، حتى يتكون منه سحاب كثيف ذو ارتفاع و كثافة فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ و ثناياه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 713

[سورة النور (24): الآيات 44 الى 45]

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها أي جبال السحاب التي في السماء، و الإنسان إذا ركب الطائرة يرى السحاب مثل الجبال في جميع مزاياها، حتى لو لم يعلم الإنسان لظنها جبالا حقيقية، كما شاهدنا ذلك حينما رجعنا من مكة المكرمة إلى دمشق مِنْ بَرَدٍ أي الثلج بأنواعه المختلفة و «من» بيانية للمنزل المفهوم من الكلام، أي ينزل منزلا من جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي بذلك الودق أو البرد مَنْ يَشاءُ من عباده وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ فلا ينزل المطر عليهم و لا يأتي إليهم البرد يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي يقرب برق السحاب من أن يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ فيعمي العين و يخطفها لشدة لمعانه، فمن يا ترى جعل كل ذلك مما لا يقدر على جزء صغير منه البشر بكل قواه و وسائله؟.

[45] يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ أي يأتي بهذا و بذاك، كالإنسان الذي يقلب الدرهم

في كفه فتارة يظهر وجهه و أخرى يظهر ظهره إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب لَعِبْرَةً أي اعتبار و دلالة على وجود الله سبحانه و سائر صفاته لِأُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب بصر القلب، أما من لا يعتبر فهو أعمى لا بصر له.

[46] وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي كل حيوان يدب على وجه الأرض، و المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 714

[سورة النور (24): آية 46]

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

الأعم لأن ما لا تدب أيضا كذلك، و قد جرت العادة بإتيان جملة دلالة على الكل مِنْ ماءٍ الظاهر أن المراد الماء مطلقا لا خصوص المني- ليشمل مثل الحيوانات التي تتولد من مجرد الماء، كالعقرب التي تتولد من الأرض الندية- إذ صح أن الولادة من مجرد الماء، بدون أن تكون هناك بذور- فَمِنْهُمْ أي من الدواب مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالدود و الحية وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان و الطيور وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالأنعام و الوحوش، و كان هذا من باب المثال، و إلا فمنهما من لا تمشي أو تمشي على أكثر من أربع، و لعل الإتيان بما للعاقل من ضمير «منهم» و لفظة «من» تغليبا للإنسان على غيره، مع اقتضاء وحدة السياق لسوق الجميع بهيئة واحدة يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ من أنواع الحيوانات إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و هل هناك على عموم قدرته سبحانه من هذه المخلوقات المختلفة، التي يعجز جميع البشر من خلق واحدة منها؟.

[47] لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ أي أدلة دالة على وجودنا مُبَيِّناتٍ واضحات ظاهرات وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ممن قبل الهداية ابتداء إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فإنّ الإرشاد إذا

جاء، فقبل بعض الأفراد، أوصلهم الله سبحانه الطريق المستقيم أما من لم يقبل الإرشاد فيتركه سبحانه في ضلاله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 715

[سورة النور (24): الآيات 47 الى 48]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)

[48] و حيث تقدم ذكر المؤمنين و ذكر الكافرين يأتي السياق لبيان ما ينبغي أن يتصف به المؤمنون من الإذعان لكل أوامر الله و الرسول وَ يَقُولُونَ أي بعض الناس آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ و اعتقدنا بهما وَ أَطَعْنا في أعمالنا لهما ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض بعض هؤلاء المدعين للإيمان، عن الأوامر مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الإظهار للإيمان و الإطاعة وَ ما أُولئِكَ الذين يتولون و يعرضون عن الطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ إذ كيف يكون مؤمنا صحيح الإيمان من يعرض عن أحكام الإله؟ و قد ورد (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) «1».

[49] وَ إِذا دُعُوا أي دعاهم طرف النزاع معهم في قضايا المرافعات إِلَى اللَّهِ لينظروا ماذا في كتابه من الأحكام ليجعلوه حكما بينهم وَ رَسُولِهِ ليفصل القضية حسب الشريعة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هؤلاء القائلين بأنهم مؤمنون مُعْرِضُونَ عن الخضوع للكتاب و للرسول، و كأن الإتيان بلفظة «إذا» لإفادة المفاجآت، كأن هذا كان مفاجأة أن يعرض عن الله و الرسول من يدعي الإيمان و الإطاعة.

______________________________

(1) النساء: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 716

[سورة النور (24): الآيات 49 الى 50]

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ

يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

[50] وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ أي علموا بأن الرسول يعطي الحق لهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى الرسول مُذْعِنِينَ منقادين لقضائه و حكمه، إما حيث علموا أن الحق ليس لهم أعرضوا عن إتيان الرسول، يريدون أن يذهبوا إلى من يعطي لهم الحق- و إن كان باطلا في نظر الواقع-.

[51] أَ فِي قُلُوبِهِمْ استفهام توبيخي، أي هل في قلوب هؤلاء المعرضين عن حكمك يا رسول اللّه مَرَضٌ أي نفاق و ريب في نبوتك أَمِ ارْتابُوا بعد أن آمنوا، بأن شكوا في عدلك و قولك بالحق أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ أي يجور الله عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في الحكم، بأن لم يشكوا في نبوتك و لم ينافقوا، و إنما يخافون من جور الحكم، كما هو شأن ضعاف الإيمان بَلْ لم يخافوا جور الحكم، و إنما أُولئِكَ المعرضون هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم حيث تولوا عن حكم الله و الرسول،

و قد ورد أن هذه الآيات نزلت في منازعة وقعت بين الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و عثمان بن عفان، و ذلك أنه كان بينهما منازعة في حديقة فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: نرضى برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عبد الرحمن بن عوف لعثمان: لا تحاكم إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنه يحكم له عليك و لكن حاكمه إلى ابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال عثمان لأمير المؤمنين عليه السّلام: لا نرضى إلا بابن شيبة اليهودي فقال ابن شيبة لعثمان:

تأتمنون رسول اللّه على وحي السماء و تتهمونه في الأحكام؟ فأنزل الله عز و جل على رسوله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 717

[سورة النور (24): الآيات 51 الى 53]

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)

«و إذا دعوا» الآيات «1».

