تقریب القرآن الی الاذهان المجلد 1

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل القرآن و جعله شفاء و رحمة للمؤمنين، و الصلاة و السلام على أشرف الخلق و سيّد الأنبياء و المرسلين، سيّدنا و مولانا أبي القاسم محمّد و على آله الغرّ الميامين أهل بيت الوحي، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الذكر و التنزيل، خزّان العلم، و منتهى الحلم، و أصول الكرم، و قادة الأمم، و أولياء النعم، و عناصر الأبرار، و دعائم الأخيار، و أبواب الإيمان، و أمناء الرحمن، و سلالة النبيّين، و صفوة المرسلين، و عترة خيرة ربّ العالمين.

و بعد:

فحيث إنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم كانت الحاجة إلى آيات و دلائل تبيّن صدقهم فيما يبلّغون عن ربّهم، و يهدون، و يعلّمون. من هنا كانت المعجزة قرينة الرسالة، و لو لا المعجزة لأشكل الأمر على الناس، و خالط الشكّ اليقين، و التبس الصدق و الكذب، و بالتالي تشوّشت أفكار الناس في تمييز الصادق من الكاذب، و النبيّ من المنتحل.

و من هنا فإنّ الظاهر أنّه لم يرد لفظ المعجزة كاصطلاح إلّا في الفترة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 6

المتأخّرة عن رسول الوحي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول القرآن، و إنّما عبّر عنها في الآيات و الروايات بالآية تارة قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ «1» و بالبيّنة تارة قَدْ

جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «2» و بالبرهان تارة ثالثة فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ «3» و بالسلطان رابعة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «4» لما في هذه الألفاظ من اندماج بين وحي اللفظ و بصيرة العقل و قوّة الحجّة و منطق البرهان، فتحاكي وجدان الإنسان و قلبه و عقله و فطرته و بصره و بصيرته بما يقطع أمامه سبل الشكّ، و يزيح ظلمات الوهم.

فالآيات علائم و دلالات ظاهرة، كما أنّ دلالاتها واضحة سواء كانت دلالة عقليّة أو حسيّة، و البرهان إظهار للحجّة بموازين العقل و الحكمة، و هو أوكد الأدلّة المحفّزة لكوامن الصدق و التصديق؛ لذلك يقتضي الصدق لا محالة، و السلطان لما فيه من سلطنة و هيمنة على القلب و العقل تدعو إلى الإيمان، و تدفع الشكوك و الأوهام، و لا يبعد أن تكون الآية لعموم الناس؛ لأنّ الحب طريقهم إلى الإيمان و اليقين غالبا، و البيّنة في مواقع إظهار ما يخفى على الناس معرفته، و البرهان لمن كان من أهل العقول و الأفكار، و السلطان لتسلّطه على أهل العلم و الحكمة من الناس. هذا من حيث خصوصيّات كلّ لفظ منها.

و أمّا من حيث الهدف و المضمون فالجميع يشترك في تصديق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تثبيت حقّانيّة دعواه، و استقامة طريقه، و صحّة أهدافه و نواياه.

و لعلّ من هنا اتّفقت الكلمة على انحصار طريق معرفة صدق دعوى الأنبياء عليهم السّلام بظهور المعجز على أيديهم كما يظهر من أقوال المحقّقين كقولهم: «و طريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده». «5»

______________________________

(1) الأنعام: 110.

(2) الأعراف: 74.

(3) القصص: 33.

(4) إبراهيم: 11.

(5) تجريد الاعتقاد: 214.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 7

و عليه فإنّ طريق التصديق

بالنبوّة و الإيمان بها ينحصر بالإعجاز الذي يظهره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شاهدا مطابقا لدعواه.

و لعل هذا هو المرتكز في أذهان البشر و فطرهم كسبيل قد يعد وحيدا، أو الأكثر قوّة، و الأسرع أثرا في التصديق و الإيمان؛ و لذا كان أوّل نداء يطلقه الكافرون في مواجهة دعوات الرسل و الأنبياء عليهم السّلام هو المطالبة بإظهار الآيات و المعاجز، و كلّ قوم كانوا يطلبون من رسولهم ذلك حتّى و إن أقرّوا بغيره من الأنبياء السابقين.

قال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ «1».

ففي الوقت الذي أثبتت الآية التقارن التامّ بين رسالات الرسل و الآيات البيّنة كشفت عن إيمان اللاحقين بدعوات السابقين حتّى و إن كذّبوا من أرسل إليهم من الأنبياء، فطالبوهم بإظهار الآية.

و كانت هذه الآيات هي الحجّة التي تنهض للمطالبين الصادقين في دعواهم لجذبهم إلى الإيمان، كما تثبت على المعاندين لو أصرّوا و ظلّوا في غيّهم يعمهون.

و لعلّ ممّا يشهد لذلك آيات متضافرة في الكتاب العزيز، بعضها يثبت وقوع الإعجاز مقارنا لدعوى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعضها يبيّن نوع الإعجاز و تفاصيل حدوثه.

و ربّما يعدّ من الأولى قوله سبحانه: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «2».

فهي في الوقت الذي تثبت دلائل الأنبياء الكافية في اليقين و الإيمان

______________________________

(1) الأنبياء: 6.

(2) الروم: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 8

تهدّد المنكرين الذين عاصروا الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عايشوه بمصير يشبه مصير السابقين في مواقفهم من الرسل، و قد جمعت

هذه الآيات مع الآيات التي في سياقها قبلا و بعدا بين الدلائل المادّيّة و المعنويّة، فحيث تحدّثت ما قبلها عن آية الرياح و ما لها من آثار هامّة و نافعة تقوم عليها حياة الناس حيث إنّها:

1- تأتي لهم بالسحاب المثقل بالغيث الذي يسقي الأرض العطشى، فينبت رزقهم و كلأ مواشيهم.

2- توازن حرارة الجو فتعطيهم برودة في المناطق الحارّة و دفئا في الباردة.

3- تنقي الهواء و الفضاء من الأوبئة و الغازات الضارّة.

4- تلقح الأشجار فتعطي ثمارها، و الأزهار فتعطي أريجها و جمالها، و تنشر البذور من البيادر إلى الأراضي الجرداء فتغدو خضراء ممرعة ترعاها الأغنام و المواشي، و تضفي على الحياة بهجة و روعة.

5- تحرّك الفلك و السفن في البحار و الأنهار فتربط بين البشر، و تجمع بين حاجاتهم و احتياجاتهم فيتكافلون و يتكاملون و يتعاونون ..

و غيرها من آيات و براهين و دلائل تقوم عليها حياة الناس، و تدلّ على سعة رحمة اللّه عزّ و جلّ و عميم فضله و خيره و عظم بركته؛ و لذا قال سبحانه بعدها: وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «1».

و أمّا الدلائل المعنويّة التي هي أيضا من آثار رحمة الله و خيره و بركته فقد جاءت مقارنة لتلك لتشمل كلّ جوانب الإنسان، و تسدّ كلّ احتياجاته الجسديّة و الروحيّة؛ إذ لا يكفي الإنسان أن يعيش ناعما، يبات شبعانا،

______________________________

(1) النحل: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 9

و يغدو وفيرا رويا، فإنّ ذلك مهما بلغ و كثر و لذ و طاب لا يسدّ حاجاته الأكبر و الأوسع في تحقيق الآمال، و اللهفة إلى النجاح في مختلف شؤون الحياة، بل لو لا الأمل و النجاح يصبح نهار الإنسان ليلا، و حلوه

مرّا؛ لقصور الدنيا بما فيها من شهوات و غرائز و لذات و مطائب عن إشباع روح الإنسان و عقله و فكره، فحتى تتمّ النعمة و تكتمل الحجّة و يتمّ البرهان كان لا بدّ من إشعال و قدة الأمل في قلبه، و إنارة طريقه على المستقبل و الغد الناجح الوفير، فقال سبحانه: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «1».

و على خلاف ذلك ما سيلاقيه الكفّار المعاندون من أيام شديدة و ساعات سوداء مدلهمّة، و منها قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «2» و المستفاد منها هو أنّ لكلّ رسول و نبيّ آية قد أحكمها الله تعالى و تولّاها بالحقّ و الصدق و الثبات في الموقف و الغاية، يمتنع عنها الريب، و لا تخالجها شكوك الشيطان و تشكيكاته، و هذه أيضا تضمّنت آيات الظاهر و الباطن، فالأولى تنسف خطط الشيطان، و تعود بالناس إلى الإيمان، و الثانية تطمئن الرسل بمستقبل مشرق يعيش الناس فيه الإيمان بأصنافه و شعبه.

______________________________

(1) الروم: 48.

(2) الحج: 53.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 10

كيفيّة الإعجاز

و من الثانية: آيات متضافرة أيضا شرحت بوضوح و دقّة و عمق كيفيّة الإعجاز و أنحائه لعل منها:

1- قوله سبحانه: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ «1» و هي اليد و العصا، و الحجر، و البحر، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم دلائل خارقة ظاهرة.

2- قوله تعالى: وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ «2».

3- قوله تعالى: وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. «3» 4- قوله تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ «4».

5- قوله تبارك و تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «5» و غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الله تعالى قد نصر أنبياءه عليهم السّلام بالمعجزة، و لم يوكل عموم الناس الذين يقنعهم بالإيمان عادة الشاهد

______________________________

(1) الإسراء: 102.

(2) آل عمران: 50.

(3) الأعراف: 74.

(4) سبأ: 13.

(5) الأنبياء: 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 11

المادي الظاهر على صدق الأنبياء أكثر من قدرتهم الروحيّة و حالاتهم المعنويّة و العقليّة؛ لأنّ هذا قد لا يدركه عموم الناس كما لم ينحصر لطفه عزّ و جلّ بإخبارات النبيّ السابق عن ظهور نبيّ في اللاحق، و ذكره لعلامات النبوّة و سيماء النبيّ القادم؛ و ذلك لأنّه حتى لو وصلت هذه الإخبارات و العلامات للأمم اللاحقة على نحو التواتر إلّا أنّها قد لا تلزم من لا يتديّن بدين أصلا، أو لا يعتقد بنبوّة ذلك النبيّ، فلا تتمّ الحجّة عليه.

و لعلّ قوله سبحانه في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ «1» يحاكي أصحاب العقول المتفتّحة و الآراء المتطلّعة لجمع الدين بالدنيا و الفكر و التطبيق حتّى في مثل مجالات السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و نحوها، حيث جمعت بين ثلاثة دلائل واضحة تشكّل العناصر الأساس لقيام أي مجتمع و دولة، و هي:

1-

البيّنات كحجج على الإيمان 2- الكتاب كحجّة على التقنين و التنظيم 3- الميزان كحجّة على التطبيق و الممارسة مادّيّا و معنويّا.

و من الواضح أنّ كلّ دولة و أمّة تقومان على العقيدة و النظام و السلطة، و يجمعهما الهدف المشترك، و هو العدل، ثم يأتي بعد ذلك الحديد و القوّة لحمايتهما من الاستهانة أو الاستلاب، و بهذا يبني الأنبياء عليهم السّلام حضارة إنسانيّة رائعة يسودها الأمن و السلام، و يحكمها العدل و النظام في شتى المجالات، و قد جمع هذه جميعا القرآن الكريم، فاحتوى كلّ رسالات الأنبياء و أهدافهم، فوصفه ربّه و منزّله:

______________________________

(1) الحديد: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 12

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «1» و وصفه من حمله و بلّغ به و بشّر: «هو الدليل يدلّ على خير سبيل» «2» ..

و بالتالي فإنّ كلّ حرف و كلمة و جملة و آية و سورة بل كلّ حركة و سكنة و رفع و نصب فيه يدلّ على إعجاز و إعجاز و علوّ و سمو، فهو كما قالوا عنه:

ليست معجزة واحدة فحسب، بل موسوعة معجزات، فاجتماعيّاته معجزة لعلماء الاجتماع، و سياسيّاته معجزة للسياسيّين، و أخلاقيّاته معجزة للأخلاقيّين، و عسكريّاته معجزة للعسكريّين، و اقتصاديّاته معجزة للاقتصاديّين، و تربويّاته معجزة للتربويّين، و أداءه معجزة للأدباء، و لكلّ اختصاصيّ معجزة في اختصاصه، بل إنّ القرآن معجزة لكلّ إنسان في الجانب المنسجم مع أولويّات ذلك الإنسان، فهو معاجز بعدد الخلائق، أو ليست الطرق إلى الله سبحانه بعدد أنفاس الخلائق؟ فهو معجزة للناس أجمعين.

و فوق ذلك أنّه معجزة الفلسفة، فهو كتاب أعطى الفلسفة الكاملة الصحيحة للبشر، فهو كتاب الكون، بل هو عدل الكون؛ إذ الكون كلّه كلمة من كلمات الله،

و القرآن كلمة أخرى من كلمات الله، فهي و تلك كلمتان مترادفتان، الكون قرآن و لكن بشكل، و القرآن كون و لكن بشكل آخر، و بعد ذلك و قبله فإنّ من القرآن ما فيه شفاء و رحمة للعالمين، و لا يزيد الظالمين إلّا خسارا.

كما ستبقى صور الإعجاز و أشكاله تتجلّى في كلّ عصر، و مع كلّ جيل مهما نضج البشر، و تنامت عقولهم، و تراكمت تجاربهم، و تنوّرت أفكارهم.

فإنّ القرآن يفسّره الزمان كما في بعض الأخبار لا تنقضي عجائبه، و لا تنتهي غرائبه؛ لأنّه كلام اللّه سبحانه، و فيض من علمه اللامتناهي، و كلامه عزّ و جلّ مظهر لعلمه، و علمه مظهر لذاته، و كلّها لا متناهية و فوق ما لا يتناهى،

______________________________

(1) الإسراء: 10.

(2) أصول الكافي: ج 2، 599، ح 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 13

فكيف يدركه بشر، أو يحيط بكنوزه محيط أو عالم؟ و بهذا يظهر مدى التجافي عن الحقيقة الدامغة فيما يدّعيه بعض أعداء الإسلام من أنّ القرآن من صنع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ القرآن لم يوح إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأكمله، بل كان يوحى إليه رؤي قصيرة و وصايا، و أمثال و قصص ذات مغزى، أو أحاديث في أصول العقيدة.

و يكفينا في ردّ زعم هؤلاء ما صدع به الحقّ تبارك و تعالى في قوله عزّ من قائل: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ «1».

و

قال مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام «و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما»

«2».

فإنّ كلمات القرآن و آياته و حروفه و كلّ ما فيه ينطق بأنّه وحي ممّن

خلق الأرض و السماوات العلى، و ما خلقته عقول بشر، أو فاهت به ألسنتهم.

الإعجاز لغة و اصطلاحا

المعجز في اللغة له أكثر من معنى إلّا أنّ الأقرب منه إلى الفهم العرفي ما ذكر في أقرب الموارد، و هو: أعجز فلان فلانا أي صيّره عاجزا «3».

لكن في مجمع البحرين فسّره بالمعنى المصطلح، و كأنّه تفسير بالمصداق، فقال: المعجز: الأمر الخارق للعادة المطابق للدعوى المقرون بالتحدّي، و قد ذكر المسلمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألف معجزة منها القرآن «4».

و قد فقد عرّف بتعاريف مختلفة بعض الشي ء باختلاف قيودها.

______________________________

(1) العنكبوت: 50.

(2) نهج البلاغة: ص 112، الخطبة 83.

(3) أقرب الموارد: ج 3، ص 482، «عجز».

(4) مجمع البحرين: ج 4، ص 25، «عجز».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 14

ففي تجريد الاعتقاد: و طريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده، و هو ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة و مطابقة الدعوة «1».

و قريب منه ما في مجمع البيان: و حاصله أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهيّة بما يخرق النواميس الطبيعيّة و يعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه «2».

و ينبغي إضافة قيد التحدّي لهذين التعريفين لينطبق على موازين الحدّ التامّ المنطقي بداهة دخول الكرامة و نحوها في التعريف، فلا يصبح حينئذ مائزا بين ما يظهر على أيدي الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و لا يبعد أن تكون جميع هذه التعاريف ناظرة إلى أمر واحد و إن كان ربّما لم يستظهر من بيانها، و هو أنّ المعجز أمر خارق للعادة و ليس لضوابط العقل؛ إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين حتّى بالإعجاز لامتناع الموضوع.

و عليه فليس الإعجاز في تبديل الممتنع بالذات إلى ممكن، بل

هو اختصار مراحل الإمكان الاستعدادي للممكن بإرادة الله سبحانه، أو بقوّة النبيّ المعنويّة التي منحها الله سبحانه إياه لإيجاده؛ و لذا يسمّى خارقا للعادة، فيمكن إثمار الشجرة غير المثمرة في آن؛ لأنّ تحقّق الاثمار عادة يتوقّف على شرائط لا تتحقّق عادة إلّا بعد مضي زمان، و لكن ربّما تحصل هذه الشرائط فورا بالإعجاز، و هذا هو معنى خرق العادة أي المعتاد المألوف في الكون أو عند الناس.

هذا و هناك شروط أخرى ينبغي توفّرها في الإعجاز منها: مطابقة المعجزة للدعوى، و أن لا يكون هناك من يعارض مدّعي النبوّة فيما يتحدّى

______________________________

(1) تجريد الاعتقاد: ص 214.

(2) مجمع البيان: ج 1، ص 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 15

به، بحيث يستطيع غيره أن يأتي بمثل ما أتى به؛ إذ لا يكون حينئذ ما أتى به ذلك النبيّ معجزا، و منها غير ذلك ممّا فصّله علماء الكلام.

بعض مزايا القرآن الكريم

و لعلّ من المناسب أن نشير هنا إلى بعض مزايا القرآن الكريم التي اتّفق أهل الرأي فيها على أنّها إعجاز:

1- أنّ القرآن الكريم معجز من حيث اختصاصه بمرتبة عليا في الفصاحة و البلاغة خارقة للعادة لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها أو أن يدانيها.

2- من حيث كونه مركّبا من نفس الحروف الهجائيّة التي يقدر على تأليفها كلّ أحد و مع ذلك عجز الخلق عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب، و النمط الغريب من قوة اللفظ، و سحر البيان، و دقّة المعنى، و سلاسة التعبير، و قوّة الترابط بحيث إنّ كلّ تغيير أو تصرّف فيه يخرجه عن عذوبته، و يشير إلى وجود خلل في العبارة.

3- من حيث امتيازه عن غيره من كلام العرب بامتياز مليح، فإنّ أي كلام في هذه اللغة مهما

كان فصيحا و بليغا إذا زيّن بالقرآن الكريم تجد القرآن ممتازا عنه متفوقا عليه بما لا يقبل القياس أو التقويم.

4- من حيث اتّصافه بنظام فريد، و أسلوب وحيد غير معهود في جميع الأزمنة، لا شعرا و لا نثرا؛ لذلك نسبه أدباء الكفّار إلى السحر؛ و ذلك لأخذه بمجامع القلوب و اتّصافه بالجاذبيّة الخاصّة.

5- بالرغم من سعة مضامينه و وفرة آياته و كثرة سوره فهو خال عن الاختلال و التناقض و التهافت أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

______________________________

(1) النساء: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 16

فلا تجد فيه كلمة خالية عن الفصاحة، و لا آية مخالفة لآية أخرى، بل جميعه موصوف بغاية الجودة، و متّصف بما لم تجر بمثله العادة.

6- من حيث اشتمال القرآن الكريم على أحسن الآداب، و أمتن الحكم، و أكمل المواعظ، و أصوب القوانين، و أتمّ الأحكام في العبادات و المعاملات و المعاشرات في أمور الحياة و الأسرة و المجتمع، و في الحدود و الأقضية في السفر و الحضر و الأمن و الخوف و السلم و الحرب و العسرة و الغلبة و كلّ ما يحتاجه الإنسان في أصوله و فروعه بشكل ليس فيه أدنى خلل.

فجعل الله تعالى هذا القرآن مشتملا على كلّ ما تحتاج إليه الأمم، و هاديا إلى التي هي أقوم، كما جعل بيانه و تبيانه عند مهابط وحيه و خزّان علمه و ترجمانه في خلقه النبيّ الأمين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته الأطهار عليهم آلاف التحية و الثناء تكريسا للاقتداء، و تعظيما للإمامة و ما يترتّب عليها من فوائد كبيرة في دنيا الناس و دينهم.

7- من

حيث ما تضمّنه من الأخبار في قضايا الأمم السالفة، و خفايا القصص الماضية، و دقائق القرون الخالية، مثل أخبار آدم عليه السّلام و ابنيه، و مسائل نوح عليه السّلام، و أمور إبراهيم عليه السّلام، و قصّة أصحاب الكهف، و قضايا موسى ..... ممّا لم يطّلع عليها أحد إلا بعض خواصّ الأحبار و الرهبان الذين لم يكن النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معاشرا لهم، بل كان بعيدا عن مخالطتهم.

فكتاب كهذا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي لم يتعلّم عند أحد يكشف قطعا عن كونه من اللّه العالم بجميع الأمور.

علما بأنّ ما بيّنه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أخبار القرآن لم يكن اقتباسا من كتبهم، بل نقلا لحقيقة الأمر و واقعه الموجود عندهم، و إلّا لكانوا يرمونه بالسرقة من كتبهم و هم غير آبين من توجيه التهمة مع توفّر الدواعي الكافية في ذلك.

8- من حيث اشتماله على الأخبار عن ضمائر المنافقين و بواطن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 17

الكافرين و نوايا المشركين الخفيّة التي لم يطلع عليها أحد حتّى إنّهم كانوا يحذرون من أن تنزل فيهم آية تفضحهم، و تكشف نواياهم.

بل أخبر عن الأمور المستقبليّة و الحوادث المقبلة و الغيب الصادق و النبأ المطابق ممّا لم يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب مع كمال المطابقة و الصدق كما في قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1»، و قوله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

هذا مضافا إلى إخباراته عن الحقائق العلميّة التي لم ينكشف اليسير منها إلّا في الآونة الأخيرة

و القرون المتأخّرة على رغم تطوّر العلوم و المعارف.

9- من حيث خواصّه المعنويّة و خصائصه الذاتيّة في التأثير على الأرواح، و شفائه للقلوب و الضمائر، و علاجه للأجسام، و طمأنته للقلوب، و بركاته في النفوس، فضلا عن الآثار الوضعيّة الأخرى التي تلازمه في النظر و القراءة و الاستشهاد و الاحتفاظ و نحو ذلك.

10- من حيث طراوته و حلاوته و عدم الملل منه عند تلاوته و قراءته مهما زادت و تكرّرت، و بعد كلّ ذلك فإنّه لا يخلق على طول الأزمان، و لا يبلى، بل يستفاد منه في كلّ قراءة جديدة نكتة جديدة، و يجد القارئ المتدبّر فيه إلماعات و إشارات و حقائق و لطائف لم تظهر له من قبل،

فهو كلام اللّه البالغ، و حكمه الساطع، و هو نور لا يطفأ، و سراج لا يخبو كما ورد في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة

«3».

إلى غير ذلك من جهات و أسرار لا يسع المجال لبيانها هنا.

______________________________

(1) القمر: 46.

(2) الفتح: 28.

(3) نهج البلاغة: ص 315، الخطبة 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 18

الشيعة و الاهتمام البالغ بالقرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم أحدث في الحياة البشرية أعظم انقلاب و تغيير شمل كلّ مناحي الحياة، و امتدّ شعاعه إلى أبعد الأصقاع، و أذهل أقوى الأدمغة، و اكتسح أعظم الحضارات، و أقام فوق ركامها أنظف حضارة و أجمل حياة و أكمل سيادة و سياسة.

هذا و قد كان للشيعة اليد الطولى و السهم العظيم في الاهتمام به، و العمل على دراسته و تفسيره، و بيان معانيه و مضامينه، و اكتشاف أسراره و آياته و بيّناته بهدى من أئمّتهم عليهم السّلام الذين هم عدل القرآن و أهله الذين أنزل القرآن في بيوتهم.

فكتبوا و نشروا و

حثّوا أيما حثّ على قراءته و حفظه و نشره و تجويده و الاستناد إليه في كلّ حقول المعرفة، و كان السبب في اهتمام الشيعة بالقرآن في الدرجة الأولى هو أهمّيّة القرآن نفسه و عظمة أمره، ثمّ الاقتداء بالنبيّ الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من أهل بيته عليهم السّلام في ذلك.

فمن ينظر إلى الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام و التي تحدّثوا فيها عن القرآن الكريم يواجه عناية بالغة و كبيرة منهم بهذا الكتاب الإلهي الخالد، ثم من يطّلع على بقيّة أحاديثهم في شتى جوانب الدين يجدها مليئة بالاستدلالات من القرآن الكريم ممّا يكشف عن شدّة حرصهم على البقاء إلى جانب القرآن و الانطلاق منه و الرجوع إليه، و يشهد بذلك ما ألّفه علماء الإمامية سدّدهم اللّه تعالى و رواتهم حول فضل القرآن و خصائصه و علومه و مزاياه و في شتى المجالات. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 19

ما يلي:

1- كتاب فضل القرآن ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الإمام الرضا عليه السّلام.

2- كتاب فضل القرآن لمحمّد بن الحسن الصفّار المتوفّى سنة 290 ه.

3- كتاب نوادر القرآن لعليّ بن إبراهيم بن هاشم في القرن الثالث الهجري.

4- كتاب فضل القرآن لمحمّد بن مسعود العيّاشي في القرن الثالث الهجري.

5- كتاب فضائل القرآن لأحمد بن محمّد بن عمّار المتوفّى سنة 346 ه.

كما عقد جمع من علماء الإمامية أبوابا خاصّة حول القرآن في كتب الحديث مثل:

1- كتاب فضل القرآن في الجزء الثاني من (أصول الكافي) للكليني.

2- كتاب فضل القرآن في الجزء الثاني من موسوعة (من لا يحضره الفقيه).

3- كتاب القرآن في الجزء الرابع من موسوعة (وسائل

الشيعة).

4- كتاب القرآن في الجزء الأوّل من (مستدرك وسائل الشيعة).

5- كتاب القرآن في الجزء الثاني و التسعين من موسوعة (بحار الأنوار).

و هذا يدلّك على مدى اهتمام الشيعة بالقرآن الكريم، كما أنّ التأريخ يشهد لهم مدى تفانيهم و بذلهم لأرواحهم على مدى التأريخ في سبيل القرآن الكريم و العترة الطاهرة عليهم السّلام. و قبل كلّ ذلك كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 20

هو أوّل من سمع القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خالجته آياته، و هو أوّل من جمعه بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كتب تفسيره و تأويله و شأن نزوله كما في متضافر الأدلّة «1».

أمّا في علوم التفسير فكان الشيعة لهم القدم الأوّل في ذلك، و قد ذكر الشيخ الذهبي من علماء الأزهر في كتابه التفسير و المفسّرون عددا من ذلك بعد أن استعرض بنحو مجمل من كتب في العصر الإسلامي الأوّل، و عدّ على رأسها تفسير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فهو أوّل من كتب في التفسير، ثم قال في كتابه: و قد عدّ السيوطي في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة و سمّاهم، و من سمّاهم ابن مسعود، و ابن عبّاس، و أبي بن كعب، و زيد بن ثابت و غيرهم ... ثمّ قال: أمّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير «2».

و في مكان آخر قال: جمع عليّ عليه السّلام إلى مهارته في القضاء و الفتوى علمه بكتاب اللّه، و فهمه لأسراره و خفي معانيه، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل و معرفة التأويل، و قد

روي عن ابن عباس أنه قال: ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. «3» و ليس الذهبي منفردا في هذا القول، فقد ذكر هذا الكثيرون غيره «4».

أمّا أوّل من صنّف في التفسير فهو ترجمان القرآن عبد اللّه بن العبّاس المتوفّى سنة 68، ثم تلميذه سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج عام 94 «5»، و قيل: سنة 95 و كان من المشهورين في التفسير، بل روي عن قتادة أن

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 316- 317؛ الذريعة: ج 4، ص 231.

(2) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 63- 64.

(3) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 89- 90.

(4) بين الجدران: ج 1، ص 17- 18؛ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 52.

(5) الذريعة: ج 4، ص 233.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 21

سعيدا كان أعلم معاصريه بالتفسير «1». و أسند أبو عمر الكشي في كتاب الرجال عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام أنه قال: سعيد بن جبير كان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليه السّلام، و كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يثني عليه. و ما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر- يعني التشيّع- و كان مستقيما «2».

و قد اهتمّ الشيعة اهتماما كبيرا بالتفسير، و كتبوا فيه الكثير من الكتب، منها في تفسير كل القرآن، و منها في بعضه.

القرآن و أهل البيت عليهم السّلام

إنّ من يتتبّع أحاديث العترة النبويّة الطاهرة يجدها تسير جنبا إلى جنب مع القرآن، تتمسّك بآياته، و تستدلّ بإشاراته، كما أنّ القرآن الكريم نفسه يشيد بمواقفهم و أقوالهم عليهم السّلام؛ إذ وصفهم بالطهارة من الرجس المعنوي و الماديّ ذلك الوصف المؤكّد الذي يقتضي تنزيههم عن أيّ خطأ

و خطل، و مخالفة للكتاب، بل يقتضي كونهم مع القرآن في هدف واحد، و على جادّة واحدة، و لا غرابة إذا قيل: إنّهم عليهم السّلام ورثوا الكتاب و علمه و فهمه و فقه أسراره و مقاصده و أبعاده و بطونه دون غيرهم، فذلك أمر قد جرى بعض منه في الأنبياء السابقين و أوصيائهم كما يصرّح القرآن الكريم بذلك.

و قد صرّح أئمّة أهل البيت المطهّرون عليهم السّلام بهذا الأمر في تصريحات مستقلّة، مثلما

روي عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام إذ قال

«نحن الذين اصطفانا اللّه عزّ و جلّ، و أورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شي ء»

«3» على أنّ العقل يحتمّ مثل هذه الوراثة للكتاب و علمه و فهمه و فقهه؛ إذ لو لا الصفوة التي ترث مسئوليّة الحفاظ على الرسالة لضاعت الرسالة،

______________________________

(1) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 55؛ انظر الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1234؛ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 324.

(2) رجال الكشي: ج 1، ص 335.

(3) أصول الكافي: ج 1، ص 226، ح 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 22

و ضاعت جهود صاحبها، و انتقض الغرض من بعثته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و من البديهي أنّ أولى الناس بذلك هو من يرتبط بصاحب الرسالة بوشائج القربى، و يكون على درجة عالية من الطهر و التقى و الورع و الذكاء و النبوغ ليزداد حرصه على الرسالة و على ميراث صاحبها من العلوم و المعارف؛ و لهذا اختصّ نسب الرسول و ذرّيّته عليهم السّلام بعلم الكتاب العزيز، فهم تحمّلوه و حملوه كمسؤولية كبري، و تجشّموا في سبيل المحافظة عليه عناء كبيرا و نصبا كثيرا، و قاتلوا الناس على تنزيله، ثمّ

قاتلوهم على تأويله، ثم إنّ البراهين و الأدلّة العمليّة التي قدّمها الأئمة عليهم السّلام في مجال تفسير القرآن و فكّ رموزه و بيان بطونه و أبعاده بنفسها خير شاهد على ذلك، و نذكر هنا جملة من الأحاديث الواردة بهذا الشأن تيمّنا و تبرّكا:

1-

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

«1».

2-

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا أوّل وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة و كتابه و أهل بيتي، ثمّ أمّتي، ثمّ أسألهم ما فعلتم بكتاب اللّه و أهل بيتي»

«2».

3- و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هم مع القرآن و القرآن معهم لا يفارقونه حتى يردوا عليّ الحوض»

«3».

و لا يخفى على اللبيب دلالة (المعيّة و عدم المفارقة) على التلازم و عدم الافتراق أو الاختلاف في كل شي ء حتّى يوم القيامة.

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 7، ص 254- 255، ح 8181، باب 47 من كتاب الزكاة؛ بحار الأنوار: ج 2، ص 100، ح 59؛ و انظر الإرشاد: ج 1، ص 233.

(2) وسائل الشيعة: ج 6، ص 170، ح 2، باب 2 من أبواب قراءة القرآن.

(3) بحار الأنوار: ج 22، ص 150، ح 142.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 23

4- و

عن عليّ عليه السّلام قال: «سلوني فو اللّه لا تسألوني عن شي ء إلّا أخبرتكم به و اسألوني عن كتاب اللّه فو اللّه ما من آية إلّا و أنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أم

في سهل أم في جبل»

«1».

5- و

عنه عليه السّلام قال: «و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيم نزلت و أين نزلت ... إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا»

«2».

6- و

عنه عليه السّلام قال: «سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب اللّه، فما من آية إلّا و أعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض»

«3».

7- و

عن أبي الصباح قال: و اللّه لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهما السّلام: «إنّ اللّه علّم نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التنزيل و التأويل، فعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام قال: و علّمنا و اللّه»

«4».

8- و

عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام يقول: «و اللّه إنّي لأعلم كتاب اللّه من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء و خبر الأرض و خبر ما كان و خبر ما هو كائن. قال اللّه عزّ و جلّ: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»

«5» «6».

9- و

عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «7» قال: هم الأئمّة عليهم السّلام»

«8».

______________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن: ج 2 ص 1227؛ و انظر الغدير: ج 6، ص 193؛ بحار الأنوار:

ج 40، ص 179، ح 61.

(2) المناقب: ج 2، ص 43؛ الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1227.

(3) بحار الأنوار: ج 40 ص 190، ح 74.

(4) الكافي: ج 7، ص 442، ح 15؛ التهذيب: ج 8، ص 286، ح 1052، وسائل الشيعة:

ج 23، ص 224، ح 29426، باب 12 من أبواب كتاب الأيمان.

(5) النحل:

90.

(6) أصول الكافي: ج 1، ص 229، ح 4، و فيه «فيه تبيان كلّ شي ء».

(7) العنكبوت: 50.

(8) أصول الكافي: ج 1، ص 214، ح 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 24

و

في رواية أخرى: «هم الأئمّة عليهم السّلام خاصّة»

«1».

10- و

عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في تفسير قول اللّه عزّ و جلّ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» قال عليه السّلام: «إنّما نحن الذين يعلمون، و الذين لا يعلمون عدوّنا، و شيعتنا أولو الألباب»

«3».

11- و

عن عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى طهّرنا و عصمنا و جعلنا شهداء على خلقه، و حجّته في أرضه، و جعلنا مع القرآن، و جعل القرآن معنا لا نفارقه و لا يفارقنا»

«4».

12- و

عنه عليه السّلام قال: «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد، فينا نزل القرآن، و فينا معدن الرسالة»

«5».

13- و

عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «6» قال عليه السّلام: «الذكر القرآن، و نحن أهله»

«7».

14- و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «8» قال عليه السّلام: «الثقلان نحن و القرآن»

«9».

15- و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن»

«10».

هذا و قد تواترت الأخبار الدالّة على كونهم عليهم السّلام عدل القرآن و الثقل الذي أوصى به النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الدالّ على تلاحمهم المطلق مع القرآن فكرا و قولا و عملا، بل هم القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى، و قد وردت أكثر من ثلاثين رواية بهذا الشأن عن طرقنا، و أكثر من ستّ عشرة

______________________________

(1)

أصول الكافي: ج 1، ص 214، ح 5.

(2) الزمر: 10.

(3) أصول الكافي: ج 1، ص 212، ح 1.

(4) بحار الأنوار: ج 23، ص 343، ح 26.

(5) بحار الأنوار: ج 26، ص 269، ح 5.

(6) النحل: 44.

(7) بحار الأنوار: ج 23، ص 181، ح 37.

(8) الرحمن: 32.

(9) بحار الأنوار: ج 24، ص 324، ح 37.

(10) بحار الأنوار: ج 89، ص 27، ح 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 25

رواية من طرق العامّة تدلّ على ذلك، كما أورده العلّامة البحراني «1» و غيره.

و من هنا اتّفق أصحابنا على أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح عن النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة الطاهرين عليهم السّلام، و حرّموا القول فيه بالرأي و الاجتهاد، و هذا ما رواه العامّة أيضا

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فسّر القرآن برأيه و أصاب الحقّ فقد أخطأ»

«2» و الظاهر أنهم التزموا به من حيث الكبرى و إن خالف جمع غير قليل من مفسّريهم الالتزام بذلك من حيث الصغرى. خصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة بشأن أهل البيت عليهم السّلام و بيان فضائلهم و مقاماتهم الربّانيّة.

و من الواضح أنّه لا يجوز أن يكون في كلام اللّه عزّ و جلّ و حججه المعصومة عليهم السّلام تناقض أو تضادّ أو تعارض حقيقي لما فيه من القبح و نقض الغرض و غيرهما من المحالات.

كيف لا و قد عرفت أنّهم عليهم السّلام عدله، بل و الناطق من كلماته و آياته، كما أنّه الميزان الذي يفصل بين منطقهم و حديثهم و منطق و حديث غيرهم، و ممّا يؤكّد ذلك ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم و الأئمّة عليهم السّلام: «إذا جاءكم منّا حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالفه فاطرحوه أو ردّوه علينا»

«3».

و لعلمائنا الأعلام في علمي التفسير و الأصول كلام مفصّل في بيان المقصود من التفسير بالرأي و حلّ بعض التشابه البدوي الذي قد يتصوّره البعض تعارضا واقعا بين الآيات و الروايات بما لا يسعنا المجال لبيانه هنا «4».

______________________________

(1) البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص 9- 15 و 26- 28.

(2) التبيان: ج 1، ص 4، مقدّمة المؤلّف.

(3) التهذيب: ج 7، ص 275، ح 1169.

(4) من أراد الاطّلاع يمكنه مراجعة مجمع البيان: ج 1، ص 6؛ تفسير الصافي: ج 1، ص 32- 35؛ البرهان في تفسير القرآن: ج 1، ص 17- 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 26

هذا مضافا إلى ما تواتر نقله في كتب العامّة فضلا عن الخاصّة من حديث الثقلين الدالّ على تلاحم القرآن و أهل البيت عليهم السّلام، فقد أوردوا في كتبهم من روايته عن الصحابة الذين سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أكثر من ثلاثين صحابيا، و بقي على ذلك متواترا في كلّ عصر إلى العصر الحاضر، و نصّ الحديث هو

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»

«1».

و لا يخفى أنّ لفظ العترة و الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين أهل البيت عليهم السّلام يعيّنان المراد من أهل البيت عليهم السّلام، فضلا عن دلالة الإجماع و العقل.

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما إن تمسّكتم بهما لن

تضلّوا»

مع

قول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و إنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»

يعيّنان الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهم السّلام من عترة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذرّيّته كما ذكره العلّامة البلاغي (قده) و لعلّ من دلائل ذلك أيضا إجماع المسلمين على أنّ من عداهم عليهم السّلام ليس معصوما، و لا يتّصف بأنّه مثل كتاب اللّه لا يضلّ من تمسّك به. و هذه أسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: 1- عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام 2- عبد اللّه بن عبّاس 3- أبو ذرّ الغفاري 4- جابر الأنصاري 5- عبد اللّه بن عمر 6- حذيفة بن أسيد 7- زيد بن أرقم 8- عبد الرحمن ابن عوف 9- ضميرة الأسلمي 10- عاصم بن ليلى 11- أبو رافع 12- أبو هريرة 13- عبد اللّه بن حنطب 14- زيد بن ثابت 15- أم سلمة 16- أم هاني أخت أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام 17- خزيمة بن ثابت 18- سهل بن سعد 19- عدي بن حاتم 20- عقبة بن عامر 21- أبو أيوب الأنصاري 22-

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 27، ص 34، ح 33144، باب 6 من أبواب صفات القاضي و ما يجوز أن يقضي به؛ و انظر الخصال: ج 1، ص 65، ح 97؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 663، ح 3788؛ مسند أحمد: ج 3، ص 14 و 17 و 26؛ المستدرك على الصحيحين:

ج 3، ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 27

أبو سعيد الخدري 23- أبو شريح الخزاعي 24- أبو قدامة الأنصاري 25- أبو ليلى 26- أبو الهيثم بن التيهان.

و هؤلاء الذين

ذكرنا أسماءهم من بعد أم هاني قد رواه كلّ منهم منفردا كمن تقدّمه، و قاموا في رحبة الكوفة مع سبعة من قريش، فشهدوا أنّهم سمعوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهؤلاء ثلاثة و ثلاثون، و رواه أبو نعيم الإصبهاني في كتاب (منقبة المطهّرين) مسندا عن جبير بن مطعم، و أسنده أيضا عن أنس بن مالك، و أسنده عن البراء بن عازب، و رواه موفّق بن أحمد أخطب خوارزم عن عمرو بن العاص. و قلّما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنّة من أوّل ما أخرج الحديث من الحفظ و صدور الحفّاظ إلى صحف المحدّثين و لا زالت يروى فيها عن صحابي واحد أو أكثر، و ربّما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابيا إمّا مجملا كما في الصواعق، و إمّا مسندا مفصّلا كما في كتب السخاوي و السيوطي و السمهودي و غيرهم، و من أراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب العبقات.

كما و رواه الإماميّة في كتبهم و أسانيدهم المتكرّرة عن الباقر و الصادق و الكاظم و الرضا عليهم السّلام، عن آبائهم عليهم السّلام، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين عليه السّلام و عمر و أبي ذرّ و جابر و أبي سعيد و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت و حذيفة بن أسيد و أبي هريرة و غيرهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في غاية المرام «1».

أهل البيت عليهم السّلام عدل القرآن

تضافرت الأدلة من الآيات و الروايات بل و هو ممّا يحكم به

العقل أيضا فضلا عن الإجماع أنّ أهل البيت عليهم السّلام عدل القرآن الكريم، و هما القيمتان

______________________________

(1) انظر علوم القرآن عند المفسّرين: ج 1، ص 204.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 28

المتكاملتان و المتلاحمتان في الجوهر و المضمون، و لا يفصل بينهما مكان أو زمان أو رأي أو مفهوم، و لا يوزّعهما فكر أو تطبيق، شعاعان من نور واحد، و طريقان في هدف واحد، يشتركان معا في إضاءة عقل الإنسان و روحه و قلبه، و يوجّهانه إلى حيث سعادته و بناء حياته و حضارته الحرّة الكريمة، فلو لا القرآن لم يكن للحياة هدى، و لا للإنسان رشد، و لا علق في طرفه نور، و لو لا أهل البيت عليهم السّلام لم يكن للرشد مرشد، و لا للعلم معلم أو تعليم، و لا للنور شعاع أو مصباح. فالقرآن أصل العلم، و أهل البيت عليهم السّلام معرفته و معدنه و بيانه؛ و لذا كان أكثر ما نزل به القرآن ما يرتبط بهم عليهم السّلام من قريب أو بعيد، فبعضه في ولايتهم و مودّتهم و طاعتهم عليهم السّلام، و بعضه في فضح أعدائهم، و بعضه في الأحكام و الفضائل التي لا تصل غايتها و لا تقع مقبولة عند الخالق تبارك و تعالى إلّا إذا اقترنت بمحبّتهم، و وصلت من طرقهم.

فيمن نزل القرآن

1-

عن أبي الجارود قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «نزل القرآن على أربعة أرباع، ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع في فرائض و أحكام، و ربع سنن و أمثال، و لنا كرائم القرآن»

«1».

2-

عن عبد اللّه بن سنان قال سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القرآن و الفرقان قال: «القرآن جملة الكتاب و أخبار

ما يكون، و الفرقان المحكم الذي يعمل به، و كلّ محكم فهو فرقان»

«2».

3- و

عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: «نزل القرآن أثلاثا، ثلث فينا و في عدونا، و ثلث سنن و أمثال، و ثلث فرائض و أحكام»

«3».

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 1.

(2) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 2.

(3) تفسير العياشي: ج 1، ص 9، ح 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 29

4-

عن محمّد بن خالد بن الحجّاج الكرخي، عن بعض أصحابه رفعه إلى خيثمة قال: قال أبو جعفر: «يا خيثمة، القرآن نزل أثلاثا، ثلث فينا و في أحبّائنا، و ثلث في أعدائنا و عدوّ من كان قبلنا، و ثلث سنّة و مثل، و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ء، و لكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات و الأرض، و لكلّ قوم آية يتلونها و هم منها من خير أو شرّ»

«1».

و لا تنافي بين هذه الأخبار؛ لأنّ بناء هذا التقسيم ليس على التسوية الحقيقيّة، و لا على التفريق من جميع الوجوه، بل على أصل التصنيف، فإطلاقه لا ينفي ما عداه لكونه ليس في مقام البيان، و عليه فلا بأس باختلاف الأخبار بالتثليث و التربيع، و لا بزيادة بعض الأقسام على الثلث أو الربع أو نقصه عنهما، و لا دخول بعضها في بعض.

هذا و قد وردت أخبار جمّة عن أهل البيت عليهم السّلام في تأويل كثير من آيات القرآن بهم و بأوليائهم و أعدائهم، حتّى إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم

عليهم السّلام في تأويل آية آية، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على ترتيب القرآن، و قد روي في الكافي و في تفسيري العياشي و عليّ بن إبراهيم القمّي و التفسير المسموع من الإمام أبي محمّد الزكي أخبار كثيرة من هذا القبيل «2»، منها ما

رواه في الكافي عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (194) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (195) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3». قال: «هي الولاية لأمير المؤمنين عليه السّلام»

«4».

و

في تفسير الصافي نقلا عن العيّاشي عن محمّد بن مسلم عن أبي

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ص 10، ح 7.

(2) انظر علوم القرآن عند المفسّرين: ج 1، ص 209.

(3) الشعراء 194- 196.

(4) أصول الكافي: ج 1، ص 412، ح 1. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 30

جعفر عليه السّلام قال: «يا أبا محمّد، إذا سمعت اللّه ذكر قوما من هذه الأمّة بخير فنحن هم، و إذا سمعت اللّه ذكر قوما بسوء ممّن مضى فهم عدوّنا»

«1».

و

فيه عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام سأله عن قول اللّه تعالى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «2».

قال: فلمّا رآني أتتبّع هذا و أشباهه من الكتاب قال: «حسبك كلّ شي ء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته، مثل هذا فهو في الأئمّة عنوا به»

«3».

و قد أشار الفيض الكاشاني (قدّس سرّه) إلى بعض السرّ فيه في تفسيره، فقال: إنّه لمّا أراد اللّه أن يعرّف نفسه لخلقه ليعبدوه، و كان لم يتيسّر معرفته كما أراد على سنّة الأسباب إلّا بوجود الأنبياء و الأوصياء؛ إذ بهم تحصل المعرفة التامّة و العبادة الكاملة دون غيرهم، و كان لم

يتيسّر وجود الأنبياء و الأوصياء إلّا بخلق سائر الخلق ليكون أنسا لهم، و سببا لمعاشهم؛ فلذلك خلق سائر الخلق، ثمّ أمرهم بمعرفة أنبيائه و أوليائه و ولايتهم، و التبرّي من أعدائهم، و ممّا يصدّهم عن ذلك، ليكونوا ذوي حظوظ من نعيمهم، و وهب الكلّ معرفة نفسه على قدر معرفتهم بالأنبياء و الأوصياء؛ إذ بمعرفتهم إيّاهم يعرفون اللّه، و بولايتهم إيّاهم يتولّون اللّه، فكلّ ما ورد من البشارة و الإنذار و الأوامر و النواهي و النصائح و المواعظ من اللّه سبحانه فإنّما هو لذلك، و لمّا كان نبيّنا سيّد الأنبياء و وصيّه سيد الأوصياء لجمعهما كمالات سائر الأنبياء و الأوصياء و مقاماتهم مع مالهما من الفضل عليهم و كان كلّ منهما نفس الآخر صحّ أن ينسب إلى أحدهما من الفضل ما ينسب إليهم لاشتماله على الكلّ، و جمعه لفضائل الكلّ، و حيث كان الأكمل يكون الكامل لا محالة؛ و لذلك خصّ تأويل الآيات بهما، و بسائر أهل البيت عليهم السّلام الذين هم منهما ذرّيّة بعضها من بعض، و جي ء بالكلمة الجامعة التي هي الولاية فإنها مشتملة

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 1، ص 23- 24.

(2) الرعد: 44.

(3) تفسير الصافي: ج 1، ص 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 31

على المعرفة و المحبّة و المتابعة و سائر ما لا بدّ منه في ذلك.

و أيضا فإنّ أحكام اللّه سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلّيّة و المقامات النوعيّة دون خصائص الأفراد و الآحاد، فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب و ذلك الفعل عند العلماء و أولي الألباب كلّ من كان من سنخ أولئك القوم و طينتهم، فصفوة اللّه حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم

مكرمة يشمل ذلك كلّ من كان من سنخهم و طينتهم من الأنبياء و الأولياء و كلّ من كان من المقرّبين، إلّا مكرمة خصّوا بها دون غيرهم، و كذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم بسوء و نسب إليهم سوء يدخل في الأوّل كلّ من كان من سنخ شيعتهم و طينة محبّيهم، و في الثاني كلّ من كان من سنخ أعدائهم و طينة مبغضيهم من الأوّلين و الآخرين؛ و ذلك لأنّ كلّ من أحبّه اللّه و رسوله أحبّه كلّ مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه، و كلّ من أبغضه اللّه و رسوله أبغضه كلّ مؤمن كذلك، و هو يبغض كلّ من أحبّه اللّه تعالى و رسوله، و كلّ مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم و محبّيهم، و كلّ جاحد في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم و مبغضيهم.

و قد وردت الإشارة إلى ذلك في كلام الصادق عليه السّلام في حديث المفضّل بن عمر، و هو الذي

رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب علل الشرائع بإسناده عن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: بم صار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قسيم الجنّة و النار؟ قال: «لأن حبّه إيمان، و بغضه كفر، و إنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان، و خلقت النار لأهل الكفر، فهو عليه السّلام قسيم الجنّة و النار لهذه العلّة، و الجنّة لا يدخلها إلّا أهل محبّته، و النار لا يدخلها إلّا أهل بغضه».

قال المفضّل: يا ابن رسول اللّه فالأنبياء و الأوصياء هل كانوا يحبّونه و أعداؤهم يبغضونه؟ فقال «نعم» قلت: فكيف ذلك؟ قال: «أما علمت

أنّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 32

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه تعالى و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، ما يرجع حتّى يفتح اللّه على يده؟» قلت: بلى. قال:

«أما علمت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أوتي بالطائر المشوي قال: اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير و عنى به عليّا؟» قلت: بلى. قال:

«يجوز أن لا يحبّ أنبياء اللّه و رسله و أوصياؤهم عليهم السّلام رجلا يحبّه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله؟» فقلت: لا. قال: «فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب اللّه و حبيب رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنبيائه؟» قلت: لا. قال: «فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللّه و رسله و جميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام محبّين، و ثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له و لجميع محبّيه مبغضين» قلت: نعم. قال: «فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين و الآخرين، فهو إذا قسيم الجنّة و النار».

قال المفضل بن عمر، فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك فزدني ممّا علّمك اللّه تعالى، فقال: «سل يا مفضل» فقلت: أسأل يا ابن رسول اللّه فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام يدخل محبّه الجنّة و مبغضه النار أو رضوان و مالك؟ فقال: «يا مفضّل، أما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله و هو روح إلى الأنبياء و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام؟» قلت: بلى. قال: «أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد اللّه و طاعته

و اتّباع أمره، و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما أجابوا إليه و أنكره النار؟» فقلت: بلى. قال: «أ فليس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضامنا لما وعد و أوعد عن ربّه عزّ و جلّ؟» قلت: بلى. قال: «أ و ليس عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خليفته و إمام أمّته؟» قلت: بلى. قال: «أ و ليس رضوان و مالك من جملة الملائكة و المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته» قلت: بلى. قال: «فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام إذا قسيم الجنّة و النار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و رضوان و مالك صادران عن أمره بأمر اللّه تبارك و تعالى، يا مفضّل، خذ هذا فإنّه من مخزون العلم و مكنونه لا تخرجه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 33

إلّا إلى أهله»

«1».

عن تفسير الإمام العسكري عليه السّلام عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال

«من دفع فضل أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كذّب بالتوراة و الإنجيل و الزبور و صحف إبراهيم و سائر كتب اللّه المنزّلة، فإنّه ما نزل شي ء منها إلّا و أهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد اللّه تعالى و الإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ و الطيّبين من آله عليهم السّلام»

«2».

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: ما قبض اللّه نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى عشيرته من عصبته، و أمرني أن أوصي، فقلت: إلى من يا ربّ؟ فقال:

أوص يا محمّد إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة، و كتبت فيها أنّه وصيّك، و على ذلك أخذت ميثاق الخلائق و

مواثيق أنبيائي و رسلي. أخذت مواثيقهم لي بالربوبيّة، و لك يا محمّد بالنبوّة، و لعليّ بن أبي طالب بالولاية

«3».

و

عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السّلام في رواية طويلة قال: «فنحن أوّل خلق اللّه و أوّل خلق عبد اللّه و سبّحه، و نحن سبب خلق، و سبب تسبيحهم و عبادتهم من الملائكة و الآدميين، فبنا عرف اللّه، و بنا وحّد اللّه، و بنا عبد اللّه، و بنا أكرم اللّه من أكرم من جميع خلقه، و بنا أثاب من أثاب، و بنا عاقب من عاقب، ثمّ تلا قوله تعالى: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (166) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ «4». و قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «5».

فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّل من عبد اللّه تعالى، و أوّل من أنكر أن يكون له ولد و شريك، ثمّ نحن بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

«6».

فظهر من جميع ما ذكر أنّ حقيقة الدين و روح الأحكام معرفتهم

______________________________

(1) تفسير الصافي: ج 1، ص 24- 26.

(2) تفسير الإمام العسكري: ص 83، ح 46.

(3) بحار الأنوار: ج 26، ص 272، ح 11.

(4) الصافات: 166- 167.

(5) الزخرف: 82.

(6) بحار الأنوار: ج 25، ص 20، ح 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 34

و ولايتهم، و جميع الخلق راجع إليهم، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم و ما يتعلّق بهم و بشؤونهم في دلالة اللفظيّة أو اللبيّة أو النقليّة، فتأمل.

لمحة تأريخيّة عن علوم القرآن

لقد أدركت الطلائع المؤمنة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهميّة العلم، و وعت أن الشخصيّة الإسلاميّة عمادها الأساس هو التوحيد، و أنّ طريق التوحيد هو العلم، فانبرت

للعلم تنهله، و ترتاد رياضه، و طلبت العلم ليهديها إلى حقائق الكون، و لتبلغ المراتب السامية في مدارج الرقي الحضاري، و تنافست في مصداق قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1». و تسابقت كسبا للدرجات العليا عند اللّه تعالى، و نيلا للرفعة و المنزلة السامية لديه ... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «2».

و فهم المسلمون الأوائل البون الشاسع بين الجهل و العلم في اعتبارات القرآن حين ثقفوا قوله تعالى: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «3» في الوقت الذي أشاد اللّه تعالى بشهادة أهل العلم على وحدانيّته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «4».

و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النمير العذب و السلسل الرقراق لمختلف العلوم و المعارف، فأحاط به جمع من الصحابة الأجلّاء، يقتبسون منه سناء العلم، و يستضيئون بهداه.

غير أن هذه العلوم القرآنية لم تدوّن جميعها عند تدوين القرآن في العهد الرسالي؛ و ذلك لأسباب عديدة عدّ بعضهم منها ما يلي:

______________________________

(1) الزمر: 10.

(2) المجادلة: 12.

(3) الروم: 60.

(4) آل عمران: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 35

1- وجود الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المسلمين يوضّح لهم ما أشكل عليهم فهمه، و يبصّرهم بحقائق التفسير، و يوجّههم نحو المقاصد القرآنيّة، فهو ... يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ .... «1».

2- قدرتهم على الفهم المباشر و الاستيعاب الصحيح، لفصاحتهم و بلاغتهم العربيّة الأصيلة؛ و لأنّ القرآن الكريم: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (194)

عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (195) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «2».

3- لعسر الكتابة و ندرة أدواتها و قلّة الكتّاب للتعلّم و التعليم، و بعد أن اختار اللّه سبحانه و تعالى الصادق الأمين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى جواره تباري المسلمون الغيارى على الدين في تدوين العلوم و تصنيفها حسبما توفّرت لديهم من الوسائل و الأدوات، و لعلّ من أهمّ الأسباب التي دفعتهم إلى التدوين:

أ- الرغبة في أن يكونوا مصاديق تتحقّق فيهم إرادة اللّه الأزلية في حفظ القرآن و تخليده بالبحث فيما احتواه من علوم و ما تضمّنه من معارف لما يترتّب على ذلك من هداية و تعليم و تربية.

ب- خدمة الأمّة الإسلاميّة جيلا بعد جيل بإشاعة العلم بينها، و نقله لها دون خطأ أو اشتباه بتدوينه، لا سيّما بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم.

ج- تزكية ما لديهم من العلم بنشره بين المسلمين، فإنّ في نشره زكاة له.

د- نيل الثواب العظيم في طلب العلم و نشره و ترويجه، حيث رفع اللّه سبحانه درجات العلماء في الدنيا و الآخرة، و جعل طلب العلم في أعلى مراتب المستحبات و المندوبات، و في بعض مراتبه من أهمّ الفرائض

______________________________

(1) آل عمران: 165.

(2) الشعراء: 194- 196.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 36

و الواجبات، كما ظلّل أهل العلم بأجنحة ملائكته، و سخّرهم للاستغفار عنهم و الدعاء لهم كما هو في متضافر الأخبار على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه.

هذا و قد كان مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الرجل الأوّل، و المحرز لقصب السبق في مضمار تدوين القرآن و تفسيره و بيان علومه.

قال في الإتقان: أخرج ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال: قال عليّ

عليه السّلام: «لما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آليت ألا آخذ عليّ ردائي إلّا لصلاة جمعة حتّى أجمع القرآن».

و كذلك ابن الضريس في فضائله، و ابن أشتة في المصاحف من وجه آخر، و فيه أنّه كتب فيه الناسخ و المنسوخ «1».

و الجدير بالذكر أنّ جمع مولانا أمير المؤمنين القرآن لا يعني أنّه لم يكن مدوّنا، بل كان مدوّنا في الرقاع و العسب و نحوها، و قام أمير المؤمنين عليه السّلام بتدوينه مصحفا، و ذلك بترتيب (الجذاذات) المدوّن عليها و توحيدها.

و المشهور أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أمر أبا الأسود الدؤلي (ت 69 ه) بوضع بعض قواعد اللغة حفاظا على سلامتها، فكان عليه السّلام أوّل من وضع الأساس لعلم إعراب القرآن.

و أمّا في مضمار التفسير فقد جاء: أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب، و الرواية عن الثلاثة نزرة جدّا «2».

و

عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّه قال: «و اللّه ما نزلت آية إلّا و قد علمت فيما أنزلت و أين أنزلت، إنّ ربّي

______________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن: ج 1، ص 183.

(2) الإتقان في علوم القرآن: ج 2، ص 1227. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 37

وهب لي قلبا عقولا و لسانا سؤولا»

«1».

و

عن الأصبغ بن نباته أنّه عليه السّلام قال في خطبة له: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، لو سألتموني عن أيّة آية لأخبرتكم بوقت نزولها، و فيم نزلت، و أنبأتكم بناسخها من منسوخها، و خاصّها من عامّها، و محكمها من متشابهها، و مكيّها من مدنيّها»

«2».

و

عن ابن الطفيل قال: شهدت عليّا يخطب و

هو يقول: «سلوني ...

فو اللّه ما من آية إلّا و أنا أعلم أ بليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل»

«3».

و فتق الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام سائر العلوم القرآنية و صنّفها، فلقد أملى ستّين نوعا من أنواع علوم القرآن، و ذكر لكلّ نوع مثالا يخصّه، و هو في كتاب نرويه عنه من عدّة طرق موجود بأيدينا إلى اليوم، و قد أخرجه بتمامه العلّامة المجلسي «4» (قده) في الجزء الأربعين من بحار الأنوار.

و ليس عجبا أن ينال الإمام عليّ عليه السّلام هذه المرتبة، و أن يدّخر هذه الكنوز العلميّة، و أن يبلغ هذا الشأن؛ لأنّه العلم الهادي و الحجّة في الخلق.

و من هنا يرى البعض أنّه لا يصحّ فيه ما اشتهر قوله: إنّه عليه السّلام أوّل الصحابة إسلاما، و أقدمهم إيمانا- لأنّ عليّا عليه السّلام هو وصيّ رسول ربّ العالمين، و حجّة اللّه على خلقه، ولد مؤمنا مسلما معيّنا من قبل اللّه تعالى للوصيّة و الخلافة و الإمامة قبل أن يخلق اللّه الخلق- إلّا على نحو الإضافة أو المجاز على ما هو المستفاد من بعض الروايات، كما أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان

______________________________

(1) المصدر نفسه.

(2) الإرشاد: ج 1، ص 35.

(3) بحار الأنوار: ج 40، ص 179، ح 61.

(4) هو المحدث الكبير محمد باقر بن محمد تقي الأصفهاني المشهور بالمجلسي (1037- 1110 ه).

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 38

نبيّا قبل أن يخلق في الحياة الدنيا، و من تلك الأحاديث و الروايات التي ذكرت و هي صريحة في عموم أخذ الميثاق للجميع بالنبوّة و الولاية في عالم الذر «1».

الحديث الشريف: «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين»

«2».

و في آخر:

«كنت حيّا و آدم بين الماء و الطين»

«3». و كذلك

الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت الأفلاك»

«4». إلى غيرها من الروايات و الأحاديث المعتبرة.

و قد ورد في كتاب «إليا» و الذي نشرته دار المعارف الإسلامية في لاهور في باكستان في تموز عام 1951 م تحت عنوان «أسماء مباركة توسّل بها نوح عليه السّلام» حيث عثر العلماء السوفيت في منطقة «وادي قاف» على خشبة قديمة قالوا: إنها تعود إلى سفينة نوح عليه السّلام مكتوب عليها مجموعة من الحروف باللغة السامانيّة، و هي أقدم لغات العالم، و ترجم حروف هذه اللوحة إلى اللغة الإنجليزيّة العالم البريطاني «إيف ماكس» أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر، و لا يخفى أنّ «إيليا» و «شبر» و «شبير» هي أسماء باللغة السامانية، و معناها بالعربيّة «عليّ» و «حسن» و «حسين» و قد

جاء في دعاء النبيّ نوح عليه السّلام بعد ترجمته: «إلهي بلطفك و رحمتك و بالذوات المقدّسة محمّد إيليا شبّر شبير فاطمة خذ بيدي، فإنّ هؤلاء الخمسة عظماء يجب احترامهم، و من أجلهم خلق اللّه تعالى هذه الدنيا، إلهي فأمدّني ببركة أسمائهم و أنت قادر على هدايتنا جميعا»

«5».

إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام كان حافظا و مستودعا لعلوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث

قال عليه السّلام: «كنت أدخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّ يوم دخلة، و كلّ ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيثما دار، و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) انظر أصول الكافي: ج 2، ص 8، ح 1 و 2.

(2) عوالي اللآلئ: ج 4، ص 121، ح 200.

(3) عوالي اللآلئ: ص 124، ح

208.

(4) مفاتيح الغيب: ص 14.

(5) موسوعة أهل البيت (ع) الكونية: ج 1، ص 233. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 39

أنّه لم يصنع ذلك بأحد غيري ... و كنت إذا سألته أجابني، و إذا سكتّ و فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آية من القرآن إلا أقرأنيها و أملاها عليّ، فكتبتها بخطّي، و علّمني تأويلها و تفسيرها، و ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها، و خاصّها و عامّها، و دعا اللّه أن يؤتيني فهمها و حفظها»

«1».

و

عن عبد اللّه بن مسعود قال: استدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام فخلا به، فلمّا خرج إلينا سألناه: ما الذي عهد به إليك؟ فقال عليه السّلام: «علّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب»

«2».

و لقد أبان القرآن الكريم عن منزلة أمير المؤمنين عليه السّلام و مقامه في آية المباهلة في قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3».

فقد أجمع المفسّرون على أنّ المقصود من الأبناء في الآية الشريفة هم الحسنان عليه السّلام، و النساء فاطمة عليها السّلام، و الأنفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام إلى غيرها من الآيات الشريفة و الروايات المتواترة كما في حديث الثقلين «4» و المنزلة «5».

______________________________

(1) الخصال: ج 1، ص 257.

(2) الإرشاد: ج 1، ص 34.

(3) آل عمران: 62.

(4)

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من

الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» انظر مسند أحمد: ج 3، ص 14.

(5)

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» انظر الكافي: ج 8، ص 107، ح 80. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 40

بعض مفسّري الشيعة

من الصحابة الأوائل في التفسير و التأويل عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطّلب (ت 68 ه). و هو أوّل من أملى في تفسير القرآن الكريم، و قد حكي عن أبي الخير قوله في طبقات المفسّرين عند ذكره ابن عبّاس: فهو ترجمان القرآن و حبر الأمّة، و رئيس المفسّرين «1».

و قال الزركشي: و صدور المفسّرين من الصحابة عليّ ثم ابن عبّاس، إلّا أنّ ابن عبّاس كان قد أخذ عن عليّ عليه السّلام «2».

و قال أيضا كان لعليّ عليه السّلام فيه- التفسير- اليد السابقة قبل ابن عبّاس، و

هو القائل: «لو أردت أن أملي وقر بعير عن الفاتحة لفعلت».

و قال ابن عطية فأمّا صدر المفسّرين و المؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب، و يتلوه ابن عبّاس رضي اللّه عنهما «3».

و

قد ورد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا لابن عباس بقوله «اللهم فقّهه في الدين»

«4» فخرج بحرا في العلم و حبرا للأمّة.

و من المفسّرين جابر بن عبد اللّه الأنصاري (ت 74 ه) الذي عدّه أبو

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 322، الذريعة: ج 4، ص 233.

(2) البرهان في علوم القرآن: ج 2، ص 157.

(3) البرهان في علوم القرآن: ج 1، ص 8.

(4) مناقب آل أبي طالب: ج 1، ص 84.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 41

الخير في طبقات المفسّرين من الطبقة الأولى «1»، و منهم عبد اللّه بن مسعود، و منهم الصحابي الجليل أبي بن كعب، و هو أوّل من صنّف في فضائل القرآن، و هو سيّد القرّاء، و عدّه أبو الخير في الطبقة الأولى من المفسّرين، و هو ممّن جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «2»، و منهم سعيد ابن جبير التابعي، و هو أعلم التابعين في التفسير، و قال قتادة: كان سعيد ابن جبير أعلمهم بالتفسير «3»، و قال خصيف فيه: كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيّب، و بالحجّ عطاء، و بالحلال و الحرام طاووس، و بالتفسير أبو الحجّاج مجاهد بن جبر، و أجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير «4».

و ممّن اهتمّوا بعلوم القرآن و عنوا بها: أبان بن تغلب (ت 141 ه)، فهو أوّل من صنّف في القراءة، و دوّن علمها، و أوّل من صنّف في معاني القرآن، و أوّل من صنّف في غريب القرآن، و منهم طاووس بن كيسان (ت 106 ه)، و هو من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليهما السّلام، عدّه ابن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير، و منهم محمد بن السائب الكلبي من أصحاب الإمام محمّد الباقر عليه السّلام، و هو أوّل من صنّف في أحكام القرآن (ت 146 ه)، و هو صاحب التفسير الكبير، و منهم أبو حمزة الثمالي صاحب الإمام زين العابدين عليه السّلام و قد ذكر تفسيره ابن النديم.

و من المشاهير المهتمّين بعلوم القرآن الفراء يحيى بن زياد فقد صنّف في معاني القرآن، و منهم عليّ بن إبراهيم القمّي، و له كتاب تفسير القرآن،

______________________________

(1) انظر تأسيس الشيعة

لعلوم الإسلام: ص 323.

(2) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 319- 323.

(3) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 322 فما بعدها؛ مجمع البيان: ج 1، ص 7؛ التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 102- 103.

(4) التفسير و المفسّرون: ج 1، ص 102- 103.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 42

و عليه المعوّل إلى اليوم؛ لأنّه تفسير بالمأثور عن أهل البيت عليهم السّلام، عاصر الإمام الحسن العسكري عليه السّلام و هو من أعيان القرن الثالث.

و منهم محمد بن أحمد بن جنيد، و هو من الفقهاء الأعاظم، ألّف في الفقه المقارن، و هو أوّل من صنّف في أمثال القرآن. ذكر ابن النديم في الفهرست ما لفظه: كتاب الأمثال لابن الجنيد. و له مصنّفات كثيرة، و هو من معاصري والد الشيخ الصدوق، و منهم العيّاشي محمّد بن مسعود، فله ما يقرب من مائتي مصنّف، منها كتاب التفسير المعروف ب «تفسير العياشي».

و الحسن بن عليّ بن فضال، له كتاب «الناسخ و المنسوخ» و كان من خواصّ الإمام الرضا عليه السّلام، و توفّي سنة (224 ه) و محمّد بن العبّاس بن عليّ المعروف بابن الحجّام، له في كلّ علوم القرآن كتب مفردة، و له كتاب «ما نزل في أهل البيت عليهم السّلام من القرآن» و هو ألف ورقة.

و منهم أبو عليّ الكوفي (ت 346 ه) له كتاب «فضائل القرآن» و منهم ابن جرير الطبري (ت 310 ه) و تفسيره مشهور باسمه.

و منهم ابن عقدة أبو العبّاس، و هو وحيد دهره في حفظ الحديث (ت 333 ه) له كتاب في تفسير القرآن من طريق أهل البيت عليهم السّلام.

و في هذا القرن ازداد ازدهار المؤلّفات، و كثرت المصنّفات، فظهر منها «البرهان في علوم

القرآن» و «البيان في علوم القرآن» للشيخ المفيد محمّد بن النعمان (ت 409 ه) و قيل (ت 413 ه) و كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للسيد الشريف الرضي (ت 406 ه) و كتاب «التبيان في تفسير القرآن» للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه) و منهم الشيخ رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب (ت 588 ه) له كتاب «أسباب النزول» و كتاب «متشابه القرآن»، و منهم الشيخ أبو الفتوح الرازي له كتاب «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرين مجلّدا، و منهم أمين الدين الطبرسي (ت 548 ه) و قيل (ت 561 ه) صاحب «مجمع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 43

البيان في تفسير القرآن» «1».

ثم استمرّ العلماء في إغناء المكتبة الإسلاميّة بصنوف المؤلّفات و الأبحاث المتعلّقة بالقرآن الكريم أمثال زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي، و كنز العرفان للفاضل المقداد، و تفسير الصافي للفيض الكاشاني، و الميزان للسيّد الطباطبائي، و غيرها الكثير الكثير المصنّف في هذا الشأن بنحو جامع شامل أو مختصّ بباب أو مجال من المجالات. و لا يزال البحث و التأليف مستمّرا في أصقاع العالم الإسلامي، و العلماء عاكفين على دراسة ما في القرآن الكريم من أصناف المعارف و العلوم، حيث ظهرت بدائع المؤلّفات و نفائس المصنّفات التي كشفت عمّا في القرآن الكريم من ذخائر و كنوز المعرفة و العلم، و هو يمدّ البشريّة بأنوار الهداية و الرشاد، و يدلّهم على الطريق المستقيم و الحياة الحرّة السعيدة الكريمة.

علم التفسير أساس علوم القرآن

التفسير في اللغة الكشف و الإظهار و الإبانة، و في الاصطلاح بيان معاني الآيات القرآنيّة و شأنها و ظروفها بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة «2».

و أما التفسير بوصفه علما فهو

علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاما للّه تعالى «3».

فالنظر في القرآن الكريم من حيث كونه كلاما له دلالة و معنى و لله تعالى فيه غرض و قصد، و من أجل بيان هذه الدلالة و شرح المعنى و إيضاح القصد و الإفصاح عن الغرض نشأ علم التفسير الذي تكفّل بتلك الغايات.

______________________________

(1) لمزيد الاطلاع راجع كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام؛ مجمع البيان لتفسير القرآن، مقدّمة الكتاب.

(2) أنظر لسان العرب: ج 5، ص 55، «فسر»؛ مجمع البيان: ج 1، ص 1، كلمة في التفسير؛ دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية: ج 11، ص 47.

(3) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية: ج 11، ص 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 44

و لعلّ على هذا المعنى جاء قوله سبحانه: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «1» و بذلك يختلف عن التأويل؛ لأنّ التأويل من الأول؛ أي الرجوع إلى الأصل كما في مفردات الراغب «2»، و التفسير أعمّ منه، كما و أنّ أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ و التأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا، كما أنّ التفسير أكثره يستعمل في المفردات بينما التأويل في الجمل، مضافا إلى أنّ التأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهيّة، بينما التفسير قد يستعمل في الأعمّ، و لا يخفى عليك أنّ تفسير القرآن و العلم بتأويله من أشرف الصناعات و أسمى المعارف، و ذاك لما ثبت في المنطق من أنّ الصناعات الحقيقيّة إنّما تتشرّف بأحد ثلاثة أمور:

الأول: شرف موضوعاتها، و هو المشهور الغالب في مختلف العلوم، كما قالوا بأشرفيّة علم الكلام على الفقه، و الثاني على الأصول؛ لكون الأوّل يبحث في موضوع المبدأ و المعاد، و هما يعودان إلى الخالق تبارك و تعالى، و في

العرف يقولون: الصياغة أشرف من الدباغة؛ لأنّ موضوعها الذهب و الفضّة، و هما أشرف من جلد الحيوان المذكّى أو الميتة الذي هو موضوع الدباغة.

الثاني: شرف أغراضها و غاياتها، كما شرّف علم الطب على غيره؛ لكونه يهدف إفادة صحّة الإنسان و سلامته، و الإنسان أشرف مخلوقات اللّه سبحانه، و كما شرّف علم الفقه على غيره؛ لكونه يهدف الرفعة بالإنسان إلى الكمالات المعنويّة العالية. و فيه قد قيل:

موضوعه فعل المكلفيناغايته الفوز بعليينا «3».

الثالث: شرف معلومه، و بعضهم أضاف شدّة الحاجة إليه؛ لوقوع مسائله كثيرا في محلّ حاجة العالم و استنفاد أغراضه.

______________________________

(1) الفرقان: 34.

(2) مفردات الراغب: ص 99، «أول».

(3) انظر الذريعة: ج 7، ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 45

و هذا ما حازه جميعا علم التفسير؛ و ذلك لأنّ موضوعه كلام اللّه سبحانه و تعالى الذي هو ينبوع كلّ حكمة، و معدن كلّ فضيلة، و مخزن العلوم و المعارف، و غرضه هداية الناس إلى التي هي أقوم في الدنيا و الآخرة.

كما أنّ معلومه ما أودعه اللّه سبحانه من قوانين و معان و أسرار في عالمي التكوين و التشريع، فعلم التفسير هو من أجلّ العلوم قدرا؛ لأنّه الموصل إلى فهم مراد الباري عزّ و جلّ في كتابه، و معرفة أحكامه في وحيه و تنزيله، و ما فرضه على عباده، و هذه الغاية من أشرف الغايات و أحسن الطرق لنيل السعادات.

هذا و قد نشأت للتفسير أساليب و مذاهب، و دوّنت للمفسّرين شرائط و آداب، و صار المفسّرون طبقات.

و لأهمّيّة الدور الذي يمارسه علم التفسير صار هذا العلم أساسا لكافة العلوم و أهمّها، و ما من علم إلا و يعوّل عليه، و لقد بيّن العلماء الشروط التي يجب توفّرها

في العالم ليكون قادرا على التفسير، و لعلّ من أهمّها ما يلي:

1- اللغة: ليعرف بها شرح المفردات و مدلولاتها بحسب الوضع، فلا يكفي معرفة اليسير منها.

2- النحو: بما أنّ المعنى يتغيّر و يختلف باختلاف الإعراب فلا بدّ من وجود الإعراب لتحديد المعنى المراد من التركيب بناء على معرفة إعرابه.

3- التعريف: و به يعرف المفسّر أبنية الكلم و موازينها و صيغها، فإذا وجد كلمة مهمة استطاع تصريفها، فاستطاع معرفة مادّتها و معناها.

4- الاشتقاق: و هو معرفة المصدر الذي صدرت عنه الكلمة، فالاسم إذا كان من مادّتين مختلفتين اختلف معناه باختلافهما، كالمسيح مثلا: أ هو من السياحة أم من المسح؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 46

5- علوم البلاغة: و بها يعرف المفسّر طريق المعاني، و خواصّ التراكيب.

6- علم القراءات: و به يعرف كيف ينطق بالقرآن، و به كذلك يرجّح بعض وجوه التفسير المحتملة على بعض آخر؛ لتواتر قراءة، أو شهرتها، أو شذوذها.

7- أصول الدين: و هي قواعده المتعلّقة بذات اللّه و صفاته و أفعاله و الإيمان به و ما إلى ذلك، و بهذا العلم يستدلّ المفسّر على ما يستحيل بحقه تعالى، و ما يجب، و ما يجوز.

8- أصول الفقه: و به يستطيع أن يدرك وجه الاستدلال على الأحكام فيه.

9- أسباب النزول: إنّ معرفة أسباب النزول توضّح إلى حدّ بعيد مرامي تلك الآية و مدلولها.

10- الناسخ و المنسوخ: يعلم به الآيات المحكمة و الآيات المنسوخة و ما بطل العمل به و ما بقي و هكذا.

11- الحديث النبوي: و ما حديث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا تفسير للقرآن و الشريعة، فكم من حديث فسّر القرآن، و كم من مغلق فتحه.

12- علم الموهبة: و هو علم

يورثه اللّه لمن عمل بما علم، كما ربّما يستفاد من بعض الأخبار.

13- علم المنطق: و هو علم مهمّ للغاية يحتاجه المفسّر طريقا إلى الفهم الصحيح، لكونه ضابطا للتفكير.

إضافة إلى كلّ هذا يجب أن يكون المفسّر أديبا، ذكيا، واسع العقل، كبير القلب، تقيّا، صالحا، يخشى اللّه في السرّ كما يخشاه في العلانيّة؛ لأنّ هذه تهيئ في نفسه الاستعداد لشروق الروح و صفاء الضمير، فيفيض الباري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 47

عزّ و جلّ عليه من أنواره و عناياته و ألطافه.

أنواع التفسير

ربما ينقسم التفسير إلى نوعين أساسيين:

الأول: تفسير لفظي لا يتجاوز غالبا حلّ الألفاظ و إعراب الجمل و بيان ما يحتويه نظم القرآن من نكات بلاغيّة و إشارات فنّيّة، و هذا النوع أقرب إلى التطبيقات اللغويّة و البلاغيّة منه إلى التفسير و بيان مراد اللّه سبحانه من هداياته.

الثاني: تفسير المعنى و هو يجاوز اللغة، و يجعل هدفه الأعلى تجلية معاني القرآن و تعاليمه، و حكمة اللّه تبارك و تعالى فيما شرّع للناس في كتابه العزيز على وجه يزكّي الأرواح، و يفتح القلوب، و يرفع النفوس إلى الاهتداء بهديه، و هذا هو الأصل فيه.

هذا و للمفسّرين في مساعيهم مذاهب مختلفة ترجع إلى اختلاف الهدف أو الجهة التي أراد كلّ مفسّر أن يستنطق القرآن و يستهدي بهديه فيها، و لعلّ من أبرز هذه المذاهب ما يلي:

1- التفسير بالمأثور 2- التفسير بالدراية، و المراد بالدراية هنا الاجتهاد بعد معرفة المفسّر كلام العرب و أساليبهم في القول، و بعد وقوفه على أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و نحوها من مسائل و فنون مختلفة.

3- التفسير الباطني 4- التفسير العقلي الفلسفي أو الكلامي 5- التفسير الفقهي 6-

التفسير العلمي، و يقصد به التفسير الذي يتحدّث عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 48

الاصطلاحات العلميّة في القرآن، و يجتهد في استخراج مختلف العلوم و الآراء القائمة على الأسس الفلسفيّة منها، أو العلوم التجريبيّة.

7- التفسير الاجتماعي 8- التفسير الأدبي 9- التفسير التدبري الذي يعتمد غالبا على الفهم العميق و الإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنيّة بعد إدراك مدلول العبارات القرآنيّة و فهم دلالاتها فهما عميقا و دقيقا، ثم ربطها بواقع الحياة البشريّة، و فهم أبعادها و جوانبها المختلفة في الآمال و الآلام و الطموحات و المشاعر و التفكّرات.

10- التفسير الشمولي، و هو الذي يجمع بين كلمات اللّه سبحانه و كلمات حججه الطاهرة عليهم السّلام بما لهما من ظلال و تطابق و تكامل في آن واحد، و يجعل من كلّ منهما ميزانا و مفسّرا للآخر؛ لأنّ القرآن و السنّة نور واحد و رسالة واحدة تجلّى أحدهما في كلمات الوحي الإلهي و الآخر في كلمات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام.

مضافا إلى اعتماده في ذلك على تجارب الحياة و عبقريّة البشر و طاقاته العقليّة و تدبّره في مختلف المسائل و الشؤون؛ و ذلك للتطابق الجوهري بين النقل و العقل لكونهما يرجعان إلى خالق واحد و نظام واحد و رؤية واحدة.

و بالتالي فإنّ ما يبينانه من مفاهيم و معان هي عين الحقّ و الصواب لا يخالجه خطأ أو جهل أو قصور، و لعلّ هذا أفضل أنواع التفسير و أكمله و أدقّه لما له من خصوصيّة فهم القرآن في أصل معناه أو حدوده أو مصداقه الأكمل على ميزان أهل البيت عليهم السّلام و رؤيتهم، كما أنّ القرآن الميزان الذي يميّز كلامهم

عليهم السّلام من غيره المشتبه على الناس في السند أو في الدلالة، و هذا ما قد نجده جليّا في تفسير المرجع الديني الإمام السيّد محمّد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه مقامه) حيث جمع بين اللغة و العقل و النقل الوارد عن المعصومين عليهم السّلام في فهم معاني الآيات و كشف مضامينها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 49

هذا و لا يخفى عليك أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر بألفاظه و ظواهره، بل في رموزه و إشاراته و لطائفه و حقائقه، ففي كلّ سورة بحار من المعارف، و تتجلّى في كل آية منه أنوار من الحقائق و الهدايات، و كيف لا يكون كذلك و قائله عزّ و جلّ لا نهاية لعلمه و كماله، و لا حد لعظمته و جلاله، و ما حصل من التحديدات إنّما هو من مقتضيات الاستعدادات لطفا بالعباد، لا أن يكون تحديدا منه.

و ربّما يتوصّل من يراجع مختلف أنحاء التفاسير أنّه فسّر كلّ صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم، فالفلاسفة و المتكلّمون فسّروه بمذاهبهم من الآراء الفلسفيّة و الكلاميّة، و العرفاء و الصوفيّة على طريقتهم، و الفقهاء فسّروا ما يرتبط بغرضهم في فقه الأحكام و المسائل، و المحدّثون فسّروه بخصوص ما ورد من السنّة الشريفة من الآيات، كما أنّ الأدباء فسّروه من زاويتهم الأدبيّة، و هكذا أهل المعارف و العلوم الإنسانيّة و الطبيعيّة.

و مع كلّ ذلك يظهر العجب في أنّه كلّما كثر في هذا الوحي المبين و النور العظيم من هذه البيانات و التفاسير فهو على كرسي رفعته لا ينقص، و جماله يزداد على مر العصور تلألؤا و جلالا، فما نجده من مزايا و خصوصيّات لبعض التفاسير إنّما هي قضيّة نسبيّة تعتمد على ذكاء

المفسّر وسعة اطّلاعه و طول باعه في العلوم المختلفة، و هذا ما امتاز به الإمام الشيرازي (قدّس سرّه)؛ إذ له في كلّ فنّ معرفة، و له في مختلف مجالات الثقافة و الفكر رؤية و منهج، و من هنا كانت له إشراقات و إلماعات ربّما لم يصل إليها قبله مفسّر أو يسبقه إليها ذهن عالم أو أديب، كما ستجد ذلك جليّا من خلال مطالعتك لهذا السفر القيّم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 50

الطريقة الجديدة في تفسير القرآن الكريم

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 99

إنّ مفسّري القرآن و بالأخصّ القدامى منهم أبلوا بلاء حسنا في تفسير الآيات الشريفة المتعلّقة بالعقائد و الأحكام، و خصوصا مواضيع التوحيد و الشرك و النبوّة و الإمامة و نحوها، و التي تشكّل جوهر الإسلام، و العنصر الذي اتّفقت عليه الشرائع الإلهيّة، لكن الملحوظ أنّ منهج القدماء قام على أساس التسلسل السوري في القرآن؛ إذ أخذوا في تفسيرهم سورة بسورة و آية بآية؛ لذلك لم يبحثوا مجموع الآيات الواردة حول موضوع واحد دفعة واحدة إلّا نادرا، مما أدّى إلى توزيع الكثير من المضامين و المعاني في الشي ء الواحد على مختلف السور و الآيات، فصار الطالب يحتاج إلى المزيد من الجهد و التتّبع حتّى يحصل على الحقيقة كاملة جليّة على الرغم من وجود نقاط قوّة عديدة في هذا النهج.

أمّا طريقة التفسير الجديدة فهي جاءت تكملة لجهود المتقدّمين و إغناء لتجاربهم و دراساتهم لتعطي لنا صورة بالغة الوضوح و مكمّلة لما أعدّه السابقون من المفسّرين، و هذا التفسير يسمّى «التفسير الموضوعي» و هو يعني بتفسير آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات و المفاهيم، أي حسب التبويب و التقسيم الموضوعي للقرآن الكريم.

و تتلخّص هذه الطريقة في جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع الواحد

في مكان واحد، ثمّ تصنيفها على حسب التسلسل الموضوعي، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاستنباط نظرة واحدة متكاملة و فكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات، خصوصا أنّ القرآن الكريم تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» كما أنّنا نستفيد فائدة أخرى من هذا الجمع لمجموع الآيات المتعلّقة بموضوع معيّن بالإضافة إلى فائدة الوقوف على النظرة القرآنيّة المتكاملة، و هي أنّنا

______________________________

(1) النحل: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 51

ربّما يصعب علينا فهم آية ما من الآيات، أو معرفة الهدف منها لابتعادنا عن عصر الوحي و عدم اطّلاعنا على ملابسات نزول تلك الآية بنحوها الكامل و القرائن الحاليّة أو المقاميّة و نحوها السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك، فيأتي أسلوب «جمع الآيات إلى جانب بعضها» ليساعدنا على رفع بعض الغموض و إزالة شي ء من الإبهام، و تنكشف لنا بسبب هذا الجمع ملامح الحقيقة من خلال غيوم الاحتمالات و سحب الأوهام التي قد تكتنف آية من الآيات؛ و لهذا

قيل: «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا»

«1» و

ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام تأكيد لذلك: «كتاب اللّه تبصرون به و تنطقون به، و تسمعون به، و ينطق بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض»

«2».

هذا و التفسير الشريف الذي نتحدّث عنه و إن كان قد جاري طرق القدامى في نهجه و طريقته إلّا أنّه حاول فيه المصنّف (أعلى اللّه مقامه) أن يقترب بعض الشي ء إلى الطريقة الجديدة، فسعى إلى إيجاد ربط بين الآيات المختلفة، و أشار إلى الجهات الأخرى المكمّلة لمعاني الآيات المفسّرة في موردها، و في بعضها أشار إلى عنوانها، و بذلك يكون قد سهّل على القارئ الوصول إلى بعض الحقيقة كاملة، و كان موفّقا في ذلك؛ لأنّ من أصعب ما

يجده الكاتب في مثل هذا النوع من الكتابات أن يجمع المعاني المتعدّدة في عبارة موجزة و مختصرة، خصوصا و أنّه يفسّر القرآن.

القرآن يفسّره الزمان

إنّ تطور الزمن و تقدّم العلوم أكسب المحقّقين و المفكّرين نمطا جديدا من الرؤية، حيث تتأكّد هنا أهمّيّة و ضرورة التفسير الموضوعي، فقد أصبح كلّ فريق من هؤلاء المفكّرين و المحقّقين و بالاعتماد على هذا النوع من التفسير يستخرج من القرآن الكريم مفاهيم و أمورا علميّة جديدة تطابق

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 54، ص 218، تبيين.

(2) نهج البلاغة: ص 192، الخطبة 133.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 52

اختصاصه، فالاستفادة من القرآن الكريم على الأصعدة الاجتماعيّة و السياسيّة و الأخلاقيّة في تصاعد و اتّساع مستمرّين.

و قد استخرج المحقّقون الإسلاميّون المعاصرون بفضل ما أوتوا من الطرق الحديثة المبتكرة في البحث العلمي و الدراسة و التحليل حقائق مهمّة من القرآن الكريم ربّما لم تخطر على بال المفكّرين و المحقّقين القدامى، فأضافوا على علوم القرآن الكثير، كما اكتشفوا من المعاني و المضامين الشي ء الكثير.

إنّ القرآن الكريم كتاب أبدي خالد ينطوي على أبعاد مختلفة، و بطون متنوّعة، بحيث يمكن للعقل البشري المتطوّر أن يكتشف في كلّ مرّة معنى جديدا فيه، و بحيث يمكن لدارسيه من أهل التحقيق أن يكتشفوا في كلّ عصر بعدا جديدا من أبعاده في شتى مجالات المعارف الإنسانية، و من هنا اتّفقت الكلمة على أنّ الاستفادة من القرآن الكريم لا تنحصر بالعرفاء و الفقهاء و الفلاسفة و أرباب العلوم القديمة و الإلهيّات خاصّة.

إنّ استنباط نكات دقيقة و جديدة من القرآن من قبل علماء الطبيعة و الرياضيين و رواد العلوم الإنسانية كعلم النفس و علم الاجتماع و علم فلسفة التأريخ خير دليل و أفضل شاهد على

أنّ هذه المعجزة الخالدة تنطوي على بطون عديدة و أبعاد متنوعة، و أنّها تتّسع لمفاهيم واسعة كثيرة يضيق عن استيعابها أو تحصيلها أيّ تصوّر بشري و ذهن إنساني و برنامج ثقافي عادي مهما ادّعى من الشموليّة و الغزارة و الإحاطة.

إنّ مرور الزمن و تقدّم العلوم لم يمنحا علماء الطبيعة وحدهم إمكانيّة استنباط حقائق و أبعاد مهمّة و جديدة عن القرآن في حقول علوم الطبيعة و خلقة الإنسان و الأرض و السماء و غيرها من الظواهر الطبيعيّة، بل و مكّنا المفسّرين أيضا من استخراج حقائق مهمّة و جديدة من هذا السفر الإلهي الخالد جنبا إلى جنب مع توسّع العلوم و اتّساع نطاق المعارف و تفتّحها و ظهور المناهج العلميّة الإنسانيّة الجديدة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 53

و الآن نحن نشاهد شروع التحقيقات العلمية حول القرآن من طريق أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) و قد كشفت للأجيال الحاضرة و القادمة الكثير من الحقائق و الآفاق التي عجز العقل و الذهن البشري العادي عن اكتشافها و التوصّل إليها بمجرّده، فبواسطة هذا الجهاز العجيب تمكّن العلماء من إزالة الكثير من نقاط الإبهام التي دارت سابقا حول مضامين بعض الآيات و الروايات بسبب قصور الناس عن دركها، و سيأتي زمان أيضا يفسّر لنا الكثير من الغوامض فيهما التي ربّما تصوّرها بعض الناس أنّها شي ء من الغريب أو المستهجن، فإنّ للقرآن الكريم معاني و درجات و صورا و حقائق، و حينما يتّصل عقل الإنسان بنور الوحي يزداد انشراحا و بهاء و تألّقا و معرفة، فتفتح له من العلم أبواب و أبواب.

قال سبحانه و تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1» و قال عزّ من قائل: هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ

وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ «2» و

جاء في الحديث الشريف عن الصادق عليه السّلام «كثرة النظر في العلم يفتح العقل»

«3» و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «سلوني عن القرآن فإنّ في القرآن علم الأوّلين و الآخرين، لم يدع لقائل مقالا، و لا يعلم تأويله إلّا اللّه و الراسخون في العلم»

«4» و

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه، و بيّنه لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم»

«5» لكن المشكلة في البشر أنفسهم لعجزهم و قصورهم أو تقصيرهم في الإمعان فيه و اكتشاف أسراره و غوامضه، لكن كلما سعى البشر في فهمه و دراسته وصل إلى

______________________________

(1) العنكبوت: 44.

(2) الجاثية: 21.

(3) بحار الأنوار: ج 1، ص 159، ح 32.

(4) بحار الأنوار: ج 24، ص 179، ح 11.

(5) بحار الأنوار: ج 89، ص 84، ح 16؛ تفسير الصافي: ج 1، ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 54

مطلوبه؛ لأنّ القرآن كتاب هدى و نور، و من الهدى الإيصال إلى المطلوب.

و لعلّ ممّا يؤيّد ذلك ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القرآن الكريم يفسّره الزمان، و الذي قد يكون من معانيه أمور:

1- أنّ القرآن الكريم صالح لكلّ عصر و زمان، و يتناسب مع أيّ تطوّر حضاري و علمي و تأريخي، بل هو الأساس في دعم أيّ حضارة و أيّ مدنيّة مؤمنة بأهداف إنسانيّة، و يعطيها الروح و الديموميّة.

2- أنّ تطوّر العلم و التكنولوجيا الحديثة كشف الكثير من الحقائق القرآنيّة، و لعلّ من ذلك أنّ الشمس وردت في القرآن الكريم (33) مرّة و بمعان فلكية رائعة تحكي الحقيقة

العلميّة بكلّ وضوح، و لعلّ أهمّها تلك الآيات التي تتحدّث عن حركتها أو حركاتها الكثيرة و بأسلوب علمي جمالي يخلب الألباب ... و تلك الآيات التي تتحدث عن هرم الشمس و شيخوختها و موتها في آخر الأمر كبقيّة المخلوقات التي نشرها اللّه تعالى في كونه الكبير ... وردت الشمس كما وردت بقيّة الأجرام الكونيّة و الظواهر السماويّة الأخرى ضمن أسلوب و هدف القرآن ككلّ، و هو الهداية و إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم و الحياة؛ و لأنّ القرآن ليس كتابا علميّا خاصّا لم يتعرّض إلى قطرها، و لا إلى حجمها، و لا إلى كثافتها، و لا إلى درجة حرارتها أو جاذبيّتها، و لا لأي رقم علمي محدّد ممّا تتعرّض له الدراسات الكونيّة المعاصرة. و لكن يمكن لقارئ القرآن و الباحث في الآيات الكونيّة أن يحصل على معلومات ممتازة عن الشمس لكن في حدود، و يمكن أن يأتي باحث آخر و يلتقط معلومات أخرى و ضمن حدود معيّنة أخرى، و يبقى الباحثون الجادّون غائصين في بحر القرآن كلّ يلتقط ما يستطيع من لآلئه، مستفيدين من علوم عصرهم، فهي أضواء إضافيّة تنير الطريق للغوص في طرق الشمس و الآيات الكونيّة الأخرى الزاخرة في القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 55

الكريم «1». فإنّ ما يتوصّل إليه العلماء في مجال الفلك في هذا العصر الحديث الملي ء بالاكتشافات الباهرة حول هذا الجرم السماوي هو يؤكد و يؤيّد يوما بعد آخر ما ذكره ديننا الإسلامي حول الشمس في جميع خصوصيّاتها.

3- أنّ عقول البشر في تطوّر و نموّ، و الحياة سائرة نحو المزيد من العلم و المعرفة، و التجارب تتراكم على كشف الكثير من الأسرار، و كلّما تطوّر

الإنسان توصّل إلى مراق و آفاق جديدة في القرآن لم يكن قد وصلها من قبل، بل لم يكن يدركها لقصوره و عجزه، فكلّما تطوّر الزمن و تطوّر معه الإنسان توصّل إلى حقائق و أبعاد جديدة في فهم الآيات، و استنار بهديها، فكلّ جيل منهم يختلف عن السابق كما سيختلف عن اللاحق حتّى تكتمل العلوم باكتمال الإنسان في عصر ظهور ولي اللّه الأعظم (عجل اللّه فرجه الشريف)، فحينئذ يصل إلى درجات سامية من المعرفة و الفهم و الإدراك.

هذا التفسير

مهما كانت الدوافع الكامنة وراء كتابة التفسير و ضمن الشروط التي ذكرناها فيما تقدّم و التي يجب أن تتوفّر في المفسّر فإنّ ما كتب في هذا المجال يعدّ إنجازا علميّا له خصائصه و مميّزاته، حيث إنّ كلّ تفسير كتب- و ضمن الشروط الموضوعة و المقرّرة لذوي الاختصاص- يضيف معلومات جديدة و فنّا و ذوقا آخر لهذا العلم الذي لا ينضب، لكن تبقى لمن اتّخذ أهل البيت عليهم السّلام نهجا و طريقا و مدرسة و تألّقا و علوّا و ارتفاعا فيما يستنبط من آراء و يبني من أفكار و يؤسّس من رؤي السمة العليا في ذلك، و هذا ما اتّسم به السيّد الراحل أعلى اللّه مقامه، و تميّزت به كتبه الوفيرة، و خصوصا هذا

______________________________

(1) موسوعة أهل البيت الكونية: ج 2، ص 352.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 56

التفسير، حيث زانته من ضمن ما زانته اعتماده المطلق على ما ورد منهم عليهم السّلام، مسلّما لهم، منقادا إليهم فيما يقولون و يعملون و يهذّبون، و هذه سمة لا ينالها إلّا الفائزون الناجحون، و العالمون الصادقون؛ لأنّهم صلوات اللّه عليهم باب اللّه الذي منه يؤتى، و هم عيبة علمه، و حبلة المتين،

و صراطه المستقيم، و عندهم عليهم السّلام جوامع الكلم و العلم كما

ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «أعطاني اللّه خمسا، و أعطى عليا خمسا، أعطاني جوامع الكلم، و أعطى عليا جوامع العلم»

«1».

و

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّا أهل بيت عندنا معاقل العلم و أبواب الحكم و ضياء الأمر»

«2».

و

عن الصادق عليه السّلام قال: «عندنا أهل البيت أصول العلم و عراه و ضياؤه و أواخيه»

«3» «4».

فالاعتماد عليهم صلوات اللّه عليهم يكشف الكثير من الحقائق و المعارف مع تطوّر الزمن و الاكتشافات؛ حيث أشاروا صلوات اللّه عليهم و بيّنوا جميع الأمور للبشريّة، و بقي علينا أن نجدّ أكثر و نسعى لإظهار هذه الحقائق و الاغتراف من منهلهم العذب، و هذا لا يأتي إلّا بالمعرفة التامّة لأهل البيت عليهم السّلام، معرفة المؤمنين بهم و بمقاماتهم السامية و المستسلمين في مدرستهم بكل خشوع و انقياد؛ و ذلك لأنّ العلم نور يقذفه اللّه سبحانه في قلب من يشاء، و ليس ذلك إلّا من تنوّر بمحبّتهم عليهم السّلام، و تواضع لعظمتهم، و اقتدى بهم، و تعلّم في مدرستهم، و

قد ورد عن الصادق عليه السّلام: «فمن عرف

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8، ص 28، ح 31.

(2) بحار الأنوار: ج 26، ص 30، ح 42.

(3) الأخيّة و الآخيّة- بالمد و التشديد- واحدة الأواخي: عود يعرّض في الحائط، و يدفن طرفاه فيه، و يصير وسطه كالعروة تشدّ إليه الدابّة. أي بنا يشدّ و يستحكم أمر الدين و لا يفارقنا علمه. انظر لسان العرب: ج 14، ص 23، «أخا»؛ بحار الأنوار: ج 2، ص 214، ح 3.

(4) بحار الأنوار: ج 26، ص 31، ح

44. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 57

من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه، و علم فضل طلاوة إسلامه؛ لأنّ اللّه تبارك و تعالى نصب الإمام علما لخلقه، و جعله حجّة على أهل موادّه و عالمه، و ألبسه اللّه تاج الوقار، و غشّاه من نور الجبّار، يمدّ بسبب إلى السماء ... إلى أن قال: حجج اللّه و دعاته و رعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، و تستهلّ بنورهم البلاد، و ينمو ببركتهم التلاد ... فليس يجهل حقّ هذا العالم إلّا شقي، و لا يجحده إلّا غوي، و لا يصدّ عنه إلّا جريّ على اللّه جلّ و علا»

«1».

و

في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال «يا سلمان، من عرفهم حقّ معرفتهم و اقتدى بهم ... فهو و اللّه منّا، يرد حيث نرد، و يسكن حيث نسكن ...»

«2» و إلى ذلك

أشار الإمام الصادق عليه السّلام بقوله: «ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين و لم تعلموه و لم تفهموه فلا تجحدوه، و ردّوه إلينا»

«3».

و

عن الإمام الباقر عليه السّلام «هم و اللّه نور اللّه الذي أنزل، و هم و اللّه نور اللّه في السماوات و في الأرض»

«4».

و

عن أبي ذرّ (رضوان اللّه عليه) قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول

«خلقت أنا و عليّ بن أبي طالب من نور واحد»

«5».

و

في رواية أنّهم جميعا عليهم السّلام من نور اللّه الأعظم

«6».

كما أنّ علمهم عليهم السّلام و ورثوه من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

فعن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم «إنّ عليّ بن أبي طالب كان هبة اللّه

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 203- 205، ح 2.

(2) إلزام الناصب: ج 2، ص 333.

(3) بحار الأنوار: ج 25، ص 364، ح 1.

(4) أصول الكافي: ج 1، ص 194، ح 1.

(5) بحار الأنوار: ج 15، ص 11، ح 12.

(6) انظر إرشاد القلوب: ج 2، ص 404. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 58

لمحمّد، و ورث علم الأوصياء و علم من كان قبله»

«1».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث جاء فيه «و ربّ الكعبة و ربّ البيت- ثلاث مرّات- لو كنت بين موسى و الخضر عليهما السّلام لأخبرتهما أنّي أعلم منهما، و لأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأنّ موسى و الخضر عليهما السّلام أعطيا علم ما كان و لم يعطيا علم ما هو كائن، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطي علم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، فورثناه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وراثة»

«2».

فمن هنا كانت مدرسة أهل البيت عليهم السّلام هي الأولى و الأخيرة في هداية البشر و نقلهم إلى شاطئ الأمان، و التأريخ هو خير دليل و شاهد على ذلك.

و أعظم مدرسة للإسلام كانت مدرسة الإمام الصادق عليه السّلام حيث كانت جامعة كبري شملت كلّ العلوم و الفنون و المعارف، و قد خرّجت الكثير من العلماء الذين قدّموا للبشريّة و الحضارة الإنسانيّة بكلّ إخلاص و تفان الشي ء الكثير.

و الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام هو سادس أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و قد تهيّأت له عليه السّلام الظروف السياسيّة في نشر

علومهم و تأسيس دعائم العلم في مختلف المجالات حتّى أقام تلك الجامعة العظيمة التي لا زالت إلى يومنا هذا تخرّج الفطاحل من العلماء ممّن ينتسبون إليها.

فإنّ الذي يتتبّع كتب الرجال و تأريخ الأعلام يجد أنّ لعلماء الشيعة الذين ورثوا علوم أهل البيت عليهم السّلام دورا أساسيا و مهمّا في تأسيس فنون المعرفة، حيث تقدّموا في تأسيس العلوم في الصدر الأوّل، و برعوا، و سادوا في حضارتهم و علمهم على جميع المعاهد و الجامعات، و علومهم مبنيّة على أسس الأخلاق و مكارمها التي ورثوها عن آل محمّد صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين. و كما يقال: إنّ المحروم من حرم منهم عليهم السّلام.

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 224، ح 2.

(2) بحار الأنوار: ج 17، ص 144- 145، ح 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 59

السيد صاحب التفسير أعلى اللّه مقامه

إنّ الأمم الحيّة و الشعوب اليقظة في كلّ عصر من عصور التأريخ و على امتداد الأرض المعمورة تعرف بتقديرها للعلم و احترامها للعلماء و الأخذ عنهم و الاغتراف من مناهلهم العذبة الرويّة، فهم المقياس الحقّ لحياة الأمم و الشعوب أو موتها. و أمّتنا الإسلاميّة أشرف الأمم، و يزخر تأريخها بالمكانة السامية التي يحتلّها العلماء في نفوس الناس، و المنزلة الرفيعة التي بلغوها في قلوبهم، و بالأخصّ العلماء الذين تخرّجوا من تلك المدرسة العظيمة التي بنى أساسها الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام، كما و نجد القرآن الكريم يعطي العلماء منزلة تجعلهم في مصافّ الملائكة المنزّهين فيقول:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1» كما نراه جلّ و علا يمنحهم منزلة الخشية منه سبحانه و تعالى على

سبيل الحصر، فيقول جلّ و علا: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2».

و هو بعد هذا و ذاك يرفعهم درجات فيقول: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ «3» إلى كثير من الآيات القرآنيّة التي تكشف عن مكانة العلماء عند اللّه سبحانه و تعالى.

و هكذا برز العلماء، و خرّجت الحوزات العلميّة المقدّسة الفطاحل منهم الذين تركوا آثارا و تراثا استقوه من فكر و نهج أهل البيت عليهم السّلام، ينير البشريّة جمعاء، و من بين هؤلاء النوادر الذين أثروا المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفاتهم و علمهم صاحب هذا التفسير العظيم «تقريب القرآن إلى الأذهان» المرجع الديني الكبير الإمام السيّد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى اللّه

______________________________

(1) آل عمران: 19.

(2) فاطر: 29.

(3) المجادلة: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 60

درجاته)، المولود في عام 1347 ه و المتوفّى في شوال عام 1422 ه، فهو (رضوان اللّه عليه) من أجلى مصاديق

قول النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي ء»

«1» و ما ذاك إلّا لأنّ العالم في الأمّة كالروح من الجسد، و ما هو إلّا المثل الصالح في زهده و ورعه و تقواه و السمات الإسلاميّة الفاضلة و الصفات الحميدة، جليل القدر، عالي المنزلة، جمع إلى جانب العلم الغزير الأخلاق الفاضلة، و السلوك الحسن، و السيرة العطرة، و حبّ الناس، و علوّ الهمّة، و مكارم الأخلاق.

و بعد ذلك كلّه فهو حامل هموم المسلمين و هدفيّة الإسلام، و قرنها بشجاعة و إقدام فائقين يعجز عن بلوغهما الأبطال الأشاوس في مختلف المجالات و الأصعدة. لقد تميّز الإمام الشيرازي (قدس سرّه) بفكره المعطاء الغني المختصر بالتجارب، و المفعم بالنضج و

النظرة الواقعية إلى الأمور، و الأصيل المستلهم من الكتاب الكريم و السنّة المطهّرة، و الذي يعالج شتى القضايا الحيوية و مشاكل العصر.

و رغم الحياة الصعبة و القاسية جدا التي كان يعيشها الإمام الراحل (قدس سرّه) طوال حياته الشريفة و الظروف التي ألمّت به من كلّ حدب و صوب من البعيد و ربّما القريب كان كما قالوا عنه: نادرة التأليف في التأريخ و سلطان المؤلفين «2»، حيث عرف بكثرة الإنتاج و العطاء الفكري و العلمي و التربوي، حيث تنوّعت مؤلّفاته من حيث المادّة العلميّة، و بلغت ألفا و ثلاثمائة كتاب و كتيب و موسوعة، فشملت الفقه و الأصول و الفلسفة و الكلام و البلاغة و النحو و سائر العلوم الحوزوية من جهة، و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و النفس و الحقوق و الإدارة و القانون و البيئة و الأخلاق و التأريخ و الطبّ و إدارة

______________________________

(1) أصول الكافي: ج 1، ص 38، ح 2.

(2) لقب أطلقه عليه الاتّحاد العامّ للكتّاب العرب بدمشق الشام خلال الحفل التأبيني الذي أقيم في سوريا في الحوزة الزينبيّة (مجلة النبأ العدد 66- 1423 ه ص 168).

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 61

الدولة الإسلاميّة و سائر العلوم الإنسانيّة المستحدثة من جهة أخرى، حتى عجزت أصابعه عن الإمساك بالقلم من كثرة ما كتب.

فكان أعلى اللّه مقامه يستعين أحيانا بجهاز التسجيل ليحفظ ما يريد كتابته، ثمّ بعد ذلك يكتب على الورق، و كان (طاب ثراه) لا يضيّع لحظة واحدة من عمره الشريف دون الاستفادة منها، و لا يبالغ من يقول: إنّه كان يعمل في اليوم أكثره، و من العمر كلّه أو جلّه؛ إذ كان طاقة متفجّرة من النشاط و الحيويّة و العمل، و لا

يعرف الكلل أو الملل، و لا يعيقه عن ذلك مرض أو همّ أو ألم، و أرقى ما في ذلك كلّه أنّه كان مجاهدا مخلصا، و أبيّا نزيها، لا يطلب فيما يقدّم أو يعطي و يجود إلّا رضا اللّه سبحانه و رضا أوليائه الطاهرين عليهم السّلام.

و في ذلك قال عنه أخوه المرجع الديني سماحة آية اللّه العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي رافقه في جلّ حياته، و شاركه في همومه و مهامّه في كلمته التي ألقاها بعد رحيله: و كان رحمه اللّه يمتاز بخصائص جمّة أهمّها خصلتان بارزتان كانتا في حياته (رضوان اللّه عليه)، و كنت ألمسهما بشكل دقيق:

الأولى: هي إخلاصه التامّ و المطلق لله تعالى و لأهل البيت عليهم السّلام، و خير مثال للواقع العملي لذلك تأسيسه العشرات من المؤسّسات و المساجد و الحسينيّات و المدارس و المكتبات و دور النشر و في مختلف أنحاء العالم، و لم يسمّ أيا من هذه باسمه، و قد أصرّ الكثيرون من الذين تبرّعوا أن يذكروا اسمه، فكان يرفض ذلك رفضا شديدا و يقول: أنا ذاهب و اللّه سبحانه و أهل البيت عليهم السّلام باقون، فالأفضل أن تسمّى هذه المراكز جميعا باسمهم عليهم السّلام؛ و لذلك فإنّه قد سمّى جميع هذه المراكز و المؤسّسات و الحسينيّات و دور النشر و غيرها بأسماء اللّه سبحانه و أسماء أهل البيت عليهم السّلام.

الثانية: نشاطه المتواصل و روحيّته العالية، حيث إنّ المرحوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 62

الراحل (قدس سرّه) كان قبل وفاته بلحظات ملي ء بالحيويّة و النشاط رغم مرضه، و لم يتوان عن أيّ شي ء، و إذا أردنا تشبيهه بالبركان فإن ذلك فيه خطأ؛ لأنّ البركان ينفجر ثم يبرد

و يهدأ، أمّا بالنسبة للمرحوم الإمام (قدس سرّه) فقد كان لم يهدأ لحظة، فكان يمسك القلم حتّى إبان لحظات عمره الأخيرة، و يستفيد من أيّ فرصة تسنح له بالتأليف و الكتابة و تشجيع الآخرين على أعمال الخير و الاستفادة من فرص الحياة، و كان حتّى في كتابته يستخدم الدقّة في انتخاب نوع القلم الذي يسهل معه الكتابة اختصارا للوقت «1».

و كان (قدس سرّه) بارعا بعلوم التفسير، و مطّلعا على ما كتب في هذا المضمار، و قد نقل عن بعض تلامذته «2» أنّه كان حاضرا في مجلس مع الإمام الراحل (قدس سرّه) و وجّه إليه أحد الحاضرين سؤالا مفاجئا حول تفسير إحدى آيات كتاب اللّه العزيز، فأجابه الإمام الراحل (قدس سرّه) ذاكرا عشرة آراء لعشرة كتب من أشهر التفاسير الموجودة من دون استعداد أو تحضير مسبق، و قد حدث مثل هذا كثيرا للسيّد (قدس سرّه).

و هذا الكتاب الذي بين يديك هو حصيلة جهد مبارك قام به السيّد المؤلّف (قدس سرّه)، حيث ساهم به في إغناء التراث الحضاري و المكتبة الإسلاميّة، و لا يبالغ من يقول فيه: إنّه قليل النظير في خصوصيّاته و مزاياه، ممّا سيجعله مصدرا كبيرا، من أهمّ مصادر التفسير في مختلف شؤون المعرفة، و قد تحدّث السيّد (قدس سرّه) عن كتابه للمرحوم آية اللّه السيّد أحمد الإمامي (طاب ثراه) قائلا:

عند ما كنت في كربلاء و حينما كنت مشغولا في كتابة تفسيري هذا «تقريب القرآن إلى الأذهان» رأيت في المنام نورا يخرج من بيتنا، و يسطع في السماء، و حينما استيقظت أيقنت أنّ هذا النور هو تفسير القرآن الكريم،

______________________________

(1) مترجم عن كتاب قصص و خواطر (باللغة الفارسيّة): ج 1، ص 108.

(2) الناقل فضيلة الخطيب الشيخ

علي حيدر المؤيد دام عزّه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 63

ففرحت و سألت اللّه عزّ و جلّ أن يتقبّل منّي العمل.

قلنا فيما تقدّم: لكلّ تفسير مزاياه و خصوصيّاته، لكن امتاز هذا التفسير الشريف بجملة أمور قلما حظي بها غيره منها:

أولا: أنّ السيّد المؤلّف (قدس سرّه) إضافة لكونه مرجعا و زعيما دينيّا متميّزا فإنّه يعدّ أحد رجالات الفكر المعاصرين الذين نظّروا للعالم البشري في مجالات مختلفة، و طابقت تنظيراته و رؤاه الواقع في العديد من الموارد و الحقول، و هذا ما يجده المتتبّع في كتبه القيّمة من رؤي حديثة تتناسب مع التطوّر الحضاري و الفكري المعاصر، حيث إنّه (طاب ثراه) جمع بين الفكر الجديد و القديم في التفسير، فانعكس ذلك على فهمه للآيات الشريفة في بيانه و شرحه لمضامينها، جامعا بين أصالة الأمس و حداثة اليوم و تطلّعات المستقبل، و قد وفّق في ذلك إلى حدّ كبير، و هذا أحد دواعي خلود هذا التفسير و عظمته التي ستكشفها الأيّام.

ثانيا: اعتمد السيّد المؤلّف (قدس سرّه) بشكل أساسي في تفسيره على منهجيّة أهل البيت عليهم السّلام، و على الأخبار و الآثار المرويّة عنهم عليهم السّلام، فنأى بعيدا عن شبهة التفسير بالرأي، و نزّه كلام اللّه عن آراء البشر.

ثالثا: وضوح في الرؤية و نضوج في الأفكار، و ردّ للشبهات التي أثيرت أو قد تثار بما يملأ الخافقين علما و يقينا هنا و هناك، و خصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة بشأن أهل البيت عليهم السّلام.

رابعا: أنّ أسلوب الكتاب و طريقة بحثه تمتاز بأنّها بعيدة عن العبارات المنمّقة و الاصطلاحات المعقّدة، حيث إنّه بيّن المعاني بأسهل الألفاظ و الكلمات، كما أنّه امتاز بالاختصار و شموليّة المطلب، و هذه الصفات جعلته سهل

الفهم على جميع المستويات، فكان سهلا ممتنعا على ما يعبّرون، ممّا سمح لكلّ بيت و أسرة مهما كان مستواها و مستوى أفرادها أن تتّخذه منارا و معلّما و مربّيا يغنيها عن الكثير من المصادر و الكتب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 64

خامسا: التعرّض في تفسير الآيات الكريمة إلى الدقائق العلميّة و الأحكام المتعلّقة بها و بيان مفرداتها بشكل دقيق و مفصّل، كما أنّه اعتمد على جانب التدبّر في الآيات و استنباط النتائج و قراءة ما وراء الألفاظ بالاعتماد على نهج أهل البيت عليهم السّلام، و هذه سمة هامّة قلّما أتّسم بها تفسير.

سادسا: الربط الوثيق بين القرآن و الحياة في مختلف المجالات الشخصيّة و العامّة و العباديّة و الاجتماعيّة و السياسيّة و الاقتصاديّة و غيرها، و هذه محاولة كبيرة تعيد الناس إلى القرآن، كما ترتفع بتعامل الناس معه إلى ما أراده اللّه سبحانه له أن يكون نورا و هدى و قائدا و مرشدا و مربّيا و معلّما في مختلف المجالات و الأصعدة، حيث دعا السيّد المؤلّف (قدس سرّه) إلى:

1- الأمّة الواحدة لتحرير بلاد المسلمين من التفرقة العنصريّة و القوميّة و الإقليميّة مستندا في ذلك إلى قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ «1» و قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» و علّل أفضليّة الأمّة الإسلاميّة و أسباب رقيّها بخصال ثلاث هي:

أ- الأمر بالمعروف ب- النهي عن المنكر ج- الإيمان بالله سبحانه إيمانا صحيحا.

بلحاظ أنّ المجتمع إذا خلا عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يهوي نحو السفل؛ لما جبل عليه من الفساد و الفوضى و الشغب، فإذا تحلّى

______________________________

(1) الأنبياء: 93.

(2) آل عمران: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 65

المجتمع

بهذين الأمرين أخذ يتقدّم نحو مدارج الإنسانيّة و الحضارة الحقيقيّة حتى يصل إلى قمّة البشريّة، و بلحاظ أنّ الصحيح رأس الفضائل لكونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية من جهة، و لكونه محفّزا شديدا نحو جميع أنواع الخير، و منفّرا قويّا من جميع أصناف الشرّ من جهة أخرى، و هذه في مجموعها تكوّن أهمّ العناصر التي تقوم عليها سعادة البشريّة و أمنها و سلامها.

2- الأخوة الإسلاميّة ليزيد في أواصر المجتمع الواحد، و يرفع الحواجز الطبقيّة أو الفئويّة و نحوها، مستندا إلى قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» و كذلك قوله سبحانه: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً «2».

3- الحرّيّة الإسلاميّة لكونها غاية البعثة و هدف الرسل و الأنبياء عليهم السّلام، و خصوصا خاتمهم و سيّدهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مستندا إلى قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «3» فإنّ النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلّص الناس من أغلال الاستبداد و الجاهليّة بصورها المختلفة، و في هذا قال (قدس سرّه): أغلال: جمع غلّ، و هو ما يقيّد الإنسان يده أو رجله أو غيرهما، فإنّ من خواصّ الإسلام أنّه يطلق الحرّيّات المعقولة، فالسفر و الإقامة و التجارة و الزراعة و الصناعة و البيع و الاشتراء و الكلام و الكتابة و التجمّع و غيرها كلّها مباحة لا قيود لها إلّا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع و الفرد، و لا يعلم مدى ذلك إلّا بالمقايسة إلى الأنظمة و المناهج الدنيويّة التي كلّها كبت و استعباد و استغلال «4».

4- الشورى على مختلف الأصعدة و المجالات ابتداء من الأسرة إلى

______________________________

(1) الحجرات: 11.

(2) آل عمران: 104.

(3) الأعراف: 158.

(4) تقريب القرآن إلى

الأذهان: ج 9، ص 62، ذيل الآية 158 من سورة الأعراف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 66

الدولة و نظام الحكم و بالنحو الإسلامي الخاصّ، مستندا إلى قوله تعالى:

وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ «1» و قد ردّ الطرق الغربيّة و نحوها القائمة على أساس غير عادل في الانتخاب «2».

5- اللاعنف طريقا و منهجا للتعامل مع الآخرين من أهل الإسلام أو غيره من الأديان و المذاهب، مستندا لقوله سبحانه: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «3» و قوله عزّ و جلّ: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ «4».

و من الواضح أنّ هذه هي الأسس البارزة لتكوين الحضارة الصحيحة و الدولة الناجحة و المجتمع السعيد. و الظاهر أنّ هذا الربط و التكامل و التطابق بين القرآن و الحياة العامّة قلّما يلحظ في كتب التفسير حتّى الجديدة منها.

سابعا: أنّ من خصائص هذا التفسير كذلك و التي تضفي عليه طابعا متميّزا آخر هو:

أ- في تفسيره للكلمات و الحروف المقطّعة في القرآن الكريم، حيث أجرى استقراء لهذه الحروف و قال في مستهلّ تفسيره عنها: يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي، كما أنّه لا يمرّ زمان إلّا و يدرك الناس كنوزا كونيّة، فإنّ العلوم كلّها قوانين وضعها اللّه في الكون، مثل:

قانون جاذبيّة الأرض، و قانون أرخميدس في الماء، و قانون الأطياف في النور و غيرها، و إذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه الكلّ، فإنّ الرموز بين رؤساء الحكومات و كبار أعضاء الدولة في صلاح الناس و إن كان كلّ

______________________________

(1) الشورى: 39.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 25، ص 47، ذيل الآية 39 من سورة الشورى.

(3) البقرة: 209.

(4) آل عمران: 160.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1،

ص: 67

الناس لا يعرفونها، و في ذلك يقول (قدس سرّه): و هذا رمز بين اللّه و رسوله و الراسخين في العلم «1».

و على الرغم من ذلك فإنّه لم يقف عند هذا السرّ العظيم بين اللّه سبحانه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل حاول أن يظهر في كلّ مورد من موارده بعض غموضه، أو يسلّط الضوء على بعض لغزه، فمثلا في سورة يونس: فسّر حروفها المقطّعة بالتحدّي و الإعجاز؛ لكون «المر» التي تفتح بها السورة تركّب منها القرآن المعجز، فإنّه من جنس كلام البشر لكنه معجز لا يتمكّن أحد أن يأتي بمثله، كما أنّ من جنس المعادن و النبات يتركّب الإنسان لكن لا أحد يقدر على أن يأتي بمثله، و كذلك جميع صنع اللّه سبحانه ... على الاختلاف في أوائل السور «2».

و في سورة هود قال عنها أيضا: إنّها رموز بين اللّه و الخلق «3».

و في سورة يوسف فسّرها بالأخصّ من ذلك، فقال عنها: رمز بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كالرموز بين رؤساء الحكومات و سفرائها «4».

و في سورة الرعد ذكر أنّ الأقوال في بيان معاني الحروف في فواتح السور تبلغ أربعة عشر قولا «5»، لكنّه قال (قدس سرّه): الظاهر أنّه يمكن الجمع بين كثير منها «6»، و لعلّ جامعها هو الرمزيّة التي مال إليها بين اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه المتيقّن من المعاني.

ب- امتاز تفسيره (قدس سرّه) بالترابط الموضوعي بين معاني الآيات،

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 26، ص 18، ذيل الآية 2 من سورة الأحقاف.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 64، ذيل الآية 2 من سورة

يونس.

(3) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 160، ذيل الآية 2 من سورة هود.

(4) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 12، ص 110، ذيل الآية 2 من سورة يوسف.

(5) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 13، ص 70، ذيل الآية 2 من سورة الرعد.

(6) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 14، ذيل الآية 2 من سورة الحجر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 68

و هذه ميزة قلّما فعلها مفسّر أو وردت في تفسير إلّا في موارد قليلة، فمثلا:

* الآيات (205- 254) من سورة البقرة، تعرّضت إلى مواضع عديدة بعضها يرتبط بأحكام الحجّ، و بعضها بصفات الجاهلين و تعصّبهم، و بعضها بالمنافقين، و بعضها بالمجاهدين، و بعضها بحركة الأنبياء عليهم السّلام في داخل المجتمع و علاقة الناس بهم، و بعضها تعرّض إلى وعود اللّه سبحانه و تعالى للمؤمنين بدرجات الآخرة، و بعضها إلى أسئلة وجّهها المشركون إلى رسوله الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعضها تضمّن السؤال عن جملة من المحرّمات، و بعضها تعرّض إلى جملة من أحكام الأسرة و أحكام النساء و أحكام الولادة و الإرضاع، و بعضها إلى حقيقة الموت و الحياة، و بعضها إلى القتال و الجهاد في سبيل اللّه، و بعضها إلى الإنفاق، و بعضها إلى غير ذلك. هذه العناوين و المواضيع المختلفة التي قد لا تتراءى للناظر بدوا بينها ترابط وثيق يجمعها السيّد (قدس سرّه) بسياق واحد، فيجمع سابقها بلاحقها و بالعكس حتى يحصل من الكلام حديث عن صورة واحدة بكلّ ما يحتفّ بها من قرائن و شواهد تكمّل المعنى و تثير الغرابة و الإعجاب. «1»* و الآيات (63- 65) من سورة المائدة، تعرّضت إلى صفات المنافقين و أهل

الكتاب و آثارهم السلبية على المجتمع، و قد امتاز في تفسيره لها، حيث يوضح ظاهرة الازدواجيّة الثقافيّة عندهم، و الصفات الانحرافيّة الأخلاقيّة الأخرى، و أوجه التشابه بينهم. و كذلك الربط بين قيام الدول و هزيمتها و قوّة التلاحم و التفاهم و ضعف التفرّق و الاختلاف في آيات سورة الأنفال كقوله سبحانه: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ «2» قال (قدس سرّه): إنّ التنازع يوجب تبديد القوى المعنويّة بالإضافة إلى تبديده

______________________________

(1) و لمزيد الاطّلاع يمكنك ملاحظة الربط العميق في آيات سورة الحجرات و دور الإيمان في تكوين المجتمع المؤمن. انظر سورة الحجرات: الآية 2- 19.

(2) الأنفال: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 69

و إضاعته للقوى الماديّة، و تذهب ريحكم أي دولتكم، فإنّ الريح بمعناها لغة، و شبّهت بها الدول؛ لأنّ الدولة تشبه الريح لهبوبها و سيطرتها على الأشياء و نفوذ أمرها. يقال: هبت ريح فلان إذا نفذ أمره، و التنازع ليس يقسّم القوى إلى سلب و إيجاب فقط، بل فوق ذلك يضعف القوى الإيجابيّة، فلو فرضنا أنّ طاقة زيد تقدّر بألف مقاتل فإذا خالفه عمرو قدّرت طاقته بخمسمائة حتّى إنّه لو كان وحده بدون مخالف لكان قدر على الألف؛ و ذلك لأنّ الخلاف يحدّ من النشاط، و يضعف من القوى، بخلاف التجمّع فإنّه يزيد الطاقة الألفية إلى الألفين؛ و لذا ثبت في علم النفس أنّ الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل أن يصمّ عن المخالف حتّى يبقى على قواه الذاتيّة، و لا تحدّ من نشاطه الطاقة المناوئة «1».

و مضافا إلى ذلك كلّه أوجد ترابطا موضوعيّا بين تفسير أوّل سورة و آخر سورة من القرآن الكريم، و الترابط بين السور المتسلسلة و الآيات المتسلسلة يجعل سور

القرآن و آياته منظومة واحدة مترابطة كجملة واحدة نظّمت في غاية الإعجاز في اللفظ و المعنى و الإحكام و الإتقان «2».

ثامنا: أورد السيّد المؤلّف (قدس سرّه) أسباب تسمية السور قبل الشروع في تفسيرها، ثمّ بيّن الجو العامّ للسورة و المحور الكلّي الذي تدور حوله آياتها، فعبّر عن بعضها أنّها بشأن التوحيد، و أخرى بشأن الأسرة، و ثالثة بشأن العقيدة، و هكذا، ثم ذكر مائة و عشرين معنى للبسملة في تفسيره هذا، حيث يضيف إليه امتيازا بارزا آخر، فمثلا: في سورة الحمد فسّرها بالاستعانة، و في سورة البقرة علّلها بفرض التعليم و التربية على الابتداء في كلّ عمل أو نشاط بالاسم المبارك؛ لما له من الأثر البالغ في الصبر

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 19، ذيل الآية 47 من سورة الأنفال.

(2) انظر التسلسل و الربط بين سور الممتحنة و الصفّ و الجمعة و المنافقون و التغابن و الطلاق و التحريم و الملك و القلم و الحاقّة، و هكذا بين سور النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و الأنفال و التوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 70

و الاستقامة و النجاح «1». و في سورة الأنفال شرحها بالعلاقة على إحكام ما قبلها و افتتاح ما بعدها من الآيات «2». و في سورة يونس علّلها بتلطيف الجوّ و إعطاء الإنسان الأمن و الطمأنينة؛ لأنّ الناس اعتادوا أن يروا الظلم و الجور من الكبراء فكيف بأكبر الكبراء؟ لكنه سبحانه ليس كذلك؛ لأنّه رحمان بعباده، رحيم بالمؤمنين منهم، فلا خوف من ظلمه، و لا خشية من جوره «3».

و في سورة النحل جعلها الحد الفاصل بين الإيمان و الكفر و المؤمن و الكافر، حيث يفتتح المؤمن باسم اللّه خالق

كلّ شي ء، الجامع لجميع الصفات الكماليّة، خلافا للكفّار و مواليهم، حيث يفتتحون كتبهم بشي ء في غير لونه، أو يفتتحون بأسامي الأصنام، و قد جرت عادة من بهرتهم المدنية الحديثة أن يقتدوا أثر أولئك، فلا يفتتحون الكتاب إلّا بالمقدّمة أو الإهداء أو الفصل بدون ذكر لاسم اللّه سبحانه إطلاقا «4».

و في سورة هود علّلها بما في الاسم المبارك من الخواصّ المعنويّة على نفس القارئ، و يجعله في حصن وثيق من مساوئ الشياطين و فضائل الأخلاق و محاسنها؛ و لذا نرى أنّ سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا، كما أنّ سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا بالإضافة إلى أنّ اسم اللّه سبحانه يطرد الشياطين، و يوجب عناية اللّه عزّ و جلّ للذي ذكره، و تركيزا لصفة الرحمة في نفوس الناس، إنّه هو الرحمن الرحيم، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه «5».

______________________________

(1) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: تفسير سورة الحمد و البقرة.

(2) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 9، ص 109، تفسير سورة الأنفال.

(3) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 63، تفسير سورة يونس.

(4) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 65- 66، تفسير سورة النحل.

(5) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 159، تفسير سورة هود.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 71

و في سورة الرعد علّل الابتداء بالاسم دون الذات؛ لأنّ اللّه سبحانه لا يبتدأ به و إنّما يبدأ باسمه. إنّه اللّه الرحمن الرحيم الذي أظهر صفاته الرحمة و التفضّل لا الانتقام و العقاب و القوّة و العذاب «1».

و في سورة الحجر قال عنها: نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا، و نجعله بدء أعمالنا؛ ليكون عونا لنا في ختم العمل، و أن يطبع بطابعه، فإنّ

ما لمسته رحمة اللّه العظيم لا يكون إلّا صالحا باقيا موجبا للسعادة، و لنستمطر شآبيب رحمته فيرحمنا بلطفه و إحسانه «2».

و هكذا يذكر معاني عديدة لأصل البسملة، أو بيانا لفوائدها و أغراضها، و هذه ميزة أخرى من مزايا هذا التفسير العظيم الذي قلّما يحظى بمثله تفسير، حيث يكتفى غالبا بذكر بعض معانيها في أول سورة الحمد ثمّ يوكل إليه في تفسير سائر السور.

تاسعا: تصدّى أعلى اللّه مقامه للإجابة عن جملة من الشبهات التي قد يثيرها البعض تجاه الإسلام في العقائد أو في الأحكام، و لم يتوقّف على بيان المعاني الظاهرة للآيات، و هذا نهج جديد قلّما نجده في التفاسير، و هو أن يتّخذ المفسّر نهج الدفاع و الذود عن الشبهات و إبطال الادّعاءات الباطلة؛ ليجعل من التفسير معلّما و مربّيا و محاميا في آن معا، فمن باب المثال: في بيان معنى قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «3» تعرّض إلى فلسفة الحكم بنجاسة الكفار، فبيّنها و اختصرها في أمور ثلاثة:

1- الوقاية الفكريّة من الخرافة.

2- الحماية الاجتماعيّة من التأثير بسلوكه.

______________________________

(1) انظر تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 13، ص 69، تفسير سورة الرعد.

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 14، ص 13، تفسير سورة الحجر.

(3) التوبة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 72

3- تحفيزه لترك عقيدة الكفر و الالتزام بالإسلام.

يقول (قدس سرّه): النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشي ء الذي يباشره برطوبة، و هذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجيّة كالبول و الغائط، و قد تكون لأضرار معنويّة كالكافر، فإنّه و إن كان نظيف الجسم إلّا أنّ معتقده السخيف أوجب الحكم بنجاسته، و ذلك خير وقاية للمسلمين من أن يعاشروه فيتلوّثوا بعقيدته الفاسدة، فإنّهم إذا عرفوه نجسا و

إنّه مهما باشر شيئا برطوبة تنجّس فورا منه اجتنبوه في المأكل و الملبس، فلا يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، و هو بدوره إذ يعرف أنّه عند المسلمين كذلك لا بدّ و أن يسأل عن السبب، و يريد إزالة هذه الوصمة، و لدى تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقدة ممّا يسبب تركه له و اعتقاده بالعقيدة الصحيحة.

و هناك بعض المتفلسفين يقولون: كيف يحكم بنجاسة إنسان و لزوم الاجتناب عنه لمجرد انحراف عقيدة و هذا مناف لحرية الآراء؟

و الجواب: أنّه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنّه مصاب بالجذام و نحوه لمجرد انحراف مزاج، و هذا مناف لكرامة الإنسان. فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة «1».

و من ذلك أيضا ما أجاب به أعلى اللّه مقامه عن بعض مزاعم العامّة في فضل الأوّل استنادا إلى آية الغار من سورة التوبة، و أبطل الدعوى، و علّل تصدّيه لذلك بالدفاع عن حريم القرآن لكيلا يقحم فيه ما ليس منه، و جرّ الآيات إلى الأنظار و الأفكار جرّا بدون دلالة أو برهان بعد أن ورد الذمّ لمن فسّر القرآن برأيه «2».

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 73، ذيل الآية 28 من تفسير سورة التوبة «بتصرف».

(2) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 10، ص 89، ذيل الآية 40 من تفسير سورة التوبة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 73

و في سورة العلق ردّ مزاعم من نسب جمع القرآن إلى الأوّل و الثالث بما ينفي الشكّ و يزيل الإبهام بعد تصريح القرآن بأنّ الذي جمعه و رتّبه هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

عاشرا: و بعد ذلك كلّه فإنّ من

سمات هذا التفسير الضخم هو التواضع و الإقرار بالعجز أمام كتاب اللّه سبحانه، ابتداء من عنوانه إلى أخر ما ذكر مصنّفه الكبير (قدس سرّه) في هذا المجال.

فعنوانه تقريب القرآن إلى الأذهان و ليس تفسيره، و هو دالّ على إعظام و إجلال و إكبار للقرآن و تنزيه له من أن تناله عقول البشر؛ و لذا هم بحاجة إلى تقريب لما في التقريب من اعتراف بالقصور عن درك معانيه.

و قد تكرّر من السيّد المؤلّف نفسه (قدس سرّه) في أكثر من مرّة بأنّ ما يذكره من مضامين مجرّد معان محتملة و ليست بتفسير «2»، و هذا منطق من التزم الحقيقة العارف بقدرة الإنسان و حدوده و مداه، و العارف بكلام اللّه سبحانه اللامحدود في مضامينه و معانيه الذي يستحيل أن يحيط به المحدود، و في مقدّمة مصنّفه الشريف هذا قال (قدس سرّه) في توجيه ما ورد في بعض الأخبار: من أنّ القرآن الكريم له ظاهر و باطن، و لا يعلم تفسيره و لا ظاهره و لا باطنه و لا تأويله إلّا اللّه سبحانه ... إنّ فهم كلّ ظواهر الأشياء و بواطنها كذلك، فإنّ البشر لا يعلم إلّا بعض السطحيّات، مثلا ما هي حقيقة اللحم و الدم؟ و ما هي حقيقة الماء و الكهرباء؟ و إلى غير ذلك، فإذا رأى الإنسان سيّارة لا يعلم ما هي؟ فإنّه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس (ظاهرها)، و لا يعلم ما ذا في ماكنتها (باطنها)، و لا يعلم ما نفعها (تفسيرها)، و لا يعلم إلى أيّ شي ء يكون أوّلها (تأويلها)، و كذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 30، ص 187- 188، تفسير سورة العلق.

(2)

تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 3، ص 49، تفسير سورة آل عمران، حيث قال في معنى (آلم): «تقدّم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 74

ظاهره و لا من باطنه، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا، و لا أوّل القرآن للمستمسك به و التارك له.

و السؤال هنا: إذا كان لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها فما فائدة ذلك؟

و الجواب: الإشارة و التلميح و إن كانت الحقيقة مخفيّة.

مثلا: إنّك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس، و أراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك الحرب، فإنّ الكلام و الصورة لا شكّ يلمحان إلى حقيقة، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب و انفعالات أولئك المحاربين؟ إنّ نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته كنسبة الصور و الكلام إلى حقيقة تلك الحرب، و للحرب ظاهر هي المعركة، و باطن هو الاستعمار الذي يريد التسلّط مثلا، و تفسير هو ما تنتجه الحرب الآن من غلاء الأسعار و انسداد الطرق، و تأويل هو ما يترتّب من الأثر على هذه الحرب من سقوط إمبراطورية و دخول إمبراطورية أخرى إلى الحياة «1».

أقول: و في الختام فإنّ ما امتاز به تفسير التقريب (تقريب القرآن إلى الأذهان) عن غيره من التفاسير الشي ء الكثير. أشرنا نحن إلى بعض مزاياه و خصوصياته، و سيجد القارئ الكريم الكثير منها أثناء تتبّعه و قراءته.

و في الختام أشكر دار العلوم الموقّرة و القائمين عليها على اهتمامها بطباعته طباعة جديدة منقّحة، و أسأل اللّه سبحانه لها مزيد التوفيق و التسديد في ترويج معارف القرآن و الشريعة الغرّاء آمين يا ربّ العالمين.

كما و أسأله سبحانه

و تعالى أن يتغمّد السيّد مؤلّف هذا السفر القيّم برحمته الواسعة، و يجعل القرآن رفيقه و مؤنسه و نوره، و أن يتقبّله منه بقبول

______________________________

(1) تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 1، ص 24- 26، المدخل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 75

حسن، و أن يدّخره له في ضمن الباقيات الصالحات التي قام بها في دنياه لأخراه، كما و نسأله سبحانه أن يعفو عن زلّاتنا، و يتقبّل ما كتبناه في هذه السطور أداء لبعض حقوقه الكثيرة و الكبيرة التي له طاب ثراه في رقابنا، و أن يهدي ثواب ما بذلناه إلى وليه الأعظم و حجّته على الأمم سيّدنا و مولانا صاحب العصر و الزمان عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، و أن يرضيه عنّا بحقّ محمّد و آله الطاهرين.

فاضل الصفّار 20- جمادى الثانية من عام 1423 هجرية في جوار عقلية الرسالة السيدة زينب عليها و على آبائها آلاف التحيات و الصلوات الحوزة العلميّة الزينبيّة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 76

المصادر

1- الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى 1407 ه- 1987 م.

2- اختيار معرفة الرجال المعروف ب «رجال الكشي»: للشيخ أبي جعفر الطوسي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام، 1404 ه.

3- الإرشاد: لأبي عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1416 ه- 1995 م.

4- إرشاد القلوب: لأبي محمد الحسن بن محمد الديلمي، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الرابعة 1398 ه- 1978 م.

5- إلزام الناصب: للشيخ علي اليزدي الحائري، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الخامسة 1404 ه- 1984 م.

6- الأصول من الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، دار صعب

و دار التعارف- بيروت، الطبعة الرابعة 1401 ه.

7- أقرب الموارد: لسعيد الخوري الشرتوني اللبناني، دار الأسوة للطباعة و النشر، الطبعة الأولى 1374 ه ش- 1416 ه ق.

8- بحار الأنوار: للشيخ محمد باقر المجلسي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية المصححة 1403 ه- 1983 م.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 77

9- البرهان في تفسير القرآن: للسيد هاشم البحراني، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية 1983 م- 1403 ه.

10- البرهان في علوم القرآن: لبدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة، الطبعة الأولى. 1376 11- بين الجدران: للسيد محمد السويج، دار البيان العربي، الطبعة الأولى 1411 ه- 1991 م.

12- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: للسيد حسن الصدر، شركة النشر و الطباعة العراقيّة المحدودة.

13- التبيان في تفسير القرآن: لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

14- تجريد الاعتقاد: للشيخ أبي جعفر محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي، مركز النشر- مكتب الاعلام الإسلامي، الطبعة الأولى 1407 ه ق.

15- تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان: لآية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الأولى 1400 ه- 1980 م.

16- تفسير الصافي: للفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي- بيروت، الطبعة الأولى 1399 ه- 1979 م.

17- التفسير و المفسّرون: للدكتور محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، الطبعة الثانية 1396 ه- 1976 م.

18- تفصيل وسائل الشيعة: للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الأولى 1413 ه- 1993 م.

19- تهذيب الأحكام: لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، دار صعب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 78

و دار التعارف- بيروت، 1401 ه- 1981 م.

20- الجامع الصحيح «سنن الترمذي»: لأبي عيسى محمد بن

عيسى بن سورة، المكتبة الإسلاميّة.

21- خواطري عن القرآن: للشهيد السيد حسن الشيرازي، دار العلوم- بيروت، الطبعة الأولى 1414 ه- 1994 م.

22- دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية: لمحسن الأمين، دار التعارف- بيروت، الطبعة الثانية 1401 ه- 1981 م.

23- داستانها و خاطراتي: لآية اللّه العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، انتشارات سلسلة، الطبعة الأولى 1381 ه.

24- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: للشيخ آغا بزرگ الطهراني، مؤسسة إسماعيليان- قم.

25- علوم القرآن عند المفسرين: لمركز الثقافة و المعارف الإسلاميّة، مكتب الاعلام الإسلامي، الطبعة الأولى 1416 ق- 1374 ش.

26- عوالي اللآلئ العزيزية: لمحمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي، مطبعة سيد الشهداء- قم، 1405 ه- 1985 م.

27- الغدير: لعبد الحسين أحمد الأميني النجفي، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الثانية 1366 ه.

28- الفروع من الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، دار صعب و دار التعارف- بيروت، الطبعة الثالثة 1401 ه.

29- كتاب التفسير: لأبي النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف «بالعياشي»، المكتبة العلمية الإسلاميّة- طهران.

30- كتاب الخصال: للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية- قم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 79

31- لسان العرب: لابن منظور، نشر أدب الحوزة- قم، 1405 ه- 1363 ق.

32- مجمع البحرين: لفخر الدين الطريحي، مؤسسة الوفاء- بيروت، الطبعة الثانية المصححة 1403 ه- 1983 م.

33- مجمع البيان: للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، دار إحياء التراث العربي- بيروت، 1379 ق- 1339 ش.

34- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد اللّه الحاكم النيسابوري، دار المعرفة- بيروت.

35- مستدرك الوسائل: للميرزا حسين النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث- بيروت، الطبعة الثالثة 1411 ه- 1991 م.

36- مسند أحمد

بن حنبل: لأحمد بن حنبل، دار صادر- بيروت.

37- مفاتيح الغيب: لصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، مؤسسة مطالعات و تحقيقات فرهنگى، الطبعة الأولى 1363.

38- مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني، الدار الشامية- بيروت، و دار القلم- دمشق، الطبعة الأولى 1416 ه- 1996 م.

39- مناقب آل أبي طالب: لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني، مؤسسة انتشارات العلامة- قم.

40- موسوعة أهل البيت الكونية: لمجموعة من المؤلفين، بإشراف فاضل الصفّار، سحر للطباعة و النشر- بيروت، الطبعة الأولى 1423 ه- 2002 م.

41- نهج البلاغة: ضبط نصه و ابتكر فهارسه العلمية الدكتور صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني و دار الكتاب المصري، الطبعة الثانية 1980 م.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 81

مقدمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين، و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. لعل سبحانه يوفقني لشرح ألفاظ من القرآن الحكيم، ليسبب تسهيلا على الطالب، و يفتح لي سبيل فهم كتابه، الذي هو سبب سعادة الدنيا و الآخرة. و يتقبله بقبول حسن، ليكون مصداقا ل: «كتب علم ينتفع بها» في الدنيا، و موجبا للأجر و الثواب في الآخرة.

هذا ما يرجوه «محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي» عند افتتاح كتابه التفسير، المسمى ب: «تقريب القرآن إلى الأذهان» و اللّه الموفق، و هو المستعان.

كربلاء المقدسة 29 ربيع الأول سنة 1383 هجرية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 82

المدخل

كتاب كل عصر و مصر

قد اشتهر عند أتباع المستعمرين من المسلمين الجدد أصحاب الثقافات الشرقية و الغربية، أن القرآن لا يلائم العصر من جهة وجود أحكام فيه تصلح لعهد البداوة، مثل قطع يد السارق و جلد الزاني و رجمه، و تقرير الاستعباد و القصاص و حرمة الربا و المكس و الحريات الكثيرة و الأحكام الخاصة بالمرأة، و من جهة عدم وجود أحكام فيه يتطلبها العصر، مثل أحكام السياسة و الاقتصاد و الأمن و ما أشبه ذلك، ثم قالوا بأن الإسلام حيث ينطلق من القرآن فالقرآن أيضا لا يصلح للعصر الحديث، فاللازم فصل الدين عن الدولة، و هذه الفكرة إن لم تعم كافة المثقفين فهي بلا شك تعم أكثرهم، و حيث أن الاستعمار الفكري يستتبع الاستعمار العسكري، فبلاد الإسلام تعيش في استعمار عسكري صريح أو مغلف، و الواجب الاهتمام لتغيير هذه الفكرة بمختلف وسائل التغيير، فإن اللّه سبحانه لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «1» وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً

فَلا مَرَدَّ لَهُ «2» فإنهم إذا لم يغيروا ما بأنفسهم من أسباب الضعف و الانحطاط أراد اللّه بهم سوءا إرادة تكوينية تابعة لخلق المسببات بعد أسبابها.

______________________________

(1) الرعد: 12.

(2) الرعد: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 83

و الكلام حول رد هذه الإشكالات طويل نكتفي بالتلميح إليه فنقول:

أما الجهة الأولى فيرد على إشكال قطع يد السارق، أن الإسلام لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير أوليات العيش المتوسط له، و إذا وفر له أوليات العيش المتوسط فهل الأفضل أن يردعه- إذا سرق- بعقاب صارم يجعل المجتمع في أمن بعد توفر زهاء عشرين شرطا في السرقة يشترط بها القطع؟ أو أن يحبسه أو ما أشبه الحبس؟ مما لا يكون رادعا، بل أحيانا يكون مشجعا كما لا يخفى على من طالع أحوال المجتمعات الغربية و الشرقية.

و على إشكال جلد الزاني، إن الإسلام لا يجلد إلا إذا اضطر، و إذا عرفنا أن الإسلام يوفر المناخ الملائم للعفة برفع الاضطرار إلى اقتراف الجنس حراما، كان زنى الرجل أو المرأة خرقا للعفاف الاجتماعي و تعريضا له إلى الانهيار في أقدس روابطه و هدما للعائلة، و أيهما خير العقاب الصارم المناسب للذة الزنى- إذ الجلد إيلام يناسب ما اقترفه الزاني من الإثم- أو عقوبة خفيفة لا تسد هذا الباب الخطر؟

أما الرجم فهو للزاني المحصن، و كل إنسان عاقل يعترف بأنه إذا كانت له زوجة يشبعها جنسيا ثم خانته كان اللازم إنزال أشد العقوبات بحقها، و كذلك العكس و إلّا لزم انهيار المجتمع و انهدام العائلة و عدم الأمن و كثرة الطلاق و قلة النكاح و اختلاط الأنساب و كثرة الأمراض الجنسية و توسيع المجال للمستهترين، إلى غيرها من المفاسد التي وقع فيها الشرق

و الغرب و قد رفع عقلائهم أصواتهم بوجوب وضع حد لهذه الاستهتارات.

و على إشكال تقرير الاستعباد، إنه أفضل حل لمشكلة أسارى الحرب، بعد الوضوح أن الإمام مخير بين الأسر و بين السجن و بين الفدية و بين الإطلاق كل منها حسب ما يراه من المصلحة، فلنفرض أن المصلحة عدم القتل، لأنه تضييع لقوى بناءة يحتاج إليها المسلمون، و عدم السجن، لأنه إرهاق لكاهل الدولة، و عدم الإطلاق بمال أو بدون مال، لأنه يخشى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 84

من تآمرهم على الدولة الإسلاميّة، فما ذا يكون الحل المعقول غير استعبادهم بتسليمهم إلى سادة يكونون تحت إشرافهم دائما مع عدم إضاعة قدراتهم البناءة؟ و من السهل نقد الإسلام في تقريره قانون الرقة، لكن من المحال إيجاد حل أفضل منه، و لذا نرى أن الذين انتقدوا الإسلام في هذا القانون، لما جاء دور العمل أخذوا يقتلون مناوئيهم بالملايين لا الألوف، ففرنسا قتلت مليونا أو مليوني جزائري، و أمريكا قتلت خمسة ملايين فيتنامي، و إنكلترا قتلت عشرين مليون صيني، و ألمانيا قتلت ما يقارب الخمسين مليون في الحرب العالمية الثانية، و روسيا قتلت خمسة ملايين فلاح في نظام المزارع الجماعية- على ما ذكرت كل ذلك الكتب و الجرائد و الإذاعات-.

ثم نظام التعذيب الذي اخترعه الغرب و الشرق أبشع بكثير من نظام الرق بل هو نظام استعباد الشعوب الكامل تحت غطاء الاستعمار مما أوقع العالم كله في دوامة الثورات و الحروب.

و على إشكال القصاص، إنه أمر طبيعي، فهل يشفي غيظ من فقأ عينه عمدا أن يأخذ المال في قبال عينه التالفة؟ و هل من الإنصاف أن يترك مثل هذا الإنسان الجاني يعبث بالمجتمع بدون عقاب صارم يردعه و

يردع غيره من العابثين؟ خصوصا إذا كان الجاني غنيا لا يهتم بالمال، فقد أجاز الإسلام ذلك في صورة طلب المجني عليه، مع إنه أعطى الحق له في أن يعفو، و أن يأخذ الدية مع إعطاء الصلاحية للحاكم الإسلامي في تعزيره بما يؤلمه، لأنه خرق حق اللّه سبحانه. بما يسمى في الاصطلاح بحق الادعاء العام.

نعم قد لا يكون للقصاص مجال في الحي، أو في الميت، كما في من قطع عضو ميت، حيث أفتى الإمام الصادق عليه السّلام بأن ديته كدية الجنين، فيمن قطع رأس ميت- لوضوح اشتراكهما في أنهما إنسانان لا روح لهما-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 85

في قصة مشهورة «1» و حينذاك يرجع الأمر إلى الدية و التعزير إن صدرت الجناية عن عمد، و إلى الدية فقط، إن لم يكن عمد في البين.

و أما إشكال حرمة الربا، فإنه و إن أورد عليها أن الربا حق معقول، لأن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح، و بين أن يدفعه قرضا فيربح من ورائه، و لذا قالوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا «2» لكن هو إشكال غير وارد، لا لما أورد عليه الشيوعيون بأن تجارة غير الدولة سرقة لأتعاب العمال، إذ أي حق للتاجر أن يستربح ثم يأخذ لأجل ماله شيئا من أتعاب و جهود الكادحين؟ فكل من الربا و الاتجار المربح حرام.

و لا لما أورد عليه بعض الاقتصاديين الجدد بأن الاتجار مطلقا «سواء كان من الدولة، كما في الشيوعية، أو من غير الدولة، كما في الرأسمالية» حرام، إذ في كلا الحالين استفاد من لم يتعب ممن تعب فهو سرقة تحت اسم القانون، إذ يرد عليهما أنه لا بد من مخزون مالي للقيام بخدمات المجتمع،

و أفضل طريق الخزن هو جمع المال عند التجار لئلا يجتمع المال و السلاح و القوة في مكان، فيكون الظلم و الديكتاتورية كما نشاهدهما بأبشع صورهما في البلاد الشيوعية .. مع لزوم مراقبة الدولة لأجل إعطاء الناس ما يحتاجون من مسكن و أثاث، حتى لا يبقى فقير، و لأجل عدم إفساد الرأسمالي- كما في النظام الإسلامي-.

بل لأن الربا على إطلاقه ظلم، إذ ليس كل تجارة مربحة، و ليس كل إعطاء للمال يستحق المعطي أن يأخذ شيئا في مقابل الإعطاء و توضيح ذلك أن لمال التاجر أربع صور:

______________________________

(1) الكافي: ج 7 ص 349.

(2) إشارة إلى سورة البقرة: 276.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 86

الأولى: أن لا تكون هناك تجارة يتمكن ما له من التقلب فيها.

الثانية: أن تكون تجارة غير مربحة إطلاقا، أو مربحة بقدر أقل من التعب، أو بمقدار التعب.

الثالثة: أن يصرف المال في الحوائج الضرورية، لا في التجارة.

الرابعة: أن يصرف المال في تجارة مربحة ربحا أزيد من التعب، و الربا أخذ التاجر المال ممن أعطاه المال في كل الصور الأربعة، مع أنه في الثلاثة الأولى ظلم.

أما في الصورة الأولى: فلوضوح أن قول المستشكل «إن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح، و بين أن يدفعه قرضا فيربح» غير تام، إذ المفروض أنه لا يمكن الاتجار بالمال في هذه الصورة.

و أما في الصورة الثانية: فإن المال ربح بقدر التعب- على أحسن الفرضين- و الأحق بهذا الربح من تعب لا من لم يتعب.

و أما في الصورة الثالثة: فإن أخذ التاجر الربح خلاف الإنسانية، لأنه استغلال لحاجة الإنسان في تدميره، فالمفترض أخذ المال لأجل قوته، أو دواء مريضه، فهل يحق لصاحب المال أن يستغل هذه الحاجة

في إنماء ماله؟

و تبقى الصورة الرابعة فقط مما يحق لصاحب المال أن يأخذ بعض الربح «أخذا لأجل وجود المخزون المالي الذي هو لأجل المجتمع أيضا- كما تقدم-» و حل الإسلام له بالمضاربة التي هي أقرب إلى العدالة بالنسبة إلى التاجر و المضارب، أفضل من الربا الذي قد يكون الترجيح فيه لصاحب المال، و قد يكون الترجيح للعامل و كلاهما اعتباطا لا يقره العقل و المنطق.

و يرد على إشكال حرمة المكس، أن غاية ما يقال لتبرير المكس أمران:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 87

الأول: إنّه إذا رفع المكس أضر ذلك بالاقتصاد، إذ الدولة تجني من وراء المكس مقادير كبيرة من المال تساعدها في إدارة شؤون الدولة.

الثاني: إنّه إذا رفع المكس لزم تحطم الاقتصاد الوطني، لأن البضائع الأجنبية ترد في البلاد بما يوجب تحطم الاقتصاد، و لا يخفى أن هذين الأمرين و إن تمّا في الجملة، إلّا أن الحرمة الذاتية للمكس لا ترتفع بهما، بل اللازم للدولة الإسلاميّة أن تلاحظ الأهمية و تأخذ بالأهم في البين، فكل من المكس و تحطم الاقتصاد «المذكور في الأمرين» حرام، فإذا دار الأمر بين الحرامين يجب الأخذ بأقلهما حرمة من باب قاعدة الأهم و المهم.

و منه يعلم أن حرمة المكس ليست مطلقة حتى يستشكل على الإسلام بأنه حرم المكس، و أن الحرمة لا تلائم الدول الحديثة.

و يرد على إشكال الحريات الكثيرة، أن توهم أن الإسلام يعطي حريات تضر بالاجتماع باطل، وجه التوهم أن الإسلام يعطي حرية البناء و حرية الحركة، و حرية السكنى، و حرية التجارة، إلى غير ذلك، و بذلك يختل النظام، فكل أحد يبني ما يضر الطريق، و كل أحد يترك بدون ملاحظة قوانين المرور، و لمليون مسلم مثلا،

أن يأتوا للسكنى في بلد بحيث يضيق بهم هذا البلد، و للتاجر أن يصدر كل بضائعه بحيث يقع أهل البلد في ضيق، إلى غير ذلك.

و الجواب: أن الإسلام إنما يعترف بالحرية المسؤولة «أي غير الضارة» لا الحرية غير المسؤولة، فليس لأحد أن يستفيد من الحرية الضارة بالآخرين، و يجب على كل مسلم احترام قوانين الدولة الإسلاميّة الموضوعة تحت نظر المجتهد الجامع للشرائط و إن أضرت القوانين بمصالحه الخاصة، فإذا رأت الدولة أن استيراد هذه البضاعة مثلا تضر بالاقتصاد الإسلامي فمنعت عن ذلك ليس لأحد أن يستورد هذه البضاعة، إلى غير ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 88

لا يقال: فأي فرق بين مثل قوانين أمريكا، و بين قوانين الدولة الإسلاميّة، إذ كل منهما توضع حسب المصلحة؟

لأنه يقال: الفرق أن قوانين الدولة الإسلاميّة توضع في الإطار الإسلامي، بخلاف قوانين مثل أمريكا، فالفرق بينهما كالفرق بين قوانين أمريكا، حيث توضع في الإطار الرأسمالي و قوانين روسيا، حيث توضع في الإطار الشيوعي، مع أن كلتا الدولتين تدعي أنها تلاحظ مصالح بلادها.

و يرد على إشكال الأحكام الخاصة بالمرأة أن المنطق و البرهان دلّا على صحة تلك الأحكام الخاصة، بحيث إنها لو تساوت مع الرجل في الأحكام كان خباله مثل تساويها معه في خصوصيات الجسم، فكما أنه لو كان كل البشر رجلا كان ذلك من أبشع الفساد، كذلك لو كان كل البشر متساوين في كل الحقوق و الواجبات كان ذلك من أبشع الفساد، و قد فصلنا بعض أسباب الاختلاف بينهما في جملة من الأحكام في كتاب «في ظل الإسلام» «1» و في «الفقه: الحكم في الإسلام» «2» و غيرهما.

و يرد على إشكال القصاص، أنه حكم إنساني رادع كما تقدم، و الإنسانية

و الردع لا توجدان في الغرامة و السجن، مع أن الإسلام جعل اختيار العفو و أخذ الغرامة بيد المجني عليه، رخص القصاص، بما إذا كان الجاني عامدا- كما هو واضح-.

أ ليس من الحق أن جانيا عامدا إذا قطع يد إنسان كان جزاءه أن تقطع يده، فيما إذا أراد المجني عليه ذلك؟ و إذا لم يكن هذا من الحق، لنا أن نسأل الفرق بين المال و النفس، فإذا أخذ السارق منك دينارا كان لك أن

______________________________

(1) للمؤلف.

(2) راجع موسوعة الفقه المجلد 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 89

تأخذ منه دينارا، و إن قيل فلما ذا لا يقتص في العرض؟ فإذا زنى زان بزوجة زيد كان لزيد أن يزني بزوجة الزاني، قلنا الفرق واضح، إذ يكون ذلك اعتداء على بري ء هو زوجة الجاني بخلاف القصاص، فإنه رد اعتداء على نفس المعتدي، هذا كله بالنسبة إلى الجهة الأولى.

أما الجهة الثانية فالقول بأن الإسلام ليس فيه اقتصاد و سياسة و أمن، كلام بلا دليل، فالاقتصاد الإسلامي ليس فيه مضار الاقتصاديات الثلاثة الرأسمالية و الشيوعية بفرعيها الاشتراكية و الفوضوية «التي تدعي أن لكل نتاجه، و من كل عمله» بينما فيه الاقتصاد المعتدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، كما أن السياسة في الإسلام أفضل سياسة، حيث تجمع بين حكم اللّه سبحانه و الشورى في انتخاب الحاكم، و الأمن موجود في الإسلام لا للكبت بل لجمع المعلومات و إرصاد المخربين و إيقاف المفسدين عند حدهم، و قد ذكرنا طرفا من هذه المسائل الثلاثة «الاقتصاد و السياسة و الأمن» في كتاب «الفقه: الحكم في الإسلام» و لذا فلا نعيد التفاصيل.

و حيث أن القرآن مصدر لكل هذه الأحكام، حيث بين فيها الخطوط العريضة

للحياة السعيدة، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الصالح لتطبيقه في العصر، و كل كتاب و قانون غير القرآن ليس له هذه الصلاحية، و الظاهر أن العالم أخذ أخذا حثيثا نحو السير إلى القرآن و أحكامه، لأنه الكتاب الوحيد الصالح للتطبيق بعد أن ظهر فشل ما عداه في تأمين الحياة السعيدة، فهو مثل الكهرباء بالنسبة إلى النفطيات، حيث إنها تعطي مكانها للكهرباء- تلقائيا- طال الزمان أو قصر، و لذا قال سبحانه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «1».

______________________________

(1) التوبة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 90

تطبيق الفكر و العمل على القرآن

يجب تطبيق الفكر و العمل على القرآن، و ذلك ببيان مقدمات:

الأولى: إن اللّه سبحانه خلق الكون الواسع بما فيه الدنيا و الآخرة و الحياة و غير الحياة على كيفية خاصة من الحقائق و الأبعاد و الحدود و المزايا و الخصوصيات و هذا واضح لا يحتاج إلى الدليل.

الثانية: إنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي مما أنزله اللّه سبحانه في أيدي البشر، أما سائر الكتب المنزلة فقد حرفت و بدلت، كما قال سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «1» و فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ «2» بل قامت الضرورة منا على عدم تمامية الكتب الباقية، كالتوراة و الإنجيل، بالإضافة إلى فقدان بعض الكتب المنزلة من أساسها بحيث لم يبق منها عين و لا أثر، بالإضافة إلى أنه لم يعلم أن سائر الكتب المنزلة كانت لأجل الهداية الكاملة المستوعبة للفكر و العمل بصورة مطلقة.

الثالثة: إنّ القرآن نزل بقصد توجيه الفكر و توجيه العمل، و المراد بالعمل أعمال الجوارح كلها بما فيها اللسان، و قد دلت الأحاديث المتواترة على أن الهداية خاصة بالقرآن- أن من طلب الهداية في غير القرآن أضله اللّه- أي كان ضالا و النسبة

إلى اللّه سبحانه باعتبار أن الآلة منه سبحانه، و لذا نسب

______________________________

(1) المائدة: 14.

(2) المائدة: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 91

كل شي ء إلى نفسه.

قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «1».

و قال: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «2».

و قال: أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «3».

و قال: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «4».

و قال: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ «5» على فرض أن يراد به كل عمل الإنسان حتى المعصية باعتبار أن الآلة منه سبحانه- و إنما كان يضل من طلب الهداية في غير القرآن، لأنه لا هداية فيما عداه، مثل أن يكون الطريق إلى البلد الفلاني خاصا بطريق واحد فيقال: أن من سلك غير هذا الطريق ضل، فإن وجهه أنه لا طريق غيره.

الرابعة: أن ظرفية البشر في عالم الدنيا ليست أكثر من القرآن، فإنه و إن احتمل أن يكون الكون- بمعناه العام- أكبر من المقدار المذكور في القرآن، إلا أن المقدار الذي يستوعبه الإنسان من الكون- استيعابا في فكره و في عمله- ليس أكثر مما أرشد إليه في القرآن، مثلا إذا كانت صحراء بمقدار مائة فرسخ، لكن زيدا لا يتمكن من عمران أكثر من عشرين فرسخا منها، كان مقتضى الحكمة أن يكون المنهاج الذي يضعه مربي زيد بقدر تعمير عشرين فرسخا فقط، إذ الزائد لغو لا يصدر من الحكيم، و يؤيد أوسعية الكون عن مقدار ظرفية الإنسان

قوله عليه السّلام «ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»

إلا أن يقال أن هذا لا يدل على أوسعية الكون عن القرآن، لأن

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الرعد: 28.

(3) الواقعة: 65.

(4) النساء: 79.

(5) الصافات: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 92

للقرآن بطونا، و لأنه لا

تفنى غرائبه كما في الحديث، فلعله سبحانه جعله يتدرج في الظهور كما جعل حقائق كونه، في الدنيا و في الآخرة تتدرج في الظهور.

و كيف كان فيدل على المقدمة الرابعة عدم وجود الهداية في ما عدا القرآن كما نص بذلك متواتر الروايات، فلو كان البشر أوسع للزم وجود الهداية في ما عدا القرآن الأزيد من القرآن لا بد و أن يكون له طريق مستقيم و طريق غير مستقيم، و معرفة البشر الطريق المستقيم في المقدار الأزيد هداية، و المفروض أنه لا هداية في ما سوى القرآن.

إذا تحققت هذه المقدمات الأربع قلنا: ثبت أن فكر البشر في أحوال المبدأ و المعاد و المعاش بكل أصنافه من عبادة و معاملة بأقسام المعاملات، و أخلاق و غيرها لا يعدو القرآن كما ثبت أن أعماله بكل أنواعها لا تعدو القرآن، فاللازم تطبيق فكره و عمله في إطار القرآن إذ القرآن مرماة للكون و البشر مأمور بفهم هذا الكون و العمل على طبق ذلك الفهم، فمثلا إذا فرضنا أن المريض كان مأمورا بشفاء نفسه و وصف المرض و وصف الدواء كان مكتوبا بكتاب، و قال الآمر: أفهم داءك و دوائك و أعمل لشفائك، كان اللازم على المريض أن يفهم الكتاب و ألّا يبقى مريضا.

و عليه فإذا أفرغ البشر فكره و عمله في إطار القرآن هدى، و إلا ضل عن سواء السبيل، و للتوضيح نقول: حقيقة المبدأ و حقيقة المعاد و حقيقة المخلوقات، أي خلق السماوات و الأرض و الجبال و الرعد و البرق و الجنة و النار و الموت و الحياة و غيرها، شي ء ثابت مسلّم سواء فهمها البشر أم لا.

كما أن سعادة البشر في الصلاة و الصيام و الزكاة و

البيع و النكاح و الحرية و الحدود و القصاص و غيرها، و الواقع في باب الفهم و أسلوب العمل المسعد في باب العمل في القرآن الحكيم، فإن صب البشر فكره في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 93

قالب فهم القرآن أدرك الحقائق و إن صب البشر عمله في قالب العمل الذي أرشد إليه القرآن سعد، و إلّا أخطأ في فكره و شقي في عمله مثلا قال القرآن:

الإله واحد، و قال: أقيموا الصلاة، فإن لم يصب البشر فكره و عمله في هذين، لقال بأن الإله اثنان، و لم يصل، و الأول يوجب انحراف فهمه عن الواقع، و الثاني يوجب شقائه حتى في الدنيا، لأنه كما قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» و قال تعالى: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2».

ثم أن هنا ثلاثة أمور:

الأول: إن للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطن و هكذا، و إذا لا حظنا ذلك في التكوينات التي خلقها اللّه سبحانه ظهر نوع شبه لفهم المقصود بذلك، فمثلا التفاح له ظهر هو قشره، و بطن هو لبه، و لبطنه بطن هو نواته، و لنواته بطن هو مخه، و هكذا الإنسان له ظهر هو جلده المرئي منه، و له بطن هو لحمه، و لبطنه بطن هو القلب و الكبد و الكلية، و كل بطن بمنزلة مخ النواة، و في القرآن مثلا قال سبحانه: وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «3» فظهره هؤلاء الثلاثة في قبال موسى عليه السّلام، و بطنه أمثالهم في قبال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم أمثالهم في قبال علي عليه السّلام و هكذا، و يؤيد هذا المعنى ما ورد من

أن القرآن كالشمس تجري كل يوم، فله انطباق في كل زمان على أفراد و أعمال و حالات.

ثم أن من الطبيعي أن يكون القرآن كذلك، لأنه كتاب اللفظ في قبال كتاب الكون، فاللازم انطباق هذا الكتاب على ذلك الكتاب، و إلا لم يكن كامل الانطباق.

______________________________

(1) الرعد: 29.

(2) طه: 15.

(3) القصص: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 94

الثاني: ورد بالنسبة إلى بعض أساميه سبحانه أنه لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها إلا اللّه سبحانه، كما في دعاء السمات، و قد يظهر من بعض الروايات أن القرآن كذلك كما ذكر في قصة بلوهر مع يوذاسف.

و هنا سؤالان:

السؤال الأول: أنه ما معنى ذلك؟

و الجواب: أن فهم كل ظواهر الأشياء و بواطنها كذلك، فإن البشر لا يعلم إلا بعض السطحيات، مثلا ما هي حقيقة اللحم و الدم؟ و ما هي حقيقة الماء و الكهرباء؟ و إلى غير ذلك، فإذا رأى الإنسان سيارة لا يعلم ما هي؟ فإنه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس «ظاهرها» و لا يعلم ماذا في ماكنتها «باطنها» و لا يعلم ما نفعها «تفسيرها» و لا يعلم إلى أي شي ء يكون أولها «تأويلها» و كذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من ظاهره و لا من باطنه، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا و لا أول القرآن للمستمسك به و التارك له.

السؤال الثاني: إذا كان لا يعلم ظاهرها و لا باطنها و لا تفسيرها و لا تأويلها فما فائدة ذلك؟

و الجواب: الإشارة و التلميح و إن كانت الحقيقة مخفية، مثلا أنك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس، و أراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك

الحرب، فإن الكلام و الصورة لا شك يلمحان إلى حقيقة، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب و انفعالات أولئك المحاربين؟ إن نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته، كنسبة الصور و الكلام إلى حقيقة تلك الحرب، و للحرب «ظاهر» هي المعركة و «باطن» هي الاستعمار الذي يريد التسلط مثلا، و «تفسير» هو ما تنتجه الحرب الآن من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 95

غلاء الأسعار و انسداد الطرق و «تأويل» هو ما يترتب من الأثر على هذه الحرب من سقوط امبراطورية و دخول امبراطورية أخرى إلى الحياة.

الثالث: قد ورد في باب القرآن أنه لا تنقضي غرائبه و المراد بذلك، إما بعض حقائقه التي لا نعلم بها، أو أن الطريق الذي أرشد القرآن البشر إليه طريق لا تنقضي غرائبه، مثلا أرشد القرآن البشر إلى السير في الأرض و النظر و العبرة و هكذا يؤدي دائما إلى اطلاع البشر على معلومات جديدة غريبة و اكتشافات حديثة مدهشة، و اللّه سبحانه العالم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 96

فلسفة كاملة عن الحياة

حيث أن القرآن الحكيم فلسفة كاملة للحياة و لا فلسفة كاملة غيره، لا بد و أن يسيطر على الحياة، إن عاجلا أو آجلا، فإنه إنما يسيطر إذا عرف البشر هذين الأمرين:

إنه فلسفة كاملة و لا فلسفة كاملة غيره:

إذ البشر بحاجة إلى فلسفة كاملة ليسعد، و السعادة هي الغاية المتوخاة لكل بشر، و ليس وراءها مقصد، فإن الذاتي لا يعلل بغيره.

أما أن القرآن فلسفة كاملة، فلأنه يعطي شؤون الروح، و يعطي متطلبات الجسد و يستند إلى ما لا يتغير، و هذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل السعادة الكاملة لأن الإنسان روح و جسد، و لكل واحد منهما متطلبات، ثم إذا

كان متطلباتهما غير مستندة إلى قوة أزلية لا تتغير، كانت محلّا للتغيير، مما يسلب الثقة، و سلب الثقة ينتهي إلى الشقاء، فهو مثل أن تراجع طبيبا لا تثق به أو تركب طائرة أو سفينة لا تثق بهما حيث أن في الكل احتمال العطب الذي يوجب الشقاء النفسي و شقاء النفس كسعادتها، تسريان إلى الجسد للتفاعل بين الروح و الجسد، و لذا كان القلق يوجب قرحة المعدة، و أمراضا أخر، و لذا كان أيضا المرض الجسدي يوجب اضطراب العقل، و منه قيل: «العقل السليم في الجسم السليم».

و على هذا فإذا لم تكن المتطلبات مستندة إلى قوة أزلية توجب الثبات و الاستقرار، كان الإنسان يعيش في ألم و عذاب، و حيث أن من طبيعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 97

الإنسان الفرار من الألم كان لا بد له أن يتطلب فلسفة صحيحة ليدفع بها ألمه، و ينتهي به المطاف إلى فلسفة القرآن، التي هي الفلسفة الصحيحة للكون و الحياة، بكلا شقي الحياة: الروح و الجسد، بالإضافة إلى أنها مستندة إلى اللّه سبحانه، الذي لم يزل و لا يزال و لا تتبدل قوانينه فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «1».

إذا ثبت هذا قلنا: أمهات الفلسفات الموجودة في عالم اليوم خمسة:

1- فلسفة الإسلام، 2- فلسفة اليهود، 3- فلسفة النصارى، 4- فلسفة الرأسمالية، 5- فلسفة الشيوعية، و ما عدا الإسلام من سائر الفلسفات ليست صالحة للحياة، فلا تبقى إلا فلسفة الإسلام، التي ينتهي البشر في آخر المطاف إليها.

و لذا قال سبحانه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2» فهو بالإضافة إلى كونه غيبيا، يؤيده المنطق و البرهان.

أما عدم تمكن الفلسفة اليهودية و النصرانية من الصمود أمام الحياة، فلوضوح

أنهما مشوبتان بأبشع أنواع الخرافة، و العقل إن سبت ساعة لا يسبت إلى قيام الساعة، و لذا بمجرد أن ترجم كتابيهما بعض المترجمين، و عرف الغرب و الشرق ما يحتويان من الخرافة لفظوهما، بالإضافة إلى أنهما كانا مصادر لمحاكم التفتيش و ما أشبهها، مما اصطدم بالعلم حين نهوض العلم، فانسحبا عن الميدان بعد مجازر بشرية رهيبة- هذا أولا- بالإضافة إلى أن اليهودية و النصرانية لا تشتملان على قوانين الإنسان في معاملاته و أحواله الشخصية و سائر شؤونه، بل منطقهما: «دعوا ما لقيصر لقيصر، و ما

______________________________

(1) فاطر: 44.

(2) التوبة: 33.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 98

للّه للّه» الذي يعيش تحت مظلتهما، لا بد له من وضع قوانين لحياته، و حيث أنها ليست مستندة إلى قوة أزلية لا تصلح للإسعاد «كما تقدم بيان ذلك»، و هذا ثانيا.

و قد ظهرت آثار انهزام اليهودية و النصرانية في هذا القرن بما لا يرجى في بقائهما و إن حقنتا بآثار الحضارة الحديثة، فالخشبة اليابسة لا تحيى، و إن سقيت بألف كر من الماء.

و أما عدم تمكن فلسفة الشيوعية و الرأسمالية من الصمود أمام الحياة، فلأنهما أولا: ناقصتان من حيث عدم وفائهما بجانب الروح، و إنما تتعرضان لجانب الجسد فقط، و لذا كان الغرب القائل بالروح اضطر إلى التشبث باليهودية و المسيحية لأجل إملاء الروح، و لكنهما لم ينفعاه أيضا، لخواء ما فيهما من الروحيات، و أسوأ الاثنتين هي الشيوعية التي لا تعترف بالروح أصلا.

و ثانيا: لا يستمدان قوانينهما الجسدية من قوة أزلية، و قد عرفت أن القانون المستمد من الإنسان و نحو الإنسان، مترجرج، و لا ينفع استقرار الإنسان و ثقته.

أما أمثال القومية، و البعثية، و الوجودية، و الديمقراطية و الاشتراكية،

و نحوها، فهي ليست فلسفات أصلا، و إنما هي فكر منحرفة لبقعة صغيرة من بقع الحياة، فالقومية معناها جمع القوم، و البعثية معناها بعث القوم، و الوجودية إفراط في الفردية مقابل إفراط الماركسية في الدولة، و الديمقراطية حكم الشعب، و الاشتراكية توزيع قسم من الثروة، و من الواضح أن أيّا منها ليست فلسفة للحياة، هذا مع الغض مما سبب جملة منها من المآسي للإنسان، إذا .. لم يبق في الميدان إلا القرآن، ففي أي وقت اجتهد حملته في إيصاله إلى العالم، استقبله العالم بكل ترحاب، كما استقبله العالم بكل حفاوة إبان ظهوره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 99

1 سورة الفاتحة مكية- مدنية/ آياتها (7)

سميت السورة باسم «الفاتحة» لافتتاح المصاحف بكتابتها و لقراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من السور و تسمى ب «الحمد» و من أسمائها «سبع المثاني» و «الواقية» و «الكافية» و ذكروا لها أسماء أخرى و هي مكية و قيل إنها مدنية و لعلها نزلت مرة في مكة و مرة في المدينة.

[سورة الفاتحة (1): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي أستعين باللّه، و إنما لم يقل «باللّه» تعظيما، فكأن الاستعانة بالاسم، و اللّه علم له سبحانه، و الرحمن و الرحيم صفتان تدلان على كونه تعالى عين الرحمة، فلا يرهب جانبه، كما يرهب جانب الطغاة و السفاكين، و تكرير الصفة للتأكيد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 100

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 149

[سورة الفاتحة (1): الآيات 2 الى 6]

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

[2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإنه هو الذي يستحق الحمد، لأن كل جميل

منه، و كل خير من عنده، و هو رب العالمين، الذي أوجدهم و رباهم.

و التربية تطلق على الإنشاء و الاستمرار، و العالمين إشارة إلى عوالم الكون، من جن و ملك، و إنسان و حيوان، و نبات و جماد، و روح و جسد، و غيرها.

[3] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تكرار للتأكيد، لإفادة أن الرب ليس طاغيا، كما هو الشأن في غالب الأرباب البشرية.

[4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الدين هو الجزاء، فيوم الدين: «القيامة»، و اللّه مالك ذلك اليوم، لا يشرك فيه أحد (وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1».

[5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي عبادتنا و خضوعنا لك، و قدم «إياك» لإفادة الحصر.

وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي نطلب الإعانة، فإنه هو الذي بيده كل شي ء، فالاستعانة منه، و الإتيان بالتكلم مع الغير، لإفادة كون المسلمين كلهم منخرطين في هذين السلكين: سلك العبادة للّه، و سلك الاستعانة به.

[6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ غير المنحرف، و الهداية هو إرشاد الطريق،

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 101

[سورة الفاتحة (1): آية 7]

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده و يهديه، و إن كان مهديا، و حيث لم يذكر متعلق الصراط المستقيم، دلّ على العموم، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم، في العقيدة، و العمل، و القول، و الرأي، و غيرها.

[7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إنه تفسير ل: «الصراط المستقيم» أي إن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم، بهدايتهم من النبيين و الأئمة عليهم السّلام و الصالحين غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فإن من أنعم اللّه عليه بالهداية، لا يكون مغضوبا عليه وَ لَا الضَّالِّينَ أي الضال المنحرف عن الطريق، و الضال

يمكن أن يكون مغضوبا عليه إذا كان عن تقصير، و يمكن أن يكون غير مغضوب عليه إذا كان عن قصور، و المسلم يطلب من اللّه تعالى أن لا يكون من هؤلاء و لا هؤلاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 102

2 سورة البقرة مدنية/ آياتها (287)

[سورة البقرة (2): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

سميت السورة باسم «البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة و هي مدنية.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتدأت السورة باسم اللّه تعالى، لتكرر الاستعانة به، و ليتعلم المسلم كي يبتدئ جميع أعماله بهذا الاسم المبارك، و ليتركز هذا الاسم الكريم في الأذهان، فإن للتكرار أثرا بالغا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 103

[سورة البقرة (2): الآيات 2 الى 4]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

[2] الم أي من جنس هذه الحروف المقطعة: «أ»، «ل»، «م».

[3] ذلِكَ الْكِتابُ و الإشارة بالبعيد، للإشارة إلى كون القرآن سامي المقام، عالي المنزلة لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلّا للريب، و إن ارتاب فيه الكفار، كما أن النهار لا ريب فيه، و إن ارتاب فيه السوفسطائيون، و «لا رَيْبَ فِيهِ» صفة للكتاب هُدىً لِلْمُتَّقِينَ صفة بعد صفة، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى، و خاف من التردي، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن، و إن كان القرآن صالحا، لأن يهدي الكل.

[4] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ صفة للمتقين، و المراد بالإيمان الاعتقاد به، و الغيب هو الذي غاب عن الحواس الظاهرة، أي ما وراء الطبيعة، فالروح غيب، و أحوال القبر غيب، و اللّه سبحانه غيب، و هكذا وَ

يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة الصلاة، الإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها، و لذا تدل على معنى أرفع، من معنى «صل» وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ و الرزق أعم من المأكول، و الملبوس، و المسكون، و العلم و الصحة، و غيرها، و إنفاق كل شي ء بحسبه.

[5] وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الوحي و القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 104

[سورة البقرة (2): الآيات 5 الى 6]

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6)

وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإن من شرائط الإيمان، الإيمان بكل الأنبياء عليهم السّلام (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) «1» وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و اليقين بالآخرة هو الاعتقاد بها، و العمل بمقتضاها، و بعض هذه الأمور، و إن كانت داخلة في «الإيمان بالغيب»، لكنها ذكرت لزيادة الاهتمام بها، و ذكر الخاص بعد العام.

[6] أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أي على بصيرة، و هذه البصيرة أتت إليهم من ناحية اللّه سبحانه وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجحون، فهم في الدنيا على بصيرة، و في الآخرة في زمرة الناجين، ثم أن القرآن لما ذكر المؤمنين، ثنّاهم بذكر الكافرين، ثم ثلّثهم بذكر المنافقين، فإن كل دعوة، لا بد و أن ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام: مؤمن بها و كافر بها، و مذبذب بين ذلك يجامل الطرفين.

[7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و الكفر هو الستر، كأن الكافر يستر الحقيقة، و لا يبديها سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و المراد ب «الذين كفروا» هنا هم المعاندون منهم، لأنهم المصداق الأجلى للكافر، و إلا فالذين آمنوا بالرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم من الناس كانوا كفارا ثم

______________________________

(1) البقرة: 286.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 105

[سورة البقرة (2): آية 7]

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

آمنوا، و من المعلوم أن المعاند يتساوى في حقه الإنذار و عدمه، نعم يجب إنذاره إتماما للحجة، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات.

[8] خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ طبعها بالكفر، أي جعلها بحيث يصعب إيمانها، لأنها اعتادت الكفر، و عدم الاستماع إلى الحق، و إنما ختم اللّه، لأنها لم تقبل الهداية، كمن يطرد ولده عن داره بعد ما أرشده مرات، فلم يفد فيه النصح، كما قال تعالى طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ «1» أي بسبب كفرهم، و إنما فسرنا «الختم» ب «يصعب» لبداهة أن الإنسان و لو كان معاندا، لا يخرج عن قابلية القبول و الاهتداء وَ عَلى سَمْعِهِمْ بمعنى إنهم لا يستفيدون من السمع، كالأصم، لأن في سمعهم خلل وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ تشبيه للغشاوة المعنوية بالغشاوة الظاهرية، فكما أن من على بصره غشاوة، لا يرى المحسوسات، كذلك من يعاند يكون على بصره مثل الغشاوة، و هو تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل، كما تقول لمن لا ينتفع بالعلم، هو جدار وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا و الآخرة، فإن من ينحرف عن قوانين اللّه تعالى، يكون لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى «2».

______________________________

(1) النساء: 156.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 106

[سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 10]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ

اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)

[9] وَ مِنَ النَّاسِ المنافقون، و هم القسم الثالث، فهو مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قولا باللفظ فقط وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حقيقة، فلا يعملون أعمال المؤمنين، و إن كانت قلوبهم أيضا متيقنة بحقائق الإيمان.

[10] يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يفعلون مع اللّه تعالى، فعل المخادع، الذي يريد الخديعة، فيظهر ما لا يريده، و يريد ما لا يظهره وَ الَّذِينَ آمَنُوا فيرونهم خلاف ما يضمرونه، لكن عملهم هذا ليس خدعة حقيقية للّه و للمؤمنين، فإنهما يعلمان نواياهم، فلا ينخدعان بهم، بل وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يجري عليهم أحكام المؤمنين ظاهرا، و لا يشتركون معهم في أسرارهم، كما لا يشتركون معهم في آخرتهم، فهم مخدوعون من حيث ظنوا أنهم خادعين وَ ما يَشْعُرُونَ بأنهم خدعوا أنفسهم، لا أنهم خدعوا اللّه و المؤمنين، إذ لو شعروا بأنهم يخدعون أنفسهم، لم يقدموا على ما ظنوه خدعة لغيرهم، و الحال أنها خدعة لهم حقيقة و واقعا.

[11] فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فإن قلب المنافق ملتو، و نفسه معوجة، لا تريد الاستقامة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً إذ نزول الآيات، و نصب الرسول،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 107

[سورة البقرة (2): الآيات 11 الى 13]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)

أوجب أن يزيدوا في التوائهم، لئلا يسلط النور

عليهم، فيعرفوا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي بسبب كذبهم، بمخالفة ظاهرهم لباطنهم، فإنه نوع من الكذب، و إن كان كلامهم مطابقا للواقع، لكنهم حيث أخبروا عن إيمانهم- و لم يكونوا مؤمنين- كان ذلك كذبا.

[12] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمنافقين لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فإن النفاق يلازم الإفساد، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة، و يؤلب عليها، و هو إفساد حينما تريد الدعوة الإصلاح و التقدم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فإنهم يظنون أن الدعوة إفساد، و أنهم بوقوفهم ضدها يصلحون في الأرض.

[13] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لأنهم بوقوفهم النفاقي ضد الإسلام، يكونون مفسدين إفسادا بالغا أكثر من إفساد الكفار، و لذا قال تعالى في آية أخرى هُمُ الْعَدُوُّ «1» على نحو الحصر وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ بذلك، بل يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

[14] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي للمنافقين، و القائل هم جماعة من المؤمنين

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 108

[سورة البقرة (2): الآيات 14 الى 15]

وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

الذين لا يخافونهم آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إيمانا لا يشوبه نفاق قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعنون بالسفهاء المؤمنين الحقيقيين أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ و أية سفاهة أعظم من كون الإنسان حائد عن طريق الحق مع كونه متصفا بصفة النفاق الرذيلة وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ إنهم هم السفهاء، لأنهم يظنون أن طريقتهم النفاقية، أصلح الطرق.

[15] وَ إِذا لَقُوا من «لقى» أي التقى المنافقون ب الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا لهم آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ أي

أشباههم من المنافقين قالُوا لهم إِنَّا مَعَكُمْ يريدون بذلك إرضاء الجانبين إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بالمؤمنين، في إظهار الإيمان لهم، و هذا هو دليل نفاقهم، و إلّا لو كان الأمر بالعكس، بأن أظهروا الكفر تقية لم يزيدوا على إظهاره.

[16] اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يفعل لهم فعل المستهزئ، فيجري عليهم في الدنيا أحكام الإيمان، و في الآخرة يجازيهم بجزاء الكفار، و في بعض الأحاديث إنه يستهزئ بهم في الآخرة في النار وَ يَمُدُّهُمْ إمداد اللّه سبحانه و تعالى، بعدم الضرب على أيديهم كما يقال: الملك يمد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 109

[سورة البقرة (2): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)

قطّاع الطريق حيث لا يستأصلهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ الطغيان تجاوز الحد، و العمه التحير، فإن المنافق، كالشخص المتحير، و إنما يمدهم اللّه سبحانه، لأن الدنيا دار اختبار و امتحان، فلا جبر و لا إلجاء.

[17] أُولئِكَ المنافقون الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فكأنهم أعطوا الهداية، و أخذوا مكانها الضلالة، أو كأنهم أعطوا أنفسهم بدل الضلالة، بينما كان الذي ينبغي أن يعطوا أنفسهم بدل الهداية، كما قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلاتشري بها لهبا في الحشر تشتعل

فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ المعنوية، بل خسروا رأس المال الذي هو أنفسهم وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذه التجارة و الاشتراء.