[52] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ الصحيحي العقيدة و الإيمان إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إلى كتاب الله، و رسوله- فيما كان في الحياة- أو سيرته بعد وفاته لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي يقضي بينهم في الخصومات أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا قول الله و الرسول وَ أَطَعْنا أوامرهما وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[53] وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي وَ يَخْشَ اللَّهَ أي يخاف من عقابه إذا خالف وَ يَتَّقْهِ أي يتقي الله، و الفرق بينهما أن الخشية أمر قلبي، و الاتقاء عمل خارجي، و الخشية تنجر إلى التقوى فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون بسعادة النشأتين.

[54] و بمناسبة الحديث عن المخالفين لأوامر الرسول يأتي الحديث عن بيان كذبهم في القول حتى فيما يحلفون على طبعه وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي حلفوا به جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أغلظ أيمانهم، الذي كان على قدر جهدهم و منتهى طاقتهم، و «جهد» منصوب على المصدر أي يجهدون جهدا في إيمانهم لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج للقتال لَيَخْرُجُنَ و لكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 227.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 3، ص: 718

[سورة النور (24): آية 54]

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54)

هل ذلك صحيح؟ كلا! إنهم لم يرضوا بالمحاكمة فكيف يرضون بإزهاق أنفسهم في القتال؟

قُلْ يا رسول الله لهم لا تُقْسِمُوا على إطاعتكم طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إما أن يكون هذا تهكما، أي أن طاعتكم معروفة، كما تقول للذي يحلف كاذبا إنه عمل كذا من الخير: لا تحلف، أعمالك الخيرية معروفة، أو المراد لا تأت بالحلف، و إنما أطع، فإطاعتكم طاعة معروفة حسنة خير من حلفكم و قولكم، كما تقول لمن يحلف أنه ينصرك: لا تحلف، انصر، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فهو يعلم أنكم لا تطيعون و إنما تحلفون حلفا مجردة عن العمل.

[55] قُلْ يا رسول الله لهم أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم في القرآن الحكيم وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما يأمركم و ينهاكم، و هذا شامل لسنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الطاعة، أصله «تتولوا» و هو خطاب لهم، حذفت إحدى تاءيه على ما هو القاعدة في ما إذا اجتمع تاءان في فعل المضارع فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ و كلف من البلاغ و أداء الرسالة وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة و الاتباع، أي أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير مسئول عن إعراضكم فقد أدى ما عليه من الهداية و الإرشاد، و إنما الوزر عليكم حيث خالفتم وَ إِنْ تُطِيعُوهُ أيها المسلمون تَهْتَدُوا إلى الرشد و الصلاح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 719

[سورة النور (24): آية 55]

وَعَدَ اللَّهُ

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)

وَ ما عَلَى الرَّسُولِ أي ليس الواجب عليه إِلَّا الْبَلاغُ أي تبليغكم الأحكام الْمُبِينُ أي بلاغا واضحا ظاهرا لا لبس فيه و لا غموض.

[56] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أيها المسلمون وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن صحّت عقيدتهم و عملهم و لعل الإتيان بلفظ «منكم» للتشريف بأن الوعد لهم، و إلا فالوعد عام يشمل كل مؤمن عامل بالصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلهم خلفاء لمن سبقهم، فيكونون سادة و ملوكا عقب الكفار الذين ملكوا الأرض و سادوا البلاد كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما جعل الله المؤمنين من الأمم السابقة خلفاء الكفار في سيادة البلاد، كما استخلف بني إسرائيل مكان الملوك الكافرة، و كما استخلف النصارى مكان اليهود، فصاروا سادة، و كذلك المسلمون إذا آمنوا إيمانا صحيحا و عملوا الصالحات يستخلفهم الله سبحانه في مكان الكفار ليكونوا هم ملوك الأرض و سادتها عوض الكفار، و قد أنجز الله هذا الوعد- كما يدل على ذلك التاريخ الإسلامي- بل لقد رأينا أن من بركة أولئك المؤمنين العاملين للصالحات، وصل ملك الأرض إلى من كان في زي الإسلام، و إن كان الإسلام منه بمعزل. وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي يمكنهم من إقامة دينهم الذي هو الإسلام، أو المراد يمكن دينهم بأن يجعل له مكنة و قوة ليظهر على جميع الأديان، و يغلب عليها، فتذهب الأديان و تضمحل و يأخذ هذا الدين مكانها، و ارتضى لهم أي

اختاره

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 720

[سورة النور (24): آية 56]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

لهم دينا وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فقد كانوا يخافون الكفار من إظهار دينهم و إعلام شعائره، لكن الله سبحانه- إذا آمنوا صدقا، و عملوا الصالحات- يجعلهم سادة حتى لا يخافون أحدا، فيتبدل خوفهم بالأمن، و هؤلاء يَعْبُدُونَنِي عبادة صادقة لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً فالخضوع له سبحانه، لا للمال و المنصب و الشهوات و ما أشبهها، إن من يمكنه الله في الأرض هو المتصف بهذا الوصف وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ الذي مكنه الله سبحانه في الأرض، بل خرج عن طاعة الله سبحانه بعد أن هيأ له الجو و مهد له البلاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن الحدود، فإن الفسق بمعنى الخروج، لأنهم خرجوا عن الشرط، و كأنه تهديد بالزوال، إذ من خرج عن الشرط هدد ملكه بالزوال، و قد رأينا ذلك في تاريخ الإسلام حين كفر الملوك بنعمة الله، و خرجوا عن أمره و شرطه، حيث انساقوا وراء الشهوات، و إذا بهم يخرجون عن الأرض، و تطوى سيادتهم و ملكهم، و قد وردت أحاديث كثيرة في أن الآية إنما هي في شأن الإمام المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه، و في شأن شيعة أهل البيت، و من المعلوم أن ذلك من أظهر مصاديق هذه الكلية المذكورة في الآية.