[18] مَثَلُهُمْ أي مثل هؤلاء المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً استوقد بمعنى أوقد، أو بمعنى طلب الوقود الذي هو الحطب و نحوه، و المعنى أشعل نارا ليستضي ء و يدفأ بها فَلَمَّا أَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ و

انتفع بها ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ بأن أرسل ريحا فأطفأها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 110

[سورة البقرة (2): الآيات 18 الى 19]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)

وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ما حولهم و إنما كان هذا مثلا لهم، لأن المنافق بإيمانه الظاهري، يعبّد لنفسه سبيل الحياة، و ينور في طريقه، فإن الإيمان نور، و سبب لهداية الإنسان إلى الحق و العدل و الخير، فإذا قبض اللّه أرواحهم تركهم، كسائر الكفار في نار و عذاب، حين يقبض اللّه أرواح المؤمنين، إلى نور أوسع و رحمة أكبر، فهؤلاء المنافقون:

[19] صُمٌ جمع أصم، لأنهم لا ينتفعون بالحق، فهم و الأصم سواء بُكْمٌ جمع أبكم، و هو الأخرس، لأنهم لا يقولون الحق فهم و الأبكم سواء عُمْيٌ جمع أعمى، لأنهم لا يبصرون الحق، فهم و الأعمى سواء فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن غيهم و ضلالهم، و «ف»، للإشارة إلى أنهم حيث صموا و أبكموا و عملوا لم يرج فيهم الخير، فإنه وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ «1».

[20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ مثال آخر لحال المنافقين، و الفرق بين المثالين، إن المثال الأول، كان مثالا للمنافق نفسه، و هذا المثال مثال الحق الذي يغمر المنافق، لكنه لا ينتفع به و الصيب هو المطر، فالحق الذي يغمر هؤلاء كمطر ينزل من السماء فِيهِ ظُلُماتٌ ظلمة السحاب و ظلمة المطر، لأنه يحول بين الضياء و بين الأرض، و ظلمة

______________________________

(1) الأنبياء: 46.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 111

[سورة البقرة (2): آية 20]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا

فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

سحاب فوق سحاب وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ من الأمور المخوفة يَجْعَلُونَ أي من ابتلى بهذا الصيب أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ خشية الصَّواعِقِ فإن الصاعقة إذا نزلت، قرعت الأسماع بصوتها الشديد حَذَرَ الْمَوْتِ فإن الصوت الشديد يوجب انخلاع القلب، فيموت الشخص، لكن هؤلاء المنافقين الذين هم كفار في الباطن لا يظنون أنهم يتمكنون الفرار من بأس اللّه تعالى وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ إحاطة علم و قدرة.

[21] يَكادُ الْبَرْقُ اللامع في السحاب يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أي أبصار من ابتلى بالصيب، و خطف البصر كناية عن عماه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ بأن أبرق، و رأوا طريقهم مَشَوْا فِيهِ أي في البرق- بمعنى استفادتهم من نوره فيمشون وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بأن لم يبرق قامُوا في أماكنهم- أي وقفوا- وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بسبب صاعقة قوية فتصمهم وَ أَبْصارِهِمْ بسبب برق قوي، إذ النور إذا قوي أوجب ذهاب البصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمنعه أن يحتمي الإنسان بإصبعه، أو بغمض بصره عن أن يذهب بسمعه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 112

[سورة البقرة (2): آية 21]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

أو بصره، و هذا توضيح المثال بتطبيقه على المورد أن «الصيب» هو الحق النازل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و «البرق» هو تقدم المسلمين، و ما يسبب لهم إنارة الطريق، و «الرعد و الصاعقة» إيعادات الرسل، و الأهوال المكتنفة بالدعوة، و المنافقون كمن ابتلى بهذا الصيب في الصحراء، فالحق كالمطر فيه الحياة، لكن فيه

ظلمات غلبة الكفار، و ذهاب الأنفس و الأموال و الثمرات، و فيه برق ينير طريق الحياة السعيدة، و فيه رعد و صاعقة مواعيد الرسول، و فضيحة المنافقين، و هؤلاء المنافقون تكاد سرعة تقدم المسلمين، تعميهم، فإن العين إذا نظرت إلى ما لا يسرها اضطربت و دمعت، كلما أضاء لهم، بأن غلبوا في الحرب، و حصلوا على الغنائم، اتبعوا الرسول، و إذا أظلم عليهم، بأن غلب عليهم الكفار، وقفوا و قاموا في مكانهم، لا يعلمون و لا يتقدمون و هم يخافون من الفضيحة، إن نزلت آية في شأن المنافقين، فيجعلون أصابعهم في آذانهم، حتى لا يسمعونها، أو يتغافلون عنها، كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم، فإن الإنسان المجرم إذا سمع ما يمس إجرامه ظهرت الصفرة و آثار الانهزام على وجهه، لكن اللّه قادر على إماتتهم، كما هو قادر على فضحهم و الذهاب بسمعهم و بصرهم، فليسوا هم في راحة من نفاقهم- كما زعموا- بل هم في أشد ابتلاء و محنة.

[22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ خلق الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و كان السبب في الخلق لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي خلقكم للتقوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 113

[سورة البقرة (2): الآيات 22 الى 23]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

و العبادة، كما قال تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1».

[23] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً كالفراش الذي يكون

راحة للبدن و زينة و جمالا وَ السَّماءَ بِناءً أي مبنيا، و هذا يلائم كون السماء طبقة تحطم القذائف إلى الأرض، فإن البناء ليس المراد منه أن يكون المبنى من جسم كثيف وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً و المراد من السماء هنا جهة العلو، أو المراد من تلك الناحية فَأَخْرَجَ بِهِ أي بسبب الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فإذا كان الخلق و سائر النعم من اللّه سبحانه فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً شركاء من الأصنام أو غيرها وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنها باطلة، و أنه ليس للّه شريك.

[24] وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تزعمون أنه ليس من اللّه سبحانه فَأْتُوا بِسُورَةٍ واحدة مِنْ مِثْلِهِ أي من مثل هذا المنزل، و لو كان قصر سورة نحو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» أو إِنَّا أَعْطَيْناكَ «3» وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ الذين يشهدون

______________________________

(1) الذاريات: 57.

(2) الإخلاص: 2.

(3) الكوثر: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 114

[سورة البقرة (2): الآيات 24 الى 25]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

معكم، أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس بنبي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي كائن ما كان غير اللّه سبحانه، كما يقال ما دون اللّه مخلوق إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ريبكم و زعمكم، أن محمدا ليس

بنبي، و أن القرآن ليس منزلا من عند اللّه تعالى، إذ لو لم يكن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبيا، لكان إنسانا عاديا، فيمكن الإتيان بمثل كلامه.

[25] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن وَ لَنْ تَفْعَلُوا هذا إخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا، إذ القرآن معجز، فلا يمكن الإتيان بمثله فَاتَّقُوا عاقبة تكذيبكم، لرسول اللّه، و لكتاب اللّه، التي هي النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا أي حطبها، و ما يسبب إيقادها النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ جمع حجر و لعل المراد بها أصنامهم، كما قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» و تخصيص الحجارة بالذكر للتهويل، إذ الحجارة لا تفنى، فتكون النار دائمة أُعِدَّتْ هذه النار لِلْكافِرِينَ هذه عاقبة من يكذب.

[26] وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 115

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بجوارحهم أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجنة باعتبار كونها بستانا ذات أشجار و نخيل، تكون أرضها «من تحتها» فالأنهار جارية من تحت الجنة على أرضها كُلَّما رُزِقُوا أي رزق المؤمنون مِنْها أي من الجنات مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً بأن أتى لهم بفاكهة و ثمرة قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ فإنهم يألفون تلك الثمار لما رأوا منها في الدنيا، و ليسوا كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي من ضريع، و لا شرابهم الذي من حميم وَ أُتُوا بِهِ أي بذلك الرزق مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في الجودة و الجدة، لا كأثمار الدنيا، بعضها ناضج، و بعضها غير ناضج، و بعضها جيد، و بعضها ردي ء وَ لَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ

من القذارات الخلقية، كالأوساخ و الدماء، و القذارات الخلقية، كالسب و الشتم و الحسد، و نحوها وَ هُمْ فِيها أي في تلك الجنات خالِدُونَ أبدا لا يموتون، و لا يتحولون عنها، و حيث قسم اللّه الناس إلى أقسام ثلاثة، مؤمن و منافق و كافر، و مثل للمنافق، ثم أمر الناس عامة بالعبادة، و دعاهم إلى حضيرة الإيمان، و ذكر لهم فوائده، و احتج على من أنكر الرسالة، أجاب عن سؤال سأله الكفار و من إليهم تعنتا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 116

[سورة البقرة (2): آية 26]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

و هو: أن اللّه لما ذا يضرب المثل، كما مثل للمنافق هنا، و مثل في سور أخرى بالعنكبوت و نحوها؟ فإن المثال أوقع في النفوس، و موجب لتقريب المطلب إلى الأذهان.

[27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما فإن الحياء من الأشياء القبيحة، أو نحوها، و ليس في تمثيل اللّه الكبير بالأشياء الصغيرة الحقيرة، في النظر حياء، أي مثل كان، و هذا معنى قوله «ما» أي شيئا من الأشياء، بَعُوضَةً و هي البقة فَما فَوْقَها و لعل ذكر البعوضة هنا لأنها أصغر حيوان متعارف يراه كل أحد فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي المثل الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و أتى به لغرض التوضيح و التبيين وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ معترضين ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا و مثلا تمييز في معنى «بهذا المثل» و لماذا يأتي

اللّه بهذا المثل- غير المناسب لجلال اللّه- ف يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً و يوجب انقسام الناس، و من المحتمل أن يكون «يضل ...» جوابا عن اعتراضهم، أي أن المقصود من المثل الإضلال و الهداية، لكنه ينافي السياق، فإن المقصود بالمثل ليس ذلك، و إنما التوضيح و التقريب وَ ما يُضِلُّ بِهِ أي بالمثل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 117

[سورة البقرة (2): الآيات 27 الى 28]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

إِلَّا الْفاسِقِينَ الذين فسقوا أي خرجوا عن طاعة ربهم و مقتضى عقولهم، ثم بين الفاسقين بإبراز سماتهم بقوله:

[28] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الميثاق ما وقع التوثيق به، و ميثاق اللّه هو ما أخذ عليهم في الكتب السالفة من الإيمان، أو هو ما أودع فيهم من الفطرة بعرفان الحق وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من صلة الأرحام، أو صلة الرسول و المؤمنين وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر و النفاق و إتيان المحرمات أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أعمارهم، فذهبت دنياهم ضنكا و آخرتهم عذابا و نارا.

[29] ثم عاد سبحانه إلى حال الكافر، و وجه الخطاب إليه مستدلا على بطلان كفره بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً لا روح فيكم، فإن أصل الإنسان التراب، ثم يكون نباتا، ثم يكون حيوانا و ما أشبه، فيأكله الإنسان، فيتولد منه المني، ثم يصير إنسانا، ثم يموت و يرجع ترابا، ثم يعاد يوم القيامة إنسانا فَأَحْياكُمْ نباتا أو حيوانا

أو إنسانا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقت موتكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم القيامة ثُمَ بعد الحياة الثانية إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لتساقون إلى المحاكمة الكبرى، و كون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 118

[سورة البقرة (2): الآيات 29 الى 30]

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

الرجوع إليه، مع إن الإنسان في جميع الأحوال، بدءا و ختاما، تحت سلطة اللّه و قدرته و علمه، باعتبار محاسبته تعالى للإنسان.

[30] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ لمنفعتكم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فمن خلقها غيره، و كون الخلق للإنسان، لا يدل على تحليل كل شي ء، بل كل شي ء بحسبه، فالأسماك المحرمة، و الحيوانات المفترسة لتمتع السمع و البصر، لا للأكل و نحوه و هكذا ثُمَّ اسْتَوى أي توجه بالخلق و الأمر إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ مدارات للنجوم السيارة، فإن السماء في اللغة بمعنى المدار- هذا إذا قلنا بالنظر الفعلي حول السماوات- و يؤيده حديث عن الإمام الرضا عليه السّلام- كما في «الهيئة و الإسلام» «1»- وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يغيب عنه شي ء، فمن كفر كان اللّه مطلعا عليه لا يفوته ذلك، و لا يخفى أن خلق الأرض كان أولا، ثم خلق السماء، ثم دحو الأرض، كما قال (وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) «2».

[31] و حيث ذكر سبحانه قصة خلق السماء و الأرض، و ثم البناء، توجه الحديث إلى من استخلف فيها وَ اذكر إِذْ قالَ

رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ الذين هم مخلوقين في الملإ الأعلى لا يرون بالعين إلّا لمن شاء اللّه

______________________________

(1) للعلامة الشهرستاني.

(2) النازعات: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 119

[سورة البقرة (2): آية 31]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31)

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً يخلفني في الأمر و النهي و الإرشاد، و هذا الحوار إنما كان لأجل إظهار كوامن، و بيان حقائق قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها أي في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ و هذا استفهام حقيقي، يريدون بذلك استيضاح السبب، و لعلهم إنما علموا بذلك، لما كانوا يدرون من كدرة الأرض و ثقلها الموجبة للفساد و التكدر، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقا وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ففينا الكفاية، و ليس هذا تزكية، بل كقول العبد المطيع لمولاه: إني أقوم بخدمتك فلما ذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب، و معنى التسبيح التنزيه، و كان المراد من التسبيح بحمده، التنزيه المقترن بالحمد، مقابل التنزيه غير المقترن به، كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص، لكن التنزيه فيها لا يقترن بالحمد، إذ ليس ذلك باختيارها بخلافه تعالى المقترن أفعاله و أعماله بالإرادة وَ نُقَدِّسُ لَكَ أي أن تقديسنا و تنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء و سمعة قالَ اللّه تعالى في جواب الملائكة السائلين عن السبب إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فإن في استخلاف البشر، مصالح أهم من الفساد الواقع منهم، كما أن استخلافهم أهم من استخلافكم فإن منهم من الأخيار و الصالحين من لا يلحقه الملك المقرب، بالإضافة إلى أنه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعا جديدا.

[32] و إذا أراد اللّه تعالى إعلام الملائكة ببعض مزايا البشر،

و إنه من جنس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 120

[سورة البقرة (2): آية 32]

قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

أرفع منهم، علّم آدم عليه السّلام، علوما يتمكن هو من فهمها و هضمها، بينما لا يقدر الملائكة على ذلك، ثم قال تعالى للملائكة: هل تتحملون مثل ذلك؟ فأبدوا عجزهم، و إذا رأوا من آدم التحمل و القدرة، اعترفوا بالتفوق، و إنه أحق بالخلافة، و توضيح ذلك بمثال أنه إذا كان لإنسان خادم لا يقدر فطرة على بناء دار جميلة، ثم أراد استخدام مهندس، فقال الخادم: لماذا تستخدم غيري و أنا حاضر؟

يقول له السيد: إني أعلم ما لا تعلم، ثم يستخدم المهندس، و يبين له ما يريده من الدار، فيقدر المهندس من بنائها، بينما لا يقدر الخادم على النزول عند رغبة السيد، و هناك يعترف بالعجز، و أن السيد كان عارفا حيث تركه إلى غيره وَ عَلَّمَ اللّه تعالى آدَمَ عليه السّلام الْأَسْماءَ كُلَّها أسماء الأشياء و علائمها، و ذلك يستلزم تعليم المسميات و المعلومات، فإذا علمت أحدا اسم زيد و عمرو و بكر، كان اللازم تعريفهم له أيضا، و لذا قال ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ بإتيان ضمير «هم» تغليبا للعقلاء على غيرهم، و العرض على الملائكة فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ صدقا خبريا يطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في الاستخلاف، و لعل تعليم آدم كان بالإلهام، و خلق العلم فيه، مما هو قابل له، دون الملائكة، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم و الإلهام، فلا يقال لماذا لم يعلّم اللّه تعالى الملائكة.

[33] قالُوا سُبْحانَكَ أنت منزه عن القبيح و العبث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص:

121

[سورة البقرة (2): الآيات 33 الى 34]

قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا فليس لنا هذا العلم الذي لآدم مما هو قابل له، و لسنا قابلين له إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ و الحكيم هو الذي يفعل الأشياء عن حكمة، بمعنى وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.

[34] قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي بأسماء ما عرضهم على الملائكة فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ و عرفت الملائكة كون قابلية آدم فوق قابليتهم قالَ اللّه تعالى لهم أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب عن إدراككم وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من حسد بعضكم- و هو الشيطان- لآدم عليه السّلام: ثم أن مقتضى اللطف العام و الرحمة الواسعة أن يخلق اللّه تعالى أنواع المخلوقات الممكنة، التي لا يمنع عن خلقها مانع، و لذا خلق الملائكة دون البشر، و خلق بعض كل من الصنفين أرفع من البعض الأخر، فلا مجال للتساؤل، فلما ذا لم يجعل اللّه تعالى هذه القابلية البشرية في الملائكة؟ و ثم خلق آدم عليه السّلام، و انتهى كل شي ء.

[35] وَ أذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إما بأن يكون هو قبلتهم و يكون السجود للّه سبحانه، و إما أن يكون السجود لآدم، و لا دليل عقلي على إنه لا يجوز لغير اللّه تعالى، نعم ورد الشرع بذلك بالنسبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 122

[سورة البقرة

(2): آية 35]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

إلى المسلمين فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ هو الشيطان أَبى وَ اسْتَكْبَرَ أي امتنع و أنف وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ التفات، كما نقول نحن «كان أبو جهل كافرا» و ليس حكاية، عطفا على «أبى» حتى يستلزم كونه كافرا من قبل ذلك.

[36] وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء عليها السّلام، قال لهما ذلك، بعد ما خلق حواء أيضا، خلقا كخلق آدم ابتداء من غير أب و أم الْجَنَّةَ الجنة هو البستان، و قد كانت للّه تعالى جنة أسكنها آدم و حواء وَ كُلا مِنْها رَغَداً أكلا واسعا، بلا زحمة و تكلف حَيْثُ شِئْتُما من أطراف الجنة وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فقد نهوا عن شجرة واحدة، اختبارا و امتحانا، و كانت الشجرة على قول جمع «الحنطة» و قد كان النهي إرشاديا، كنهي الطبيب مريضه أن لا يأكل ما يضره، و قد كانت فائدة عدم أكلهما لها أنهما يبقيان في الجنة، كما قال سبحانه إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «1» فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فإن الإنسان إذا حرم نفسه من الخير، كان ظالما لها، إذ الظلم بمعنى وضع الشي ء في غير موضعه، كما إن العدل معناه وضع الشي ء موضعه.

______________________________

(1) طه: 119 و 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 123

[سورة البقرة (2): الآيات 36 الى 38]

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ

رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

[37] فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حمل الشيطان آدم و حواء على الزلة عن الجنة، بسبب إنه حملهما على الأكل من الشجرة فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم وَ قُلْنَا اهْبِطُوا الخطاب لآدم و حواء و الشيطان، و الهبوط إما حقيقي، إن كان محل أعلى إلى أسفل، أو رتبي بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإن الشيطان عدوهما، و هما عدوان له وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ محل القرار وَ مَتاعٌ أي استمتاع إِلى حِينٍ إلى حين انقضاء الدنيا، أو موت كل أحد، و إذ ارتكب آدم خلاف الأولى بأكل الشجرة، و أهبطه اللّه تعالى من الجنة تداركته الرحمة.

[38] فَتَلَقَّى أي أخذ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ تسبب التوبة و الرجوع عن الزلة، و كان ذلك بتعليم اللّه تعالى له أن يجري تلك الكلمات على لسانه، فأجراها فَتابَ اللّه عَلَيْهِ أي على آدم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي كثير القبول للتوبة الرَّحِيمُ بعباده.

[39] قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً إنما كرر الأمر بالهبوط توطئة لموضوع آخر، و هو أمر الهداية، بعد ذكر المقر و المتاع، كما يقال: قلت له اذهب تربح، قلت له اذهب تسلم فَإِمَّا أصله «إن» الشرطية، و «ما»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 124

[سورة البقرة (2): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

الزائدة، دخلت عليها لتصحيح نون التأكيد، يعني فإن يَأْتِيَنَّكُمْ أيها البشر الذي في صلب آدم

مِنِّي هُدىً يهديكم إلى الحق فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا و لا في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إذ الخوف الكامل، إنما يكون من أمر مكروه، و لا يعوض، و كذلك الحزن و مصائب المؤمنين تعوّض، فلا خوف كامل منها، و الفرق بين الخوف و الحزن: أن الأول لأمر مترقب، و الثاني لأمر حادث- غالبا- و لا مانع من الخطاب إلى المعدوم إذا كان المقصود منه الوصول إليه بعد وجوده، هذا مع الغض عن عالم الذر، كما لا مانع من الجمع بين «إن» و «نون التوكيد» إذ المعنى إن أتاكم إتيانا قطعيا مقابل الإتيان المظنون.

[40] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا بعد أن تمت عليهم الحجة، و لعل هذا سر قوله «كذبوا» بعد «كفروا» إذ الكفر لا يلازم التكذيب، إذا كان عن قصور أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أبدا و لا يخفى أن المقصر المعاند خالد أبدا أما غيره فيمتحن هناك.

[41] و لما أتم القرآن الكريم قصة «آدم» و استخلافه في الأرض، وجه الكلام إلى «بني إسرائيل» الذين هم نموذج للجنس البشري، و قد أتتهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 125

[سورة البقرة (2): آية 41]

وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

الأنبياء عليهم السّلام «هدى» و أنعم عليهم اللّه تعالى، فكفروا بالنعم، و قتلوا الأنبياء، ليكون فذلكة لقصة آدم، و درسا لأمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا بَنِي إِسْرائِيلَ هم اليهود، و إسرائيل اسم يعقوب النبي عليه السّلام، نسبوا إلى أبيهم الأعلى، كما نسب البشر إلى أبيهم الأعلى، في

قوله يا بَنِي آدَمَ «1» اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ و حيث لم يذكر المتعلق أفاد العموم، فيشمل كل نعمة مادية أو معنوية وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي و حيث لم يذكر المتعلق أفاد كل عهد عهده، سواء كان ذلك وقت أخذ موسى عليه السّلام عنهم العهد بالإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أم كان وقت أخذ اللّه عنهم العهد في عالم الذر، ثم أودع فيهم الفطرة دليلا عليه أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بإعطائكم الدنيا و الآخرة، فإن اللّه سبحانه ضمن لمن و في بعهده، أن يعمر دنياه و آخرته وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة هي الخوف، يعني يجب أن يكون الخوف من اللّه، لا من الناس.

[42] وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة، فإن التوراة الأصلية، كانت مصدقة، حتى في زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا ما نسخ منها، و النسخ ليس إبطالا لها، كما أن نسخ بعض الأحكام في

______________________________

(1) الأعراف: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 126

[سورة البقرة (2): آية 42]

وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

القرآن- على القول به- ليس إبطالا له وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي أول من يكفر بما أنزلت، و إنما كانوا أول كافر، لأنهم بسبب علمهم كانوا مرجعا للجهال، فيكون كفر الجهال بمرتبة ثانية وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي بمقابل آياتي، بأن تعطوا الآيات- بمعنى عدم الإيمان بها- في مقابل ثمن قليل، هو رئاسة الدنيا و كونها قليلا لانقطاعها وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ فالتقوى يجب أن تكون منه تعالى، لا أن يكون الاتقاء من غيره، لأن اللّه بيده النفع و الضر دون غيره،

كما قال تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1».

[43] وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ اللبس هو التعمية، أي لا تخلطوا الحق بالباطل، فتأخذوا ببعض التوراة الذي هو في نفعكم، و تتركوا بعضها الذي يضركم و هو بعض الأحكام التي تركوها، و منها التبشير بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَكْتُمُوا الْحَقَ الذي هو أوصاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض الأحكام الأخر، كما قال سبحانه قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2» وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بصنعكم و أنه تلبيس المحق بالباطل، و كتمان الحق.

______________________________

(1) النساء: 79.

(2) آل عمران: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 127

[سورة البقرة (2): الآيات 43 الى 45]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)

[44] وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ كما يأمر الإسلام وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ الذين هم المسلمون.

[45] أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ استفهام إنكاري، أي لم تأمرون الناس بالأعمال الخيرية وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فلا تعملون بها و النسيان كفاية عن عدم العمل لشبهه به في النتيجة، كما قال سبحانه نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» فقد كان اليهود يخالفون أحكام التوراة، و يرتشون و يفسدون و يكذبون وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جملة حالية، أي و الحال أنتم تقرءون كتاب اللّه، فاللازم أن تكونوا أول العاملين به أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تعلمون أن ما تأتون به قبيح؟.

[46] وَ اسْتَعِينُوا في رجوعكم عن دينكم و إلغائكم لرؤسائكم- بما يجر ذلك عليكم من سلب

بعض دنياكم- بِالصَّبْرِ فإنكم إذا صبرتم على ما تكرهون من اتباع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاد ذلك عليكم بخير مما أنتم فيه وَ الصَّلاةِ فإن الصلاة توجب تهدئة النفس، و اطمئنان الخاطر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2» وَ إِنَّها أي الاستعانة بالصبر و الصلاة

______________________________

(1) التوبة: 67.

(2) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 128

[سورة البقرة (2): الآيات 46 الى 47]

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ فإن الصبر ليس أمرا هينا، و الصلاة الكاملة ليست عملا سهلا، و إنما قيدنا الصلاة بالكاملة، لأنها هي التي يستعان بها، أو أن المراد الصلوات اليومية، و هي صعبة جدا إلا على الذين يخشون اللّه سبحانه.

[47] ثم فسر الخاشعين بأنهم الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ الظن إما بمعنى اليقين، و إما بمعنى الرجحان، و لعل السر في هذا التعبير دون اليقين، للإشارة إلى أدنى مراتب الرجحان يوجب الخشوع، فإن من يظن أنه يلاقي الملك لبعثه ذلك على التهيئة، فكيف بمن يظن أنه يلاقي مالك الملوك، و ملاقاة اللّه كناية عن الحضور للمحاسبة، و إلا فاللّه سبحانه ليس أدنى إلى الناس في القيامة منه إليهم في الدنيا وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ و الرجوع إليه معنوي كما تقدم.

[48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تكرار للتركيز و الإلفات، فإن الإنسان ربما كان غافلا حين التذكير الأول، فيذكر ثانيا و ثالثا، بالإضافة إلى أن النفس، إذا كررت عليها الموعظة، رسخت فيها وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ التفضيل على عالم زمانهم لا على كل العوالم، فإن

الظاهر من هكذا تفضيلات هو الاختصاص، فلو قيل أن «الدولة الفلانية أقوى الدول» لم يفهم منه إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 129

[سورة البقرة (2): الآيات 48 الى 49]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

الإقوائية من الدول المعاصرة لها، لأكل دولة أتت أو تأتي، ثم أن تفضيلهم على العالمين إنما كان لأجل إيمانهم بموسى عليه السّلام، بينما كان العالم بين كافر به عنادا، كفرعون و من تبعه، أو جهلا كمن كان في البلاد البعيدة التي لم تبلغهم دعوة موسى فكانوا قاصرين.

[49] وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أي لا تغني، فلا تدفع نفس عن نفس مكروها، و إنما الأمر كله للّه، حتى أن الشفاعة تكون بإذنه، و المراد بذلك اليوم- القيامة- و معنى التقوى منه الاستعداد له وَ لا يُقْبَلُ مِنْها أي من النفس شَفاعَةٌ إلا إذا أذن اللّه للشفيع وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها أي من النفس عَدْلٌ أي فدية، و إنما سميت الفدية عدلا، لأنها تعادل المفدى وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ فإن طريق الخلاص في الدنيا إحدى هذه الأربعة، و ليست شي ء منها في الآخرة، إلا إذا أذن اللّه في الشفاعة، و عدم الاستثناء من «شفاعة» لأجل أن المراد منها الشفاعات الارتجالية، كما هو المعتاد في الدنيا.

[50] وَ اذكروا يا بني إسرائيل نعمة أنعمناها عليكم إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و من المتعارف، أن ينسب الشي ء المرتبط ببعض الأمة إلى جميعها، إذ

يجمعهم العطف و الهدى و الانتصار، فيقال بنو تميم قتلوا فلانا، و إنما قتله بعضهم، أو عشيرة فلان شجعان، و إنما جماعة منهم كذلك، و لذا قال سبحانه «نجيناكم» و قد كانت التنجية بالنسبة إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 130

[سورة البقرة (2): آية 50]

وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

أسلافهم، و المراد بآل الرجل قومه و خواصه و إن لم تكن بينهم قرابة، كما يقال «آل اللّه» لأهل البيت عليهم السّلام يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ و سامه خسفا عذابا بمعنى ألقاه فيه، ثم فسر سوء العذاب بقوله يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التذبيح هو التكثير في الذبح وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يدعونهن أحياء، فإن فرعون ملك القبط، لما علم من الكهان، أنه يولد في بني إسرائيل- الذين كانوا طائفة خاصة من آل يعقوب عليهم السّلام- أمر بذبح الأولاد و إبقاء النساء للاسترقاق و النكاح وَ فِي ذلِكُمْ «كم» خطاب فقط، و «ذا» إشارة، فإذا كان طرف الخطاب واحد يقال «ذلك» و إذا كان اثنين يقال «ذلكما» و إذا كانوا جماعة يقال «ذلكم» و «ذا» هنا اسم إشارة إلى سوء العذاب بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أنها كانت بالنسبة إلى اللّه تعالى، لأنه لم يحل بين فرعون، و بين هذا العمل، كما يقال، إن الأب أفسد ولده إذا لم يحل بينه و بين عمله الفاسد، و عدم حيلولة اللّه تعالى، لأجل الامتحان و الاختبار- كما تقدم- و الإنجاء، إنما كان بإهلاك فرعون و قومه.

[51] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي جعلنا فواصل في البحر، حتى صارت بين الماء شوارع، و كان عملنا هذا بسببكم و لأجلكم، و المراد

بالبحر- البحر الأحمر في مصر- و قد كان طول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 131

[سورة البقرة (2): آية 51]

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)

الشوارع التي أسفرت عنها الماء ما يقرب من أربعة فراسخ، فإن موسى عليه السّلام و بني إسرائيل فروا من فرعون فوصلوا إلى البحر و عقبهم فرعون و قومه، فأمر اللّه موسى عليه السّلام أن يضرب بعصاه البحر، فضرب فانحسر الماء عن الشوارع حتى عبر بنوا إسرائيل، و أتبعهم فرعون و جنوده و لما توسطوا الماء، و خرج موسى عليه السّلام و قومه، رجع الماء إلى حالته الأولية، فأغرق فرعون و قومه فَأَنْجَيْناكُمْ من عدوكم وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ مع فرعون، و لم يذكر تغليبا للآل عليه وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ كيف أغرقناهم لأجلكم، و لا يخفى أن الإعجاز هين بالنسبة إلى اللّه سبحانه، فتأويل بعض الناس للمعاجز انهزام مادي غربي.

[52] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً واعد بمعنى وعد، و إن موسى عليه السّلام قبل، و لذا جي ء بصيغة المفاعلة، و لا ينافي كون الوعد هنا أربعين ليلة، و في آية أخرى ثلاثين، فإن هذه الآية بالنسبة إلى الوعدين، و في الآية الأخرى بالنسبة إلى الوعد الأول، فقد كان اللّه سبحانه وعد موسى أولا ثلاثين، ثم مدده و أضاف عشرا، و الوعد كان لإعطاء الثروة التي فيها أحكام اللّه، و تنظيم أمور بني إسرائيل الذي هو نعمة عظيمة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موسى عليه السّلام أي وقت ذهابه إلى الطور للوعد، فإنهم بعد ما ذهب موسى عليه السّلام، لميقات ربه صنعوا عجلا من ذهب،

و جعلوه إلها لهم و سجدوا له، فقابلوا نعم اللّه عليهم بالكفران، و عبادة العجل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 132

[سورة البقرة (2): الآيات 52 الى 54]

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ جملة حالية، و المراد ظلمهم بأنفسهم.

[53] ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ عبادتكم للعجل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاتخاذ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمنا عليكم، فتعملوا بأوامرنا.

[54] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ آتَيْنا مُوسَى نبيكم الْكِتابَ و هو التوراة وَ الْفُرْقانَ أي الفارق بين الحق و الباطل، فهو أهم من الكتاب لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و لعل ليس ترجيا من اللّه سبحانه بل بمعنى عاقبة الترجي.

[55] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل وقت ذهاب موسى إلى الطور لتلقي التوراة و الأوامر من اللّه سبحانه يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها فإن اتخاذه موجب للغضب و الذلة في الحياة الدنيا و الآخرة فَتُوبُوا توبة إِلى بارِئِكُمْ الذي برءكم و خلقكم و هو إلهكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده و لو كان قريبا له، فإنه كفارة للقاتل حيث سكت و لم يتكلم، و للمقتول حيث عبد العجل ذلِكُمْ القتل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 133

[سورة البقرة (2): الآيات 55 الى 56]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَشْكُرُونَ (56)

خَيْرٌ لَكُمْ إذ الألم القليل خير من عذاب النار الدائم عِنْدَ بارِئِكُمْ متعلق بخير، أي إن هذا العمل خير عند اللّه تعالى، و في حكمه و إرادته، و ذلك مقابل الخير عند الناس الذي هو بالبقاء و العيش في الدنيا فَتابَ عَلَيْكُمْ بعد ما سمعتم الأمر بأن تبتم، و قتل بعضكم بعضا، و معنى تاب عليكم، قبل توبتكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ بكم، فلم يغضب حتى لا يقبل توبتكم أبدا.

[56] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأن لنا إلها خلقنا و بيده أمورنا، أو لن نؤمن لك بأنك نبي مبعوث من قبل اللّه سبحانه حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً أي علانية و عيانا، فيخبرنا بذلك، و ذلك أن موسى عليه السّلام اختار من قومه سبعين رجلا يحضرون معه إلى الميقات، لما طلبت بنو إسرائيل منه ذلك، و لما جاءوا طلبوا رؤية اللّه تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ و هي نار تنزل من السماء، أو مادة مذابة من المعدن و نحوه، فتصيب الإنسان فتقتله، فإنهم لما طلبوا رؤية اللّه سبحانه، نزلت صاعقة من السماء فقتلتهم جميعا وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ حال نزولها، و سبب موتكم، فكان ذلك دليلا لكم على ذنبكم و خطإكم و لم يكن موتا لم يعرف سببه حتى تقولوا إنه أمر طبيعي.

[57] ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أي أحييناكم لما طلب موسى عليه السّلام ذلك لئلا يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 134

[سورة البقرة (2): الآيات 57 الى 58]

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ

رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

الباقي من بني إسرائيل، إنه عليه السّلام قتلهم في الطور مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمنا عليكم.

[58] وَ اذكروا يا بني إسرائيل، إذ كنتم في «التيه» حين أمرتم بحرب العمالقة فعصيتم فبقيتم في الصحراء مدة مديدة، و كنتم تتأذون من حر الشمس، و لم يكن لكم مأكل ف ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ بأن جعلناه سترة لكم تقيكم حر الشمس و برد القمر وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى المن شي ء يشبه «الترنجبين» مادة حلوة، كانت تقع على أشجارهم فيأكلوها و السلوى طير السماني، و إنزال السماني، إما بكون هذا الطير، كان كثيرا في التيه، فكانوا يصطادونه، أو بأنه كان ينزل عليهم الطير المشوي، و قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ طيب مذاقا، و حقيقة لكونه حلالا، لكنهم كفروا بعد كل هذه النعم وَ ما ظَلَمُونا بكفرانهم، فإنهم لن يضروا اللّه شيئا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأنهم أورثوا لأنفسهم ذلة في الدنيا و عذابا في الآخرة.

[59] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قُلْنَا لكم بعد أن خرجتم عن التيه ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، أو «أريحا» و هي بلدة قريبة من بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ من الأماكن أو المآكل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 135

[سورة البقرة (2): الآيات 59 الى 60]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا

تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

رَغَداً واسعا وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً جمع ساجد، أي في حال كونكم ساجدين وَ قُولُوا حِطَّةٌ أي سجودنا للّه حطة لذنوبنا، و محو لسيئاتنا، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ السالفة وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ منكم من خير الدنيا و خير الآخرة على ما يستحقون، كما قال سبحانه لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1».

[60] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فقالوا «حنطة حمراء خير لنا» عوض «حطة» كما إنهم دخلوا بأستاهم عوض أن يدخلوا سجدا فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فيما فعلوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ الرجز العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب عصيانهم.

[61] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي سأل موسى عليه السّلام من اللّه تعالى أن يسقيهم، و ذلك حين كانوا في التيه،

______________________________

(1) فاطر: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 136

[سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

و لم يكن لهم ماء فظمئوا فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ و عصاه هي التي صارت ثعبانا، و الحجر، إما كان حجرا خاصا، أو مطلق الحجر فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد أسباط بني إسرائيل، فإنهم كانوا اثنتي عشرة قبيلة، فكانت تجري لكل قبيلة عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ

أُناسٍ أي كل قبيلة مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أكلهم المن و السلوى، و شربهم ماء العين المنفجر وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ الفساد مُفْسِدِينَ حالة مؤكدة.

[62] وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى حين كنتم في التيه، و ينزل عليكم المن و السلوى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي قسم واحد من الطعام، و لو كان ذي لونين، فالمراد بالوحدة التكرر في كل يوم فَادْعُ أي فاسأل لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ أي من نباتها مِنْ بَقْلِها البقل أنواع الخضر وَ قِثَّائِها الخيار وَ فُومِها الحنطة وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها حتى نتقوت بها و نأكلها عوض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 137

المن و السلوى قالَ لهم موسى عليه السّلام أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي تتركون ما هو الأفضل مما اختاره اللّه لكم، إلى ما هو الأدون مما ترغبون إليه، و كونها أفضل و أدون، أما باعتبار السهولة و الصعوبة، أو باعتبار الطعم و اللذة، أو باعتبار التقوية و التغذية، و على أي حال، دعا موسى و استجاب اللّه دعاءه، و قال لهم اهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار فَإِنَّ لَكُمْ في المصر ما سَأَلْتُمْ من الأطعمة وَ لكن اليهود بسبب تمردهم و عصيانهم و لجاجتهم المستمرة ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ فهم أذلاء في الأرض لا حكومة لهم مستقلة و لا عزة لهم عند الناس وَ الْمَسْكَنَةُ فإنهم مع ثروتهم أحيانا لا يفارقون المسكنة، حيث إنهم دائمو التشكّي لمخافتهم من الفقر، و هذه الآية من معاجز القرآن الكثيرة، فإن اليهود لم تقم لهم حكومة من تاريخ القرآن إلى هذا اليوم، إلا بحبل من الناس، و اتصال

بالحكومات القوية وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ باء أي رجع، و المراد أنهم بعملهم السيئ غضب اللّه عليهم ذلِكَ المذكور من ضرب الذلة و المسكنة، و الرجوع بالغضب بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على موسى عليه السّلام حيث لم يكونوا يطيعون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 138

[سورة البقرة (2): الآيات 62 الى 63]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ فإن الأنبياء تواترت إليهم لكثرة لجاجتهم، فكانوا يقتلونهم، و قوله تعالى بِغَيْرِ الْحَقِ قيد توضيحي، إذ لا يكون قتل النبي حقا أبدا، و ذلك بخلاف ما لو قيل يقتل البشر بغير الحق ذلِكَ المذكور من كفرانهم و قتلهم الأنبياء بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم للأوامر العقلية و الشرعية وَ كانُوا يَعْتَدُونَ فإن عصيانهم و اعتداءهم صار سببا للقتل و الكفر، و هما سببا ضرب الذلة و المسكنة و الغضب.

[63] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من المسلمين وَ الَّذِينَ هادُوا أي صاروا يهودا باليهودية وَ النَّصارى المؤمنين بعيسى عليه السّلام وَ الصَّابِئِينَ و فيهم غموض و خلاف، و ربما قيل أنهم عبدة النجوم مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ حقيقة وَ عَمِلَ صالِحاً مما أمر به اللّه سبحانه فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا في الدنيا و لا في الآخرة- كما تقدم- وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا ييأس أحد من روح اللّه ما دام في الدنيا، و

إنما قيدنا «من آمن» ب «حقيقة» لئلا ينافي ما في صدر الآية «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا».

[64] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ العهد الشديد، و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 139

[سورة البقرة (2): الآيات 64 الى 65]

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65)

تقدم مكان أخذ العهد وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ و ذلك أن موسى عليه السّلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها، فقطع جبرائيل عليه السّلام قطعة من جبل طور و رفعها فوق رؤوسهم مهددا، إنهم إن لم يقبلوا التوراة قذفها على رؤوسهم، فقبلوا قبول التوراة مجبرين، و قلنا لكم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي بجد و يقين و شدة لا تحيدوا عنه وَ اذْكُرُوا أي احفظوا و اعملوا ب ما فِيهِ أي في «ما آتيناكم» و هو التوراة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تخافون، فإن العامل بأوامر اللّه سبحانه يكون خائفا متقيا.

[65] ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم أيها اليهود مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الميثاق الأكيد، فلم تعملوا بما في التوراة، و لم تتمثلوا أوامرنا فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث تفضل عليكم بالتوبة وَ رَحْمَتُهُ بأن رحمكم فلم يؤاخذكم بسيئات عملكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ في الدنيا و الآخرة، فإن من ينسلخ عنه الإيمان يكون من أخسر الناس.

[66] وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ أي عرفتم أيها اليهود الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ أي جاوزوا حدود اللّه فيه، و ذلك أنهم حرم عليهم اصطياد السمك في السبت فكانت الأسماك تأتي و تتجمع في هذا اليوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 140

[سورة البقرة (2): الآيات 66 الى

67]

فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)

لشعورها بأمنها في هذا اليوم، فكان اليهود يحتالون لأخذها بإيصال الماء إلى أحواضهم، فلما تأتي إليها الأسماك يوم السبت سدوا طريقها، ثم يصطادونها يوم الأحد، و كان هذا خرقا لحرمات اللّه فَقُلْنا لَهُمْ أي للمعتدين كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مبعدين عن الخير دنيا و آخرة، فإنكم أيها اليهود الذين شاهدتم هذا المسخ بالنسبة إلى المعتدي منكم كيف تعملون خلاف أوامر اللّه سبحانه.

[67] فَجَعَلْناها أي جعلنا المسخة التي مسخوا بها، و العقوبة التي عوقبوا فيها نَكالًا أي عبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها أي من كان في زمانهم من سائر اليهود و الأمم وَ ما خَلْفَها الذين يأتون من بعدهم مما يسمعون بأخبارهم، أو يكون معنى «نكالا» «عقوبة» فالمعنى جعلنا المسخة عقوبة للمعاصي التي ارتكبوها مما كانت بين يدي المسخة، و هو «الاعتداء» و ما خلف المسخة من سائر المعاصي التي كانوا يرتكبونها بعد اعتدائهم في السبت وَ جعلناها مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ لئلا يرتكبوا خلاف أمر اللّه سبحانه.

[68] وَ اذكروا أيها اليهود قصة البقرة، و هي أنهم وجدوا قتيلا لم يعرفوا قاتله، فرجعوا إلى موسى عليه السّلام، فأمرهم اللّه تعالى، أن يذبحوا بقرة، ثم يضربوا القتيل بها ليحيي القتيل و يخبرهم بالقاتل، و كان هذا اختبارا لإيمانهم، حيث أن كون ضرب ميت بميت موجبا للحياة مما لا يصدقه ضعفاء الإيمان، و لهذا جعلوا يسألون أسئلة تافهة من موسى عليه السّلام حول البقرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 141

[سورة البقرة (2): الآيات 68 الى 69]

قالُوا ادْعُ

لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً لإحياء القتيل قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً أي أ تسخر منا و تتخذنا سخرية، فما الربط بين القتيل، و بين ذبح البقرة، أو كيف تكون البقرة الميتة سببا لإحياء القتيل قالَ موسى عليه السّلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين يستهزئون بالناس، فإن السخرية من شأن الجهال و السفهاء.

[69] قالُوا ادْعُ لَنا أي اطلب من أجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما هي البقرة، من حيث سنها و عمرها قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها أي البقرة يلزم أن تكون بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ الفارض الكبيرة الهرمة و البكر الصغيرة عَوانٌ أي وسط العمر بَيْنَ ذلِكَ أي المذكور بين الصغير و الكبير فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ من ذبح هكذا بقرة.

[70] قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ أي اسأل من ربك لأجلنا يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 142

[سورة البقرة (2): الآيات 70 الى 71]

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ اللون

فاقِعٌ لَوْنُها أي حسنة الصفرة لا تضرب إلى السواد لشدتها، و لا إلى البياض لقلتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها إي تعجب الناظرين و تفرحهم بسبب حسن لونها.

[71] و لما بين سبحانه سن البقرة، و لونها سألوا عن صفتها قالُوا يا موسى ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ البقرة، أ تكون من العوامل، أو من السوائم التي لا تعمل، ف إِنَّ الْبَقَرَ الذي أمرتنا بذبحه تَشابَهَ أي اشتبه عَلَيْنا و إنه كيف ينبغي أن يكون وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى صفة البقرة بتعريف اللّه سبحانه لنا كيف يجب أن يكون، و في الحديث

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنهم لما شددوا على أنفسهم، شدد اللّه عليهم، و لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد

«1».

[72] قالَ موسى عليه السّلام إِنَّهُ سبحانه يَقُولُ إِنَّها أي البقرة التي أمرتم بذبحها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ يذلها العمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تعمل و تكرب لإثارة الأرض وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ الحرث الزرع، فلا

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 16 ص 54، باب حكم الحلف على ترك الطيبات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 143

[سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

تسقيه بالناعور، و الدلاء، و المعنى أن لا تكون عاملة مُسَلَّمَةٌ أي سالمة لا نقص فيها فهي بريئة من العيوب لا شِيَةَ من الوشي بمعنى اللون فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها، و هذا ليس تأكيد لما سبق، إذ كونها صفراء، لا تدل على عدم الوشي فيها قالُوا لموسى عليه السّلام

الْآنَ و بعد هذه التوضيحات لصفات البقرة جِئْتَ بِالْحَقِ الواضح، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله عليه السّلام سابقا بقوله «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» فَذَبَحُوها أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ أي كاد، أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها، فإنها انحصرت في بقرة واحدة، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش.

[73] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ادارأتم بمعنى اختلفتم، و أصله تدارأتم وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القاتل، و إنه من القاتل، و لماذا قتل.

[74] فَقُلْنا اضْرِبُوهُ أي اضربوا القتيل بِبَعْضِها أي ببعض البقرة المذبوحة التي أمروا بذبحها كَذلِكَ أي مثل هذا الإحياء يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى في يوم القيامة، فإن القتيل لما ضرب بالبقرة قام حيا و أوداجه تشخب دما، و أخبر بسبب قتله، و بالذي قتله وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 144

[سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

الكون و في أنفسكم، أو بمعنى يريكم معجزاته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي كي تستعملوا عقولكم، و لعل وجه تأخير آية «و إذ قتلتم» على الآيات السالفة، مع إن النظم يقتضي تقديمها، أن السياق لبيان لجاجة اليهود، و عدم إطاعتهم الأوامر، فكان المقتضى تقديم ما يدل على ذلك.

[75] ثُمَ من بعد ما رأيتم هذه الآيات أيها اليهود قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أي غلظت مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من آيات

اللّه تعالى، أو من بعد ذبح البقرة، و ما رأيتم من إحياء اللّه الميت فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القسوة للمعقول بالمحسوس أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً و بين سبب أشديتها قسوة، بقوله وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما اللام للتأكيد، و «ما» موصولة، أي الحجر الذي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فيكون مبعثا للخير نافعا، بخلاف قلوبكم التي لا يأتي منها إلا الشر وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أصله تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ فيكون عينا، و إن لم يجر، و بهذا يفترق عن السابق، و هو ما يتفجر منه الأنهار وَ إِنَّ مِنْها أي من الحجارة لَما يَهْبِطُ أي ينزل من الجبل و يسقط مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فإن كل حجارة تسقط، لا بد و أن تكون سقطتها بإذن اللّه، و من خشيته خشية واقعية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 145

[سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 76]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76)

أو تشبيه، كالذي يخشى كثيرا فيسقط على وجهه، و قلوبكم أيها اليهود أقسى من تلك الحجارة، إذ لا تخشى من اللّه سبحانه، و لا تتواضع لعظمته وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أيها اليهود، فيجازيكم بسيئات أعمالكم.

[76] أَ فَتَطْمَعُونَ أيها المسلمون أَنْ يُؤْمِنُوا أي يؤمن اليهود لَكُمْ أي لنفعكم، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين، أو بمعنى الإيمان بمبادئكم، و هذا استفهام إنكاري، أي لن يؤمن هؤلاء اليهود بالإسلام وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ

مِنْهُمْ أي من هؤلاء، و هم أسلافهم، و إنما صحت النسبة إليهم، لأن الأمة الواحدة، و القبيلة الواحدة، تكون متشابهة الأعمال و الأفعال و الأقوال يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ الذي يتلوه الأنبياء عليهم ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ بالزيادة و النقصان لفظا أو معنى، كما هو المتعارف عند من يريد نقل كلام لا يرضيه، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد- لو وجد إلى ذلك سبيل- و إما أن يفسره بغير ما أراد المتكلم مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ و فهموه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام اللّه بعد تعقل هذا العمل.

[77] وَ إِذا لَقُوا من الملاقاة، أي لقي اليهود و كانت هذه خصلة بعضهم نسبت إلى الجميع، كما هو المتعارف من نسبة ما يقوم به البعض إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 146

[سورة البقرة (2): آية 77]

أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)

الجميع الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا موجود في كتبنا بوصفه و حليته، و لم يقصدوا الإيمان الحقيقي كسائر المسلمين، و لا الإيمان الظاهري كالمنافقين، و إنما أريد الإيمان بمعناه اللغوي، و هذا ذم لهم، حيث إنهم اتصفوا بصفات المنافقين وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ و جمع هؤلاء اليهود و غيرهم من سائر اليهود، مجلس خال من المؤمنين قالُوا أي قال من لم يكن يظهر الإيمان لمن أظهره أَ تُحَدِّثُونَهُمْ أي لماذا تحدثون المسلمين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما عرفكم اللّه في كتابكم، بأن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق، يقال فتح عليه باب العلم إذا أرشده إليه و علمه به لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ

عِنْدَ رَبِّكُمْ أي إذا أظهرتم أنتم أيها اليهود للمسلمين، أن في كتابكم صفات محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاجوكم يوم القيامة عند اللّه فيقول المسلمون لليهود المظهرين أنتم ذكرتم أن في كتابكم صفات النبي، فلم لم تؤمنوا به أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها اليهود المظهرون للمسلمين، أن إظهاركم سبب لغلبة المسلمين عليكم في الحجة عند اللّه.

[78] أَ وَ لا يَعْلَمُونَ يعني اليهود المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ يسر بعضهم إلى بعض وَ ما يُعْلِنُونَ و ما الفائدة في أن لا يظهروا صفات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 147

[سورة البقرة (2): الآيات 78 الى 79]

وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

النبي، فإن اللّه يعلم أنهم يعلمون صفاته، و لا يؤمنون به عنادا.

[79] وَ مِنْهُمْ أي من اليهود أُمِّيُّونَ منسوب إلى الأم، بمعنى من لا يقرأ و لا يكتب كأنه نشأ تحت تربية أمه، لا تحت تربية المعلم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ الأماني جمع أمنية، كالأغاني جمع أغنية، و الأماني الأحاديث المختلفة، أي أنهم لا يعرفون ما في التوراة من صفات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيرها، و إنما هم جهلاء، يأخذون أمور الكتاب عن علمائهم محرفة مختلفة، فلا يميزون بين الحق و الباطل وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ بصحة ما يسمعون، و لا يتيقنون لأنهم لم يطالعوا الكتاب بأنفسهم، حتى يعرفون ما فيه.

[80] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ أي لعلمائهم الذين يَكْتُبُونَ الْكِتابَ أي

التوراة بِأَيْدِيهِمْ كناية عن أنها غير منزلة، و إنما مكتوبة مبعثها الأيدي لا الوحي و الإلهام ثُمَّ يَقُولُونَ هذا المكتوب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و إنه منزل منه لِيَشْتَرُوا بِهِ أي بما يكتبونه ثَمَناً قَلِيلًا لأنهم لو كانوا يظهرون ما في التوراة حقيقة رجع مقلدوهم إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلم يكونوا يبذلون لهم الأموال و الاحترام فَوَيْلٌ لَهُمْ أي للذين يكتبون الكتاب بأيديهم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فإنه يوجب عذابا، لأنه تحريف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 148

[سورة البقرة (2): الآيات 80 الى 81]

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81)

لكلام اللّه تعالى وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الأموال إزاء تحريفاتهم، فإن ثمن الحرام حرام آخر، و ذلك موجب للعذاب فإنه أكل للأموال بالباطل، و الويل أصله الهلاك و العذاب، ثم استعمل في كل واقع في الهلكة.

[81] وَ قالُوا أي قال قسم من اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً فلن نعذب في جهنم إلا سبعة أيام أو ما أشبه، على تقدير كفرنا و عصياننا، فلما ذا نترك رئاسة الدنيا خوفا من عذاب قليل قُلْ يا رسول اللّه لهم أَتَّخَذْتُمْ أي هل اتخذتم عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً بذلك فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ كذبا و زورا ما لا تَعْلَمُونَ و من أدراكم أن العذاب أيام معدودة.

[82] بَلى ليس الأمر كما قالوا و لكن مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ لم ينقلع عنها بل أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ كالإنسان الذي

يقع في دخان حيث يحيط به الدخان، حتى لا يتنفس و لا يبصر و لا يسمع إلا في الدخان، و كذلك المشرك المنحرف في الخطيئة فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 149

[سورة البقرة (2): الآيات 82 الى 83]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

[83] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم و ألسنتهم وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي أمر بها الإسلام أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ بها لا انقطاع لها و لا زوال.

[84] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم، بأن لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وحده وَ بأن أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً و لا تسيئوا إليهما وَ أحسنوا إلى ذِي الْقُرْبى أقربائهم وَ الْيَتامى الذين مات والدهم وَ الْمَساكِينِ الفقراء وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً و ذلك يشمل جميع أنواع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الإرشاد ورد الاعتداء بالحسن وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و هما في سائر الأمم، لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلا في هذه الأمة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ الذين عملوا بأوامرنا وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ تأكيدا لقوله «توليتم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 150

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 199

[سورة البقرة (2): الآيات 84 الى 85]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ

أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

[85] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الأكيد على لسان الأنبياء لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من الديار، بأن يسفرهم و يبعدهم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بذلك الميثاق، بأن أعطيتمونا العهود بذلك وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أيها اليهود، بوقوع هذا الميثاق بيننا.

[86] ثُمَ بعد ذلك الميثاق أَنْتُمْ هؤُلاءِ الذين تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ مخالفة لأوامرنا تَظاهَرُونَ أنتم أي يتعاون بعضكم مع بعض في إخراجكم لهم تظاهرا عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ لا إخراجا بالحق وَ الحال إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أي كيف يخرج بعضكم بعضا، و يقتل بعضكم بعضا، مع أنكم إذا وجدتم بعضكم أسيرا في أيدي غيرهم، تعطون الفدية لخلاصهم، فإن كان بينكم عداء، فما هذه الفدية، و إن كان بينكم وداد فما هذا القتل و الإخراج. روي عن ابن عباس: أن قريظة و النضير، كانا أخوين، كالأوس و الخزرج، فافترقوا فكانت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 151

[سورة البقرة (2): آية 86]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

النضير مع الخزرج، و كانت قريظة مع الأوس، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها، فإذا

وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة «1»، و روي عن آخر أن اليهود كانوا إذا استضعفوا جماعة آخرين أخرجوهم من ديارهم أَ فَتُؤْمِنُونَ أيها اليهود بِبَعْضِ الْكِتابِ أي التوراة القائل بوجوب إعطاء الفدية لأسراكم وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القائل بحرمة القتل و الإخراج و التظاهر بالإثم و العدوان فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ احكموا أنتم بأنفسكم إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالتفرقة و الضعف و المهانة عند سائر الأمم وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ بمخالفتهم أوامر اللّه سبحانه وَ مَا اللَّهُ أي ليس اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فإنه يعلم أعمالكم، فيجازيكم عليها.

[87] أُولئِكَ اليهود الذين خالفوا الأوامر بتلك الأفعال الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فباعوا الآخرة، و أخذوا الدنيا بدلها

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 20 ص 166.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 152

[سورة البقرة (2): الآيات 87 الى 88]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ يوم القيامة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ هناك.

[88] وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أعطينا التوراة إياه وَ قَفَّيْنا أي أردفنا و أتبعنا بعضهم خلف بعض مِنْ بَعْدِهِ أي بعد موسى بِالرُّسُلِ رسول يتبع رسولا وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ جمع بينة، أي الدلالة الواضحة، و هي المعجزات التي أعطيت لعيسى عليه السّلام من إبراء الأكمه و الأبرص، و إحياء الموتى وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ التأييد التقوية، و روح القدس، إما جبرئيل عليه

السّلام، أو روح قوية من اللّه سبحانه فيه تقوية على التبليغ و الإرشاد مع كثرة أعدائه أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ أيها اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ و لا يمثل إليه من الأحكام اسْتَكْبَرْتُمْ و تكبرتم عن قبول أحكام اللّه سبحانه فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى و محمد صلوات اللّه عليهما وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ كزكريا و يحيى عليها السّلام؟ و هذا استفهام إنكاري عليهم.

[89] وَ قالُوا أي قالت اليهود للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف، بمعنى إنها في غطاء و غلاف عن هدايتكم، فلا تصل الهداية إليها،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 153

[سورة البقرة (2): آية 89]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)

كما في آية أخرى وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «1» بَلْ ليس كذلك، و إنما لَعَنَهُمُ اللَّهُ و أبعدهم عن الخير بسبب كفرهم فإنهم لما كفروا و لم يمتثلوا أوامر اللّه، أبعدهم اللّه عن الخير، كمن لا يسمع شخصا أمره فيتركه و لا يعتني به فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ لما ران على قلوبهم، و أظلمت نفوسهم بالكفر.

[90] وَ لَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي الكتاب الذي مع اليهود، و هو التوراة، فإن القرآن يصدق التوراة الحقيقي المنزل على موسى عليه السّلام إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ «2» وَ كانُوا أي اليهود مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو ينزل القرآن يَسْتَفْتِحُونَ أي يطلبون الفتح من اللّه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم كانوا

يدعون اللّه، أن يبعث الرسول، حتى يكونوا أرجح كفة من الكفار فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي عرفوه بصفاته و مزاياه كَفَرُوا بِهِ و أخذوا يحاربوه، بل فوق ذلك أنهم كانوا يرجحون الكافرين على

______________________________

(1) فصلت: 6.

(2) المائدة: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 154

[سورة البقرة (2): آية 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

الرسول و المؤمنين قائلين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) «1» فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى اليهود الْكافِرِينَ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالقرآن، و هم يعرفون ذلك.

[91] بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي بئس الشي ء الذي باع اليهود بذلك أنفسهم، فأعطوا أنفسهم للعذاب الأبدي، و اشتروا الكفر أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بدل «ما» أي بئس الكفر الذي أخذوه مقابل أنفسهم، و ذلك تشبيه، فكأن الكفر و الإسلام، سلعتان فمن أختار أحدهما باع نفسه بذلك الشي ء، إذ يصرف نفسه في سبيل ذلك، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه، و إذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه، و اشترى هنا بمعنى البيع، كما قال (وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ) «2» بَغْياً أي حسدا، و هو علة لاشترائهم السيئ، أي كان سبب شرائهم الكفر الحسد، الذي كان فيهم لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث أنه من ولد إسماعيل، لا من ولد جدهم إسحاق عليهما السّلام أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ الدين مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

و أن ينزل، متعلق ب «بغيا» أي أن الحسد من جهة نزول القرآن

______________________________

(1) النساء: 52.

(2) البقرة: 208.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 155

[سورة البقرة (2): آية 91]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره فَباؤُ أي رجع اليهود بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ فإنهم كانوا مغضوب عليهم من جهة تعدياتهم في زمان موسى و عيسى، و سائر الأنبياء عليهم السّلام، فغضب اللّه عليهم مرة أخرى من جهة كفرهم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِلْكافِرِينَ الذين من أظهر مصاديقهم اليهود عَذابٌ مُهِينٌ و هو العذاب الذي يذل صاحبه و يهينه.

[92] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لليهود آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من التوراة وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي وراء ما نزل عليه من كتاب عيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُوَ أي ما وراء كتابهم الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ و الجملة حالية قُلْ إنكم تكذبون في قولكم «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» فإنكم لستم بمؤمنين، حتى بالتوراة و إلا فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ في السابق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة، فإن كتابكم حرم قتل الأنبياء، فأنتم لستم بمؤمنين، لا بكتابكم، و لا بما بعد كتابكم من الإنجيل و القرآن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 156

[سورة البقرة (2): الآيات 92 الى 93]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ

الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

[93] وَ كيف تقولون «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» و عملكم، يدل على خلاف ذلك، ف لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الواضحة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها لكم مِنْ بَعْدِهِ أي بعد رواحة إلى الطور وَ الحال أَنْتُمْ ظالِمُونَ لأنفسكم في عبادة العجل، فلو كنتم مؤمنين بما نزل عليكم، لم تتخذوا العجل إلها؟.

[94] وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ عهدكم الشديد، بالعمل بالتوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي قطعة من جبل الطور- كما تقدم- و قلنا لكم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي بشدة، بمعنى العمل، بكل ما في الكتاب عملا مستمرا قويا وَ اسْمَعُوا أوامر اللّه سبحانه قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا حكاية حالهم، و يحتمل أنهم قالوه بلفظهم استهزاء وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ فكما أن من شرب الماء يدخل الماء في جوفه، كذلك اليهود، دخل العجل- أي حبه- في قلوبهم بسبب كفرهم باللّه سبحانه قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ الذي قلتم «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» فإن الإيمان الذي يأمر باتباع العجل، ليس إيمانا، و إنما هو كفر.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 157

[سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 95]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هذا استهزاء

لهم، ثم إنه إنما كرر «رفع الطور» للدلالة، على أنهم عكسوا الميثاق الذي أخذ منهم، حال الرفع، بل اتخذوا العجل إلها.

[95] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود، الذين يقولون أن الآخرة هي لهم وحدهم لا يشركون فيها غيرهم من النصارى و المسلمين و غيرهما إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ عند اللّه صفة للدار الآخرة، أي الدار التي هي عند اللّه، و من دون الناس صفة لخالصته، أو لقوله «لكم» فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لأن من يدري أن مصيره الجنة، لا بد و أن يتمنى الموت، حتى يخلص من آلام الدنيا و أتعابها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم و كنتم تعتقدون ما تقولونه بألسنتكم.

[96] ثم أخبر سبحانه بأنهم ليسوا صادقين وَ الدليل على ذلك أنهم لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي الموت أَبَداً في حين من الأحيان بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي و المنكرات و الكفر، و إنما نسب التقديم إلى اليد لأنها الآلة الظاهرة في تقديم الأشياء المحسوسة غالبا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فلا يغترون بمقالهم، أن لهم الآخرة، و أنهم أحباء اللّه دون سواهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 158

[سورة البقرة (2): الآيات 96 الى 97]

وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

[97] وَ كيف يتمنون الموت، و الحال أنك يا رسول اللّه لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ فإنهم أشد حرصا من سائر الناس على البقاء في الدنيا، لأنهم

يعلمون أن آخرتهم إلى النار و العذاب وَ حتى أنهم أحرص مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إذ المشرك، يزعم أنه لا شي ء وراءه، فيكون حريصا على البقاء لئلا يفنى، و هؤلاء حيث يعلمون العقاب، فهم أحرص من المشركين يَوَدُّ أي يحب أَحَدُهُمْ أي كل واحد منهم لَوْ يُعَمَّرُ و يطول عمره أَلْفَ سَنَةٍ حتى لا يذوق العذاب عاجلا وَ الحال ما هُوَ أي ليس التعمير ألف سنة بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ زحزحه أي نحاه، و قوله أَنْ يُعَمَّرَ بدل «هو» أي ما التعمير بمزحزحه من العذاب، فما الفائدة في البقاء ألف سنة لمن عاقبته النار وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من الكفر و السيئات، فيجازيهم عليها يوم القيامة بالنار و العذاب.

[98] قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليهود الذين جاءوك و قالوا لك لو أن الملك الذي يأتيك ميكائيل لآمنّا بك فإنه ملك الرحمة يأتي بالسرور و الرخاء و هو صديقنا و جبرائيل ملك العذاب ينزل بالقتل و الشدة و الحرب و هو عدونا فإن كان ينزل عليك جبرائيل لا نؤمن بك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 159

[سورة البقرة (2): الآيات 98 الى 99]

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ ليس سببا فيما يعمل حتى تتخذونه عدوا بل إنه نَزَّلَهُ أي القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لا من عند نفسه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي للكتاب الذي قبله و هو التوراة وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فأي ذنب لجبريل عليه السّلام حتى تتخذونه عدوا و

لا تؤمنون بالكتاب الذي يأتي به.

[99] مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ أي يفعل فعل المعادي من الإتيان بما يكرهه سبحانه وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ و إنما خصهما بالذكر لأنهما موضع البحث مع اليهود فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ إذ كل من يعادي أحد هؤلاء يكون كافرا و اللّه عدو لمن كفر أي يفعل معه فعل المعادي من الإهانة و التعذيب و العقاب.

[100] وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ الفاسق هو الخارج عن طاعة اللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 160

[سورة البقرة (2): الآيات 100 الى 102]

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)

[101] أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا أي اليهود عَهْداً نَبَذَهُ أي نقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي جماعة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و هذا إنكار عليهم في نقضهم عهود الأنبياء

السابقين بإطاعتهم و نقضهم عهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصة نضير و قريضة و المراد بالإيمان: إما الإيمان بالعهود و إما الإيمان باللّه و رسله و إما الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنما قال أكثرهم لأن بعضهم آمن كعبد اللّه بن سلام.

[102] وَ لَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كعيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ أي جماعة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود الذين آتاهم اللّه التوراة كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ و تركوا أوامره باتباع الأنبياء عليهم السّلام من بعد موسى عليه السّلام كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي من أحكام التوراة الإيمان بالأنبياء و اتباع الرسل.

[103] وَ اتَّبَعُوا عوض الكتاب- السحر- فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم و راحوا يتعلقون ب ما تَتْلُوا و تقر الشَّياطِينُ و السحرة عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ بن داود عليهم السّلام حيث أن الشياطين على لسان السحرة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 161

زمان سليمان كانوا يتلون السحر للناس و «على» بمعنى «في» كما قال ابن مالك «على للاستعلاء و معنى في و عن» أي أن اليهود أخذوا يتعلقون بالسحر الذي كان في زمان سليمان يريدون بذلك جلب الأموال و التقرب إلى الناس و كانوا يقولون أن سليمان عليه السّلام إنما أوتي الملك العظيم بسبب أنه كان يعمل بالسحر فرد اللّه عليهم بقوله وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ فإن السحر موجب للكفر و لا يخفى أن الكفر على نوعين: كفر في العقيدة و كفر في العمل، فالكفر في العقيدة هو إنكار أصول الدين، و الكفر في العمل هو

ترك واجب أو فعل، و لذا شاع استعمال الكفر على ترك الأوامر و فعل النواهي كقوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «1» في قصة الحج و قوله وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «2» في باب الشكر و

قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كفر باللّه العظيم من هذه الأمة عشرة»

و عدّ منها النمام و نحوه و على أي حال فسليمان ما كان ساحرا و لم ينل ما نال بالسحر و إنما بالنبوة و الموهبة الإلهية.

وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا بعملهم بالسحر و تعليمهم للناس إياه و الشياطين أرواح شريرة تلقي الشر في النفوس كما ثبت في العلم الحديث أيضا و غيره في باب التحضير و التنويم المغناطيسي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ و السحر أمور غير طبيعية تأتي بعلاج خفي و منه التصرف

______________________________

(1) آل عمران: 98.

(2) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 162

في العين و في النفس و في العقل فيوجب عداوة بين الناس و مرضا و ما أشبه وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على قوله «ما تتلوا» أي أن اليهود تركوا الكتاب و اتبعوا سحر الشياطين و سحر الملكين و من قصتهما أن بعد نوح عليه السّلام كثرت السحرة فأنزل اللّه ملكين في «بابل» على نبي ذلك الزمان حتى يعلمان الناس إبطال السحر فكانا يقولان للناس «هذا السحر و هذا إبطاله» كالطبيب الذي يكتب كتاب الطب فيصف الداء و ما يسببه و الدواء المزيل له فيقول مثلا إن الشي ء الفلاني سم و دواؤه كذا فكان الملكان يعلمان السحر و إبطاله و يحذران الناس أن يعملوا بالسحر و إنما يصران أن يبطلوا السحر فإذا تعلم منهما الناس أخذ

بعضهم بالسحر كما أن الشخص يقرأ كتاب الطب فيسقي الناس السم لم يكن ذلك من ذنب المؤلف للطب و إنما هو من العامل بما يضر الناس.

فقد ترك اليهود كتاب اللّه و أخذوا بالعلم الذي أنزل- أي أنزل اللّه- على الملكين الذين نزلا بِبابِلَ و هما هارُوتَ وَ مارُوتَ و لا يظن أحد أنهما كيف يعلمان السحر للناس و هما ملكان من قبل اللّه تعالى وَ ذلك لأنه ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ أي ما يعلمان أحد السحر حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ و امتحان لك و كان تعليم للعلاج لا للإضرار فَلا تَكْفُرْ بأعمال السحر فَيَتَعَلَّمُونَ أي الناس مِنْهُما أي من الملكين ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 163

يوجب العداوة و البغضاء بين الزوجين مما يؤول إلى الفراق و الطلاق وَ لا يتوهم أن الأمر خرج من يد اللّه سبحانه كلا بل إنما شاء اللّه أن يختبر عباده كما أنه حين يخلق العنب و يعطي القدرة للبشر فيعصره خمرا لا يخرج الأمر من يده سبحانه بل إنما ذلك للامتحان و الابتلاء و لهذا قال سبحانه ما هُمْ أي الملكان و متعلم السحر منهما بِضارِّينَ بِهِ أي بسبب السحر مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن شيئا لا يؤثر في شي ء إطلاقا إلا بإذن اللّه و معنى إذنه أنه يخلي بين المؤثر و المتأثر و لو لم يخل كان عالم الجبر و بطل الامتحان و الاختبار و المراد بهذه الجملة أن شيئا لا يخرج من إرادة اللّه سبحانه حتى أن يتمكن من الردع لكنه لا يردع.

وَ يَتَعَلَّمُونَ أي يتعلم الناس من الملكين ما يَضُرُّهُمْ أي الشي ء الذي يضرهم في

دنياهم و دينهم وَ لا يَنْفَعُهُمْ أكد بذلك ردّا لزعمهم أن السحر ينفعهم حيث يوصلهم إلى أغراضهم وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ أي علم المتعلمون للسحر أن من اشترى السحر و باع دينه ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي من نصيب وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فإنهم أعطوا أنفسهم للنار مقابل اشتراء السحر الذي زعموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 164

[سورة البقرة (2): الآيات 103 الى 104]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)

إنه ينفع دنياهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نزل العالم بالشي ء منزلة الجاهل حيث لم يعمل بعلمه فإن من لا يعمل بعلمه هو و الجاهل سواء.

[104] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي اليهود بدل اتباع السحر آمَنُوا حقيقة وَ اتَّقَوْا عن فعل المعاصي لَمَثُوبَةٌ أي ثواب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لهم في دنياهم و آخرتهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لكنهم حيث لا يعملون بذلك فكأنهم لا يعلمونه.

[105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للرسول حين كلامكم معه راعِنا فإن راعنا في اللغة العربية من المراعاة و الرعاية، و لكنها في لغة اليهود بمعنى «أسمعت لا سمعت» فهو سب و دعاء على المخاطب و قد كانت اليهود اغتنمت هذه الكلمة المتشابهة لسب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا العنوان فكانوا يأتون إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون له «راعنا» يريدون بذلك سبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنهى اللّه المسلمين عن هذه اللفظة حتى لا يتمكن اليهود من التكلم بهذه الكلمة وَ

قُولُوا عوض ذلك انْظُرْنا أي انظر إلينا بنظرتك الرحيمة وَ اسْمَعُوا أيها المؤمنون أوامرنا و أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لِلْكافِرِينَ من اليهود الشاتمين للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحت ستار لفظة «راعنا» عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم في الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 165

[سورة البقرة (2): الآيات 105 الى 106]

ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

[106] ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود و النصارى و المجوس وَ لَا من الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ قبل رَبِّكُمْ سواء كان خيرا معنويا كالنبوة و الإرشاد و الوحي أو ماديا كالغلبة و النصر و المال وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فليس إرادة اللّه تبعا لإرادة الكفار و المشركين وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فليس فضله خاصا بقوم من الكفار كما كانت اليهود تزعم أن النبوة فيهم دون غيرهم.

[107] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بأن نرفع حكمها و نجعل مكانه حكما آخر أَوْ نُنْسِها بأن نرفع رسمها و نبلي عن القلوب حفظها، و النسيان لا يقع بالنسبة إلى القرآن الكريم و إنما بالنسبة إلى الكتب السالفة و لذا لا يوجد كثير منها فعلا، أما النسخ فإنه وقع بالنسبة إلى القرآن- على الأشهر- و إلى غيره نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها و إنما يقع النسخ و الإنساء فيما يؤتى بالمثل لأن المثل أصلح

من المنسوخ و المنسي، فمثلا إذا سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة أخرى مثلها في القيمة، كما أنه قد يأخذ درهما من زيد ليعطيه بدله دينارا أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها اليهودي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 166

[سورة البقرة (2): الآيات 107 الى 108]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

المنكر للنسخ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم بالقرآن و أنه إن كان كتابهم صالحا فلما ذا ينسخ و إن لم يكن صالحا فلما ذا أنزله اللّه تعالى، و قد كان الجواب إن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح و إما لعدم قدرة اللّه تعالى على النسخ و كلا الأمرين مفقودان، فالمثل و الأصلح موجودان و اللّه على كل شي ء قدير.

[108] أَ لَمْ تَعْلَمْ أيها المنكر للنسخ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيتصرف فيما يشاء من الأوضاع و الأحكام كيف يشاء وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه مِنْ وَلِيٍ يلي أموركم وَ لا نَصِيرٍ ينصركم فهو سبحانه يرى صلاحكم في النسخ و الإنساء فإن المصالح تختلف حسب اختلاف الأعصار و الأشخاص، و لقد كان شأن آيات اللّه أن تنهض بالبشر مرتبة فمرتبة حتى وصلت النوبة لرسالة الإسلام و هذه بدلت بعض جزئياتها قبل تمامها و كمالها تحقيقا للتناسق بين الرسالة و بين العصر، حتى إذا كملت لم يبق مبرر أو تحوير بل تبقى

إلى الأبد.

[109] أَمْ تُرِيدُونَ أيها المعاصرون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مسلم و كتابي و مشرك أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أسئلة تعنت و لجاجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 167

[سورة البقرة (2): آية 109]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109)

كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث كانوا يقترحون عليه اقتراحات و يسألونه محالات كقولهم لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة، فإن المعاصرين كانوا يسألون ما لا يعنيهم أو ما أشبه كقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً «1» فقد زجرهم اللّه سبحانه لهذه الأسئلة التي لا ترتبط بمقام الرسول و الرسالة من بعد ما تبين لهم الهدى، و قوله «رسولكم» لا يختص بالمؤمنين إذ يكفي في الإضافة أدنى ملابسة وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ بأن يأخذ الكفر و يترك الإيمان الذي من مصاديقه الأسئلة التعنتية إذ إنها من سمات الكفر و الانحراف فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه الموصل إلى المطلوب.

[110] وَدَّ أي أحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود و النصارى و المجوس لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أيها المسلمون مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً فتكونون مثلهم حَسَداً لكم كيف صرتم إلى حضرة الإيمان و تقدمتم في الحياة و هذا الحب ليس من جهة أنهم متدينون فيأسفون عليكم لماذا تركتم الإيمان بل الحب مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ تشبيها

______________________________

(1) الإسراء: 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 168

[سورة البقرة (2): الآيات 110 الى 111]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111)

و حسب أهوائهم أي أن مبدأ الحب هوى النفس لا الدين مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ فليس ذلك لجهلهم بدينكم و حقيقتكم فَاعْفُوا أيها المسلمون عنهم وَ اصْفَحُوا عن أعمال الكفار و لا تقابلوا إساءتهم بالمثل حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فيأذن لكم في المبارزة و المقاتلة و المقابلة بالمثل إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيأتي يوم يجعلكم أقوياء فتتمكنوا من محاربة هؤلاء الكفار فيأذن لكم في المبارزة معهم.

[111] وَ أما إذا لم يأت اللّه بأمره ف أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و لا تبارزوا وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من إعطاء الزكاة و سائر الخيرات التي هي لأنفسكم لأنها تعود إليكم في الدنيا بالألفة و في الآخرة بالثواب مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة و إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يضيع شي ء يصرف في وجهه و لا عمل يؤتى لأجله.

[112] وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى قالت اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، و قالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى، و هود جمع هائد، كعود جمع عائد تِلْكَ المقالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 169

[سورة البقرة (2): الآيات 112 الى 113]

بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

(113)

أَمانِيُّهُمْ جمع أمنية أي رغبتهم الكاذبة قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم هاتُوا أي احضروا و جيئوا بُرْهانَكُمْ و دليلكم على ما تدّعون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالتكم.

[113] بَلى جواب سؤال تقديره أ فليس يدخل الجنة أحد و من هو؟ فقيل مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ و خص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فإذا أسلمه الشخص فقد أسلم جميع جوارحه وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ فهو يدخل الجنة سواء كان يهوديا في زمان موسى أو نصرانيا في زمان عيسى أو مسلما في زمان محمد أو من سائر الأمم في زمان أنبيائها عليهم السّلام.

و هذا كلام معه دليله إذ معيار الدخول في الجنة الإيمان و العمل الصالح فلا يقال لمن يقول ذلك: هات برهانك.

[114] وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ من دين و إيمان و تقوى فكل طائفة تجعل نفسها الناجية و غيرها الهالكة وَ الحال إن هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ و التالي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 170

[سورة البقرة (2): آية 114]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)

للكتاب لا يحق له أن يقول مثل هذه المقالة إذ كل منهم يعلم أن صاحبه على بعض الشي ء، فإن اليهود يعرفون أن النصارى لهم إيمان في الجملة و كذلك النصارى يعرفون أن اليهود لهم إيمان في الجملة كَذلِكَ القول قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ من الكفار مِثْلَ قَوْلِهِمْ

و هذا تأنيب للطائفتين حيث صاروا كمن لا كتاب له و هو جاهل فإن الجاهل يمكن إن يقول ليس اليهود أو النصارى على شي ء لأنه يزعم بطلان كليهما فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ جميعا يَوْمَ الْقِيامَةِ و هناك يتبين لكل طائفة إنه على شي ء أم لا فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ و لعل تخصيص الحكم بهناك لأن هناك لا تبقى شبهة في الحكم بخلاف حكمه سبحانه في الدنيا فإن من لا يؤمن بالإسلام لا يعترف بحكمه.

[115] وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ و هي عامة لكل مانع و إن كان ينطبق على أهل مكة الذين منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المسجد الحرام و بخت نصّر الذي منع عن بيت المقدس أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي لا أحد أظلم من هكذا شخص و الحصر المستفاد من الآية إضافي و إلا فمن قتل الأنبياء أظلم وَ سَعى فِي خَرابِها خرابا معنويا بمنع المصلين عنها أو خراب العمارة و البناء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 171

[سورة البقرة (2): الآيات 115 الى 116]

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)

أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ من عذاب اللّه سبحانه، فمن يسعى في خراب المساجد كيف يدخلها آمنا أو خائفين من المسلمين أن يعاقبوهم لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالعقاب الإسلامي لمن فعل ذلك أو إخبار بخزي عن اللّه سبحانه ينزل بمن يسعى في خراب المساجد وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ حيث يذوق النار مهانا و لعل هاتين الآيتين أيضا تلميح

إلى فعل اليهود بمنعهم عن المساجد.

[116] وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فكلتا الجهتين له سبحانه خلقها و هما ملك له وحده فَأَيْنَما تُوَلُّوا وجوهكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وجه اللّه جانبه أي أن اللّه سبحانه محيط بالعلم و القدرة على كل ناحية فإذا توجه الإنسان إلى المشرق فقد توجه إلى اللّه و إذا توجه إلى المغرب فقد توجه إلى اللّه، و ليس اللّه جسما حتى يكون له مكان معين يلزم التوجه إليه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ علما و قدرة لأنه محيط بجميع الجهات عَلِيمٌ بما يفعله الإنسان من التوجه إلى أية ناحية، و ربما قيل بأنها نزلت في رد اليهود الذين قالوا كيف انصرف محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة.

[117] وَ قالُوا اليهود عزير ابن اللّه و النصارى قالوا المسيح ابن اللّه و المشركون قالوا الملائكة بنات اللّه اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أما بأن أولده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 172

[سورة البقرة (2): الآيات 117 الى 118]

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

كما زعم بعضهم أو أتخذ بعنوان التبني سُبْحانَهُ أي أنزهه عن ذلك تنزيها بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكيف يكون المملوك ولدا إذ الولد ليس ملكا للوالد، ثم إن المملوك تحت التصرف فالتبني لماذا ...؟ كُلٌ أي كل من السماوات و الأرض لَهُ تعالى قانِتُونَ أي خاضعون و مطيعون.

[118] بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي مبدعهما و منشئهما و خالقهما و هذا

تأكيد لما في الآية السابقة من أنه «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» وَ إِذا قَضى أَمْراً و أراده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ أي لذلك الأمر المراد كُنْ أي يأمره بأن يوجد فَيَكُونُ أي فيوجد عقيب أمره فالكون بهذا النحو طوع إرادته و أمره.

[119] وَ بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب و منعهم و سائر المشركين عن المساجد، و شركهم في باب التوحيد، تعرض القرآن الحكيم حول كلامهم بالنسبة إلى الرسالة، فقال، و قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ موازين الوحي و الرسالة لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلّا يكلمنا ربنا، بأن يأمرنا بأوامره، بدون احتياج إلى وسيط، أو يكلمنا بأنك نبي أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ و معجزة حسب اقتراحنا كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لأنبيائهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 173

[سورة البقرة (2): الآيات 119 الى 120]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120)

مِثْلَ قَوْلِهِمْ لموسى عليه السّلام أرنا اللّه جهرة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ في الإنكار و في الاقتراح و التعنت قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ فلا حاجة إلى تكليم اللّه، و لا إلى الإتيان بخوارق اقترحوها، إذ لو كان مرادهم بيان الحق و البرهان، فقد فعلنا ذلك، و إن كان مرادهم غير ذلك فليس على اللّه إلا إتمام الحجة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إنما خصهم لأنهم الذين يستفيدون منها و ينتفعون بها.

[120] إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ تأكيد للإرسال، إذ كل إرسال اللّه تعالى بالحق بَشِيراً تبشر المؤمنين المطيعين وَ

نَذِيراً تنذر الكافرين و العاصين، فأنت رسولنا، و إن كانوا يشكون في رسالتك، و يسألونك عن أشياء تافهة وَ لا تُسْئَلُ أنت عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فلست أنت مكلفا عنهم، و إنما عليك التذكير فقط.

[121] وَ حيث أن من طبيعة الحال أن كل صاحب مبدأ ليستميله الخصماء إلى ناحيتهم، و يعدونه الرضا عنه، إذا مال نحوهم بيّن اللّه تعالى لنبيه، أن ذلك سراب خادع و يجب أن لا يغتر به الإنسان، إذ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى إلى الأبد حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ و تدخل في طريقتهم، إذ كل ذي طريقة لا يرض عن شخص إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 174

[سورة البقرة (2): الآيات 121 الى 122]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122)

بدخوله في طريقته تماما و كمالا قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى فقط دون ما سواه من اليهودية و النصرانية وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إشارة إلى أن دينهم ليس إلا هوى أنفسهم، و ليس من عند اللّه سبحانه بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بالإسلام و شرائعه و بطلان اليهودية و النصرانية ما لَكَ أي ليس لك مِنَ اللَّهِ أي من طرف اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي فلا يلي اللّه تعالى أمورك و لا ينصرك.

[122] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة و الإنجيل الموصوفين بكذبهم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ بالعمل بما في الكتاب أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بالقرآن

أو بالإسلام أو بكتابهم إيمانا صحيحا، لا كإيمان المعاندين الذين يأخذون ببعض الكتاب دون بعض وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في الدنيا و في الآخرة، أما في الدنيا، فلأن منهاج اللّه سبحانه هو المنهاج المسعد في الحياة، فإذا عرض عنه الإنسان، كانت معيشته ضنكا، و أما في الآخرة، فللعذاب المعد للكافرين.

[123] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ من إرسال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 175

[سورة البقرة (2): الآيات 123 الى 124]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

الرسل إليكم، و إهلاك عدوكم، و جعلكم ملوكا و توسيع الدنيا لكم وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ في زمانكم، التي هي من أعظم النعم- و قد تقدم الكلام في مثل هذه الآية-.

[124] وَ اتَّقُوا يَوْماً أي يوم القيامة، الموصوف بأنه لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً هناك و إنما ترى كل نفس جزاؤها العادل، فلا يحمل أحد وزر أحد وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فدية تعادله، فيفك نفسه بالفدية و المال وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ بدون رضى اللّه سبحانه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ فلا ينصر أحد أحدا، و قد تقدمت مثل هذه الآية، لكن أريد الانتقال إلى موضوع آخر كرر المطلب السابق تذكيرا و تركيزا.

[125] وَ حيث تم بعض الكلام عن اليهود و النصارى و المشركين، انتقل السياق للكلام حول إبراهيم و إسحاق و يعقوب عليهم السّلام و بناء البيت مما يشترك فيه الجميع، و

إن تاريخهم قبل تاريخ اليهودية و النصرانية، و قد اعتاد أن يتكلم المتكلم عن الظروف المعاصرة، ثم ينتقل إلى التواريخ الغابرة، و اذكر يا رسول اللّه إِذِ ابْتَلى امتحن إِبْراهِيمَ عليه السّلام رَبُّهُ فاعل ابتلى، أي امتحن اللّه إبراهيم بِكَلِماتٍ أي بأمور، فإن الكلمة تقال للأمر، و لا يبعد أن يكون المراد بالكلمة نفس معناها العرفي، فالمعنى ابتلاه بكلمات تكلم اللّه أو الملك معه عليه السّلام حولها لينفذها، و يأتي بمعناها، و لعل الكلمات كانت حول ذبح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 176

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

إسماعيل عليه السّلام، أو حول مجابهة نمرود الطاغي فَأَتَمَّهُنَ بأن أطاع الأمر كاملا غير منقوص قالَ اللّه تعالى بعد إتمام الكلمات إِنِّي جاعِلُكَ يا إبراهيم لِلنَّاسِ إِماماً و الإمام هو المقتدى، و حيث أن «الناس» كالجمع المحلى باللام أفاد العموم، و لا منافاة بين كونه عليه السّلام سابقا نبيا و رسولا، و لم يكن إماما عاما، ثم صار كذلك جزاء إتمام الكلمات قالَ إبراهيم عليه السّلام سائلا اللّه تعالى وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي هل تجعل يا رب إماما؟ و هذا طلب المتأدب يأتي به في لسان الاستفهام قالَ لا يَنالُ عَهْدِي بالإمامة الظَّالِمِينَ و هذا جواب مع زيادة، إذ المفهوم منه، نعم أجعل بعض ذريتك، لكن غير الظالم منهم، و إنما خص هذا بالذكر، لبيان عظم مقام الإمامة.

[126] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ الحرام بمكة المكرمة مَثابَةً بمعنى مرجعا فإن

الناس يرجعون إليه كل عام، و الرجوع بمناسبة مجموع الناس، و إن لم يرجع إليه كل فرد لِلنَّاسِ وَ أَمْناً فلا يحل القتال فيه، و إن من التجأ إليه يكون آمنا، فلا يجري عليه الحد، ثم صار في الكلام التفات إلى الخطاب قائلا وَ اتَّخِذُوا أيها المسلمون مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ و هو الحجر الذي كان يضعه إبراهيم عليه السّلام تحت رجله لبناء أعالي الكعبة، الذي هو الآن بالقرب من الكعبة مُصَلًّى أي محل للصلاة، فإنه تجب الصلاة للطواف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 177

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

حول مقام إبراهيم في الحج وَ عَهِدْنا أي ذكرنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ عليهما السّلام: الأب و الابن أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ طهارة معنوية، بعدم السماح لنصب الأصنام فيه و طهارة ظاهرية بالنظافة لِلطَّائِفِينَ أي الذين يطوفون حول البيت وَ الْعاكِفِينَ الذين يعتكفون في المسجد الحرام، و للاعتكاف مسائل و أحكام مذكورة في كتب الفقه «1» وَ الرُّكَّعِ جمع راكع السُّجُودِ جمع ساجد، أي المصلين.

[127] وَ اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ في دعائه للّه تعالى رَبِّ اجْعَلْ هذا البلد و هو مكة، التي بنى فيها البيت بَلَداً آمِناً عن الأخطار، أو محكوما بحكم الأمن حكما شرعيا، و إن كان السياق يؤيد الأول وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن دعاء إبراهيم عليه السّلام كان خاصا بهم قالَ اللّه

سبحانه في جواب إبراهيم عليه السّلام ما يدل على استجابة دعائه مع الزيادة، و هي وَ مَنْ كَفَرَ من أهل هذا البلد، لا نقطع عنه الثمار بل فَأُمَتِّعُهُ أي أعطيه المتاع من الحياة و الرزق و الأمن، و سائر الأمور قَلِيلًا فإن

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه ج 77 ص 151، في أحكام الاعتكاف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 178

[سورة البقرة (2): الآيات 127 الى 128]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

عمر الدنيا قصير، و أمدها قليل ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي أدفعه إلى النار باضطرار منه، فما من أحد يرضى بالنار إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المأوى و المرجع.

[128] وَ أذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ أي كان يبني أساس البيت الحرام، و يرفعه من الأرض، و يعاونه في ذلك وَ إِسْماعِيلُ ابنه، و هما يقولان في حال البناء رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا بناء البيت إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ دعاءنا الْعَلِيمُ بما نعمله و نقصده.

[129] رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ في جميع أمورنا، و الدعاء بالإسلام، لا ينافي كونهما كذلك قبل الدعاء إذ الإسلام كسائر العقائد، و الأعمال بحاجة إلى الاستمرار، مما لا يكون إلا بهداية اللّه و توفيقه، فكما أن الابتداء لا يكون إلا بعونه سبحانه، كذلك الاستمرار، كما في اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «1» وَ اجعل مِنْ ذُرِّيَّتِنا و أولادنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ و الإسلام هو تسليم الأمور إلى اللّه سبحانه في

الاعتقاد و القول و العمل وَ أَرِنا أي عرفنا مَناسِكَنا جمع منسك، أي المواضع التي

______________________________

(1) الفاتحة: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 179

[سورة البقرة (2): آية 129]

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

تتعلق النسك بها، و النسك العبادة، يقال رجل ناسك، أي عابد، و قد استجاب اللّه دعاءهما، حيث أراهما جبرائيل عليه السّلام موضع الصلاة، و الوقوف، و غيرها وَ تُبْ عَلَيْنا أي أرجع إلينا بالمغفرة و الرحمة، فإن التوبة بمعنى الرجوع، و لذا يقال اللّه «التواب» أي كثير الرجوع إلى عبيده، و من ذلك تعرف أنه لا دلالة للآية، على أنهما عليهما السّلام، كانا قد أذنبا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ بعبادك الرَّحِيمُ بهم.

[130] رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ أي في الأمة المسلمة- التي طلبناها منك- رَسُولًا مِنْهُمْ من نفس الأمة، لا من سائر الأمم، حتى يكون لهم الشرف بكون الرسول منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ دلائلك، و براهينك، و أحكامك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ إما المراد: القرآن، أو المراد:

«كتابك» على نحو الكلي وَ الْحِكْمَةَ هي وضع كل شي ء موضعه و المراد بتعلمهم إياها، تعليمهم العلوم الكونية و التشريعية، فإن الجاهل لا يتمكن، من وضع الأشياء مواضعها لجهله بها وَ يُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الأدناس و القذارات الأخلاقية و الأعمالية إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ حقيقة، فإن العزة لا تكون إلا بقلة الوجود، و كثرة الاحتياج، و اللّه واحد لا شريك له، و جميع الاحتياجات إليه و تخصيص العزة هنا بالذكر، للتلميح إلى كون الاحتياج إليه الْحَكِيمُ فأفعالك صادرة عن حكمة، و ما طلباه إنما كان عين الحكمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 180

[سورة البقرة (2):

الآيات 130 الى 132]

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

[131] هذه هي طريقة إبراهيم عليه السّلام وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي من يعرض عن هذه الطريقة في التوحيد و التسليم و سائر ما ذكر مما يدل على أنها من أفضل الطرق إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي لا يترك هذه الملة، إلا من ضرب نفسه بالسفاهة و الحمق، و هل هناك طريقة أفضل من هذه الطريقة؟ و الاستفهام في قوله «من يرغب» استنكاري وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ جملة حالية، أي إنا بسبب هذه الطريقة المستقيمة، التي كانت لإبراهيم عليه السّلام اخترناه نبيا فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الفائزين بالدرجات الرفيعة.

[132] إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ هذا متعلق بقوله «اصطفيناه» أي اخترناه لما قلنا له أَسْلِمْ في جميع أمورك للّه قالَ إبراهيم عليه السّلام أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وحده لا شريك له، و معنى أسلم استقم على الإسلام، و اثبت على التوحيد، كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ «1» و كما يقول أحدنا لمن كان جالسا في مكان: أجلس هنا حتى الساعة العاشرة- مثلا-.

[133] وَ وَصَّى بِها أي بالملة و الطريقة التي كانت لإبراهيم عليه السّلام

______________________________

(1) محمد: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 181

[سورة البقرة (2): آية 133]

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ

وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

إِبْراهِيمُ بَنِيهِ أولاده، و خصهم بالذكر، مع أن دعوة إبراهيم عليه السّلام كانت عامة، إشارة إلى لزوم دعوة الأهل بصورة خاصة إلى الحق، كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «1» وَ وصى بها يَعْقُوبُ حفيد إبراهيم من إسحاق، بنيه أيضا و خص يعقوب لأنه جد اليهود، و كانت الوصية يا بَنِيَ أي يا أبنائي، فهو جمع ابن، و أصله بنيني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لَكُمُ الدِّينَ حتى تكونوا متدينين، و معنى اختار اللّه الدين لهم، أنه سبحانه أعطاهم الدين، و أراد ذلك منهم مقابل بعض الأمم الوحشية الذين تركوا و شأنهم، فلم تبلغهم دعوة الأنبياء فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تتركوا الإسلام، فيصادفكم الموت على تركه، و إنما خص الموت، لأنه لو كان غير مسلم قبل ذلك، ثم أسلم و مات مسلما لم يكن عليه بأس.

[134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أيها المدعون إن الأنبياء كانوا يهودا أو نصارى، فإن اليهود كانوا يقولون أن يعقوب النبي عليه السّلام أوصى بنيه باليهودية، فأنكر اللّه تعالى عليهم ذلك بأنكم لم تكونوا حضورا إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ و اقترب من الوفاة إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي على طريقة الاستفهام التقريري

______________________________

(1) التحريم: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 182

[سورة البقرة (2): الآيات 134 الى 135]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ

وَ إِسْحاقَ إبراهيم جد يعقوب و إسماعيل عمه و إسحاق أبوه، و قدم إسماعيل لأنه كان الأكبر سنا، و الأعلى منزلة، و سمى العم أبا تغليبا، و لأن العرب تسمي العم أبا و الخالة أما إِلهاً واحِداً بغير شريك وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فكان دينهم الإسلام، و الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم السّلام، لأن معناه التسليم للّه في أوامره و نواهيه و نفي اللّه سبحانه كون دين الأنبياء اليهودية أو النصرانية، يراد به نفيها بالمعنى المتداول عند أهل الكتاب، و إلا فلا يهم الاسم، كما لا يخفى.

[135] ثم بين اللّه حقيقة هي أن الأمة الماضية ليست تهمكم، أيها المعاصرون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنما المهم أعمالكم، فكيف كانت تلك الأمم، فإنها قد ذهبت و فنت تِلْكَ أي إبراهيم و أولاده عليهم السّلام أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ أي ذهبت و مضت لَها ما كَسَبَتْ فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم وَ لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فأصلحوا أعمالكم.

[136] وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت اليهود كونوا يهودا و قالت النصارى كونوا نصارى تَهْتَدُوا للحق و ترشدوا قُلْ يا رسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 183

[سورة البقرة (2): آية 136]

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَلْ نتبع مِلَّةَ أي دين إِبْراهِيمَ الصافي من شوائب اليهودية

و النصرانية، و إنما هي الإسلام المصفى، و إن كان فرق بين الإسلام و بين دين إبراهيم عليه السّلام في بعض الخصوصيات التشريعية، فالمراد نفي النصرانية و اليهودية حَنِيفاً أي مستقيما عن الاعوجاج وَ ما كانَ إبراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما أنتم أيها اليهود و النصارى مشركون، إذ تقولون عزير ابن اللّه، أو المسيح ابن اللّه، و على هذا فالمراد بإتباع ملة إبراهيم عليه السّلام إتباعها في التوحيد.

[137] قُولُوا أيها المسلمون، ما يجب عليكم أن تعتقدوا به، و ما هي خلاصة الأديان السابقة و اللاحقة، التي تعين زيف العقائد النصرانية و اليهودية و غيرهما آمَنَّا بِاللَّهِ وَ آمنا ب ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أحفاد يعقوب فإن كثيرا منهم كانوا أنبياء عليهم السّلام نزلت عليهم الصحف وَ آمنا ب ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ آمنا ب ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ قاطبة مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من الأنبياء عليهم السّلام، فإنا نعترف بالجميع وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه سبحانه مُسْلِمُونَ فإن دين الأنبياء، عليهم السّلام كلهم يتلخص في أصول و فروع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 184

[سورة البقرة (2): الآيات 137 الى 138]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

و أخلاق فالأصول: التوحيد، و العدل، و النبوة، و الإمامة، و المعاد، فإن كل نبي كان يصدّق من سبقه و يبشّر بمن يلحقه، كما إن الإمامة بمعنى الوصاية، فإن كل نبي كان

له أوصياء، و الفروع: الصلاة و الصوم و الزكاة و ما أشبه من العبادات، و أحكام المعاملات- بالمعنى الأعم- و كل الأديان كانت مشتركة فيها مع تفاوت يسير حسب اقتضاء الزمان و الأمة، فمثلا كان صوم الصمت في بعض الأمم و ليس في الإسلام و هكذا، و الأخلاق: الصدق و الأمانة، و الوفاء، و الحياء، و ما أشبه و كلها فطريات نفسيه كانت الأنبياء عليهم السّلام تأمر بها و تنهى عن أضدادها.

[138] فَإِنْ آمَنُوا أي آمن غير المسلمين من سائر الأديان و الفرق بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي كما تؤمنون أنتم أيها المسلمون فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى الحق وَ إِنْ تَوَلَّوْا عن مثل هذا الإيمان، و لزموا طريقتهم المنحرفة فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي في خلاف فهم في شق و أنتم في شق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ فإن اللّه يكفيك يا رسول اللّه و ينصرك عليهم وَ هُوَ السَّمِيعُ كلامهم الْعَلِيمُ بأعمالكم و نواياكم.

[139] اتبعوا صِبْغَةَ اللَّهِ و اصبغوا أنفسكم بها، و هي الإسلام، فإن كل طريقة يتبعها الإنسان لون له، لكنه لون غير محسوس، تشبيها بالألوان المحسوسة وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً و هذا استفهام إنكاري، أي لا أحد أحسن من اللّه صبغة و دينا وَ نَحْنُ المسلمون لَهُ عابِدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 185

[سورة البقرة (2): الآيات 139 الى 140]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا

اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

لا لغيره من الشركاء الذين أنتم تعبدونها مع اللّه، أو من دون اللّه، و ربما يقال إن وجه التسمية ب «الصبغة» أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يعمدونهم فيه، و الآية من المشابهة كقوله سبحانه تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1».

[140] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء اليهود و النصارى و غيرهم أَ تُحَاجُّونَنا أي تباحثون معنا فِي دين اللَّهِ و إنه لم أنسخ أديانكم، و لم أختر من العرب رسولا، و لم أفعل كذا و كذا؟ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ أي أن اللّه ليس ربا لكم فقط حتى يكون معكم وحدكم إلى الأبد وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ فليس عملنا غير منظور إليه عند اللّه، و عملكم منظور إليه، كما كانوا يزعمون قائلين نحن شعب اللّه المختار، و نحن أبناء اللّه و أودائه وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ إذ لا نشرك به أحدا بخلافكم حيث جعلتم له شريكا.

[141] أَمْ تباحثون معنا في أمر الأنبياء عليهم السّلام و تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ أحفاد يعقوب الذين كانوا أنبياء عليهم السّلام كانُوا هُوداً أي يهودا أَوْ نَصارى و هذا اشتباه منهم إذ اليهودية و النصرانية، تولدتا بعد إبراهيم عليه السّلام، فكيف يكون إبراهيم

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 186

[سورة البقرة (2): آية 141]

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

أحدهما، كما قال سبحانه وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ «1» قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهؤلاء المدعين بيهودية

هؤلاء الأنبياء، أو نصرانيتهم أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فاللّه سبحانه يقول لم يكونوا يهودا و لا نصارى، و أنتم تقولون كانوا وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أظلم ممن يكتم الشهادة التي عنده من اللّه سبحانه، فإن اليهود كانوا يكتمون ما أنزل إليهم من البينات و الهدى حول الأنبياء السابقين و حول نبي الإسلام وَ مَا اللَّهُ أي ليس اللّه بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فإنه يعلم أعمالكم التي منها كتمانكم للشهادة، ثم يجازيكم عليها.

[142] تِلْكَ الأنبياء عليهم السّلام و ما كانوا يعملون و يتدينون لا يرتبطون بكم أيها المعاصرون للرسول، فإنها أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ و مضت لَها ما كَسَبَتْ من الأعمال و الأفعال وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من الخير و الشر وَ لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فلم هذه المباحثة و المحاجة و المجادلة.

______________________________

(1) آل عمران: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 187

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّانى سورة البقرة من آية (143) إلى (253)

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 188

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 189

[سورة البقرة (2): الآيات 142 الى 143]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ

اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

[143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ جمع سفيه، و هو الغر و الجاهل، و ناقص العقل مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ أي أيّ شي ء صرف المسلمون عَنْ قِبْلَتِهِمُ السابقة الَّتِي كانُوا عَلَيْها يتوجهون في صلاتهم، و هي بيت المقدس، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون كانوا يصلون إلى بيت المقدس، و هو قبلة اليهود، ثم في المدينة حولت القبلة إلى الكعبة، و كان السبب الظاهر لذلك أن اليهود عابوا النبي بأنه يصلي إلى قبلتهم، فحوله اللّه عنها إلى الكعبة، فأخذ اليهود يهرجون حول تحويل القبلة قُلْ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فمتى شاء وجه عبيده إلى حيث يشاء، و ليست القبلة احتكارا حتى لا يمكن تحويلها يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و كما كان الصراط المستقيم قبلا بيت المقدس حال التوجه، كذلك صار الصراط المستقيم، فعلا الكعبة.

[144] وَ كَذلِكَ أي كما أن للّه المشرق و المغرب، و أنه لا مناقشة في ذلك جَعَلْناكُمْ أيها المسلمون، و في التأويل، إن المراد بالخطاب الأئمة عليهم السّلام أُمَّةً وَسَطاً متوسطا، و الإطلاق و إن كان يفيد الوسطية في كل شي ء في العقيدة، فلا جمود و لا إلجاء، و في المكان فهم متوسطون بين شرق الأرض و غربها، و في التشريع، فليس ناقصا و لا مغاليا، و هكذا إلا أن ظاهر قوله سبحانه بعد ذلك لِتَكُونُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 190

شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً يفيد أن المراد بالتوسط الوسيطة بين الرسول و بين سائر الناس، فالأمة تأخذ من الرسول- و يشهد الرسول عليهم بأنهم أخذوا

منه، حتى لا يقولوا ما عرفنا- و سائر الناس يأخذون من الأمة- و تشهد الأمة عليهم بأنهم أخذوا منها، حتى لا يقول الناس لم نعرف- و هذا هو الظاهر من «لام» العلة في قوله «لتكونوا .. و يكون» و لعل ارتباط هذه الآية بما سبقها من حكم القبلة، و ما لحقها بيان أن المسلمين لهم مكان القيادة، لأنهم الآخذون عن الرسول المبلغون للناس فالذي ينبغي أن تكون لهم سمة خاصة في شرائعهم، حتى لا يرمون بالذيلية، و الإتباع لقبلة الآخرين، ثم رجع السياق إلى حكم القبلة فقال سبحانه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها و هي بيت المقدس الذي كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتوجه نحوه في الصلاة، طيلة كونه في مكة المكرمة، و مدة بعد الهجرة إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ معنى «لنعلم» أن يتحقق علمنا في الخارج، بأن يظهر المتبع من المخالف، فإنه قد يقال لنعلم، و يراد به حصول العلم للمتكلم، و قد يقال لنعلم، و المراد به وقوع المعلوم في الخارج، و في بعض التفاسير أن قوما ارتدوا على أدبارهم لما حولت القبلة «1»، فظهر

______________________________

(1) مجمع البيان: ص 418.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 191

[سورة البقرة (2): آية 144]

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

إنهم لم يكونوا يتبعون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حقيقة و إنما حسب الأهواء، و العقب مؤخر القدم، و المعنى التشبيه لمن يرتد كافرا،

بمن يرجع القهقرى وَ إِنْ كانَتْ مفارقة القبلة الأولى إلى قبلة أخرى لَكَبِيرَةً إذ هو خرق لاعتياد قديم متركز إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إياهم بأن قوى قلوبهم بالإيمان وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أيها المسلمون الراسخون الذين اتبعتم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا تقدير لهم في ثباتهم، و وعد لهم في الجزاء على إيمانهم الكامل، و يحتمل أن يكون جوابا عن سؤال وقع من بعضهم، و هو إنه كيف تكون حال صلواتهم السابقة التي صلوها إلى بيت المقدس، و إن كان الظاهر من كلمة «إيمان» المعنى الأول إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أتعابهم و أعمالهم.

[145] و بعد ما بين الحكم، و أن القبلة تحولت، بيّن اللّه سبحانه قصة التحويل، فإنها كالعلة للحكم المتقدم، و العلة دائما تأتي متأخرة في الكلام، و إن كانت سابقة في التحقيق، كما يقال إنه إنسان طيب لأن تربيته حسنة قَدْ نَرى «قد» هنا للتحقيق نحو قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ «1» و إن كان الغالب في «قد» الداخلة على المضارع، أن تكون بمعنى التقليل، و لعل سر دخولها، إشراب الفعل معنى التقليل، حيث لا يريد المتكلم

______________________________

(1) النور: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 192

إظهار العلم بالبت، مثله وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً «1» تَقَلُّبَ وَجْهِكَ يا رسول اللّه فِي السَّماءِ أي في ناحية السماء، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقلب وجهه في أطراف السماء، فينتظر الوحي حول القبلة، و إن اليهود عيروه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلين له أنك تابع لقبلتنا فلما كان في بعض الليل خرج صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم، يقلب وجهه في آفاق السماء، فلما أصبح صلى الغداة، فلما صلى من الظهر ركعتين، جاء جبرائيل عليه السّلام بهذه الآية، ثم أخذ بيده فحول وجهه إلى الكعبة، و حول من خلفه وجوههم، حتى قام الرجال مقام النساء، و النساء مقام الرجال فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إذ الرسول كان يحب الكعبة التي هي بناء جده إبراهيم عليه السّلام و عندها موطنه فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الشطر الجزء، أي حول وجهك نحو جزء من المسجد الحرام، و المسجد لكونه محيطا بالكعبة يكون المتوجه إليه متوجها إليها إذا كان من بعيد وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أيها المسلمون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و ذكر «الوجه» في المقامين، لأنه الشي ء الذي يتوجه به في جسد الإنسان وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى الذين يستشكلون عليكم قائلين إن كانت القبلة

______________________________

(1) سبأ: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 193

[سورة البقرة (2): آية 145]

وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

السابقة حقا، فهذه باطلة، و إن كانت هذه حقا، فتوجهكم في السابق إلى بيت المقدس باطل لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي تحويل القبلة أو هذه القبلة حق من قبل اللّه، فإن اللّه سبحانه يعبده عباده كيف يشاء، فمن الجائز أن يعبد الأمة بتشريع إلى مدة، ثم يعبدهم بتشريع آخر وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ أي يعمل أهل الكتاب من الإرجاف و بث الأباطيل حول تحويل القبلة و سائر الأمور المرتبطة بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[146] وَ

لَئِنْ أَتَيْتَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى بِكُلِّ آيَةٍ من الآيات الدالة على أن قبلتك حق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنهم معاندون، و المعاند لا ينفع معه الدليل وَ ما أَنْتَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ بعد ما تعلم أن قبلتهم منسوخة، كقوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ «1» وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ اليهود لا يتبعون قبلة النصارى، و النصارى لا يتبعون قبلة اليهود وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَهْواءَهُمْ في باب القبلة و سائر التشريعات مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بأن

______________________________

(1) الكافرون: 3- 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 194

[سورة البقرة (2): الآيات 146 الى 147]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

طريقتهم باطلة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ و هذه الجملة، و إن كانت موجهة إلى الرسول، لكن المقصود منها العموم، و لا تنافي العصمة، فإن الاشتراط يلائم المحال، كقوله تعالى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1» و قد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية و نحوها، لا بصدق الطرفين.

[147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود و النصارى يَعْرِفُونَهُ أي الرسول، أو هذا الحكم، أعني كون تغيير القبلة بأمر اللّه سبحانه، و إن كان الأول أقرب إلى سياق التشبيه كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ ممن لم يؤمن بالرسول لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ فليس

عذر هؤلاء جهلهم، حتى يرجى زواله، و إنما العناد الذي لا علاج له.

[148] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي هذا هو الحق من عند اللّه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين فيه، فإن المحق إذا كثرت عليه التهجمات و رمي بأنه على غير حق، يكاد يشك فيه، و لذا يثبت اللّه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما قال تعالى وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «2».

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الإسراء: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 195

[سورة البقرة (2): الآيات 148 الى 149]

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

[149] وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي لكل أمة من الأمم طريقة هُوَ أي اللّه سبحانه مُوَلِّيها أي أمرهم بالتوجه إليها، فلا غرابة أن يكون للمسلمين وجهة خاصة في قبلتهم فَاسْتَبِقُوا أي سارعوا إلى الْخَيْراتِ تنافسوا فيها، فإن اللّه موليكم هذه الطرائق، و لا تبقوا جامدين على طريقة منسوخة، فإن ذلك انصراف عن الخير إلى الشر، و من المحتمل أن يكون «هو» راجعا إلى «كل» أي لكل فرد أو أمة، طريقة في العمل و التفكير فذلك الشخص مولي و موجه نفسه إياها، فليكن هم كل فريق و فرد أن يسابق غيره في الخيرات أَيْنَ ما تَكُونُوا من بقاع الأرض يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يوم القيامة، حتى يجازيكم على أعمالكم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيتمكن من جمعكم، و

لا يفوته شي ء [150] كان لتحويل القبلة نحو الكعبة أسباب و علل، العلة الأولى: رغبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن تحول القبلة لما عيرته اليهود، العلة الثانية: أن التحويل كان للحق، و أن يكون للمسلمين ميزة خاصة يمتازون بها عن سائر الأمم، حتى في اتجاه الصلاة، العلة الثالثة: أن التحويل كان لقطع حجة الناس، الذين كانوا يتعجبون من كون المسلمين، يدعون دينا جديدا، و مع ذلك يتوجهون إلى قبلة بني إسرائيل، و تبعا لهذه العلل، تكرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، و قال سبحانه وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر من البلاد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 196

[سورة البقرة (2): آية 150]

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

فإنه قبلة في السفر كما هو قبلة في الحضر، و في هذا فائدة ثانية للتكرار وَ إِنَّهُ أي توجيه الوجه نحو المسجد الحرام لَلْحَقُ الذي جاء مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فمن أعرض عن هذه القبلة كان جزاءه سيئا، و من اتبعها كان جزاءه حسنا.

[151] وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ للسفر من البلاد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هذا للسفر وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و هذه الآية، جمع بين الآيتين السابقتين «وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، الآية: 150» «وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ الآية:

145» و قد عرفت إنه كرر لفائدة العلة المذكورة في الآية لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي إن

تحويل القبلة، إنما هو لنقطع احتجاج الناس عليكم حيث يقولون: كيف إن المسلمين يدعون إلى دين جديد و قبلتهم هي قبلة أهل الكتاب إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فإن هؤلاء لا ينفعهم المنطق، فالمعاند لا تفيده الحجة فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي فالخشية، إنما تكون ممن بيده النفع و الضر، و هؤلاء ليس بيدهم شي ء منهما، و إنما كل ذلك بيد اللّه سبحانه، و لا يخفى أن الاستثناء منقطع كقولك: إنما فعلت الفعلة الفلانية ليعرف الناس بالأمر، إلا من يريد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 197

[سورة البقرة (2): آية 151]

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

العناد وَ بعد ذلك فتحويل القبلة إنما كان لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتميزكم عن أهل الكتاب و قطع تعيير اليهود، و إرجاعكم إلى بناء جدكم إبراهيم الذي هو إحياء لذكراكم وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى الحق اهتداء كاملا، فإن في تشريف الإنسان بشرف سببا لتقريبه إلى الهداية الكاملة.

[152] و قد أتممنا النعمة عليكم بتحويل القبلة كَما أنعمنا عليكم قبل ذلك بنعمة عظمي ف أَرْسَلْنا فِيكُمْ أيها المسلمون رَسُولًا مِنْكُمْ لا من غيركم، فاخترتكم لأن تكون رسالتي بيد واحد منكم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا و قرآننا تلاوة وَ يُزَكِّيكُمْ يطهركم من أدناس الجاهلية و القذارات الخلقية، و النجاسات البدنية- بإرشاده إياكم إليها- وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ و من المعلوم أن التلاوة غير التعليم، فرب تال غير معلم، بالإضافة إلى أن التعليم فيه معنى التركيز و التثبيت وَ الْحِكْمَةَ يرشدكم بمواضع الأشياء و مواقع الخطأ و الصواب، فالحكمة- كما عرفت- وضع كل شي ء موضعه وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بصورة عامة، فيشمل

القصص و التواريخ المفيدة و أحوال الأنبياء، و أحوال المعاد مما ينفعهم في دينهم و دنياهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 198

[سورة البقرة (2): الآيات 152 الى 154]

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

[153] فَاذْكُرُونِي أيها المسلمون بالطاعة و العبادة، و تنفيذ الأوامر أَذْكُرْكُمْ بالنعمة و الإحسان و الجنان وَ اشْكُرُوا لِي بإظهار النعمة و الحمد عليها وَ لا تَكْفُرُونِ كفرا في الاعتقاد، أو كفرا في العمل بأن لا تعملوا بأوامري.

[154] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا في أموركم التي تريدونها سواء كانت تحت اختياركم، أم لم تكن كالصحة و الغنى بِالصَّبْرِ و تحمل النفس، فإن كثيرا من الأمور تتنجز بعد حين، فإذا صبر الإنسان تنجزت أموره و نعم براحة البال، و اطمئنان النفس، و إذا لم يصبر جرى القدر، و هو مضطرب البال كئيب وَ الصَّلاةِ فإن الصلاة توجب توجه الإنسان إلى اللّه سبحانه، و الانصراف عن الدنيا مما يشع في النفس الهدوء و السكينة، و عدم الاهتمام بمكاره الدنيا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ باللطف و العناية و الرحمة و الأجر و الثواب، و هكذا يهذب الإنسان و الأمة و يرشدهم إلى مهمتهم العظيمة، و يمرّنهم على الصبر و التحمل، و لذا يخطوا القرآن الحكيم خطوة أخرى معهم بعد الصبر و الصلاة، قائلا: إنكم لا بد و أن تتحملوا مشاق القيادة من القتل و سائر أنواع المصائب التي تتعرض لمن أراد الإصلاح و الإرشاد، و لذا يقول سبحانه:

[155] وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي

سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ فالميت من لا تأثير له

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 199

[سورة البقرة (2): الآيات 155 الى 156]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156)

في الحياة و لا امتداد، و هؤلاء ليسوا كذلك بَلْ أَحْياءٌ حياة واقعية في الدنيا بتأثيراتهم و امتداداتهم، و في الآخرة، لأنهم في نعيم مقيم، وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ أنتم بحياتهم، إذ الحياة في نظركم الحس و الحركة، مع إنها معنى سطحي للحياة.

[156] وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نمتحنكم أيها المسلمون بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ و كونه شيئا، إما باعتبار أنه لا يمتد، و إنما الخوف في زمان يسير، و إما باعتبار أنه لا يبلغ الخوف- غالبا- أشده وَ الْجُوعِ و لم يذكر العطش لأن الماء غالبا متوفر وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ المبذولة في الحرب، أو ما ينهب منها في التصادم، أو الضيق الاقتصادي، أو ما أشبه وَ نقص من الْأَنْفُسِ ممن يقتل في سبيل اللّه وَ نقص من الثَّمَراتِ بسبب النهب، أو الحصاد قبل أوانه من أجل الأعداء، كما وقع في قصة الخندق حيث أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين أن يحصدوها، لئلا ينتفع بها المشركون- كما في بعض التواريخ- أو بأسباب أخر وَ بَشِّرِ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصَّابِرِينَ في هذه المكاره.

[157] الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ أي إنا مملوكون له سبحانه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فهو مرجعنا و معه حسابنا و جزاؤنا، و في هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 200

تقريب

القرآن إلى الأذهان ج 1 249

[سورة البقرة (2): الآيات 157 الى 158]

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

الجملة تسلية للمصاب، إذ اعتراف الإنسان بأن كل شي ء له إنما هو للّه، يهوّن ذهاب بعضها، فإن صاحب المال أخذه، كما أن اعتقاد الشخص، بأن اللّه هو الذي يجازي يهوّن الأمر، فإن ما فقده سوف يعوّض و لذا من كرر هذه الجملة في المصيبة عارفا معناها متوجها إلى اللّه سبحانه، في التسليم و الرضا، يجد برد الاطمئنان في قلبه.

[158] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ و الصلوات هي العطف، فإن صلى بمعنى عطف، و هي من اللّه التوجه بالبركة و الإحسان وَ رَحْمَةٌ ترحم في الدنيا و الآخرة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ الذين اهتدوا إلى واقع الأمر مما ينفع دنياهم و عقباهم، فبذلوا ما بذلوا في سبيل اللّه راضين مرضين.

[159] و حيث ألمع سابقا إلى الجهاد، أتى الإلماع إلى الحج، فإنهما صنوان في التعداد و المشقة- في الجملة- فقال سبحانه إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ و هما جبلان قرب المسجد الحرام مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ جمع شعيرة، و هي مشتقة من اللباس الملتصق بشعر البدن، فكل شي ء مرتبط بشي ء ارتباطا وثيقا يدل عليه يكون من شعائره، فالمراد أن هذين الجبلين من الأمور المرتبطة باللّه سبحانه، حيث جعلهما محلا لعبادته بالسعي بينهما فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أي قصد البيت الحرام، و الحج القصد أَوِ اعْتَمَرَ و العمرة هي الزيارة أخذ من العمارة، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 201

[سورة البقرة

(2): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)

الزائر يعمر المكان بزيارته، و الحج و العمرة عملان من أعمال الحج فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي يسعى بينهما، و إنما عبر ب «لا جناح» لأن المسلمين تحرجوا من الطواف بهما ظنا منهم أنه من عمل المشركين، حيث كان على الصفا صنم يسمى «أساف» و على المروة صنم يسمى «نائلة» فهو ترخيص في مقام توهم الحصر، و من المعلوم أن الإباحة في مقام توهم الحصر، و النهي في مقام توهم الوجوب، لا يدلان على مفادهما الأولية، لأنه لإثبات أصل الطرف الآخر، لا خصوصيته الإباحية و التمويمية وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي أتى بخير من الأعمال و الأفعال تطوعا، و التطوع التبرع بالشي ء من الطوع بمعنى الانقياد فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ لعملهم و معنى شكره تقديره و جزائه للعامل عَلِيمٌ بأعمالهم، فلا يفوته شي ء منها.

[160] لعل ارتباط هذه الآية بما ورد قبلها، أن اليهود و النصارى لم يفعلوا مثل ما فعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول الصفا و المروة، فالرسول أبطل كل شي ء حول الحج، و أقام كل حق فيه، فالصفا و المروة، حيث كانا حقا أثبتهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن ظن الناس أنهما من الباطل، لكن أهل الكتاب حشروا كل ما أتى به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مما عرفوه حقا- في زمرة الباطل، و لذا صار الكلام السابق، فاتحة للتعريض بهم، فهو مثل أن يقول أحد أنا اعترفت بالحق، لكنه لم يعترف بما علم من الحق،

و اللّه أعلم بموارده إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ فيخفون الأدلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 202

[سورة البقرة (2): الآيات 160 الى 161]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

الدالة على حقية الإسلام، مما نزلت في الكتب السالفة وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أي يكتمون الهدى الذي يرونه، و إن لم يكن منزلا و بيّنا أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يبعدهم عن الخير في الدنيا و في الآخرة، بتضييق الأمور عليهم هنا و العذاب هناك وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ الذين يأتي منهم اللعن من الناس و الملائكة و الجن.

[161] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم و اتبعوا الحق و أظهروه وَ أَصْلَحُوا ما فسد من عقائدهم و أعمالهم وَ بَيَّنُوا للناس ما أنزله اللّه من الهدى و البينات فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ فالتوبة معناها الرجوع، و رجوع اللّه بمعنى إعادة الإحسان و الرحمة عليهم بعد انقطاعها عنهم بسبب كفرهم و كتمانهم وَ أَنَا التَّوَّابُ أي كثير الرجوع، فإن العاصي إذا عصى ألف مرة و رجع ألف مرة قبلت توبته، إذا تاب توبة نصوحا الرَّحِيمُ بالعباد.

[162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا و لم يتوبوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ بالعقائد الصحيحة أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فإن الكل يلعنون الظالم، و الكافر ظالم، فإنه و إن لم يقصده اللاعن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 203

[سورة البقرة (2): الآيات 162 الى 164]

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ

هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

بالذات، لكنه داخل في عموم اللعن.

[163] خالِدِينَ فِيها أي في تلك اللعنة، إذ لعنة الدنيا تتصل بلعنة الآخرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إذ لا أمد لعذاب اللّه بالنسبة إلى الكافرين وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ فلا ينظر أحد إليهم نظرة رحمة و إحسان، أو لا يمهلون للاعتذار، أو لا يؤخر عنهم العذاب.

[164] و لما تقدم حال الكافر صار السياق لبيان التوحيد، و الأدلة على الوحدانية وَ إِلهُكُمْ أيها الناس إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الموصوف ب الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ لا كما يصور الإله بعض الكتب السماوية من أنه إله انتقام و غضب و عذاب.

[165] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ بهذا النظام البديع و الترتيب الرائع وَ الْأَرْضِ بهذا الأسلوب المنظم المتكامل وَ في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ يأتي أحدهما عقب الأخر خليفة، لتنظيم الحياة على الأرض بأجمل صورة وَ في الْفُلْكِ السفينة الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أسفارهم و تجارتهم وَ في ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ جهة العلو مِنْ ماءٍ ببيان «ما» فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 204

[سورة البقرة (2): آية 165]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ

جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)

بالإنبات بَعْدَ مَوْتِها أي جمودها و ركودها وَ بَثَ أي نشر و فرق فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ تدب و تتحرك على وجه الأرض، و كلمة «بث» عطف على «أحيا» أي كان المطر سببا لإحياء الأرض، و انتشار الحيوانات فيها، إذ لو لا المطر لم يكن للحيوان ماء، و لا طعام فيهلك، و لم يبق له نسل وَ في تَصْرِيفِ الرِّياحِ أي صرفها و نقلها من مكان إلى مكان لتروح و تذهب بالأمراض و العفونات، و تنقل السحاب من هنا إلى هناك، و لو كانت الريح راكدة لم تنفع أي شي ء وَ في السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ فإنه بما يكونه من أطنان من الماء، يبقى معلقا بين الجهتين، و يسير إلى كل ناحية لَآياتٍ و علامات دالة على اللّه، و وحدته و سائر صفاته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و يعملون عقولهم في استفادة النتائج من المقدمات و المسبب عن الأسباب، و ينتقلون من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.

[166] وَ مِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه أَنْداداً جمع ند، بمعنى الأشباه، و المراد بذلك آلهة يجعلها شبيهة للّه في أنه يعبدها، و هي الأوثان يُحِبُّونَهُمْ أي يحب هؤلاء الناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 205

[سورة البقرة (2): آية 166]

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)

تلك الآلهة، و إنما أتى بجمع العاقل لكونها ردفت مع اللّه سبحانه، و القاعدة تغليب الرديف على رديفه كقوله تعالى مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «1» و قوله وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ «2» كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبهم للّه، أو حبا

شبيها بما يستحق اللّه، و على الأول، فالمراد بهم المشركون الذين يعتقدون باللّه وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب هؤلاء لأوثانهم، فالمؤمنين حيث يعرفون أن كل خير من اللّه يحبونه حبا بالغا وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني لو يرون هؤلاء المشركين يوم القيامة كون القوة جميعا لرأوا مضرة فعلهم، و سوء عاقبة شركهم، و حذف جواب لو، تهويلا للأمر، كما تقول لعدوك: لو ظفرت بك وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ عطف على «أن القوة».

[167] إن الرؤية من الظالم للعذاب، إنما يكون إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا و هم التابعون لهم وَ رَأَوُا جميعا

______________________________

(1) النور: 46.

(2) آل عمران: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 206

[سورة البقرة (2): الآيات 167 الى 168]

وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ أي فيما بينهم الْأَسْبابُ فما كان في الدنيا يسبب وصلة بعضهم لبعض من المال و الرئاسة و القرابة و الحلف و أشباهها، تنقطع هناك، فلا داعي لنصرة الرؤساء أتباعهم الذين كانوا يتبعونهم في الدنيا.

[168] وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا إي التابعين لرؤسائهم لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي يا ليت لنا عودة إلى دار الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الرؤساء كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا هنا في القيامة حال حاجتنا إلى العون كَذلِكَ أي هكذا يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أعمال كل من التابعين و المتبوعين حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ

فإن صلاتهم و أعمالهم، كلها ذهبت أدراج الرياح، فيتحسرون لماذا لم يعملوا بأوامر اللّه سبحانه وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ فإن المشرك يبقى في النار إلى الأبد، إن تمت عليه الحجة و عاند.

[169] و إذ تم الكلام حول العقيدة، توجه إلى الحياة التي هي مقصد الإنسان، و إليها يرجع كثير من حركته و سكونه يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ من نباتها و حيوانها و مائها و معدنها حَلالًا طَيِّباً أي في حال كون المأكول حلالا طيبا، إلا ما حرم منه، و في قوله «طيبا»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 207

[سورة البقرة (2): الآيات 169 الى 170]

إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170)

إشارة إلى أن كل حلال طيب، و ليس فيه خبث يوجب انحراف الصحة، أو انحراف الخلق وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ فكأن الشيطان يخطو نحو الآثام، و من أثم كأنه تتبع خطواته إذ مشى خلفه إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدوا ظاهرا.

[170] إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي الأعمال السيئة وَ الْفَحْشاءِ و هي الأعمال السيئة للغاية، فهو مشتق من الفحش، بمعنى التعدي وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي تنسبوا إلى اللّه ما لا تَعْلَمُونَ من العقائد و الأحكام، و عدم العلم هنا أعم من العلم بالعدم، كما قال سبحانه أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ «1».

[171] وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام و سائر الوحي قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي

وجدنا عليه آباءنا من التقاليد، فأنكر اللّه ذلك عليهم بالاستفهام الإنكاري، بقوله أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من أمور الدين و الدنيا وَ لا يَهْتَدُونَ إلى الحق فإذا

______________________________

(1) الرعد: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 208

[سورة البقرة (2): الآيات 171 الى 173]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

ظهر لكم أن آباءكم لا يعلمون، فكيف تتبعونهم.

[172] ثم بين اللّه سبحانه، أن هؤلاء الكفار لعنادهم و تعصبهم، قد غلقت منافذ السمع و البصر عنهم، فلا يفيد فيهم وعظ و لا تذكير وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما يروا الآيات، و يسمعوا نداءك يا رسول اللّه كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يرفع صوته بِما أي بالحيوان الذي لا يَسْمَعُ و لا يفهم الكلام، و إنما يسمع إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً فالحيوان، إذا صحت به، لا يفهم من كلامك إلا مجرد الدعوة و النداء، فهؤلاء الكفار كذلك، إذ لا ينتفعون بكلامك أبدا، فهم صُمٌ جمع أصم بُكْمٌ جمع أبكم عُمْيٌ جمع أعمى، فإنهم و لو كانت لهم آذان و ألسنة و عيون، لكنها كالمعطلة، لأنها لا تؤدي وظيفتها فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ تكرارا لما تقدم لإلحاق مسألتي الشكر و المحرمات به وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ

تَعْبُدُونَ و لا تشكروا سائر الآلهة، كالمشركين الذين يزعمون أنهم يمطرون بالأنواء، و يرزقون بالآلهة المزعومة.

[174] إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ و هي التي لم تذبح على النحو الشرعي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 209

[سورة البقرة (2): آية 174]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)

وَ الدَّمَ و هو و إن كان مطلقا، إلا إنه مقيد بالمسفوح لقوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1» وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ و خص اللحم بالكلام، و إن كانت جملته محرمة، لأن اللحم هو المعظم المقصود في الغالب وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية، و قد كان المشركون عند ذبحهم، يرفعون أصواتهم بتسمية الأوثان، فنهى اللّه سبحانه عن أكل ذبيحة ذكر غير اسم اللّه عليها فَمَنِ اضْطُرَّ بصيغة المجهول، فإن «اضطر» متعد من باب الافتعال، و حيث لم يكن المقصود، سبب الاضطرار، ذكر مجهولا غَيْرَ باغٍ أي لم يكن باغيا و طالبا للذة في أكله و شربه وَ لا عادٍ أي متعد في الأكل و الشرب، عن حد الضرورة، أو غير باغ على إمام المسلمين، و لا عاد بالمعصية طريق المحقين فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناول هذه المحرمات إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر العصيان إذا اضطر إليه، فغفر بمعنى ستر، و ستر العصيان، عدم المؤاخذة به رَحِيمٌ بكم، و لذا جاز تناول المحرم في حال الاضطرار.

[175] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ و هم اليهود و النصارى الذين كانوا يكتمون العقائد الحقة الموجودة في

كتابهم، و ينسبون إلى

______________________________

(1) الأنعام: 146.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 210

[سورة البقرة (2): آية 175]

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

الكتاب أحكاما لم توجد فيه، كما قال سبحانه قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» و لعل ارتباط هذه الآية بما قبلها من جهة الأمور التي كانوا يحرمونها، و لم يكن في كتبهم تحريم لها وَ يَشْتَرُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا من رئاسة الدنيا و أموالها، فإنها قليل بالنسبة إلى الآخرة أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي لا يجرون إلى بطونهم و لعل ذكر في بطونهم للاحتراز عن الأكل في بطن الغير، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه، إذا أكله بنفسه، و تقول شبع فلان في بطن غيره، إذا أكله من يتعلق به إِلَّا النَّارَ فإن ما أكلوه ينقلب نارا تحرق بطونهم في جهنم وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيهملهم ليذوقوا الهوان جزاء ما فعلوا وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم عن الآثام، فإن البطن إذا ملي ء حراما يقسو، فلا يهتدي حتى يتزكى الإنسان و يتطهر وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.

[176] أُولئِكَ الذين يكتمون ما أنزل اللّه هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي عوض الهداية، فكأن نفس الإنسان ثمن لأحد أمرين الضلالة و الهداية، فهم أعطوا أنفسهم، و اشتروا الضلالة عوض أن

______________________________

(1) آل عمران: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 211

[سورة البقرة (2): الآيات 176 الى 177]

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ

الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

يشتروا الهداية وَ اشتروا الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فعوض أن يشتروا المغفرة لأنفسهم اشتروا العذاب فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب عن صبرهم على النار التي هي عاقبة عملهم، أي كيف أنهم يصبرون على النار حينما فعلوا ما عاقبته النار.

[177] ذلِكَ العذاب، إنما توجه إليهم بسبب أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ أي التوراة بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ بكتمان بعضه و إظهار بعض لَفِي شِقاقٍ و خلاف عن الحق بَعِيدٍ فهم إنما استحقوا العذاب، لأنهم خالفوا الحق، و كتموا ما لزم إظهاره، و من المحتمل أن يكون المراد بالكتاب «القرآن» أي أن عذابهم بسبب كتمانهم كون القرآن حقا و اختلافهم فيه، بأنه سحر و كهانة أو كلام بشر.

[178] لَيْسَ الْبِرَّ كل البر أيها اليهود المجادلون حول تحويل القبلة الصارفون أوقاتكم في هذه البحوث العقيمة أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ فإن ذلك أمر فرعي مرتبط بتكليف اللّه سبحانه، و قد كلفنا أن نصرف الوجوه إلى الكعبة وَ لكِنَّ الْبِرَّ فعل، أي و لكن ذا البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فذلك هو الأصل الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 212

يتفرع عليه أحكام الصلاة و غيرها وَ آمن ب الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ المنزل من عند اللّه على أنبيائه وَ آمن ب النَّبِيِّينَ كلهم أولهم و أوسطهم و أخرهم وَ آتَى الْمالَ أي أعطاه و

أنفقه عَلى حُبِّهِ أي مع أنه يحبه، أو على حب اللّه تعالى ذَوِي الْقُرْبى أي قراباته و أرحامه وَ الْيَتامى الذين مات أبوهم وَ الْمَساكِينَ الذين لا يجدون النفقة لأنفسهم و أهليهم وَ ابْنَ السَّبِيلِ الذي انقطع في سفره، فلا مال له يوصله إلى أهله و مقصده، و سمي ابن السبيل، لعدم معرفة أبيه و عشيرته وَ السَّائِلِينَ من الفقراء الذين يسألون الناس وَ آتى المال فِي فك الرِّقابِ أي اشتراء العبيد أو إعتاقهم، حتى يتحرروا عن ربق العبودية وَ أَقامَ الصَّلاةَ أي أداها على حدودها وَ آتَى الزَّكاةَ الواجبة و المستحبة وَ الْمُوفُونَ الذين يفون بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا سواء كان عهدا مع اللّه كالنذر و البيعة، أو مع الناس كالعقود، و هذا عطف على قوله «من آمن» وَ الصَّابِرِينَ عطف على من آمن على طريق القطع بتقدير المدح، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع أن يكن معينابدونها أو بعضها اقطع معلنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 213

[سورة البقرة (2): آية 178]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)

و ارفع أو انصب إن قطعت مضمرامبتدءا أو ناصبا لن يظهرا

فإن عادة العربي أن يتفنن بالقطع رفعا و نصبا إذا طالت الصفات تقليلا للكلل و تنشيطا للذهن بالتلون في الكلام فِي الْبَأْساءِ البؤس الفقر وَ الضَّرَّاءِ و المضر الموجع و العلة و كل ضرر وَ حِينَ الْبَأْسِ أي الصابرين حين القتال أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات هم الَّذِينَ صَدَقُوا في

نياتهم و أعمالهم، لا من يجادل في أمر كتحويل القبلة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الخائفون من اللّه سبحانه، و في هذه الآية الكريمة إلماح إلى حال كثير من الناس حيث يتركون المهام و يناقشون في أمر غير مهم عنادا و عصبية.

[179] و حيث ذكر سبحانه ما هو البر عقبه ببعض الأحكام التي ينبغي لأهل البر المؤمنين باللّه و اليوم الآخر المتصفين بتلك الصفات أن يلتزموا بها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ و معنى كتابته تشريعه إذ الشرائع تكتب فِي الْقَتْلى جمع قتيل، فقد ورد أنها نزلت في حيين من العرب لأحدهما طول على الأخر، و كانوا يتزوجون نساء بغير حلال، و أقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، و بالمرأة منا الرجل منهم، و بالرجل منا الرجلين منهم، و جعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك، حتى جاء الإسلام، و أبطل تلك الأحكام، ف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 214

[سورة البقرة (2): آية 179]

وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

الحر بمقابل الحر يقتل لا مقابل العبد وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى تقتل بمقابل الأنثى لا الذكر يقتل في قبال الأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ قبل أَخِيهِ شَيْ ءٌ بأن عفى الأخ الولي للمقتول عن قتل القاتل، و بدله بالدية، أو عفى عن بعض الدية، و بقي بعضها الأخر فالواجب على الطرفين، مراقبة اللّه في الأخذ و الإعطاء، فمن طرف الولي للمقتول فَاتِّباعٌ للقاتل بِالْمَعْرُوفِ بأن لا يشدد في طلب الدية، و من طرف القاتل وَ أَداءٌ إِلَيْهِ أي إلى العافي بِإِحْسانٍ من غير مطل و تصعيب ذلِكَ الحكم في باب القتيل بالمماثلة، أولا، و التخيير بين القتل و الدية و العفو

ثانيا تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ عليكم وَ رَحْمَةٌ منه بكم، و في المجمع أنه كان لأهل التوراة القصاص أو العفو، و لأهل الإنجيل العفو و الدية فَمَنِ اعْتَدى عن الحكم المقرر بَعْدَ ذلِكَ الذي قررناه من الأحكام فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الدنيا و الآخرة.

[180] وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ في باب القتل، بأن يقتل القاتل عمدا حَياةٌ للمجموع، لأن كل من افتكر إنه لو قتل قتل ارتدع إلا النادر، و أيضا إن القصاص يوجب عدم تعدي أولياء المقتول على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 215

[سورة البقرة (2): آية 180]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

أقرباء القاتل، بأن يقتلوا منهم عددا كثيرا، كما كان هو المتعارف في زمان الجاهلية، حتى ربما فنيت القبيلة لأجل قتيل واحد يا أُولِي الْأَلْبابِ جمع لب، بمعنى العقل، أي يا أصحاب العقول لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل، أي شرع القصاص، حتى تتقون من القتل.

[181] و حيث ألمح القرآن الحكيم إلى حكم القتل، أشار إلى ما يرتبط به من الوصية، فقال كُتِبَ عَلَيْكُمْ كتابة راجحة، فإن الكتابة تشمل الواجب و المندوب، و الوصية مندوبة، إلا إذا وجبت بالعارض إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن رأى مقدماته من مرض و هرم و نحوهما إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا فإذا لم يترك الخير، لا داعي للوصية و إن كانت مستحبة أيضا، لكنها ليست مثل تأكيد من ترك الخير الْوَصِيَّةُ نائب فاعل «كتب» لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي الأقرباء بِالْمَعْرُوفِ بأن يوصي لوالديه و أقربائه، و لو كانوا وراثا، شيئا من الثلث، و هذا يوجب نشر الألفة و المحبة أكثر فأكثر، و إنما قيده بالمعروف، حتى لا يوصي

بما يوجب إثارة الشحناء، كأن يترك الأقرب، و يوصي للأبعد، أو يفضل بعضا على بعض بما يورث البغضاء، و المراد بالمعروف، الذي يعرف أهل التميز، إنه لا جور فيه و لا حيف، و هذه الوصية تكون حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الذين يؤثرون التقوى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 216

[سورة البقرة (2): الآيات 181 الى 182]

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

[182] فَمَنْ بَدَّلَهُ أي بدل الإيصاء و غيّره و زوّره بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه، فالسماع يستعمل بمعنى العلم فَإِنَّما إِثْمُهُ أي إثم التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و ليس إثم على الذي يأكل المال إرثا بغير علم، و الذي يأكله زيادة على حصته، من غير علم فإن الغالب، أن يبدل الجيل الأول، و يتصرف سائر الأجيال، بلا علم منهم بالتبديل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصاياكم و أقوالكم عَلِيمٌ بنواياكم و تبديلكم، أو تنفيذكم للوصية، و لعل هناك نكتة أخرى في قوله «فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» هي أن كثيرا من الناس لا يوصون خوفا من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل و مهدوا الطريق له، كما رأيت ذلك متعارفا في كلام كثير من الناس، حيث يقولون من أوصى ألقى ورثته في المعصية، فيكف بعضهم عن الوصية، فأشار سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطا، فإن الموصي فعل خيرا، و إنما المغير هو الذي يتحمل الإثم.

[183] ثم استثنى سبحانه عن حرمة تبديل الوصية، بأنه إنما يكون حراما، إذا كان تغيرا من حق إلى باطل، أما إذا كان من باطل

إلى حق، فلا إثم في التغيير فَمَنْ خافَ و خشي مِنْ مُوصٍ أي الذي يوصي جَنَفاً أي ميلا عن الحق إلى الباطل، بأن أوصى أزيد مما يحق له الإيصاء به أَوْ إِثْماً بأن حرم ورثته بإيصائه، و في الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد، و الجنف الخطأ لا عن عمد فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الورثة و الموصي، و الموصى له، بأن رد الزائد إلى الورثة، و أبطل ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 217

[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 184]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

فيه الإثم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي على المبدل للوصية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بمن يأثم، فكيف بمن لا يأثم، و قد ثبت في الشريعة إن الوصية بما زاد على الثلث لا تنفذ إلا برضى الورثة «1».

[184] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من أحكام الإسلام- لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم، بعد بيان أصول التوحيد، ذكر جملة من الأحكام- فقال سبحانه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فإنه مفروض عليكم، فيجب عليكم أن تصوموا كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فلستم أنتم وحدكم أمرتم بالصيام، بل كان الصوم شريعة في الأديان السابقة أيضا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ النار بصيامكم، فالصائم حيث يحس بالجوع و العطش و الضعف يتذكر اللّه سبحانه فيخبت قلبه و تضعف فيه قوى الشر، و ترق نفسه و تصفو روحه، و كل ذلك سبب

للتقوى و ترك المعاصي.

[185] أَيَّاماً أي إن الصيام في أيام مَعْدُوداتٍ أي محصورات، فليست أيام كثيرة لا تعد، و إنما هي ثلاثون يوما فقط- و فيه تسلية للصائم- و ليس الصيام على كل أحد فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه: ج 82 و 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 218

يضره الصوم أَوْ عَلى سَفَرٍ فقد شبه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه، و حد السفر معين في الشريعة فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فليصم في أيام أخر غير شهر رمضان، قضاء لما فاته بالمرض أو السفر وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي يطيقون الصيام، بأن يكون آخر طاقاتهم و ذلك موجب للعسر، كما لا يخفى، إذ آخر الطاقة عسر، أو أن الذي يطيق الصوم كان في أول الشريعة مخيرا بين الصيام و الإطعام، ثم وجب الصوم وحده، و ذلك للتدرج بالأمة فِدْيَةٌ أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم طَعامُ مِسْكِينٍ واحد و هو مد من الطعام فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على طعام المسكين فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون، الذي يبلغ الصوم طاقتكم خَيْرٌ لَكُمْ من الإطعام، فالإنسان إما أن يضره الصوم ضررا بالغا، و هو الذي تقدم أن يفطر و يأتي بعدة من أيام أخر، و إما أن يشق عليه إلى حد العسر، و هو الذي يبلغ منتهى طاقته، و هذا يخير بين الصيام و الإطعام و إن كان الصيام خير، و إما أن لا يشق عليه و هو الذي يجب عليه الصيام معينا مما بين في الآية التالية إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام، و ليس مفهومه، إن لم تكونوا تعلمون،

فليس الصوم خير، بل المفهوم إن لم تكونوا تعلمون، لم تعلموا إن الصوم خير.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 219

[سورة البقرة (2): آية 185]

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

[186] الأيام المعدودات المفروض فيها الصيام هي شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ مما زاد في عظمته و حرمته، إذ صار زمانا للنزول أعظم دستور للبشرية إلى الأبد في حال كون القرآن هُدىً لِلنَّاسِ يهديهم إلى الحق و إلى صراط مستقيم وَ بَيِّناتٍ أي أمور واضحات مِنَ جنس الْهُدى فليس هدى غامضا يحتاج إلى إثبات و دليل، بل واضح لائح، و من الهدى بيان لبينات، إذ يمكن أن يكون شيئا بينا من حيث الشهادة، أو المعاملة أو نحوها وَ من الْفُرْقانِ أي يفرق بين الحق و الباطل و الضلال و الرشاد فَمَنْ شَهِدَ أي حضر و لم يغب بالسفر مِنْكُمُ الشَّهْرَ أي شهر رمضان فَلْيَصُمْهُ إيجابا، و لما كان الحكم عاما استثنى منه بقوله وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ و إنما كرر تمهيدا لقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و لذا أمركم بالإفطار في السفر و المرض وَ إنما شرع عدة من أيام أخر لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي عدة الشهر، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من أكملها، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه وَ إنما

شرع الصوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 220

[سورة البقرة (2): آية 186]

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي تعظموه بسبب هدايته لكم إلى دينه و شريعته، فالصيام سبب قرب النفس إلى اللّه سبحانه، فيأتي منها التكبير عفوا، و في التأويل، المراد به تكبير ليلة الفطر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا و الدين.

[187] و حيث أن من عادة القرآن الحكيم أن يخلل الأحكام نفحة موجهة نحو اللّه تعالى، ليرتبط الحكم بالخالق، و ليشع في النفس النشاط و العزيمة، أتت أية استجابة الدعاء هنا، بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعدة آيات ترتبط بالأحكام ثانية، بالإضافة إلى أن استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان، فإنه شهر دعاء و ضراعة، و

قد ورد أن سائلا سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف ندعوا، فنزلت وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ

إليهم، قرب العلم و الإحاطة و السمع و البصر، لا قرب الزمان و المكان و الجهة، فإنه سبحانه منزه عن كل ذلك أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ الذي يدعوني إِذا دَعانِ و لعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن «إذا» ظرف، و يفيد تكرار كلمة «دعا» لتتركز في الذهن تركيزا فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي يطيعوني في أوامري و نواهي، إذ من يجيب الدعاء، يستحق أن يستجيب له الإنسان وَ لْيُؤْمِنُوا بِي إيمانا بذاتي و صفاتي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي لكي يصيبوا الحق و يهتدوا إليه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 221

[سورة البقرة (2): آية 187]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ

إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

[188] أُحِلَّ لَكُمْ الطيبات أيها الصائمون لَيْلَةَ الصِّيامِ التي تصومون غدها الرَّفَثُ أي الجماع إِلى نِسائِكُمْ و إنما عدى ب «إلى» لتعليم معنى الإفضاء، أي الانتهاء إلى زوجاتكم بالجماع. و قد

روي عن الصادق عليه السّلام في سبب نزول هذه الآية أنه قال: كان الأكل محرما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، و كان النكاح حراما بالليل و النهار في شهر رمضان، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له مطعم بن جبير، أخو عبد اللّه بن جبير الذي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة، و فارقه أصحابه و بقي في أثنى عشر رجلا، فقتل على باب الشعب، و كان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخا ضعيفا، و كان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر، فلما انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه، فرآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرق له، و كان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فأنزل اللّه هذه الآية، فأحل النكاح بالليل في

شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر «1».

هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ فكما أن اللباس يقي البدن و كما أنه ملاصق بالبدن و محرم عليه، كذلك كل من الزوجين بالنسبة إلى الآخر عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ أيها الصائمون كُنْتُمْ تَخْتانُونَ من الخيانة

______________________________

(1) عوالي اللآلي: ج 2 ص 82.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 222

أَنْفُسَكُمْ أي كنتم تخونونها بارتكاب المعصية فكأن المرتكب لها يخونها إذ يسبب لها خسارة، و كل خائن كذلك يسبب لمن خانه خسارة فَتابَ عَلَيْكُمْ ما كنتم تأتون به من المحرم في جماع أهليكم ليلا وَ عَفا عَنْكُمْ بالنسبة إلى هذا الحكم فمن الآن بَاشِرُوهُنَ أي يجوز لكم جماعهن ليلا و الأمر في مقام نفي لا يفيد إلا الجواز وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الأولاد و اللذة المحللة الموجبة للثواب، و هذا بالنسبة إلى نسخ الحكم بتحريم الجماع وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا أي يباح لكم الأكل و الشرب من أول المغرب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ بيان الخيطين أي يتضح الفجر الصادق الذي هو في وسط الظلام كخيط أبيض قرب خيط أسود ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ بالكف عن المفطرات المذكورة في الشريعة، من أول الفجر الصادق إِلَى اللَّيْلِ و هو المغرب الشرعي، و هذا بالنسبة إلى نسخ الحكم بتحريم الأكل و الشرب لمن نام قبل أن يفطر وَ لا تُبَاشِرُوهُنَ أي لا تجامعوا النساء وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ليلا أو نهارا و الاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة و يشترط فيه الصوم، و أقله ثلاثة أيام بتفصيل مذكور في الفقه، و من أحكام الاعتكاف حرمة مباشرة النساء ليلا و نهارا تِلْكَ التي

ذكرنا من أحكام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 223

[سورة البقرة (2): آية 188]

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

الصيام «1» و غيرها حُدُودُ اللَّهِ التي جعلها لأفعال العباد من الفعل فلا يجوز تركه، و الترك فلا يجوز إقحامه كحدود المدينة و الدار و نحوهما فَلا تَقْرَبُوها نهى عن الاقتراب، مبالغة في النهي عن الاقتحام و المخالفة كقوله تعالى وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «2» كَذلِكَ أي مثل هذا البيان الواضح الذي بين أحكام الصيام و غيره يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ دلائله و أحكامه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يتقوا معاصيه.

[189] ثم انتقل السياق إلى تشريع آخر له مناسبة ما ب «الأكل» الذي دار الحديث حوله في مسألة الصيام وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بالغصب و ما أشبه، و كان وجه ذكر كلمة «بينكم» أن الآكلين للغصب و نحوه يتآمرون بينهم في خفاء حتى يبرروا أكلهم وَ تُدْلُوا الإدلاء أي الإلقاء و الإفضاء أي تلقوا بِها أي بتلك الأموال إِلَى الْحُكَّامِ جمع حاكم، بمعنى القضاة بعنوان الرشوة و الهدية ليأخذوا جانبكم في أكل المال بالباطل لِتَأْكُلُوا علة لتدلوا أي علة إعطائكم الرشوة أن تأكلوا فَرِيقاً

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه: ج 37 ص 251.

(2) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 224

[سورة البقرة (2): آية 189]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

أي قسما مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ بدون حق وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بأن

أكلكم و إرشاءكم باطل و إثم.

[190] مرت أحكام كلها تحتاج إلى التوقيت من صيام و اعتكاف و محاكمات و غيرها فناسب أن يأتي تشريع الأهلة هنا مع الغض عما تقدم من أن المقصود بيان جملة من الأحكام بعد بيان أصول التوحيد يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنِ الْأَهِلَّةِ و عن سبب اختلاف الهلال في كل شهر من الهلال إلى البدر ثم إلى الهلال حتى المحاق أو عن فائدة هذا الاختلاف و لماذا لم يكن القمر كالشمس في الانتظام قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم هِيَ مَواقِيتُ جمع ميقات بمعنى الوقت و الزمان لِلنَّاسِ في عباداتهم و معاملاتهم وَ ل الْحَجِ فمن أقرض إلى شهر أو باع ليقبض الثمن، أو يدفع الثمن بعد شهرين، أو أراد الصيام و الإفطار أو الحج في أشهره لا بد و أن يكون له معلم يستند إليه و لذلك جعل اللّه الأهلة، و هذا الجواب ينطبق على السؤال بناء على الوجه الثاني في معنى «يسألونك» و أما بناء على الوجه الأول و سؤالهم كان عن سبب اختلاف الأهلة، فإن القرآن أعرض عن جوابهم لأن عقولهم ما كانت تتحمل الجواب الفلكي، و لذا عبر عن ذلك إلى فائدة الأهلة التي هم أحوج إليها، كما في آية أخرى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ «1» حيث أعرض عن جواب ماهية

______________________________

(1) البقرة: 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 225

[سورة البقرة (2): آية 190]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

المنفق أي محل الإنفاق لأن هذا هو الذي يترتب عليه الفائدة و هم بحاجة إليه، و حيث

ذكر الحج في الكلام انتقل السياق إلى ما كان يفعله الجاهليون من أنهم إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها و إنما يدخلونها من ظهورها، فنهى عن ذلك، و في هذا تلميح بأن السؤال عما لا يهمكم من الأهلة، مثل إتيان البيوت من ظهورها و كالأكل من القفا وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا تدخلوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها بأن تنقبوا البيوت و تدخلونها من النقب وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى من اللّه سبحانه بإتيان أوامره و اجتناب نواهيه وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و لو في حال الإحرام وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفلحوا بالوصول إلى السعادة الدنيوية و الأخروية.

[191] و هنا حكم آخر من أحكام الإسلام الكثيرة و هو القتال و الجهاد، و لقد كان بين هذا الحكم و بين «الحج» المتقدم مناسبة، إذ المشركون قد منعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الحج عام الحديبية، فكان على المسلمين أن يستعدوا للجهاد إن اقتضت الظروف وَ قاتِلُوا أيها المسلمون فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لحب السيطرة و الغلبة كما هو شأن ملوك الدنيا و زعمائها بل في سبيل إعلاء كلمة اللّه التي فيها سعادة البشر الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 226

[سورة البقرة (2): آية 191]

وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191)

لا كل آمن، فمن ألقى سلاحه، و سكن إلى محله، فإن في قتاله إيجاد فوضى و اضطراب لا داعي إليهما وَ لا تَعْتَدُوا إذا قاتلتم من قاتلكم فإن القتال قتال دفاع،

فلا معنى للاعتداء و أنتم مرتبطون باللّه الذي تقاتلون لأجله فلا يصح الاعتداء من أمثالكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فهو الذي يأمر بالعدل و الإحسان، فكيف يحب من اعتدى و بغى؟.

[192] وَ اقْتُلُوهُمْ أي الذين يقاتلونكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها، فمن قاتلكم قتلتموه و من أخرجكم من دياركم أخرجتموه جزاء وفاقا وَ الْفِتْنَةُ التي أثارها الكفار بتفتين المسلمين عن دينهم و إلقاء الارتياب و الشك في قلوبهم ليجلبوهم إلى حظيرة الكفر بعد أن هداهم اللّه أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ فالقتل يوجب ذهاب الدنيا و الفتنة توجب ذهاب الدين، فمن تقاتلونهم لا يستحقون عليكم أن يهرجوا بأن المسلمين يشهرون السلاح فإنهم يستحقون القتل لأنهم بدأوا بالقتال لأنهم فتنوا، و

روي أنها نزلت في مسلم قتل كافرا في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك «1»

، فبين سبحانه أن الفتنة التي تصدر من الكفار أشد من القتل وَ لا تُقاتِلُوهُمْ أي لا تقاتلوا

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 2 ص 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 227

[سورة البقرة (2): الآيات 192 الى 193]

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

الكافرين أيها المسلمون عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ و يبدءوا بالقتال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ بدءوكم بالقتال في الحرم فَاقْتُلُوهُمْ هناك كَذلِكَ الذي مر من وجوب قتال الكفار حيث وجدوا إلى آخر ما ذكر جَزاءُ الْكافِرِينَ [193] فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بأن أسلموا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر سيئاتهم حتى التي ارتكبوها قبل إسلامهم من القتال فالإسلام يجب ما قبله رَحِيمٌ بعباده المؤمنين.

[194]

وَ قاتِلُوهُمْ أي الكفار الذين يقاتلوكم لا لأجل القصاص فقط بل حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ بأن لا يفتن المسلمون عن دينهم وَ يَكُونَ الدِّينُ و الطريقة لِلَّهِ فلا يبقى منهج لسواه بأن ينتصر الحق على الباطل و هذان هما الغاية من إيجاب الدفاع فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَلا عُدْوانَ أي تعدي بالدفاع و القتال إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ الباقين على كفرهم، أي إذا انتهى المعتدون عن الفتنة و التعرض لدين اللّه و التعرض للمسلمين بالأذى و القتال فلا قتال معهم لأن القتال لا يكون إلا مع الظالمين، و سمي «عدوانا» تشبيها كما قال سبحانه في الآية المقبلة: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 228

[سورة البقرة (2): الآيات 194 الى 196]

الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196)

[195] الشَّهْرُ الْحَرامُ و هو ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب سميت هذه

الأشهر حراما لتحريم القتال فيها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ أي بمقابل الشهر الحرام فمن انتهك حرمة الشهر الحرام بالقتال فيه لم يحرم قتاله بل يقاتل وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ كما أن الجروح قصاص فمن انتهك حرمة اقتص منه في نفس الشهر أو المكان الذي انتهكت حرمته و لذا يحارب المحارب في الحرم و في الشهر الحرام فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لا أزيد من ذلك و سمي اعتداء لأنه مثل الاعتداء فالتسمية إنما هي بالمجانسة وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تتجاوزوا الحدود و لا تبالغوا في القسوة و الانتقام وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فيأخذ بأيديهم في الدنيا و يسعدهم في الآخرة.

[196] وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن الجهاد يحتاج إلى الإنفاق في تجهيز الجيش و هو من أعظم السبل وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الإنفاق للجهاد حتى يتسلط عليكم العدو وَ أَحْسِنُوا في إنفاقكم و جهادكم و سائر أموركم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

[197] ثم يرجع السياق إلى أحكام الحج الذي ألمح إليه فيما سبق، لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 229

الحج كان في مقام صلح الحديبية و حج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي ائتوا بها تماما و كاملا بإتيان مناسكهما قربة إلى اللّه تعالى لا لأجل رياء أو سمعة أو نحوهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بأن منعكم مانع عن الحج بعد ما أحرمتم فعليكم إذا أردتم التحلل عن الإحرام أن تقدموا أو تذبحوا ما اسْتَيْسَرَ أي ما أمكنكم مِنَ الْهَدْيِ الذي قدمتموه إلى اللّه، و الهدي هو البقر أو الإبل أو الغنم وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ

و هو كناية عن التحلل عن الأجسام أي لا تحلقوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الذي قرر في الشريعة من محل الحصى أو مكة أو منى كما فصل في الفقه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً لا يتمكن من أن لا يحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كأن قمل رأسه فيتأذى من هوائه فلا يتمكن من عدم الحلق فعليه إذا حلق قبل أن يبلغ الهدي محله فدية يقدمها بدل حلقه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ لستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي شاة يذبحها لأجل تعجيله في الحلق فَإِذا أَمِنْتُمْ من العدو الصاد و كذلك شفيتم من المرض و زال المانع فَمَنْ تَمَتَّعَ أي استمتع بالطيب و النساء و سائر الملذات التي يحرمها الإحرام بسبب إتيانه الْعُمْرَةَ فإن العمرة تنتهي سريعا فتحل المحرمات إِلَى الْحَجِ أي يكون تمتعه بالملذات إلى أن يحرم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 230

للحج فعليه ما اسْتَيْسَرَ أي ما تمكن عليه مِنَ الْهَدْيِ إبل أو بقر أو شاة يجب عليه ذبحها في منى أيام العيد فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي أيام الْحَجَ من ذي الحجة وَ سَبْعَةٍ أيام إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ تكون بدلا عن الهدي ذلِكَ التمتع الذي يكون عمرته مقدمة على حجه فرض لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من كان في أطراف الحرم من كل جانب أثني عشر ميلا أو نحوه على خلاف، أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام بأن كان محله عند أقل من ذلك ففرضه القرآن أو الإفراد و في كليهما يقدم الحج على العمرة، و الفرق بينهما أن القارن يعقد إحرامه بسوق الهدي دون المفرد وَ اتَّقُوا اللَّهَ في

أحكامه أيها المسلمون وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فلا تخالفوا أوامره و نواهيه. و الحج يشتمل على فرضين: (عمرة) هي:

«الإحرام و التلبية»، «و الطواف بالبيت»، «صلاة الطواف»، «و السعي بين الصفا و المروة»، «و التقصير». و (حج) هو: «الإحرام»، «و الوقوف بعرفات»، «الوقوف بالمشعر»، «الإفاضة إلى منى»، «رمي جمرة العقبة»، «نحر أو ذبح»، «حلق أو تقصير»، طواف الحج و صلاته و سعي و تقصير و طواف النساء و صلاته «طواف النساء»، «صلاة طواف النساء»، «السعي بين الصفا و المروة»، «طواف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 231

[سورة البقرة (2): آية 197]

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

الزيارة»، «صلاة طواف الزيارة»، «المبيت بمنى ليلة الحادي عشر و الثاني عشر»، «رمي الجمار الثلاث يومي الحادي عشر و الثاني عشر»، و قد أشار الشيخ البهائي إلى هذه الأعمال في بيته المشهور

أطرست للعمرة اجعل نهج أو و أرنحط رسطر مر: لحج «1»

[198] الْحَجُ في أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أو أشهر الحج أشهر معلومات و هو شوال و ذو القعدة و ذو الحجة فلا يجوز تأخيره منها كما كان الجاهلون

______________________________

(1) الالف: الإحرام لعمرة التمتّع عن حجّة الإسلام.

الطاء: طواف العمرة.

الراء: ركعتان صلوات طواف لعمرة التمتّع.

السين: السعي بين الصّفا و المروة عن عمرة التمتع.

التاء: التقصير عن عمرة التمتع لحجّة الإسلام فهناك اعمال العمرة لحجّ التمتع.

الألف: الإحرام لحجّ التمتّع.

الواو الأول: الوقوف بعرفات في 9 من ذيحجة لحجّ التمتّع.

الواو الثاني: الوقوف في مشعر الحرام ليلة العيد الى الصبح لحج التمتع.

الالف: الإفاضة إلى منى يوم العيد.

الراء:

رمي جمرة للعقبة في يوم العيد لحج التمتّع.

النون: نحر إبل أو ذبيحة لحج التمتّع.

الحاء: الحلق في يوم العيد لحج التمتّع.

الطاء: الطواف عن حجّة الإسلام.

الراء: رمي الجمرات الثلاثة في يوم الحادي عشر من ذي حجة عن حج التمتّع.

السين: السعي بين الصفا و المروة لحج التمتّع.

الطاء: طواف النساء.

الراء: رمي الجمرات الثلاثة في يوم الثاني عشر من ذي حجة عن حج التمتّع.

الميم: المبيت في منى ثلاثة ليال عن حج التمتّع.

و لا يخفى أنّ جملة (مر لحج) التي أتى بها البهائي (رحمه الله) تكون لتكملة الشعر فلا تدخل فيما أردناها من المناسك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 232

[سورة البقرة (2): آية 198]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

يفعلون حيث يؤخرون الحج، و نزل فيهم إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «1» فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَ أي في هذه الأشهر الْحَجُ فليعلم أنه لا رَفَثَ و هو الجماع وَ لا فُسُوقَ و هو السباب و المفاخرة وَ لا جِدالَ قول لا و اللّه و بلى و اللّه فِي الْحَجِ أي في حال الإحرام وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ في الحج و غيره يَعْلَمْهُ اللَّهُ و لعل ذكره هنا لكثرة احتياج الحجاج بعضهم إلى بعض في مختلف الشؤون فأريد التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم اللّه سبحانه فيجازيه على ذلك وَ تَزَوَّدُوا من الحج زادا للروح فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى و هو يحصل بكثرة هائلة في الحج حيث التجرد و الكف عن الملذات و مقامات الشدائد و الصعوبات، و يحتمل أنها نزلت فيمن لم يكن

يأخذ الزاد للحج بادعاء أنه ضيف اللّه ثم ليستعطي في الطريق فأمر بأخذ الزاد فإنه قرين بالتقوى دون الاستعطاء الذي فيه منقصة و ذلة و حرمة أحيانا وَ اتَّقُونِ أي خافوني في أعمالكم فلا تغفلوا و لا تتركوا واجبا يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا أصحاب العقول.

[199] كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فنزلت

______________________________

(1) التوبة: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 233

[سورة البقرة (2): الآيات 199 الى 200]

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بالاتجار فإنه ليس بمحرم فَإِذا أَفَضْتُمْ منها كما يندفع الماء نحو الوهاد فإن الحجاج يندفعون كالسيل مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ و هو الموقف الثاني و وقته بين طلوع الفجر و طلوع الشمس من يوم العيد وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي بإزاء هدايته سبحانه إياكم لدينه و ما يسعدكم في الدنيا و الآخرة وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل الهدي لَمِنَ الضَّالِّينَ عن دينه.

[200] ثُمَّ أَفِيضُوا من المشعر إلى منى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ من قبلكم إبراهيم عليه السّلام و ذريته وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا غفرانه و عفوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا يقتضي نظم الآية، لكن ورد أن قريشا لا يقفون بعرفات و لا يفيضون منه و يقولون نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه فيقفون بالمشعر و يفيضون منه، فأمرهم اللّه أن يقفوا بعرفات و يفيضوا منه كسائر الناس.

[201] فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم أعمالكم فالمناسك جمع

منسك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 234

[سورة البقرة (2): الآيات 201 الى 202]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202)

و هو مصدر ميمي بمعنى العمل فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فإن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك و يعدون مفاخر آبائهم و مآثرهم و يذكرون أيامهم القديمة و أياديهم الجسيمة فأمرهم اللّه أن يذكروه عوض ذكرهم آبائهم، بل يجب أن يذكروه أكثر و أحسن من ذكر آبائهم فهو المنعم الحقيقي الذي بيده كل شي ء و منه كل خير، و هنا يكون المجال واسعا لبيان نموذجين من الناس منهم من يريد الآخرة و منهم من يريد الدنيا و لذا قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي أعطنا من نعيمها و رفاهها و سعادتها و لا يسأل نعيم الآخرة لأنه غير مؤمن بها إذ كان الحج قبل الإسلام عامّا للمعتقد و المنكر وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي نصيب.

[202] وَ مِنْهُمْ أي من الناس مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا من وقى يقي أي احفظنا من عَذابَ النَّارِ فهو يسأل نعيم الدنيا و نعيم الآخرة و يتعوذ باللّه من النار.

[203] أُولئِكَ يسألون خير الدنيا و الآخرة لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا لأنهم يستحقون ثواب أعمالهم بخلاف الطائفة الأولى فإن كفرهم يمنع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 235

[سورة البقرة (2): الآيات 203 الى 204]

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)

عن ثوابهم وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فلا يظن الإنسان أن الآخرة بعيدة فإنه لا تمر الأيام و الليالي إلا و الشخص دفين في التراب و إن طال عمره في الدنيا.

[204] وَ اذْكُرُوا اللَّهَ أيها الحجاج فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ و هي أيام التشريق في منى فَمَنْ تَعَجَّلَ النفر إلى مكة من منى فِي يَوْمَيْنِ بأن نفر يوم الثاني عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فإنه يجوز النفر بعد زوال الثاني عشر وَ مَنْ تَأَخَّرَ في النفر فنفر في الثالث عشر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فيجوز كل من الأمرين لِمَنِ اتَّقى الصيد في إحرامه و إلا فإن صاد وجب عليه النفر الثاني فلا يجوز أن ينفر في الثاني عشر وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر هو الجمع و المعنى تجمعون إلى حكم اللّه و جزائه يوم القيامة.

[205] ثم يلتفت السياق إلى الإنسان طالحه و صالحه، و يبين خصائص البشر، ليعطي درسا لمن أراد الصلاح و الرشاد فيقول سبحانه: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ للباقته و فصاحته و كلامه المعسول فتستحسن كلامه و تصغي إلى بيانه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أما متعلق ب «قوله»، أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 236

[سورة البقرة (2): الآيات 205 الى 206]

وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ

(206)

قوله في شؤون الدنيا معجب، أو متعلق ب «يعجبك» أي أن إعجابك إنما هو في الدنيا، و الأول أقرب وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ كما هو شأن المنافقين أبدا فإنهم حيث يرون نفاقهم يظنون أن الناس مطلعون على سرائرهم فيؤكدون بأنهم مخلصون و أن ما في قلبهم يطابق ما على لسانهم وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ الألد هو شديد الخصومة و الخصام جمع يعني أنه من أكبر خصمائك في الباطن.

[206] وَ إِذا تَوَلَّى و أدبر و ذهب من عندك سَعى فِي الْأَرْضِ من هنا إلى هناك كما هو شأن المشاغب المفسد لِيُفْسِدَ فِيها بإثارة الفوضى و الاضطراب وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ أي الزراعة وَ النَّسْلَ أي الأولاد و الذرية فإن إثارة الفوضى يوجب خراب الزراعات لاشتغال أهلها بالكفاح، و فناء النسل إذ الشباب دائما يقدمون على الحرب و الجلاء وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ.

[207] وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في عملك فلا تفسد أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته عزة و حمية الجاهلية بأن يأثم لأنه لا يرضخ للحق و لا يعتني به فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي تمكينه جهنم جزاء له وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ أي محل القرار، و هذه الآيات نزلت في المنافقين أو في فرد خاص منهم يسمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 237

[سورة البقرة (2): الآيات 207 الى 208]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

الأخنس بن شريق، كان يظهر المحبة للنبي و يبطن الفساد و النفاق، و لعل وجه ارتباط هذه الآيات بالحج أن الكلام انتهى هناك حول

من يفتخر بالآباء اعتزازا بالنفس و هذا مثلهم في الاعتزاز و الاغترار.

[208] وَ مِنَ النَّاسِ أي بعض الناس مَنْ يَشْرِي أي يبيع فإن كلا من البيع و الشراء يجي ء بمعنى الآخر نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاه سبحانه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يرأف بهم فيجازيهم لعملهم الحسن، و لعل ذكر الرأفة لأجل أن هذا البيع يحتوي على أخطاء و أضرار، ففيه تنبيه إلى أن اللّه رؤف يجنب البائع الأخطار و الإضرار، و هذه الآية نزلت في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام حين نام في فراش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الهجرة.

[209] و حين ذكر أن من الناس من هو منافق ناسب الإرشاد العام فقال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ مع اللّه و رسوله في جميع أموركم كَافَّةً أي جميعا فاستسلموا للدين في جميع شؤونكم وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بأن تخالفوا أمر اللّه سبحانه و تتبعوا أمر الشيطان و ما يوحي اليه الهوى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدو ظاهر لأنه يأمر بالمفاسد التي ترجع إلى ذهاب دينكم و دنياكم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 238

[سورة البقرة (2): الآيات 209 الى 211]

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211)

[210] فَإِنْ زَلَلْتُمْ تشبيه للذنب بمن يزل له قدم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة

الواضحة على الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ فلا يمتنع عليه العذاب و العقاب بمن زل حَكِيمٌ في فعله ليعفوا عمن يشاء و يعذب من يشاء.

[211] و هنا يعود السياق إلى من تأخذه العزة فيقول سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ النظر بمعنى الانتظار أي هل ينتظر هؤلاء المنافقون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حتى يؤمنوا و يقلعوا عن نفاقهم و كفرهم فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ظلل جمع ظلة و هي ما يستظل به من الشمس و سمي السحاب ظلة لأنه يستظل به من الشمس، و الغمام هو السحاب و قد كانت اليهود تزعم أن اللّه ينزل في ظلل من الغمام و كذلك الملائكة معه و لذا قال:

وَ الْمَلائِكَةُ عطفا على «اللّه» وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أي يوم تغيير الكون عن وضعه لا يبقى بعد مجال للتكليف إنما هو يوم القيامة وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ و يكون ذلك اليوم يوم حساب و عقاب و ثواب، لا يوم عمل و شغل، فالآية تشير إلى أساطير أهل الكتاب متهكما ساخرا، ثم يهدد و يوعد بأن الأمر يقضي فلا مجال بعد التكليف.

[212] و حيث أشير إلى أسطورة إسرائيلية، توجه السياق إلى تأنيب بني إسرائيل الذين كانوا يعاندون في إنكارهم للآيات سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي أعطيناهم أدلة واضحة و مع ذلك عاندوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 239

[سورة البقرة (2): الآيات 212 الى 213]

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ

مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

و لم يؤمنوا وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ كفرا فلا يؤمن بآياته مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فليهيئ نفسه لعقابه.

[213] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة القريبة مقابل الحياة البعيدة و هي الآخرة و التي زينها لهم هي مجموعة عوامل بعضها حق و بعضها باطل فإن الحياة التي خلقها اللّه جميلة تزين نفسها كما أن الشيطان و النفس و الهوى تزين الحياة لتصرف الناس عن الآخرة وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا حيث يرونهم منصرفين عنها مقبلين إلى الآخرة- التي لا يعتقد هؤلاء الكفار بها- وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا من المؤمنين فَوْقَهُمْ أي فوق هؤلاء الكفار منزلة و مقاما و رتبة يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم عملوا لها فأدركوا خيرها و الكفار لم يعملوا فيبقون هناك سائلين وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فالرزق في الدنيا ليس بالكفر و التوجه إليها حتى يحرم أهل الآخرة منها بل الرزق يصيب الكافر و المؤمن، فالمؤمن منعم في الدنيا و فوق الكافر في الآخرة.

[214] إن كل حركة إصلاحية لا بد و أن تشق صفوف الناس المتصافقة على الفساد و هكذا كان بعث الأنبياء عليهم السّلام فقد كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 240

اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أصلح وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر أو عصى وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ قيد توضيحي إذ كل إنزال من اللّه بالحق و إنما أكد لمقابلته لسائر الكتب التي ترسلها رؤساء الحكومات إلى رعاياها فإن

منها ما هو حق و منها ما هو باطل لِيَحْكُمَ ذات الكتاب بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمور معاملاتهم و سائر معاشراتهم و الاختلاف هنا لا ينافي كون الناس أمة واحدة إذ وحدة الأمة تجتمع مع هذا النوع من الاختلاف ثم صار نفس الكتاب محلا لاختلاف الأمة فيه، لكن هذا الاختلاف ليس عن واقع و شك، لأن الكتاب واضح بل عن حسد و بغي و طمع وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الكتاب بأن فسره كل حسب نظره و هواه إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الأمة التي أعطيت الكتاب مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الأدلة الواضحة على معاني الكتاب بَغْياً بَيْنَهُمْ أي الاختلاف إنما نشأ من البغي و الظلم و الحسد الحاصل بينهم فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا حقيقة و أرادوا اتباع أحكام اللّه واقعا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ أي للشي ء الذي اختلفت الأمة فيه بِإِذْنِهِ أي بلطفه بهم حيث هداهم وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 241

[سورة البقرة (2): الآيات 214 الى 215]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

معناه الإيصال إلى المطلوب و هو ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع و إما معناه إرائة الطريق و معنى من يشاء إنه لو لم يشأ لا يهدي أحد، إذ الهداية لا

تكون إلا بإرسال الرسل، و الأول أنسب بالسياق.

[215] ثم يسأل اللّه المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الخلاف حيث يحاربونهم الكفار لأجل أنهم اهتدوا بهدي اللّه أَمْ حَسِبْتُمْ أي بل حسبتم و ظننتم أيها المسلمون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اعتباطا و بلا مشقة و حرج وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ أي لم يأتكم بعد امتحان مثل امتحان الأمم المؤمنة السالفة الذين ثبتوا و صبروا تجاه الأحزان و الكوارث و إنما قال «مثل» لأنهم صاروا مثلا للصبر و تحمل المكاره مَسَّتْهُمُ أي لمستهم الْبَأْساءُ الفقر وَ الضَّرَّاءُ المرض و الحرج و أشباههما وَ زُلْزِلُوا أي حركوا بأنواع المحن و البلايا حَتَّى وصل الحال إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ لتلك الأمم وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ استعجالا للنصر الموعود و تمنيا للخلاص من الشدائد و المحن، فاستدرك الأمر و أجيب سؤالهم بأنه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ و هذا جواب طبيعي يقوله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون كلما رأوا البلاء و المحن، و في الآية تعبير المؤمنين و أنهم إنما يفوزون بسعادة الدنيا و الآخرة بعد مثل هذه الكوارث و المتاعب.

[216] و يأتي هنا دور أسئلة وجهت إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أجاب عنها القرآن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 242

[سورة البقرة (2): آية 216]

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

الكريم يجمعها الإقلاع عن الملذات و الصبر على الطاعة و بهذا يرتبط السياق بما قبله حيث

كان الكلام في معرض التضحية في سبيل العقيدة و الإيمان و ما يأتي نوع من التضحية يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه من أقسام الأموال قُلْ ليس لهم الإنفاق فإنه أي شي ء كان يقبل إذا كان المنفق عليه أهلا كما أنه لا يقبل إذا كان المنفق عليه غير أهل فمعيار الإنفاق ليس ماهية المنفق و إنما شخص المنفق عليه ف ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فاللازم أن يكون للوالدين وَ الْأَقْرَبِينَ أقربائكم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و أشباه ذلك مما يقصد به وجه اللّه سبحانه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ إنفاق أو غيره فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بالخير خيرا. و

روي أنها نزلت في عمرو ابن الجموح، و كان شيخا كبيرا كثير المال فقال يا رسول اللّه بما ذا أتصدق؟ و على من أتصدق فأنزل اللّه هذه الآية «1».

[217] ثم رجع السياق إلى الآية السابقة التي فيها ذكر التضحية و الزلزال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ مع من تعدى عليكم أو على العقيدة الصحيحة أو على الناس وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ تكرهونه وَ عَسى

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 1 ص 239.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 243

[سورة البقرة (2): آية 217]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)

بمعنى «قد» و ما

بعده فاعله أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و القتال من ذلك فإنه يوجب سيادتكم و سعادتكم وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ و ترك القتال كذلك لما فيه من راحة الجسم و عدم اضطراب القلب لكنه شر لما فيه من زوال السيادة و العزة و تسلط الكفار و الأجانب وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه خيركم و شركم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

[218] بعث رسول اللّه بسرية فاتفق أن قاتلت في شهر رجب و هي تترد في أن اليوم الذي حاربت فيه من جمادى أو رجب، و شهر رجب من الأشهر الحرم، و لذا كثر صخب المشركين و إنه كيف يقاتل الرسول في شهر حرام و أتى وفدهم إلى المدينة يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل شهر أي يسألونك يا رسول اللّه عن القتال في الشهر الحرام قُلْ قِتالٌ فِيهِ أي في الشهر الحرام كَبِيرٌ في نفسه لا يجوز وَ لكن ليس كبر ذنبه مثل عظم ذنب ما تفعلونه أنتم أيها المشركون ف صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي المنع عنه بأن لا يسلم أحد وَ كُفْرٌ بِهِ أي باللّه سبحانه وَ صد عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لئلا يحج المسلمون وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ أي أهل المسجد الحرام مِنْهُ كما فعل المشركون بالنبي و المسلمين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 244

[سورة البقرة (2): آية 218]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فكيف تؤاخذون المسلمين بذنب مهما عظم و تنسون ذنوبكم التي هي أعظم

منه وَ الْفِتْنَةُ التي أنتم تقيمون عليها من تفتين المسلمين عن دينهم و إغرائهم بالكفر بعد الإسلام أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ الذي صدر من المسلمين، فالقتل يفسد دنيا المقتول و الفتنة تفسد دين المفتتن و أخراه وَ لا يَزالُونَ أي لا يزال الكفار يُقاتِلُونَكُمْ أيها المسلمون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إلى الكفر إِنِ اسْتَطاعُوا أن يردوكم وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ أيها المسلمون عَنْ دِينِهِ إلى الكفر فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ في مقابل من ارتد و رجع حتى مات مؤمنا فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و الحبط هو الإبطال و الإفناء فلا حسنة لهم و لم ينتفعوا بإيمانهم السابق على الكفر فِي الدُّنْيا فليس لهم احترام المسلم و حقوقه وَ الْآخِرَةِ فلا يجزى بالجنة و الثواب وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

[219] و هناك ظن أناس أن القاتل في رجب إن سلم من الإثم لم يكن له أجر لأنه انتهك حرمة الشهر الحرام فأنزل اللّه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا بأن قطعوا ديارهم و أهليهم و خلفوا أموالهم لأجل أن يكونوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 245

[سورة البقرة (2): آية 219]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ جاهَدُوا أي أوقعوا أنفسهم بالجهد و التعب، و أوضح أفراده المقاتلة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لكسب مراضيه أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ يأملونها في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر لمن زل و رَحِيمٌ بعباده المؤمنين فلا ينقص أجورهم و إنما قال:

«يرجون» لأن الإنسان لا

يدري ما حاله في المستقبل و إنه هل يبقى على الإيمان و الصلاح حتى يثاب أم يفتن في دينه حتى يحبط عمله.

[220] يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ الْخَمْرِ و هي كل مسكر و أظهر أفراده المسكر المتخذ من العنب وَ الْمَيْسِرِ و هو القمار بجميع أصنافه و السؤال كان عن حكمهما قُلْ يا محمد فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي وزر عظيم لما فيهما من الفساد الكبير وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فإن الخمر تفيد اللذة و الطرب و في الاتجار بها ثمن و ربح و القمار فيه لذة للاعب و ربح للفائز وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما إذ الفساد الذي يسببانه في البدن و العقل و المال أكبر من اللذة و الربح الذي يحصل بسببهما بالإضافة إلى العقوبة الأخروية التي تصيب الإنسان من جرائها.

وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا يُنْفِقُونَ و هنا جاء الجواب طبق السؤال و إنه «ماذا» لا إنه «لمن» فقال قُلْ يا محمد الْعَفْوَ أي الزائد من المال على النفقة فإن ما بقدر نفقة النفس و الأهل لا ينفق تقديما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 246

[سورة البقرة (2): آية 220]

فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

لواجبي النفقة على غيره و هذا الإنفاق مستحب لما دل على حصر الحقوق الواجبة في أمور معدودة كَذلِكَ أي هكذا يا رسول اللّه فإن كذا تشبيه و إشارة و الكاف الملحق بها اللام للخطاب يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الأدلة المرتبطة بالتشريعات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي لكي تتفكروا.

[221] فِي أمر الدُّنْيا وَ أمر الْآخِرَةِ فتجمعوهما في

التفكير ثم ترون جمال الأحكام إذ التفكير في الدنيا فقط يوجب شلل قسم من الأحكام فلما ذا ينفق الإنسان- مثلا- و هو بحاجة إلى المال، كما إن التفكير في الآخرة فقط يوجب شلل قسم آخر من الأحكام فلما ذا لا ينفق الإنسان جميع أمواله لتحصيل أجر الآخرة و هكذا سائر الأحكام فلا يعرف جمالها إلا إذا افتكر الإنسان في كلتا الحياتين و عرف المصلحتين وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كيف يعاشروهم فقد ورد أنه لما نزل وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» ذهب كل من عنده يتيم ليعزل اليتيم في مأكله و مشربه عن نفسه لئلا يبتلي بماله و اشتد ذلك عليهم فسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزلت قُلْ يا رسول اللّه إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ بأن يصلح الإنسان أموال اليتيم و يعاشره معاشرة المصلحين بدون أجرة و عوض خير من عزلهم و طردهم وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ بأن تخلطوا أموالهم

______________________________

(1) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 247

[سورة البقرة (2): آية 221]

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

بأموالكم و تشاركون معهم بالنسبة و حفظ المقدار فهم إخوانكم في الإيمان و الأخ يعاشر الأخ بالإصلاح و الغبطة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فهو عارف بنية المخالطين للأيتام و إنهم يريدون بالمخالطة الإفساد و أكل مال اليتيم أو الإصلاح و التحفظ على اليتيم حتى يبلغ و يرشد

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي أوقعكم في العنت و المشقة بالنسبة إلى اليتيم بأن يوجب الاجتناب عن أموالهم و اعتزال أموالكم عن أموالهم فحيث أنه لم يفعل ذلك رحمة بكم فلا تأكلوا أموالهم فسادا و طمعا إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ فهو يقدر- بعزته- من إعناتكم حَكِيمٌ لا يفعل إلا الصلاح و ما تقتضيه الحكمة.

[222] ثم انتقل السياق إلى فئة من أحكام الأسرة في النكاح و الطلاق و شؤونها و لعل الارتباط العام بين هذه الآيات و الآيات السابقة أنها انتهت إلى حكم اليتيم، فاللازم بيان العش الذي يتربى فيه فراخ الإنسان، و إنه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسما و عقلا و عاطفة وَ لا تَنْكِحُوا أيها الرجال المسلمون النساء الْمُشْرِكاتِ سواء كن أهل كتاب أم لا فأهل الكتاب أيضا مشركون كما قال سبحانه فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «1» حَتَّى يُؤْمِنَ و يدخلن في الإسلام وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ تلك

______________________________

(1) النمل: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 248

[سورة البقرة (2): آية 222]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

المشركة لجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بناتكم أيها المسلمون حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ تزوجوه بنتكم خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ ذلك المشرك أُولئِكَ المشركات و المشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إما بالتبليغ إلى الشرك و إما بحكم دينهم فإن جليس الإنسان إذا كان غير متدين لا بد و أن يسري إلى جليسه وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ

الْمَغْفِرَةِ أي غفران الذنوب بِإِذْنِهِ فالمسلمات و المسلمون حين أخذوا مبادئهم عن اللّه سبحانه لا بد و أن يدعون بلسانهم أو بحكم دينهم إلى الجنة وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ أحكامه و دلائله لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي لكي يتذكروا و يتعظوا و يرشدوا.

[223] وَ يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه عَنِ الْمَحِيضِ الحيض و المحيض بمعنى واحد و أنه هل يجوز مقاربة النساء في حالة الحيض أم لا قُلْ يا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هُوَ أي المحيض أَذىً قذر نجس أو مشقة فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ و الاعتزال هو الابتعاد عنهن وَ لا تَقْرَبُوهُنَ بالجماع حَتَّى يَطْهُرْنَ و ينظفن عن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ عن الدم فَأْتُوهُنَ جامعوهن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 249

[سورة البقرة (2): آية 223]

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بمقاربتهن من الفرج الذي هو محل الدم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ الذين يرجعون كثيرا عن ذنوبهم إلى الندم و الاستغفار بمعنى أنهم كلما أذنبوا تابوا و رجعوا و استغفروا و لعل ذكر التواب بمناسبة أن من زل فقارب في المحيض يقبل اللّه توبته و إن تكرر منه إذا ندم ندما حقيقيا و تاب توبة نصوحا وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء عن الأقذار الباطنية و الظاهرية أو بالاستغفار عن الذنوب.

[224] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي مزرعة و محترث فكما يحرث الحارث البذر في الأرض كذلك يحرث الرجل في زوجته فَأْتُوا حَرْثَكُمْ و زرعكم أَنَّى شِئْتُمْ «أنى» إما زمانية بمعنى أي وقت شئتم، باستثناء أيام الحيض التي سبق أنها لا يجوز و سائر ما استثنى من حال الصوم

و الإحرام و شبههما، و إما مكانية أي إتيانها في قبلها من خلفها أو قدامها أو جانبيها، أو بمعنى الكيفية باركة و نائمة و قائمة، أما أن يراد سياق السبيلان فبعيد عن سياق الآية وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ بالولد فإنه يبقى ذخرا لكم، أو قدموا لأنفسكم بالطاعة حيث ذكرت أوامر و نواهي وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ و الملاقاة هنا بمعنى أنه عليكم حساب الملاقي لملاقيه وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بأنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 299

[سورة البقرة (2): الآيات 224 الى 225]

وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

يفوزون بكل كرامة.

[225] و ناسب قصة النساء حلف بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه و لا يكلمه و لا يصلح بينه و بين امرأته فكان يقول: إني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله، فنزلت الآية مما ناسب قصة العائلة و النساء التي سبقت، و تأتي، فقال سبحانه: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً أي معرضا لِأَيْمانِكُمْ بأن تحلفوا به أَنْ تَبَرُّوا أي لئلا تبروا، أي تريدون بالحلف عدم البر وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أي و عدم التقوى و عدم الإصلاح، فإن هذه اليمين فاسدة لا تنعقد وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم و أقوالكم عَلِيمٌ بأحوالكم و نياتكم.