[57] و إذ كان الشرط العمل الصالح يذكر السياق بعض أقسامه المهمة بقوله تعالى وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بحدودها و آدابها وَ آتُوا أي أعطوا الزَّكاةَ إما المراد الزكاة المفروضة أو مطلق الصدقة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 721

[سورة النور (24): الآيات 57 الى

58]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في كل ما يأمركم به لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله سبحانه و يتفضل عليكم جزاء أعمالكم.

[58] و إذ تقدم وعد الله لعباده الصالحين باستخلافهم الأرض ذكر أنه ليس الكفار أعجزوه سبحانه فلم يتمكن منهم، و إنما ذلك امتحان لأيام قلائل حتى يصيروا إلى النار لا تَحْسَبَنَ أي لا تظنن يا رسول الله، أو من يأتي منه الظن الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي قد أعجزونا عن أخذهم و إزالتهم و الانتقام منهم وَ مَأْواهُمُ النَّارُ أي مستقرهم و مصيرهم من «أوى» بمعنى اتخذ المأوى وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى النار المعدة للكفار.

[59] و من أدب العائلة أن يكون للزوجين أوقات خلوة، لا يدخل عليهم من الخدم و الأطفال أحد إلا بعد الاستئذان، فقد تقدم لزوم الاستئذان لمن في خارج البيت إذا أراد الدخول، و هنا يبين السياق لزوم الاستئذان لمن في داخل البيت إذا أراد الدخول في غرفة العائلة، و ذلك في ثلاثة أوقات، هي قبل وقت صلاة الفجر، و قبل وقت صلاة الظهر أو بعده، و بعد وقت صلاة العشاء حيث أن في هذه الأوقات يستريح الإنسان، و كثيرا ما تبدو العورات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أي يلزم أن

يطلبوا الإذن منكم إذا أرادوا الدخول في غرفتكم الخاصة و محل استراحتكم الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم العبيد و الإماء، و نسبة الملك إلى اليمين لأن اليد- و بالأخص اليمين- هي العضو الكثير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 722

العمل الذي يكتسب حتى ينفق الإنسان الثمن في شراء العبد وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأطفال المميزين، أما سائر الناس كالأولاد الكبار و الأقرباء الذين يجمعهم دار واحدة، فقد سكتت عنهم الآية لوضوح أنهم مردوعون ذاتا عن اقتراف الدخول بلا استئذان، كما سيفهم من الآية الآتية. ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في كل يوم مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ حيث الإنسان في فراش النوم، أو يبدل ثوبه للخروج وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ بعد الرجوع إلى الدار مِنْ بعد الظَّهِيرَةِ و المراد إما وقت القيلولة قبيل الظهر و إما وقت المنام بعد الظهر وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ حيث يخلع الإنسان ثيابه للمنام، هذه ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ و إنما سمي الأوقات بالعورة، لانكشاف العورة في هذه الأوقات غالبا، من باب الإسناد إلى السبب، فالأوقات مبدية للعورة، لا أنها عورة، أو من باب الإسناد إلى الظرف، فالأوقات ظرف لظهور العورة، و لا يخفى أن الملاك موجود في غير هذه الأوقات الثلاث فيما جرت العادة بالخلوة فيها لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيها المؤمنون وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ أي الخدم و الغلمان بَعْدَهُنَ أي فيما بعد هذه الأوقات الثلاثة و المراد ببعدهن، سائر الأوقات، لا خصوص بعد المقابل لقبل، نحو «من بعد الله» طَوَّافُونَ الطائف هو الذي يختلف إلى مكان، و منه سمي الطواف و السعي، في الحج، طوافا عَلَيْكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 723

[سورة النور (24): آية 59]

وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ

مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)

أولئك الخدم و الغلمان، و يظهر من الآية، أن الجناح في الأوقات الثلاثة ليس خاصا بالطائف، بل جناح على الزوجين أيضا، كما أن الظاهر من الآية عموم الحكم حتى بالنسبة إلى غير الزوجين ممن يخلو بنفسه في غرفته، لإطلاق الآية، و وجود العلة بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي طواف بعضكم و هم الخدم و الغلمان على بعض و هم الزوجان و من إليهما، و لعل الإتيان بهذه الجملة للإشارة إلى أنه لا ينبغي التحشم في غير الأوقات الثلاثة، ألستم جميعا بعض من كل؟ و هذا لبيان الأدب المتوسط بين الإفراط لمن يأذن حتى في هذه الأوقات- كما نرى عند بعض الجاهلين في هذا الزمان- و بين التفريط لمن لا يأذن حتى في غير هذه الأوقات ترفعا و أنفة، أو المراد طوافكم عليهم لطلب الحاجة و التربية، و طوافهم عليكم للخدمة، و كما بين الله لكم هذا الحكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام و الآداب وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما هو صلاحكم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى عنه.