[226] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ و لا يعاقبكم بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ جمع يمين، و يمين اللغو هو ما يجري على عادة الناس من قول: لا و اللّه

و بلى و اللّه من غير عقد على يمين يقتطع بها مال و لا يظلم بها أحد وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بحنث يمين نويتم اليمين الحقيقية حين إجرائها وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر الذنب حَلِيمٌ يحلم عن العصاة لعلهم يتوبوا، و تكرار كلمة غفور في كثير من الآيات لفتح باب التوبة أمام العصاة الذين هم كثيرا ما يعصون عن شهوة و نزوات و هوى، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 251

[سورة البقرة (2): الآيات 226 الى 228]

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

اللّه سبحانه لا يسد عليهم باب التوبة و إن تكررت منهم المعاصي و الذنوب.

[227] ثم يرجع السياق إلى أحكام الأسرة مع مناسبة للحكم مع الحلف فيقول سبحانه: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ و الإيلاء هو الحلف على ترك وطي المرأة على وجه الإضرار بهن تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مبتدأ لقوله «للذين» أي توقف أربعة أشهر جائز للذين يؤلون من نسائهم و ذلك لأن للرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر و بعد ما تم أربعة أشهر خيره الحاكم بين الوطي و الكفارة و بين الطلاق و إن امتنع عن الأمرين حبسه فَإِنْ فاؤُ و رجعوا إلى زوجاتهم بالوطي بعد الأشهر الأربعة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم بهذا الحلف

رَحِيمٌ بهم.

[228] وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فطلقوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للطلاق عَلِيمٌ بالضمائر و النيات.

[229] وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ أي يصبرن بِأَنْفُسِهِنَ أي يحفظنها عن الزواج و نحوه ثَلاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء و هو من ألفاظ الضد يطلق على الحيض و على الطهر و المراد هنا الطهر فإذا طلقت المرأة في طهر لم يواقعها فيه الرجل كان هذا الطهر و طهران آخران بينهما حيض موجبا لانتظار العدة فإذا رأت الدم الثالث انقضت عدتها وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 252

يَكْتُمْنَ أي يخفين ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَ من الولد و دم الحيض حتى يبطلن حق الرجعة في الطلاق الرجعي أو يستعجلن العدة إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يوم القيامة، فمن آمن بهما لا بد و أن تستقيم حركاته و سكناته و أقواله و أفعاله، لأنه يعلم أن اللّه مطلع عليه و أنه سوف يحاسبه وَ بُعُولَتُهُنَ أي أزواج المطلقات الرجعيات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ إلى أنفسهم فِي ذلِكَ أي زمان التربص إِنْ أَرادُوا أي البعولة بردهن إِصْلاحاً لا إضرارا، و ذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة و تركها، حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى و تركها مدة كما فعل في الأولى ثم راجعها و تركها مدة ثم طلقها أخرى، و هذا العمل حرام و إن كان يثبت حكم الرجعة به وَ لَهُنَ أي حق النساء على أزواجهن مِثْلُ الَّذِي للأزواج عَلَيْهِنَ فلكل على الآخر حقوق تتكافأ بِالْمَعْرُوفِ من العشرة و سائر الأمور وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَ زيادة دَرَجَةٌ فإن بيده الطلاق و له عليها الطاعة وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ينفذ أوامره حَكِيمٌ جعل

أحكامه على طبق المصلحة و الصلاح، و من المحتمل أن يكون قوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ بيان حال العدة أي أن لكل من الزوج و الزوجة حقا على الآخر في حال العدة مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 253

[سورة البقرة (2): آية 229]

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

[230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فإن للرجل أن يطلق زوجته تطليقتين فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك و حفظ لها في حبالته بِمَعْرُوفٍ بالعشرة الحسنة أَوْ تَسْرِيحٌ و طلاق ثالث بِإِحْسانٍ بإعطائها حقوقها و عدم التعدي، و فوق ذلك إنه يحسن إليها جبرا لخاطرها المكسور.

وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أيها الأزواج أَنْ تَأْخُذُوا في حال الطلاق و الاستبدال مِمَّا أي من الذي آتَيْتُمُوهُنَ و أعطيتموهن من المهور شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ من حقوق الزوجية فَإِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ من حقوق الزوجية فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْهِما أي على الزوجة في البذل و على الزوج في قبول البذل فِيمَا أي في الذي افْتَدَتْ الزوجة بِهِ من المال تِلْكَ الأحكام المذكورة هي حُدُودَ اللَّهِ و أوامره و نواهيه فَلا تَعْتَدُوها و لا تجاوزوها بالمخالفة وَ مَنْ يَتَعَدَّ منكم و يتجاوز حُدُودَ اللَّهِ و يخالف أوامره و نواهيه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص:

254

[سورة البقرة (2): الآيات 230 الى 231]

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

[231] فَإِنْ طَلَّقَها طلاقا ثلاثا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الطلاق الثالث فإنها تحرم عليه حَتَّى تَنْكِحَ المرأة المطلقة ثلاثا زَوْجاً غَيْرَهُ و يسمى هذا الزوج محللا فَإِنْ طَلَّقَها أي طلق المرأة الزوج الثاني و انقضت عدتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجة و الزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أي الزوجان أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ في حسن الصحبة و المعاشرة و إن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب للمعصية، و الحاصل أن الحكم الوضعي الصحة و إن كان الحكم التكليفي الحرمة كمن يغسل يده النجسة بالماء المغصوب الذي يوجب طهارة يده لكنه فعل حراما وَ تِلْكَ المذكورات في باب الطلاق و النكاح حُدُودَ اللَّهِ أوامره و نواهيه يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الأمور فإنهم هم الذين ينتفعون بهذه الأحكام.

[232] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي قاربن تمام العدة و إنما عبر بهذا التعبير لأن انقضاء العدة يعبر عنه بانقضاء الأجل فما يقابله بلوغ الأجل إذا قاربه، إذ البلوغ الدقي خارج عن محاورة العرف فَأَمْسِكُوهُنَ أي احفظوهن في حبالتكم بالرجوع

إليهن في عدة الرجعة بِمَعْرُوفٍ الذي يعرفه العقلاء و المشرعون من القيام بحقوق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 255

[سورة البقرة (2): آية 232]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

الزوجة أَوْ سَرِّحُوهُنَ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن بِمَعْرُوفٍ بإعطاء حقوقهن كاملة من غير إيذاء لهن وَ لا تُمْسِكُوهُنَ بأن ترجعوا إليهن ضِراراً بقصد الإضرار بهن لتطويل العدة أو التضييق في النفقة- كما تقدم- لِتَعْتَدُوا عليهن و تظلموهن وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الإمساك بقصد الإضرار فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لأنه أساء بسمعته عند الناس و عرض نفسه لعذاب اللّه و سخطه وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ أحكامه و أوامره و نواهيه هُزُواً سخرية بأن تستخفوا بها وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث أنعم عليكم بكل نعمه، التي منها نعمة الزوجة التي تسكنون إليها و تقضون مآربكم بسببها وَ اذكروا ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ فشرفكم بتعلمكم الأحكام و إرشادكم إلى ما يصلحكم و يهيئ لكم حياة سعيدة يَعِظُكُمْ بِهِ أي بذلك الكتاب، و هذا إما صفة للكتاب أو جملة مستأنفة وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أوامره و نواهيه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلا يفوته عملكم و نيتكم فلا تتعرضوا لسخطه و غضبه.

[233] وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي انقضت عدتهن- و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 256

[سورة البقرة (2): آية 233]

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ

بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

بقرينة: أن ينكحن- فَلا تَعْضُلُوهُنَ أي لا تمنعوهن ظلما أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ إلى الزوج السابق أو من تريد الزواج به فعلا و سمى زوجا للأول و ربما قيل في وجه النزول أن معقل بن يسار عضل أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج الأول و هو عاصم بن عدي حين طلقها و خرجت من العدة ثم أراد أن يجتمعا بنكاح جديد فمنعهما من ذلك، و لو كان كذلك كان المراد بأزواجهن بالمعنى الأول فإنه لا يحق لأحد أن يمنع المرأة الثيبة في الرجوع إلى زوجها بنكاح جديد إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ مما أباحه شرع الإسلام من شروط النكاح و آداب العشرة ذلِكَ المذكور من تحريم العضل يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المؤمن يجتنب سخط اللّه و يبتغي رضاه ذلِكُمْ الذي ذكرنا في باب الزواج أَزْكى لَكُمْ أنمى لكم وَ أَطْهَرُ لنفوسكم فإن في الزواج النسل و التحصن و سير الحياة إلى الأمام وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فاتبعوا أوامره و انتهوا عن زواجره.

[234] وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ فإن الأم ترضع ولدها سنتين تامتين أربعة و عشرين شهرا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 257

ندب إليها الإسلام و من العلماء من أوجب ذلك وَ عَلَى الْمَوْلُودِ

لَهُ أي الأب، و إنما عبر بهذا التعبير إثارة للعاطفة، له فإن الأب قد ولد له الولد فاللازم أن يحنو عليه رِزْقُهُنَ الإدام و الطعام وَ كِسْوَتُهُنَ اللباس بِالْمَعْرُوفِ لدى الشرع و العرف من اللائق بحالها فإن على الأب أن يقوم بهذه الشؤون ما دامت الأم في الرضاع، و قد استفاد أكثر المفسرين من هذه الجملة كون الكلام حول الأم المطلقة و إلا فالرزق و الكسوة على الزوج لأجل النكاح لا لأجل الرضاع لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها فكل من الأب و الأم يؤدي واجبه في حدود طاقته فلا تتحمل الأم الرضاع بلا بدل و لا ينتفع الأب بولده في المستقبل مجانا فسعة هذه أن ترضع ببدل، و سعة ذاك أن يدفع الأجر لما يعود نفعه إليه لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بأن ترضع مجانا و بلا عوض باستغلال الأب عاطفة الأم للولد فلا ينفق عليها، أو بمعنى أن الوالدة لا يؤخذ منها الولد ليعطي للأجنبية غيظا من الأب عليها فتضر بفراق ولدها وَ لا يضار مَوْلُودٌ لَهُ أي الأب بِوَلَدِهِ بأن تستغل الأم عاطفة الأب نحو الولد فتكلفه أكثر من الكسوة و الرزق قبال رضاعها، أو لا يضر الأب بولده بأن يأخذه من الأم و يعطيه للأجنبية، فإن لبن الأم أوفق بالولد، و الأول أقرب إلى السياق وَ عَلَى الْوارِثِ للأب إذا مات الأب مِثْلُ ذلِكَ الرزق و الكسوة للأم في حال رضاعها للولد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 258

[سورة البقرة (2): آية 234]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

و لا يخفى

أن أجر رضاع الصبي مما يرثه الصبي من أبيه لدى موت الأب فَإِنْ أَرادا أي الأب و الأم فِصالًا للولد عن الرضاع بأن يفطماه قبل الحولين عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ بأن تشاور الأبوان و تراضيا في فطام الولد قبل العامين و ذلك لئلا يتضرر الصبي إذا استقل أحدهما بالفطام فإن الرضا المتعقب للمشورة لا يكون إلا إذا كان الانفصال صلاحا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الأبوين في هذا الفطام وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أيها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بأن تستأجروا لهم مرضعات غير أمهاتهم فَلا جُناحَ و لا حرج عَلَيْكُمْ في ذلك إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المرضعات ما آتَيْتُمْ و وعدتم لهن من الأجر بِالْمَعْرُوفِ أي تسليما بالمعروف بدون نقصان و مطل و من، و هذا شرط تكليفي لا وضعي، كما هو كثير في القرآن الحكيم، لغاية الإلفات إلى لزوم كون الأعمال عن صدق و إخلاص و تقوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم التي منها الأحكام السالفة حول الرضاع وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يغيب شي ء عنه و لا تخفى عليه خافية، فلتكن أعمالكم حسب مراضيه و أوامره.

[235] وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي الرجال الذين يموتون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 259

[سورة البقرة (2): آية 235]

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً أي يخلفون زوجاتهم يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ أي يحفظن أنفسهن عن الزواج و لعل

في قوله إشارة إلى أن النفس و لو كانت تطمح نحو الزواج لكن الواجب اصطبارها و التحفظ عليها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً ففي هذه المدة يجب عليها الحداد بترك الزينة و الخطبة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ و انقضت المدة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المسلمون فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ من الزينة أو الخطبة أو النكاح فإنها ترجع إلى نفسها و الناس مسلطون على أنفسهم بِالْمَعْرُوفِ بأن لا تعمل منكرا ينافي الإسلام وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيطلع على أعمالهم، و لا يفوته شي ء من إطاعتكم و مخالفتكم.

[236] وَ إذا كانت المرأة في العدة ف لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الراغبون في الزواج منهن فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن تلمحوا إلى رغبتكم في الزواج منهن و تعرضوا على ذلك تعريضا و إشارة من طرف خفي، لا تصريحا فإن ذلك خلاف الجو الذي يحيط بالمرأة المعتدة من الربط الباقي بينها و بين زوجها الأول أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ بأن أضمرتم إرادة زواجهن بدون أن تصرحوا أو تلمحوا بذلك فإن الكناية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 260

اللفظية و الإضمار القلبي لا جناح فيهما عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ أيها الرجال سَتَذْكُرُونَهُنَ و هن في العدة إرادة للزواج بهن وَ لكِنْ لا تصرحوا بالخطبة و لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا في الخلوة فتبدوا رغبتكم في الزواج بهن في منأى من الناس إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً بالكناية و التلميح لا بالتصريح و ذكر ما يقبح ذكره كما كانت عادة بعض الناس.

وَ لا تَعْزِمُوا أي لا تقصدوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي إجراء الصيغة التي هي كعقدة تعقد النكاح بين الجانبين، و قد نهى عن العزم على ذلك مبالغة، كقوله: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» حَتَّى

يَبْلُغَ الْكِتابُ الذي كتبناه في باب العدة من أربعة أشهر و عشرا «2» أَجَلَهُ أي أمده، بأن تنقضي العدة وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من عزم النكاح فكيف بما تسرون به من نكاح المعتدة سرا فَاحْذَرُوهُ أن تخالفوه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر عاجلا فلا يغرنكم ستره حَلِيمٌ عليم فلا يعجل بالعقوبة فلا يسبب ذلك جرأتكم على انتهاك حرماته.

______________________________

(1) الأنعام: 153.

(2) راجع موسوعة الفقه: ج 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 261

[سورة البقرة (2): الآيات 236 الى 237]

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

[237] و بعد بيان حكم موت الزوج، يأتي حكم الطلاق، و الطلاق إن كان قبل الدخول و لم يذكر في العقد مهر فللمرأة المتعة، و إن كان قبل الدخول و ذكر المهر فللمرأة نصف المهر لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأزواج إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ بالدخول أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً «أو» بمعنى الواو، أي لم يكن شي ء من الأمرين لا المس و لا المهر، و يسمى المهر فريضة لأنه يجب إذا سمي، و المعنى أنه يباح الطلاق قبل المس و الفرض، فلا يتوهم أحد أن النكاح لأجل الوطي فكيف يصح الطلاق قبله وَ مَتِّعُوهُنَ أي أعطوهن المتعة و هي ما تتمتع به المرأة و يوجب تعويضا

يجبر خاطرها الكسير عَلَى الْمُوسِعِ أي الغني يقال أوسع الرجل إذا كثر ماله قَدَرُهُ من دار أو خادم أو نحوهما وَ عَلَى الْمُقْتِرِ أي الفقير يقال أقتر الرجل إذا افتقر قَدَرُهُ كخاتم أو درهم أو نحوهما مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ ليس فيه إسراف و لا تقصير حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون طاعة الأوامر و الانتهاء عن الزواجر.

[238] وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ طلاقا قبل الدخول وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بأن عينتم في النكاح المهر فعليكم أن تدفعوا إلى المرأة نصف ما فَرَضْتُمْ نصف المهر، هذا هو الحكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 262

[سورة البقرة (2): آية 238]

حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238)

الواجب إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي تعفي المرأة عن نصفها فلا تأخذ شيئا و تهب مالها إلى الزوج أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يمكن أن يراد به الزوج بأن يعفو عن نصفه فيعطي للمرأة جميع مهر المرأة، و روي أن المراد عفو ولي الزوجة، فيما إذا كان لها ولي مفروض كالصغيرة، أو موكل من قبلها في الكبيرة وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن من يترك حق نفسه تبرعا أقرب إلى التقوى بأن تبقى معصية اللّه فلا يطلب ما ليس له وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ بأن يتفضل بعضكم على بعض فيتنازل عن حقوقه لأجل صاحبه و لعل الفرق بين العفو و الفضل أن العفو هبة جميع حقوقه و الفضل هبة بعضها إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم إن حسنا و إن سيئا.

[239] إن القرآن الحكيم دائما يلطف أجواء الأحكام بتلميح إلى قدرة إله الكون و عظمته و رحمته و غفرانه و نحوها ليسمو بالنفس و

يربط الحكم بالخالق حتى يكون أقرب إلى التنفيذ، و لما طالت آيات الأحكام و بالأخص ما له جو كابت حزين من طلاق و موت و نحوهما أتت آيات الصلاة متداخلة بينها لتشع في النفس الطمأنينة و الهدوء أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» مع مناسبة لهذه الآيات مع الجو العام لما قبلها

______________________________

(1) الرعد: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 263

[سورة البقرة (2): الآيات 239 الى 240]

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

و بعدها حيث تعرضت لصلاة الخوف و المطاردة، هذا ما أحتمله أن يكون سببا لذكر هذه الآيات هنا متوسطة أحكام الموت و الطلاق حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ كلها وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى خاصة و هي صلاة الظهر لأنها تتوسط بين النهار فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصليها بالهاجرة في مسجد مكشوف فكانت أثقل صلاة عليهم و لذا لم يكن يحضرها إلا الصف و الصفان فقط، كما ورد عن بعض الصحابة وَ قُومُوا أيها المسلمون لِلَّهِ قانِتِينَ أي داعين فإن القنوت هو الدعاء، و منه القنوت في الصلاة و المراد إما القنوت في الصلاة أو مطلقا.

[240] فَإِنْ خِفْتُمْ فلم تتمكنوا من المحافظة على الصلاة بشرائطها و آدابها، حيث ابتليتم بالعدو الذي لا يسمح لكم بالصلاة الكاملة فصلوا رجالا جمع راجل أي مشاة أَوْ رُكْباناً جمع راكب أي على ظهور دوابكم فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ صلاة كاملة كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ

تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من أمور دينكم و دنياكم.

[241] ثم رجع السياق إلى تتمة الأحكام السابقة، بعد ما أشعّت في النفس الاطمئنان و ندى الجو بذكر الصلاة وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً «يتوفون» مجازا بالمشارفة، فإنه كثيرا ما يعبر عمن شارف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 264

[سورة البقرة (2): آية 241]

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

أمرا بالداخل فيه، كما يعكس كثيرا فيعبر عن الداخل بالمشارف، نحو «لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» و «لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ» فالمراد الذين يقاربون الوفاة، و لهم زوجات فمن الأفضل أن يوصوا وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ بأن يمتعهن الوصي مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ فيعطي النفقة و الكسوة إليهن إلى سنة كاملة غَيْرَ إِخْراجٍ أي في حال كونهن غير مخرجات إخراجا عن بيوت أزواجهن فَإِنْ خَرَجْنَ عن رغبتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ بالزواج و الزينة بعد انقضاء عدة الوفاة- و هي أربعة أشهر و عشرا- فإن قبل ذلك لا يكون معروفا، بل منكرا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ فيحكم بمقتضى عزته و سلطته حَكِيمٌ لا يحكم اعتباطا بل عن مصالح و علل، و هذه الآية حسب ما ذكرنا لها من المعنى لا تكون منسوخة بآية «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً».

[242] وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ يمتعهن الأزواج بشي ء سواء كن واجبة النفقة أم لا بِالْمَعْرُوفِ فإن ذلك يسبب رفع الغضاضة حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ الذين يتقون مخالفة أوامر اللّه سبحانه إيجابا كانت أو ندبا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 265

[سورة البقرة (2): الآيات 242 الى 243]

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا

ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243)

[243] كَذلِكَ الذي بين اللّه لكم الأحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا آياته و أحكامه.

[244] و من جو الأسرة و امتدادها و انقطاعها ينتقل السياق إلى قصة الحياة و الموت التي تشبه قصة الأسرة في كونها امتدادا للحياة العائلية و انقطاعا لها في قصة عجيبة هي: أن أهل مدينة من مدائن الشام كانوا سبعين ألف بيت هربوا من الطاعون فمروا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها و أفناهم الطاعون فنزلوا بها فأماتهم اللّه من ساعتهم جميعا و صاروا رميما يلوح، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له «حزقيل» فبكى و استعبر و قال: يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم، فعمروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك، فأوحى اللّه إليه أن يقول الاسم الأعظم فقاله عليهم فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون اللّه و يكبرونه و يهللونه أَ لَمْ تَرَ استفهام تقريري أي ألم تعلم فإن الرؤية تأتي بمعنى العلم كقول الشاعر: «رأيت اللّه أكبر كل شي ء» و قد يستفهم بمثل هذا الاستفهام لإيجاد العلم إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ سبعون ألفا كما تقدم حَذَرَ الْمَوْتِ و فرارا من الطاعون فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا فأماتهم حيث ظنوا الهرب ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعاء النبي حزقيل عليه السّلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 266

[سورة البقرة (2): الآيات 244 الى 245]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ

تُرْجَعُونَ (245)

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كلهم بخلقهم و رزقهم و تدبير أمورهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمه و فضله عليهم بل يقللون فضله بالعصيان.

[245] وَ إذ علمتم أن الهروب من الموت لا ينفع ف قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لا تهربوا خوف الموت وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم و أعمالكم.

[246] إن القتال بإعطاء المال و النفس في سبيل اللّه ليس هدرا و إنما المقاتل و العامل للبر، يقرض اللّه بما يذهب منه ثم يرجعه سبحانه إليه ف مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أيّ شخص ذاك الذي يقرض اللّه و ينفق نفسه و ماله في سبيله قرضا حسنا لا لرياء و سمعة و لا بمنّ و إكراه و سائر ما يشين القرض فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ربما بلغت الملايين و عما ذا تخافون في قرض أموالكم هل من الفقر؟ وَ اللَّهُ يَقْبِضُ فيفقر وَ يَبْصُطُ فيغني فلا ينفعكم البخل و لا يضركم القرض و السخاء، أم تخافون في قرض أنفسكم للّه من الموت؟ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيعطيكم أفضل مما أخذ منكم،

قال الإمام أمير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 267

[سورة البقرة (2): آية 246]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

المؤمنين عليه السّلام لأحد أولاده «أعر اللّه جمجمتك» «1».

[247] و هنا قصة حياة أو موت

أخرى تناسب القصة السابقة أَ لَمْ تَرَ أي ألم تعلم- كما تقدم- إِلَى الْمَلَإِ أي الجماعة مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى النبي إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو أشموئيل و بالعربية إسماعيل ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي سلطانا نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تحت لوائه حيث أذلهم الجبابرة و أخرجتهم من بلادهم و قتلتهم و سبيت ذراريهم و نسائهم و كان النبي في ذلك الزمان ينظم أمور الدين و الملك و ينظم أمور الجيش و السلطة قالَ النبي هَلْ عَسَيْتُمْ أي لعلكم إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أراد بذلك أخذ العهد عليهم في المقاتلة إن عيّن ملك لهم قالُوا أي قال الملأ في جواب النبي عليه السّلام وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ليس بإمكاننا أن نترك القتال وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا أخرجنا الأعداء من بلادنا وَ أَبْنائِنا أي إخراجنا من أبنائنا حيث قتل بعضهم و سبي البعض،

______________________________

(1) نهج البلاغة: ص 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 268

[سورة البقرة (2): آية 247]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247)

فسأل النبي عليه السّلام من اللّه ذلك، فاستجاب اللّه دعاءه و عين لهم ملكا و كتب عليهم القتال فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أدبروا و كرهوا القتال إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين فروا من الجهاد بعد طلب منهم و إلحاح.

[248] وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أشموئيل إِنَّ اللَّهَ قَدْ

بَعَثَ لَكُمْ و عين عليكم طالُوتَ مَلِكاً و كان من أبناء «بن يامين» أخي يوسف عليه السّلام و لم يكن من سبط النبوة و لا من سبط المملكة، فإن النبوة كانت في أولاد «لاوي» ابن يعقوب عليه السّلام، و المملكة كانت في أولاد «يهوذا» ابن يعقوب عليه السّلام قالُوا أَنَّى أي كيف يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا و يجعل سلطانا و ملكا لنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لأنا من أسباط النبوة و المملكة وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ فهو فقير لا مال له و الملك يحتاج إلى المال ليدير شؤون السلطة قالَ النبي عليه السّلام في جوابهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ و اللّه لا يصطفي إلا من هو الأصلح بحال عباده وَ زادَهُ بَسْطَةً أي سعة و زيادة فِي الْعِلْمِ و المملكة تحتاج

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 269

[سورة البقرة (2): آية 248]

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

إلى علم الملك ليتمكن به من إدارتها وَ الْجِسْمِ فهو رجل سمين يهابه الناس، شجاع يخافه الأعداء و هذه الأمور هي مقومات الملك لا المال فإن العلم و الشجاعة و الهيبة تأتي بالمال، و ليس بالعكس وَ ليس كونه من «بن يامين» نقصا فكما جعل اللّه الملك في بيت «يهوذا» سابقا يجعله في «طالوت» حالا فإن اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ و ليس احتكارا على أحد وَ اللَّهُ واسِعٌ قدرة و عطاء فيهب الملك لمن يشاء عَلِيمٌ بمصالح العباد فلا يجعل شيئا إلا إذا كان صالحا.

[249] وَ قالَ

لَهُمْ نَبِيُّهُمْ أشموئيل زيادة في الدلالة على جعل اللّه «طالوت» ملكا عليهم إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ و أن اللّه تعالى جعله ملكا أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ و هو تابوت أنزله اللّه على أم موسى فوضعت موسى فيه حين ألقته في البحر و كان بنوا إسرائيل يتبركون به فلما حضر موسى الموت وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة و أودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات فلم يزل بنوا إسرائيل في عز و شرف ما دام التابوت بينهم فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم ثم جعل رد التابوت عليهم دليلا على أنه جعل اللّه طالوت ملكا فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تسكنون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 270

[سورة البقرة (2): آية 249]

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

إليه و تعلمون أنكم منصورون بسببه و يكون دليلا على ملك طالوت وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ عصا موسى عليه السّلام و الألواح و طست خاص بالأنبياء عليهم السّلام و أشياء أخر، فإنها وصلت بالإرث إلى آل هذين النبيين المعظمين و هم جعلوها في التابوت تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حملا واقعيا أو حملا ظاهرا بأن رأى بنوا إسرائيل الملائكة بين السماء و

الأرض أتت بالتابوت إِنَّ فِي ذلِكَ التابوت الذي رجع إليكم بعد فقده لَآيَةً لَكُمْ على كون طالوت ملكا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين، أي إن كنتم مؤمنين قلبا، تصدقون ذلك.

[250] فَلَمَّا رأى بنوا إسرائيل التابوت صدقوا و انضووا تحت لواء طالوت، و تحركوا نحو الجهاد مع أعدائهم و لما فَصَلَ خرج و انفصل عن المدينة طالُوتُ بِالْجُنُودِ الذين كانوا معه قالَ طالوت ممتحنا للجنود حتى يتبين مقدار صبرهم و ثباتهم على المكاره و أنهم إن جازوا من نهر الماء عطاشا يوثق بهم في الحرب و إن لم يسمعوا و لم يتمكنوا من الصبر على عطش قليل فهم أحرى بأن لا يصبروا أمام السيوف و الرماح إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ ممتحنكم بِنَهَرٍ من ماء في طريقكم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ممن يتبعني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 271

و لينصرف وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي لم يذق طعم ذلك الماء فَإِنَّهُ مِنِّي و يتبعني إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً واحدة بِيَدِهِ فشربها فقط لا أكثر من ذلك فَشَرِبُوا مِنْهُ من النهر إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ الذين أطاعوا أمر طالوت فلم يشربوا إلا غرفة واحدة و هؤلاء الذين أطاعوا هم الذين اتبعوا طالوت إلى الحرب أما من عصاه فلم يتبعه فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ أي جاوز طالوت النهر وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ممن تبعه و لم يشرب الماء إلا غرفة قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ و هو رئيس الكفار وَ جُنُودِهِ لما رأوا من كثرتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ من أصحاب طالوت، و في قوله «يظنون» إشارة إلى أن الظن بالمعاد كاف في تحفيز الإنسان نحو الجهاد و الأعمال الصالحة، و ملاقاة اللّه كناية عن القيامة لأنهم يلاقون

جزاء اللّه كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي بنصره وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون على المكاره و يثبتون عند ملاقاة الكفار، و بهذا الكلام شجعوا أنفسهم و أصحابهم لمقابلة جالوت و جنوده.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 272

[سورة البقرة (2): الآيات 250 الى 251]

وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

[251] وَ لَمَّا بَرَزُوا أي ظهروا في محل الحرب لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ الكثيرة قالُوا أي قال طالوت و المؤمنون رَبَّنا أَفْرِغْ أي أصبب عَلَيْنا صَبْراً لنكون صابرين في الحرب وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا حتى لا نفر وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فاستجاب اللّه سبحانه دعاءهم.

[252] فَهَزَمُوهُمْ أي هزم طالوت و المؤمنون، جالوت و الكفار بِإِذْنِ اللَّهِ و نصره وَ قَتَلَ داوُدُ النبي عليه السّلام و هو أبو سليمان عليه السّلام جالُوتَ رئيس الكفار فإن داود أخذ حصاة و رماها بالمقلاع نحو جالوت فأصابت جبهته و كانت فيها ياقوتة فانتشرت و وصلت إلى دماغه و خر ميتا و هزم الكفار وَ آتاهُ أي أعطى اللَّهِ داود عليه السّلام الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ فصار نبيا و ملكا وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلوم الدنيوية و الأخروية وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بأن يدفع الكافرين المفسدين بسبب المؤمنين المصلحين لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لما يوجدون فيها من القتل و الحرق و السبي و الإفساد

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 1، ص: 273

[سورة البقرة (2): آية 252]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فيدفع الفاسد بالصالح لتبقى الأرض عامرة و ينمو الزرع و الضرع.

[253] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي تلك التي ذكرت من إماتة الأحياء دفعة و إحياء الموتى دفعة و تمليك طالوت و نصرة المؤمنين على أعدائهم دلالات اللّه على وجوده و قدرته و علمه و سائر صفاته نَتْلُوها نقرؤها عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ أي بالصدق فلا كذب فيها و أنزلت لأجل الصدق لا لأجل الباطل و الكذب و الغش وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بهذه الأخبار عن غيب بدلالة اللّه لك و وحيه إياها إليك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 275

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّالث من آية (254) سورة البقرة إلى (93) سورة آل عمران

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 276

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، و الصلاة و السّلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمّد المصطفى و عترته الطّاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 277

[سورة البقرة (2): آية 253]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

[254] تِلْكَ الرُّسُلُ الذين أشير إليهم في قوله «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فهم و إن اشتركوا في أصل الرسالة إلا أنهم مختلفين في الفضيلة

مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ إياه و هو موسى عليه السّلام و حيث أن هناك محل سؤال: هل يمكن للإنسان أن يرتقي هذا المرتقى العظيم حتى يكلمه اللّه سبحانه؟ ألمحت الآية إلى ذلك قائلة: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ لا درجة واحدة، حتى سببت تلك الرفعة أن يتمكن من مكالمة اللّه مباشرة وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ و أنه لمن تفنن القرآن الحكيم في التعبير حيث لم يصرح باسم موسى و صرح باسم عيسى عليه السّلام و البينات هي الدلالات الواضحات على نبوته من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص وَ أَيَّدْناهُ أي قويناه فإن التأييد بمعنى التقوية بِرُوحِ الْقُدُسِ أي روح مقدسة، كما مر سابقا فلم يكن إنسانا عاديا و لا خالقا و ربا و إنما نبي مؤيد من عند اللّه سبحانه، و حيث كان هنا مجال سؤال هو أن الأنبياء عليهم السّلام حيث أتوا بالدلالات لم يكن مجال لتشكيك الناس فيهم فكيف تقع الحروب بين الناس حول الأنبياء إثباتا أو نفيا أو إثباتا لنبي دون نبي؟ أتى السياق مشيرا إلى جواب ذلك وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ بأن ألجأ الناس و اضطرهم على الانقياد و الاهتداء مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل أي بعد مجي ء كل واحد منهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 278

[سورة البقرة (2): آية 254]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي جاءت الناس الأدلة الواضحة وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا أي الناس فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بالرسول وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا

اقْتَتَلُوا تكريرا للتأكيد و أن المشيئة الإلجائية لم تتعلق حول التشريع و إن تعلقت حول التكوين وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إعطاء الاختيار بيد الإنسان ليؤمن من آمن عن اختيار و يكفر من كفر عن اختيار ليثبت الجزاء و الحساب و لم يذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأن الخطاب موجه إليه «وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

[255] و حيث أن القتال يحتاج إلى الإنفاق يزاوج القرآن الحكيم في آياته بين الأمرين كثيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ من مختلف أنواع الرزق، و لعل عمومه يشمل مثل التعليم و الشفاعة و نحوها فإن العلم و الوجاهة من رزق اللّه سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ حتى يشتري الإنسان نفسه بشي ء فينجيها من عذاب اللّه سبحانه وَ لا خُلَّةٌ أي صداقة فيراعى الصديق المذنب لأجل صديقه، أو صداقة بين اللّه و بين أحد حتى يراعيه و يغفر ذنبه لصداقته وَ لا شَفاعَةٌ كشفاعات الدنيا حيث أن الشفيع ينبعث من نفسه فيشفع للمذنب، فإن هناك لا يشفعون إلا لمن ارتضى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 279

[سورة البقرة (2): آية 255]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فليس حرمان الكافر في ذلك اليوم لأجل الظلم من قبل اللّه سبحانه بل الكافر هو الظالم الذي استحق

العقاب بكفره و ظلمه نفسه حيث حرمها من نيل المثوبة.

[256] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فالأمور في يوم القيامة كلها بيده لا يشارك فيما يفعل و لعل هذا هو وجه الارتباط بين هذه الآية و الآية السالفة الْحَيُ الذي لا يموت فلا يمكن التخلص منه الْقَيُّومُ القائم على الأمور يعلمها جميعا فلا يمكن الاختفاء منه.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ و هي النوم الخفيف المسمى بالنعاس وَ لا نَوْمٌ و قدم الأول لتقدمه في الخارج لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو الخالق و المالك الوحيد الذي لا يشاركه أحد، و الظرف هنا يتبع المظروف فليست السماوات و الأرض خارجتين عن الملكية مَنْ ذَا أي أي شخص الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ يوم القيامة إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ أي ما يقدمون من أعمال خير و شر و ما يخلفون من بعدهم كبناء مدرسة أو مخمر يبقيان بعده وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي بما يعلمه من الماضي و الحاضر و الآتي إِلَّا بِما شاءَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 280

[سورة البقرة (2): آية 256]

لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

بما أراد من اطلاع الناس عليه فإن علم الشخص حتى بالضروريات مما تتعلق به مشيئة اللّه سبحانه فإنه هو الذي جعل الإنسان بحيث يعلم الأمور في الجملة وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الكرسي كناية عن السلطة و الملكية يقال: كرسي فلان يسع العراق إذا كان ملكا عليها، أي أن سلطة اللّه سبحانه تشمل

جميع الكون، فإنه لا يخلو من سماء و أرض وَ لا يَؤُدُهُ أي لا يشق عليه تعالى، من آده يأده، إذا أثقله و جهده حِفْظُهُما أي حفظ السماوات و الأرض بالتربية و التنمية و الإصلاح وَ هُوَ الْعَلِيُ أي الرفيع مقاما الْعَظِيمُ الشأن.

[257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فإن اللّه لم يلجأ الخلق إلى اعتناق الدين بل جعل فيهم الاختيار و الإرادة فإن شاءوا دانوا و إن لم يشاءوا لم يدينوا قَدْ تَبَيَّنَ أي وضح الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ أي الهداية من الضلالة و الإيمان من الكفر و الحق من الباطل فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ و هو كل ما يعبد من دون اللّه وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وحده، و قدم نفي الكفر لأن النفي مقدم على الإثبات كما قدم في كلمة «لا إله إلا اللّه» فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي تمسك و اعتصم و أخذ بِالْعُرْوَةِ و هي «المسكة» لمثل الكوز الْوُثْقى أي الوثيقة التي لا تنفصل فقد شبه الخير بإناء للسقي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 281

[سورة البقرة (2): الآيات 257 الى 258]

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

أو الطعام له عروة فالإيمان باللّه عروة وثقى للخير لأنه لَا انْفِصامَ لَها و لا انقطاع بل تدوم الاستفادة من الخير بسبب الإيمان في

الدنيا و الآخرة بينما الإيمان بالطاغوت عروة واهية تنفصم إذا فارق الإنسان الحياة الدنيا ينقطع الخير الذي يناله الإنسان- فرضا- بسبب الكفر وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم و أعمالكم.

[258] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يلي أمورهم و ينصرهم و يعينهم يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الحياة و مشاكلها، من ظلمة العقيدة، و ظلمة القول و ظلمة الدنيا كلها إِلَى النُّورِ نور الهداية، و نور الآخرة وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي أن جنس الطاغوت يكون أولياء لهم، فإن الطواغيت من الجن و الإنس يتولون أمورهم و ضلالهم و حيث أن الطاغوت أريد به الجنس جاز الإتيان بصيغة الجمع في «أوليائهم» صفة له يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ الكامن في فطرتهم، و من نور الدنيا إِلَى الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الظلال في الدنيا و عذاب اللّه في الآخرة أُولئِكَ الذين كفروا أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد فلا منجي لهم و لا مخلص [259] سبق الحديث عن الإيمان و الكفر، فلتناسب المقام قصة حوار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 282

حول هذا الموضوع بين إبراهيم عليه السّلام و نمرود أَ لَمْ تَرَ أي ألم تعلم، و قد تقدم أن هذه العبارة تذكر لإفادة العلم إِلَى الَّذِي حَاجَ من المحاجة بمعنى المجادلة و المخاصمة إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي في باب رب إبراهيم عليه السّلام الذي كان يعبده، أو رب الذي حاج و إن كان الأول أقرب أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي حيث أن اللّه أعطى نمرود الملك و السلطة بطر فأنكر وجود الخالق و جعل يجادل نبيه إبراهيم عليه السّلام حول وجود اللّه سبحانه فقد قابل الإحسان بالإساءة إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ في جواب نمرود حيث

قال له: من ربك؟ و المراد بالإحياء إحياء الجماد فإن كل حي أصله التراب و الماء إذ التراب بسبب الماء ينقلب عشبا و العشب ينقلب نطفة إنسانا أو حيوانا قالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ فأخرج نفرين من حبسه و ضرب عنق أحدهما و أطلق الآخر و كان هذا مغالطة من نمرود إلا أن إبراهيم عليه السّلام أراد أن يلزمه بحجة لا يتمكن حتى من المغالطة فيها ف قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ هكذا يظهر للأبصار سواء دارت هي أو دارت الأرض كما يقوله بعض علماء الفلك فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ إن كنت إلها خالقا فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي تحير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 283

[سورة البقرة (2): آية 259]

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

نمرود و لم يحر جوابا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بتعاميهم عن الحق فإنه سبحانه لا يلطف لطفه الخاص بمثل هؤلاء و إن أتم عليهم الحجة و أراهم الطريق.

[260] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي ألم تر إلى الذي مر على قرية، و المعنى إن شئت فانظر إلى الذي حاج و إن شئت فانظر إلى الذي مر على قرية و هو عزيز النبي عليه السّلام أو أرميا

وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة حيطانها على سقوفها و أهلها موتى و السباع تأكل الجيف ففكر في نفسه ساعة قالَ أَنَّى أي كيف يُحْيِي هذِهِ الأموات اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها و كان ذلك منه تعجبا لا إنكارا فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ حتى بلي و نخرت عظامه ثُمَّ بَعَثَهُ أحياه كما كان قالَ اللّه سبحانه له بإيجاد صوت في الجو كَمْ لَبِثْتَ في مبيتك و منامك قالَ النبي لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر فإذا هو نام صباحا و الآن قبل غروب الشمس فأضرب قائلا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ اللّه سبحانه بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ و قد كان معه طعام و شراب و حمار، فكان الطعام و الشراب باقيين كما هما و كان الحمار قد مات و تفرقت عظامه و نخرت دلالة على كمال قدرة اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 284

[سورة البقرة (2): آية 260]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

سبحانه فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تغيره السنون، و الإتيان بلفظ المفرد باعتبار كل واحد منهما وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف مات و نخرت عظامه وَ لِنَجْعَلَكَ أيها الرسول آيَةً لِلنَّاسِ أي حجة حيث أحييناك بعد مائة عام حتى يعرف الناس أن اللّه قادر على بعث الأموات وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ لحمارك المتفتتة كَيْفَ نُنْشِزُها أي كيف نرفع بعضها إلى بعض لنركب منها الهيكل العظمي للحمار ثُمَّ نَكْسُوها أي نلبس العظام لَحْماً حتى يستوي

حمارا حيا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي وضح له إحياء الأموات عيانا قالَ النبي عليه السّلام أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أي علما عيانا و إلا فقد كان يعلم ذلك قبل السؤال.

[261] وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى فإنه عليه السّلام رأى جيفة تمزقها السباع فيأكل منها سباع البر و سباع الهواء و دواب البحر فسأل اللّه إبراهيم عليه السّلام فقال: يا رب قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع و الطير و دواب البر فأرني كيف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 285

تحييها لأعاين ذلك قالَ اللّه سبحانه أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ على نحو استفهام التقرير، ليقول آمنت، كقولهم: «ألستم خير من ركب المطايا» قالَ إبراهيم عليه السّلام بَلى أنا مؤمن وَ لكِنْ أسأل ذلك لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و يكون يقيني عين اليقين فإن الإنسان الذي يعلم أن النار- مثلا- حارة، يسمى ذلك علم اليقين، فإذا رآها سمي حق اليقين، فإذا أدخل يده فيها فاحترقت سمي عين اليقين، و ورد أنه عليه السّلام علم أن اللّه يتخذ عبدا له خليلا إذا سأله إحياء الموتى أحياها فأراد أن يطمئن أنه هو قالَ اللّه سبحانه فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الطاووس و الحمام و الغراب و الديك فاذبحهن و قطعهن و اخلطهن بعضا ببعض فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ من صرته بمعنى قطعته و «إليك» إنما هو من مستلزمات القطع، فإن الإنسان إذا أراد أن يقطع شيئا قطعا جيدا و يخلطه لا بد و أن يجذبه إليه و لعله كناية عن القطع الجيد و التخليط البالغ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من عشرة جبال مِنْهُنَّ جُزْءاً و إنما ذلك يدل على أن الأجزاء

الميتة تجتمع من محلات متباعدة وقت الحشر ثُمَّ ادْعُهُنَ بأن تأخذ بمنقار كل واحد من الطيور الأربعة في يدك و تدعوه باسمه يَأْتِينَكَ تجتمع الأجزاء من الجبال سَعْياً مسرعات وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمتنع عليه شي ء حَكِيمٌ فيما يفعل فلا يفعل شيئا اعتباطا و عبثا، ففعل إبراهيم عليه السّلام ذلك فتطايرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 286

[سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 262]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان و جاء كل بدن حتى نظم إلى رقبته و رأسه فأطلقها إبراهيم عليه السّلام فطرن فالتقطن الحب و شربن الماء ثم دعون لإبراهيم عليه السّلام.

[262] تقدم الكلام في الآيات السابقة عن من يقرض اللّه قرضا حسنا، ثم تخلل الكلام دليل التوحيد و الرسالة و المعاد و الآن يرجع السياق إلى الإنفاق مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا رياء أو سمعة و شهرة و نحوها كَمَثَلِ حَبَّةٍ من الحنطة أو الشعير أو نحوهما أَنْبَتَتْ أي أخرجت سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة و هي مجمع الحبات فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ فتكون النفقة في سبيل اللّه بسبعمائة ضعف وَ اللَّهُ يُضاعِفُ أي يزيد كل سبعمائة لِمَنْ يَشاءُ من عباده من المنفقين وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يسع علمه و قدرته فيعلم المنفق و الإنفاق، و قد مثل الإنفاق بهذا ليكون أوقع

في النفس و أكثر في التأثير و التشويق.

[263] ثم ذكر شرطا آخر للإنفاق المثمر الموجب للأجر بقوله تعالى:

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ أي لا يعقبون ما أَنْفَقُوا مَنًّا على المعطى له بأن يمن عليه في إنفاقه كأن يقول له: إني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 287

[سورة البقرة (2): الآيات 263 الى 264]

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)

أعطيتك فكن شاكرا وَ لا أَذىً بأن يؤذى المعطى له، كأن يقول:

ابتليت بفلان الفقير لَهُمْ أَجْرُهُمْ و جزاء إنفاقهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب لأن من ينفق هكذا يكون مخلصا في جميع أعماله، أو لا خوف عليهم من فوت الأجر وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو يحتمل الأمرين مثل- لا خوف-.

[264] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ بأن يرد به السائل، نحو اللّه يعطيك وَ مَغْفِرَةٌ أي تجاوز عن السائل فيما إذا أساء خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً لأن الصدقة كذلك تجرح قلب السائل دونهما، و لأنها تتبع العقاب، لأن هكذا صدقة محرمة، بخلافهما وَ اللَّهُ غَنِيٌ فلا يحتاج إلى صدقاتكم أيها المعطون، و إنما أنتم تحتاجون إليها، فحث اللّه بالإنفاق لكم، لا له حَلِيمٌ حليم عن عقابكم بسبب صدقاتكم التي يتبعها الأذى.

[265] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِ على السائل وَ الْأَذى له فإن فيها إبطالا للصدقة من حيث الثواب

فلا ثواب لها عند العرف لأن مثل هذه الصدقة لا تحسب جميلا و إنما قبيحا بشعا، فإن من يبطل صدقته بالمن و الأذى فهو كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لأجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 288

أن يراه الناس فيمدحوه وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن يكون الداعي له إلى التصدق أمر اللّه سبحانه أو ثواب الآخرة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً الصفوان: الحجر الأملس، و الوابل: المطر الشديد الوقع، و الصلد من الأرض ما لا ينبت شيئا لصلابته، فإن الإنسان الكافر كالحجر الصلب الذي لا يرجى منه خير، و ما يتحفظ به ظواهره بمنزلة تراب على الحجر يظن الناس أنه محل قابل للنبت، و الصدقة التي يرائي بها كالمطر الشديد، فإنه إذا نزل بأرض صالحة كان مبعث الخير و النبات لكنه إذا نزل على الحجر المغطى بالتراب أزال ترابه و أظهر صلادته و عدم قبوله لأي إنبات أو عشب، و كذلك الكافر الذي يظن به الناس بعض الخير إذا أنفق رياء ظهر على الناس حقيقته المنحرفة فتكون الصدقة- التي هي بذاتها سبب الخير و الرحمة- معرية لحقيقة الكافر البشعة، و من ناحية أخرى أنها توجب سخط اللّه عليه أكثر من ذي قبل فتكون مذهبة لما يظن أنها حسنة له من بعض أعماله الخيرية السابقة لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا من مكاسبهم السابقة لأن الصدقة برياء ذهاب بها كما أن المطر يذهب بالتراب فلا يمكن إرجاعه و جمعه وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فلا يلطف بهم اللطف الخاص لأنهم أسقطوا أنفسهم عن القابلية لجحودهم بعد أن عرفوا الحق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 289

[سورة البقرة (2): الآيات

265 الى 266]

وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

[266] وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضى اللّه سبحانه وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي لأجل تثبيت أعمالهم الحسنة و تركيزها، تثبيتا ناشئا من أنفسهم فأنفسهم هي التي توصي بذلك، لا كالمرائي الذي يحمله على الصدقة رؤية الناس، فهذه الجملة «من أنفسهم» مقابل جملة «رئاء الناس» في الآية السابقة كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان مرتفع أَصابَها وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أي أعطت أُكُلَها و ثمرها ضِعْفَيْنِ فإن الإنسان المؤمن كالبستان الواقع في مرتفع يزهو للناس و يكون أقرب إلى الاستفادة من الهواء و الشمس و المطر، فإن المؤمن أقرب إلى الخير فإذا تصدق تكون صدقته كالمطر الذي إذا نزل بالبستان يوجب نمو ثمارها و ازدهار أشجارها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ مطر غزير فيكفي لإثمارها و إنضارها طل رذاذ من مطر قليل وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم إن رياء و إن قربة.

[267] و لما مثل سبحانه لصدقة كل من المؤمن و الكافر، مثل لصدقة المؤمن الذي يمن بصدقته فيبطلها أَ يَوَدُّ أي هل يحب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 290

[سورة البقرة (2): آية 267]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا

لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها لَهُ فِيها أي في تلك الجنة مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ أي الشيخوخة وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ عاجزون عن كسب المأكل و الملبس فَأَصابَها أي أصاب الجنة إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كلا لا يحب أحد ذلك إنه في أشد أوقات حاجته، فهل يرضى إصابة النار بأثمن ما يملك؟ إن مثل من ينفق عن إيمان و اعتقاد مثل تلك الجنة، فإذا امتن بعد ذلك أو آذى السائل، يكون ذلك نارا تحرق جنته في أشد أوقات حاجته، فالإنسان في أشد الحاجة إلى خيره في الآخرة، فإذا امتن بقي صفر اليدين هناك كَذلِكَ أي كهذا البيان الذي بين أمر الصدقة و غيرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ بضرب الأمثال و المشوقات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فتستقيموا على الصراط المستقيم.

[268] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ طيبا واقعيا بكونه حلالا و ظاهريا بكونه جيدا و مِنْ طيبات ما أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 291

[سورة البقرة (2): آية 268]

الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268)

طيب مكسبكم و طيب ثماركم، فلا تنفقوا من الربا و لا من الماء الآجن و لا من حشف التمر- مثلا- وَ لا تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا الْخَبِيثَ الحرام الردي ء مِنْهُ تُنْفِقُونَ للناس وَ الحال أنكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فإن أراد أحد إعطائكم من ذلك ما كنتم تأخذونه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ

أي تغمضوا عيونكم كراهة له، فالإنسان إذا استبشع شيئا غمض عينه حتى لا يراه، فكيف تنفقون مثل هذا الشي ء الذي إذا أردتم أخذه غمضتم عينكم استبشاعا له وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن صدقاتكم فلا يأخذ إلا الطيب و لا يقبل إلا الحسن حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه، و من حمده أن يعطي الإنسان الشي ء الطيب في سبيله، فالإنسان إذا أراد تقدير شخص دفع إليه أحسن ما يتمكن، لا أنه يدفع الردي ء الخبيث.

[269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ إذا أردتم الإنفاق في سبيل اللّه وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ إذا أردتم الإنفاق يقول لكم: أنفقوا من الردي ء الخبيث، و هو قسم من الفحشاء، أو المراد به الأعمال القبيحة مطلقا، وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ فإنه يغفر ذنوبكم بسبب الصدقة و سائر المبرات وَ فَضْلًا فيخلف ما أنفقتموه وَ اللَّهُ واسِعٌ ليس ضيق المقدرة حتى لا يتمكن من التعويض عَلِيمٌ بما تعطون فيجازيكم بالحسن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 292

[سورة البقرة (2): الآيات 269 الى 271]

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

حسنا و بالسيئ سيئا.

[270] إنّ الإنفاق في سبيل اللّه من الطيب بلا رياء و لا منّ و لا أذى من الحكمة التي هي وضع الأشياء موضعها اللائق و اللّه سبحانه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ممن له قابلية بما سبق أن أخذ بالشريعة

وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و أي خير أعظم من أن يعمر الإنسان دنياه و عقباه بأخذه بأوامر اللّه سبحانه و انتهاجه المنهج المستقيم الموجب لسعادة النشأتين وَ ما يَذَّكَّرُ أي ما يتذكر و لا يفهم ذلك إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول فصاحب العقل هو الذي يتبع ما ينفعه و يذر ما يضره.

[271] وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة أي أية صدقة تصدقتم بها أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي ما أوجبتموه على أنفسكم للّه بسب النذر فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه و يكون ذلك سببا للإحسان إلى النفس وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالشح و منع الصدقات الواجبة و حنث النذر و المن و الأذى و الرياء في الصدقة مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم و يخلصونهم من عقاب اللّه سبحانه.

[272] إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا الصَّدَقاتِ حين إعطائها، بأن تعطوها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 293

[سورة البقرة (2): آية 272]

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

جهرا، بقصد القربة لا بقصد الرياء فَنِعِمَّا هِيَ أي فنعم الشي ء الصدقة الظاهرة فإنها توجب دفع التهمة و اقتداء الناس وَ إِنْ تُخْفُوها أي الصدقات وَ تُؤْتُوهَا أي تعطوها سرا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنه أقرب إلى القربة و أبعد عن الرياء و أحفظ لصون ماء وجه الآخذ وَ يُكَفِّرُ أي يغفر عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي بعض ذنوبكم بواسطة إعطاء الصدقة فإن صدقة السر تطفي غضب الرب وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم على أعمالكم، فليس التصدق سرا غائبا عن

اللّه سبحانه بل هو بكل شي ء عليم.

[273] امتنع بعض المسلمين عن التصدق إلى غير المسلم فنزلت لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فإنك لست مجبورا بأن تهديدهم و إنما عليك الإرشاد و البلاغ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى الصراط المستقيم، بإراءته الطريق، أو بإيصاله المطلوب وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ فإن نفعه الدنيوي و الأخروي يعود إليكم وَ ما تُنْفِقُونَ أي ليس إنفاقكم إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي لأجله سبحانه، و أي شي ء أحسن من أن ينفق الإنسان في سبيل خالقه و منعمه و المتفضل عليه وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 294

[سورة البقرة (2): آية 273]

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

أي يوفر عليكم جزاءه و ثوابه وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ فتعطون جزاء إنفاقكم كاملا غير منقوص، فالإنفاق لأنفسكم، و ثوابه يعود عليكم، و هو في سبيل اللّه و ما أجمل أن يعطي الإنسان شيئا يعود نفعه إليه ثم يثاب به في الآخرة، و يرضى اللّه سبحانه عنه بذلك.

[274] و لما بين اللّه سبحانه فضل الصدقة عقبه بأحسن مصارفها بقوله سبحانه: لِلْفُقَراءِ أي أن النفقة لهؤلاء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا و الذي منعهم هو أنفسهم، لأجل سبيل اللّه و إطاعته، فقد نزلت الآية في أصحاب الصفة الذين تركوا كل شي ء لأجل الإسلام و أحصروا أنفسهم للعبادة و الجهاد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذهابا فيها و عدم

الاستطاعة اختيارية لا اضطرارية يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أي يظنهم الذي يجهل حالهم و باطن أمرهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ الامتناع من السؤال فإن الناس إذا رأوا تعففهم ظنوهم أغنياء لما عهدوا من سؤال الفقراء تَعْرِفُهُمْ أي تعرف إنهم فقراء بِسِيماهُمْ أي من وجوههم و أحوالهم يكون الفقر عليها باد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي كما هو شأن كثير من الفقراء، بمعنى أنه ليس منهم سؤال فيكون إلحافا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 295

[سورة البقرة (2): الآيات 274 الى 275]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275)

لا إنهم يسألون من غير إلحاف وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ كل شي ء يطلق عليه الخير من دار أو عقار أو درهم أو دينار أو غيرها فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ لا يفوته شي ء فيجازيكم جزاء حسنا.

[275] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً بالليل سرا و علانية و بالنهار سرا و علانية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ إن الآية و إن كانت عامة إلا إنها نزلت في علي عليه السّلام حيث كانت له أربعة دراهم فتصدق باثنين منها نهارا سرا و علانية و باثنين ليلا سرا و علانية «1»، و قد تقدم معنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ

يَحْزَنُونَ

[276] و حيث كانت الآيات حول الإنفاق، ناسب السياق ذكر الربا، فإنه عكس الإنفاق إذ هو استيلاء على أموال الناس من غير مبرر، بخلاف الإنفاق الذي هو إعطاء ماله للناس من غير مكسب و تجارة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا و أكله كناية عن أخذه و إن لم يتصرف فيه لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ الرجل الذي مسه

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 288.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 296

الشيطان فصرع و تغير حاله و دارت عينه و زال توازن جسده و زبد فمه إذا أراد أن يقوم لبقية ما فيه من الشعور يقوم بعض القيام بكل انحراف و تأرجح ثم يسقط على الأرض، و هكذا الإنسان الذي يأكل الربا حتى اعتاد ذلك يكون أشبه شي ء في عملية انتهاب أموال الناس بمن تخبطه الشيطان الذي يريد أن يقوم فإن تفكيره تفكير منحرف كتفكير المطروح و عينه تنظر بزيغ إلى أموال الناس كعين المصروع و فيه يلهج حول المال بانحراف كفم المصروع و إذا أراد أن يقوم من كبوته و يترك الربا و يأخذ بالجادة المستقيمة حول المال لا يلبث أن يسقط في الربا كما اعتاد من أكله و صار الابتزاز لمال الناس ملكته، و هذا تشبيه رائع مفزع و هكذا يكونون هؤلاء يوم القيامة.

فقد روى الإمام الصادق عليه السّلام عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم أن يقوم و لا يقدر عليه من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس

«1»

، و قد ثبت في العلم أن الأرواح الشريرة قد تدخل في الإنسان فتسبب له صرعا ذلِكَ الأكل للربا الذي اعتادوه بسبب أنهم قالُوا ليس في أكل الربا بأس ف إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا كلاهما تعامل برضى الطرفين وَ ليس كذلك فمنطقهم غلط فقد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لما فيه من الفوائد وَ حَرَّمَ الرِّبا لما فيه من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 100 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 297

المضار، و يكفي أن نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه مما ألجأ للاقتراض برباء فما أقبح أن يستغل الإنسان أخيه في مثل هذا الموقع مما يجدر به أن يساعده و يسعفه، و إما اقترض للتجارة و هذا لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة:

الأول أن يخسر و الثاني أن لا يربح و لا يخسر و ما أقبح في هاتين الصورتين أن يأخذ صاحب المال زيادة بينما خسر العامل في الأول و لم يربح في الثاني و الثالث أن يربح، و قد قرر الإسلام المضاربة و الاشتراك في المربح فيما يجبر المقترض أن يدفع بمقدار خاص إلى المقرض بينما قد ربح بمقداره و قد ربح أقل و قد ربح أكثر.

فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ في تركه أخذ الربا فَانْتَهى و تاب فَلَهُ ما سَلَفَ فكل ربا أكله الناس بجهالة و عدم علم بحرمته أو قبل الإسلام لا يسترد منهم وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ سبحانه لا إلى الناس حتى يقول من أعطاه الربا: ردّ عليّ ما أخذت مني، أو أمره في قبول اللّه توبته إليه سبحانه وَ مَنْ عادَ إلى الربا بعد النهي و الإسلام فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

فِيها خالِدُونَ أبد الآبدين إلا أن يدركهم اللّه برحمته كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1».

______________________________

(1) النساء: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 298

[سورة البقرة (2): الآيات 276 الى 278]

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

[277] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي ينقصه و يتلفه و يهلكه فما ظن المرابي أنه سبب زيادة أمواله يكون سببا لهلاكه و نقصانه فإن الربا يسبب غضب الناس و سخطهم على المرابي مما يثير حربا أو نهبا من الناس أو الحكومات لأمواله فيذهب الأصل و الفرع وَ يُرْبِي أي يزيد و ينمي الصَّدَقاتِ فإنه و إن ذهب جزء من المال بالصدقة لكنها تسبب حب الناس و التفافهم و تعاونهم مع المتصدق مما ينجر إلى زيادة أمواله، و هذا مع الغض عن المحق و النماء الخارجين عن الطبيعة مما يشأهما اللّه سبحانه بلا واسطة عادية وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ كثير الكفر أَثِيمٍ أي مذنب و في هذا دلالة على أن آكل الربا كفار أثيم.

[278] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالأصول الاعتقادية وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن أتوا بالواجبات و تركوا المحرمات وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ تخصيص بعد التعميم لأهميتهما لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و قد مر تفسير عدم الخوف و عدم الحزن.

[279] يا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا من عقابه وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 299

[سورة البقرة (2): آية 279]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279)

مما كنتم تطلبونه قبل الإسلام و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: إن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية و قد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالإسلام حقا فإن المؤمن هو الذي يأتمر بالأوامر و ينزجر بالزواجر.

[280] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا و لم تنقادوا إلى هذا النهي بل أكلتم الربا بعد النهي فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي اعملوا القتال مع اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأكل الربا يكون كمن أعلن الحرب مع الإله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك من أفظع الجرائم، و عاقبته خسران الدين و الدنيا، و

حكم آكل الربا إنه يؤدب مرتين ثم يقتل في الثالثة كما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام «1»

وَ إِنْ تُبْتُمْ و لم تأخذوا الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ دون الزيادة التي حصلتموها بالربا و لا مفهوم للآية بأنهم إن لم يتوبوا فليس لهم رأس المال، بل المراد أن لكم رأس المال فما تبغون بالزيادة لا تَظْلِمُونَ الناس بأخذ الزيادة منهم وَ لا تُظْلَمُونَ بالنقصان من رأس المال.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 70.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 300

[سورة البقرة (2): الآيات 280 الى 282]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 349

وَ إِنْ كانَ ذُو

عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)

[281] وَ إِنْ كانَ فيمن تطلبون منه- ممن ذكر أنه يرجع رأس المال- ذُو عُسْرَةٍ بأن كان رأس مالكم الذي تطلبونه عند ذي عسرة لا يتمكن من أدائه لعسره و ضيقه فاللازم نظرة إلى انتظار و تأخير إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى حال يسار المديون و الجملة خبرية معناها الأمر، أي فأنظروه إلى وقت يساره وَ أَنْ تَصَدَّقُوا على المعسر بما عليه من الدين بأن تجعلوا طلبكم صدقة له خَيْرٌ لَكُمْ في الدنيا يجلب المحبة و البركة من

اللّه سبحانه و في الآخرة بالثواب الجزيل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون الخير من الشر و تميزون ما ينفعكم مما يضركم لعلمتم أن هبة الدين للمعسر خير لكم.

[282] وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فلا تأكلوا الربا و لا تؤاخذوا المعسرين بل تصدقوا عليهم، فإن إتيان الحرام موجب للعقاب و التصدق موجب للثواب ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى وافيا كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من خير أو شر وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا فلا ينقص من أجورهم شي ء كما لا يزاد في عذابهم أكثر من استحقاقهم، و معنى الرجوع إلى اللّه الرجوع إلى حكمه و أمره و قضائه و جزائه.

[283] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم بالدين و دان بعضكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 301

بعضا في بيع أو غيره بِدَيْنٍ إما تأكيد و إما لدفع توهم أن يكون المراد من المداينة المجازاة كما قال الشاعر «و لا أنت دياني فتجزيني» إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي مدة قد سميت في العقد كما لو دائنه إلى سنة أو باعه نسيئة إلى ستة أشهر مثلا فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا ذلك الدين في صك و أنه إلى أية مدة لئلا يقع فيه نسيان أو جحود أو خلاف وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كتاب الدين كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بالحق لا يزيد في المقدار و الأجل و الوصف و لا ينقص منها وَ لا يَأْبَ أي لا يمتنع كاتِبٌ أي شخص كان من المتعاملين أو غيرهما أَنْ يَكْتُبَ الصك كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ بأن يبخل فلا يكتب، فالتكليف من اللّه سبحانه و هو في مقابل أن علمه تعالى الكتابة و العلم فلا يثقل أو يبطئ أو يبخل فَلْيَكْتُبْ الكاتب وَ لْيُمْلِلِ بمعنى

ليملأ فإن الإملال و الإملاء بمعنى واحد يلقي صيغة الكتابة على الكاتب الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ أي المديون حتى يقر على نفسه أولا، حتى لا يقول زائدا على الحق ثانيا، فالذي له الحق لو أملى كان معرضا لأن يقول الزيادة وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ الكاتب أو المديون رَبَّهُ فإنه رب له فكيف يخالف أمره وَ لا يَبْخَسْ أي لا ينقص الكاتب أو المديون مِنْهُ أي من الحق شَيْئاً أما نقص الكاتب فواضح و أما نقص المديون كأن يجعل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 302

الدينار و الذي هو مقابل ثوب في مقابل ثوبين فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً بحيث لم يتمكن من الإملاء أَوْ ضَعِيفاً لجنون أو كبر أو صغر أو نحوها أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس أو عذر آخر مع عدم السفاهة و الضعف فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي ولي من عليه الحق بِالْعَدْلِ بلا إفراط أو تفريط وَ اسْتَشْهِدُوا أي اطلبوا شهادة شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ على المكتوب لينفع ذلك عند الترافع و المخاصمة لدى التخالف، و لعل قيد من رجالكم لإخراج الكفار فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي لم يكن الشاهدين رَجُلَيْنِ لعدم حضورهما أو عدم إرادة المستشهد فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ يشهدون على الكتابة، أو فليشهد رجل و امرأتان مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لوثاقتهم أو عدالتهم إذ لا تقبل شهادة من عداهم لدى المخالفة و التراخ، و إنما جعلت المرأتان مكان رجل واحد لأن المرأة لضعف ذاكرتها كما ثبت في العلم الحديث يتطرق إليها من النسيان ما لا يتطرق إلى الرجل، و لذا قال سبحانه: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما من الضلال أي تخطأ و تشتبه و تنسى فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا التي لم تضل الْأُخْرى التي نسيت و ضلت،

و «أن» إما بمعنى «لئلا» و تكون جملة «فتذكر» منقطعة، أي إن ضلّت تذكر الثانية الأولى، و أما أصلها «إن» بالكسر، صفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 303

لامرأتان، و الأول أقرب وَ لا يَأْبَ أي لا يمتنع الشُّهَداءِ الذين يراد إشهادهم للدين- و سموا شهداء بمجاز المشارفة- إِذا ما دُعُوا لتحمل الشهادة و هذا أمر إيجابي أو استحبابي، أو المراد الأعم من التحمل و الأداء.

وَ لا تَسْئَمُوا أي لا تضجروا أيها المتداينون أَنْ تَكْتُبُوهُ أي تكتبوا الدين أو تكتبوا الحق صَغِيراً كان الحق و الدين أَوْ كَبِيراً و هذا تأديب لمن يترك كتابة الصغير لعدم الاهتمام به، فكثيرا ما يقع التنازع في الصغير إِلى أَجَلِهِ أي إلى أجل الدين و مدته، و فيه تنبيه إلى أن الكتابة تبقى إلى الأجل فتنفع هناك، أو المعنى كتابة تتضمن إلى الأجل، فيعين في المكتوب أجل الدين.

ذلِكُمْ ذا إشارة إلى الكتاب الذي يكتب في المداينة «و كم» خطاب إلى الذين آمنوا أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل، بمعنى أقرب إلى العدل و إلا فليس في العدل مفاضلة حقيقية وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ فيه تقوم الشهادة التي تؤمن عن الزيادة و النقصان وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى عدم الريب في المبلغ و الأجل فاللّه يريده و أنتم لا تشكون، و الشهادة تستقيم، بسبب الكتابة و الصك و ما ذكر من الكتابة عامة لكل مكان إِلَّا أَنْ تَكُونَ المعاملة- المفهوم من الكلام- تِجارَةً حاضِرَةً معجلة غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 304

مؤجلة كغالب التجارات النقدية التي تجري في الأسواق تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ إدارة يد بيد، و معنى الإدارة المناقلة، فينقل هذا ماله إلى ذاك و ينقل ذاك عنه إلى هذا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ

جُناحٌ و حرج أَلَّا تَكْتُبُوها فلا مانع من عدم كتابة التجارة النقدية إذ الكتابة للوثيقة و هنا لا يحتاج إلى الوثيقة وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ فإنه يستحب للإنسان الذي يريد المبايعة أن يأخذ الشاهد، ففي المعاملة كثيرا ما يقع من نزاع و خصام فإذا كان هناك شهادة يقل وطئ النزاع، و الآية و إن كانت عامة لفظا لكن لا يعد أن لا يراد بها الإطلاق من المعاملات الجزئية اليومية لعدم تعارف الأشهاد منذ زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ بأن يكلف الكاتب الكتابة و يكلف الشاهد الشهادة في حال يكون حرجا عليهما و ضررا، كما تعارف الآن عند الحكومات المنحرفة فإنه يحضر الشاهد و يعنت و يضار فإن في مضارتها زهادة للناس عن الكتابة و الشهادة وَ إِنْ تَفْعَلُوا المضارة بها فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن أمر اللّه سبحانه لسببكم أيها المضارون وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مصالحكم فاتبعوه وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و أنتم لا تعلون و ما أجدر بالجاهل أن يتبع العالم، عن علي بن إبراهيم أن في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 305

[سورة البقرة (2): آية 283]

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

سورة البقرة خمسمائة حكم و في هذه الآية الكريمة وحدها خمسة عشر حكما و الآية كما تقرر في العلم الحديث من أعجب الآيات في باب المعاملة.

[284] وَ إِنْ كُنْتُمْ أيها

المتداينون المتبايعون عَلى سَفَرٍ أي مسافرين و التعبير بلفظ «على» لركوب المسافر غالبا وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب الدين و المعاملة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ تقوم مقام الصك و رهان جمع رهن، و هو اسم للوثيقة و لذا جاءت الصفة بالتأنيث و القبض شرط في صحة الرهن، و لذا وصفه بالقبض فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ و هو صاحب الحق بَعْضاً و هو من عليه الحق بأن وثق به و أنه يؤدي الدين بدون صك و لا رهن، فأعطاه الدين مجردا عن الأمرين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أي المديون أَمانَتَهُ فلا ينكر و لا يمطل، كفاء لما رآه أهلا وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فإن اللّه شهيد و يجازي فإن أنكر أو مطل أو بخس كان معرضا نفسه لعقوبة اللّه سبحانه وَ لا تَكْتُمُوا أيها الشهود الشَّهادَةَ التي تحملتموها وَ مَنْ يَكْتُمْها أي يخفي الشهادة فلا يحضر لأدائها أو يؤديها على خلاف الواقع فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فقد عزم القلب على الكتمان و أطاعته الجوارح و اللسان و لأن الكتمان أنسب إلى القلب لكونه في محل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 306

[سورة البقرة (2): آية 284]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

مكتوم وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من إخفاء الشهادة و إبدائها عَلِيمٌ فلا تفعلوا ما يوجب عقابه و سخطه.

[285] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فما تعاطونه من الأملاك ليست لكم إلا مجازا و إنما هي ملك له سبحانه فاعملوا فيها حسب ما أمركم و لا تخالفوا أمر المالك الحقيقي وَ إِنْ تُبْدُوا

أي تظهروا ما فِي أَنْفُسِكُمْ بما تعلمونه و يخفى على غيركم أَوْ تُخْفُوهُ فتكتموه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فإن جميع الأعمال و الأقوال و الأفكار تحت المحاسبة، أو أن الإبداء و الإخفاء لما في النفس محسوب عليهما، و هذا العموم للتناسق مع إبداء الشهادة و كتمانها فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة فالغفران و الشفاعة ليسا اعتباطا و إنما ينصبان على المحل القابل وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من المغفرة و العقاب و لا يخفى أن العذاب على ما في النفس لا ينافي ما دل على عدم العقاب، على العزم على المعصية لاختلاف المعاصي، و اختلاف أنواع العقاب فلا شبهة في أن من يعزم على المعاصي و إن لم يفعلها أبعد عن قرب الحلال ممن لا يعزم إطلاقا، و هذا البعد هو نوع من العذاب أو يجمع بنحو ذلك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 307

[سورة البقرة (2): الآيات 285 الى 286]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

[286] و هنا يرجع السياق إلى ذكر التوحيد و النبوة و الشرائع جملة في لباس أنها لا تكلف الناس

فوق الطاقة و سؤال المغفرة و العفو لتكون فذلكة للسورة آمَنَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فهو أول مؤمن بما أنزل إليه و ليس كرؤساء الأديان المفتعلة و الملوك و الحكام الذين لا يشملهم القانون وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌ أي كل واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ فليس المؤمن أن يقتنع بجانب واحد من جوانب الإسلام كما هو كثير في تابعي الأحزاب و المبادئ حيث أن ذا النشاط المتفايض منهم يقتنع منه بجانب واحد و إن ترك سائر الجوانب فإن لسان حال المؤمنين لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فلسنا كاليهود الذين لا يعترفون بالمسيح عليه السّلام و نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا كالنصارى الذين لا يعترفون بنبي الإسلام، فلا تكون كمن يؤمن ببعض و يكفر ببعض وَ قالُوا سَمِعْنا آيات اللّه و أحكامه وَ أَطَعْنا أوامره و نواهيه لا كاليهود الذين قالوا سمعنا و عصينا، يقولون غُفْرانَكَ أي نطلب مغفرتك رَبَّنا نعلم أن إِلَيْكَ الْمَصِيرُ فاغفر لنا حتى نكون في ذلك اليوم سعداء.

[287] إن الأحكام التي سلفت في السورة و في غيرها ليست مما لا يطاق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 308

فإنه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فإن أوامره و نواهيه مستطاعة للمكلف و ليس في الدين من حرج، فلا يظن أحد أن الإيمان السابق ذكره في «وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ» يوجب مشقة و عنتا و إرهاقا لَها أي للنفس ما كَسَبَتْ من الحسنات فالجزاء الحسن يجزى به من أحسن وَ عَلَيْها أي على النفس ضرر مَا اكْتَسَبَتْ من الآثام و السيئات و

لعل في مجي ء الكسب من بابين «كسب» و «أكتسب» إفادة أن الطاعة طبيعية و المعصية تؤتي بالتكلف إذ للفظة الاكتساب ظلالا يفيد التعب و الغضب بخلاف الكسب و تؤيده قاعدة «زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى» و هناك يتوجه المؤمنون إلى اللّه داعين سائلين رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا بلا نسيان و إنما تصح المؤاخذة فيهما لغلبة كون مقدماتهما اختيارية و ما ينتهي إلى الاختيار يكون بالاختيار رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي ثقلا فإن بعض التكاليف قد توجب ظروفها ثقلا و عنتا، فالمؤمن يسأل أن يجنبه اللّه سبحانه مثل هذا الثقل كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا فإنهم بلجاجتهم استحقوا تحميل الثقل كما تقدم في قصة بقرة بني إسرائيل و كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»

______________________________

(1) النساء: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 309

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ و إن كان مقدورا لنا فإن عدم الطاقة ليس بمعنى عدم القدرة حتى يقال: إن اللّه لا يكلف غير المقدور فما وجه هذا الدعاء؟ وَ اعْفُ عَنَّا ذنوبنا وَ اغْفِرْ لَنا خطايانا أي استرها و لا تبدها وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا سيدنا و الأولى بالتصرف فينا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ حتى نغلب عليهم في الحكم كما نغلب عليهم في الحجة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 310

3 سورة آل عمران مدنية/ آياتها (201)

[سورة آل عمران (3): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1)

سميت بذلك لاشتمالها على لفظة آل عمران و قد نزلت بالمدينة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيرها في أول سورة الحمد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 311

[سورة آل عمران (3): الآيات 2 الى 4]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

[2] الم تقدم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له.

[3] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فليس له شريك و هو الحي الذي لا يموت و إن كانت الحياة بالنسبة إليه تعالى تخالف الحياة بالنسبة إلينا فإن حياتنا غير ذواتنا و إنما هي صفة قائمة بنا بخلاف الحياة فيه سبحانه فإنه عين ذاته و القيوم هو القائم على كل نفس بما كسبت و على كل شي ء [4] نَزَّلَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِ لا بالباطل فإن الإنزال قد يكون بالباطل و قد يكون بالحق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ على موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ على عيسى عليه السّلام.

[5] مِنْ قَبْلُ إنزال القرآن عليك، و كل هذه الكتب هُدىً لِلنَّاسِ فإنها تهديهم من الظلمات إلى النور و من الباطل إلى الحق و من الضلال إلى الرشاد وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ الفارق بين الحق و الباطل و هو أعم من الكتب السابقة و سائر ما أنزل على أنبياء اللّه و رسله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بحجج اللّه و دلالاته لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا بالفوضى و الهرج و المرج و المشاكل كما قال تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 312

[سورة آل عمران (3): الآيات 5 الى 7]

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ

الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1» و في الآخرة بالعقاب وَ اللَّهُ عَزِيزٌ له العزة و القدرة بأن يفعل ما يشاء ذُو انْتِقامٍ ينتقم ممن حادّه و عصاه.

[6] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ فلا يظن عاص أنه يخفى على اللّه سبحانه، فإنه يعلم كل شي ء في الكون حتى وساوس القلوب و هواجس الصدور.

[7] هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ أي يعطيكم الصورة في بطون أمهاتكم كَيْفَ يَشاءُ من رجل و امرأة و جميل و قبيح و قصير و طويل و غيرها فكيف يخفى عليه شي ء و هو يفعل مثل هذا الفعل الدقيق في ذلك المحل المظلم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو وحده إله الكون و خالقه الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ فما يفعل شيئا عبثا بل يفعل ما يفعل بالحكمة.

[8] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن مِنْهُ أي قسم من الكتاب آياتٌ مُحْكَماتٌ غير متشابهات فالمفاد منها واضحة لا يخفى على أهل اللسان كقوله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2»

______________________________

(1) طه: 125.

(2) الإخلاص: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 313

هُنَ أي تلك الآيات المحكمات أُمُّ الْكِتابِ أي أصله الذي يرجع إليه لدى الشك و الخصام و الجدال.

وَ أُخَرُ أي آيات أخر مُتَشابِهاتٌ و المتشابه هو الذي يحتمل وجهين أو وجوها مما سبب

عدم إدراك الناس كلهم لها، من تشابه، و إنما يؤتى به إما امتحانا حتى يعرف المؤمن من المنافق أو لتقريب المطلب إلى أذهان الناس الذين لا يدركون الحقائق ككثير من آيات الصفات و نحوها كقوله سبحانه: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» حيث أريد التفهيم من أن المؤمنين ينظرون إلى رحمة اللّه، أو كقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «2» أو لأن المطلب دقيق لا تتحمله بعض العقول كآيات الجن و الشيطان مما لا يتحملها عقل من إلف المادة فيشتبه الأمر عليه أو لأنه جي ء به لاعتبار كلامي فاشتبه الأمر نحو نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «3» أو غير ذلك، و المتشابه مما لا بد منه في الكلام الراقي كما لا يخفى بأدنى تأمل فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق و انحراف إما جهلا أو عنادا فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اتباعا على خلاف المراد منه و يوجهون المتشابه حسب أهوائهم و مشتهياتهم كما يقول القائل

______________________________

(1) القيامة: 24.

(2) البقرة: 30.

(3) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 314

بالتجسم من «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» و بالجبر من وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «1» و بمعصية الأنبياء عليهم السّلام من وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «2» و يكون الإسلام خاصا بالعرب من وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «3» و هكذا ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي لأجل تفتين الناس و إضلالهم وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي لأجل أن يكون له مجال في تأويل الكلام على غير المراد منه ليطابق هواه و مشتهاه وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ التأويل هو ما يؤول و ينتهي إليه الكلام فمثلا ظاهر «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» إنهم ينظرون إلى اللّه لكن هذه الجملة تؤوّل إلى معنى أنهم

ينظرون إلى رحمة اللّه و لطفه و ثوابه، كما يقال في العرف «إني أنظر إلى العقل و هو يسيّر الإنسان» إنه لا يريد النظر بالعين و إنما عرفان ذلك إِلَّا اللَّهُ فهو سبحانه يعلم المراد من كلامه وَ الرَّاسِخُونَ أي الثابتون فِي الْعِلْمِ الذين لهم اطلاع على المعلومات و بأساليب الكلام و بما يدل عليه العقل و الشرع و هذا ليس ببدع فإن القوانين المدنية لا يعرفها إلا من درسها و أتقنها و أساليب الكلام العربي لا يعرفها إلا من أتقن الأدب و البلاغة و هكذا، إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه في حال كونهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه كما آمنا بالمحكم كُلٌ من المحكم و المتشابه

______________________________

(1) الرعد: 34.

(2) طه: 122.

(3) الزخرف: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 315

[سورة آل عمران (3): آية 8]

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فإذا لم يظهر المعنى في بادئ النظر لا ينكرون و لا يقولون بالتناقض، فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل و الإذعان بصحة المتشابه بخلاف الجهال فإنهم يعترضون على المتشابه أولا و يفسرون حسب أهوائهم ثانيا، و هكذا نجد الآن في العرف العالم الورع يجمع بين الفضيلتين و الجاهل يشتمل على الرذيلتين وَ ما يَذَّكَّرُ أي يتذكر و يرد المتشابه إلى المحكم و إلى ما دل من العقل و النقل إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول الحصيفة، ثم إنه ورد في الأحاديث أن المراد بالراسخين النبي و الأئمة عليهم السّلام و لا يخفى أنهم من أجلّ مصاديق الراسخين و ذلك هو المراد لا الانحصار.

[9] إن الراسخين في العلم يلتجئون إلى اللّه سبحانه قائلين رَبَّنا

لا تُزِغْ قُلُوبَنا أي لا تملها عن الحق و إنما نسب الزيغ إليه سبحانه لأنه هو الذي هيأ الأسباب ليمتحن عباده فترك الإنسان- و عدم اللطف به- حتى يقع فريسة الشيطان من صنع اللّه سبحانه كما يقال أن الملك أفسد الرعية لا يراد أنه أفسدهم و إنما يراد تركهم حتى يفسدوا، و لا يخفى الفرق بينه سبحانه و بين الملك لرعيته فإن اللّه حيث خلق الدنيا للاختبار لا بد و أن يهيئ الوسيلتين ليظهر المطيع من العاصي كما قال: (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ) «1» بخلاف الملك فإنه لا يحق له أن يفسد الرعية حتى بتركهم و ما يشاءون فإنه يأمر بالصلاح و الإصلاح كما أن اللّه تعالى يسبل النعم على الجنات و لا يعاقبهم عقوبة ظاهرة في

______________________________

(1) الإسراء: 21.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 316

[سورة آل عمران (3): الآيات 9 الى 10]

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

الدنيا، و ذلك ليس جائز للملوك فإنه يجب إيقاف الجاني عند حده و إجراء العقاب عليه ثم إن الإنسان مهما كان من الرسوخ في العلم فإنه معرض للزلة كما زل «بلعم» قال سبحانه نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ «1» و لذا يدعو الراسخون ربهم سبحانه أن لا يقطع عنهم لطفه الخاص و لا يتركهم ليلعب بهم الشيطان كما يشاء، إذ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى دينك وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ من عندك رَحْمَةً و لطفا نثبت بها على دينك و طاعتك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ الكثير

الهبة لمن تشاء بما تشاء.

[10] رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ تجمعهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ هو يوم القيامة الذي لا شك فيه عند ذوي العقول و إن شك فيه أناس لا نصيب لهم من العلم و المعرفة و قد تقدم وجهه في أول سورة البقرة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي الوعد الذي وعده أنبياءه و البشر بيوم القيامة، فلا تزغ قلوبنا حتى نكون ذلك اليوم من المطرودين أو هذا إظهار من الراسخين بالاعتراف بالبعث و إنهم جمعوا بين فضيلتي الاعتراف بالمبدأ و المعاد.

[11] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه و غيرهم

______________________________

(1) الأعراف: 176.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 317

[سورة آل عمران (3): آية 11]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)

من سائر الكفار لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ كي يعطوها فينجون من عذاب اللّه سبحانه كما تنفع الفدية في الدنيا وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب اللّه و سخطه شَيْئاً فلا يتمكن أولادهم أن يقفوا ليمنعوا عنهم العذاب وَ أُولئِكَ الكفار هُمْ وَقُودُ الوقود الحطب و كل ما يوقد به النار النَّارِ يوم القيامة تتقد النار بأجسامهم كما تتقد النار بالحطب و النفط و نحوها.

[12] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب العادة، أي عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك و بما أنزل إليك كعادة آل فرعون الذين كذبوا الرسل وَ كعادة الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الكفار الذين كانوا يكفرون بآيات اللّه و يكذبون أنبياءه كَذَّبُوا جميعا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة على التوحيد و سائر الأصول فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب عصيانهم و معاصيهم، و معنى الأخذ العقاب أي عاقبهم، كقوله وَ كَذلِكَ

أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ «1» وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فليس عقابه كعقاب سائر الناس، و إنما ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «2».

______________________________

(1) هود: 103.

(2) الكهف: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 318

[سورة آل عمران (3): الآيات 12 الى 13]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

[13] قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ أي بعد قليل يكونون مهزومين إما في الدنيا بغلبة الإسلام، كما صار و كما أخبر حيث إن الإسلام غلبهم و أخذ بلادهم وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ يوم القيامة، و إما في الآخرة بمعنى أنكم بعد قليل تهزمون أمام أمر اللّه سبحانه، و يقبضكم ملك الموت الذي و كل بكم، و بعد ذلك تحشرون إلى جهنم يوم القيامة وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي بئسما مهد لكم أو ما مهدتم لأنفسكم.

[14] و لما بين سبحانه أن الكفار سيغلبون بين لذلك شاهدا محسوسا في قصة بدر حيث كان المسلمون ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و الكفار ألف رجل و لم يكن للمسلمين من العتاد إلا شيئا ضئيلا بينما كان الكفار بأكمل السلاح و مع ذلك فقد غلب المسلمون عليهم بنصر اللّه سبحانه قَدْ كانَ لَكُمْ أيها المسلمون أو أيها الكفار آيَةٌ أي علامة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن اللّه ينصره و يهزم الكفار فِي فِئَتَيْنِ أي جماعتين جماعة المسلمين و جماعة الكفار الْتَقَتا

من الملاقاة إذ اجتمعتا في بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم المسلمون وَ فئة أُخْرى كافِرَةٌ و هم المشركون الذين أتوا من مكة يَرَوْنَهُمْ أي يرى المسلمون الكفار مِثْلَيْهِمْ أي ضعف أنفسهم رَأْيَ الْعَيْنِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 319

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

فلم يكن ذلك خيالا و إنما واقعا فإن الكفار في الواقع كانوا أكثر، و مع ذلك فقد غلب المسلمون، و لعل النكتة في ذكر ذلك بيان أن المسلمين غلبوا مع أنهم كانوا يعلمون بزيادة الكفار عليهم و إن ذلك يدل أن اللّه نصرهم و إلا فإن الجيش إذا علم أن العدو أكثر منه و هن في عضده و يسبب ذلك انهزامه في أكثر الأحيان، و في الآية أقوال أخر مذكورة في التفسيرات وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي يقوي بنصره فلا يضرهم قلة عددهم و عدتهم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور و هو غلبة المسلمين على المشركين مع أن الكفار كانوا ثلاثة أضعافهم لَعِبْرَةً أي اعتبار و هي بمعنى الآية و إنما سميت الآية عبرة لأنها تعبر بالإنسان من الجهل و الغفلة إلى العلم و التذكير لِأُولِي الْأَبْصارِ أي أصحاب العقول، و ليس المراد بالبصر النظر بالعين و إنما النظر بالقلب كما يقال فلان بصير بالأمور أي يعرفها و يدركها.

[15] و هنا يتساءل الإنسان ماذا صرف الكفار عن الحق و هم يرونه؟ و يأتي الجواب إن الذي صرفهم هو جمال الدنيا و مالها كما

قال الإمام أمير المؤمنين عليه

السّلام «لكنهم حليت الدنيا في أعينهم و راقهم زبرجها» «1»

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي أن حب الإنسان للمشتهيات و الملذات سبب لهم أن تتزين الدنيا في نفوسهم فيطلبون اللذائذ و لو

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 3- 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 320

في المحرمات و لم يذكر الفاعل، لأنه ليس بمقصود و قد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه أن لا يذكر الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصودا مِنَ النِّساءِ بيان «الشهوات» وَ الْبَنِينَ فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم و التحفظ عليهم و لو بذهاب الدين وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ القناطير جمع «قنطار» و هو مل ء مسك ثور ذهبا و إنما سمي قنطارا لأنه يكفي للحياة فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة، و المقنطرة بمعنى المجتمعة المكدسة كقولهم دراهم مدرهمة و دنانير مدنرة مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي اللّه في جمعه و في عدم إعطاء حقوقه وَ الْخَيْلِ عطف على النساء، و الخيل الأفراس الْمُسَوَّمَةِ من سوم الخيل التي علمها و لا تعلم إلا الجيد الحسن منها وَ الْأَنْعامِ جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم وَ الْحَرْثِ أي الزرع فهذه كلها محببة للناس، لكن ذلِكَ كله مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يستمتع به في الدنيا و لا تنفع الآخرة إلا إذا بذلت في سبيل اللّه- كل حسب بذله- وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ المرجع أي أن المرجع الحسن في الآخرة منوط باللّه سبحانه فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات و لا يتناول المحرم منها رجاء ثواب اللّه و نعيمه المقيم الذي لا زوال له و لا اضمحلال، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل و عن

الرشاد إلى الضلال.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 321

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 16]

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16)

[16] قُلْ يا رسول اللّه للناس الذين زين لهم حب الشهوات أَ أُنَبِّئُكُمْ أي هل تريدون أن أخبركم بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي بأحسن من هذه الشهوات، و «كم» خطاب للناس لِلَّذِينَ اتَّقَوْا المحرمات و عملوا حسب أوامر اللّه سبحانه عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و نخيلها و قصورها خالِدِينَ فِيها فإنهم يسكنون الجنة أبد الآبدين لا زوال لهم و لا تحويل وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي نساء طاهرة من الأقذار الظاهرية كالحيض و الوساخة، و الأقذار الباطنية كسوء الخلق و الحقد و العداوة وَ أكبر من كل ذلك رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ فإن اللّه راض عنهم و متى شعر الإنسان برضى اللّه سبحانه منه تنعم بأفضل نعمة نفسية كما لو علم فرد من الرعية أن الملك يحبه و يرضى عنه وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ خبير بأفعالهم و أعمالهم فيجازيهم حسب ما يفعلون.

[17] ثم وصف سبحانه المتقين الذين سبق ذكرهم بقوله «للذين اتقوا» فالمتقون هم الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي صدقنا بك و برسلك و بما أمرت و وعدت فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي تجاوز عما صدر منا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 322

[سورة آل عمران (3): الآيات 17 الى 18]

الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ

لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

الخطايا وَ قِنا أي احفظنا من «وقى» «يقي» بمعنى حفظ عَذابَ النَّارِ حتى لا نكون من أهلها.

[18] الصَّابِرِينَ صفة أخرى للمتقين فأولئك هم الصابرون في المصائب و عند الطاعة، و لدى المعصية وَ الصَّادِقِينَ في نياتهم و أقوالهم و أفعالهم وَ الْقانِتِينَ من القنوت بمعنى الإطاعة و الخضوع وَ الْمُنْفِقِينَ لأموالهم في سبيل اللّه سبحانه وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ الذين يطلبون غفران ذنوبهم بِالْأَسْحارِ جمع سحر و هو ما يقرب من طلوع الفجر آخر الليل.

[19] و يناسب السياق هنا الإشارة إلى صفات الباري عز اسمه حيث تقدم ذكر من اتقى و أوصاف المتقين الذين يعملون للّه سبحانه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و شهادة اللّه لفظية و واقعية فإن الشهادة إظهار المطلب باللسان و قد أظهر اللّه سبحانه وحدته و سائر صفاته بما هو أقوى و أثبت و أولى من اللفظ، و هو خلق المصنوعات التي تشهد جميعها بصفاته كما قال الشاعر

«و في كل شي ء له آية ..* .. تدل على أنه واحد» و إنما تشهد المصنوعات على الوحدة لأنه لو كان فيهما آلهة غير اللّه لفسدتا فعدم الفساد دليل الوحدة- كما تقرر في علم الكلام- وَ الْمَلائِكَةُ شهدوا بالوحدانية شهادة لفظية و حقيقية وَ أُولُوا الْعِلْمِ أصحاب العلم الذين يدركون، لا كل من يدعي العلم، فإنه من ينظر إلى الكون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 323

نظر عالم معتبر لا بد له من الإذعان بالوحدانية قائِماً بِالْقِسْطِ أي في حال كونه سبحانه قائما بالعدل، فإن القسط بمعنى العدل، و معنى قيامه سبحانه بالعدل أنه يفعل ما يفعل

بالعدل فخلقه، و تقديره، و تشريعه، كل بالعدل و معنى العدل الاستواء، مقابل الظلم الذي هو الاعوجاج و الانحراف، فمثلا جعل الشمس في السماء عدل لأنها تنير و تشرق و تقيم المجموعة الشمسية بينما عدمها انحراف و ظلم، و كذلك تقدير هذا غنيا و ذاك فقيرا، و هذا رئيسا و ذاك مرءوسا بالعدل، و ما يشاهد في ذلك من الانحراف فإنه ليس من التقدير و إنما من سوء اختيار الناس، و كذلك تشريع الصلاة واجبة، و الخمر محرمة بالعدل.