[60] وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها المؤمنون و التخصيص ب «منكم» لأن العبيد إذا بلغوا بقي حالهم كالسابق الْحُلُمَ أي وقت الاحتلام، و هو البلوغ فَلْيَسْتَأْذِنُوا أي يجب عليهم الاستئذان إذا أرادوا الدخول، في أي وقت كان، فإن الإنسان يتأدب أما الحر الكبير ربما لا يتأدب أمام الطفل و العبد كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ ذكروا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأطفال و الخدم، في الأوقات الثلاث أو كما استأذن الذين بلغوا قبلهم من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 724

[سورة النور (24): آية

60]

وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

الأحرار، و كما بين الله سبحانه هذا الحكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على الأخلاق و الأحكام وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمصالح حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى، فاللازم أن يتبع الإنسان أحكامه لأنها صادرة عن علم و حكمة.

[61] و إذ قد تقدم حرمة إبداء النساء زينتهن و لزوم الحجاب، جاء السياق ليستثني عن ذلك النساء اللاتي تقدمن في السن، حتى خلت أجسامهن عن الإثارة، و عفت نفوسهن عن الشهوة، فلا يثرن شهوة، و لا يشتهين أمرا وَ الْقَواعِدُ جمع قاعدة، و هي التي قعدت عن الحيض و قابلية الزواج مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي جمع التي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن في النكاح و «يرجون» مشترك بين الجمع المذكر و المؤنث، كما لا يخفى. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ أي يتركن ثِيابَهُنَ المرتبطة بالنساء كالجلباب الذي تلبسه المرأة فوق الخمار و الحجاب و ما أشبه ذلك، فقد جاز لهن أن يخرجن بملابسهن العادية، بدون ستر البدن بجلباب كبير و بدون ستر الوجه و اليدين و القدمين، في حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ التبرج الظهور، أي غير ظاهرات مع زينة مثيرة، كالحلي، و الثياب الجميلة، و الزخارف الملونة، فاللازم أن يكون قصدهن التخفيف لإظهار الزينة وَ مع ذلك أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 725

[سورة النور (24): آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ

أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

بلبس الجلباب و عدم وضع ثيابهن خَيْرٌ لَهُنَ من وضعها، بأن يلبس الجلباب كسائر النساء فإن ذلك ثوب حشمة و وقار وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم التي تقولونها حول النساء القواعد، و التي تقولها النساء عن نفسهن عَلِيمٌ بما في قلوبكم، و قلوبهن، فإذا زاغت كلمة أو التوى قصد علمه الله سبحانه، و حاسبكم عليه.

[62] ثم يأتي السياق ليبين أحكام الأكل و المواكلة، مما يرتبط بالعائلة، و الأصدقاء، بعد ما بين حكم البيوت و الخلوة و الاستئذان في خارجها و داخلها

قال الإمام الباقر عليه السّلام: أن أهل المدينة- قبل أن يسلموا- كانوا يعتزلون الأعمى و الأعرج و المريض و كانوا لا يأكلون معهم و كان الأنصار فيهم تيه و تكرم، فقالوا: إن الأعمى لا يبصر الطعام و الأعرج لا يستطيع الزحام على الطعام و المريض لا يأكل كما يأكل الصحيح فعزلوا طعامهم على ناحية و كانوا يرون عليهم في مؤاكلتهم جناح، و كان الأعمى و الأعرج و المريض يقولون: لعلنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم فاعتزلوا من مواكلتهم، فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن ذلك: فأنزل الله عز و جل

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «1» أي ليس عليه ضيق يوجب اعتزالهم وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ في أكله مع الناس وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ و من المعلوم أن الآية لم تسق للإطلاق

من جهة أقسام الأمراض المعدية و إنما سيقت لبيان أمر آخر، فلا إطلاق فيها من هذه الجهة، ثم بين سبحانه حكما آخر و هو جواز أن يتناول الإنسان من

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 25 ص 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 726

البيوت المذكورة بدون استئذان أربابها.

وَ لا حرج عَلى أَنْفُسِكُمْ أيها المؤمنون أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي بيوت أزواجكم، فلا محل لأن يتحرج عن الأكل من بيته باحتمال أن يكون المأكول خاصا بالزوجة أو الزوج أو لشخص غريب وضعه هناك أمانة أو نحو ذلك، و ربما احتمل أن يكون المراد بيت الأولاد، فنسب بيت الأولاد إلى الإنسان نفسه أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ و يشمل الأجداد أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ و تشمل الجدات أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ سواء كان الآكل أخا أو أختا أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ من الأبوين أو من واحد منهما أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ و الظاهر شموله لأعمام الأب و الأم أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ و هي في الشمول لمطلق العمة كالسابق أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أخ الأم أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أخت الأم، و في عمومها ما سبق أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مفاتح جمع مفتح، و هو المفتاح، أي البيت الذي عندكم مفتاحه،

قال الصادق عليه السّلام: الرجل له وكيل، يقوم في ماله فيأكل في غير إذنه أَوْ بيت صَدِيقِكُمْ فقد ورد عنهم عليهم السّلام إنهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله قدر حاجتهم من غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 727

إسراف «1».

و قال الصادق عليه السّلام: هؤلاء الذين سمى الله عز و جل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر و المأدوم و كذلك تطعم المرأة من منزل زوجها بغير إذنه

«2».

و قال عليه السّلام

في قوله «ليس عليكم جناح»: بإذن و بغير إذن

«3». لَيْسَ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فليس على الإنسان بأس أن يأكل مع غيره أو منفردا، و هذا بيان كيفية الأكل بعد ما بين سبحانه مكان الأكل، فقد كان بعض الناس يتحرج أن يأكل الطعام وحده، و أشتات جمع شتيت، و معناه المتفرق «و» إذ بين سبحانه كيفية الأكل و مكان الأكل جاء السياق لبيان بعض آداب البيوت عطفا على ما سبق من الآداب فقال فَإِذا دَخَلْتُمْ أيها المسلمون بُيُوتاً من تلك البيوت أو غيرها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلم بعضكم على بعض،

قال الصادق عليه السّلام: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم

«4» تَحِيَّةً منصوب على المصدر، إذ هو بمعنى تسليما، أي حيوا تحية و سلموا تسليما و أصل التحية أن الإنسان كان إذا رأى غيره قال «حياك الله» أو «لتحيى» و المعنى أن يبقى حيا، حتى شرع الإسلام السلام، و هو أفضل من التحية- بالمعنى المتقدم- إذ الحياة لا تلازم السلامة، أما السلامة فهي تلازم الحياة مع الزائد، و من هناك سمي كل ترحيب يبدي به عند اللقاء، بالتحية مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي أنها تحية جاءت من عنده

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 2 ص 33.

(2) الكافي: ج 6 ص 277.

(3) وسائل الشيعة: ج 24 ص 283.

(4) وسائل الشيعة: ج 12 ص 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 728

[سورة النور (24): آية 62]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ

شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

سبحانه، بأمره لكم أن تبدؤوا بها.

في حال كونها مُبارَكَةً أي لها البركة، فإن السلام يوجب الزيادة في العلاقات، مع ما له من الآثار الغيبية طَيِّبَةً لما فيها من طيب العيش بالتواصل و الأجر الكبير،

و قد ورد أن في السلام و الجواب مائة حسنة تسع و تسعون منها للمسلم و واحدة للمجيب،

و كما بين الله لكم هذه الأحكام كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أيها المسلمون الْآياتِ الدالة على الأحكام و الآداب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعملوا عقولكم فتسعدوا في الحياة.

[63] و إذ بين سبحانه علاقة المسلمين بعضهم مع بعض في المأكل، و الاجتماع و التحية، و سائر ما تقدم بيّن الأدب اللازم رعايته مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رئيس المسلمين الأعلى فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن اعتقدوا بالله، و صدقوا بالرسول، عن حقيقة و قلب، لا بمجرد اللفظ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ أي مع الرسول عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي أمر يقتضي الاجتماع كالمشورة، و الحرب، و ما أشبه لَمْ يَذْهَبُوا من عنده حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي يطلبوا الإذن من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الذهاب و الانصراف إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا رسول الله أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إيمانا صادقا راسخا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 729

[سورة النور (24): آية 63]

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)

بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ إذ عدم الاستئذان دليل على عدم تمكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

في قلوبهم، و نشوب الإيمان في أعماقهم فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ يا رسول الله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ و لعل الإتيان بهذه الجملة للتنبيه على أنه لا ينبغي لهم أن يستأذنوا اعتباطا للتخلص من التبعة، و إنما الاستئذان لبعض الأمور المحتاج إليها فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فإن إعطاء الإذن بيد الرسول، إن شاء أذن و إن شاء لم يأذن وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي اطلب لهم من الله الغفران، فلعل الاستئذان كان عبثا لمحاولة الفرار عن الأمر الجامع فهم في معرض سخط الله الذي لا يدفعه إلا الاستغفار إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يتفضل على المؤمنين باللطف و الرحمة،

و قد ورد أن هذه الآية نزلت في حنظلة، و ذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد، فاستأذن رسول الله أن يقم عند أهله فأنزل الله عز و جل هذه الآية، فأقام عند أهله ثم أصبح و هو جنب فحضر القتال و استشهد، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء و الأرض، فسمي غسيل الملائكة «1».

[64] و من جملة الآداب التي يلزم مراعاتها مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بينه سبحانه بقوله: لا تَجْعَلُوا أيها المسلمون دُعاءَ الرَّسُولِ نداءه عند

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 730

المخاطبة فيما بَيْنَكُمْ و لعل الإتيان بهذه الكلمة، لبيان أنه ينبغي احترامه و هو بينكم، فإنه الرسول، في قبال من يحترم غيره في الخارج دون الخلوة فيما بينهما كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً كما ينادي بعضكم بعضا بالاسم، أو اللقب فلا تقولوا يا محمد، و يا أبا القاسم، بل

قولوا يا رسول الله، يا نبي الله،

قال الصادق عليه السّلام: قالت فاطمة عليها السّلام: لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله أن أقول له يا أبت، فكنت أقول يا رسول الله، فأعرض عني مرة أو اثنين أو ثلاثا ثم أقبل علي و قال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيك و لا في أهلك و لا في نسلك أنت مني و أنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء و الغلظة من قريش أصحاب البذخ و الكبرياء، قولي يا أبت فإنها أحيا للقلب و أرضى للرب «1».

أقول: لعل المراد بالنسل الأئمة عليهم السّلام.

ثم رجع السياق إلى ما تقدم من لزوم الاستئذان لدى إرادة الانصراف قَدْ يَعْلَمُ قد للتحقيق، أو جار مجرى التعريض، فقد تقول لولدك- مهددا- قد أطلع إلى عملك، بمعنى أن احتمال اطلاعي كاف في أن ترتدع الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ التسلل الخروج في خفية و هدوء و حذر مِنْكُمْ أيها المسلمون لِواذاً و هو أن يتستر الإنسان بشي ء مخافة أن يراه أحد، من لاذ بمعنى: التجأ، فقد كان بعض المسلمين يقومون في هدوء و حذر و يتسترون ببعض الأصحاب الجالسين أو

______________________________

(1) المناقب: ج 3 ص 320.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 731

[سورة النور (24): آية 64]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

الواقفين، لئلا يراهم الرسول حين يريدون الانصراف، بدون الاستئذان، و في قوله «قد يعلم الله» تهديد لمن يفعل ذلك فَلْيَحْذَرِ أي يجب أن يحذر و يخاف الَّذِينَ يُخالِفُونَ أي يعرضون عَنْ أَمْرِهِ تعالى أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي بينة و عقوبة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في

الآخرة.