يقال أن رجلا سأل كسرى عن سبب عدله قال: لعدة أسباب منها أني رأيت في الصحراء يوما كلبا كسر رجل غزال، فما لبث أن رماه إنسان بحجر فكسر رجله فلم يمض على الرجل إلا برهة إذا بفرس رفسه فكسر رجله، فلم تمض على ذلك لحظات إلا بالفرس عثر فانكسرت رجله، و هناك علمت أن الظلم عاقبته و خيمة .... و الإنسان إذا لم يعرف الصلاح و العدل في بعض الأشياء فليس له أن يعترض، و الحال أنه يجهل أكثر الأشياء، فهو كمن يعترض على أدوية وصفها الطبيب و هو لا يعرف من الطب شيئا، و لفظة «قائما» فيها إيماءة لطيفة، فإن القائم يشاهد ما لا يشاهده القاعد، إذ هو مسيطر مشرف لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تكرار للتأكيد، فإن العالم قبل الإسلام كان مرتطما في أو حال الشرك حتى جاء الإسلام فأظهر التوحيد و جدد ما محي من سنن الأنبياء عليهم السّلام و إرشادهم حول المبدأ تعالى الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شي ء عن حكمة و علم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 324

[سورة آل عمران (3): آية 19]

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

[20] و بعد ما تقرر التوحيد و العدل أتى دور الدين الذي أرسله اللّه سبحانه إلى العباد إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ و الدين هي الطريقة التي تؤمن السعادة للبشر دنيا و آخرة، إنه عند اللّه الإسلام، و إن كان عند غيره اليهودية و النصرانية و المجوسية و غيرها، فإن اللّه سبحانه لم يرسل إلا الإسلام و الإسلام هو دين الأنبياء جميعا فإنه عبارة عن تسليم منهج الأعمال إلى اللّه الذي خلق الكون و هو أعلم بالنظام السماوي له الذي إن تبعه البشر عاش سعيدا و مات حميدا، و قد ذكرنا سابقا أن الاختلاف بين الأديان السماوية الواقعية في شرائط و مزايا لا في الجواهر و الأصول وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليس اختلاف أهل الكتاب بعضهم مع بعض و جميعهم مع المسلمين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فعرفوا الصحيح من السقيم و الحق من الباطل، و إنما اختلفوا بَغْياً أي حسدا بَيْنَهُمْ فلم يقبل اليهود أن يرضخوا لعيسى عليه السّلام حسدا، و لم يقبل النصارى أن يؤمنوا بنبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسدا، كما قال سبحانه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فلم يؤمن بها فلا يظن أنه ربح و تهنأ بدنيا باقية بل خسر و ذهبت دنياه و آخرته فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب الكفار

______________________________

(1) النساء: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 325

[سورة آل عمران (3): آية 20]

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

في الدنيا بأنواع من البلايا و المصائب كما قال وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1» و في الآخرة بما اقترفوا من الكفر و الآثام، و الآخرة قريبة جدا فإن «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» قال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيا و هو في الصبح راحل

[21] فَإِنْ حَاجُّوكَ يا رسول اللّه و جادلوك في أمر التوحيد بعد وضوح الحجة فَقُلْ لهم أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فأنا لا أعبد إلا اللّه سبحانه لا أتخذ له شريكا، و إسلام الوجه كناية عن الإسلام المطلق إذ تسليم الوجه إلى نحو يدل على تسليم القلب و سائر الجوارح وَ مَنِ اتَّبَعَنِ أي الذين اتبعوني هم أيضا أسلموا وجوههم للّه فقط دون غيره وَ قُلْ يا رسول اللّه لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب السماوي من اليهود و النصارى و المجوس وَ قل لل الْأُمِّيِّينَ من المشركين الذين لا كتاب لهم و سموا أميين إما لجهلهم نسبة إلى الأم و إما لأنهم من أهل مكة- أم القرى- أَ أَسْلَمْتُمْ أي هل أسلمتم وجوهكم للّه وحده- بلا جدال و لا نقاش معهم بعد ما تمت عليهم الحجة- فَإِنْ أَسْلَمُوا و تشرفوا بدين الإسلام فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 326

[سورة آل عمران (3): آية 21]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)

الحق و إلى طريق مستقيم وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أن تبلغهم الإسلام و ليس عليك إجبارهم

حتى لا يتولوا و حتى لا يعرضوا وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ لا يفوته شي ء من أعمالهم فهو يجازيهم بكفرهم و ميثاقهم كما يجزيهم على إيمانهم و إطاعتهم.

[22] ثم بين سبحانه أن أهل الكتاب كفروا باللّه قديما و قتلوا الأنبياء عليهم السّلام، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يضيق صدره بتكذيبهم و لجاجتهم إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فلا يقبلونها بعد وضوحها و علمهم بها وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ فإن قتل النبي مطلقا ليس بحق و إنما يأتي القيد إفادة لأنه لا حجة لهم في قتل الأنبياء عليهم السّلام حتى أنه ليس هناك حق مدعى أيضا وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل مِنَ النَّاسِ فإن أهل الظلم و الباطل الذين تتمثل فيهم القوة غالبا يقتلون من ينهاهم عن ذلك و يأمر بالقسط و العدل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و كلمة البشارة استهزاء أو بعلاقة استعمال الضد في الضد كتسمية الزنجي بالكافور و الأعمى بالبصير، أو للمقابلة نحو فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «1»، فإن

______________________________

(1) البقرة: 195.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 327

[سورة آل عمران (3): الآيات 22 الى 23]

أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

المؤمن يبشر بالثواب و الكافر يبشر بالعقاب.

[23] أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الخيرية فإن لكل إنسان أعمال خيرية و إن كان كافرا، و معنى حبط العمل بطلانه و عدم إفادته فِي الدُّنْيا فإن كفرهم

سبب هدر دمهم فعملهم الخير لم ينفعهم في حقن دمهم أو أعمال الخير التي تدفع البلايا و الآفات لا تنفع مع الكفر و الانحراف وَ الْآخِرَةِ فلا تفيدهم أعمالهم الحسنة ثوابا كما قال سبحانه وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «1» وَ ما لَهُمْ أي ليس لهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب اللّه و سخطه.

[24] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه، و معناه إفادة العلم بهذا الاستفهام إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أعطوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي بعضا منه لأنهم بتحريفهم الكتاب قد فقدوا بعضه كما قال سبحانه وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ «2» يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يدعوهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى كتاب اللّه ليجعل حكما بينهم و أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق أم لا فقد كان في التوراة و الإنجيل صفاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لذا كان يدعوهم إلى تحكيم كتابهم في هذا الأمر لكنهم لم يقبلوا

______________________________

(1) الفرقان: 24.

(2) المائدة: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 328

[سورة آل عمران (3): الآيات 24 الى 25]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض عن تحكيم الكتاب و إنما قال فريق لأن بعضهم دخل في الإسلام بعد ما تمت له الدلالة و الإرشاد كعبد اللّه بن سلام و غيره وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق و عن كتابهم و في بعض الأحاديث أن الآية نزلت في مسألة

زنا وقعت بين يهودي و يهودية و كان حكمهما الرجم في التوراة و رجعوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعله يحكم بغير ذلك فحكم الرسول بينهم بما في التوراة فكرهوا ذلك.

[25] ذلِكَ الإعراض عن كتابهم و عن أوامر اللّه سبحانه بسبب أنهم أمنوا العقوبة بما لفقوه من الكذب حيث قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي نار جهنم على فرض كفرنا و عصياننا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ سبعة أيام أو أربعين يوما و هذه المدة القليلة فلا ينبغي ترك الشهوات و الرئاسة لأجلها وَ غَرَّهُمْ أي خدعهم فِي باب دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي افتروا و نسبوه إلى الدين من أن النار أيام معدودة فقط خدعهم و غرهم.

[26] فَكَيْفَ حالهم إذا انكشف غرورهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ القيامة الذي لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محل ارتياب و شك وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 329

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

أي يعطى كل إنسان جزاءه وافيا غير منقوص وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بل يجزون على حسب أعمالهم.

[27] و هنا يتوجه السياق إلى كون الملك للّه فليس لأهل الكتاب أن يحسدوا الرسول و المسلمين فيما أوتوا من حول و طول و عزة و ملك، و في بعض الأحاديث أن الآية نزلت بعد ما بشر الرسول

المسلمين بأنهم يفتحون ملك فارس و الروم، فاستهزأ الكفار بذلك و قالوا أنى يكون لمثل هؤلاء أن يسيطروا على تلك الدولتين العظيمتين قُلِ يا رسول اللّه اللَّهُمَ أي يا اللّه، و الميم بدل عن حرف النداء مالِكَ الْمُلْكِ مالك منصوب على أنه مناد مضاف أي يا مالك الملك فكل شي ء لك وحدك لا شريك و ملك من عداك إنما هو مجازي اعتباري تُؤْتِي أي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ أن تعطيه وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ أن تنزعه من غير فرق بين أن يكون الملك سلطانا أو ملكا لشي ء كالدار و العقار وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أن تعزه عزة ظاهرية أو باطنية بالإيمان و الطاعة وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أن تذله بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فتقدر على الإعطاء و المنع و أن تعز و تذل.

[28] تُولِجُ أي تدخل اللَّيْلَ فِي النَّهارِ فيأخذ الليل مكان النهار، فيما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 330

[سورة آل عمران (3): آية 28]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

ينقص اليوم و يزيد الليل، أو فيما إذا جاء الليل و ذهب النهار، و هو كناية، إذ ليس الإدخال حقيقة وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بأحد المعنيين السابقين وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كما يخرج النبات الحي من الحب الميت و الأرض الميتة، أو يخرج الجنين الحي من الأم الميتة كما قد تموت الأم و يخرج الولد منها حيا وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كما يخرج الحب الميت من النبات الحي و البيضة الميتة من الدجاجة و الولد

الميت من المرأة الحية إذا مات الجنين في بطنها، و في التأويل إخراج المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من عبادك و خلقك بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب، أو بلا حساب من المنفق عليه و إن كان كل شي ء عنده تعالى بحساب.

[29] و حيث ثبت أن الملك بيد اللّه و العزة و الذلة منه ف لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ بأن يصادق المؤمن الكافر بزعم أنه ينفعه لأن بيد الكافر الملك أو أنه يسبب عزته و شوكته مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من دون أن يتخذ المؤمنين أولياء بل اللازم أن يتخذ المؤمن المؤمن وليا، و يتخذ من الكافر عدوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ للكافر وليا فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ أي ليس ذا قدر عند اللّه سبحانه إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 331

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 30]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

تخافوا من الكفار فلا بأس باتخاذهم أولياء تقية وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يخوفكم اللّه من نفسه فإن من يتخذ الكافر وليا يشمله عقاب اللّه سبحانه وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع فمن عصاه يجازيه بالنار و العذاب.

[30] قُلْ يا رسول اللّه للمسلمين إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي نواياكم و ما

في قلوبكم، كما لو اتخذتم الكافر وليا في قلبكم مما لم يعلم به الناس أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ فإنه العالم بالنوايا و ما في الصدور وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو العالم بكل شي ء فكيف لا يعلم ما في صدوركم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو العالم بالنوايا و القادر على العقاب فمن الجدير بالمسلم أن لا يتخذ الكافر وليا أو المؤمن عدوا حتى في قلبه إذ يعلمه اللّه و يقدر على عقابه.

[31] اذكروا أيها الناس يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي تجد كل أعماله الخيرية حاضرة كما قال سبحانه وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً «1» و معنى حضور العمل حضور حساباتها و ثوابها و عقابها أو

______________________________

(1) الكهف: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 332

[سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

تجسم الأعمال كما ذهب إلى ذلك بعض وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي تجد أعماله السيئة حاضرة تَوَدُّ تلك النفس العاصية لَوْ أَنَّ بَيْنَها أي بين النفس وَ بَيْنَهُ أي بين ما عملت من سوء أَمَداً بَعِيداً أي مكانا بعيدا تشبيه بالأمر المحسوس فكما أن المتباعدين لا يتلاقيان فعلا كذلك لو كان العمل السيئ بعيدا عن عامله وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ حتى تخافوا من عقابه فتتقوه وَ اللَّهُ رَؤُفٌ ذو رأفة و رحمة بِالْعِبادِ و من رأفته يحذركم عن المعاصي حتى لا يأخذكم و بالها و عاقبتها.

[32] قُلْ يا رسول اللّه إِنْ كُنْتُمْ أيها المسلمون،

أو يا أهل الكتاب تُحِبُّونَ اللَّهَ حقيقة و تصدقون في مقالتكم هذه فَاتَّبِعُونِي فيما أمر اللّه و أنهى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فإن اللّه لا يحب إلا من اتبع رسوله في أوامره و نواهيه و إلا مجرد دعوى حب اللّه بلا شاهد و حقيقة لا يكفي في حب اللّه تعالى للمدعي وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ فإن من أحسن و اتبع الرسول يغفر ذنبه و يمحي سيئته وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعباده.

[33] قُلْ يا رسول اللّه أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ و إطاعة اللّه سبحانه هي إطاعة الرسول لكن ذكر ذلك تعظيما للأمر و إردافا لإطاعة الرسول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 333

[سورة آل عمران (3): آية 33]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)

بذلك كما قال فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ «1» مع أن خمس اللّه إنما هو للرسول و يحتمل أن يكون ذكر اللّه و الرسول لإفادة وحدة الجهة أي إن اللّه و الرسول لهما إطاعة واحدة فهو من قبيل أطع العلماء لا من قبيل أطع العالم أو أطع أباك فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا فلم يطيعوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ الذين يعرضون عن أوامر اللّه و رسوله و معنى لا يحبهم أنه يبغضهم لا النفي للحب فقط المجامع لعدم البغض.

[34] و حيث كان الكلام حول وحدة الدين و أنه هو الإسلام و التعريض بالكفار و أخيرا انتهى المطاف إلى ميزان حب اللّه سبحانه ناسب السياق ذكر بعض الأفراد الذين اختارهم اللّه سبحانه أ ليسوا هم جميعا قادة دين واحد المنتهي إلى المسلمين فمن اللازم أن يعرفوهم و يقدروهم، فقال سبحانه إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لرسالته و وحيه و

جعلهم أنبياء مرشدين آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ الأنبياء الذين من نسله إسحاق و إسماعيل و يعقوب و يوسف و عيسى و محمد «صلوات اللّه عليهم أجمعين» وَ آلَ عِمْرانَ موسى و هارون عليهما السّلام عَلَى الْعالَمِينَ و إنما خصص هؤلاء الأنبياء، لكون آدم أبو البشر، و نوح و آل إبراهيم بما فيهم إبراهيم- فإنه يقال آل فلان للأعم منه و من آله- و آل عمران الذين فيهم الأنبياء، أولوا العزم هم مدار الرسالات العالمية.

______________________________

(1) الأنفال: 42.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 334

[سورة آل عمران (3): الآيات 34 الى 35]

ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

[35] حال كون نوح و آل إبراهيم و آل عمران ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في أداء الرسالة و مناصرة الدين و إرشاد الناس، فإن من خرج عن دين آبائه ليس منهم كما قال سبحانه إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ «1» بخلاف من اتبع آباءه وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما تقوله الذرية عَلِيمٌ بضمائرهم و أعمالهم و لذا فضلهم على من سواهم إن هؤلاء الأنبياء كلهم ذووا خصائص واحدة موروثة من جدهم آدم عليه السّلام مما تؤهلهم لحمل الرسالة الواحدة التي هي رسالة الإسلام.

[36] و في هذا الجو يأتي ذكر والدة عيسى عليهم السّلام و أنها كيف كانت طاهرة زكية بحيث أهلت لإيداع النبي العظيم عندها، اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ و هي حنّة جدة عيسى عليه السّلام من الأم رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً و ذلك حين حملت لم تكن تعلم أنها أنثى فنذرت أن

تجعل ما في بطنها لخدمة المسجد و معنى المحرر الفارغ من الأعمال الدنيوية الصارف جميع أوقاته في خدمة بيت اللّه سبحانه، و هكذا كان قلب أم مريم عامرا بالإيمان جاعلة أعز شي ء لديها للّه و في خدمة عباد اللّه فَتَقَبَّلْ مِنِّي نذري إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائي الْعَلِيمُ بما في ضميري من صدق و إخلاص.

______________________________

(1) هود: 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 335

[سورة آل عمران (3): الآيات 36 الى 37]

فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

[37] فَلَمَّا وَضَعَتْها أي وضعت امرأة عمران جنينها خاب ظنها و رأت أنها أنثى ف قالَتْ في يأس و تبتل رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى و الأنثى لا تصلح للخدمة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ فإن اللّه كان يعلم ذلك منذ كانت جنينا في بطنها بينما هي لا تعلم إلا بعد الوضع وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فالذكر يأتي منه الخدمة و لا بأس بحشره في مكان العبادة في المسجد بخلاف الأنثى إذ لا تلائم الرجال و لا تلائم عادتها النسائية المسجد، ثم قالت وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ أي جعلت اسمها «مريم» و هي في لغتهم بمعنى العابدة وَ إِنِّي أُعِيذُها أي أجعلها في حفظك و حراستك بِكَ وَ أعيذ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المرجوم باللعن و المطرود عن الخير.

[38] فَتَقَبَّلَها رَبُّها

أي تقبل اللّه سبحانه مريم مع أنوثتها بِقَبُولٍ حَسَنٍ حيث قدر لها السعادة و أن يجعل منها عيسى المسيح عليه السّلام وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي جعل نشوءها نشئا حسنا بالفضيلة و الأخلاق و العفة و الطهارة وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعل اللّه سبحانه كفيلها زكريا و كان زوج خالة مريم، و هو من أنبياء اللّه سبحانه فإن أم مريم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 336

[سورة آل عمران (3): آية 38]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)

ذهبت بها إلى المسجد و سلمتها إلى الأحبار فتنازعوا في كفالتها حتى اقترعوا عليها و خرجت القرعة باسم زكريا فكانت مريم تخدم في صغرها المسجد حتى إذا بلغت مبلغ النساء انفصلت عنهم في غرفة خاصة بها بناها لها زكريا في وسط المسجد عالية لا يمكن الوصول إليها إلا بسلم و كان يأتي بحوائجها كل يوم و كان من غريب أمرها أن كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ و هي غرفتها و سمي محرابا لأنه محل محاربة النفس و الشيطان وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً فاكهة في غير حينها قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق قالَتْ مريم هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أرسله إلي اللّه تعالى من الجنة كرامة لي إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقتير أو محاسبة من المرزوق.

[39] هُنالِكَ الذي رأى زكريا إكرام اللّه سبحانه لمريم نحو خرق العادة من إرسال الفاكهة إليها دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي نسلا صالحا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ و كان زكريا يائسا من الأولاد حيث كبر و شاخ

و كانت امرأته عاقرا لكن طلب و دعا مريدا على وجه الإعجاز و خرق العادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 337

[سورة آل عمران (3): الآيات 39 الى 40]

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)

[40] فَنادَتْهُ أي نادت زكريا الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ إما المراد المحراب أو نفس المسجد و سمي محرابا لأنه محل محاربة الشيطان و النفس حيث يريدان صرف الإنسان إلى الدنيا و المسجد يصرفه إلى الآخرة أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى سماه سبحانه بهذا الاسم قبيل الولادة في حال كونه مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ و المراد بالكلمة عيسى عليه السّلام أي أن يحيى يصدق نبوة عيسى، و إنما سمي عيسى عليه السّلام كلمة اللّه لأنه كان بإلقاء اللّه إياها إلى مريم، كما تلقى الكلمة من الفم وَ سَيِّداً أي ذو سيادة و شرافة وَ حَصُوراً يحصر نفسه عن الملذات، أو عن النساء خاصة بمعنى أنه عليه السّلام كان زاهدا، و كون حصور مدحا ليحيي عليه السّلام لأسباب خاصة لا ينافي استحباب الزواج في الشرائع وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ الذين يصلحون و لا يكن فيهم فساد كما هو شأن جميع الأنبياء.

[41] فاستفسر زكريا عليه السّلام عن كيفية حصول الولد هل يرزقه و هما على ما هما عليه من الحالة أم تتبدل حالتهما قالَ زكريا في جواب الملائكة سائلا عن اللّه سبحانه رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي كيف يكون لي ولد وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ

أي الشيخوخة وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 338

[سورة آل عمران (3): الآيات 41 الى 42]

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41) وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)

ليس لها قابلية الولادة قالَ الملك في جوابه كَذلِكَ أي كالحال الذي أنتما عليه من الكبر و العقر اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ فإنه قادر على كل شي ء.

[42] قالَ زكريا عليه السّلام رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة أعرف بها وقت الحمل لأزيد شكرا و سرورا أو علامة أعرف بها استجابة دعائي ليطمئن قلبي و أجده محسوسا ملموسا بعد ما وجدته سماعا بالبشارة قالَ الملك، أو اللّه سبحانه بخلق الصوت في الفضاء آيَتُكَ أي الدليل على ذلك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي لا تقدر على التكلم معهم كلما توجهت إليهم بالكلام يعقد لسانك ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً بالإشارة باليد و الرأس وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً فإن لسانك لا ينعقد عن الذكر و التسبيح للّه سبحانه وَ سَبِّحْ أي نزه الباري تعالى بِالْعَشِيِ آخر النهار وَ الْإِبْكارِ أول النهار، من أبكر فهو اسم مفرد لا جمع.

[43] ثم رجع السياق إلى بقية قصة مريم عليها السّلام حيث كانت قصة زكريا عليه السّلام توسطت في الموضوع لمناسبة وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اختارك لعبادته و إطاعته و أن تكوني وعاء لنبيه وَ طَهَّرَكِ من الآثام و الذنوب و الأدناس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 339

[سورة آل عمران (3): الآيات 43 الى 44]

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ

اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

و العادات النسائية وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ و كرر الاصطفاء تأكيدا و مقدمة لذكر نساء العالمين فليس الاختيار لها في جملة مختارات و إنما هي مختارة على سائر نساء زمانها و عوالمها لأكل العالمين فإن فاطمة عليها السّلام هي المختارة المطلقة على جميع النساء و قد تقدم أن مثل هذه العبارة تقال مرادا بها العوالم المعاصرة لأكل العوالم كما يقال إن الدولة الفلانية أقوى جميع الدول يراد الدول المعاصرة لها لا كل دولة في العالم أتت أو تأتي.

[44] يا مَرْيَمُ اقْنُتِي القنوت الخضوع و الإخلاص في العبادة لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي في جملة الذين يركعون للّه سبحانه.

[45] ذلِكَ الذي تقدم من قصص مريم و زكريا و يحيى مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي الأخبار الغائبة عن الحواس فإن كل شي ء غاب عن الحواس يسمى غيبا نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نلقيه عليك ليدل على أنك من المرسلين فإن الإخبار عما لم يحضره الإنسان و لم يعلمه من طريق التاريخ يدل على كونه بالإعجاز و خارق للعادة وَ ما كُنْتَ يا رسول اللّه لَدَيْهِمْ أي عند الأحبار و المعاصرين لمريم عليها السّلام إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي بها كانوا يكتبون التوراة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ فإن زوجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 340

[سورة آل عمران (3): الآيات 45 الى 46]

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً

وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46)

عمران لما أتت بمريم إلى المسجد اختلفت الأحبار في من يكفلها لأنها كانت بنت إمامهم و صاحب قربانهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقال له الأحبار: إنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها و لكن نقترع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا و هم تسعة و عشرون رجلا إلى نهر جار فألقوا أقلامهم في الماء فأبرز قلم زكريا و ارتفع فوق الماء و رسبت أقلامهم و لذا أخذها زكريا وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها و أن أيهم يكفلها.

[46] و اذكر يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ مخاطبة لمريم عليها السّلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد هو كلمة اللّه تلقى عليك و يخرج منك بصورة عيسى المسيح عليه السّلام اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قيل سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض و يسير فيها، و ذكر في الكلام أمه دحضا لمن يفتري قائلا: أنه ابن اللّه، في حال كونه وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أي ذا جاه و قدر و شرف وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ للّه تعالى قرب شرف و جاه لا زمان و مكان.

[47] وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حال كونه صغيرا قبل أوان تكلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 341

[سورة آل عمران (3): الآيات 47 الى 48]

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48)

الأطفال و المهد هو الموضع الذي يوضع فيه

الطفل و يهز من خشب أو حديد أو ثوب أو نحوها وَ كَهْلًا أي يكلمهم كهلا بالوحي و الكهل ما بين الشاب و الشيخ أو يراد الإخبار عن بقائه إلى ذلك الوقت وَ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين فيهم الصلاح دون الفساد.

[48] قالَتْ مريم لما سمعت هذا النبأ المدهش رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي كيف يمكن أن ألد ولدا وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي لم يقترب مني على نحو النكاح فإنها كانت دون زوج قالَ الملك في جواب مريم كَذلِكِ أي هكذا بدون المس و الزوج اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فإنه ليس بخارج عن قدرة اللّه سبحانه إِذا قَضى أَمْراً أراد خلقه و تكوينه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ قولا أو إرادة بدون تلفظ فَيَكُونُ في الخارج، فإن اللّه يوجد الأشياء بصرف الإرادة.

[49] وَ يُعَلِّمُهُ أي يعلم اللّه سبحانه المسيح الْكِتابَ أي الكتابة أو مطلق الكتاب المنزل من السماء وَ الْحِكْمَةَ حتى يكون حكيما يعرف مواضع الأشياء أو المراد بالحكمة علم الشرائع من الحلال و الحرام و سائر الأحكام وَ التَّوْراةَ و هو كتاب موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب الذي أنزل على المسيح بنفسه و قد ذكروا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 342

[سورة آل عمران (3): آية 49]

وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

أن معنى التوراة «التعليم و البشارة» و معنى الإنجيل «البشارة و التعليم».

[50] وَ نجعله رَسُولًا إِلى بَنِي

إِسْرائِيلَ لإرشادهم من الضلالة إلى الحق، و انتقل السياق إلى كلام عيسى عليه السّلام الذي كان يتكلم به بعد النبوة، فكان يقول لبني إسرائيل أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة و علامة تدل على صدق دعواتي للنبوة و أني رسول إليكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ أي أصنع لأجلكم مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي على صورة الطائر فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في الطائر المصنوع من الطين فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته و قدرته، فصنع صورة خفاش من الطين و نفخ فيه فطار وَ أُبْرِئُ أي أشفي الْأَكْمَهَ الذي ولد أعمى، أو مطلق الأعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي أصيب بمرض البرص و هو الوضح وَ أُحْيِ الْمَوْتى كل ذلك بِإِذْنِ اللَّهِ فكان يقف على القبر و يقول للميت قم بإذن اللّه فيقوم ينفض عن جسمه الغبار كأنه لم يمت أصلا وَ أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِما تَأْكُلُونَ إخبارا عن الغيب وَ ما تَدَّخِرُونَ من الادخار فِي بُيُوتِكُمْ فكان يقول

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 343

[سورة آل عمران (3): الآيات 50 الى 51]

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

للشخص تغذيت بكذا أو حفظت لليل كذا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت من المعجزات لَآيَةً معجزة دالة على صدقي لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و إنما يقيد بالإيمان لأن من لا يؤمن باللّه سبحانه لا يمكن أن يفرق بين المعجزة و السحر.

[51] وَ ذلك في حال كونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ أي ما تقدم علي و أنزل قبلي مِنَ التَّوْراةِ فإنه من أسباب لزوم

تصديقي حيث لا أبطل كتاب بني إسرائيل وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ يا بني إسرائيل بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السّلام و هذا التحليل إنما كان لانقضاء ظرف التحريم وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة تشهد بصدقي و أني من قبل اللّه سبحانه، و هي إما إجمال لما فصل في الآية السابقة، جمعا لأعماله عليه السّلام في الأمور الثلاثة، التصديق، و التحليل، و الإعجاز، و إما يراد به آية أخرى لم تذكر في القرآن فَاتَّقُوا اللَّهَ و صدقوا برسالتي وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به و أنهاكم عنه.

[52] إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فلست أنا ابنا له، قال ذلك ردا على النصارى الذين اتخذوه إلها فَاعْبُدُوهُ وحده و لا تعبدوا من دونه الشركاء كما عبدت اليهود عزيرا، و عبدت النصارى المسيح هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 344

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 53]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

لا اعوجاج له و لا انحراف بخلاف سائر الطرائق التي هي طرق معوجة منحرفة زائغة.

[53] و بعد هذه الحجج لم يزدد بني إسرائيل إلا عنادا و استكبارا فَلَمَّا أَحَسَ من الحس أي وجد عِيسى عليه السّلام مِنْهُمُ الْكُفْرَ و أنه لم تنفعهم الحجة و الدليل قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ الذين ينصرون ديني للوصول إلى ثواب اللّه تعالى إذ المسلم يقطع طريق الوصول إلى اللّه لينتهي إلى ثوابه قالَ الْحَوارِيُّونَ هو جمع حواري من الحور بمعنى شدة البياض و سمي خاصة الإنسان بالحواري لنقاء قلبه و

صفاء باطنه نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ الذين ننصر دينه و نتابعك على ما أنت عليه آمَنَّا بِاللَّهِ إيمانا لا يشوبه شرك وَ اشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ في أدياننا.

[54] ثم توجهوا إلى اللّه سبحانه داعين قائلين رَبَّنا أي يا ربنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ على رسولك عيسى عليه السّلام وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيما أمر و نهى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون على الأمم كما قال سبحانه لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1» فالرسل

______________________________

(1) البقرة: 144.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 345

[سورة آل عمران (3): الآيات 54 الى 55]

وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

شهداء على أصحابهم و هم شهداء على سائر الناس.

[55] ذلك كان قول أنصار عيسى و المؤمنين به أما الكفار الذين جحدوه و أنكروه فلم يؤمنوا وَ مَكَرُوا لعيسى عليه السّلام بأن يقتلوه وَ مَكَرَ اللَّهُ بإنقاذه منهم و قتل كبيرهم عوضه، و المكر لغة بمعنى تطلب العلاج لأمر ما و الغالب يستعمل في الشر، و لعل نسبة المكر هنا إلى اللّه سبحانه للمقابلة نحو قوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1» مع أن اللّه سبحانه ليس له نفس وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لأنه أعرف بطرق العلاج، و في بعض التفاسير أنه لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السّلام دخل خوخته و فيها كوة فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء و قال الملك لرجل خبيث من

الكفار ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى اللّه عليه شبه عيسى عليه السّلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه بظن أنه عيسى و كان قتله على نحو الصلب و كلما صاح أنه ليس بعيسى لم يفد.

[56] و اذكر يا رسول اللّه إِذْ قالَ اللَّهُ أو ذاك إذ قال، أو و مكر اللّه إذ قال يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي آخذك وافيا فإن معنى توفاه أخذه وافيا و يقال توفى اللّه فلان حين يأخذ روحه وافية من الوفاء و هو في أخذ الروح و الجسد أقرب إلى الحقيقة من أخذ الروح فقط فإنه

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 346

[سورة آل عمران (3): آية 56]

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

بعلاقة الكل و الجزء أي آخذك وَ رافِعُكَ إِلَيَ فإنه عليه السّلام رفع إلى السماء الرابعة كما في بعض الأحاديث و قد يظن أن ذلك ينافي ما اشتهر في العلم الحديث من عدم وجود سماوات ذات حجوم لكنه ظن غير تام إذ السماء حتى لو كان يراد بها المدار- كما هو معناه لغة- تكون هناك سماوات و للتوضيح راجع «الهيئة و الإسلام» تأليف «العلامة الشهرستاني» وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم أرجاس أنجاس فكما أن الجسم المحاط بالنجاسة إذا غسل يطهر عنها كذلك إن الإنسان الطيب في أناس كفرة عصاة إذا أخرج من بينهم كان تطهيرا له في المعنى عن لوثهم و كفرهم وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ من النصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك من اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ و هذا من معاجز القرآن الحكيم فإن النصارى دائما فوق اليهود إلى يومنا هذا و

سيكونون كذلك إلى يوم القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ جميعا أنت و أصحابك الكفار، و ذلك يوم القيامة فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك و من كونك نبيا و سائر الأصول و الفروع التي كنت تنادي بها و تبشر من أجلها و كان اليهود يكفرون بها.

[57] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بك و بما جئت به فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 347

[سورة آل عمران (3): الآيات 57 الى 58]

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

بضرب الذلة و المسكنة عليهم و إنهم دائما تحت حكم أصحابك و أنه لا تقوم لهم دولة إلا بحبل من اللّه و حبل من الناس و إنهم مكروهون منفورون أبد الآبدين وَ الْآخِرَةِ بإدخالهم نارا أحاطت بهم سرادقها و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس اللّه و عذابه.

[58] وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بك و بما بشرت به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مما أمرناهم به و اجتنبوا عن المحرمات، فإنه لا يقال يعمل فلان الصالحات إلا إذا اجتنب الآثام إلى جنب إتيانه بالواجبات فَيُوَفِّيهِمْ أي يعطيهم اللّه أُجُورَهُمْ كاملة غير منقوصة فإن الوفاء إعطاء المطلوب كاملا وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا بالكفر أو بعدم العمل الصالح.

[59] ذلِكَ المذكور هنا من أخبار زكريا و عيسى و يحيى و مريم عليهم السّلام نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نقرأه عليك بسبب الوحي مِنَ الْآياتِ أي من جملة الآيات و الحجج الدالة على صدقك و أنك نبي يوحى إليه وَ من الذِّكْرِ إي القرآن الْحَكِيمِ المحكم الذي لا

يتطرق إليه بطلان أو زيغ.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 348

[سورة آل عمران (3): الآيات 59 الى 61]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)

[60] و هنا تتهيأ النفوس لإدراك حقيقة عيسى هل كان بشرا و كيف ولد من غير أب فقال سبحانه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ فليس ولادة عيسى من غير أب عجيبا و بدعا و لا يدل ذلك على أنه رب، فآدم أعجب منه أ ليس اللّه سبحانه خَلَقَهُ أي خلق آدم مِنْ تُرابٍ صنعه و جسده ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ إنسانا حيا فَيَكُونُ كما قال و مقتضى القاعدة أن يقال «فكان» إلا أن هذه الجملة أخذت صيغة المثالية نحو الصيف ضيعت اللبن، و لذا يؤتى بها على لفظها و قد تقدم أن كلمة «كن» تعبر عن الإرادة الأزلية لا أن في اللفظ خصوصية.

[61] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول اللّه أي أن قصة عيسى هكذا أو خلقه كذلك حق من ربك فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي من الشاكين فإن امترى بمعنى شك و الخطاب و إن كان للرسول لكنه عام لكل أحد، و من المعلوم أن توجيه الخطاب لا يلازم احتمال وجود الصفة، و إنما أكد البيان بجملة «فلا تكن» لكثرة الشك و التشكيك لدى الناس في مختلف شؤون عيسى عليه السّلام.

[62] فَمَنْ حَاجَّكَ و جادلك يا رسول اللّه فِيهِ أي في عيسى قائلا

أنه ليس بشرا و إنما هو رب انفصل عن الرب، و نزلت الآية في وفد نجران من المسيحيين الذين جاءوا للمجادلة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم تنفعهم الحجة و الدليل فقرر الطرفان أن يخرجوا إلى الصحراء ليدعو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 349

[سورة آل عمران (3): آية 62]

إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

كل من الطرفين على الكاذب فخرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الموعد مع علي و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام فلما رأتهم النصارى أحجموا و قال كبيرهم: إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة و

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم الوادي عليهم نارا، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا

مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ حول قصة عيسى عليه السّلام فَقُلْ لهم يا رسول اللّه تَعالَوْا أي هلموا إلى حجة أخرى ليست محل نقاش و جدال نَدْعُ أي يدعو كل طائفة منا أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا أي من هو بمنزلة أنفسنا وَ أَنْفُسَكُمْ أي من هو بمنزلة أنفسكم، و المراد دعوة كل طرف خواصه و من يقترب إليه من الأبناء و النساء و من هو بمنزلة نفسه ثُمَّ نَبْتَهِلْ الابتهال طلب اللعنة من اللّه سبحانه أي تدعو كل طائفة على الأخرى قائلين: لعن الكاذب، و قد يستعمل الابتهال بمعنى مطلق الدعاء

خيرا كان أو شرا فَنَجْعَلْ في ابتهالنا لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ و قد أجمع المفسرون أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخرج معه إلا ابنيه الحسن و الحسين و بنته فاطمة و ابن عمه عليا عليهم السّلام.

[63] إِنَّ هذا الذي أوحينا إليك في أمر عيسى و غيره لَهُوَ الْقَصَصُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 399

[سورة آل عمران (3): الآيات 63 الى 64]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

جمع قصة الْحَقُ الذي لا كذب فيه و لا زيغ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ فليس عيسى إلها كما يزعم النصارى وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في سلطانه الْحَكِيمُ في أفعاله فلا يتخذ البشر ابنا له كما يقول اليهود و النصارى.

[64] فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا مصرين على عقائدهم الفاسدة فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون عقائد الناس و أعمالهم فإنهم لا يفوتونه سبحانه بل هم بعلمه و سيجازيهم بأعمالهم و أفعالهم.

[65] و حيث انتهى السياق من قصص عيسى عليه السّلام تناول الحديث حول أهل الكتاب و انحرافاتهم للعلاقة الوثيقة بين الموضوعين فقال سبحانه قُلْ يا رسول اللّه يا أَهْلَ الْكِتابِ و المراد بهم اليهود و النصارى تَعالَوْا أي هلموا نجتمع جميعا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أي إلى كلام عدل لا ميل له و نحن جميعا نعترف به و ندع ما سوى ذلك ما لم يدل عليه دليل أَلَّا

نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ فإن العبادة لا تجوز إلا له إذ هو الذي خلق الكون وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من إنسان أو حيوان أو جماد كما يصفه المشركون وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أي بعض البشر أَرْباباً و آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ كاتخاذ النصارى المسيح إلها أو المراد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 351

[سورة آل عمران (3): الآيات 65 الى 66]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)

اتخاذ الأحبار و الرهبان آلهة في الإطاعة فيما خالف اللّه سبحانه كما قال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً «1» فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن ذلك فَقُولُوا لهم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ للّه وحده نتبع طريقه و لا نبتغي غير الإسلام دينا.

[66] و قد كان أهل الكتاب يقولون أن إبراهيم كان على ديننا فاليهود منهم كانوا يقولون أنه عليه السّلام كان يهوديا و النصارى منهم كانوا يقولون أنه عليه السّلام كان مسيحيا فقال سبحانه في ردهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ أي لماذا تُحَاجُّونَ و تجادلون فِي إِبْراهِيمَ عليه السّلام و تنسبوه إلى اليهودية و النصرانية وَ الحال أنه متقدم زمانا على كلا الدينين، فإبراهيم جد موسى و عيسى و هو سابق عليهما بقرون فإنه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى وَ الْإِنْجِيلُ على عيسى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد إبراهيم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ ليس لكم عقل حتى تعرفون التاريخ.

[67] ها تفيد التنبيه أَنْتُمْ هؤُلاءِ يا معشر أهل الكتاب حاجَجْتُمْ و جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مما

تعلمون كالقبلة

______________________________

(1) التوبة: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 352

[سورة آل عمران (3): الآيات 67 الى 68]

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

و نحوها فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ إذ لا تعلمون تاريخ إبراهيم و تجادلون في أنه كان يهوديا أو نصرانيا وَ اللَّهُ يَعْلَمُ تاريخ إبراهيم و دينه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فما هذه المخاصمة و المجادلة.

[68] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا فإنهما طريقتان متأخرتان انحرفتا عن سنن الأنبياء حتى أن المسيح و موسى عليهما السّلام لم يكونا متصفين بهاتين الملتين وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مستقيما في دينه لا منحرفا مُسْلِماً لما تقدم من أن الإسلام دين الأنبياء جميعا وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كشرك اليهود الذين جعلوا عزير ابن اللّه و شرك النصارى الذين جعلوا المسيح إلها أو ابن اللّه.

[69] كانت اليهود تقول نحن أولى بإبراهيم لأنه على ديننا و كانت النصارى تقول مثل ذلك فنزلت إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الذي يحق أن يفتخر به و يقول أنا على طريقته و أنه رئيس الملة لي لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في زمانه و بعده إذ التابع يحق له أن يفتخر برئيسه و متبوعه لا من يتبع غيره كاليهود و النصارى الذين خالفوا إبراهيم وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على «الذين اتبعوه» فإن هذا النبي و المؤمنين هم الذين اتبعوا إبراهيم و هم على ملته فإن ملته التوحيد و خلع الأنداد وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 353

[سورة آل عمران (3):

الآيات 69 الى 71]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

يلي أمورهم و ينصرهم على عدوهم.

[70] وَدَّتْ أي أحبت و رغبت طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي جماعة منهم فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يكن يعنيهم هذه الأمور لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن دينكم حتى تدخلوا في دينهم أو ترجعوا كفارا وَ ما يُضِلُّونَ هؤلاء إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فإنهم بتركهم الإسلام و التزامهم أديانهم المنحرفة سببوا ضلالا لأنفسهم، أو المراد أنه لا يرجع و بال إضلالهم إلا على أنفسهم حيث يوجب ذلك لهم خزيا في الدنيا و عذابا في الآخرة وَ ما يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون أنهم أضلوا أنفسهم أو ما شعروا بأنه رجع وبال إضلالهم إلى أنفسهم.

[71] يا أَهْلَ الْكِتابِ هم اليهود و النصارى، و المجوس و إن كانوا أهل الكتاب إلا أن هذه المباحثات كانت مع الطائفتين فقط كما يستفاد من سياق الآيات لِمَ أي لماذا تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بدلائله و حججه التي أقامها على التوحيد و الرسالة و سائر الأمور وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بلزوم الإقرار بها شهادة فيما بينكم، أو شهادة حسب كتبكم الدالة على التوحيد و رسالة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سائر الأمور المختلف فيها.

[72] يا أَهْلَ الْكِتابِ و خطابهم بهذا الخطاب إشعار بأنهم ينبغي أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 354

[سورة آل عمران (3): آية 72]

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

لا

يكونوا كذلك إذ هم أهل العلم و الدراية و فيهم نزل كتاب اللّه سبحانه لِمَ أي لماذا تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تخلطون الحق بالباطل ففي أعمالكم قسم من الحق و قسم من الباطل فالإيمان بموسى و عيسى حق و الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باطل و هكذا بعض كتابهم حق و بعضه الذي حرفوه باطل وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق فقد كان علماؤهم يكتمون صفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى لا يميلوا نحوه و تذهب رئاستهم.

[73] و قد صدرت مكيدة من أهل الكتاب لتضليل الناس و أن لا يتعلقوا بدين الإسلام، حيث يظهرون عملا يصورهم عند الناس في صورة المنصف و أنهم إنما لم يتبعوا الإسلام لأنهم لم يجدوه حقا وَ قالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بعضهم لبعض آمِنُوا أي أظهروا الإيمان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي بالقرآن وَجْهَ النَّهارِ أي أول الصبح، فقولوا إنا آمنا بمحمد و كتابه لأنا وجدناه في كتبنا وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ أي آخر النهار فقولوا بعد أن آمنا رجعنا إلى صفات محمد ثانيا فوجدناها ليست كما ذكر في كتابنا، فإن هذا العمل يريكم في أعين الناس منصفين حيث آمنتم بمحمد بمجرد علمكم بحقيقته، و إنما رجعتم حيث ظهر لكم عدم الحقيقة، فتوهمون الناس أنكم منصفون صادقون تريدون الحق لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 355

[سورة آل عمران (3): آية 73]

وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ

واسِعٌ عَلِيمٌ (73)

العمل الخداعي يسبب رجوع المسلمين عن إسلامهم حيث يوجب ذلك تشكيكا لهم.

[74] وَ لا تُؤْمِنُوا أي لا تظهروا الإيمان إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فإيمانكم وجه النهار يكون عند أهل الكتاب لا عند المسلمين، أو لا تؤمنوا إيمانا صادقا من قلوبكم إلا لأهل الكتاب، فلا تؤمنوا للمسلمين، و معنى الإيمان لمن تبع دينهم أنهم يؤمنون بمثل ما آمن أهل الكتاب قُلْ لهم يا رسول اللّه إِنَّ الْهُدى الحقيقي هُدَى اللَّهِ لا هذا الهدى الاصطناعي الذين تريدون به خداع أصحابكم و المسلمين فلسنا في حاجة إلى هداكم كما لا نخاف من إضلالكم فإن اللّه إذا هدى شخصا لا يرجع بخداعكم، ثم يرجع السياق إلى كلام اليهود بعضهم لبعض، و لا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ فإنما أوتيتم أيها اليهود هو خير مما أوتي غيركم فلا يكن إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانا عن قلب أو صدق أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي لا تؤمنوا أن يحاجكم المسلمون عند ربكم بمعنى أنه لا يمكن أن يكون ذلك إذ المحاجة لا تكون من المبطل- و المسلم مبطل بزعمهم- قُلْ يا رسول اللّه ردا على قولهم «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ فأي مانع من أن يعطي المسلمين مثل ما أعطى اليهود و أفضل منه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ الفضل لا ينفد فضله بإعطائه لأحد عَلِيمٌ بمصالح الخلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 356

[سورة آل عمران (3): الآيات 74 الى 75]

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا

يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)

يعلم حيث يجعل رسالته.

[75] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإن فضله يبتدئ بالخلق و ينتهي إلى حيث لا قابلية فوقه.

[76] و قد جمع بعض أهل الكتاب إلى تلك الرذائل السابقة رذيلة الخيانة وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي بعض أهل الكتاب- و المراد به من آمن منهم كعبد اللّه بن سلام- مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ أي تجعله أمينا على قنطار من مال لا يخونه بل يؤديه إليك عند المطالبة، و قد ورد أن عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفا و مائتي أوقية من ذهب فأداه إليه فمدحه اللّه بهذه الآية وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ أي تجعله أمينا على مال قليل كدينار لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ عند المطالبة فإن رجلا من قريش استودع «فخاص» دينارا فخانه و لم يرده إليه إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً بالضغط و الإلحاح و المراقبة ذلِكَ الاستحلال و الخيانة منهم لأموال الناس بسبب أنهم أي الخائن من أهل الكتاب قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي لا سبيل و لا غضاضة علينا في استحلالنا أموال الأميين أي العرب حيث أنهم خرجوا عن دينهم أي غير الشرك و قد أودعونا حال شركهم فإذا رفضوا طريقتهم إلى الإسلام سقط

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 357

[سورة آل عمران (3): الآيات 76 الى 77]

بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ

لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)

حقهم كذا كانوا يقولون و ينسبونه إلى كتبهم وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فإنه ليس ذلك في كتبهم، بل اللازم أداء الأمانة إلى البر و الفاجر وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم يكذبون على اللّه و أن عدم الأداء خيانة و رذيلة.

[77] بَلى فيه نفي لما قبله و إثبات لما بعده أي لم يجز اللّه الخيانة بل أوجب الأداء ف مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ و أدى الأمانة التي عنده وَ اتَّقى من عذاب اللّه في الخيانة و غيرها فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ لا الخائنين الكاذبين.

[78] إِنَ من يأكل الأمانة و يكذب على اللّه فقد باع دينه بثمن قليل و الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بمقابل عهد اللَّهِ الذي هو الكتاب و الدين وَ ب أَيْمانِهِمْ أي أقسامهم الكاذبة التي يحلفون بها لأجل الباطل ثَمَناً قَلِيلًا و قد تقدم أن الأمور الدنيوية مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الآخرة أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم من رحمة اللّه و جنته في الآخرة وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلام لطف و حنان و هو كناية عن غضب اللّه عليهم كما أن من غضب على شخص لا يكلمه وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ أي لا يعمهم بلطفه و إحسانه و هو كناية أخرى عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 358

[سورة آل عمران (3): آية 78]

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

الغضب كالذي يغضب على شخص فلا ينظر إليه يَوْمَ الْقِيامَةِ ذلك

اليوم الذي يحتاج كل أحد إلى فضله و إحسانه تعالى وَ لا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من الدنس فإن قلب الخائن الكاذب أقذر ما يكون فلا يشمله اللّه سبحانه بلطفه الخاص الذي يلطف به على المؤمنين وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع.

[79] وَ إِنَّ مِنْهُمْ أي بعض أهل الكتاب لَفَرِيقاً أي جماعة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يطوون ألسنتهم عند قراءة الكتابة و طي لسانهم إنما هو بالزيادة و النقيصة فكما أن ليّ الشي ء يخرجه عن الاستقامة بالزيادة في جانب و النقيصة في جانب كذلك ليّ اللسان بالكتاب، فإنهم أضافوا على التوراة و الإنجيل في مواضع و نقصوا منهما في مواضع لِتَحْسَبُوهُ أيها المسلمون مِنَ الْكِتابِ فيكون شاهدا لأباطيلهم المخترعة وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ بل من إضافاتهم و تحريفاتهم وَ يَقُولُونَ هُوَ ما يتلونه باسم الكتاب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل من مخترعاتهم الكاذبة وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في نسبتهم ذلك التحريف إليه سبحانه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنه ليس من الكتاب و أنهم كاذبون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 359

[سورة آل عمران (3): آية 79]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

[80] و حيث أنه كان من أظهر تلك التحريفات تحريفهم حول المسيح عليه السّلام و ادعائهم أنه شريك مع اللّه و أن ذلك موجود في كتابهم، ردهم اللّه سبحانه بأن ذلك مستحيل في حق المسيح، لأن اللّه سبحانه لا يعطي النبوة لرجل كاذب يدعي لنفسه الربوبية فإنه ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ

اللَّهُ أي يعطيه الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ بين الناس وَ النُّبُوَّةَ و الرسالة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اعبدوني دونه سبحانه، أو المراد اعبدوني معه، فإن عبادة الشريك عبادة لمن دون اللّه، و لأن الشرك معناه عدم عبادة اللّه إطلاقا إذ اللّه لا شريك له، فمن له شريك ليس هو بإله، و في بعض التفاسير أن سبب نزول هذه الآية أن يهوديا سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و نزلت الآية وَ لكِنْ اللازم على الرسول أن يقول للناس كُونُوا رَبَّانِيِّينَ منسوبين إلى الرب ترشدون الناس إلى التوحيد و تعبدون إلها واحدا بسبب ما كُنْتُمْ أي كونكم تُعَلِّمُونَ للناس الْكِتابَ الذي أخذتموه من نبيكم وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أي بسبب درسكم إياه يعني أن الرسول يقول للناس إنكم بسبب كونكم علماء معلمين مدرسين يجب أن تكونوا ربانيين منسوبين إلى الرب فقط لا إلى غيره من الأنداد و الشركاء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 360

[سورة آل عمران (3): الآيات 80 الى 81]

وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

[81] وَ لا يكون للنبي أن يَأْمُرَكُمْ عطف على «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ» أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً فإن ذلك محال إذ من يختاره اللّه للرسالة لا يأمر بالكفر أَ يَأْمُرُكُمْ أي هل يأمركم النبي بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ

مُسْلِمُونَ أسلمتم بإيمانكم بالنبي، و هذا استفهام إنكاري أي لا يكون ذلك أبدا فقد أخرجكم النبي من الكفر إلى الإسلام فكيف يأمركم بالكفر ثانيا بأن تتخذوه شريكا للّه.

[82] و إذ تم الكلام حول عيسى و أنه ليس بشريك للّه سبحانه رجع السياق إلى نبي الإسلام و أنه النبي بعد عيسى عليه السّلام، وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عهدهم المؤكد لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ «ما» بمعنى «مهما» أي أخذ اللّه عهد النبيين أنه مهما أعطاه اللّه الكتاب و الحكمة و الرسالة ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ يراد به نبي الإسلام، أو كل نبي يأتي بعدهم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هذا جواب «مهما» فاللّه سبحانه كان يأخذ من النبيين الميثاق أنه مهما أعطى أحدهم الرسالة فإن عليه أن يؤمن برسول الإسلام، أو عليه أن يؤمن بالرسول الذي يتلوه و أن يناصره و يعاضده، و في الوجه الأول إفادة أن الأنبياء جميعا أقروا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و اعترفوا به و آمنوا به و في الوجه الثاني إفادة أن كل رسول كان يؤمن بالرسول الذي يأتي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 361

[سورة آل عمران (3): آية 82]

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)

من بعده حتى أن الأنبياء كلهم كسلسلة واحدة يؤمن سابقهم بلاحقهم و يصدق لاحقهم سابقهم وَ لَتَنْصُرُنَّهُ و معنى نصرة النبي السابق للاحق أن يأخذ له العهد من أمته قالَ اللّه تأكيدا لأخذ الميثاق أَ أَقْرَرْتُمْ أي هل أقررتم أيها الأنبياء باستعدادكم للإيمان بالرسول و نصرته وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ الإيمان بالرسول و نصرته إِصْرِي أي عهدي الأكيد من أممكم حتى يؤمنوا بالرسول و ينصروه

قالُوا أي قالت الأنبياء في جواب اللّه سبحانه أَقْرَرْنا بذلك و أخذنا الأمر قالَ اللّه سبحانه لهم فَاشْهَدُوا بذلك على أممكم أي كونوا شهداء عليهم حتى نحتج على المخالف يوم القيامة بشهادتكم وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فإني أيضا شهيد عليهم بأنهم أقروا بأن يؤمنوا بالرسول و ينصروه، و

قد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه لم يبعث اللّه نبيا آدم و من بعده إلا أخذ عليه العهد بالإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمره بأخذ العهد بذلك من أمته «1».

[83] فَمَنْ تَوَلَّى و أعرض عن الإيمان و النصرة بَعْدَ ذلِكَ العهد الذي أخذه نبيه منه فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن إطاعة اللّه سبحانه حيث نقضوا العهد و خالفوا الوعد.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 362

[سورة آل عمران (3): الآيات 83 الى 84]

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

[84] إن عدم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلاف عهدهم أولا و خلاف الواجب عليهم ثانيا أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ أي يطلبون و يريدون غير دين اللّه و دين الإسلام الذي ثبت بالآيات و الحجج وَ لَهُ أي للّه أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل شي ء في الكون خاضع له سبحانه منقاد لأمره فما بال هؤلاء يخالفون دين

اللّه الذي أذعن له كل الكون طَوْعاً وَ كَرْهاً فإن ذوي العقول من الملائكة و نحوه أسلم للّه طوعا و الجمادات أسلمت كرها بمعنى أنها مستمرة حسب مشيئة اللّه سبحانه وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حكمه و أمره و ثوابه و عقابه يرجعون عند الموت أو في القيامة.

[85] هنا يأتي دور إظهار الأمة المسلمة إيمانها بجميع الأنبياء، فإنه مقتضى وحدة الرسالات و مقتضى ما سلف من إيمان كل سابق باللاحق و تصديق كل لاحق للسابق قُلْ يا رسول اللّه صيغة الإيمان التي يجب الاعتراف بها على كل أمتك آمَنَّا بِاللَّهِ إلها واحدا وَ ب ما أُنْزِلَ عَلَيْنا من القرآن الحكيم و سائر الأحكام وَ ب ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أولاد يعقوب الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 363

[سورة آل عمران (3): الآيات 85 الى 86]

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

كانوا أنبياء وَ ب ما أُوتِيَ أي أعطي مُوسى من التوراة وَ عِيسى من الإنجيل وَ بما أعطي النَّبِيُّونَ مِنْ قبل رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الأنبياء لا كاليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السّلام و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا كالنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ نَحْنُ لَهُ أي للّه مُسْلِمُونَ منقادون فيما أمرنا و نهانا.

[86] وَ مَنْ يَبْتَغِ يطلب و يريد غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً من الأديان السماوية أو

المفتعلة فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أبدا في الدنيا بل تجري عليه أحكام الكفار وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أموالهم و أهليهم جميعا.

[87] إن الذين أدركوا حقيقة وحدة الرسالات و حقيقة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دين الإسلام ثم أنكروا و عاندوا فقد ظلموا أنفسهم و أبعدوها عن لطف اللّه و هدايته فلا يلطف بهم اللّه لطفا خاصا و لا يهديهم بل يتركهم في ظلمات كفرهم كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ و المراد بالإيمان علمهم بحقيقة الرسول الإيمان في الظاهر، إلا إذا أخذنا بما ورد في بعض التفاسير و الروايات من أنها نزلت في رجل آمن ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يسأله عن قبول توبته فأجاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 364

[سورة آل عمران (3): الآيات 87 الى 89]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

بالإثبات فتاب و حسن إسلامه، و لذا استثنى في آخر الآيات «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا» وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ شهادة واقعية و إن لم يظهروها و لم يلتزموا بلوازمها وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حقيقة ما جاء به وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يلطف بهم اللطف الخاص الذي يلطف به بمن استقام و لم يظلم نفسه.

[88] أُولئِكَ الذين كفروا بعد إيمانهم

جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ بإبعادهم عن رحمته و مغفرته و ثوابه وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ فإنهم يدعون عليهم بالعذاب و يلعنونهم.

[89] خالِدِينَ فِيها أي يخلدون في اللعنة و الطرد أبد الآبدين لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي لا يسهل عليهم لأنهم بكفرهم استحقوا العقاب الدائم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت، أو لا ينظر إليهم.

[90] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن كفرهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر بأن آمنوا وَ أَصْلَحُوا في أعمالهم أي عملوا الصالحات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 365

[سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 91]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)

لكفرهم و ذنوبهم رَحِيمٌ بهم فلا يؤاخذهم بسيئاتهم.

[91] هذا حال من آمن بعد ارتداده و تاب، أو آمن بعد علمه بالحق و كفره، أما من بقي على كفره بعد الإيمان فجزاؤه ما يأتي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بالنبي و بما جاء به ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً فإن الكافر ببقائه على الكفر يزداد كفرا فإن كل ساعة يكون كافرا فيها يكون أكثر كفرا من الساعة المتقدمة، أو المراد ازدياد الكفر باستحكامه فإن الإنسان كما يزداد إيمانا كلما رأى آيات اللّه كذلك يزداد كفرا كلما أعرض عما يراه من الآيات لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ التي تأتي منهم حال الاحتضار فإن المحتضر حيث يرى حقيقة الإيمان يتوب في قلبه و يندم و لكن لا تقبل توبته كما قال سبحانه وَ

لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ «1» وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الذين ضلوا طريق الحق في الدنيا و عذبوا في الآخرة.

[92] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ ممن لم يتب حتى في حال الاحتضار كما قال سبحانه وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ «2» بعد الآية

______________________________

(1) النساء: 19.

(2) النساء: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 366

[سورة آل عمران (3): آية 92]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

السابقة: «وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ» أو المراد التعقيب على «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» أي أن أولئك الذين لم تقبل توبتهم في الدنيا لا ينجون من عذاب اللّه يوم القيامة بإعطاء الفدية فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي مقدار ما يملأ الأرض من الذهب وَ لَوِ افْتَدى بِهِ لا ينفعه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من عذاب اللّه و سخطه.

[93] و حيث جرى حديث الإنفاق و أنه لن يقبل من الكافر يوم القيامة ناسب السياق بيان حكم الإنفاق و أنه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تدركوا النفع الذي تأملونه من رضى اللّه و ثوابه و الجنة و خير الدنيا و غيرها حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ لا أن تنفقوا ما لا تحبون كإنفاق ما تعانيه النفس كما قال سبحانه وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا «1» وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ قليل أو كثير في مختلف أصناف الأشياء فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم على قدره.

______________________________

(1) البقرة: 268.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 367

تقريب القران الى الأذهان الجزء الرّابع من آية (94) من سورة

آل عمران إلى (24) من سورة النساء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 368

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 369

[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 94]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

[94] يرجع السياق هنا إلى ما كانت الآيات بصدده من أحوال أهل الكتاب في أصولهم و فروعهم و عنادهم و جدالهم، و في بعض التفاسير أنهم أنكروا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحليل لحم الجزور و ادعوا تحريمه على إبراهيم عليه السّلام و أن ذلك مذكور في التوراة فأنزل الله سبحانه ردا عليهم هذه الآية كُلُّ الطَّعامِ أي كل المأكولات، و المراد ب «الكل» الإضافي في مقابل ما أدعوا تحريمه كانَ حِلًّا أي حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ اليهود إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي يعقوب عليه السّلام عَلى نَفْسِهِ و هو لحم الإبل كان إذا أكله هيّج عليه «الخاصرة» فحرمه على نفسه. و كان ذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى عليه السّلام فليس تحريمه على إسرائيل دليلا على بقائه على الحرمة فإن التوراة لما نزلت لم تحرمه فلما ذا تقولون أيها اليهود بحرمته قُلْ يا رسول اللّه لهم: فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها حتى يظهر أنه لم تحرمه التوراة كما ذكرت لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أن التوراة حرمت الإبل، لكنهم لم يأتوا بالتوراة، فتبين كذبهم، و قد كان اليهود

يظنون أن الرسول- لأنه أمي- لا علم له بالتوراة فلهذا كانوا ينسبون إلى التوراة أشياء، لكن الوحي كان يفضحهم.

[95] فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ البرهان الدال على عدم تحريم التوراة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بمنعها عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 370

[سورة آل عمران (3): الآيات 95 الى 96]

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96)

الهداية و ظلموا غيرهم بمنعهم عن الحق.

[96] قُلْ يا رسول الله لليهود صَدَقَ اللَّهُ فيما نقلت لكم من عدم تحريم الجزور و كذبتم أنتم، بل تبيّن أن كل الطعام كان حلّا فَاتَّبِعُوا أيها اليهود مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مستقيما، و ملة إبراهيم تحلّل كل الطعام وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ دحض لافتراء آخر من أهل الكتاب حول إبراهيم عليه السّلام، حيث كانوا يقولون أنه كان يهوديا أو نصرانيا- و كلاهما مشرك- ففي السابق نقل افتراءهم بالنسبة إلى الله في قصة الطعام، و هنا نقل افتراءهم على أنبيائه بالشرك.

[97] إن أهل الكتاب دحضت حجتهم في باب التحليل و التحريم، و دحضت حجتهم في باب دين إبراهيم، كما دحضت حجتهم من ذي قبل في سائر الشؤون التي ناقشوا فيها، و بقيت الآن لهم حجة أخرى هي: أن بيت المقدس أشرف من الكعبة، و أنه محل الأنبياء، فالقرآن يدحض حجتهم هذه بأن الكعبة هي أشرف لأنها أول بيت وضع للناس، و لأن إبراهيم عليه السّلام الذي تنتسبون إليه هو الذي بناها، و لأن الحج شرّع إليها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي بني لأجل انتفاع الناس دينا و

دنيا، فإن الأرض دحيت من تحته، و لم يكن قبله بيت مبنيّ لَلَّذِي اللام للتأكيد أي هو البيت الذي بِبَكَّةَ و هو اسم آخر لمكة، و سميت بكة لازدحام الناس في الطواف و نحوه هناك، فإن بكّ يبكّ بمعنى «زحم يزحم» مُبارَكاً أي كثير البركة و الخير فإن فيه خير الدنيا، حيث الألفة و الاجتماع و الاقتصاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 371

[سورة آل عمران (3): آية 97]

فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

و غيرها، و خير الآخرة حيث غفران الذنوب و رفع الدرجات وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ أي سببا لهدايتهم فإنه مذكّر بالله سبحانه و فيه ذكريات أنبيائه و معالم عبادته.

[98] فِيهِ أي في ذلك البيت آياتٌ بَيِّناتٌ أي دلالات واضحات على التوحيد و النبوة و نصرة الإسلام مَقامُ إِبْراهِيمَ أي موضع قدمه حيث كان هناك حجر يضعه إبراهيم و يصعد عليه لبناء أعالي الكعبة حتى رسخت قدماه في ذلك الحجر، فإنه آية واضحة من آيات الله سبحانه، و خصّ بالذكر لأهميته و تقديرا لإبراهيم الذي ضحّى بكل ما لديه في سبيل الله سبحانه وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً إما ابتداء، أو عطف أي أن من آيات البيت أنه سبحانه جعله حرما آمنا فمن دخله فهو آمن على عرضه و ماله و دمه لا يمسّ بسوء و إن كان مجرما يستحق العقاب و الحد وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي يجب على الناس أن يحجوا إلى البيت مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي من وجد إليه طريقا و ذلك بأن يكون له ما يكفيه

ذهابا و إيابا لنفسه و لعائلته و يرجع إلى الكفاية، مع أمن الطريق و صحة الجسم، إلى غير ذلك من الشروط المذكورة في الفقه «1» وَ مَنْ كَفَرَ فلم يحج مع الاستطاعة، و قد تقدم أن الكفر قسمان: كفر في الاعتقاد و هو إنكار أصل من أصول الدين، و كفر في

______________________________

(1) راجع موسوعة الفقه/ ج 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 372

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

العمل و هو ترك واجب أو فعل محرّم. و قد كثر في القرآن و الحديث استعمال الكفر بهذا المعنى فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا يظن العاصي أن كفره يضر الله شيئا.

[99] و يرجع السياق إلى أهل الكتاب قُلْ يا رسول الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أدلته الواضحة الدالة على نبوة نبي الإسلام و ما جاء به، الذي هو منه شؤون بيت الله الحرام وَ اللَّهُ شَهِيدٌ أي يشهد و يعلم عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليها.

[100] قُلْ يا رسول الله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي تمنعون الناس عن الإيمان باللّه، فإن أهل الكتاب كانوا يرصدون لمن يريد الإيمان فيمنعونه، و كانوا يلقون الشكوك حول الإيمان و المؤمنين مَنْ آمَنَ مفعول «تصدون» أي تمنعون من آمن عن سبيل الله، و على هذا فالصد هنا خاص بالمؤمنين إلا أن يراد ب «من آمن» الأعم من المؤمن و من يريد الإيمان تَبْغُونَها أي تطلبون السبيل عِوَجاً

منحرفا لا سبيلا مستقيما، أو تطلبون سبيل الله عوجا، أي تريدون أن تكون السبيل عوجا بإدخال الشكوك عليها، و العوج مفرد بمعنى الميل و الانحراف وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ في واقع الأمر و إقرار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 373

[سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

نفوسكم على عملكم الباطل وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل مطّلع عليه عالم به، و سيعاقبكم عليه.

[101] و حيث تقدم أن أهل الكتاب يصدّون من آمن عن سبيل الله، خاطب سبحانه المؤمنين أن لا يسمعوا إلى أهل الكتاب حتى يضلوا بتشكيكاتهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً جماعة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أعطوا التوراة و الإنجيل يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ أي يرجعونكم كفارا بعد أن آمنتم، و إنما خصّ فريقا لأن أهل الكتاب لم يكونوا جميعهم سبب إضلال المؤمنين و إرجاعهم عن الإيمان.

[102] وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ أيها المؤمنون بعد الإيمان وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ فإنكم قد عرفتم آيات اللّه و دلائله و علمتم ذلك و مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يكفر وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ الذي يدعو إليه بالبراهين و المعاجز، و هذا استفهام إنكاري تعجبي، جي ء به إبعادا لهم عن الكفر و إلفاتا لهم إلى الرصيد الإيماني الموجود عندهم وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يتمسك بآيات اللّه و كتابه و دينه و رسوله، فلا ينخرط إلى الشرك و الكفر و العصيان فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدنيا حيث

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 374

[سورة آل عمران (3): الآيات 102 الى 103]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

يوصله إلى حياة حرة كريمة مرفهة المرافق، و في الآخرة حيث يسعده في جنات النعيم.

[103] كانت الجماعات المنضوية تحت لواء الإسلام بما فيهم الأوس و الخزرج معرضة للتطاحن و التشاحن و قد كان الكفار و أهل الكتاب يستغلون سوابق هؤلاء و طبيعة النفس البشرية في إلقاء الفتن و التفرقة بينهم ليفتحوا ثغرة للنزاع بين أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لذا نصحهم القرآن بأن يبقوا على وحدتهم و أن لا يتفرقوا و يتقوا اللّه فيما أمر و نهى و لا يطيعوا أهل الكتاب في أقوالهم المفرّقة و دسائسهم المشتتة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه فأطيعوه فيما أمركم و نهاكم حَقَّ تُقاتِهِ من «وقيت» أي كما يحق أن تتقوه، فإن التقوى من اللّه سبحانه أمر صعب جدا، إذ يلازم الإنسان في جميع شؤونه و أحواله وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فلا يغرنكم الشيطان بأن يخرجكم من الإيمان حتى تموتوا كافرين. و لعل المناسبة بين الجملتين أن من لا يتقي ينجر آخر أمره إلى الكفر كما قال سبحانه: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1».

[104] وَ اعْتَصِمُوا أي تمسكوا بِحَبْلِ اللَّهِ و حبل اللّه دينه و قرآنه، شبّه

بالحبل لمناسبة أن من يتمسك بالحبل لا بد و أن يرتفع به إلى الأعلى، و كذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في الدنيا إلى المراتب الراقية و في

______________________________

(1) الروم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 375

الآخرة إلى جنات خالدة جَمِيعاً أي جميعكم لا بعضكم دون بعض.

وَ لا تَفَرَّقُوا بأن يتمسك البعض بحبل اللّه و البعض بحبل الشيطان، و هذا تأكيد لقوله «جميعا» وَ اذْكُرُوا أي تذكروا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضا فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ جعلها قريبة بعضها إلى بعض، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج ما كان فيها من الضغينة و الإحن و الحسد و العداوة فَأَصْبَحْتُمْ أيها المسلمون بِنِعْمَتِهِ أي بسبب نعمة الألفة التي وهبها اللّه إليكم إِخْواناً أحدكم أخ الآخر في الإيمان، له ما لأخيه و عليه ما عليه.

و أن هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية و العشائرية و العرقية و ما أشبهها.

وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الشفا: الطرف، و الحفرة المكان المحفور من الأرض، أي كنتم أيها المسلمون على طرف حفرة من النار، نار الدنيا و هي العقوبات و الاضطرابات، و نار الآخرة التي أوقدت لكم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإسلام الذي نظّم أمور دنياكم و أخراكم، حتى لا تقعوا فيها كَذلِكَ أي كما بين لكم هذه الأمور واضحة و جلية يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلالاته و حججه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 376

[سورة آل عمران (3): الآيات 104 الى 105]

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ

لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)

إلى الحق و إلى طريق مستقيم.

و ما ورد في بعض الأحاديث أن المراد من حبل اللّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أو الأئمة عليهم السّلام أو القرآن «1»، فإنما هي مصاديق جلية.

[105] و حيث أنقذكم اللّه من الهلاك، و هداكم فمن الجدير أن تهدوا سائر الناس وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي يجب أن يكون منكم جماعة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ كل خير من الإسلام و الدين و الأحكام و غيرها وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ و المعروف كل فعل استحسنه الشرع أو العقل سواء وصل إلى حد الوجوب أم إلى حد الندب، و إنما سمي معروفا لأن الناس يعرفونه وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو بعكس المعروف، كل ما استقبحه الشرع أو العقل، و سمي منكرا لأن الناس ينكرونه وَ أُولئِكَ الذين يتصفون بهذه الصفات الثلاثة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون الناجون.

[106] وَ لا تَكُونُوا أيها المسلمون بعد الألفة و الأخوّة كَالَّذِينَ من قبلكم تألفت قلوبهم بسبب الأنبياء ثم تَفَرَّقُوا شيعا و أحزابا و مذاهب و مبادئ وَ اخْتَلَفُوا فأخذ كل فريق منهم جانبا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الأدلة الواضحة على وحدة العقيدة و المبدأ و أركان الإيمان

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1 ص 194 و بحار الأنوار: ج 36 ص 15 باب 27، أنه (صلوات اللّه عليه) حبل اللّه و العروة الوثقى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 377

[سورة آل عمران (3): الآيات 106 الى 107]

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)

وَ أُولئِكَ الذين اختلفوا و خالفوا الحق منهم لَهُمْ عَذابٌ

عَظِيمٌ حيث بدّلوا و غيّروا و حرّفوا.

[107] ثم بين سبحانه أن ذلك العذاب العظيم في أي وقت يكون؟ إنه يكون في يَوْمَ هذه صفته تَبْيَضُ فيه وُجُوهٌ هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ابيضاض الوجه كناية عن فرحه و نضارته و تنعّمه وَ تَسْوَدُّ فيه وُجُوهٌ هي وجوه الكافرين، و اسودادها حقيقة، فإن الوجه عند الهمّ الكبير يميل لونه إلى السواد و الكدرة لتهاجم الدم و نحوه، أو كناية عن كلوحه و بؤسه و همومه فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم: أَ كَفَرْتُمْ على نحو الاستفهام التوبيخي بَعْدَ إِيمانِكُمْ إما أن يراد ب «الإيمان» الإيمان الحقيقي بأن يكون المراد منهم الذين اختلفوا و تفرقوا و ارتدوا بعد الإيمان، و إما أن يراد به الإيمان الفطري فإن كل إنسان مؤمن فطرة كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه و يمجسانه» «1»

فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم.

[108] وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ و هم المؤمنون الذين عملوا

______________________________

(1) عدة الداعي: ص 332.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 378

[سورة آل عمران (3): الآيات 108 الى 110]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)

الصالحات فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ثوابه و رضوانه و جنته هُمْ فِيها خالِدُونَ أبد الآبدين.

[109] تِلْكَ الأمور التي ذكرت في أحوال المؤمنين و الكافرين

و غيرها آياتُ اللَّهِ علائمه و دلائله و حججه نَتْلُوها عَلَيْكَ يا رسول اللّه بِالْحَقِ فإن التلاوة قد تكون بالباطل إذا كان المتلوّ أو الغرض من التلاوة باطلا وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي لا يريد أن يظلم أحدا. فقد تقرر في علم الكلام أن إرادة الظلم- كالظلم نفسه- قبيحة، فما يصير إليه حال الكافرين من اسوداد الوجه ليس ظلما لهم، و إنما يكون بالعدل و جزاء لعملهم.

[110] وَ كيف يريد اللّه ظلما و الحال أنه لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و الظلم ينشأ من الافتقار و هو الغني المطلق وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أمور الخلق فإن اللّه سبحانه يعيد المخلوق ليجازيه، و هذا تشبيه بالرجوع المادي «في الدنيا» الذي يكون بين الحاكم و المحكوم حيث يساق المحكوم نحو الحاكم ليحكم عليه، و حيث أن الأمر يرجع إلى اللّه فلا يظن الكافر أنه يتمكن من الفرار عنه سبحانه حتى لا يعاقب بما عمل من السيئات.

[111] و يرجع السياق هنا إلى ما تقدم من لزوم الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كُنْتُمْ أيها المسلمون، و «كان» لمجرد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 379

الربط، لا بمعنى الماضي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي خير جماعة ظهرت للناس فإن كل أمة تظهر للناس في فترة ثم تختفي و تغيب لتأخذ مكانها أمة أخرى. و إنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاثة بها تترقى الأمم إلى أوج عزّها هي: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السّفل لما جبل عليه من الفساد و الفوضى و الشغب، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ

يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية و الحضارة الحقيقية حتى يصل إلى قمة البشرية وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا لا كإيمان أهل الكتاب و المشركين، و الإيمان الصحيح باللّه رأس الفضائل فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية فإنه محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير و منفّر قوي عن جميع أصناف الشر وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيمانا صحيحا بعدم الشرك و قبول قول اللّه سبحانه في نبوة نبي الإسلام محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لَكانَ إيمانهم خَيْراً لَهُمْ في دينهم و دنياهم حتى تنظم دنياهم على ضوء الإسلام فتخلو من الجهل و المرض و الفقر و الرذيلة و يكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب اللّه، و ليس المراد ب «خير» معنى التفضيل بل هو تعبير عرفي، حيث يظهر للناس أنهم في خير في الجملة، و على هذا يكون إيمانهم أكثر خيرا و أفضل.

ثم بين سبحانه أن ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب بقوا على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 380

[سورة آل عمران (3): الآيات 111 الى 112]

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)

طريقتهم فإن مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بالله و بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به كالنجاشي و ابن سلام و غيرهما وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة اللّه باتباع أهوائهم المضلّة و طرائقهم الزائفة.

[112] و

لقد كان كفار أهل الكتاب يؤذون المؤمنين منهم خاصة و سائر المؤمنين عامة و كان المؤمنون من حيلهم و مؤامراتهم في قلق و اضطراب، و لذا هدأ اللّه سبحانه من روع المؤمنين بقوله: لَنْ يَضُرُّوكُمْ أي لن يضر أهل الكتاب إياكم أيها المؤمنون إِلَّا أَذىً يسيرا فإن مؤامراتهم تفشل و حيلهم تخسر و لا تبقى إلا تشويشات و إشاعات و هي مما لا تضر ضررا معتدا به، أما ما يظن المسلمون أن أهل الكتاب يتمكنون من اقتلاع جذورهم و إبادة دينهم فلن يكون ذلك أبدا بل المسلمون هم المنصورون وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ جمع دبر و هو الظهر، أي ينهزمون فارين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي لا تنصرهم أقوالهن، لما ألقي في قلوبهم من رعب الإسلام و خوف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان مصب الآية الكريمة اليهود فهم المعنيون بهذا الكلام بقرينة الآية التالية.

[113] ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي ضربها اللّه عليهم فهم أذلاء إلى الأبد و هي ثابتة لهم و محيطة بهم، و أية ذلة أعظم من أنه ليست لهم دولة مستقلة و هم مهانون دائما، و جميع الدول تطاردهم إلا في ظرف مصلحتها الخاصة فهم كالعبيد المسخرين إن استفاد مولاهم أطعمهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 381

و إلا طردهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ أي إلا إذا تمسكوا بحبل اللّه تعالى بالإيمان به و بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به حتى يكونوا كالمسلمين لهم ما لهم و عليهم ما عليهم وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي تمسكوا بحبل دولة قوية تحميهم، و «الواو» للتقسيم- نحو: الكلمة اسم و فعل

و حرف- لا للجمع وَ باؤُ رجعوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فكأن الناس جاءوا للاغتراف من مناهل الإسلام و كانت اليهود فيهم فالناس رجعوا بالإسلام و حب اللّه سبحانه و هؤلاء رجعوا بالكفر و غضب اللّه تعالى وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي الفقر الروحي الذي هو أعظم أقسام المسكنة فإن أرواحهم تهفو إلى المادة أكثر من روح أي فقير مسكين و هم على ثروتهم الظاهرة من أفقر الخلق نفسا و روحا ذلِكَ العقاب الدنيوي لهم بسبب أنهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ فموسى عليه السّلام نبيهم كان منهم في نصب و تعب فإنهم ما خرجوا من البحر إلا قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، و اتخذوا العجل، و آذوا موسى إلى غير ذلك وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ أي كانوا يقتلونهم، و «بغير حق» تأكيد، إشارة إلى أنه لم يكن لهم حق في قتلهم حتى ظاهرا، فإنهم يقتلون الأنبياء لمجرد الدعوة إلى اللّه و الإرشاد و الوعظ، لا لأنهم قتلوا منهم أحدا أو نهبوا مالا أو نحو ذلك- و إن كان الأنبياء لو فعلوا ذلك كان بأمر اللّه و بالحق- لكن الأنبياء عليهم السّلام لم يكونوا فعلوا ذلك- كما

قال الإمام الحسين عليه السّلام: «فبم تستحلون دمي ..؟ أعلى قتيل قتلته منكم

- إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 382

[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 114]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

آخر كلامه-» «1».

ذلِكَ أي كفرهم بآيات اللّه و قتلهم الأنبياء بسبب ما عَصَوْا

أي عصيانهم لأوامر اللّه سبحانه سبب الكفر و القتل و هما سببا نقمة اللّه و لعنته وَ كانُوا يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحدود الدينية و البشرية.

[114] و لمرة أخرى استثنى القرآن الحكيم من آمن من أهل الكتاب، و أنه ليس كغيره ممن بقي على كفره و عناده و قد نزلت- كما قيل- حين أسلم جماعة من أهل الكتاب فقال الكفار منهم أنهم أشرارنا.

لَيْسُوا سَواءً أي ليس أهل الكتاب متساوين في ما تقدم من أوصافهم، ثم ابتدأ قوله سبحانه: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ على الحق لا زائفة زائلة، و هم الذين آمنوا بالإسلام يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ المنزلة في القرآن المجيد آناءَ اللَّيْلِ ساعاته و أوقاته، فإن لقراءة القرآن في الليل أثرا كبيرا حيث إن هدوء النفس و هدوء الجو يوجبان وقوع الآيات في النفس أكثر منه في النهار وَ هُمْ يَسْجُدُونَ لله سبحانه و يخضعون له بالصلاة و التعفير.

[115] يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ يؤمنون ب الْيَوْمِ الْآخِرِ عن حقيقة فإن من آمن حقيقة بالحساب انقلع عن الكفر و المعاصي

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 44 ص 316.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 383

[سورة آل عمران (3): الآيات 115 الى 116]

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)

وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فإن المعتقد بيوم الحساب يسارع في الخير حيث لا يدري أي يوم يموت فينقطع عمله و لا يتمكن من المزيد «و كان الإتيان بباب المفاعلة للإشارة إلى تسابق بعضهم بعضا» وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين

يصلحون و لا يفسدون، و بتعبير آخر أعضاء صالحين في المجتمع، و ليسوا كما ذكر الكفار من أهل الكتاب أنهم أشرارهم، بل هم من أفضل الأخيار و الصلحاء.

[116] وَ ما يَفْعَلُوا أي ما يفعله هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب مِنْ خَيْرٍ من طاعة و عبادة فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يمنع عنهم جزاؤهم بخلاف سائر الكفار الذين تحبط أعمالهم لكفرهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ يعلم أحوالهم و أعمالهم فيجازيهم على حسناتهم.

[117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسوله لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تفيدهم و لن تدفع العذاب عنهم أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ فالمال و الولد إنما ينفعان في الدنيا حيث يدفعان المكروه بالرشوة و الهدية و الصلة، و المدافعة و المناصرة مِنَ اللَّهِ أي من عقاب اللّه و عذابه شَيْئاً و لو ضئيلا وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الذين يلازمونها كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 384

[سورة آل عمران (3): آية 117]

مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

يقال: صاحب فلان لمن يلازمه هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

و قد تكرر أن الخلود للمعاند كما

في دعاء كميل «من المعاندين»

أما القاصر فإنه يمتحن هناك كما دلّ العقل و الشرع.

[118] و حيث تقدم حال المؤمن و حال الكافر، ذكر حال إنفاق الكافر مقابلة لما تقدم من خير المؤمن في قوله: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ أي ينفقه الكفار فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا و كان ذكر «هذه» الخصوصية مع وضوحها للإشارة إلى أن الحياة التي هي مزرعة و من المقتضي أن تنمو و يبقى

أثرها للانتفاع به في الآخرة، لا ينفع الكافر كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ الصرّ هو البرد الشديد، أو السموم الحارة أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ فإنفاقهم كالحرث، و كفرهم الموجب لبطلانه كالريح السامة ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن زرعوا في غير موقع الزراعة في مهب الرياح أو في غير أوانه كالشتاء مثلا لو زرعوا بذور الصيف، أو المراد ظلموا أنفسهم بالمعصية فسلط اللّه عليهم الريح كما قال: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» و إنما أوتي بهذه الجملة لظلم الكفار أنفسهم كظلم صاحب الحرث فَأَهْلَكَتْهُ أي أهلكت الريح الحرث- و هو الزرع- وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ في إبطال نفقاتهم، أو

______________________________

(1) الأعراف: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 385

[سورة آل عمران (3): آية 118]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

في إهلاك الريح حرثهم وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم أو بظلمهم، و لا يخفى أن قوله: «مثل ما ينفقون» «كمثل ريح» ليس المراد أن الإنفاق كالريح، بل يضرب المثل فيما كان المجموع من «الأصل و الشبه» مرتبطين و إن كانت مفردات الشبه لم تذكر حسب السياق اللفظي، كما تقول: «مثل زيد في تكلمه كمثل صوت الحمار» فالجملة شبهت بالجملة لأن الصوت شبّه بزيد، و الحمار بالتكلم، كما يقتضيه السياق اللفظي في الترتيب.

[119] و في سياق الكلام عن أحوال أهل الكتاب و بيان أنهم مختلفون مع المسلمين في العقيدة و العمل يأتي دور أن المسلم لا ينبغي له أن يتخذ صديقا

من هؤلاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي لا تتخذوا الكفار الذين هم غير المسلمين بطانة، و هي خاصة الرجل الذي يسرّ إليه بأمره و يستبطن خبره، من «بطانة الثوب» الذي يلي البدن لقربه منه، و «من» للتبيين كأنه قال: بطانة من المشركين، فقد كان المسلمون يواصلون رجالا من أهل الكتاب لسابق صداقة أو قرابة أو جوار أو نحوها فنهوا عن ذلك.

ثم بين سبحانه سبب ذلك، و يحتمل أن يكون المراد ب «دونكم» المنافقين، كما في بعض التفاسير بدليل قوله: «قالوا آمنا» فإنهم لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يألونكم أي لا يقصّرون بالنسبة إليكم، و الخبال الفساد، أي هؤلاء البطانة لا يقصرون في فساد أمركم و لا يتركون جهدهم في مضرتكم وَدُّوا أي أحبوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 386

[سورة آل عمران (3): آية 119]

ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)

و العنت المشقة، و هذه كلها من صفات الأعداء قَدْ بَدَتِ أي ظهرت الْبَغْضاءُ و العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ فإن فلتات كلامهم تدل على عداوتهم الكامنة وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من الحقد لكم و العداوة أَكْبَرُ مما يظهر من ألسنتهم قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ أيها المؤمنون الْآياتِ و الحجج التي تميزون بها الصديق من العدو إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل و إدراك.

[120] ثم بيّن سبحانه أنه كيف يمكن أن يحب المؤمن هؤلاء مع أنهم أعداؤه و مع الاختلاف بينهم في العقيدة ها تنبيه أَنْتُمْ أُولاءِ أي الذين تُحِبُّونَهُمْ أي تحبون أولئك الكفار وَ

لا يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يريدون لكم الكفر و الضلالة وَ تُؤْمِنُونَ أنتم بِالْكِتابِ كُلِّهِ و هم لا يؤمنون إلا ببعض الكتاب، أما البعض الآخر الذي فيه أوصاف محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإيمان به فلا يؤمنون به، أو المراد ب «كله» أي جنس ما نزل على أنبياء اللّه، بخلافهم فإنهم لا يؤمنون بكتاب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ إِذا لَقُوكُمْ من الملاقاة أي رأوكم قالُوا آمَنَّا نفاقا منهم لا أن الإيمان دخل قلوبهم، و يحتمل أن يراد الكفار، فإن من يتظاهر بالصداقة كثيرا ما يظهر قبول ما عليه صديقه مع أنه ليس بصبغة صديقه، و هذا بناء على قوله: «من دونكم» للكفار لا للمنافقين وَ إِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 387

[سورة آل عمران (3): آية 120]

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

مع بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ أي يعضون أطراف أصابعهم مِنَ الْغَيْظِ عليكم كيف تقدّمتم و قوي دينكم.

قُلْ يا رسول اللّه لهم مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ فإن الغيظ لا يبرحكم لأن المسلمين يتقدمون و يستمرون في أعمالهم. أو هو دعاء عليهم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ التي تضمن النفاق و الكيد للمسلمين، فيجازيهم بما اقترفوه من الآثام و الذنوب و «بذات الصدور» بمعنى:

بتلك الصدور.

[121] و كيف تتخذونهم بطانة و الحال أن صفتهم هكذا إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ أي يصبكم خير، من «المس» بمعنى الإصابة تَسُؤْهُمْ أي تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي بليّة و مصيبة بإصابة العدو منكم أو فقر أو موت أو نحوها يَفْرَحُوا بِها أي بسببها-

كما هو حال العدو مع عدوه- وَ إِنْ تَصْبِرُوا على أذيتهم، و على مقاطعتكم إياهم التي تجر إليكم عداءهم الظاهري، فإن كثيرا من الناس يخافون من مقاطعة المنافقين لئلا يبتلوا بعدائهم في الظاهر وَ تَتَّقُوا اللّه سبحانه حتى يكون هو نصيركم لا يَضُرُّكُمْ أيها المؤمنون كَيْدُهُمْ و مكرهم و حيلتهم ضدكم شَيْئاً لأنه سبحانه ينصركم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ هم جميعا المؤمنون و المنافقون مُحِيطٌ أي عالم بجميع أعمالهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 388

[سورة آل عمران (3): آية 121]

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

كالمحيط من الأجسام الذي لا يخلو منه طرف من المحاط، فيجازيهم بأعمالهم.

[122] و هنا يستعرض القرآن الحكيم قصة واحدة تدل على مدى تطبيق أحوال المنافقين التي سبقت على الواقع الخارجي، و أن اللّه كيف ينصر المسلمين في أحرج الساعات و أحلك الظروف، و

ذلك في غزوة أحد حين خرجت قريش من مكة يريدون حرب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانتخب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موضعا للقتال و عبّاد أصحابه الذين بلغوا سبعمائة رجل فجعل عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب شعب في الجبل ليحفظوه حتى لا يهاجم العدو من خلف المسلمين فقال لهم:

«لا تبرحوا من هذا المكان و الزموا مراكزكم، إن غلبنا أو غلبنا».

فلما انهزمت قريش و أخذ المسلمون ينهبون ثقلهم قال أصحاب ابن جبير له:

قد غنم أصحابنا و نحن نبقى بغير غنيمة. فقال لهم: اتقوا اللّه فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهانا أن نبرح أماكننا. فلم يقبلوا منه و أخذوا ينسل الرجل منهم فالرجل حتى خلت المراكز و

بقي عبد اللّه في اثني عشر رجلا، و اغتنم الكفار هذا الأمر فجاء خالد بن الوليد مع أصحابه و فرقوا من تبقّى من المسلمين و قتلوهم على الشعب و هجموا على المسلمين من خلفهم و هم مشتغلون بالنهب و رجع الكفار فطوقوا المسلمين من جوانبهم ففر المسلمون و لم يبق مع الرسول إلا علي عليه السّلام و أبو دجانة، و قتل من المسلمين جمع كثير بلغوا السبعين و فيهم حمزة عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسد اللّه و أسد رسوله.

وَ إِذْ غَدَوْتَ أي خرجت مِنْ أَهْلِكَ أي من المدينة غدوة، يا رسول اللّه تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ أي تهيئ لهم مراكز لِلْقِتالِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 389

[سورة آل عمران (3): الآيات 122 الى 124]

إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)

في قصة أحد وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالك عَلِيمٌ بما تنويه من حب الخير و الهداية للناس عامة.

[123] إِذْ هَمَّتْ و عزمت طائِفَتانِ أي جماعتان مِنْكُمْ أيها المسلمون، و هما بنو سلمة و بنو حارثة أَنْ تَفْشَلا و تجبنا و ترجعا عن القتال و ذلك لأن ابن أبي سلول المنافق جبّنهما عن لقاء العدو فهمّا بالرجوع لكنهما لم يفعلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما فلم الفشل و الخوف وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ و التوكل معناه تفويض الأمر إليه سبحانه وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «1».

[124] وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون بِبَدْرٍ في وقعة بدر

و هي اسم بئر كانت هناك فسميت الغزوة باسمها وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل لأن عددهم و عددهم كانت قليلة لا تقوى على المقاومة فَاتَّقُوا اللَّهَ و لا تتوانوا عن الجهاد بعد ما رأيتم نصرة اللّه في بدر و هذا لأجل تقوية قلوبكم في «أحد» و تصديق لقوله: «و اللّه وليهما» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نصركم لتقوموا بشكر نعمه عليكم.

[125] إِذْ تَقُولُ يا رسول اللّه لِلْمُؤْمِنِينَ في غزوة بدر

______________________________

(1) الطلاق: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 390

[سورة آل عمران (3): الآيات 125 الى 126]

بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ و ذلك لتقوية قلوب المؤمنين، و بيان أن اللّه أرسل ملائكة لتقويتهم و تعزيز مركزهم، و هذا تذكير للمسلمين في أحد بسابق نصر اللّه لهم مُنْزَلِينَ أنزلهم اللّه سبحانه لنصرة المسلمين و لقد حاربوا الكفار و قتلوا منهم.

[126] بَلى ليس الإمداد في يوم بدر بثلاثة آلاف فقط، بل قال لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر- تقوية لقلوبهم-: إِنْ تَصْبِرُوا على الجهاد وَ تَتَّقُوا المعاصي وَ يَأْتُوكُمْ الكفار مِنْ فَوْرِهِمْ أي فورانهم مندفعين عاجلا نحوكم هذا الذي شاهدتموه إذ أتوكم كالسيل، فإن المسلمين خذلوهم عند مجيئهم لما رأوا من كثرتهم يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ و الإمداد إرسال المدد بِخَمْسَةِ آلافٍ أخر- غير الثلاثة آلاف- مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ من سوم الخيل إذا علّمه بعلامة، أو علّموا أنفسهم بعلامة حيث كانت عليهم عمائم بيض و أرسلوا

أذنابها على أكتافهم، و هناك قول آخر هو أن قوله تعالى: «بلى» لموضوع أحد، فإن الكفار هموا بالرجوع مرة ثانية بعد أن نالوا من المسلمين ما نالوا و خالف المسلمون فوعدهم اللّه تعالى أنهم إن رجعوا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة، لكن السياق يؤيد المعنى الأول، و اللّه أعلم.

[127] ثم بيّن سبحانه أن إنزال الملائكة و الوعد به ليس لأجل أنهم السبب في نصر المسلمين، بل لأجل البشارة و أما النصر فإنه من قبل اللّه وحده و لو بدون الملائكة، حتى تتقوى قلوب المسلمين في الجهاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 391

[سورة آل عمران (3): الآيات 127 الى 128]

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل إنزال الملائكة و الوعد به إِلَّا بُشْرى لَكُمْ أي بشارة لكم أيها المسلمون وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بهذا الإنزال و الوعد وَ مَا النَّصْرُ أي ليس العون إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ في سلطانه الْحَكِيمِ في أموره.

[128] أما حكمة نصر المسلمين على أعدائهم في هذه الغزوة و سائر الحروب فهي لِيَقْطَعَ أي يفصل طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الطرف من الأنفس بالقتل، و من الأراضي بالفتح و من الأموال بالغنيمة أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم حتى يرغموا و تقل شوكتهم فَيَنْقَلِبُوا إلى أهليهم خائِبِينَ لم ينالوا بغنيمتهم بل انعكس الأمر فكبتوا و أرغموا.

[129] لَيْسَ لَكَ يا رسول اللّه مِنَ الْأَمْرِ المرتبط بهؤلاء الكفار شَيْ ءٌ فإن النصر و الهزيمة و الكبت كلها مرتبطة بإرادة اللّه سبحانه كما قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1» و قال:

هُوَ

الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ «2» ثم رجع السياق إلى تتميم قوله في الآية السابقة «أو يكبتهم» أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ بأن تكون نصرة المؤمنين على الكفار سببا لهداية جماعة منهم إلى

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الحشر: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 392

[سورة آل عمران (3): الآيات 129 الى 130]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)

الإيمان فيتوب اللّه سبحانه عليهم فيما فعلوا سابقا من الكفر و العصيان أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بأن تظفروا عليهم فتأسروهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فتعذيبهم ليس ظلما من اللّه عليهم بل لظلمهم أنفسهم فالأمر ليس بيدك يا رسول اللّه، و إنما ينصر اللّه المؤمنين لأحد أغراض أربعة: قطع طرف منهم، أو هزيمتهم و إرغامهم، أو هدايتهم، أو تعذيبهم. و الاعتراض بجملة «ليس لك» لتركيز كون النصر من عند اللّه، فإن اعتراض جملة في وسط جملة متسقة توجب إلفات الذهن و تركيز المطلب أكثر من بيان الجملة في موقعها الطبيعي.

[130] ليس لك شي ء وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فيفعل ما يشاء بمن يشاء فإنه تصرّف في ملكه لحكمة و غاية يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ممن استحق الغفران بالطاعة و التوبة وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العذاب بالكفر و العصيان وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتعذيبه أقل من غفرانه فقد سبقت رحمته غضبه.

[131] و يرجع السياق هنا إلى الربا و الإنفاق مما مر بنا سابقا، لمناسبة أن الربا من أسباب العذاب، و الإنفاق، من أسباب الغفران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا

الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً فإن من شأن الربا أن يتضاعف مرات و مرات فإن ربا الألف لو كان خمسينا يصبح ربا الألف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 393

[سورة آل عمران (3): الآيات 131 الى 133]

وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)

و الخمسين- في سنة ثانية- ألفا و مائة و اثنين و نصف، و هكذا يتضاعف الربا، و يمتص مال الفقراء و عملهم الذي يؤدون به الدين و الربا معا وَ اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالثواب و النعيم.

[132] وَ اتَّقُوا النَّارَ فلا تفعلوا ما يوجبها الَّتِي أُعِدَّتْ و هيّأت لِلْكافِرِينَ الذين يكفرون في الاعتقاد أو في العمل، أو المراد الكفار العقائديون، و التخصيص بهم من أن العصاة أيضا يذهبون إلى النار، و أن دوامها و بقاءها عليهم، أو أنهم معظمهم أهلها.

[133] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فيما يأمركم و ينهاكم، و ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتعظيم و إفادة أمره أمر اللّه سبحانه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا في الدنيا و الآخرة.

[134] وَ سارِعُوا أي بادروا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سبب المغفرة و هو الأعمال الصالحة الموجبة لغفرانه سبحانه وَ إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا أي سعتها- لا العرض مقابل الطول- السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ فهي واسعة وسع السماوات و الأرض التي لا نهاية لها في التصور- فإن الفضاء الذي يعبّر عنه بالسماء مما لا يصل الفكر إلى آخره و نهايته- أُعِدَّتْ و هيّأت لِلْمُتَّقِينَ أي الذين يتقون المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 394

[سورة آل عمران (3):

الآيات 134 الى 135]

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135)

[135] ثم بيّن المتقين بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ أي في حالتي اليسر و العسر، أو حالتي السرور و الاغتمام وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكظمون غيظهم وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ يعفون عنهم إذا ظلموهم وَ من فعل ذلك فهو محسن إلى نفسه و إلى الناس و اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و لا يخفى أن المتقي هو الذي يجمع الصفات الحميدة كلها لكنها نثرت في القرآن الحكيم بمناسبات.

و سوف نفسّر «المتقي» في كل مكان ببعض صفاته.

[136] وَ الَّذِينَ عطف على «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ» أي أن المتقين هم الذين إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي معصية تفحش، أي تتجاوز الحد أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بما لا يبلغ حد الفاحشة، من سائر أقسام المعاصي، فالفاحشة أخذ من مفهومها كون المعصية كبيرة ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا نهي اللّه و عقابه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي طلبوا غفران اللّه و ندموا على ما فعلوا وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ و هو استفهام استعطافي فالقرآن الحكيم يستعطف المذنبين نحو التوبة و الاستغفار وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من المعاصي، بل أقلعوا و ندموا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمون كون الفعل خطيئة، فلا يصرون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 395

[سورة آل عمران (3): الآيات 136 الى 138]

أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ

خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

على الذنب مع علمهم به.

[137] أُولئِكَ المتقون الذين هذه صفاتهم جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ يغفر ذنوبهم في الدنيا بسترها، و في الآخرة بالعفو عنها وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت نخليها و أشجارها خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فإن الغفران و الثواب من أفضل أجر العامل فإنّ أيّ أجر لا يبلغ مثل هذا الأمر الدائم الوارف.

[138] قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقت مِنْ قَبْلِكُمْ أيها المخاطبون سُنَنٌ جمع سنة بمعنى الطريقة، فقد كانت في الأمم السالفة طرائق، طريقة الحق و طريقة الباطل، طريقة الخير و طريقة الشر ..

و هكذا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ اذهبوا إلى البلاد التي كانت فيها تلك الأمم المنقرضة فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي تعرفوا على أخبارهم حتى تعلموا أنهم لم يربحوا و إنما أتوا و كذبوا الرسل و تأمروا ثم ماتوا و دفنوا و لم يبقى لهم ذكر طيب في الدنيا و لم تدم لهم النعمة التي من أجلها عملوا ما عملوا و إنما انتقلوا إلى عذاب اللّه سبحانه، ليكون في ذلك عبرة لكم فلا تكونوا من المكذبين بل من المؤمنين المصدقين.

[139] هذا القرآن، أو هذا الذي ذكرنا من أحوال المؤمن و الكافر، و ما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 396

[سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 140]

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ

لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

قدمنا من العظة و الإنذار بَيانٌ لِلنَّاسِ دلالة و حجة و توضيح لهم كيف ينبغي أن يسلكوا و يعملوا وَ هُدىً يهديهم إلى الحق وَ مَوْعِظَةٌ وعظ و إرشاد لِلْمُتَّقِينَ فإنهم هم الذين يستفيدون منه، و إن كان بيانا للناس عامة.

[140] و هنا يرجع السياق إلى ذكر غزوة أحد، لتشجيع المؤمنين و تصبيرهم على تحمّل المكاره، بعد ما بيّن أحوال المؤمن و الكافر، حتى تقوى عزيمتهم، و تطمئن قلوبهم وَ لا تَهِنُوا من الوهن أي لا تضعفوا عن قتال الأعداء وَ لا تَحْزَنُوا مما نالكم من القتل و الجرح و الهزيمة وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الظافرون الغالبون فإن الظفر يذهب بحرارة الخسارة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن من كان مؤمنا لا يهن و لا يحزن فإن طاقة الإيمان تؤمّن الإنسان بالقوة و الفرح أما القوة فهي مستمدة من اللّه سبحانه و أما الفرح فللغلبة أو لثواب اللّه سبحانه فيما لو غلب.

[141] ثم بيّن سبحانه أن ما أصابهم من المكاره ليس خاصا بهم بل أصاب الكافرين مثل ما أصابهم فهم في ذلك سواء، لكن المؤمنين يرجون ثواب اللّه سبحانه مما لا يترقّبه الكافرون فهم أجدر بالصبر و الثبات و عدم الوهن و الحزن إِنْ يَمْسَسْكُمْ أي يصبكم أيها المسلمون في غزوة أحد قَرْحٌ جرح و ألم في أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الكافرين قَرْحٌ مِثْلُهُ في أحد حيث أصيب الكفار بالألم و الجرح أيضا، أو المراد مسّهم القرح في بدر حيث قتل المشركون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 397

و هزموا وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ أيام النصر و الهزيمة و أيام القرح نُداوِلُها أي نصرّفها بَيْنَ النَّاسِ فيوم لهؤلاء على أولئك، و يوم لأولئك على هؤلاء، فإذا

نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم و إذا هزموا كان امتحانا لهم.

وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره فإنه

«عند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال»

«1» و

«عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان»

«2»، و معنى «ليعلم» أن معلومه سبحانه يقع في الخارج، لا أنه كان جاهلا- سبحانه- ثم علم، فإن العلم لما كان أمرا إضافيا بين العالم و المعلوم، يقال علم باعتبارين، أما باعتبار العالم فيما كان جاهلا ثم علم، و أما باعتبار المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجيا وَ ل يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي أن مداولة الأيام لفوائد و من جملة تلك الفوائد أن يتخذ اللّه سبحانه منكم مقتولين يستشهدون في سبيل اللّه و يبلغون الدرجات الراقية بالشهادة، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع، بالثبات أو الهزيمة، فإن إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة و غرض رفيع، لكن المعنى الأول أقرب وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بالكفر، أو بالهزيمة.

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 71 ص 163.

(2) غرر الحكم: ص 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 398

[سورة آل عمران (3): الآيات 141 الى 143]

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

[142] وَ من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق، أو يخلصهم من الذنوب، فإن بالأهوال تذاب الذنوب، و بالشدائد تكفّر الخطايا وَ ل يَمْحَقَ الْكافِرِينَ يهلكهم،

فإن الكفار ينقصون شيئا فشيئا حتى يهلكوا جميعا.

[143] ثم يبين سبحانه فائدة أخرى لتداول الأيام و هي أن المؤمن لا يدخل الجنة بمجرد إظهار الشهادتين و إنما اللازم أن يجاهد و يعمل و في تداول الأيام يحصل هذا العمل و هذا الامتحان المؤهل لدخول الجنة، لكنه جاء الكلام في صورة الاستفهام تلوينا في الكلام، و تفنّنا في التعبير أَمْ حَسِبْتُمْ أي هل حسبتم و ظننتم أيها المسلمون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بدون الامتحان وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي لم يقع منكم جهاد حتى يتعلق علم اللّه به وَ لما يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فلم يقع منهم صبر حتى يتعلق به علم اللّه سبحانه و دخول الجنة بدون الجهاد و الصبر لا يكون، فتداول الأيام يوجب جهاد المؤمنين و صبرهم حتى يتأهلوا لدخول الجنة.

[144] ثم يشير القرآن الحكيم إلى تأنيب المؤمنين في موقفهم يوم أحد، حيث أن جماعة منهم قبل الغزوة كانوا يتطلعون إلى الجهاد و يتمنون الاستشهاد ثم فروا منهزمين، و فوق ذلك أن إيمان بعضهم كان بدرجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 399

[سورة آل عمران (3): آية 144]

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

من الوهن حتى أنهم لما سمعوا بموت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كادوا أن يرتدوا وَ لَقَدْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ و لقاء الموت كناية عن لقاء مقدماته و الوقوع في الأهوال المنتهية إليه فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ في الغزوة إذ رأيتم غلبة الكفار و قتل جماعة من المؤمنين

وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تشاهدون المعركة، و هذا تأكيد لمعنى «رأيتموه» حتى لا يتوهم أحد أن الرؤية كانت بالقلب، فإن «رأى» يستعمل بمعنى «علم».

[145] وَ ما مُحَمَّدٌ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا رَسُولٌ أي ليس هو إلها لا يموت إنما هو بشر اختاره اللّه للرسالة فيجري عليه ما يجري على البشر من الموت و القتل، و ليس بدعا من الرسل بل قَدْ خَلَتْ أي مضت و تقدمت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الذين جرت عليهم سنة اللّه من الموت و مفارقة الحياة أَ فَإِنْ ماتَ موتا اعتياديا أَوْ قُتِلَ و استشهد انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ استفهام إنكاري توبيخي أي لم يكن حالكم هكذا، حتى ترتدّوا بموت النبي، و كنى عن الارتداد بالمشي القهقرى «الانقلاب على الأعقاب» الذي هو رجوع نحو الوراء وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أي من يرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً إذ اللّه سبحانه غني مطلق لا يحتاج إلى إيمان أحد حتى يضره ارتداده وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمة الإيمان و يثبتون عليه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 449

[سورة آل عمران (3): آية 145]

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

فإن الارتداد من أعظم أقسام الكفر، كما قال سبحانه: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ «1».

[146] و هنا تلميح إلى عتاب آخر موجّه للمسلمين لانهزامهم يوم أحد خوف الموت، فلم الفرار؟ أمن خوف الموت، و ليس الموت إلا بإذن اللّه تعالى، و ما قدّر من أجل للإنسان، فالفرار و عدمه

سيان بالنسبة إلى الوقت المحدد لحياة الإنسان وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إن النفوس ليست هملا حتى تموت من تموت و تبقى من تبقى بأسباب عادية من غير توسط مشيئة الباري سبحانه، فإن الموت لا يكون إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و مشيئته كِتاباً مُؤَجَّلًا أي كتب اللّه ذلك الوقت في اللوح المحفوظ كتابا ذا أجل و مدة محدودة معلومة وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا و خيرها و تعب و عمل لأجل المنافع الدنيوية نُؤْتِهِ مِنْها فإن الذي عمل يرى اللّه نتيجة عمله وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ و خيرها و عمل لأجل ثواب الآخرة نُؤْتِهِ مِنْها بقدر ما عمل، فارغبوا أيها المسلمون في ثواب اللّه و أجره الأخروي بالجهاد و الثبات و لا تفروا كما فررتم في أحد وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ جزاء حسنا، و من الشكر يعرف الإنسان قيمة ما خوّله اللّه سبحانه من الإسلام و وفقه للجهاد بين يدي رسوله لإعلاء كلمة اللّه، فمن شكر ذلك يجزى جزاء الشاكرين.

______________________________

(1) الحجرات: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 401

[سورة آل عمران (3): الآيات 146 الى 147]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)

[147] و ما لكم أيها المسلمون وهنتم في غزوة أحد و فررتم؟ ألم يمكنكم الاقتداء بالمؤمنين السابقين الذين كانوا مع الأنبياء يصمدون في وجه الباطل؟ وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فإن كثيرا من الأنبياء عليه السّلام قاتلوا، و جاهد معهم

و تحت لوائهم أناس من المؤمنين ربانيين منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة و العبادة و الإيمان، أو بمعنى أخيار فقهاء فَما وَهَنُوا أي ما فتروا لِما أَصابَهُمْ من القتل و السلب و الجروح و القروح فِي سَبِيلِ اللَّهِ للتنبيه على شدائدهم التي كانت في سبيل اللّه سبحانه وَ ما ضَعُفُوا عن عدوهم وَ مَا اسْتَكانُوا أي ما خضعوا و لا تضرعوا لعدوهم وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ الذين يصبرون في الشدائد و في الحروب.

[148] وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ أي قول أولئك الربانيون عند الجهاد و ملاقاة الأعداء إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فكانوا يستغفرون عند اللقاء مما فات منهم من الذنوب استعدادا للقاء اللّه سبحانه طاهرين وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا الحدود و تفريطنا و تقصيرنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا حتى لا تزل أمام الأعداء فننهزم وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهم جاهدوا و جلين من ذنوبهم لم يطلبوا إلا العفو في تواضع و خشوع، و لم يقصدوا إلا نصرة الدين على القوم الكافرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 402

[سورة آل عمران (3): الآيات 148 الى 149]

فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)

[149] فجزاء على ما سلف منهم من الصبر و الثبات و الجهاد في خشوع و تواضع آتاهم اللَّهُ أي أعطاهم اللّه سبحانه ثَوابَ الدُّنْيا بالفتح و الغلبة و العزة و الرفاه وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ بجنات تجري من تحتها الأنهار، أي ثواب الآخرة الحسن، و الإتيان بكلمة «حسن» هنا دون «ثواب الدنيا» لعله للإشارة إلى أن ثواب الآخرة هو الذي يوصف بالحسن، أما

الدنيا فإنها زائلة فلا قيمة لثوابها، أو المراد «أحسن» أقسام ثواب الآخرة الذي لا يعطى إلا للمجاهدين، بخلاف الدنيا فإن ثوابها عام للبرّ و الفاجر وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و محبة اللّه سبحانه فوق كل ثواب كما قال: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ «1».

[150] لما اشتد الأمر يوم أحد أخذ جماعة من المنافقين يدعون الناس إلى الارتداد عن دينهم حتى يستريحوا فأنزل اللّه فيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا من المنافقين، أو من اليهود و النصارى الذين أخذوا يشيعون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قتل فارجعوا إلى دينكم و عشائركم يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ كفارا كما كنتم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قد خسرتم الدنيا و الدين، فإن دنيا الجاهلية كانت فوضى و فقرا و رذيلة.

______________________________

(1) آل عمران: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 403

[سورة آل عمران (3): الآيات 150 الى 152]

بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

[151] بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي هو أولى بكم من الكفار و المنافقين، و هو ينصركم على أعدائكم وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لأن في نصرته خيرا للدارين بخلاف نصرة غيره.

[152] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي نقذف الخوف و الفزع في قلوبهم حتى

تغلبوهم و هكذا ينصركم اللّه تعالى بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ أي بسبب شركهم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي برهانا و حجة، فإن شركهم كان تقليدا لا عن دليل و حجة وَ مَأْواهُمُ أي محلهم و مستقرّهم النَّارُ في الآخرة وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي أن النار بئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر. و قد ورد أن الآية نزلت حين همّ المشركون- يوم أحد- بالرجوع إلى المسلمين لاستئصالهم عن آخرهم فلما عزموا ذلك ألقى اللّه في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به، و لا يخفى أن إلقاء الرعب في قلب الكافر أمر طبيعي فإن المسلم يستمد القوة من اللّه سبحانه أما الكافر فحيث لا يعتقد به سبحانه يكون قلبه هواء فيتسرب إليه الخوف.

[153] ثم بيّن سبحانه أن هزيمتهم يوم أحد لم تكن إلا بسبب مخالفتهم أوامر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إلا فالله سبحانه نصرهم كما وعد، حتى هزموا المشركين وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ و في لكم بما وعد من نصرتكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 404

على الكفار إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي تقتلونهم، فإن «حسّه» بمعنى قتله و أبطل حسّه و حياته، و معنى «بإذنه»: بأمره، فإن اللّه أذن لهم في القتال كما قال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا «1»، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ جبنتم و كففتم و خالفتم أمر الرسول وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ هل يبقى الرماة الخمسون في الشعب كما أمرهم الرسول أم يخرجوا يجمعون الغنائم؟- كما تقدم- وَ بالآخر عَصَيْتُمْ أمر الرسول في لزوم أماكنكم فتخليتم عن الشعب، فقد تخلى من الخمسين سبع و ثلاثون مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ اللّه سبحانه ما تُحِبُّونَ من

هزيمة الكفار و نصرة المسلمين مِنْكُمْ أيها المسلمون مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا و هم الذين خالفوا الرسول طلبا للغنيمة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ و هم: عبد اللّه رئيس الرماة في الشعب و اثني عشر من أصحابه الذين ثبتوا في أماكنهم ثُمَّ صَرَفَكُمْ أيها المسلمون عَنْهُمْ أي عن الكفار، بل توجهتم إلى الغنائم عوض أن تحتفظوا بأماكنكم، فإن في حفظ المكان كان توجها نحو الكفار لئلا يرجعوا إلى المسلمين من ورائهم، بخلاف التوجه نحو الغنيمة فإنه كان صرفا عن الكفار، و إضافته إليه سبحانه كسائر الإضافات نحو «و من يضلل» أو باعتبار أن الصرف كان عقوبة لهم على إرادتهم للدنيا

______________________________

(1) الحج: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 405

[سورة آل عمران (3): آية 153]

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)

لِيَبْتَلِيَكُمْ أي يمتحنكم و يختبركم، حتى يظهر ما أنتم عاملون وَ لَقَدْ عَفا اللّه سبحانه عَنْكُمْ خطيئتكم بمخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم على أعدائهم و يعفو عن ذنوبهم، و معنى الفضل: المن و النعمة، فإنه يعطيهم فضلا أي فوق استحقاقهم.

[154] و لقد عفا عنكم إِذْ تُصْعِدُونَ أي تذهبون في وادي أحد للانهزام، فإن الإصعاد الذهاب في الأرض وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تلتفتون إلى أحد من ورائكم بل كل همكم السرعة في الفرار حتى لا يأتيكم الطلب وَ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَدْعُوكُمْ يناديكم فِي أُخْراكُمْ أي من ورائكم، يقال: جاء فلان في آخر الناس أي من ورائهم

فَأَثابَكُمْ أي جازاكم اللّه على فراركم غَمًّا متصلا بِغَمٍ غمّ الهزيمة و غمّ القتلى الذين قتلوا منكم- و يحتمل في اللفظين أمور- لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الخير وَ لا ما أَصابَكُمْ من الضرر، فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد و جرّبها و مارسها تصلب نفسه و تقوى روحه فلا تتزحزح بمصيبة و لا تهتز بكارثة، و هكذا كانت هزيمة أحد درسا و عبرة حتى يصغر في نفوس المسلمين كل ما يفوتهم من خيرات و كل ما يصيبهم من شرور و آلام وَ اللَّهُ خَبِيرٌ ذو خبر و اطلاع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 406

[سورة آل عمران (3): آية 154]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)

بِما تَعْلَمُونَ فيجازيكم على حسب أعمالكم.

[155] ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ الذي غشيكم لهزيمتكم أَمَنَةً أي أمنا نُعاساً أي نوما، و هو بدل اشتمال ل «أمنة» فإنهم ناموا من شدة التعب و النصب بعد ما ذهب خوفهم و ذهب الكفار، و «أمنة» مصدر كالعظمة و الغلبة. لكن هذا النعاس كان يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ فقط الذين كانوا يعلمون أن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حق و أن اللّه لا يتركه و أن

ما أصابهم يوجب الثواب و الفائدة لهم وَ هناك طائِفَةً ثانية كانوا مع النبي منافقين قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يفكّرون في هزيمتهم لا ينامون من الحزن و الخوف حين انتشر بينهم أن الكفار عازمون على الرجوع و كانوا يشكّون في نصرة اللّه و لذا لم يتمكنوا أن يناموا خوفا يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ و أنه لا ينصر نبيه ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ من الكفار المكذبين بوعد اللّه سبحانه يَقُولُونَ ما في نفوسهم من ظنون الجاهلية: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أمر الغلبة و النصرة مِنْ شَيْ ءٍ في مقام الاستنكار و التعجب أن ينتصروا على الكفار إذا رجعوا قُلْ لهم يا رسول اللّه: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ينصر من يشاء، فللمسلمين النصر و الغلبة بإعطاء اللّه لهم إياها يُخْفُونَ هؤلاء المنافقين فِي أَنْفُسِهِمْ النفاق و الكفر ما لا يُبْدُونَ لَكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 407

[سورة آل عمران (3): آية 155]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

أي لا يتجرءون على إظهاره يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ أي من النصرة و الغلبة شَيْ ءٍ و كنا حقيقة منصورين ما قُتِلْنا أي ما قتل أصحابنا هاهُنا في غزوة أحد قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم: إن كون الأمر لنا لا يلازم أن لا يقتل منا أحد فإن الإنسان يموت إذا جاء أجله و لو كان في داره و منزله لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي خرج الذين كتب عليهم القتل- بأن رقم موتهم في اللوح المحفوظ- إلى مصارعهم. و «مضاجع» جمع مضجع بمعنى محل النوم وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي

صُدُورِكُمْ يختبر اللّه ما في صدوركم، فإن ما في الصدور من الإخلاص و النفاق، و الثبات و الوهن، إنما يظهر عند الشدائد و المحن، و هذا عطف على قوله:

«ليبتليكم» أو مستأنفة، أي فعل اللّه سبحانه ما فعل ليبتلي وَ لِيُمَحِّصَ أي يخلص ما فِي قُلُوبِكُمْ بأن يكشفه للناس و لكم، حيث أن الإنسان يظن أشياء فإذا حدث الحادث يظهر له خلاف ما كان يظن بنفسه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فليس الامتحان لأن يعلم هو تعالى، بل لأن يظهر ما يعلمه.

[156] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا أدبروا و انهزموا مِنْكُمْ أيها المسلمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 408

[سورة آل عمران (3): آية 156]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يوم أحد الذي التقى فيه جمع المسلمين بقيادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجمع المشركين بقيادة أبي سفيان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ طلب زلتهم و عصيانهم بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي بسبب بعض المعاصي التي كانوا يعملونها فأخذتهم عاقبتها و شؤمها وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ بعد ما ندموا و رجعوا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر للمذنب إذا تاب حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة بل يمهل المذنب كي يتوب و يئوب.

[157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا اعتقادا، و هم الكفار الذين لا يدينون بما وراء الغيب، أو كفروا عملا و هم المنافقون و من أشبههم وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في العقيدة، أو في الإنسانية، حتى يشمل قول الكافرين للمؤمنين

و قوله: «لإخوانهم» أي قالوا بالنسبة إلى الإخوان الذين سافروا فماتوا، أو حاربوا فقتلوا إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي ذهبوا لأجل التجارة و نحوها، يقال: ضرب فلان في الأرض إذا سافر، و تخصيص الأرض بالذكر، لكون السفر غالبا عن طريق البر أَوْ كانُوا غُزًّى جمع «غاز»، أي حاربوا الأعداء: لَوْ كانُوا عِنْدَنا مقيمين في أوطانهم ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فقد حسبوا أن الموت و القتل إنما هما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 409

بالأسباب الطبيعية بما وراء المادة و الإحساس. مع أن الموت و القتل لا يكونان إلا بتقدير و قضاء و ليس يفيد في ذلك البقاء، و في هذا رد لإرجاف المنافقين الذين كانوا يلقون تبعة قتل المؤمنين في أحد على النبي و أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخرجهم فقتلوا، و معنى القضاء و القدر في الأمور التكوينية: التخطيط و تهيئة الأسباب، فكما أن المهندس الذي يريد بناء دار يخطط شكل الدار المراد بنائها ثم يحضر مواد البناء من آجر و جص و حديد و خشب، كذلك ما في العالم من الأمور التكوينية خططت و علمها اللّه سبحانه و أحضرت موادها. لكن ليس معنى ذلك أن الأمور خارجة عن أيدي البشر و إنما جعل الدعاء و الصدقة و الأسباب الظاهرة مستثنيات للتخطيط و الآلات و الأسباب و كل ذلك أيضا بعلمه سبحانه، و على كلّ فليس الموت و القتل مما يكون سببهما السفر و الغزو كما زعمه الكفار بل هناك أسباب خفية تدير هذين الأمرين إلى جنب الأسباب الظاهرية، فليس كل سفر و غزو موجبا للموت كما ليس كل إقامة موجبا للبقاء، و الكفار إنما قالوا ذلك يريدون تثبيط الناس عن

الجهاد لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الاعتقاد- المفهوم من الكلام- حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ لما حصل لهم من الخيبة حيث رأوا رجوع إخوانهم من السفر و الجهاد بالربح و الظفر، و من الطبيعي أن يحزن و يخسر الشخص الجامد لما ناله الشخص المتحرك من الخير و التقدم المحتومين، و اللام في «ليجعل» إما لام الأمر، لبيان التأكيد، أو لام العاقبة، أي كانت عاقبة هذا الاعتقاد الحسرة و الحزن وَ اللَّهُ يُحْيِي الأرض و الجماد و الإنسان وَ يُمِيتُ فليس السفر و الغزو تمام سبب الموت وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فارغبوا في الطاعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 410

[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 159]

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

و الجهاد، و احذروا من المخالفة و الفرار، فإن اللّه سبحانه يعلم أعمالكم، و يبصر صنعكم.

[158] ثم لنفرض أن السفر و الغزو سبب الموت فهل الموت مع المغفرة خير أم الحياة لجمع الأموال التي يحياها الكافر الذي يبقى في بلده وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ و جهاد أعدائه أَوْ مُتُّمْ في سبيل اكتساب الرزق و التجارة و الضرب في الأرض لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ حيث يغفر لكم و يرحمكم حيث كنتم مطيعين له ممتثلين أمره خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي يجمع هؤلاء الكفار الباقون في بلدهم خوفا من الخروج، فإن من يبقى

يكتسب و يجمع مالا.

[159] ثم أن الموت و القتل لا يسببان انقطاع الحياة حتى يخشاهما الإنسان و يرفع اليد عن مقاصده العالية من خشيتهما وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على أعمالكم فخير لكم أن تطيعوه حتى تكونوا مرادا لثوابه و فضله.

[160] و هنا يلتفت السياق ليثير في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاطفته الكامنة نحو المؤمنين حتى يعفو عن خطأهم في أحد، حيث أخلوا الشعب حتى سيطر المشركون على المعركة، و فعلوا تلك الأفاعيل بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه من جرح و قتل و تمثيل فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «ما» زائدة أي بسبب رحمة من اللّه سبحانه على المؤمنين لِنْتَ لَهُمْ أي كنت لينا رحيما بهم فقد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 411

[سورة آل عمران (3): آية 160]

إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

جعله اللّه سبحانه رحيما بهم لينا عليهم وَ لَوْ كُنْتَ يا رسول اللّه فَظًّا جافي اللسان قاسي القلب غَلِيظَ الْقَلْبِ غلظا معنويا و هو الذي لا يلين و لا يحنو لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي تفرقوا عنك فَاعْفُ عَنْهُمْ إذا أخطئوا وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي اطلب لهم من اللّه الغفران لما صدر من ذنوبهم، و اللّه سبحانه و إن كان أرحم بهم لكن ذلك لزيادة عطف النبي، فإن من يطلب المغفرة لأحد لا بد و أن يزول من قلبه ما علق به من الكراهية، و لتكثير محبة المؤمنين له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ لتأليف قلوبهم و

لتعليمهم المشورة في أمورهم، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في غنى عنهم بما كان يسدّده اللّه سبحانه بالوحي فَإِذا عَزَمْتَ بعد المشورة على فعل فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تهتم بمن يخالف رأيه رأيك يا رسول اللّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ الواثقين به المعتمدين عليه الذين يوكلون أمورهم إليه.

[161] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ أيها المؤمنون، و ذلك إذا استحققتم ذلك بإيجاد أسباب النصر و إطاعة أوامره سبحانه فَلا غالِبَ لَكُمْ أي لا يقدر أحد على أن يغلبكم وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و خذلان اللّه سبحانه أن يكلهم إلى أنفسهم و لا يعينهم في أمورهم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ استفهام استنكاري، أي لا يكون ناصر لكم ينصركم من بعده سبحانه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 412

[سورة آل عمران (3): الآيات 161 الى 162]

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يثقون به و يعتمدون عليه.

[162] لقد كان من أسباب تخلّي المسلمين عن مكانهم من الجبل- يوم أحد- خوفهم ألا يقسّم لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الغنائم، و قد تكلم بعض المنافقين في وقعة بدر حول قطيفة حمراء فقدت فقالوا بأن الرسول أخذها، و لذا نزلت الآية نافية أن يغلّ الأنبياء و يخونوا وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ أي لا يجوز للأنبياء الغلول أي الخيانة، و الخيانة محرمة مطلقا لكن المورد أتى خاصا حيث أن الكلام كان حوله

وَ مَنْ يَغْلُلْ شريفا كان أو وضيعا قليلا كان غلوله أو كثيرا يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ و

في الحديث «يأتي به على ظهره»

«1». ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي تعطى جزاء كسبها كاملا غير منقوص وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص من أجورهم شي ء و لا يعذبون فوق استحقاقهم.

[163] أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ باتباع أوامره و اجتناب نواهيه كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فكأنه رجع إلى أعماله الدنيئة بعد أن ذهب إلى اللّه سبحانه فعلم ماذا يريد، فقد رجع مع السخط بينما رجع غيره مع الرضوان وَ مَأْواهُ أي مرجعه و مصيره جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 68.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 413

[سورة آل عمران (3): الآيات 163 الى 164]

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

أن المحل الذي صار إليه محل سيئ، فعلى الإنسان أن لا يفرّ من الحرب و لا يتخلف عن أمر اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يبوء بالغضب و السخط و يكون مصيره النار.

[164] هُمْ أي هؤلاء الذين باءوا بالسخط و الذين اتبعوا رضوان اللّه، ذوو دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ فللمؤمنين درجات رفيعة و لغيرهم درجات بذيئة، أو أن لكل فريق درجات من حيث القرب و البعد، و حذف كلمة «ذوو» لما تعارف من المجاز في هذه التعبيرات بعلاقة الحال و المحل فيقال عند العد: زيد الدرجة الأولى، عمرو الدرجة الثانية، و هكذا

وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم حسب أعمالهم فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأنه لا يقدّر، و لا يجري العاصي في المعصية لأنه لا يرى.

[165] إن النعمة التي أنعم اللّه بها على المسلمين مما يوجب شكرها و التضحية في سبيلها فهي نعمة كبيرة جدا لا تماثلها نعمة و لا يبلغ شأنها إحسان و منّة لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم اللّه، فإن المنّ القطع، و تسمى النعمة منّة لأنها تقطع الإنسان عن البلية و الفاقة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إنما خصوا بالذكر مع أن المنة عامة لأنهم هم الذين استفادوا منها دون سواهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا فإنه أعظم النعم، و لذا لم يمن اللّه على الإنسان بأية نعمة سواها، فإن في الإرسال صلاح الدين و الدنيا و الآخرة و إكمال البشر حسب قابلياتهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ تذكير بنعمة أخرى، إذ كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جنس البشر-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 414

[سورة آل عمران (3): آية 165]

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165)

لا الملائكة و الجن- تشريف لهم و إظهار لفضل هذا النوع، و حيث أن السياق حول مؤمن الأنس لا يستشكل بأن المؤمنين أعم من الجن و ليس الرسول من أنفسهم يَتْلُوا الرسول عَلَيْهِمْ آياتِهِ تلاوة، كما يتلو المعلم الدرس على التلميذ وَ يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من الأدناس الظاهرية بأوامر النظافة و ما أشبه، و الأقذار الخلقية و الاعتقادية بإرشادهم إلى الحق و الفضيلة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يفهمهم معانيه، و هو غير التلاوة وَ الْحِكْمَةَ و هو علم الشريعة، أو مطلقا، بمعنى أنه يعلمهم مواضع الأشياء خيرها

و شرها فإن الحكمة كما قالوا: «وضع الشي ء موضعه».

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي قبل أن يأتيهم الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم، فعلى المؤمنين أن يضحوا في سبيل هذه النعمة بكل غال و رخيص، فما فعلوا يوم أحد كان خلاف الشكر، و ما ضحوا فيه لم يكن كثيرا مقابل هذه النعمة العظمى.

[166] أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي هل أنتم بحيث لما أصابتكم مصيبة في أحد و الحال أنكم في بدر قَدْ أَصَبْتُمْ من الكفار مِثْلَيْها فإنه قتل منكم في أحد سبعين، و قد أصبتم من الكفار مائة و أربعين إذ قتلتم منهم سبعين و أسرتم منهم سبعين في واقعة بدر قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي من أي وجه أصابنا هذا و نحن مسلمون، و هذه الجملة «أو لما ..» استنكارية أي كيف تستنكرون إصابتكم بأحد و الحال أنكم قد أصبتم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 415

[سورة آل عمران (3): الآيات 166 الى 167]

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)

في بدر مثلي ما أصابكم، ثم أن هذه الإصابة كانت لضعف نفوسكم حيث أغراكم المال و أخليتم أماكنكم في الجبل قُلْ يا رسول اللّه:

هُوَ أي ما أصابكم مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ الجشعة إلى حب الغنيمة و المال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر أن ينصركم على أعدائكم كما يقدر أن يخذلكم حين تتركون أوامره، و

في بعض الأحاديث

أنهم في بدر خيروا بين أخذ الفدية من الأسرى على أن يقتل منهم في العام القابل سبعون بعدد الأسرى، و بين أن يقتلوا الأسرى و لا يأخذون الفدية.

فطلبهم للمال أوجب اختيار الأول، و على هذا كان ما أصابهم في أحد «من عند أنفسهم».

[167] وَ ما أَصابَكُمْ أيها المسلمون يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي حين تلاقى المسلمون و الكفار في يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بعلمه، أو بأنه لم يحل بين الكفار و بينكم حتى أصابوا منكم. و هذا كالإذن تكوينا، و قد أذن سبحانه لفائدة التمييز بين المؤمن و المنافق وَ لِيَعْلَمَ أي يتحصّل علمه في الخارج الْمُؤْمِنِينَ الذين جاهدوا.

[168] وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أظهروا الإسلام و أبطنوا النفاق و هم ابن أبي سلول و جماعته حيث أنهم انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلاثمائة رجل قالوا: علام نقتل أنفسنا؟! وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن عمرو بن حزام الأنصاري قال لهم هذه المقالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 416

[سورة آل عمران (3): آية 168]

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

أَوِ ادْفَعُوا عن حريمكم و أنفسكم فإن الكفار إذا غلبوا نكّلوا بكم قالُوا أي قال أولئك المنافقون في جواب المؤمنين: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فإن هذا الذي تخوضونه ليس بقتال إذ لو كان قتالا لأخذتم برأينا فيه، أو تريدون إلقاء النفس في التهلكة فليس هذا قتالا يتكافأ فيه الجانبان، هُمْ أي هؤلاء المنافقون لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر و كلما عمل بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فأفواههم تنطق بالإيمان

و قلوبهم تضمر الكفر و العصيان وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ في قلوبهم فيجازيهم حسب نفاقهم المضمر.

أقول: الظاهر أن قوله: «و ليعلم» إلى آخره، ليس عطفا على «بإذن اللّه» إذ يكون المعنى حينئذ أن الإصابة علة للتمييز، و الحال أن إعلان الجهاد كان علة ذلك، فقوله: «ليعلم» جملة مستأنفة، أي أن حرب أحد كانت لأجل التمييز بين المؤمن و المنافق، في جملة فوائدها الأخرى.

[169] ثم ذكر سبحانه صفة أخرى للذين نافقوا بأنهم هم الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي قالوا حول إخوانهم الذين ذهبوا إلى ساحات الجهاد فقتلوا وَ قَعَدُوا أي قعد هؤلاء المنافقون عن القتال لَوْ أَطاعُونا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 417

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 170]

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)

في تركهم الخروج ما قُتِلُوا جملة «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» مقول قولهم. قُلْ لهم يا رسول اللّه: فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في مقالكم أن البقاء في البيت موجب لعدم موت الإنسان، فمن أين لكم أن من يبقى في بيته لا يموت، فكم من الذين بقوا في بيوتهم و ماتوا و كم خرجوا في القتال و رجعوا سالمين؟! [170] و لو فرضنا أن الخارج إلى الجهاد قتل، فما يضره ذلك، فإن من استشهد في سبيل اللّه لا تنتهي حياته بل يبقى حيا يرزق وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب، فمرتبة منها كاملة فيمن كان سعيدا فرحا، و مرتبة

منها ناقصة فيمن كان شقيا حزينا. كذلك من مات يكون على قسمين- بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر- قسم يكون حيا هناك أي سعيدا فرحا، و قسم يكون ميتا هناك أي شقيا حزينا، فليس للآية الكريمة مفهوم أن غير المقتول لا حياة له هناك بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ حياة غير مادية بل حياة عند ربهم و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا.

[171] في حال كونهم فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الحياة الباقية و السعادة و الخير وَ يَسْتَبْشِرُونَ أي يسرّ هؤلاء المقتولون في سبيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 418

[سورة آل عمران (3): الآيات 171 الى 172]

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)

اللّه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من المؤمنين الذين بقوا في الحياة و بقوا مِنْ خَلْفِهِمْ و استبشارهم بهؤلاء من جهة أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ اللّه سبحانه يتولى أمورهم وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بالنسبة إلى من خلفهم، فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة اللّه سبحانه و خير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا بأنهم لا خوف عليهم، و ذلك بخلاف من بقي و لم يجاهد فإنهم جمعوا بين شرين مشاكل حياة أنفسهم و مشاكل حياة إخوانهم، حيث لا يعلمون ماذا تكون عاقبة أمر أنفسهم و أمر إخوانهم.

[172] يَسْتَبْشِرُونَ أي هؤلاء المقتولون يسرّون و يفرحون بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ينعمها عليهم في الآخرة وَ فَضْلٍ أي الزيادة على قدر استحقاقهم أو على ما يترقبون وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فإن

من علم أن حقه و أجره مضمون فرح و استبشر، فهؤلاء يرون عيانا أن حقهم محفوظ بخلاف الإنسان في الدنيا فإنه يعلم ذلك دون أن يراه.

و في تكرار المطلب زيادة تمكين المعنى في النفس، و مثله كثير في التحذيرات و الترغيبات المستقبلة و بالأخص إذا لم يشاهد الإنسان أمثاله بل كان غيبا محضا فإن في التكرار تركيز المطلب في النفس حتى تعمل تلقائيا كالذي شاهد و حضر.

[173] لما انصرف أبو سفيان و أصحابه من «أحد» و بلغوا «الروحاء» ندموا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 419

[سورة آل عمران (3): آية 173]

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

على انصرافهم عن المسلمين و تلاوموا فيما بينهم قائلين بعضهم لبعض: لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد و تركتموهم، فارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك الخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأراد إرهابهم فخرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه من به جرح من أحد حتى بلغ «حمراء الأسد» و بلغ الخبر المشركين فخافوا خوفا شديدا و ولوا منهزمين.

و وجه اتصال الآية أنه سبحانه بعد ما بين أجر الشهداء و أنهم يستبشرون بالأحياء ذكر وصف الأحياء الذين يستبشر بهم المقتولون أنهم أولئك الذين لم تزلزلهم المحنة و لم تقعدهم الجراحات عن مواصلة الكفاح و لم يرهبهم تجمع الأعداء و إرجافهم بهذا التجمع و هم مثخنون بهذه الجراحات الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ أطاعوهما في أمرهما، و قد ذكرنا سابقا أن ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتشريف و أن بيان أمره أمر اللّه

سبحانه و إلا فالأمر واحد مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالتهم الجراحات يوم أحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بعد الاستجابة وَ اتَّقَوْا معاصي اللّه سبحانه أَجْرٌ عَظِيمٌ لأنهم أطاعوا في ثلاث دفعات حضورهم في أحد و استجابتهم ثانيا و إحسانهم و تقواهم ثالثا.

[174] ثم وصفهم سبحانه بوصف آخر أنهم هم الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فقد قال الناس لأصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 420

[سورة آل عمران (3): آية 174]

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

رجوعهم من أحد: إن «الناس» و هم أبو سفيان و المشركون قد جمعوا لكم، أي جمعوا المشركين لأجل محاربتكم فَاخْشَوْهُمْ أي خافوا منهم لأنهم إذا رجعوا إليكم و أنتم- أيها المسلمون- مثخنون بالجراح من أحد لن يبقوا منكم باقية فَزادَهُمْ تجمع الناس عليهم إِيماناً فإن عند كل كارثة يتذكر المؤمن اللّه سبحانه فتقوى نفسه بمعونته و تشتد عزيمته بنصره وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا اللّه يكفينا شر أعدائنا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فإنه خير من جعله الإنسان وكيلا لعلمه بمواقع النفع و الضرر و قدرته على جلب النفع و دفع الضرر عن الموكل.

[175] فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ أي رجع هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، تصحبهم نعمة اللّه و فضله لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ فهم بعد ما خرجوا في طلب أبي سفيان، هرب أبو سفيان فرجع المسلمون و هم مرهوبو الجانب أشداء النفوس وَ قد اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ باتباع أمره في تعقب المشركين وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ

عَظِيمٍ على من اتبع أمره فهو يسعده في الدنيا و الآخرة.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ» فإني سمعت اللّه يقول بعقبها: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ»

«1».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 392.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 421

[سورة آل عمران (3): الآيات 175 الى 176]

إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)

[176] إِنَّما ذلِكُمُ «كم» للخطاب، و «ذا» إشارة إلى التخويف من الأعداء أي أن التخويف الذي صدر عن بعض الناس بالنسبة إلى المسلمين من عمل الشيطان فإنه الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فإن المؤمنين لا يخافون و إنما أولياء الشيطان يخافون لأنهم بانقطاع صلتهم من اللّه سبحانه يخافون من كل شي ء كما قال سبحانه في وصف المنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «1»، فَلا تَخافُوهُمْ أي لا تخافوا الناس الذين جمعوا لكم، أو لا تخافوا الشيطان و أولياءه وَ خافُونِ و الخوف من اللّه سبحانه بمعنى إطاعته و ترك عصيانه فإن في ترك ذلك، النار و العقاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يوجب أن لا يخاف الإنسان إلا من اللّه سبحانه، و ليس المراد عدم الخوف مطلقا فإنه قهرا للإنسان و إنما المراد ترتيب الأثر على الخوف.

[177] وَ لا يَحْزُنْكَ يا رسول اللّه الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يتسابقون في أعمالهم الكافرة كأنهم في سباق من كثرة نشاطهم إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ فإن دعوتك التي هي

مرتبطة بالله سبحانه لا بد و أن تنجح و تتقدم و هذه المسارعات الكافرة لا تضرها، فقد نسب موقف الدعوة إلى اللّه سبحانه، إفادة لعلوها و قوة المدافع و المتولي لها شَيْئاً أصلا لا صغيرا و لا كبيرا، بل إنهم يضرون بذلك أنفسهم فإن

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 422

[سورة آل عمران (3): الآيات 177 الى 178]

إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

إعطاء اللّه القدرة لهم في أن يفعلوا ما يشاءون لأنه يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ و إنما أراد ذلك لأنهم أعرضوا عن الحق كما أنك إذا أديت إلى عبدك مالا ليتاجر به، ثم ذهب يقامر به، و أمهلته فلم تضرب على يده تقول: أريد أن أبدي سوءته و أعاقبه بعقاب كبير وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بكفرهم و مسارعتهم و نشاطهم ضد الإسلام.

[178] إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي بدّلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بتبديلهم الكفر بالإيمان شَيْئاً أيّ شي ء أبدا وَ لَهُمْ أي للذين بدلوا الكفر بالإيمان عَذابٌ أَلِيمٌ بما بدلوا.

[179] وَ لا يَحْسَبَنَ أي لا يظن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ الإملاء الإمهال، أي أن إطالتنا لأعمارهم و إمهالنا إياهم و توفير المال و الجاه لهم ليس خيرا لهم فإن الخير هو الذي لا يسبب شرا و عقابا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ نطيل أعمارهم و نعطيهم ما نعطيهم لِيَزْدادُوا إِثْماً و معصية، فإنهم بإعراضهم عن الحق و خبث بواطنهم استحقوا العقاب و العذاب لكن حيث لا عقاب على الخبث الباطني

فقط كان الإمهال مظهرا لذلك الخبث، فبقاؤهم موجب لزيادة عقوبتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم علاوة على ألمه و كربه و ربما يقال: إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 423

[سورة آل عمران (3): آية 179]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

«اللام» في قوله «ليزدادوا» لام العاقبة كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1».

[180] ثم يرتد السياق إلى قصة أحد حيث انكشف هناك المؤمن الذي تبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحرب من المنافق الذي تخلّف عن الجهاد كعبد اللّه ابن أبي سلول بمن تخلف معه ما كانَ اللَّهُ أي ليس من سنته سبحانه أن لا يمتحن لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي يدعهم و يتركهم عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من ظاهر الإيمان الذي يتساوى فيه المؤمن و المنافق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ لكي يظهر ما يضمره كل فريق. و في بعض التفاسير: أن المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا و من يكفر؟ فإن وجدنا خبره صدقا آمنا به. فنزلت الآية. «2» و على هذا فمعنى «عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» أي حالكم قبل الإيمان، فلا يترك سبحانه المؤمن على كفره بين سائر الكفار وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعلموا أن هذا مؤمن و هذا منافق، بدون الاختبار الخارجي المظهر للضمائر وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يختار لاطلاعه على الغيب مِنْ رُسُلِهِ و أنبيائه مَنْ يَشاءُ و

هذا كقوله

______________________________

(1) القصص: 9.

(2) مجمع البيان: ج 2 ص 456.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 424

[سورة آل عمران (3): آية 180]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» و لا ينافي ذلك اطلاع بعض الملائكة و الأئمة و بعض المؤمنين على بعض المغيبات إذ الملائكة خارج عن المستثنى منه و الباقون إما بتعليم النبي أو بإلهام منه سبحانه و عدم استثنائه لندرته خارجا، و القضايا الطبيعية- كما نحن فيه- لا تنافيها النوادر.

و حيث عرفتم قيمة الإيمان فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ إيمانا حقيقيا لا يشوبه نفاق و خبث ضمير وَ إِنْ تُؤْمِنُوا إيمانا صادقا وَ تَتَّقُوا المعاصي و تعملوا الصالحات فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ يبقى إلى الأبد في جنة عرضها السماوات و الأرض و رضوان من اللّه.

[181] و حيث تقدم الكلام حول الجهاد و التضحية عقبه سبحانه بذكر المال فهما يذكران غالبا مقترنين إذ الجهاد يحتاج إلى بذل المال و الدين إنما يقام ببذل النفس و بذل المال معا، فقال سبحانه: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أعطاهم سبحانه فضلا و إحسانا فإن المال و إن اجتهد الإنسان و كدّ في جمعه إنما هو فضل من اللّه سبحانه لأنه من خلقه و صنعه فالنقدان مثلا معدنان مخلوقان له و سائر الأموال من نبات الأرض و ما أشبه كله له، هذا بالإضافة إلى أن أجهزة الإنسان التي بها يتمكن من كسب المال كلها منه سبحانه.

و المراد بالبخل هنا هو الحرام منه مما يجب إعطاؤه فيمنع

______________________________

(1) الجن: 27- 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 425

هُوَ خَيْراً لَهُمْ حيث يزعمون أن البخل يوفر عليهم المال فيبقى عندهم و لا يخرج من أيديهم و «خيرا» مفعول «يحسبن» بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ إن ذلك البخل شر لهم يعود عليهم في الدنيا بالشر حيث أن ذلك موجب لسوء السمعة الذي بدوره يوجب عدم التمكن من اكتساب المزيد من المال و يوجب ذهاب الكائن منه بمصادرات الحكام و ثورات الفقراء، و الأسوأ من ذلك أنهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يجعل المال الذي بخلوا به طوقا في أعناقهم يَوْمَ الْقِيامَةِ و هذا كناية عن لزوم تبعة المال، كما يقال: المرأة طوق في عنق الإنسان، و الدّين طوق في عنق المدين، و هكذا، و في الأحاديث الواردة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام أنه «ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب»

«1» و في بعضها تفسير الآية الكريمة بذلك.

ثم ما بال هؤلاء يبخلون؟ فإنه لا يبقى المال عندهم إلى الأبد، بل يذهبون و يذرون المال وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكل من يموت فيهما و يخلف شيئا فلا بد و أن يرثه اللّه سبحانه حيث تبقى الأموال له وحده بعد فناء الجميع فما بخل به عنه سبحانه و لم يصرف في سبيله لا بد و أن يرجع إليه، و ليس للبخيل إلا الإثم

______________________________

(1) الكافي: ج 3 ص 502.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 426

[سورة آل عمران (3): آية

181]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فما أنفقتم من نفقة يعلمها اللّه سبحانه فيجازيكم عليها جزاء حسنا.

[182] و قد كان من بخلاء اليهود من لا ينفق مما آتاه اللّه، ثم يزيد على ذلك فيقول: إن اللّه فقير لأنه يستقرض- تعريضا بقوله سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «1»- و أنا غني لما لدي من الأموال لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ و يكفيه تهديدا أن اللّه سمع قوله فلينتظر الجزاء العادل و العقاب الأليم سَنَكْتُبُ ما قالُوا حتى يكون كتابا مسجلا عليهم لا مجال لإنكاره يوم يعطى كل امرئ كتابه، و قد كان منطق اليهود منحرفا إلى أبعد الحدود، و كيف يكون اللّه سبحانه فقيرا و هو الذي يملك كل شي ء حتى روح هذا القائل؟! و إنما استقراضه امتحان و طلبه المال ابتلاء و اختبار، و كيف يكون هو غنيا و الحال أنه لا يملك روحه فكيف بماله؟! وَ سنكتب قَتْلَهُمُ أي قتل هؤلاء اليهود الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ و إنما عيّرهم اللّه سبحانه مع أن آباءهم هم الذين فعلوا، لرضاهم بذلك أولا و لبيان أن هؤلاء خلفا عن سلف مجرمون فلا عجب أن يقول الخلف كفرا بعد ما عمل السلف أفظع من ذلك ثانيا، و دخول «السين» في سنكتب، لعله لبيان أن الكتابة لا تثبت إلا بعد أن يموتوا غير مؤمنين بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلا فالكتابة لا تضر إذا محيت

______________________________

(1) البقرة: 246.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 427

[سورة

آل عمران (3): آية 182]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

بالإيمان، و هذا يصح بالنسبة إلى قولهم، أما بالنسبة إلى قتل أسلافهم، و قد كتب قتلهم، فلأن كتابة ذلك عائد على الأخلاف إذا بقوا على الكفر، و لعل العطف على المعنى أي «و كتبنا قتلهم الأنبياء» من قبيل «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» و قوله: «علفته تبنا و ماء باردا».

وَ نَقُولُ حين عقابهم في الآخرة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ الذي يحرق أجسادكم بفعلكم و قولكم.

[183] ذلِكَ العذاب إنما يكون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر و العصيان، و إنما عبّر بتقديم الأيدي لأن الإنسان غالبا يقدّم الأشياء بيده، فيكون ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأنتم عبيده خالفتم أوامره فاستحققتم هذا العقاب، و «ظلّام» ليست لفظة مبالغة على غرار «علّام» و إنما للنسبة نحو «تمّار» بمعنى ذي تمر، كما قال ابن مالك:

و مع فاعل و فعّال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و لعل اختيار هذه الكلمة لردّ التوهّم و هو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان كثير الظلم، فيكون الإتيان به للمجانسة اللفظية كقوله:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخةقلت اطبخوا لي جبة و قميصا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 428

[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

[184] إن الذين قالوا إن اللّه فقير و نحن أغنياء، و الذين قتلوا

أنبياءهم، هم الذين لم يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحجة مكذوبة، فقد قالوا: يا محمد إن اللّه عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أن اللّه بعثك إلينا فجئنا بالقربان حتى نصدقك، فنزلت الآية الَّذِينَ قالُوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و «الذين» في موضع الجر عطفا على «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ»: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا و وصّانا في الكتب المنزلة أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ بأن لا نصدق بنبوته حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ أي ما يتقرّب به إلى اللّه سبحانه تَأْكُلُهُ النَّارُ تأتي نار من الغيب فتحرقه، و قد كان ذلك علامة لصدق نبوة أنبياء بني إسرائيل قُلْ يا رسول اللّه في جوابهم: قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحة وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان الذي أكلته النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ فإنهم قتلوا ذكريا و يحيى و غيرهما إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم تؤمنون بالرسول إذا جاءكم بقربان تأكله النار؟ و إنما ينسب فعل الأسلاف إلى الأخلاف لأن الطبيعة فيهم واحدة و الاتجاه واحد فلا يمكن أن يقال: إن معاصري الرسول لم يكونوا يظهرون الرضا بفعل أسلافهم في قتل الأنبياء.

[185] فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول اللّه و لم يؤمنوا برسالتك فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فلست بدعا في ذلك و لا يضيق صدرك بتكذيبهم، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 429

[سورة آل عمران (3): آية 185]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

الناس قد كذبوا رسلا قبلك و الحال أنهم جاؤُ

بِالْبَيِّناتِ الأدلة الواضحة وَ الزُّبُرِ أي الصحف التي فيها الأحكام و الشرائع وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ و هو الكتاب الجامع للأحكام. و الفرق بينهما أن الزبر صحائف متفرقة فيها أحكام متشتتة بخلاف الكتاب الذي هو الجامع المتسلسل، كما أنه نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأحاديث القدسية و القرآن الحكيم ..

و هنا سؤال هو: إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم لم يأت بقربان تأكله النار؟ و الجواب:

إنهم سألوا ذلك تعنّتا لا استرشادا، و إلا فقد كان يكفيهم سائر الأدلة، و ليس شأن الأنبياء أن يفعلوا فوق اللازم من المعجزة لكل متعنت و مجادل، و هذا هو السر في رد كثير ممن سأل المعجزة.

[186] إن عدم الجهاد لخوف الموت، و عدم الإيمان لخوف ذهاب الرئاسة، و عدم الإنفاق لخوف الفقر، مما له عاقبة سيئة هي النار، فكل إنسان يموت و تذهب حياته و رئاسته و ماله، فما أجدر أن يفعل ما يسبّب له حسن العاقبة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ تذوقه و تلاقيه وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أيها الناس أُجُورَكُمْ الحسنة أو السيئة يَوْمَ الْقِيامَةِ فهنا عمل و لا حساب و غدا حساب و جزاء بلا عمل فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ أي بوعد عنها وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ لأنه سرور و راحة لا انقطاع لهما و لا تكدّر فيها وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا بلذاتها و شهواتها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 430

[سورة آل عمران (3): الآيات 186 الى 187]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَ إِذْ أَخَذَ

اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ تسبب غرور الإنسان و غفلته عن الخير الدائم الباقي. فمن الجدير بالإنسان أن يحصل بحياته و رئاسته و ماله تلك الدار الباقية لا أن يغتر بالدنيا و يعصي اللّه سبحانه حتى يدخل النار.

[187] إن الدنيا دار محنة و ابتلاء لا دار راحة و سعادة فاعلموا أيها المسلمون لَتُبْلَوُنَ أي تقع عليكم المحن و البلايا بكل تأكيد فِي أَمْوالِكُمْ بذهابها و نقصانها و وجوب الإنفاق منها وَ في أَنْفُسِكُمْ بالأمراض و الشدائد و القتل في الجهاد و نحوه وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ اليهود و النصارى و المجوس وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من سائر أقسام الكفار أَذىً كَثِيراً سبا و شتما و تهمة و وقيعة و استهزاء وَ إِنْ تَصْبِرُوا في البلايا و الأذى وَ تَتَّقُوا فلا تحملنّكم البلية و الأذية على الابتعاد عن الدين و عمل المحرّم فَإِنَّ ذلِكَ الصبر و التقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي يجب العزم عليها و المضي فيها. و في الكلام مجاز إذ نسب العزم الذي هو للإنسان إلى الأمر، مثل نسبة الإصرار إلى الأمر في قولك: «أصرّت الأمور عليّ» لبيان أن الأمر قد صار عزما، من شدة لزومه، و فرض وجوبه.

[188] ثم يأتي السياق إلى ذكر صفة أخرى من أهل الكتاب مناسبة للمقام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 431

[سورة آل عمران (3): آية 188]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)

حيث أنهم يعلمون رسالة الرسول و

هي موجودة في كتبهم، لكنهم بدل أن يؤمنوا و يظهروا ذلك للناس يصرّون على الجدال و العناد و يخفون الكتاب على الناس وَ اذكر يا رسول اللّه إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أخذ عهدهم الأكيد بواسطة الأنبياء عليهم السّلام لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ أي تبينون الكتاب الذي فيه الأحكام و البشارة برسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفونه فَنَبَذُوهُ أي طرحوا الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إهمالهم له و عدم اعتنائهم به كما أن الذي يريد إهمال متاع يلقيه وراء ظهره وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي بدلوا بأحكام الكتاب رئاسة قليلة في الدنيا و أموالا قليلة كانوا يتقاضونها من سائر اليهود فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ من الثمن حيث يستحقون بذلك العذاب الدائم.

[189] و من الناس من لا يدخل في عمل الخير مع العاملين، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصفوا أنفسهم بالحصانة و التعّقل، و إذا ربحوا جعلوا أنفسهم من المؤيدين لهم، و توقعوا أن يثنى عليهم ثناء العاملين، إن أمثال هؤلاء الذين لا يشتركون فيما يجب الاشتراك فيه، لا بد و أن ينالهم العذاب لتركهم الواجب، و غالبا يكونون من المنافقين، و من الذين يقعدون عن الجهاد، و عن واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لهؤلاء ميزة أخرى و هي أنهم يفرحون بما يأتون من الأعمال حقا كان أو باطلا، بخلاف المؤمنين الذين إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 432

[سورة آل عمران (3): الآيات 189 الى 190]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)

عصوا استغفروا، و

إذا أحسنوا خافوا، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «1».

لا تَحْسَبَنَ يا رسول اللّه الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا من الأعمال صالحة كانت أو طالحة وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا أي يحمدهم الناس بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الأعمال الخيرية فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يا رسول اللّه بِمَفازَةٍ من الفوز، أي النجاة مِنَ الْعَذابِ فإنهم يعذبون بكل تأكيد لهذه الأفعال و الصفات وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. و هذه الآية كما تراها عامة، فتفسيرها بالمنافق أو نحوه من باب ذكر المصداق.

[190] أين المفر لهؤلاء من عذاب اللّه وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا يمكن لأحد الفرار من حكومته وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يفوته ما يريد و يفعل ما يشاء.

[191] و هنا ينتهي السياق بأدلة الإيمان و أحوال المؤمنين و أن أعمال الكافرين في انهيار، مناسبة للجو العام من السورة الذي كان في الإيمان و العقيدة و أحوال المؤمنين و الكافرين، و مرتبطة بالآية السابقة

______________________________

(1) المؤمنون: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 433

[سورة آل عمران (3): آية 191]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)

«وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ» إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي في إيجادهما بما تشتملان عليه من العجائب و مختلف صنوف الخلق و الإبداع وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تعاقبهما و مجي ء أحدهما خلف الآخر بكل إتقان و انتظام لَآياتٍ دلالات و براهين على وجود اللّه سبحانه و صفاته لِأُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول فإن كل من نظر إلى الأثر لا بد أن يعقل وجود المؤثر و كلما كان الأثر أتقن

و أجمل دلّ على كمال علم المؤثر و قدرته و إرادته و غيرها من الصفات الجمالية.

[192] ثم بين صفات أولي الألباب بقوله سبحانه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ذكرا بالقلب، أي تذكرا له سبحانه قِياماً في حال القيام وَ قُعُوداً في حال القعود وَ عَلى جُنُوبِهِمْ في حال الاضطجاع، يعني أنهم دائما في التفكّر باللّه سبحانه و ذكره سواء كانوا قائمين أو قاعدين أو مضطجعين وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كيف خلقتا بهذا النحو المتقن المدهش، و كيف جريتا، و كيف كانتا، و كيف ستكونان، و في حال التفكر و الدهشة لسان حال هؤلاء يقول: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا الكون، و الخلق باطِلًا عبثا و لغوا، بلا غاية و مقصود سُبْحانَكَ أي أنت منزّه عن الباطل و اللغو، و هو مفعول لفعل مقدر، أي نسبحك سبحانك فَقِنا أي احفظنا من عَذابَ النَّارِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 434

[سورة آل عمران (3): الآيات 192 الى 194]

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

و لعل دخول الفاء في «فقنا» لبيان أنهم يطلبون جزاء تصديقهم و إيمانهم و تفكّرهم.

[193] و يقولون أيضا: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فضحته و أهلكته وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا بالكفر أو العصيان مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من عذاب اللّه سبحانه.

[194] رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم و كل من نادى الناس للإيمان بالله سبحانه، فإن أولي الألباب يعترفون لله سبحانه بأنهم استجابوا لمنادي الإيمان و لم يلووا عن نداء الحق فقد سمعوا المنادي ينادي: أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ و لا تكفروا و لا تشركوا فَآمَنَّا بك يا سيدنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا التي صدرت منا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا و ربما يقال بأن الفرق أن الذنوب هي الكبائر لأنها ذات أذناب و تبعات، و السيئات هي الصغائر لأنها تسي ء إلى الإنسان و إن لم تكن ذات تبعة لأنها مكفّرة لمن اجتنب عن الكبائر، و هناك في الفرق أقوال أخرى، و لعل التكرار للتأكيد إظهارا لكمال الخوف من الذنوب وَ تَوَفَّنا أي اقبضنا إليك عند موتنا مَعَ الْأَبْرارِ في جملتهم، و الأبرار جمع «برّ» و هو الذي يبرّ اللّه بطاعته إياه.

[195] رَبَّنا وَ آتِنا أي أعطنا ما وَعَدْتَنا من الخير و السعادة في الدنيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 435

[سورة آل عمران (3): آية 195]

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

عَلى لسان رُسُلِكَ و أنبيائك وَ لا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ على رؤوس الأشهاد إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعدته للمؤمنين بسعادة الدنيا و خير الآخرة.

[196] فَاسْتَجابَ لَهُمْ أي لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا بالأدعية السابقة رَبُّهُمْ أي لبّى دعوتهم و قبل كلامهم، قائلا: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فكل مؤمن

محفوظ عمله ليعطي جزاءه بَعْضُكُمْ أيها المؤمنون مِنْ بَعْضٍ فكلكم من جنس واحد في نصرة بعضكم و لستم كالكافرين الذين ليس بعضهم من بعض بل بعضهم يباين بعضا فلكل فئة منهم لون و صبغة فَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أخرجهم المشركون من مكة. و الآية عامة لكل مهاجر عن دياره، و مخرج من بلاده وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي لأنهم آمنوا و أطاعوا وَ قاتَلُوا لأجل اللّه سبحانه وَ قُتِلُوا قتلهم الكفار لَأُكَفِّرَنَ أي أمحونّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ فلا آخذهم بها وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت نخيلها و قصورها- كما تقدم- ثَواباً أي جزاء لهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على أعمالهم و مشاقهم في سبيله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 436

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أي الجزاء الحسن، و ليس كغيره ممن لا يقدر و لا يملك الثواب الحسن.

[197] و هنا يتأمل الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة و الراحة و السياحة و الأسفار و الثمار، و المسلمون مضطهدين يخرجون من بلادهم و يؤذون، مع أن اللّه سبحانه ناصرهم و ظهيرهم؟ و يأتي الجواب: لا يَغُرَّنَّكَ و أصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه، فالمعنى لا يوهمنك يا رسول اللّه أن الكفار في سرور تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فإن تقلبهم لا يعود إليهم بنفع.

[198] فإن ذلك مَتاعٌ قَلِيلٌ أي يتمتعون بذلك في

زمان قليل ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي ساء ذلك المستقر لهم.

[199] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن آمنوا و أطاعوا فإنهم و إن كانوا في أذية و ضغط فعلا لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجارية خالِدِينَ فِيها أبدا لا متاع قليل كمتاع الكفار في الدنيا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل ما يعدّ للضيف من الكرامة و البرّ و الطعام و الشراب وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب و الكرامة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من تقلب الكفار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 437

[سورة آل عمران (3): الآيات 199 الى 200]

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

[200] ثم يرجع السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدّم أنهم يكفرون و يمكرون وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يصدّق بوحدانيته و يعترف بما يعترف به المؤمنون وَ ب ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن الحكيم وَ ب ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ بخلاف سائر أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بما أنزل إليهم إذ أنهم يحلّون و يحرمون و يخالفون كتابهم في أحكامه، في حال كونهم خاشِعِينَ خاضعين لِلَّهِ سبحانه فيما أمر و نهى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بمقابل آيات اللّه و دلائله و براهينه ثَمَناً قَلِيلًا كما كان يفعل ذلك رؤسائهم الذين كانوا يرتشون و يخفون الكتاب لئلا تزول رئاستهم أُولئِكَ الذين لهم هذه الصفات الخيرة من أهل الكتاب لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يجازيهم بما فعلوا من الخيرات

و آمنوا و صدقوا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فليس أجرهم بعيدا عنهم فإن أمد الدنيا و لو طال قليل كما قال الشاعر:

ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيا و هو في الصبح يرحل

[201] و أخيرا يتوجه الخطاب للمؤمنين و تنتهي السورة بهذه العظة البليغة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على الإيمان و المكاره وَ صابِرُوا أي غالبوا في الصبر، و لعل المراد مصابرة الأعداء فكلما صبر الكفار زاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 438

المؤمنون صبرا على صبر أولئك حتى يغلبوا و يأخذوا المعركة وَ رابِطُوا و هو المرابطة في ثغور المسلمين للتطلّع على أحوال الكفار وَ اتَّقُوا اللَّهَ في أعمالكم فلا تأتوا بالمعاصي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا و تنجحوا في الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 439

4 سورة النساء مدنية/ آياتها (177)

نزلت كلها في المدينة على المشهور و سميت بهذا الاسم، لأنها بينت كثيرا من حقوق النساء في الشريعة الإسلامية.

[سورة النساء (4): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقدم تفسيرها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 440

[سورة النساء (4): آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)

[2] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ بإطاعة أوامره و نواهيه، و هذه الفاتحة تلائم خاتمة سورة آل عمران حيث قال سبحانه: «وَ اتَّقُوا اللَّهَ» الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي نفس آدم أبي البشر عليه السّلام وَ خَلَقَ مِنْها أي

من تلك النفس، إما بالخلق من فضلة طينته، أو المراد من جنس تلك النفس زَوْجَها و هي حواء عليها السّلام، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى، و لا يخفى أن ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل و قابيل حتى نشأ منهما أبناء عمّ- كما عن الأئمة عليهم السّلام- إذ الكلام في ابتداء الخلقة وَ بَثَ أي نشر و فرق مِنْهُما أي من هاتين النفسين رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً و هذا أيضا لا ينافي إذ أصل البث منهما، و لعل عدم ذكر لفظة «كثير» هنا لمعلومية ذلك، أو للتفنن في العبارة و الذي هو من أساليب البلاغة وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي يسأل بعضكم بعضا بسببه فتقولون: أسألك بالله إلّا ما فعلت كذا، و صنعت كذا وَ الْأَرْحامَ أي اتقوا الأرحام، و تقوى اللّه عدم مخالفته، و تقوى الأرحام عدم قطعها، و هذا مناسب لما سبق من خلقهم جميعا من نفس واحدة، فهم متشابكون من أسرة واحدة، فلا ينبغي لبعضكم أن يقطع بعضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يرقب أعمالكم و أقوالكم و نياتكم، فلا تفعلوا ما يوجب سخطه و عذابه و عقابه.

[3] وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أي أعطوا اليتامى الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم و ورثوا منهم أموالهم التي بأيديكم أيها الأوصياء، أو كل من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 441

[سورة النساء (4): آية 3]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)

كان مالهم بيده، و المراد عدم أكل أموالهم، و «الإتيان» في حال صغرهم الصرف عليهم،

و في حال كبرهم إعطاؤهم إياها وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تعطوهم الردي ء في مقابل الجيد كأن تأخذوا أراضيهم الجيدة و تعطوهم أراضي رديئة و هكذا وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي بضمها إلى أموالكم بأن تخلطوا بعضها مع بعض و تأكلوها جميعا إِنَّهُ أي أن كل واحد من التبديل و الأكل كانَ حُوباً أي إثما كَبِيراً.

[4] و قد كانت تحت وصاية الرجل يتيمة فيأخذها طمعا في مالها، فنهى اللّه عن ذلك بقوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي لا تعدلوا فِي الْيَتامى أي لا تعملوا بالعدل في زواجهن فتظلموهن- بإبقائها معلقة- تريدون بذلك أكل أموالهم بحجة الزواج فَانْكِحُوا غيرهن من ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فإن اليتيمة لعدم كفيل لها معرضة للظلم و الحيف أما غيرها فليست كذلك، ثم بمناسبته حكم النكاح يمتد الكلام إلى موضوع تعدد الزوجات مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أي انكحوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، و المراد تزويج نوع الرجل هكذا لا تزويج كل فرد لذلك العدد، إذ لا يجوز تزويج ثلاثة و ثلاثة- مثلا- في وقت واحد، و ذلك مثل: باع القوم أمتعتهم لأهل البلد، يراد أن ذلك وقع في الجملة لا أن كل فرد فعل ذلك سواء في طرف البيع أو الشراء.

و لا يخفى أن خوف عدم القسط لا يوجب حرمة النكاح وضعا بمعنى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 442

[سورة النساء (4): آية 4]

وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

بطلانه إذا نكح بل النهي عنه تكليفا، و هل هو حرام أو إرشاد احتمالان، كما لا يخفى أن جواز النكاح مثنى و

ثلاث و رباع لمن أمن من نفسه و أنه يتمكن من أن يعدل فيما فرض اللّه لهن من الحقوق فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بينهن في ما فرض اللّه تعالى فَواحِدَةً و هذا من باب المثال و إلا فمن علم أنه يتمكن أن يعدل بين اثنتين فله أن ينكح اثنتين لا أزيد و هكذا بالنسبة إلى الثلاث.

و هذه الآية لا تنافي قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ «1» إذ المراد بها العدل في كل شي ء حتى الميل القلبي أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي اقتصروا على الإماء فإنهن لا يحتجن إلى القسم و نحوه من الحقوق الواجبة على الرجال في مقابل الحرائر، و الملك نسب إلى اليمين لأن اليد هي الغالبة في العمل، و اليمنى من اليدين أكثر عملا من اليسرى ذلِكَ الزواج من الواحدة أو الاقتصار على ما ملكت اليمين أَدْنى أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي لا تميلوا عن الحق و لا تجوروا.

[5] وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ أي مهورهن نِحْلَةً أي عطية فإن اللّه سبحانه أعطاها إياهن في مقابل الاستمتاع بهن لا على نحو الابتياع و نحوه و لعل في كلمة «نحلة» إشارة إلى تقدير المرأة و رفعها عن مستوى المعاملة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ أيها الأزواج

______________________________

(1) النساء: 130.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 443

[سورة النساء (4): الآيات 5 الى 6]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ أي من المهر نَفْساً تمييز ل «طبن» أي أعطين عن طيب نفس لا بالجبر و الإكراه فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً الهني ء الطيب المستساغ، و المري ء المحمود العاقبة.

[6] و لما تقدم الأمر بدفع أموال الأيتام، عقب ذلك بعدم الدفع إلى السفيه وَ لا تُؤْتُوا أي لا تعطوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ و إنما أضاف المال إليهم لأن المال إنما هو للمجتمع بصورة عامة فإذا دفع إلى السفيه أتلفه و كان نقصا بالنتيجة لمال المجتمع. و ليس المراد بكون المال للمجتمع عدم الملكية الفردية بل المراد أن هذا المجموع من الأموال لانتفاع المجموع فإذا تلف منه شي ء كان نقصا على المجموع الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً فإن بالمال يقوم أمر البشر إذ لو لا المال لم تستقم أمور الناس و معايشهم و المعاملة بينهم وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها أي في تلك الأموال، و لعل عدم ذكر «منها» بدل «فيها» مع أنه الأنسب، لإفادة لزوم أن لا يقتطع من المال قطعة ثم قطعة حتى تفنى بل يكون الرزق في المال بأن يبقى المال على أصله، و ذلك لا يكون إلا بتدبيره باتجار و نحوه حتى لا ينقص منه وَ اكْسُوهُمْ و ذكر هذين من باب المثال و إلا فاللازم القيام بجميع نفقاتهم وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً بأن تتلطفوا لهم في القول، و ذلك لأن اليتيم و السفيه معرضان للمخاشنة و النهر.

[7] وَ ابْتَلُوا أي امتحنوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي السنّ الذي يتمكنون من النكاح و المواقعة فيه و هو سن البلوغ الشرعي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 444

فَإِنْ آنَسْتُمْ أي وجدتم مِنْهُمْ رُشْداً و الرشد

عبارة عن تمكّن الشخص من إصلاح أمواله بلا سرف و لا تبذير و لا سفه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ المودعة عندكم وَ لا تَأْكُلُوها أي لا تأكلوا أموال اليتامى إِسْرافاً أي زيادة على قدر أجرتكم في حفظها فإن الإسراف التعدي عن الحد وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي لا تأكلوا أموالهم سريعا من جهة خوف أن يكبروا فيأخذوها منكم فقد كان بعض الأولياء يتلف مال اليتيم قبل أن يكبر حتى إذا كبر قال له: أنفقته عليك وَ مَنْ كانَ من الأولياء غَنِيًّا يجد مؤونة سنة كاملة فَلْيَسْتَعْفِفْ يقال: استعفف من الشي ء إذا امتنع منه، و المعنى: أن الولي الغني لا يأخذ شيئا لنفسه من مال اليتيم بعنوان الأجرة و العوض وَ مَنْ كانَ من الأولياء فَقِيراً لا يملك مؤونته لا قوة و لا فعلا فله الحق في أن يأكل من مال اليتيم بِالْمَعْرُوفِ الذي هو قدر أجرته على حفظ أمواله لا أزيد من ذلك فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء إِلَيْهِمْ أي إلى الأيتام الذين بلغوا و رشدوا أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ حتى لا ينكروا في المستقبل فإن الشهود حينئذ يكونون في جانبكم لدى الإنكار وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسبا و شاهدا، فارقبوه في أعمالكم، فإنه يعلم ما تفعلونه بأموال الأيتام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 445

[سورة النساء (4): الآيات 7 الى 9]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً

سَدِيداً (9)

[8] و قد كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، فكان الولي يدفع المال كله إلى أولاد الميت دون بناته فنهى اللّه عن ذلك بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي أقرباء الرجال، فلا يعطى الرجل أكثر من حظه و نصيبه وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ فلا تحرم من نصيبها كما لا تعطى أكثر من حصتها مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي مما ترك أَوْ كَثُرَ فالمهم أن يعطى كل واحد نصيبه على أن لا يكون ما يعطى كثيرا أو قليلا نَصِيباً مَفْرُوضاً فرضه اللّه سبحانه و أوجبه فلا يزاد عليه و لا ينقص منه.

[9] وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي شهد وقت قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى أقرباء الميت الذين لا يرثون وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ من غير أقربائه فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال الموروث وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا غير خشن حتى يطيب خاطرهم و يجبر كسر عدم إرثهم و كسر يتمهم و مسكنتهم.

[10] ثم بيّن سبحانه أن من يأكل مال اليتيم أو يظلمه لا بد و أن يفعل ذلك بذريته اليتامى من بعده وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 446

[سورة النساء (4): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

أي يجب أن يخاف ولي اليتيم من أكل ماله فإن الولي لو خلف يتيما من بعده كيف يخاف أولياء يتيمه أن يأكلوا أمواله كذلك فليجتنب هو عن ذلك، و الحاصل أن من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحب أن يفعل بذريته. و لا يرد على هذا المعنى أنه

كيف يزر وازرة وزر أخرى، إذ الجواب أن معنى ذلك أن اللّه سبحانه لا يرعى يتيمه حتى لا يقع في مخالب أولياء ظلمة، بل يتركهم يفعلون به ما فعل أبوه بأيتام الناس، و هكذا يفسّر ما ورد من عقوبة الأبناء بفعل الآباء، و «ضعاف» جمع ضعيف فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر الأيتام فلا يأكلوا أموالهم و لا يؤذوهم وَ لْيَقُولُوا للأيتام قَوْلًا سَدِيداً صحيحا موافقا للعدل و الشرع، فلا ينهروا الأيتام و لا يخشنوا معهم في الكلام كما جرت عادة كثير من الأولياء.

[11] ثم هددهم سبحانه بعذاب الآخرة بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بلا مبرّر و استحقاق و القيد توضيحي، لإفادة أن أكل أموالهم ظلم و جور إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي يملئون بطونهم ناراً فإن مال اليتيم ينقلب نارا وَ سَيَصْلَوْنَ يقال: صلي الأمر إذا قاسى شدته و حرّه سَعِيراً أي نارا مسعّرة مؤجّجة، و الأكل في الآية كناية عن التصرف في المال و لو كان مثل الدار و اللباس فإن الأكل يستعمل بهذا المعنى كثيرا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 447

[سورة النساء (4): آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

[12] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ و الوصية منه سبحانه فرض، كما قال سبحانه:

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ «1» و معنى «في أولادكم» أي في ميراث أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فإن الابن يرث ضعف البنت و قد كان هذا التقدير دقيقا جدا حيث أن كلفة الرجل أكثر من كلفة البنت لوجوب نفقة المرأة على الرجل غالبا و في كثير من الأحيان هو يقوم بالنفقة و إن لم تجب عليه فَإِنْ كُنَ المتروكات الوارثات للميت نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي اثنتين فما فوقها، فإن ذلك يعبر غالبا بمثل هذه العبارة، يقال: من له فوق العشرة يؤخذ منه و من له دونها لا يؤخذ منه، يراد العشرة فما فوقها فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فإذا كان للميت بنتان فما فوقهما و كان هناك وارث آخر في طبقتهن كالأم و الأب كان لهن الثلثان و البقية لسائر الورثة وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً أي أولاد الميت منحصرة في بنت واحدة فَلَهَا النِّصْفُ من التركة وَ لِأَبَوَيْهِ أي الأب و الأم للميت اللذين اجتمعا مع الأولاد لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فنصيب كليهما الثلث مِمَّا تَرَكَ الميت إِنْ كانَ لَهُ أي للميت وَلَدٌ سواء كان الولد واحدا أو

______________________________

(1) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 448

متعددا، ذكرا أو أنثى، أو بالاختلاف. و أما تفصيل ميراثهم فموكول إلى كتب الفقه «1» فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي للميت وَلَدٌ لا صلبيا و لا حفيدا وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ الأب و الأم للميت فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ و الثلثان الباقيان للأب فَإِنْ كانَ لَهُ أي للميت الذي خلف الأبوين بدون الأولاد إِخْوَةٌ من الأبوين أو الأب، و المراد بالأخوة اثنين فما فوق، و الأختان تقومان مقام الأخ، فلو كان للميت أب و أم و

أخوان أو أخ و أختان أو أربع أخوات، فما فوق فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ و ذلك لأن الأخوة يمنعون الأم عن السدس و يوفرونه للأب فلا ترث الأم الثلث مع وجود الأخوة. و تقسيم التركة هكذا إنما هو مِنْ بَعْدِ إنفاذ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت أَوْ دَيْنٍ على الميت، فأولا يؤخذ الدين من التركة ثم تنفذ الوصية من التركة- إلى حد الثلث- ثم يقسم الباقي بين الورثة كما ذكر، فلو كان للميت عشرة دنانير، و كان عليه دين قدره أربعة دنانير، و وصّى بالإنفاق في الخيرات، مقدار ثلثه، كان للوارث مقدار أربعة دنانير فقط، لأن أربعة خرجت دينا، و دينارين ثلثا، فلم يبق إلا أربعة آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فلا تميلوا إلى توريث الآباء أكثر من الأبناء بظن أنهم أحق من جهة الأبوة و لا إلى العكس بظن أنهم أحق من جهة الضعف الفطري الموجود في الأبناء

______________________________

(1) موسوعة الفقه: ج 82 و 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 449

[سورة النساء (4): آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

فإنكم لا تعلمون أيهم أقرب نفعا، و

اللّه الذي هو يعلم الأشياء يقرر الحق كما تقدم فلا تخالفوا تحديده في أنصبة الميراث جريا وراء العاطفة و الأوهام، فإنكم لا تعلمون أنكم بأيهما أسعد في الدنيا و الآخرة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض اللّه هذه الأنصبة فريضة واجبة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فهو عالم بالمصالح حكيم فيما يفعل و يقرر.

[13] وَ لَكُمْ أيها الأزواج نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أي زوجاتكم، فإن ماتت زوجة أحدكم فللزوج النصف إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ أي للزوجات وَلَدٌ سواء كان من هذا الزوج أو من غيره فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ واحد أو متعدد فَلَكُمُ أيها الأزواج الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من ميراثهن مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ فأولا يخرج الدين ثم تخرج الوصية إلى حد الثلث ثم تقسّم التركة فللزوج الربع و البقية للأولاد وَ لَهُنَ أي للزوجة التي بقيت بعد وفاة زوجها الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أيها الأزواج وَلَدٌ و قد دلت الشريعة أن الزوجة لا ترث من الأرض فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ واحد أو متعدد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 499

ذكر أو أنثى، من تلك الزوجة الباقية أو من غيرها فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أيها الأزواج أَوْ دَيْنٍ و لعل تقديم الوصية في الآيات- مع أن الدين مقدم في الإخراج- أن الغالب وجود الوصية بخلاف الدين. وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة هم: الأخوة سواء كانوا من الأب أو الأبوين أو الأم، و المعنى أنه إن كان الوارث كلالة بأن لم تكن المرتبة الأولى موجودة، فإن الأبوين و الأولاد في المرتبة الأولى، و الأخوة

و الأجداد في المرتبة الثانية، و الأعمام و الأخوال و العمات و الخالات في المرتبة الثالثة، و الزوجان يرثان مع كل مرتبة. و «كلالة» في الإعراب منصوب على الحالية، فالمعنى إن وجد رجل يرثه قريب له في حال كون ذلك القريب كلالة له أَوْ إن كان امْرَأَةٌ تورث كلالة، أي وجدت امرأة يرثها قريب لها في حال كون ذلك القريب كلالة لها، و الحاصل أنه لو مات رجل أو امرأة وَ لَهُ أي لكل واحد من الرجل و المرأة الذين ماتا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ و المراد هنا كلالة الأمّي خاصة بأن كان الوارث شريكا مع الميت في الأم فقط، بأن بقي أخوه أو أخته الأميان فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من تركة الميت فَإِنْ كانُوا أي كانت الكلالة أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ الواحد، بأن كانت الكلالة اثنين فصاعدا فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يقسمونه بينهم بالسوية فإن الكلالة الأمي يرثون متساوين،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 451

[سورة النساء (4): آية 13]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

للذكر مثل حظ الأنثى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها من قبل الميت أَوْ دَيْنٍ فإن الدين و الوصية يخرجان من المال ثم يعطى للواحد من الكلالة السدس و للاثنين فصاعدا الثلث غَيْرَ مُضَارٍّ أي لا يضار الكلالة بأن يحرموه من الثلث، أو يكون المعنى: إنما تنفذ الوصية إذا كان الموصي غير مضار بأن لم يوصي بأكثر من الثلث و إلا لم تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي هذه الأنصبة يوصيكم اللّه بها وصية وَ اللَّهُ عَلِيمٌ فيقدر الأنصبة حسب ما يعلم من المصالح

حَلِيمٌ لا يعاجل العصاة بالعقوبة فمن خالفه في الإرث و لم ير عقوبة عاجلة فذلك لحلمه سبحانه فلا يغرّه ذلك.

[14] تِلْكَ التي بيّنت في أمر الإرث حُدُودُ اللَّهِ أي الحدود التي جعلها اللّه سبحانه لمقادير الإرث فلا يجوز التجاوز عنها وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بتطبيق أوامرهما و الاجتناب عن مخالفتهما يُدْخِلْهُ اللّه سبحانه جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت قصورها و أشجارها خالِدِينَ فِيها فلا زوال لهم عنها بالموت أو الإخراج أو ما أشبه وَ ذلِكَ أي نيل الجنة و الخلود فيها الْفَوْزُ و الفلاح الْعَظِيمُ الذي لا يماثله شي ء فلا يحسب أحد أن الفوز ببعض التركة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 452

[سورة النساء (4): الآيات 14 الى 15]

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)

ظلما شي ء يعتدّ به فإنه لا فوز كفوز الجنة الدائمة.

[15] وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بمخالفة أوامرهما و ارتكاب نواهيهما وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ فيتجاوز ما حدّ له من الطاعات يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها أي دائما. و من المعلوم أن ذلك لمن خالف جميع الأوامر لا بعضها التي دل الدليل على عدم خلوده، و لعل عموم «حدوده» حيث أنه جمع مضاف، يدل على ذلك وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ فيهان في العذاب حتى يجتمع عليه عذاب الروح و عذاب الجسد.

[16] و حيث بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب النكاح و الميراث بيّن حكم الحدود فيهن إذا ارتكبن الحرام فقال سبحانه: وَ

اللَّاتِي جمع «التي» أي النساء اللاتي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي الزنا، و إنما سميت بالفاحشة لأنه أمر يفحش و يتجاوز الحد مِنْ نِسائِكُمْ سواء كنّ ذوات أزواج أو لا فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي اطلبوا شهادة أربعة رجال رأوا الزنا كالميل في المكحلة فَإِنْ شَهِدُوا أربعة عدول على ذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فاحبسوهن فيها. و قد كان ذلك حكم الإسلام بالنسبة إلى الزانية ابتداء حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 453

[سورة النساء (4): الآيات 16 الى 17]

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)

أي حتى تموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي يجعل لهن أمرا آخر غير الحبس. و قد نزلت آية الحدود و هي قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» فارتفع حكم الحبس في البيت. و ما ورد في الأخبار من أن آية الحد ناسخة لآية الحبس، يراد به أن حكم الحبس ارتفع لانقضاء أمده، لأنه كان مؤقتا بجعل السبيل.

[17] وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ لعل المراد ب «اللذان» اللائط و الملوط به فالضمير يرجع إلى الفاحشة لا بمعناها الأول بل بالمعنى المنطبق، أما تفسيره بالزانيين- فإن لم يرد بذلك حديث عن المعصوم عليه السّلام- فبعيد.

فَآذُوهُما الأذية أعم من الحد فلا حاجة إلى القول بنسخ الحكم- إن لم يرد بذلك حديث معتبر- فَإِنْ تابا من فعلهما وَ أَصْلَحا و المراد بالإصلاح الإتيان بالأعمال الصالحة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما و لا تتعرضوا لهما بسوء إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً

رَحِيماً.

[18] ثم بيّن سبحانه ممن تقبل التوبة و ممن لا تقبل؟ لمناسبة قوله: «فإن تابا» فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي أن قبول التوبة حق عليه سبحانه- جعله على نفسه- أو المراد توبة اللّه أي رجوعه عن المعاصي، فإن كلّا من اللّه و العبد توّاب بمعنى راجع إلى الآخر، فإن رجوع العبد بمعنى إقلاعه عن الذنب و رجوع اللّه بمعنى لطفه و إحسانه

______________________________

(1) النور: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 454

[سورة النساء (4): آية 18]

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

و إعادة نظره إلى العبد لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ العمل المحرّم بِجَهالَةٍ الظاهر أنه ليس المراد بالجهالة الجهل مقابل العلم، بل المراد مطلق العصيان، فإنها و إن صدرت عن عمد، لكن حيث أنها يدعو إليها الجهل بما يترتب عليه الذنب، يصح أن يقال: أنها عن جهل، و ليس القيد احترازيا حتى يقال: فما هو السوء بغير جهالة؟ بل فائدته أن السوء لا يصدر إلا عن جهل ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قبل أن يروا علائم الموت فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يرجع عليهم بمحو ذنوبهم و إعادة لطفه عليهم وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بمصالح العباد فيحكم بمقتضى علمه حَكِيماً يضع الأشياء في مواضعها حسب ما تقتضيه الحكمة.

[19] وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ المقبولة النافعة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ المعاصي، و إنما سميت سيئة لأنها تسي ء إلى صاحبها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن رأى آثاره من مشاهدة ملك الموت و نحوه قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فإنها توبة المضطر الذي يريد الخلاص من العقاب لا توبة النادم المطيع، كما قال

سبحانه في قصة فرعون:

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ «1»

______________________________

(1) يونس: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 455

[سورة النساء (4): آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ فقد انقطعت الحياة التي هي محل العمل و جاءت دار الحساب التي فيها حساب و لا عمل أُولئِكَ الطائفتان أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي هيّأنا لهم عذابا يؤلمهم بسبب ما فعلوا من المعصية، و لا يخفى أنه بالنسبة إلى من عمل السيئات حتى جاءه الموت لا يكون العصيان سببا موجبا للعقاب، فإن ذلك معلق بعدم الشفاعة و العفو.

[20] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من الأحكام المرتبطة بالعائلة، و هو حكم المهر، فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا و الحكم و إن كان عاما للمؤمن و غير المؤمن لكن الإصغاء حيث كان خاصا بالمؤمنين توجه الخطاب إليهم لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فقد كان أهل الجاهلية إذا مات بعض ذويهم حبسوا زوجته حتى تموت عندهم و يرثونها أي يأخذون ميراثها و لم تكن المرأة تريد ذلك بل تريد الزواج من رجل آخر فيمنعونها عن ذلك وَ لا تَعْضُلُوهُنَ العضل: هو إمساك المرأة في البيت دون تزويج، فإنه لغة بمعنى المنع لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ فقد كان أهل الجاهلية إذا لم يرغبوا في زوجاتهم لم يطلقوهن و تركوهن و منعوهن عن الزواج حتى تفتدي ببعض مهرها أو سائر أموالها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي

بمعصية ظاهرة من زنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 456

[سورة النساء (4): آية 20]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20)

أو غيره فإنه يحق حينئذ لكم أن تضيقوا عليهن حتى يفتدين ببعض ما آتيتموهن وَ عاشِرُوهُنَ أي عاشروا النساء- مطلقا- بِالْمَعْرُوفِ الذي يعرفه أهل العقل و الدين فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ فلا تعجلوا بالطلاق فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً من ائتلاف و حب في المستقبل، أو أولاد صالحين، أو نحو ذلك. فإنه كثيرا ما تقع نفرة بين الزوجين و تنتهي بوئام و سلام و وداد و حب و ألفة.

[21] وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ بأن أردتم طلاق امرأة و أخذ امرأة أخرى مكانها وَ آتَيْتُمْ أي أعطيتم من باب المهر إِحْداهُنَ و هي المرأة السابقة قِنْطاراً مل ء جلد ثور ذهبا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من ذلك المعطى لها مهرا، فقد كان الرجل في الجاهلية إذا أراد طلاق امرأة و أخذ أخرى مكانها ضيّق على زوجته الأولى أو بهتها بفاحشة حتى يجبرها أن تفتدي نفسها فيجعل فداءها مهرا للزوجة الثانية أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً هو مصدر في مكان الحال، و هذا استفهام استنكاري، أي هل تأخذون بعض مالها بالبهتان؟! وَ إِثْماً مُبِيناً أي بالإثم الواضح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 457

[سورة النساء (4): الآيات 21 الى 23]

وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ

وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)

[22] وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ تعجّب من أخذ بعض مهر المرأة بهذا النحو المشين وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ هو كناية عن الجماع، أي و الحال أنكم اقتربتم منهن فذهب المهر لما حصلتم عليه من البضع، و الإفضاء هو الوصول إلى شي ء بالملامسة وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً و الميثاق هو العهد الذي أخذته الزوجة من الزوج بالعقد لأن العقد معناه مقابلة المهر بما تستحل من نفسها له، و قد كان لازم العقد الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان.