[65] أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فالكل ملكه و الكل تحت تصرفه، فكيف يمكن أن يخالفه أحد و لا يخشاه؟ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الأعمال و الكلام في «قد» ما تقدم، و في هذا تهديد لمن يخالف وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ و هو يوم الموت، أو يوم القيامة، و المراد الرجوع إلى حسابه و جزائه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم، إخبارا يتعقبه الجزاء، و هذا كقولك لمن تريد وعده أو إيعاده «سأخبرك بما عملت» بِما عَمِلُوا من الطاعة و المعصية وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيجازي كلا حسب عمله و ما صدر منه، و «يوم» منصوب على الظرفية، أي «ينبئهم في يوم يرجعون إليه»، و إنما دخل «الفاء» لإفادة الترتيب بين الإخبار و بين و الرجوع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 732

25 سورة الفرقان مكية/ آياتها (78)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الفرقان» و هي كسائر السور المكية تتعرض للعقيدة و ما يتبعها و حيث ختمت سورة النور بأن لله ما في السماوات و الأرض، ابتدأت هذه السورة بأن لله التشريع، لتلائم التشريع مع التكوين.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله المستجمع لجميع صفات الكمال، و قد اعتاد الإنسان أن يجعل شعاره أفضل شي ء يشير إلى نفسيته و منهاجه، و هل هناك شي ء أفضل من اسم الله سبحانه ليجعل شعارا؟، و هل بعد ذلك شي ء أفضل من الرحمة التي تعم التكوين و إعطاء الخير و الهداية، ليعقب باسم الإله؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 733

[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

[2] تَبارَكَ هو من باب التفاعل، من البركة، إما بمعنى تكاثر خيره، أو من البروك، بمعنى الاستقرار، أي دام و ثبت الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن، و سمي فرقانا لأنه المفرق بين الحق و الباطل عَلى عَبْدِهِ محمد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِيَكُونَ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِلْعالَمِينَ أي جميع عوالم العقلاء من الإنس و الجن في الأجيال المختلفة و الأصقاع المختلفة نَذِيراً أي منذرا عن المعاصي و الكفر و الآثام، و إنما ذكر هذا الوصف، لأن التنقية عن الشرك و المعاصي مقدم على التحلية بالإيمان و الطاعات.

[3] الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك، و حق للمالك أن يشرع، كما أن المالك أعرف بما يصلح مملوكه من غيره، فهو أحسن نظاما و خير دينا من غيره وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعمت اليهود و النصارى و المشركون جعلوا عزيرا و المسيح و الملائكة أولاد الله تعالى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ تعالى شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ يشاركه في الكون، كما زعم المشركون، حيث جعلوا الأصنام آلهة شريكة لله سبحانه وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فله الخلق، كما أن له الملك، و صرح بذلك لعدم التلازم بينهما فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً حسب الحكمة و الصلاح، أي وضع لكل شي ء حدا في الكيفية و الكمية و مدة البقاء إلى غير ذلك من الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 734

[سورة الفرقان (25): الآيات 3 الى 4]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ

لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4)

المكتنفة بكل مخلوق.

[4] وَ اتَّخَذُوا أي اتخذ الكفار مِنْ دُونِهِ من دون الله آلِهَةً المراد بالجمع الجنس حتى يشمل الواحد، كما يراد بالجنس الجمع في كثير من الموارد، و تلك الآلهة لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً لا تقدر على خلق شي ء وَ هُمْ تلك الآلهة يَخْلُقُونَ مخلوقة لله سبحانه، و الإتيان بلفظ العاقل سيرا على مذهب القوم الذين كانوا يزعمون عقل الأصنام وَ لا يَمْلِكُونَ تلك الآلهة لِأَنْفُسِهِمْ فكيف لغيرهم ضَرًّا بأن تدفعه عن نفسها وَ لا نَفْعاً بأن يجلبونه لأنفسهم، في مقابل الله الذي يخلق و لم يخلق، و يتمكن على كل نفع و إضرار بالنسبة إلى جميع الناس وَ لا يَمْلِكُونَ لأحد مَوْتاً وَ لا لميت حَياةً وَ لا لأحد نُشُوراً أي إحياء بعد الموت، فكيف يترك الكفار عبادة الله القادر على كل شي ء و الخالق لكل شي ء و المالك لكل مملوك، و يعبدون هذه الأصنام التي لا تقدر على شي ء و لم تخلق شيئا و ليس لها شي ء؟.

[5] وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا حول القرآن الذي أنزله الله على رسوله إِنْ هَذا أي ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي كذب افْتَراهُ الرسول، على الله سبحانه، بأن نسبه إليه تعالى بالكذب، وَ أَعانَهُ أعان الرسول عَلَيْهِ على هذا الإفك قَوْمٌ آخَرُونَ فقد كانوا يقولون إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 735

[سورة الفرقان (25): آية 5]

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5)

عداس مولى حويطب و يسار غلام العلاء و حبر مولى عامر، هم الذين أعانوا الرسول

على إنشاء هذا القرآن، و قد كان أولئك من أهل الكتاب.

و عن الباقر عليه السّلام: يعنون أبا فكيهة و حبرا و عداسا و عابسا مولى حويطب

«1» فَقَدْ جاؤُ أي هؤلاء الكفار ظُلْماً إذ ظلموا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذه النسبة إليه وَ زُوراً أي افتراء، فكيف يمكن للعبد أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي لا يمكن أن يأتي به فصحاء قريش و عقلائهم؟ كما قال سبحانه: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) «2»؟.

[6] وَ قالُوا أي قال جماعة آخرون من الكفار أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها جمع أسطورة، و هي الحديث الخيالي الذي لا واقع له، أي قالوا أن هذا القرآن أحاديث المتقدمين و ما سطروه في كتبهم جمعها محمد و كتبها ليدعي بها النبوة فَهِيَ أي هذه الأساطير تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه يقرؤها عليه بعض أصدقائه بُكْرَةً وَ أَصِيلًا أي صباحا و عشيا، ليحفظها و يقرأها على الناس، و قد كانوا مناقضين في أقوالهم فمرة يقولون إفك افتراه، و مرة إنها أساطير الأولين، مع أن الرسول لم يكن كاتبا، ثم ينسبون الإلقاء إلى أفراد لم يكن لهم علم و لسان، و مع ذلك كله لم يقدروا على أن يأتوا بأقصر سورة مثله.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 2 ص 111.

(2) النحل: 104.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 736

[سورة الفرقان (25): الآيات 6 الى 7]

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7)

[7] قُلْ يا رسول الله في جوابهم أَنْزَلَهُ أي أنزل هذا القرآن الَّذِي

يَعْلَمُ السِّرَّ أي الخفي فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو بعلمه الشامل يعلم مقدار قدرة البشر، و لذا ترى الذي أنزله فوق قدرتهم إذ لا يتمكنون أن يأتوا بمثله، و لو كان افتراء من عند جاهل لا يعلم مقادير قدرة الناس لأمكنوا من معارضته و الإتيان بمثله. إِنَّهُ سبحانه كانَ غَفُوراً حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ليتوب من يتوب رَحِيماً يرحم العباد و يتفضل عليهم.

[8] لقد كان هذا قولهم في القرآن أما قولهم حول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ أصل هذه الجملة تستعمل بمعنى «أي شي ء له» و لكن استعملت بعد ذلك في مجرد الاستفهام يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كيف يكون رسولا و هو يأكل الطعام وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ فقد كانوا يظنون أن هذه الأمور تنافي شأن الرسالة لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ من السماء، كي نراه فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي معينا له على الإنذار و التخويف و «لو لا» بمعنى «هلا» و لنسأل هؤلاء القائلين: لماذا يجب أن يكون الرسول لا يأكل الطعام، و لا يمشي في الأسواق؟ و لماذا يلزم أن يكون معه ملك يرى؟ إن الكفار لم يكن لهم منطق في هذه الكلمات إلا السخافة و الاقتراح المجرد و العناد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 737

[سورة الفرقان (25): الآيات 8 الى 10]

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

[9] أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ من جانب السماء،

أو المراد يعطى كَنْزٌ من الذهب و الفضة و سائر الجواهر، حتى يكون ذا مال، فقد كانوا يستغربون أن يكون الرسول لا مال له أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ أي بستان يَأْكُلُ مِنْها من تلك البستان حتى لا يحتاج إلى اشتراء الفواكه و الخضر من السوق وَ قالَ الظَّالِمُونَ أي الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و العصيان إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحروه، و ذهب عقله، و من ذهاب عقله ادعائه النبوة، و كلامه بكلام المجانين.

[10] انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه فتارة شبهوك بالمسحور، و تارة بالمجنون، و تارة بالشاعر، و هكذا فَضَلُّوا عن الطريق، و سبيل الهداية فَلا يَسْتَطِيعُونَ حيث أبعدوا أنفسهم عنك سَبِيلًا يهديهم إلى الحق، إنهم بعّدوا أنفسهم منك، و لا طريق إلى الله سبحانه سواك، فهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الهدى.

[11] تَبارَكَ أي تقدس و تعالى- و قد تقدم معناه- الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الذي اقترحوه، من الكنز و البستان، ثم فسر سبحانه ما هو خير بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 738

[سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 12]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12)

تحت أشجارها وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً في هذه الدنيا، و لكن الإيمان حيث كان مرتبطا بالقلوب، و لأجل الامتحان، يلزم تجرد الأنبياء عن المال- بدء الدعوة- ليظهر صدق المؤمن، و إلا فالناس كلهم تبع للمال، يميلون حيث مال.

و لعل ذكر هذه المحاورات بين الرسول و بين القوم، و بيان ما

كانوا يقولون في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في القرآن، لأجل تعليم الناس كيفية الاحتجاج، و إرشاد الذين يريدون الإصلاح إلى الأتعاب التي يواجهونها في طريقهم، ليأخذوا أهبتهم عند الحركة، و يستعدون للدفاع و الكفاح حسب اطلاعهم على مقدار قوى الخصم، و لتظهر منزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مكانته السامية.

[12] هؤلاء لا يكذبونك لأنهم لم يجدوا دليلا على صدقك بَلْ إنما يكذبونك لأنهم لا يخافون المعاد فقد كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي بالقيامة وَ أَعْتَدْنا هيئنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا تسعر و تتلظى.

[13] إِذا رَأَتْهُمْ أي رأت النار هؤلاء الكفار مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و إنما نسب الرؤية إلى النار، مع أن النار لا عين لها، لزيادة التهويل حتى كأن النار تراهم و تنظر إليهم نظرة الغضبان الحانق، و القلب من أنواع البلاغة كما قال الشاعر:

و لما أن جرى سمن عليهاكما طينت بالفدن السياعا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 739

[سورة الفرقان (25): الآيات 13 الى 15]

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15)

سَمِعُوا لَها أي للنار تَغَيُّظاً فإنها تتقطع عند اشتدادها، كما يسمع الإنسان صوت الأعواد حين تنقطع في النار وَ زَفِيراً و هو صوتها عند النفس و الالتهاب.

[14] وَ إِذا أُلْقُوا أي ألقي هؤلاء الكفار مِنْها من النار مَكاناً ضَيِّقاً أي في مكان ضيق من النار،

و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنهم في النار كالوتد في الحائط

مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم إلى بعض، أو

قد قرن أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، أو قرنوا مع الشياطين دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الثبور: الهلاك أي طلبوا هلاكهم، قائلين وا ثبورا، أي يا هلاك احضر و أرحنا من هذه المشقات.

[15] فيقال لهم حينذاك لا تَدْعُوا أيها الكفار الْيَوْمَ في النار ثُبُوراً واحِداً و هلاكا واحدا وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً و لعله كناية عن أن قول الويل لا ينفعكم و إن كثر، كما يقال لمن يبكي حزنا على فقد شي ء، ابكي كثيرا، يراد أن البكاء لا ينفع، و إن بكى الإنسان كثيرا.

[16] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يصرون على كفرهم و عصيانهم أَ ذلِكَ أي هل هذا المرجع و هذه العاقبة السيئة خَيْرٌ للإنسان أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أي: البساتين التي يخلد فيها الإنسان و لا يخرج منها إلى الأبد الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الذين يتقون الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 740

[سورة الفرقان (25): الآيات 16 الى 17]

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)

و العصيان؟ كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ أي للمتقين جَزاءً على أعمالهم وَ مَصِيراً أي محلا يصيرون إليه.

[17] لَهُمْ فِيها أي في الجنة ما يَشاؤُنَ من أنواع النعيم و اللذات خالِدِينَ باقين إلى الأبد كانَ إدخالهم في الجنة- المفهوم من الكلام- عَلى رَبِّكَ وَعْداً أي وعدهم ربك وعدا مَسْؤُلًا أي يسأل الله عن هذا الوعد، و السائلون هم الأتقياء فإنهم يسألون الله أن يفي لهم بالوعد، و هذا تأكيد للأمر، يعني إن الوعد وعد قطعي حتى إنه يسأل عنه، و ليس من قبيل وعد بعض الناس الذي هو

مجرد لقلقة لسان.

[18] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي يجمع الله هؤلاء الكفار للحساب و الجزاء، و هو يوم القيامة وَ يحشر ما يَعْبُدُونَ من الآلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ و لعل المراد هنا المسيح و الملائكة و أمثالهم، أو الأعم منهم و من الأصنام، و ينطق الله الأصنام بقدرته ليتكلموا حتى يكون زيادة في تقريع الكفار.

فَيَقُولُ الله تعالى لهؤلاء المعبودين الذين جعلوا شركاء له أَ أَنْتُمْ أيها المعبودون أَضْلَلْتُمْ عِبادِي المشركين هؤُلاءِ الذين تشاهدونهم إلى جنبكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ بطغيانهم، بأن أشركوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 741

[سورة الفرقان (25): الآيات 18 الى 19]

قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)

فتاهوا طريق الحق و الرشاد؟.

[19] قالُوا أي قال أولئك المعبودون سُبْحانَكَ أي تنزيها لك، و هو مصدر منصوب بفعل مقدر أي نسبحك سبحانك ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي ليس لنا أن نوالي أعداءك، فإنا لم نوال هؤلاء، فكيف نأمرهم بعبادتنا و اتخاذنا آلهة، فمن ليس بينه و بين أحد مجرد الصداقة و الولاية، كيف يكون داعيا له إلى نفسه؟ وَ لكِنْ إن هؤلاء هم ضلوا السبيل فقد مَتَّعْتَهُمْ أي تفضلت عليهم بالنعم و متع الحياة الدنيا وَ متعت آباءَهُمْ حتى نشأوا في النعيم، فبطروا و استكبروا حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ المنزل على الرسل، فإن الإنسان إذا طال عمره في خير و أموال و أولاد، طغى، و لم يبال بالأوامر، حتى كأنه نسيها

وَ كانُوا قَوْماً بُوراً أي هلكى فاسدين، فإن بور جمع بائر، و هو الهالك الذي لا نفع فيه، و منه يقال للخراب بائر.

[20] ثم يتوجه الخطاب إلى المشركين في دار الدنيا، بعد أن يتم الكلام حول تلك الحكاية عن حالهم مع المعبودين في القيامة فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أيها المشركون- أي كذبكم الشركاء، إذ بينوا أنهم لم يأمروكم بعبادتهم، خلاف ما كنتم تقولون من أن المسيح و الملائكة و من أشبههم أمروكم بعبادتهم بِما تَقُولُونَ من أمرهم لكم باتخاذهم شركاء فَما تَسْتَطِيعُونَ أيها المشركون، في الآخرة صَرْفاً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 3، ص: 742

[سورة الفرقان (25): آية 20]

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

للعذاب عن أنفسكم وَ لا نَصْراً لأنفسكم على عذاب الله، بأن تغلبون عليه حتى تخمدوه- مثلا- وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نفسه بالشرك و العصيان نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً أي عظيما شديدا.

[21] ثم ارتد السياق ليجيب عن بعض مجادلات الكفار مع الرسول في باب رسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا رسول الله مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لكانوا يأكلون الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ و أنت مثلهم فكيف يقول هؤلاء متعجبين ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق؟ وَ جَعَلْنا نحن بَعْضَكُمْ أيها الرسول و يا أيها الكفار لِبَعْضٍ فِتْنَةً و امتحانا فالكفار يمتحنون بالرسول حتى يعلم من يؤمن و من لا يؤمن، و الرسول يمتحن بالكفار حتى يظهر صبره و صموده و سائر مزاياه، و يكون ذلك سببا لارتفاع درجته أَ تَصْبِرُونَ أيها الناس على الامتحان، حتى

تخرجوا ناجحين، أم يسرع الكفار إلى شهوات الدنيا، فلا صبر لهم على الطاعة وَ كانَ رَبُّكَ يا رسول الله بَصِيراً بمن صبر و بمن لم يصبر، و بمن نجح في الامتحان و بمن لم ينجح- هذا هو الذي استظهره من الآية بمقتضى السياق- و قال بعض المفسرين معنى لا يلائم السياق، و الله العالم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.