[23] وَ لا تَنْكِحُوا أيها المؤمنون ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ فقد كان أهل الجاهلية ينكحون زوجات آبائهم بعد وفاتهم، فنهى اللّه سبحانه عن ذلك سواء دخل الأب بها أم لا إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قبل إسلامكم فلا تؤاخذون بذلك الذنب، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، يعني أن ذنب أخذكم نساء آبائكم قبل الإسلام معفوّ عنه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي زنا فإن زوجة الأب من محارم الابن فمقاربتها زنا وَ مَقْتاً أي موجبا لمقت اللّه و غضبه وَ ساءَ سَبِيلًا فإنه سبيل الكفار و العصاة.

[24] ثم ذكر سبحانه سائر أصناف المحرمات من النساء، و من المعلوم أن التحريم يقوم بالطرفين فكما تحرم المرأة على الرجل كذلك يحرم الرجل على المرأة، و قد كانت هذه المحرمات، محللات عند

بعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 458

الناس كالمجوس، و لذا صرح القرآن الكريم بتحريمها، فقال:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ و هي كل امرأة يرجع نسبك إليها بالولادة كالأم و الجدة من الطرفين وَ بَناتُكُمْ و هي كل امرأة يرجع نسبها إليك بالولادة بنتا أو بنت أولادك الذكور أو الإناث وَ أَخَواتُكُمْ و هن اللاتي جمعك و إياهن رحم أمّ أو صلب ذكر وَ عَمَّاتُكُمْ و هن أخوات لذكر يرجع نسبك إليه من طرف الأب، كأخت الأب و أخت الجد الأبي، أو من طرف الأم كعمة الأم التي هي أخت لأب الأم وَ خالاتُكُمْ و هنّ اللاتي يكن أخوات لأنثى يرجع نسبك إليها من طرف الأم كأخت الأم و أخت الجدة الأمية، أو من طرف الأب كأخت أم الأب التي هي خالة أبيك وَ بَناتُ الْأَخِ بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخ وَ بَناتُ الْأُخْتِ بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخت. و هذه السبعة هي أصناف المحرمات بالنسب.

ثم بين سبحانه المحرمات بالسبب فقال: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بلا واسطة كأمك بالرضاع، أو مع الواسطة كالأم بالرضاع للأب، و الأم بالرضاع للأم و هكذا وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ و لم يذكر الأصناف الأخرى من المحرمات بالرضاع كالعمة و الخالة، إما لفهم ذلك من السياق أو لدخولهن في «أخواتكم» فإن العمة أخت الأب و الخالة أخت الأم، و إذا تحققت حرمة الأخت تحققت حرمة بنت الأخ و بنت الأخت.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 459

وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أم الزوجة مباشرة كانت أو لا، كأم أب الزوجة، و أم أم الزوجة، و حيث أطلق سبحانه، تبيّن أنه بمجرد العقد على المرأة تحرم أمها سواء دخل بالزوجة أو لا

وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الربائب: جمع «ربيبة» و هي بنت زوجة الرجل من غيره سواء كانت قبل هذا الزوج أم بعد هذا الزوج، و قيد «اللاتي» للغلبة فإن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة لها بنت رباها في حجره، و الحجور جمع حجر. ثم إنه لا فرق في الربيبة بين أن تكون بلا واسطة كبنت الزوجة، أم مع الواسطة كبنت الربيبة، أو بنت ابنها، أو أخت بنتها مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ أي حصل منكم جماع لهن، فإن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على أمها، و إنما تحرم لو دخل بأمها، فلو تزوج بامرأة و لم يدخل بها، ثم فارقها بطلاق أو فسخ أو انقضاء مدة في العدة أو نحو ذلك، حل له أن يأخذ ربيبتها. و هذا هو الفارق بين «أم المرأة» و بين «بنت المرأة» فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح بناتهن، بعد خروج الأمهات عن حبالتكم وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ حلائل: جمع حليلة، و هي الزوجة، أي زوجات أبنائكم، سواء كان الابن بلا واسطة، أو مع الواسطة كابن الابن، و ابن البنت الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ و ذلك مقابل «الدعي» و هو من يتبناه الإنسان،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 460

فإنه لا يحرم على الأب المتبني زوجة الابن الذي تبناه، لقوله سبحانه:

وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ «1» أما الابن الرضاعي فإنه بمنزلة الابن النسبي

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «الرضاع لحمة كلحمة النسب»

«2».

وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي يحرم الجمع بين الأختين بأن تكونا في حبالته معا، و يجوز أخذ واحدة ثم إخراجها عن حبالته و نكاح الأخرى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فإن أعمالكم في

الجاهلية بالنسبة إلى نكاح المحرمات غير مؤاخذين عليها في الإسلام، لأن الإسلام يجبّ ما قبله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يغفر ذنوبكم السابقة رَحِيماً يرحم بكم فلا يجازيكم بسيئاتكم.

______________________________

(1) الأحزاب: 5.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: ص 301.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 461

تقريب القران الى الأذهان الجزء الخامس سورة النساء من آية (25) الى (148)

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 462

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 463

[سورة النساء (4): آية 24]

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

[25] وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي النساء اللاتي أحصنّ بالأزواج، أي حرمت عليكم النساء ذوات الأزواج، يقال: أحصن الرجل زوجته، أي حفظها من الفجور إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هن الإماء ذوات الأزواج التي يسبيهن المسلمون، فإن السبي يقطع عصمتهن بأزواجهن الكفار و يحل للمسلم إيقاعهن كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب اللّه- تحريم النساء المذكورات- عليكم كتابا، فهو منصوب على المصدر بفعل محذوف وَ أُحِلَّ لَكُمْ أيها المؤمنون ما وَراءَ ذلِكُمْ المذكور فإن كل امرأة لا يقع عليها أحد العناوين المذكورة سابقا قريبة كانت أو لا، فهي محللة على الشخص أن يتزوجها أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أي تطلبوا بأموالكم- التي تجعلونها مهرا لهن- نكاحهن في حال كونهم مُحْصِنِينَ أي تحصنون إياهن بالزواج غَيْرَ مُسافِحِينَ السفاح هو الزنا، بأن لا تبتغوا

بالأموال السفاح كما يفعله الزانون حيث يسافحون بالنساء في مقابل المال، ففي ما وراء ذلك التحريم المتقدم حلال أن تبتغوا النساء بالمال لكن من طريق الزواج لا عن طريق السفاح فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ «ما» موصولة يراد بها المرأة، و الضمير في «به» عائد إلى «ما» أي النساء اللاتي استمتعتم بهن مِنْهُنَ أي من النساء، و هذا بيان «ما» و المراد الاستمتاع طلب المتعة أي اللذة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: فالنساء اللاتي استمتعتم بهن من طريق الإحصان و الزواج يجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 464

عليكم إعطاؤهن أجورهن. و هذه الآية وردت في نكاح المتعة، و المعبّر عنه بالنكاح المنقطع، كما ورد بذلك الروايات «1»، و الفرق بينه و بين الدائم أنه محدّد بمدة طالت أو قصرت، فإذا انتهى أمده انفسخ من نفسه، بخلاف الدائم الذي يحتاج فسخه إلى الطلاق أو نحوه، و يؤيد كون الآية في النكاح المنقطع لا الدائم، ذكر كلمة الاستمتاع التي هي ظاهرة في المتعة، و ذكر الأجور فإن المنصرف من الأجر ما يعطى لقاء الاستمتاع لا النكاح الدائم، و لا ينافي أن يكون السابق على هذه الجملة عاما يشمل الدائم و المنقطع، و هذه الجملة خاصة للمنقطع، فإنه كثيرا ما يذكر الخاص بعد العام، فالمنقطع مصداق من مصاديق «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» و في ذلك فائدة لطيفة، حيث تنبّه الآية على عدم الاحتياج إلى الزنا و الحال أن النكاح المنقطع بمكان من الإمكان فَرِيضَةً أي فرضت و وجبت الأجور فريضة فلا يجوز للرجل عدم إعطاء الأجور للمستمتع بها.

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها المستمتعون فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ أي في المقدار الذي تراضيتم به مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي المقدار السابق من المهر، فإذا تراضيتم

بزيادة المدة بعقد جديد أو إنقاصها بالهبة، بزيادة المهر أو نقصانه جاز لكما ذلك، و الحاصل أن ما تبانيا عليه سابقا فريضة، لا يجوز العدول عنها إلا برضا جديد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما شرع من الأحكام، التي منها المتعة التي تفيد

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 449 ج 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 465

[سورة النساء (4): آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

المسافرين و الغرباء و من لا يتمكن من الدائم، فإن ذلك وقاية للمجتمع من فتح أبواب الزنا و السفاح و اللواط و السحق و ما أشبه إذا ما سد باب المتعة.

[26] وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أيها المسلمون طَوْلًا أي من جهة الغنى و الثروة، بأن لم يكن له مال يكفيه أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ أي الحرائر الْمُؤْمِناتِ و إنما قيل لهن محصنات لإحصانهن أنفسهن عن البغاء كما قال سبحانه: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها «1» فالمرأة العفيفة «محصنة» بالكسر، و «محصنة» بالفتح، بالاعتبارين، و المعنى:

أن الرجل لو كان فقيرا لا يقدر على مهر الحرة و نفقتها فلينكح مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ينكح أمة ملكتها يمين أخيه المسلم مِنْ فَتَياتِكُمُ جمع فتاة و هي المرأة الشابة، و المراد بها هنا الأمة،

فقد ورد «أن الرسول نهى- تنزيها- أن يقول أحد: عبدي و

أمتي بل يقول: فتاي و فتاتي»

«2» جبرا لخاطرهما الْمُؤْمِناتِ فإن مهر الأمة أقل و تكاليفها أيسر وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فليس المراد التنقيب عن حقيقة إيمان الأمة المراد تزوّجها بل يكفي الظاهر، أما الإيمان الراسخ القلبي فليس إلى ذلك سبيل بل اللّه أعلم به.

______________________________

(1) التحريم: 13.

(2) كنز العمال: ج 3 ص 656.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 466

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فليس الرجل الحر بأعلى إيمانا من الأمة المؤمنة بل المؤمنون سواء كانوا أحرارا أو عبيدا أمّة واحدة بعضهم من بعض، من طبقة أعلى من طبقة الآخرين، و إنما شرعت أحكام العبيد و الإماء لمصالح خاصة، كما شرعت أحكام الرجال و النساء مختلفة لمصالح خاصة فَانْكِحُوهُنَ أي تزوجوا بالفتيات المؤمنات بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ أي سادتهن و مواليهن فإنه لا يجوز نكاحهن بدون رضى السادة وَ آتُوهُنَ أي أعطوا الفتيات المؤمنات أُجُورَهُنَ أي مهورهن، و إعطاء الفتيات لا يراد به إلا الدفع إلى تلك الجهة، و إن كان المولى يستحق المهر بِالْمَعْرُوفِ من دون عطل و إضرار، و ليكن نكاحكم إياهن بإذن أهلهن في حال كونهن مُحْصَناتٍ عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي غير زانيات، و إنما قيد بذلك لأن «النكاح» يطلق على الوطء، كما يطلق على العقد الشرعي، قال سبحانه: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ «1» أي لا يزني بها، و لا تزني به، و قد كان في الجاهلية من يجبر إمائه على الزنا، فكان نكاحا- أي جماعا- بأجر، بإذن الأهل كما قال سبحانه: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «2» و لعل ذلك لمقابلة قوله سبحانه بالنسبة إلى الحرائر: «محصنين غير مسافحين».

______________________________

(1) النور: 4.

(2) النور:

34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 467

وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أي لتكن الفتاة عفيفة غير متخذة لصديق، فإن الأخدان جمع خدن و هو الصديق، و الحاصل أن تكون الأمة التي تريدون الزواج بها غير زانية و لا صديقة لأحد، و قد كنّ بعض الإماء في الجاهلية كذلك، فنهى اللّه سبحانه عن التزوّج بهن فَإِذا أُحْصِنَ أي تزوجن فأحصنهن أزواجهن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي بالزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أي إن حدّهن نصف حدّ الحرة الزانية و هو خمسون جلدة، و قد كان من حكمة الإسلام أن جعل المحاربين مع المسلمين- إذا غلبوا عليهم- عبيدا و إماء، لا أن يقتل الجميع أو يسجنهم، ثم جعل العبودية تمشي في أعقابهم، حتى لا يجرأ أحد على محاربة المسلمين خوفا من ذلك، أو على الأقل يحدّ من نشاط الحروب، فأيّ إنسان يسوّغ العبودية؟ مع العلم أن كثيرا من الناس يستسيغون القتل و السجن. ثم بعد ذلك جعل للعبيد أحكاما خاصة تشديدا تارة و تخفيفا تارة أخرى ليقابل التخفيف التشديد، ثم ليكون لهم بصورة عامة ميزة خاصة يعرفون بها عن الأحرار، و تفصيل فلسفة الأمرين يطلب من الكتب الخاصة بهذا الشأن «1».

ذلِكَ النكاح للإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ العنت هو

______________________________

(1) في بعض الاعداد من نشرة «الأخلاق و الآداب» الكربلائية تفصيل للجهة الأولى اي فلسفة تشريع العبد و الإماء و انه بمعناه الاسلامي- لا الغربي السائد في الأذهان- لم يلغ و لا يلغى الى يوم القيامة، كسائر احكام الإسلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 468

[سورة النساء (4): الآيات 26 الى 27]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)

الجهد و الشدة، أي خاف أن يقع في جهد و شدة من جهة ترك الزواج، أو خاف الوقوع في الزنا لشدة رغبته الجنسية وَ أَنْ تَصْبِرُوا فلا تتزوجوا بالإماء خَيْرٌ لَكُمْ فإنه لو اعتاد نكاح الإماء بقيت الحرائر بلا أزواج لقلة الكلفة بالنسبة إلى الأمة، و كثرة الكلفة بالنسبة إلى الحرة، فيقبل الناس على تزوّجهن، و ليس أمر العبيد و الإماء و الفروع المتصلة به قصة تاريخية لظروف خاصة، كما يقوله بعض من بهرته الثقافة الغربية، و لو جاز ذلك في هذا الحكم لجاز في كل حكم إسلامي، و لم يبقى للإسلام اسم و لا رسم. وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوبكم رَحِيمٌ بكم فلا تيأسوا من رحمته لما اقترفتم من المحرمات المرتبطة بهذا الباب بعد عزمكم على التوبة منها.

[27] ثم بيّن سبحانه أن هذه المحرمات إنما حرمت لمصلحة البشر لا اعتباطا فقال: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أحكام دينكم و دنياكم وَ يَهْدِيَكُمْ يرشدكم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ السنن جمع سنة، و هي طريقة الأنبياء عليهم السّلام و المرسلين و عباد اللّه الصالحين وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي يرجع عليكم بلطفه و منّه حيث أنكم تعملون بطاعته- بعد ما كنتم في زمان الجاهلية تعملون بالمعاصي و الآثام- فبين لكم الأحكام لتعملوا بها فيتوب عليكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بمصالحكم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى.

[28] وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرّر لفائدة المقابلة بقوله سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 469

[سورة النساء (4): الآيات 28 الى 29]

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ

بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)

وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ في مواقعة كل امرأة من غير نظر إلى الحلّ و الحرمة و المصلحة و المفسدة أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً أي انحرافا، فإن اقتراف محرمات النكاح من أكبر الآثام.

و الآية و إن كانت عامة لكل باطل و لكل ميل إلا أن قرينة السياق تخصّصها بما ذكرنا.

[29] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في أمور دينكم و دنياكم و لذا أحلّ كل النساء إلا ما فيه مضرة، و يقبل توبتكم، و لو أراد التشديد لم يقبل توبتكم، و حرم عليكم أقساما أخرى من النساء كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» و فيه إفادة أن تحريم ما ذكر ليس تثقيلا و إنما هو تخفيف، فإن التخفيف قد يكون بالنسبة إلى الشي ء و قد يكون بالنسبة إلى نتائجه، و تحريم المحرمات المذكورة تخفيف بالنسبة إلى النتائج لما تشتمل عليه المحرمات من وخامة العاقبة في الدنيا و الآخرة التي منها ضعف النسل بالنسبة إلى نكاح المحرمات كما ثبت في الطب الحديث وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فهو لا يصبر على شهواته و يريد اقتراف آثام الزنا مما يضره في دنياه و آخرته [30] و لما بيّن سبحانه محرمات النساء مما يتعلق ب «الفرج»، بيّن محرمات

______________________________

(1) النساء: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 470

الأموال مما يتعلق ب «البطن»

فقد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن «من وقى شر لقلقه و قبقبه و ذبذبه فقد وقى الشر كله»

«1»، و المراد بلقلقه:

لسانه و قبقبه: بطنه، و ذبذبه: فرجه. فقال

تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تقدم أن الحكم و إن كان عاما للمؤمن و غيره إلا أن إصغاء المؤمن فقط أوجب توجيه الخطاب إليه فقط لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ و المراد بالأكل مطلق التصرف، و أتي بلفظ الأكل لشيوع هذا النوع من التصرف، فهو من استعمال الخاص و إرادة العام، و كلمة «بينكم» إنما أتي بها لإفادة أن الأكل بالباطل إنما يعود ضرره إليهم أجمع فليس الأكل لمال غيرهم، و إنما أكل لأموالهم فيما بينهم، و يعود ضرره إلى مجتمعهم، و الباطل هو خلاف الحق الذي لا يقرّه الشرع و العقل، أما أخذ الخمس و الزكاة و سائر الحقوق المالية و الواجبات فليس أكلا بالباطل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ الاستثناء منقطع لأنه ليس أكلا للمال بالباطل. و كثيرا ما يأتي مثل هذا الاستثناء في الكلام فيقال:

لا تجالس الأشرار إلا الأخيار، و لا تأكل المضر إلا المفيد، و قوله «عن تراض» يفيد عدم جواز أكل المال مقابل التجارة الجبرية بدون الرضا وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا فإن القتل مهما وقع على العدو فإنه واقع على الجنس البشري، و المناسبة بين القتل و أكل المال، أن اللّه سبحانه حرم انتهاك الأعراض، و أكل الأموال و إراقة الدماء،

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 63 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 471

[سورة النساء (4): الآيات 30 الى 31]

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

فحيث ذكر الأولين، أشار إلى الثالث إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً و من رحمته

بكم أن جعل أموالكم و أعراضكم و دماءكم محترمة لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها.

[31] وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل، أو أكل المال و القتل، أو انتهاك العرض و أكل المال و القتل، و السياق يؤيد المعنى الثالث، و إن كان قرب اللفظ يؤيد المعنى الأول عُدْواناً وَ ظُلْماً فإنه تعدّ للحدود و ظلم للنفس و للغير، و في ذلك إخراج للسهو و النسيان و الخطأ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ من أصلاه أي أدخله، ناراً في الآخرة وَ كانَ ذلِكَ الإدخال في النار لمن فعل ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيراً فلا يمنعه مانع و لا يسأل عما يفعل.

[32] إن الإنسان لا بد و أن تقع منه مخالفات، و حيث أن المخالفات مختلفة: من كبيرة، كقتل النفس، و صغيرة ككذبة عفوية و نحوها.

لذا يختم اللّه سبحانه تلك الآيات المحذرة عن المحرمات المذكورة بقوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ كانتهاك الأعراض و أكل أموال الناس بالباطل و إراقة دماء الأبرياء نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ و معنى التكفير: الستر و الغفران، أن نغفر سائر سيئاتكم، و لا نؤاخذكم بما لا بد و أن يقع في الحياة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 472

[سورة النساء (4): آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً أي مكانا حسنا طيبا يكرم صاحبه فيه، و «كريم» صفة الإنسان، يطلق على المحل بعلاقة الحال و المحل، و المراد ب «المدخل الكريم» الجنة.

[33] و حيث سبق الكلام حول أكل الأموال بالباطل، جرى السياق في موضوع أدق و هو تمنّي بعض

الناس أن يكون نصيبهم كنصيب الآخرين، و التمني قد يكون مقرونا بزوال النعمة من الآخر، و هذا هو الحسد المذموم الذي نهي عنه في هذه الآية، و قد يكون طلبا لأن يكون للإنسان مثل ما لأخيه و هذه هي الغبطة، و هذه و إن كانت خلاف الأدب- بالنسبة إلى الأمور الدنيوية- لأنها تكشف عن ضعة في النفس، لكنها ليست بمحرمة.

و ذكر صاحب «مجمع البيان» في سبب النزول ما لفظه: «قيل:

جاءت وافدة النساء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه! أ ليس اللّه رب الرجال و النساء و أنت رسول اللّه إليهم جميعا، فما بالنا يذكر اللّه الرجال و لا يذكرنا، نخشى أن لا يكون فينا خير و لا لله فينا حاجة. فنزلت هذه الآية. و قيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزوا الرجال و لا تغزوا النساء. فنزلت الآية. عن مجاهد، و قيل: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. و قالت النساء: إنا نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا. فنزلت الآية» «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 473

و على أي حال فقد كان هناك تمني من أحد الجانبين فنهى اللّه عن ذلك بقوله: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فإن التمني مع قطع النظر عن عدم جدواه يكشف عن ضعف النفس و عدم تبصر الإنسان بالأمور إذ التفضيل لم يقع اعتباطا، و

إنما خلقة كل واحد من الرجال و النساء، و سائر الملابسات الاجتماعية، أوجبت هذه المفاضلة من عليم حكيم، فلا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلانا من المال و الجاه و التشريع كان من نصيبي لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من المال و الجاه و العمل وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الأمور المذكورة. ثم ليس كل ما اكتسبه الرجل له، بل قسم منه لله سبحانه يجب صرفه في سبيله من مال أو جاه أو طاقة، و لذا قال: «مما اكتسبوا» و كذلك بالنسبة إلى النساء. فهذا النصيب الذي قدره سبحانه هو الذي ينبغي لكل منهما أن يقنع به و لا يتوقع أن يكون له مثل ما للصنف الآخر وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أن يعطيكم ما تريدون لا أن تحسدوا و تتمنوا زوال نعمة الآخرين و انتقالها إليكم فإنه سبحانه هو القاسم و المعطي إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم ما تضمرونه من التمني و الحسد، أو ما تنوون في قلوبكم من الالتجاء إليه سبحانه في أن يوفر عليكم الناقص الذي تريدون كماله.

ثم إن ظاهر قوله سبحانه: «للرجال .. إلخ» أن التمني كان بالنسبة إلى الأمور الاكتسابية لا الأمور التكوينية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 474

[سورة النساء (4): آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

[34] ذكر سبحانه أن للرجال نصيب مما اكتسبوا و للنساء نصيب مما اكتسبن، أما القسم الآخر من الكسب أي بعض ما اكتسب الرجال و بعض ما اكتسبن النساء، فإنه من نصيب الوارث، و ليس ذلك على وجه الفريضة و إنما على نحو القضية الطبيعة

الغالبة جرت على أن يتنعم الإنسان بقسم مما اكتسبه و يخلّف قسما آخر من كسبه للوارث وَ لِكُلٍ من الرجال و النساء جَعَلْنا مَوالِيَ هو جمع مولى، من ولي الشي ء يليه ولاية، و هو اتصال الشي ء بالشي ء من غير فاصل، يعني جعلنا للصنفين أشخاصا وارثين هم أولى في التصرف فيما تركا إرثا، و هؤلاء الموالي الوارثون يرثون مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ كلّ حسب تشريع اللّه له قسما خاصا من الإرث، فلكلّ من الرجال و النساء حق في الكسب و حق في الإرث فلا يتمنى أحد ما لغيره فإن اللّه سبحانه جعل ذلك.

وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ لعل المراد أن الذين تعاقدتم معهم بالأيمان لإعطائهم حصة من تركتكم فاللازم إعطاؤهم نصيبهم المشروع من دون الثلث إذا كان عقد اليمين غير ملزم، و ما زاد عن الثلث إذا كان العقد ملزما، و على أي حال فليس لهؤلاء إرث، إذ لكل موالي خاصة فلا يزاد عليهم بعقد الأيمان إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً أي حاضرا شاهدا، فلا تخالفوا أوامره بجعل غير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 475

[سورة النساء (4): آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

الوارث وارثا بعقد اليمين، أو عدم إعطاء «الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» نصيبهم المقرّر في الشريعة.

[35] و حيث تقدم إن لكلّ من الرجال و النساء نصيب، أراد سبحانه أن يبيّن علة زيادة الرجل في نصيب الإرث، و نصيب الأمر و النهي، على

المرأة، فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ جمع قوّام و هو القائم بالأمر المسلّط على الشي ء عَلَى النِّساءِ و من المعلوم أن المراد قوامة الرجل في الجملة، لا أن كل رجل قريب قوام على كل امرأة قريبة بِما فَضَّلَ اللَّهُ أي أن القوامة بسبب تفضيل اللّه سبحانه بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فإن اللّه سبحانه فضّل الرجل على المرأة عقلا و جسما و تحمّلا- كما هو واضح و قد ثبت في العلم الحديث- و لم يكن تفضيل اللّه سبحانه اعتباطا فقد خلقت المرأة لغاية غير ما خلق لها الرجل فمثلهما مثل «مركبتين» صغيرة تحمل الركاب، و كبيرة تحمل الحديد و الأخشاب وَ بسبب ما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فإن نفقة الزوجة واجبة على الزوج، و من المعلوم أن هذا الواجب يلزم أن يعوّض بحق فأعطي للزوج القوامة في قبال ما وجب عليه من النفقة، و كذلك بالنسبة إلى المهر.

فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ و إذ ثبتت هذه القوامة، فالنساء الصالحات الخيرات سيحافظن على الهدوء و السكون و الموافقة لأزواجهن و يتجنبن الشغب و التمرد و الاستعلاء و تجاوز الحدود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 476

و النشوز، و القنوت بمعنى الإطاعة، أي فهن مطيعات للأزواج يحفظنهم في حضورهم و غيابهم كما أن ذلك مقتضى كونهن مولّى عليهن، و المراد بالغيب حالة غيبوبة الزوج بخروج أو سفر أو نحوهما، فلا يخنّهم في أنفسهم أو أموالهم أو نحو ذلك، و يكون هذا الحفظ منهن لهم بسبب ما حَفِظَ اللَّهُ لهن من الكرامة و الحقوق، أو مستعينات بحفظ اللّه تعالى فإن الإنسان لا يتمكن من حفظ شي ء إلا إذا شاء اللّه حفظه، أو بمقابلة حفظ اللّه، كأن يكون حفظ اللّه عوضا لحفظهن إياهم، فالباء سببية، أو

استعانة أو مقابلة.

أما المرأة التي لا تقنت و تريد الاستعلاء على الزوج، و لا تراعي حقوق الرجل، فلها حكم خاص بيّنه سبحانه في قوله: وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ من نشز إذا ارتفع، أي عصيانهن، فكأنها ارتفعت عن حدّها فَعِظُوهُنَ من الوعظ، بالنصح و الإرشاد، و ما أشبهها وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ إن لم يفد الوعظ، و «المضاجع» جمع مضجع، و هو محل النوم و فراشه، و ذلك بتحويل الظهر، أو بعزل فراشه عن فراشها وَ اضْرِبُوهُنَ و في بعض الأخبار أن الضرب بالسواك، و لا يخفى أن هذه المراتب بالتدريج و إن كانت الواو العاطفة لا تفيد ذلك- كما قالوا- كما أن المرأة كثيرا ما تتأدب بالهجر و الضرب الخفيف لأنهما يبعثان فيها العاطفة نحو الزوج و يتطلبان منها تحسين سلوكها ليرجع إليها قلب الزوج فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ و من المقرّر في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 477

[سورة النساء (4): آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

الشريعة أن الإطاعة الواجبة على المرأة ليست إلا عدم خروجها بدون إذنه و مطاوعتها له في الاستمتاع بها متى أراد فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا تطلبوا لضررهن طريقا، بإيذائهن و عدم القيام باللطف و العطف المترقب من الزوج، بل سامحوهن،

فقد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إن من حق المرأة على الرجل أن يغفر لها إذا جهلت»

«1»، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا فلا يتعال عليه أحد بقوته كَبِيراً فلا أكبر منه.

[36] وَ إِنْ خِفْتُمْ أيها الناس المحيطون بالزوجين شِقاقَ بَيْنِهِما أي المخالفة و العداوة بين الزوجين،

كأن كل واحد منهما في شق و جانب، غير شق الآخر و جانبه فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها فإن الحكمين حيث يعرفان ملابسات الزوجين يتمكنان من فصل الأمر على أحسن الوجوه، و للحكمين الإصلاح و ليس لهما الطلاق إلا برضى الزوج أو وكالة سابقة إِنْ يُرِيدا يعني الحكمين إِصْلاحاً بينهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما و الضمير عائد إلى الحكمين لقرب اللفظ، و ربما يقال: عائد إلى الزوجين. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد خَبِيراً بما يضمره الحكمين و يفعلانه في أمر

______________________________

(1) جواهر الكلام: ج 31 ص 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 478

[سورة النساء (4): آية 36]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)

الإصلاح و الإفساد.

[37] ثم يتوجه البيان إلى العلاقات الإنسانية العامة بما فيها الأقربون و غيرهم، بعد ما فرغ من نظام الأسرة، و ربطها بعبادة اللّه سبحانه الذي أمر بذلك، و يبيّن ما يجب على الإنسان تجاه الخالق و تجاه المخلوق، فقال: وَ اعْبُدُوا اللَّهَ و معنى العبادة منتهى الخضوع مما يطلب من العبد قبال سيده، فإن العبادة و العبد من مادة واحدة وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ أي بالله شَيْئاً أي لا تجعلوا له شريكا من حجر أو مدر، أو جماد أو نبات، أو ملائكة أو بشر، فإنه هو الإله الواحد الذي لا شريك له وَ أحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فإنهما واسطة خلقكم، و كثيرا ما يقرن الإحسان إليهما بعبادة اللّه سبحانه في القرآن الكريم، لإفادة

تأكيد لزوم الإحسان إليهما وَ أحسنوا بِذِي الْقُرْبى القربى كاليسرى من اليسر، أي أصحاب القرابة، و هذا تعميم بعد التخصيص وَ الْيَتامى و هم الذين مات آباؤهم، أو الأعم منهم و ممن ماتت أمه وَ الْمَساكِينِ هم الفقراء بصورة عامة وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى و لمثله حقان: حق الجوار، و حق القرابة وَ الْجارِ الْجُنُبِ جنب بضم الأولين كعنق، صفة بمعنى الغريب، و كأنه باعتبار أن كلّا من الطرفين في جنب وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي صاحبك الذي بجنبك، سواء كان في مدرسة أو دكان أو سفر أو حضر، أو غيرها وَ ابْنِ السَّبِيلِ أي المنقطع عن بلده سواء كان ثريا أو لا، و يسمى «ابن السبيل» لأنه لا يعرف شيئا من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 479

[سورة النساء (4): آية 37]

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)

ملابساته إلا السفر، يقال ابن البلد و ابن السبيل و ابن العمل لمن يرتبط بهذه الأمور وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد و الإماء.

و قد أطلق سبحانه الإحسان إلى هؤلاء ليشمل مطلق صنوف الحفاوة و الإكرام، و قد كان تأكيد الإسلام بالإحسان إلى هؤلاء تمشيا مع روحه العامة في توثيق صلة البشر بعضهم مع بعض، و جمعهم في رباط الود و الحب و الوئام إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً المختال: المتبختر المتكبر، و الفخور: الذي يفخر بمناقبه كبرا و اعتزازا و تطاولا. ذكر هذه الجملة هنا بمناسبة أن من أمره سبحانه بالإحسان إلى الأصناف المذكورة كثيرا ما يتطاول و يتكبر، فلا يخضع للإحسان، كما هو المشاهد إلى الآن، فنهى سبحانه عن ذلك بعد

ما أمر بالإحسان ليؤكده إثباتا و نفيا.

[38] و حيث أن الإحسان إلى هؤلاء كثيرا ما يحتاج إلى بذل المال، ذم سبحانه الذين لا يبذلون أموالهم في سبيل اللّه بقوله: الَّذِينَ صفة «مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» يَبْخَلُونَ فلا ينفقون الأموال في سبيله سبحانه وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و كأن هذا ملازم لصفة البخل فإن البخيل حيث جبل على حب المال لا يتمكن أن يرى غيره ينفق ماله، و قد تشتد هذه الصفة في البخيل حتى يبخل على نفسه، فلو أنفق عليه غيره نهاه و أمره بالكف. وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 480

[سورة النساء (4): آية 38]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)

البخلاء يكتمون أموالهم لئلّا يعرفون فيذمّهم الناس بعدم إنفاقهم في سبل المعروف، أما ما اشتهر من «استر ذهبك و ذهابك و مذهبك» فإنه في محل الخوف لا مطلقا وَ أَعْتَدْنا أي هيّئنا لِلْكافِرِينَ الذين يكفرون بنعم اللّه سبحانه و لا يعملون بما أمرهم اللّه سبحانه من إنفاق أموالهم عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يكسر كبرياءهم، كما تكبّروا في الدنيا و لم يحسنوا إلى من وجب الإحسان إليه، اختيالا و افتخارا، كما قال سبحانه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» [39] و هناك صفة أخرى ملازمة لعدم الإحسان إلى الأصناف السابقة، فإن المختال الذي لا يحسن و يبخل، لا بد و أن يكون إنفاقه رئاء و سمعة، لأن كبرياءه يجبره على أن يشوب إنفاقه بما يلائم صفته. فقال سبحانه: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ و هذه الجملة عطف على قوله «الذين

يبخلون» يعني أن إنفاقهم لأجل أن يراهم الناس، حتى يعظمون في نفوسهم، و يمدحونهم بأنهم أهل خير و إنفاق، و المراد بالرئاء المثال، و إلا فالسمعة كذلك وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حتى يكون حافزهم على الإنفاق أمر اللّه سبحانه و رضاه وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يكون باعثهم على البذل رجاء الثواب و خوف العقاب.

ثم إنه كثيرا ما يعبر بهذا التعبير عن عدم الإيمان الكامل، لا مطلق الإيمان، أو عدم الإيمان من هذه الجهة، و إن كان هناك إيمان من سائر

______________________________

(1) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 481

[سورة النساء (4): الآيات 39 الى 40]

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

الجهات، إذ أن الإيمان الكامل و الإيمان من جميع الجهات، يقتضي أن يكون باعث كل حركة و سكون هو الإيمان لا غيره، و ذلك كما يقال: فلان لا يطيع أباه، إذا لم يطعه إطاعة كاملة، أو إطاعة من جميع الجهات، فإنه لا يراد بذلك عدم الإطاعة مطلقا، بل عدم الإطاعة الكاملة من جميع النواحي.

وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً مقترنا، بأن صاحبه و لازمه و أتمر بأوامره في البخل و الرياء و عدم الإيمان فَساءَ قَرِيناً لأنه يدعوه إلى المعصية الموجبة لذهاب دينه و دنياه.

[40] وَ ما ذا عَلَيْهِمْ أي: أي شي ء يكون عليهم و أي ضرر يتوجه إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون و لا ينفقون لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ! فإنه بالعكس مما يظنون من

أن الإيمان و الإنفاق يسببان أضرارا و مشاكل، إذ الإيمان يوجب الهدوء و السكينة و الاطمئنان و خير الدارين، و الإنفاق يوجب تقدم المجتمع و ازدهاره مما يعود إلى المنفق بأكثر مما أنفقه وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ أي بهؤلاء، سواء أنفقوا و آمنوا، أم لا عَلِيماً فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[41] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال الثقل، و الذرة هي واحدة «الهباء» التي يرى إذا دخل شعاع الشمس من الكوة، فمن أنفق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 482

[سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

فلا يظن أن إنفاقه يذهب هباء، فإن اللّه سبحانه يجازيه على إنفاقه و لا يظلمه قدر مثقال ذرة وَ إِنْ تَكُ الذرة التي أتى بها العبد حَسَنَةً عملا خيرا يُضاعِفْها فإن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وَ يُؤْتِ لمن أحسن مِنْ لَدُنْهُ دلالة على صدق الوعد و عظمه حيث أنه من لدن صادق كريم أَجْراً عَظِيماً و هو الثواب الباقي أبد الآبدين.

[42] و إذا كان اللّه تعالى بهذه المثابة من العلم و العدل فَكَيْفَ بحال الناس الذين انحرفوا عن الجادة، و كفروا و بخلوا و عصوا إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد على أعمالهم، و هم أنبياؤهم و من جعله اللّه سبحانه واسطة بينه و بينهم في التبليغ و بلاغ الأحكام وَ جِئْنا بِكَ يا رسول اللّه عَلى هؤُلاءِ القوم الذين أنت فيهم شَهِيداً تشهد على أعمالهم في ذلك الموقف الرهيب.

[43] يَوْمَئِذٍ أي

في يوم القيامة يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ «الواو» إما للتقسيم، أي يود كل واحد منهما، أو للجمع أي يود الكافر العاصي لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يجعلون متساوين مع الأرض كما قال سبحانه: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1»

______________________________

(1) النبأ: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 483

[سورة النساء (4): آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

وَ في ذلك اليوم لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ أي لا يخفون عن اللّه حَدِيثاً بل تشهد عليهم ألسنتهم و جوارحهم بكل ما عملوا من الكفر و السيئات و الشرور، ففي مقابل تكبّرهم في الحياة يتمنون بلع الأرض لهم هناك، و في مقابل كتمانهم الحق في الدنيا لا يتمكنون من الكتمان هناك.

[44] قد تقدم الأمر بعبادة اللّه سبحانه فارتد السياق هنا إلى بعض مصاديق العبادة و هي الصلاة و الغسل فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى و النهي عنه «الاقتراب من الصلاة حال السكر» كالنهي عن نفس الشي ء «الصلاة حال السكر» لكن للمبالغة في التنزيه، كما قال سبحانه: لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1» و «سكارى» جمع سكران.

و من المعلوم أنه لا منافاة «تكوينا لا شرعا» بين السكر الخفيف و الصلاة، و إنما السكر الشديد المزيل للعقل تماما لا يجتمع مع الصلاة حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فإن الصلاة إنما شرعت للإقبال و السكران لا يعلم

ما يقول و لا يحضر قلبه فيما ينطق به لسانه، و «حتى» هنا تصلح علة للحكم كما تصلح غاية فإذا شرب أحد الخمر- و العياذ بالله- فلا يقبل على الصلاة إلا و قد زال أثرها بحيث يعلم ما يقول وَ لا تقربوا الصلاة جُنُباً بالإدخال أو الإنزال إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي في حال

______________________________

(1) الأنعام: 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 484

السفر فإن الغالب أن المسافر- قديما- كان لا يجد الماء فيصلي جنبا بتيمم إذ التيمم لا يرفع جميع أثر الجنابة و لذا لو وجد الماء بطل تيممه و يلزم عليه الغسل حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي لا تقربوا الصلاة جنبا حتى تغتسلوا. و الاغتسال: غسل للرأس و الرقبة ثم الطرف الأيمن ثم الأيسر مع النية، أو الارتماس في الماء دفعة واحدة مع النية وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض، و المراد به المرض الذي يضر معه الماء و إن كان جرحا أو نحوه أَوْ كنتم عَلى سَفَرٍ أي مسافرين و كان الإتيان بلفظة «على» لما يكون المسافر عليه من الركوب على شي ء و قد تقدم أن الكون على السفر لا يبيح بنفسه التيمم، و إنما لغلبة صعوبة الماء فيه- في السابق- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أيها المريدون للصلاة مِنَ الْغائِطِ الغائط هو المكان المنخفض من الأرض، و سمّي «البراز» به لعلاقة الحال و المحل، و المراد أن أحدكم لو قضى حاجته ثم أراد الصلاة أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي جامعتم معهن فإن الملامسة كناية عن الجماع فَلَمْ تَجِدُوا ماءً مرتبط بالثلاثة المتقدمة المسافر و المحدث و المجامع فَتَيَمَّمُوا أي اقصدوا صَعِيداً أي أرضا، سواء كان عليها تراب أو لا طَيِّباً أي طاهرا حلالا إذ كل واحد من

النجس و المغصوب خبيث غير طيب. و التيمم هو معناه التقصد ثم غلب في الشريعة على الأعمال المخصوصة حتى إذا قيل: «تيمم» لا يتبادر منه إلا الأعمال المخصوصة شرعا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 485

[سورة النساء (4): آية 44]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

دلت الشريعة على أن كيفيته أن يضرب الإنسان بيديه معا وجه الأرض- ما لم يخرج عن اسم الأرضية لكونه معدنا أو نحوه- ثم يمسح بهما جبهته من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى، ثم يمسح بباطن الكف اليسرى ظهر الكف اليمنى من الزند إلى رؤوس الأصابع، ثم يمسح بباطن الكف اليمنى ظاهر الكف اليسرى من الزند إلى رؤوس الأصابع. و هناك احتياط بالضرب ثانيا و مسح اليدين. و قد ثبت في الطب الحديث أن الأرض تطهر الجراثيم في مرتبة أدنى من تطهير الماء، فقد كان من حكمة الشارع أن جعلها مطهرة في المشي عليها و التعفير بها، في النجاسة الخبثية، و التيمم بها في النجاسة الحدثية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عن الذي له حرج في استعمال الماء، و يظهر جمال العفو إذا قايس الإنسان أحكامه سبحانه بأحكام الملوك و الحكومات و السادة الذين لا يبالون بالناس فهم يطلقون أوامرهم مهما كلف الأمر غَفُوراً يغفر الذنوب التي يتعرض لها الإنسان في تكاليفه، و هذا كالتسلية لمن أفلت منه ذنب لئلا ييأس من مغفرته سبحانه.

[45] ثم يعود السياق إلى الذين كفروا و عصوا الرسول و أن قسما من أهل الكتاب يبيعون أنفسهم بالضلالة و يحرفون الكلم و يؤذون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

أَ لَمْ تَرَ أي ألا تتعجب يا رسول اللّه و تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي قسما منه، و هم اليهود الذين أعطاهم اللّه التوراة و إنما ذكر «نصيبا» لأنهم لم يعطوا الكتاب- أي الأحكام- كاملا، و إنما أعطوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 486

[سورة النساء (4): الآيات 45 الى 46]

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

قسما من الأحكام، و البقية الباقية للمسيح عليه السّلام و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يبيعون أنفسهم بالضلالة فعوض أن يصرفوا أعمارهم و طاقاتهم ليشتروا الهداية بالإيمان بالرسول و العمل الصالح يبيعون أنفسهم و طاقاتهم مقابل الكفر و الأعمال السيئة، و الحال أنهم من أهل الكتاب و يعلمون الحق وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم المسلمون السَّبِيلَ فتنحرفوا عن جادة الهداية إلى السبل الملتوية المؤدية إلى الهلاك و الدمار.

[46] وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم فلا تتخذوا هؤلاء أولياء ظنا منكم أنهم أحباؤكم و اغترارا بظاهرهم و زعما بأنهم ظهركم و سندكم وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي أن ولاية اللّه لكم تغنيكم عن ولاية الكفار وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فنصرته إياكم تكفي عن نصرة الكفار.

[47] ثم ذكر سبحانه بعض صفات هؤلاء الكفار الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» مِنَ الَّذِينَ

هادُوا و اتخذوا اليهودية دينا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة، و المراد بها أحكام اللّه سبحانه عَنْ مَواضِعِهِ فيضعون الحلال مكان الحرام و الحرام مكان الحلال و هكذا وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا كلامك و احتجاجك يا محمد و عَصَيْنا أوامرك لأنا لا نعتقد بك نبيا صادقا. و ربما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 487

يحتمل أن يكون المراد عصيانهم عملا لا قولا فإن «القول» يراد به تارة الكلام و تارة العمل، يقال: «قال بيده كذا» أي أشار.

وَ يقول هؤلاء اليهود للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ يقصدون الدعاء على الرسول بأنه لا يسمع، كما يقال: اسمع لا أسمعك اللّه. فإنهم كانوا يقصدون بهذا الكلام السبّ و الدعاء عليه و يظهرون أنهم يريدون معنى آخر و هو: اسمع غير مأمور بالسمع، فإنه يقال: الكلام للرجل العظيم احتراما و إشعارا بأن أمره ب «اسمع» ليس أمرا فهو لا يؤمر بالاستماع لأنه أجلّ من الأمر.

وَ يقول هؤلاء اليهود للرسول: راعِنا يقصدون بذلك السبّ باطنا و يظهرون أنهم يتأدبون حيث أن ظاهر لفظة «راعنا» طلب المراعاة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ من «لوى يلوي» إذا حرف و أمال، و الألسنة جمع لسان، وليّ اللسان قد يكون ظاهريا بأن يحرف لسانه، و قد يكون باطنيا بأن يقول شيئا ظاهره أمر، و هو لا يريد ظاهره وَ طَعْناً فِي الدِّينِ فإن الطعن في رئيس الدين طعن في الدين، لوهنه بسبب وهن رئيسه.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي أن هؤلاء اليهود قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ما جئت به، بأن صاروا متدينين بالإسلام وَ اسْمَعْ بدون أن يضيفوا «غير مسمع» وَ انْظُرْنا عوض قولهم «راعنا» مما فيه إيمان و أدب و استقامة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في

دنياهم حيث ينعمون براحة المسلمين و رفاههم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 488

[سورة النساء (4): آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

و تقدمهم، و في آخرتهم حيث يسعدون بجنات النعيم وَ أَقْوَمَ أي أكثر عدلا و استقامة.

وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته و لطفه و فضله بِكُفْرِهِمْ فإن الإنسان إذا لم يقبل الإيمان بعد ما عرفه طرده اللّه سبحانه عن فضله، كما أن الأب إذا رأى ولده لا يقبل نصحه طرده عن ألطافه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و هذا ليس استثناء من قوله سبحانه «لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» بل من أصل الكتاب. و قد ذكرنا سابقا أن الاستثناء قد يراعى فيه أصل المطلب من دون النظر إلى قيوده، كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ «1»، وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «2» و من المحتمل مراعاة القيد في «إلا قليلا» أي أن إيمان هؤلاء ممكن تقبله حتى بعد لعن اللّه لهم إذا تيقظ ضميرهم و رجعوا عن الغفلة إلى الحق.

[48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي نزل على نبيهم الكتاب السماوي و التزموا به، و تخصيص الخطاب بهم مع أن الأمر بالإيمان عام، لكونهم محل الحوار و البحث آمِنُوا بِما نَزَّلْنا من الفرقان على رسولنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ فإن القرآن

______________________________

(1) النساء: 30.

(2) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 489

[سورة

النساء (4): آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

يصدّق بالكتب السماوية السابقة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً طمس الشي ء إذهاب أثره فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها جمع «دبر» و هو الخلف، و الظاهر من الآية أنه في يوم القيامة إذ تطمس فيه الوجوه من بعض الناس حتى تتساوى جميع أجزاء الوجه فلا نتوء فيها، ثم يجعل الوجه إلى الخلف، كما ورد في بعض الأحاديث. و

في بعض الروايات

طمسها عن الهدى وردها على أدبارها في ضلالتها

«1» أَوْ نَلْعَنَهُمْ عاجلا قبل يوم القيامة فنجعل منهم القردة و الخنازير كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ و هم اليهود الذين اعتدوا في السبت باصطياد السمك فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «2» و

في بعض الأحاديث أنه في آخر الزمان يبتلى بعض الفساق بالمسخ

«3»- و العياذ بالله- وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كائنا فلا تظنوا أنه لا يكون ذلك و إنما هذا مجرد تهديد و توعّد.

[49] و لا يظن أهل الكتاب أنهم إن بقوا على شركهم حتى ماتوا يشملهم غفران اللّه سبحانه فيبقوا على كفرهم و شركهم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فإن الإنسان إذا مات مشركا لم يكن له الخلاص وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك من المعاصي لِمَنْ يَشاءُ ممن يكون أهلا للغفران، فلا يقاس الشرك بسائر المعاصي و الذنوب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 7 ص 141.

(2) البقرة: 66.

(3) راجع تأويل الآيات الظاهرة: ص 528.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 490

[سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا

يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي يجعل له شريكا فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً فإنه افتراء على مقام الألوهية بأن له شريك، و أي إثم أعظم من ذلك.

[50] أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه و هو استفهام تعجبي إِلَى اليهود الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي يمدحونها و يصفونها بالطهارة و الزكاة و النزاهة فقد كانوا يقولون عن أنفسهم أنهم نزيهون و أنهم أبناء اللّه و أحباؤه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ فإن الطهارة بيد اللّه فمن شاء غفر ذنوبه و برّأه من العيوب و من شاء لم يغفر ذنبه فيبقى في أدران المعصية، إنه سبحانه هو الذي يختار أمة ما و لا يختار أخرى وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الفتيل هو ما في شق النواة من خيط ضعيف، و المعنى أنه سبحانه بعدم تطهيرهم لا يظلمهم و إنما ذلك بسبب عدم إيمانهم و عصيانهم.

[51] انْظُرْ يا رسول اللّه- و ليس المراد النظر بالعين بل ملاحظتهم، فإن النظر كما يقع بالعين كذلك يقع على ملاحظة الأشياء بسائر القوى و الحواس- كَيْفَ يَفْتَرُونَ أي يفتري هؤلاء اليهود عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في قولهم: نحن أبناء اللّه و شعبه المختار و أحباؤه و لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، و إنهم المزكون من عنده، و في تحريفهم أحكامه وَ كَفى بِهِ أي بكذبهم عليه سبحانه إِثْماً معصية مُبِيناً واضحا و أي عصيان أعظم من التجرؤ على ساحة اللّه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 491

[سورة النساء (4): الآيات 51 الى 53]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى

مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)

[52] كانت اليهود تفضل المشركين على المسلمين و قد قال كعب- و هو أحد رؤسائهم- لأبي سفيان: أنتم و اللّه أهدى سبيلا مما عليه محمد، فنزل قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه و هو استفهام تعجبي إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا أي أعطوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ و هم اليهود الذين أنزل اللّه على نبيهم الكتاب فبقي بعضه في يدهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ هما صنمان لقريش، فقد سجد كعب للصنمين استمالة لقلوب المشركين وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي أبو سفيان و أصحابه هؤُلاءِ المشركون أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي أن سبيل المشركين أحسن من سبيل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، فقد أوجب حقده على الإسلام أن يفضّل الكفار الذين لا يعترفون حتى بموسى عليه السّلام على المسلمين الذين يشتركون معهم في كثير من الأصول و الفروع.

[53] أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته و طردهم عن الخير وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصره فيدفع اللعنة عنه و ينجيه من عقاب يوم القيامة.

[54] إن اليهود الذين حكموا بأن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، لا قيمة و لا وزن لحكمهم هذا، فإنهم لا يملكون تفضيلا حتى يفضلوا الكفار على المؤمنين، و لو فرض أنهم ملكوا أتفه شي ء من الأمور

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 492

[سورة النساء (4): الآيات 54 الى 55]

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ

مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

المادية لحرموا الناس جميعا من أقل الأشياء و أبخسها أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ استفهام إنكاري، أي هل لهم شي ء من ملك التفاضل حتى يهبوا من يشاءون فضلا؟ كلا إنهم لا يملكون ذلك، و إذا فرض أنهم ملكوا شيئا فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً النقير هو النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة.

[55] ثم إن تفضيل هؤلاء اليهود للمشركين ليس إلا حسدا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الرسول و أصحابه المؤمنين عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ حيث اختار الرسول للرسالة و هدى المؤمنين إلى الإيمان فلا موقع للحسد، فإن الفضل قد يؤتيه من يشاء و قد منّ سابقا على إبراهيم عليه السّلام و آل إبراهيم لا بالنبوة فحسب بل بالملك و النبوة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ و قد ذكرنا سابقا أنه قد يقال: «آل فلان» و يراد الأعم منه و من آله- تغليبا- الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ علم الشرائع مما يفيد الدنيا و الآخرة فهو أعم من الكتاب وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً حيث جعل بأيديهم أزمة الحياة و جعلهم ملوكا و أنبياء.

[56] فَمِنْهُمْ أي من الناس، المعلوم من الكلام كقوله: لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «1» أو من آل إبراهيم عليه السّلام مَنْ آمَنَ بِهِ أي

______________________________

(1) النساء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 493

[سورة النساء (4): آية 56]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)

بإبراهيم عليه السّلام و صدق نبوّته. و المراد من آل إبراهيم «مرجع الضمير»

إما قومه الذين بعث إليهم، أو عشيرته و أحفاده وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي أعرض عن الإيمان أو عن إبراهيم عليه السّلام، و هؤلاء اليهود كأولئك في أن بعضهم آمن بالرسول و بعضهم صد عنه. وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي يكفي هؤلاء الصادين سعير جهنم، و المراد بالسعير: الاشتعال و اللهب.

[57] ثم ذكر سبحانه عاقبة كل واحد من المكذب و المصدق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا التي أقمناها على رسولنا و ما جاء به سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً من «أصلى يصلي» يقال: أصلاه النار إذا ألقاه فيها كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ و احترقت بالنار بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي جعلنا لهم جلودا جديدة مكان الجلود المحترقة لِيَذُوقُوا الْعَذابَ و لا ينقطع عنهم، و الجلود الجديدة هي الجلود القديمة التي خلقت من جديد، إذ الشي ء المحترق تتفرق أجزاؤه في الفضاء فيجمعها سبحانه و يعطيها الصورة الجلدية من جديد، هذا بالإضافة إلى أنه لو خلقت جلود جديدة لم يكن بذلك بأس إذ المتألم هو الروح فلا يقال: بما استحق الجلد الجديد العذاب؟ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً فلا يفوته شي ء و لا يمتنع عليه شي ء فإن العزة تلازمها الغلبة و القدرة حَكِيماً يصنع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 494

[سورة النساء (4): الآيات 57 الى 58]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

كل شي ء بحكمة و يضع الأشياء في مواضعها، فليس تعذيب هؤلاء بهذه الكيفية خارجا

عن نطاق قدرته و لا مخالفا للحكمة و المصلحة.

[58] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و ما جاء به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة سَنُدْخِلُهُمْ و لعل دخول ل «س» هنا و «سوف» هناك للدلالة على أن الجنة أقرب إلى المؤمنين من النار إلى الكافرين، فإن الكفار حيث أنهم يقضون برزخا مؤلما يطول عليهم الأمد بخلاف المؤمنين الذين يقضون برزخا مريحا، فإن الإنسان إذا كان في راحة زعم أن الوقت انقضى بسرعة بخلاف من كان في تعب و أذية فإنه يطول عليه الوقت جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ البساتين ذات القصور التي تجري من تحت أشجارها أنهار الماء خالِدِينَ فِيها أَبَداً كما أن الكفار خالدون في النار و كلما نضجت جلودهم بدلت بغيرها لَهُمْ فِيها أي في الجنات أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من القذارات الخلقية و القذارات الخلقية وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا هو الوقاية من نور الشمس و نحوه ظَلِيلًا أي ليس فيه حرّ و لا برد، و هو مبالغة حسن الظل كقولهم:

ليل أليل.

[59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أيها الناس أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها تامة غير ناقصة، و لعل الارتباط بين هذه الآية و ما سبقها أن أهل الكتاب خالفوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 495

[سورة النساء (4): آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

ما أمروا به و خانوا الأمانة الإلهية كما قال سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ «1» في حين أن اللّه تعالى يأمر بأداء الأمانة المادية، فكيف بأعظم الأمانات الروحية؟! كما

أنهم حكموا بالجور حين قالوا: إن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، بينما يحكم اللّه تعالى الحكم بالعدل وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ في أمور دينهم أو دنياهم أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فلا تميلوا إلى ناحية دون ناحية لمجرد الهوى أو الرشوة أو العاطفة أو ما أشبه إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشي ء الذي يعظكم به و هو أداء الأمانة و الحكم بالعدل و ضمير «به» راجع إلى «ما» إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً يسمع كلامكم بَصِيراً يبصر حركاتكم و أعمالكم، فإنكم إذا خنتم الأمانة أو حكمتم بالجور فإنه لا يذهب ذلك على السميع البصير.

[60] و حيث بيّن سبحانه ما يجب على الحاكم من العدل، بيّن ما يجب على الأمة تجاه الحاكم العادل من الطاعة و السمع، و بيّن الحاكم الذي يحق له أن يحكم، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بالائتمار بأوامره و الانزجار عن زواجره وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ قد تقدم سابقا أن إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي إطاعة اللّه و إنما يذكران معا تبجيلا للرسول و لإفادة أن أوامره كأوامر اللّه سبحانه وَ أطيعوا أُولِي الْأَمْرِ أي أصحاب

______________________________

(1) الأحزاب: 73.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 496

السلطة الذين بيدهم الأمر مِنْكُمْ و قد عيّن أولو الأمر

في غير واحد من الأحاديث أنهم الأئمة الهداة الاثني عشر عليهم السّلام و هم: علي أمير المؤمنين، و الحسن، و الحسين، و علي، و محمد، و جعفر، و موسى، و علي، و محمد، و علي، و الحسن، و المهدي

«1». أما إطاعة العلماء المراجع فهي طاعة لأولي الأمر، إذ هم نوّابهم.

أما من زعم أن المراد بأولي الأمر كل حاكم فهذا يستلزم التناقض،

فكيف يمكن الجمع بين من يبيع الخمر، و اللّه سبحانه الذي يحرمها؟ و هكذا ... و لذا اشترطت الشيعة في النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام العصمة، و في العلماء العدالة.

فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أي حدثت بينكم المنازعة و المخاصمة فِي شَيْ ءٍ من أمور دينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ حتى ترون أن القرآن و السنة مع أي جانب. و من حسن الحظ أنه ليس هناك شي ء تحتاج إليه الأمة في أي دور أن مصير يخلو منه الكتاب و السنة، إما بالخصوص أو بالعموم. و من المعلوم أن «الرد» الرجوع إلى أحاديث أهل البيت عليهم السّلام رجوع إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما أن الرجوع إلى العلماء النواب لهم، رجوع إليهم كما

قال عليه السّلام «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه»

«2».

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أما الرجوع إلى غيرهما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 283.

(2) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 497

[سورة النساء (4): آية 60]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)

فذلك من مقتضيات الكفر كما قال سبحانه: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1»، ذلِكَ الرجوع إلى اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صورة التنازع خَيْرٌ لكم لأن إرشاداتهما لصلاح دينكم و دنياكم وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي من جهة الأول و العاقبة، فإن

عاقبة الحق خير من عاقبة الباطل. و العاقبة تسمّى تأويلا لأنها مآل الأمر و مرجعه، و يحتمل أن يكون المراد: أنه أحسن من تأويلكم إياه.

[61] و لما بيّن سبحانه وجوب الرجوع في موارد النزاع إلى حكم اللّه و الرسول أبدى التعجّب من الذين يدّعون الإيمان ثم يرجعون في قضاياهم إلى أحكام مخالفة لأحكام اللّه و الرسول بقوله: أَ لَمْ تَرَ يا رسول اللّه إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ليعدّوا أنفسهم في زمرة المسلمين وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فإنهم يظهرون الإيمان بكل رسل اللّه و كتبه اتباعا لقوله: وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ .. «2»، و هذا لتأكيد أنهم في سمات المؤمنين بكل مقوماتها يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا أي يرفعوا مشاكلهم و قضاياهم المتنازع فيها إِلَى الطَّاغُوتِ مبالغة في الطغيان و كل حكم غير

______________________________

(1) المائدة: 45.

(2) البقرة: 137.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 498

[سورة النساء (4): آية 61]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)

حكم اللّه سبحانه، فإنه للطاغوت، لأن حكم اللّه هو العدل و ما سواه زيغ و انحراف و طغيان، فهم ينتحلون الإيمان و يسلكون غير طريق الإيمان يريدون بذلك أن يوفروا على شهواتهم فيظهرون الإيمان ليحقن دماءهم و أعراضهم و أموالهم، و يرجعون إلى الطاغوت ليعطي الحكم لهم حينما علموا أن العدل لا يعطيهم الحكم- إذ هم على الباطل- وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ كما قال اللّه سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها «1»، وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ بما يزيّن لهم أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق فإن

مراجعة الطاغوت ضلال و زيغ.

جاء في «مجمع البيان»: أنه كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد، لأنه علم أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يقبل الرشوة و لا يجوز في الحكم، فقال المنافق: لا، بيني و بينك كعب بن الأشرف، لأنه علم أنه يأخذ الرشوة «2». فنزلت الآية.

[62] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا أي ائتوا للمحاكمة إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَ إِلَى الرَّسُولِ ليحكم بيننا رَأَيْتَ يا رسول اللّه الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ أي يعرضون عَنْكَ صُدُوداً أي إعراضا.

______________________________

(1) البقرة: 257.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 499

[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 63]

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

[63] فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء المنافقين إِذا اضطروا للرجوع إليك، و كيف لا يخجلون في مراجعتك لتخليصهم من مصائبهم، بعد ما أعرضوا عنك في منازعاتهم؟! فيما إذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب أعمالهم، فإن الأعمال السيئة قد تورث المصائب و النكبات ثُمَّ جاؤُكَ يا رسول اللّه يريدون منك إسعافهم في مصيبتهم معتذرين عن مراجعتهم إلى الطاغوت من قبل يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا في مراجعتنا إلى الطاغوت إِلَّا إِحْساناً إليك حتى لا نزاحمك و نأخذ من وقتك وَ تَوْفِيقاً بين أمورنا، و لم يكن لنا غرض في الإعراض عنك.

[64] أُولئِكَ المنافقون الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ و إن قصدهم لم يكن الإحسان و التوفيق و

إنما الإعراض عنك لأنك تحكم بالحق و لا تقبل الرشوة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ و لا تظهر لهم القبول حتى يتمادوا في غيهم و يظنون أنهم تمكنوا من إغوائك وَ عِظْهُمْ بأن تبين لهم خطأ طريقتهم وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي قل لهم قولا يبلغ قرارة نفوسهم، فإن من الأقوال ما يقال و لا ينفذ إلى القلب لعدم وجود حرارة و حماس في القول ليعيه القلب، و من الأقوال ما يقال و ينفذ في النفس فكأن النفس محل إيداع القول قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ نفوسهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 500

[سورة النساء (4): الآيات 64 الى 65] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 549

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

[65] وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ فليس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمجرد الوعظ حتى يراجعه الناس مهما شاءوا و يراجعوا غيره إذا لم يشاءوا مراجعته، بل إن الرسول أرسل لإطاعة الناس له في جميع شؤونهم فهو المأذون من قبل اللّه سبحانه في أن يطاع، أي ليس لأحد أن يطيع أحدا جبرا إلا إذا كانت السلطة ناشئة من قبل اللّه و إذنه، و إلا فأية سيطرة لأحد على أحد، مع العلم أن الأشياء كلها ملك اللّه سبحانه.

ثم إن اللّه سبحانه لا يقطع صلته بهؤلاء المنافقين بل يفتح لهم مجال الرجوع و الإنابة وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي هؤلاء المنافقون و

العصاة إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنفاق و المعصية، فإن العصيان يعود ضرره إلى العاصي جاؤُكَ تائبين معتذرين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا غفرانه و عفوه وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن وجدهم أهلا لطلب المغفرة من اللّه لهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي كثير التوبة. و قد تقدم أن معنى كون اللّه توابا: أنه كثير الرجوع على عبده العاصي كلما تاب العبد و رجع رَحِيماً يرحمهم و يغفر ذنوبهم.

[66] و هنا يتردد سؤال هو أنه: كيف يقال عن هؤلاء أنهم «يزعمون أنهم آمنوا بك»؟ أ ليس إيمانهم حقيقيا، فإنهم آمنوا بالله و رسوله و اليوم الآخر و التزموا بشرائع الإسلام من صلاة و زكاة و صيام؟ و الجواب:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 501

فَلا وَ رَبِّكَ أي ليسوا بمؤمنين- قسما بربك- يا رسول اللّه لا يُؤْمِنُونَ إيمانا مرضيا أمر به اللّه و رتب عليه الجنة و الثواب حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حاكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما وقع بينهم من الخصومة ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي لا يجدوا في قلوبهم صعوبة من قضائك، كما هو شأن المغلوبين في القضاء حيث لا يتقبلون الحكم بسهولة بل يظنون أن الحاكم بخسهم حقهم مِمَّا قَضَيْتَ و حكمت وَ يُسَلِّمُوا أي ينقادوا لقضائك و حكمك تَسْلِيماً مطلقا بلا صعوبة و لا حرج يجدونه في نفوسهم.

فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال «لو أن قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا شهر رمضان و حجوا البيت ثم قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه: ألا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم، لكانوا مشركين، ثم تلا هذه الآية»

«1».

و في بعض التفاسير: إن الآية نزلت في

الزبير و ابن أبي بلتعة حيث تنازعا فحكم الرسول للزبير فخرجا و قال ابن أبي بلتعة متهما الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه قضى لابن عمته، و عيّرهم بذلك يهودي فقال: كيف تعتقدون أنه رسول اللّه ثم تتهمونه في قضاء قضاه «2»؟

______________________________

(1) الكافي ج 2 ص 398.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 121.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 502

[سورة النساء (4): الآيات 66 الى 67]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67)

[67] كيف أنهم يجدون حرجا من قضاء قضاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أنه يجب إطاعة الرسول في كل شي ء حتى لو أمر بأن يقتلوا أنفسهم، كما أمر موسى قومه: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» فتابوا و فعلوا ما أمرهم به وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا أي أوجبنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء الذين يجدون حرجا في أنفسهم مما قضيت أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن يقتل بعضكم بعضا أو يقتل الشخص نفسه أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ بأن تهجروا مساكنكم إلى بلاد الغربة، كما خرج قوم موسى إلى التيه من منازلهم التي كانت في مصر ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ لما في ذلك من إهلاك النفس و المشقة وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من عدم الحرج في قضاء رسول اللّه و اتباع أوامره و أحكامه لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و آخرتهم وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً فإن الإنسان كلما أطاع ثبّت دينه و قوّى

ملكة عقيدته، فإن العقيدة بتكرار التعقّل و تكرار التذكّر و الاستسلام تقوى و تشد، فما أمروا به ليس فيه جهد قتل النفس و إخراجها من الديار، و مع ذلك فهو خير لهم و تثبيت لعقيدتهم المؤدية لكل سعادة.

[68] وَ إِذاً أي إذا فعلوا ما يوعظون به لَآتَيْناهُمْ أي أعطيناهم مِنْ لَدُنَّا أي لدن أنفسنا. و هذه الكلمة تفيد تأكيد الوعد، إذ أن اللّه تعالى

______________________________

(1) البقرة: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 503

[سورة النساء (4): الآيات 68 الى 69]

وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69)

ليس عاجزا لا يتمكن من إنجاز وعده و لا بخيلا أو مخلفا لوعده حتى لا يفي بما قال أَجْراً عَظِيماً أي كبيرا. و

في الأحاديث: إن نعيم الجنة بنحو «لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» «1».

[69] وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ثبّتناهم، و قد تقدم في سورة الحمد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أن المعنى «ثبتنا»- بالتقريب الذي سبق- أو المراد هدايتهم صراط يوم القيامة الذي هو جسر على جهنم.

[70] ثم ينتهي السياق إلى القاعدة العامة التي توجب خير الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ باتباع أوامرهما و نواهيهما بصورة عامة فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الدنيا في المكانة الرفيعة في القلوب و الذكر الرفيع و النصرة، كما قال سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «2» مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ الصديق هو الملازم للصدق في أقواله و أعماله، أو هو المداوم على التصديق بما يوجبه

الحق وَ الشُّهَداءِ الذين استشهدوا في سبيل اللّه، و يسمى الشهيد شهيدا لشهادة الملائكة و الناس له بأنه من أهل الجنة وَ الصَّالِحِينَ الفاعلين للصلاح الملازمين له وَ حَسُنَ أُولئِكَ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 8 ص 92.

(2) غافر: 52.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 504

[سورة النساء (4): الآيات 70 الى 72]

ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72)

الأشخاص رَفِيقاً أي مرافقين لمن يطع اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[71] ذلِكَ التوفيق للإطاعة المعقب لكون رفقاء الإنسان النبيين و سائر من ذكر الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ أي تفضّل منه سبحانه لمن اهتدى بمثل هذه الهداية وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً أي يكفي اللّه سبحانه عالما بما يفعله الإنسان من خير و شر، فإنه إذا علم شيئا رتّب عليه الأثر.

[72] و إذا انتهى الكلام حول الإطاعة المطلقة لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلتفت السياق إلى حكم شاق من أحكام الإسلام هو القتال لتدريب المؤمنين على هذا العمل الجهادي العظيم، و تقرير الواجب عليهم فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا- ذكرنا سابقا أن أحكام الإسلام عامة لكل شخص، و تخصيص المؤمنين بالخطاب لأنهم المستفيدون من ذلك- خُذُوا حِذْرَكُمْ يقال: خذ حذرك، أي احذر و تأهب لملاقاة الأمر بالمكروه، أو المراد بالحذر: الأسلحة- مجازا- لأنه آلة الحذر فيكون من باب المجاز فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي أخرجوا إلى الجهاد. و «ثبات» جمع مفرده «ثبة» الجماعة في فرقة، أي ليكن خروجكم فرقة بعد

فرقة، كما تخرج السرايا سرية إلى هنا و سرية إلى هناك، أو جماعة إثر جماعة أَوِ انْفِرُوا و اخرجوا جَمِيعاً في عسكر واحد.

[73] وَ إِنَّ مِنْكُمْ أيها المسلمون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ أي يتأخر عن الخروج استثقالا من الجهاد، و إرادة للفرار، كما كان ذلك حال المنافقين فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 505

[سورة النساء (4): الآيات 73 الى 74]

وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)

كانوا لا يريدون الجهاد، و لذا كانوا يستثقلونه رجاء الفرار فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من هزيمة أو قتل لبعض أفرادكم قالَ ذلك المنافق المبطئ و هو مسرور جذلا: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي شاهدا حاضرا في القتال، حتى يصيبني ما أصابهم، و هذا دائما عادة المنافقين في كل حركة، أنهم يبطّئون حتى يذهب الناس، و يترقبون الأنباء حتى إذا وجدوا في الذاهبين كسرا سرّوا بأنهم كانوا بعداء عن المعركة.

[74] وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ في جهادكم فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ بالفتح و الغنيمة لَيَقُولَنَ ذلك المبطئ متحسّرا- كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة ليست مقولة للقول، و إنما هي حكاية حال المنافق الذي لا يريد إلا النفع و المادة، و لا يخلص للدين و الدعوة-: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ حاضرا في الجهاد، لأنال مالا و فخرا فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فإنه يتمنى الحضور لا لنصرتكم بل لأن يفوز هو بشرف الجهاد و غنيمة الفاتحين.

[75] لما تقدم ذكر المنافقين الذين يبطّئون

عن القتال، بيّن سبحانه ما هو واجب المسلم بالنسبة إلى هذا الأمر المهم فقال: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجل أمره و إعلاء كلمته الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 506

[سورة النساء (4): آية 75]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)

أي يبيعون الحياة القريبة الفانية بالحياة الآخرة الباقية، فإن من أقدم على الحرب، كان كمن باع نفسه و كل ما يملك لأجل الآخرة وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن تكون مقاتلته لأجل إعلاء أمر اللّه و تنفيذ حكمه فَيُقْتَلْ يستشهد أَوْ يَغْلِبْ يظفر على الأعداء فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فهو بين إحدى الحسنيين، الاستشهاد و الجنة، أو الغلبة و الفتح.

[76] وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و تطبيق حكمه في البلاد وَ في سبيل نصرة الْمُسْتَضْعَفِينَ بإنقاذهم من براثن الحكّام الجائرين و السادة الظالمين مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الذين بقوا محصورين في أيدي الجائرين، فإنه يحق للمسلم أن يقاتل لأجل أحد هذين الأمرين، و لا يحق له أن يقاتل لأجل نشر السيطرة و الاستثمار و السيادة- كما هي العادة عند غير المسلم من المحاربين- و الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها أي المدينة التي هم فيها مما لا يجدون محيصا عنها، فلا يتمكنون من الخروج عنها لضعفهم و منع الظالمين لهم من الخروج، و لا لهم حول لدفع ظلم الظالمين عن أنفسهم وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ أي

من عندك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 507

[سورة النساء (4): الآيات 76 الى 77]

الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)

وَلِيًّا يلي أمورنا و يسير بنا بالعدل و الإحسان وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ عندك نَصِيراً ينصرنا على الظالمين.

[77] ثم شجع سبحانه المجاهدين بأنهم أقوى من أعدائهم فإن الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لمرضاته و إعلاء كلمته وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الذي هو طاغ متجاوز للحد، فإن الذين كفروا لا يريدون بقتالهم إلا الظلم و الطغيان و إبقاء الأنظمة الفاسدة و العادات و التقاليد الزائفة فَقاتِلُوا أيها المؤمنون أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ و أحبّاءه الذين يتولّونه إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ و مكره و حيلته في سبيل إبقاء أمره و تقوية جيشه كانَ ضَعِيفاً فيغلبه نصر اللّه و ولاية للمؤمنين.

و لا مجال لأن يقال: فكيف نرى غلبة الكفار في كثير من الأحيان؟ فإن الجواب: إن ذلك لعدم توفر شروط المقاتلة في المؤمنين، إذ أن اللّه سبحانه لم يعد النصر مطلقا بل مشروطا بأن يعدّوا لهم ما استطاعوا من قوة، و أن يصدقوا في الجهاد و المثابرة إلى غير ذلك، نعم مع توفر الشروط لا يفيد الأعداء جمعهم و كثرتهم، كما دلت التجارب على

ذلك و صدّق الخبر الخبر.

[78] كان المسلمون و هم بمكة يطلبون من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الإذن لهم في قتال الكفار حينما كانوا يلاقون منهم الأذى و لما جاء دور القتال في المدينة تولى بعضهم، كما هو العادة عند الناس غالبا حيث أنهم يحرّضون الرؤساء على الإقدام فلما أن أقدموا كانوا أول المنهزمين أَ لَمْ تَرَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 508

يا رسول اللّه استفهام تعجبي إِلَى المسلمين الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بمكة- و القائل هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم-: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي أمسكوها و اقبضوها عن القتال وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فإنه لا يجب عليكم الجهاد الآن، و كان النهي عن الجهاد لقلّتهم و عدم تمكنهم من مقابلة العدو، و أنهم إن قاتلوا أبيدوا و اجتثّت جذور الإسلام، بالإضافة إلى إرادة رسوخ الإيمان في قلوبهم، فإن الإنسان مهما ابتلي بالمشقات و الشدائد يصفو جوهره و تصقل نفسه فَلَمَّا أتوا إلى المدينة و كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي فرض عليهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي من هؤلاء المسلمين الذين كانوا يطلبون الإذن بالقتال يَخْشَوْنَ النَّاسَ الكفار أن يقتلوهم إذا بارزوا كَخَشْيَةِ اللَّهِ كما يخافون من اللّه سبحانه أن يميتهم أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً إذ خوف الإنسان من الموت غالبا أقل من خوفه من القتل، إذ القتل يكتنف في الأغلب بالأهوال و المرعبات بخلاف الموت.

وَ قالُوا أي قال هؤلاء الفريق: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لأي علة فرضت علينا أن نقاتل فعلا؟! لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي لماذا لم تؤخر الأمر بالقتال إلى زمان آخر قريب، حتى نستعد للحرب. فقد ورد في بعض التفاسير: أنه كان بالنسبة

إلى «حرب بدر» حيث كان بعض المسلمين يكرهون ذلك لأنهم لم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 509

[سورة النساء (4): آية 78]

أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

يستعدوا و يطلبون التأخير إلى أجل قريب ليستعدوا.

قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء: إن كان خوفكم من الحرب لأجل احتمال القتل فما فائدة البقاء في الدنيا؟ إذ مَتاعُ الدُّنْيا أي ما يستمتع به في الدنيا قَلِيلٌ الأمد يفنى بعد مدة وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى المعاصي و عمل بالواجبات وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي مقدار فتيل، و هو ما في شق النواة فإذا قتلتم، لا تهدر أتعابكم و أعمالكم.

[79] ثم لماذا الفرار من القتال، الخوف الموت؟ فإن الموت لا محالة يدرك الإنسان أَيْنَما تَكُونُوا من الأماكن يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أي يلحقكم و ينزل بكم وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ البروج جمع برج، و هو القصر أو البناء المستحكم الذي يرصد فيه للأعداء و يشرف منه على القادم و الذاهب، و ال «مشيدة» هي التي شيدت و بنيت بإحكام، أي أن الموت لا يهاب البروج و القلاع و الحصون و المراصد.

ثم وصف سبحانه حالة هؤلاء الضعاف الإيمان من المسلمين الذين قالوا: «لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ» فإن دخائل نفوسهم تتلوّن و لا تبقى في جهة واحدة و إيمان راسخ وَ ذلك لأنه إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ من نماء و زرع و بركة و تقدم في الحرب و صحة و ما أشبه يَقُولُوا هذِهِ الحسنة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإنه المتفضل

المحسن وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من غلاء و قحط و تأخر و مرض و ما أشبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 510

[سورة النساء (4): آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يا رسول اللّه، فإنه أصابنا بسببك، كما حكى اللّه سبحانه عن قدم ذلك، حيث قال سبحانه: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ «1».

قُلْ يا رسول اللّه لهم: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فهو الذي يجدب و هو الذي يخصب و هو الذي يمرض و هو الذي يشفي ... و هكذا، فليس مصدر الكوارث الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ أي ما شأن هؤلاء الضعاف الإيمان؟ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي بعداء عن فهم ما نحدّثهم به من القرآن الحكيم.

[80] و حيث تبين أن مصدر الخير و الشر هو اللّه سبحانه يبقى السؤال: ما هو سبب الشر؟ و لماذا يبتلي اللّه تعالى الإنسان بالشر، و الحال أنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير؟ و يأتي الجواب: ما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ كالزرع و الرّخص و الصحة و الغنى فَمِنَ اللَّهِ إنه يتفضل عليك بلا سبب، و إن كان قسم منها أيضا بسبب الأعمال الصالحة وَ ما أَصابَكَ أيها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ قحط و غلاء و مرض و ما أشبه فَمِنْ نَفْسِكَ فإن أعمالك الشريرة هي التي سببت ابتلاءك بالسيئات و المصائب وَ أَرْسَلْناكَ يا رسول اللّه لِلنَّاسِ رَسُولًا فمهمتك تخصّ التبليغ و لا يرتبط وجودك بالمصائب و الآفات- كما

______________________________

(1) الأعراف: 132.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 511

[سورة

النساء (4): الآيات 80 الى 81]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)

يزعم هؤلاء- بل العكس، إنك منبع الخير و مبعث الهداية و الصلاح وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي يكفي كون اللّه شاهدا على رسالتك و أنك لا ترتبط بالشرور، لا يقال: كيف يمكن إثبات أن اللّه يشهد على رسالته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أن أحدا لم يسمع من اللّه ذلك؟ الجواب: لأنا نقول: إن الشهادة التكوينية بإجراء المعجزة على يديه الكريمتين من أكبر أقسام الشهادة.

[81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ في أوامره و زواجره، التي منها أمره بالجهاد- كما سبق في بعض الآيات- فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو أمر اللّه سبحانه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَ مَنْ تَوَلَّى و أعرض عن أوامر الرسول، فلا يهمك ذلك يا رسول اللّه و لا تذهب نفسك عليهم حسرات فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عن المخالفة و التولي، كما قال تعالى في آية أخرى: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ «2».

[82] ثم حكى سبحانه حال المنافقين الذين تقدم بعض أحوالهم من أنهم يبطّئون عن الجهاد، و يقولون: لو لا أخرتنا إلى أجل قريب، و ما أصابتهم من سيئة يطيروا بالرسول وَ يَقُولُونَ هؤلاء: أمرك طاعَةٌ إنا مستعدون لتنفيذه و مستسلمون له فَإِذا بَرَزُوا أي خرجوا

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

(2) الغاشية: 22 و

23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 512

[سورة النساء (4): آية 82]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)

مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ أي قدّر ليلا طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من هؤلاء المنافقين غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ فيتشاورون بينهم بالليل ليخالفوك و ينقضوا أمرك وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ما يتواطئون عليه ليلا، من نقض أمرك، فيجازيهم على المخالفة و العصيان فَأَعْرِضْ يا رسول اللّه عَنْهُمْ فلا تؤاخذهم بأعمالهم حتى تنشق صفوف المسلمين، فإنهم إن ظهرت خباياهم شقوا الصفوف و خالفوا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فهو الذي ينصرك و يعينك في جهادك الأعداء وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فمن و كل إليه سبحانه أمره أنجزه أحسن إنجاز و أكمله أحسن إكمال.

[83] فهل يظن هؤلاء العصاة الذين يخالفون الرسول و يبيتون غير ما يقول، أن الرسول يأمر و ينهى عن نفسه، دون أن يكون كلامه من الوحي، و أن القرآن من كلامه لا من كلام اللّه سبحانه، و لذا يسهل مخالفته؟

فإن كان هذا ظنهم فهو خطأ محض، إذ القرآن الذي يقرأه الرسول إنما هو من عند اللّه، لا من كلام الرسول أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ تدبرا عميقا حتى يعرفوا أنه فوق كلام البشر و لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ حتى لو كان من عند الرسول- على عظمته- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لأن البشر مهما أوتوا من الموهبة لا بد و أن تختلف تعبيراتهم و تتفاوت أفكارهم حسب الأزمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 513

[سورة النساء (4): آية 83]

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ

وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)

و الظروف، فعدم الاختلاف في القرآن من جهة من الجهات، أدل دليل على أنه ليس من كلام البشر و إنما هو من عند إله حكيم.

[84] و يعود السياق إلى حالة هؤلاء المنافقين الذين تقدمت بعض صفاتهم، فقال سبحانه: وَ إِذا جاءَهُمْ أي جاء هؤلاء أَمْرٌ أي شي ء مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ من ظهور المؤمنين على عددهم الموجب للأمن، أو انهزام المسلمين الموجب للخوف، و نحو ذلك من كل شي ء يوجب أمنا أو خوفا أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه في الأوساط، فقد كانت الأخبار المختلفة تذاع و تنشر في المدينة لغرض الدعاية للمسلمين أو عليهم، فكان هؤلاء الضعاف الإيمان يتلقفونها فورا و يأخذون في إشاعتها، من دون نظر إلى عاقبة الأمر، و إلى أن الخبر هل هو صحيح أو لا. و من الأمور الضرورية بالنسبة إلى الحركات أن تكون أخبارها طي الدرس عند القادة، ليروا هل من الصلاح إشاعتها أم لا إذ كثيرا ما يكون الخبر مكذوبا و كثيرا ما تكون إشاعة خبر الأمن، ضد المصلحة- و لو كان صحيحا- حينما يقتضي الحال الحذر و الاستعداد، و كثيرا ما تكون إشاعة خبر الخوف ضد الصلاح- و لو كان صادقا- حينما يقتضي الحال الأمن و الأمان، لئلّا يجبن الناس عن الاستعداد و الحركة.

وَ لَوْ رَدُّوهُ أي أرجعوا ذلك الخبر الذي سمعوه إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ و المراد به الأئمة عليهم السّلام، و الذين هم معيّنون من قبل الرسول و الأئمة، فإنه لا أولي أمر إلا هؤلاء كما تقدم ذلك لَعَلِمَهُ أي: لعلم ذلك الأمر

صدقه و كذبه و كون الصلاح في نشره أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 514

[سورة النساء (4): آية 84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

كتمانه الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يستخرجونه مِنْهُمْ أي من أولي الأمر فلا يبقى الخبر مردّدا بين الصدق و الكذب، و لا بين الصلاح في إشاعته و عدمه، و لم يكن محل للظنون و الأوهام و لم ترج- بعد- الأكاذيب لأنها تحت الرقابة. و لم يقل «لعلموه» للإشارة إلى علة علمهم و أنهم بسبب استنباطهم يعلمونه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ أيها المسلمون، حيث يرشدكم إلى مواقع الزلل و مهاوي الخطأ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ في ما يلقيه عليكم مما يوجب بلبلة صفوفكم و انشطار كلمتكم إِلَّا قَلِيلًا من الذين قويت عقولهم فلا يتبعون خطوات الشيطان، حتى إذا لم يكن رسول، كما كان ذلك في زمن الجاهلية حيث أن بعضهم لم يكن يتبع الشيطان بما أوتي من قوة في العقل و سداد في الرأي فليس المراد- لو لا فضل اللّه إطلاقا- بل المراد الفضل الخاص.

[85] و عند ما بيّن القرآن سلوك القوم في الجهاد و أن اللّه هو الذي يتفضل على المؤمنين، يتوجه السياق إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: فَقاتِلْ يا أيها الرسول فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته و تنفيذ حكمه لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ فإنك لا تضرّر بفعل المنافقين و إرجافهم و ما يبدو منهم، فإنك لست مكلفا بأفعالهم و أعمالهم كما أنك لست مسئولا عن المؤمنين إلا بقدر نطاق التبليغ و الإرشاد وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي

حثّهم على القتال عَسَى اللَّهُ أي لعلّ اللّه أَنْ يَكُفَ و يمنع بسبب قتالك بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 515

[سورة النساء (4): الآيات 85 الى 86]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86)

أي شدة الكفار و قوتهم بأن يغلّبك عليهم فيعودوا خائبين وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً فأنتم بقوة اللّه و شدته تتقدمون و هو أشد من الكفار قوة وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا أي أشد من حيث العقوبة و النكال.

[86] و حيث تقدم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكلّف إلا نفسه، استدرك الأمر بأن ليس المراد بذلك أن الإنسان الوسيط لا يكون له شي ء بالنسبة إلى ما توسط فيه بل مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي يكون قد شفع صاحبه في الأمور الخيرية، و ذلك إما بالتوسط، أو بالتحريض أو بالإرشاد يَكُنْ لَهُ أي للشفيع نَصِيبٌ و حصة مِنْها أي من تلك الحسنة فإن الدال على الخير كفاعله وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً بأن توسط في الأمر السيئ أو حرّض أو دلّ على ذلك يَكُنْ لَهُ أي للشفيع كِفْلٌ أي نصيب مِنْها لأنه قد تعاون على الإثم و العدوان وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا فهو القادر في أن يعطي الشفيع نصيبا من الحسنة أو كفلا من السيئة. أو معنى المقيت: المجازي، أي يجازي على الأمرين.

[87] و قد ناسب الكلام الذي هو حول القتال و الجهاد، الكلام حول السلام و الكف عن القتال،

لتقابل الضدين بين الأمر، و يأتي الجو عاما لا يخص سلام الحرب، بل السلام المطلق، فقال سبحانه: وَ إِذا حُيِّيتُمْ أيها المسلمون بِتَحِيَّةٍ و التحية: السلام، يقال: «حيّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 516

[سورة النساء (4): الآيات 87 الى 88]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)

يحيي» إذا سلم فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي من تلك التحية. و الآية عامة تشمل كل تحية. قال في «المجمع»: «فلما أمر سبحانه بقتال المشركين عقبه بأن قال: من مال إلى السلم و أعطى ذاك من نفسه و حيّ المؤمنين بتحية فاقبلوا منه» «1». أَوْ رُدُّوها بمقدارها فإذا قال أحد لك:

«السلام عليكم» فالرد الأحسن أن تقول: «السلام عليكم و رحمة اللّه» و الرد المساوي أن تقول: «السلام عليكم» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً أي حفيظا محاسبا، فيحسب ردّكم إن كان بالأحسن أو بالمساوي ليجازيكم عليه.

[88] اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو المالك المطلق ذو الصفات الكمالية لَيَجْمَعَنَّكُمْ ببعثكم بعد الممات و يحشرنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى موقف الحساب ليجازيكم بأعمالكم فما عملتم في دنياكم من حرب و سلم أو غيرهما لا بد و أن تجازوا عليه هناك لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس محلا للريب و إن ارتاب فيه المبطلون، أو أنه بالنظر إلى الواقع ليس فيه ريب و شك، فهو أمر واقع لا محالة منه وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فحديثه صادق لا خلف فيه، و ليأتينكم يوم

القيامة و تجازون بما عملتم في الدنيا.

[89] ثم يرتد السياق إلى الجهاد و ما يتخلله من الاختلاف و الانشقاق و يذكّر

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 517

اللّه سبحانه المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يختلفوا في جهاد الكفار و المنافقين لأعذار واهية، فقال سبحانه: فَما لَكُمْ أيها المسلمون صرتم فِي الْمُنافِقِينَ أمر المنافقين فِئَتَيْنِ فئة تؤيد محاربتهم لأنهم كفار واقعا، و فئة لا تؤيد لأنهم أظهروا الإسلام في يوم ما وَ الحال أن اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي ردّهم إلى حكم الكفر بِما كَسَبُوا أي بسبب كسبهم للنفاق و الشقاق أَ تُرِيدُونَ أي هل تريدون أيها المسلمون أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي: أ تطمعون في هداية هؤلاء المرتدين، و قد أضلهم اللّه؟ و قد تقدم أن معنى إضلال اللّه تركهم و ضلالهم، بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فيتركه على كفره و ضلاله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا لإنقاذه، و كيف يمكن إنقاذه و هو معاند يتعامى عن الحق عمدا.

و

قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: «أن هذه الآية نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة، لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم: لا نفعل فإنهم مؤمنون، و قال آخرون: إنهم مشركون. فأنزل اللّه فيهم هذه الآية» «1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 143.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 518

[سورة النساء (4): آية 89]

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا

تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89)

و هذا الأمر عام دائما في كثير من الحركات فإن قسما من الذين يؤمنون لا بد و أن ينقلبوا ثم يختلف فيهم الباقون، هل أنهم خارجون حقيقة أم لا، و الآية تبين وجوب وحدة الصف أمام هؤلاء بعد ما ظهر منهم الارتداد. ثم لا يخفى أن تعبير الآية بالمنافقين لا يدل على أنهم لم يكفروا إذ النفاق أعم من الكفر، و من المحتمل أن الآية تريد بيان وجوب وحدة الصف أمام المنافقين، حتى يكون التجنب عنهم عاما و ليقروا بالعزلة، و هذا أقرب إلى ظاهر الآية بمناسبة ما سبق من أحكام المنافقين كما أن صريح الرواية و ظاهر الآية اللاحقة «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» يدل على المعنى الأول، و أنه أريد بالنفاق الكفر.

[90] وَدُّوا أي أحبّ هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا عن الإسلام و أظهروا الشرك لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم أيها المسلمون كَما كَفَرُوا هم فَتَكُونُونَ سَواءً في الكفر و مثل هؤلاء لا ينبغي أن ينقسم المسلمون بالنسبة إليهم قسمين فَلا تَتَّخِذُوا أيها المسلمون مِنْهُمْ أَوْلِياءَ أحبّاء و أخلاء، فإن المسلم لا يصادق الكافر كما قال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «1» حَتَّى يُهاجِرُوا من دار الكفر إلى دار السلام فِي سَبِيلِ اللَّهِ و ذلك يلازم الإيمان، إذ الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عن الإيمان الملازم للهجرة

______________________________

(1) المجادلة: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 519

[سورة النساء (4): آية 90]

إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ

وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي أينما أصبتموهم من حلّ أو حرم، و لا إشكال في محاربة الجاني في الحرم، أو المراد أينما كانوا من الأرض وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا أي صديقا خليلا وَ لا نَصِيراً أي ناصرا ينصركم على أعدائكم، فإن الكافر لا ينصر المسلم و لو نصره في الظاهر فإنه لا يؤمن شره.

[91] ثم استثنى سبحانه عن وجوب مقاتلة هؤلاء من كان داخلا في حلف قوم بينهم و بين المسلمين معاهدة، فإن دخوله في ذلك الحلف يحقن دمه، و من لا يريد محاربة المسلمين و إنما يريد معاهدتهم، فقال سبحانه- مستثنيا من قوله «فخذوهم ..»-: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ أي لهم مواصلة و أحلاف مع قوم بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ أي بين أولئك القوم مِيثاقٌ و

في الحديث: «أن هلال بن عويمر السلمي واثق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يتعرض هو لأحد أتاه من المسلمين، و لا يتعرض الرسول لمن أتى هلال بن عويمر. فأنزل اللّه هذه الآية ناهيا أن يمس من يأتي هلال من الكفار بسوء» «1».

أَوْ الذين جاؤُكُمْ أي أتوا إليكم أيها المسلمون حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت صدورهم- و السبب أن من يهمه أمر تنتفخ رئته لتجلب أكبر قدر من الهواء، ليرفّه على القلب الذي حمي بواسطة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 145.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 520

غليان الدم، فيضيق الصدر لتوسع الرئة- أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي تضيق صدورهم من قتالكم و قتال قومهم فلا يكونون لكم و لا عليكم.

و

في «المجمع»، قال: «إنما عنى به بني أشجع، فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة

يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمال التمر ضيافة، و قال: نعم الشي ء الهدية أمام الحاجة و قال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: لقرب ديارنا منك، و كرهنا حربك و حرب قومنا- يعنون بني حمزة الذين بينهم و بينهم عهد- لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعك، فقبل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك منهم و وادعهم فرجعوا إلى بلادهم» «1».

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ أي سلط هؤلاء الكفار عَلَيْكُمْ بأن لم يلق في قلوبهم رعبكم أيها المسلمون حتى يخافوكم فيسالموكم، فقد كان هذا من فضل اللّه سبحانه أن يجعلكم محل هيبة و منعة، مع أن عددكم و عددكم لا يقتضيان ذلك، و لو لم يلطف بكم فَلَقاتَلُوكُمْ لكن حيث أنعم اللّه عليكم بذلك فلا تمدوا إليهم يد المحاربة فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ هؤلاء الذين ذكروا و هم «الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ..» أو «جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..» فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ أيها المسلمون السَّلَمَ يعني صالحوكم و استسلموا لكم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 153.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 521

[سورة النساء (4): آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فلا تباح دماؤهم، و لا أموالهم، و لا أعراضهم.

و ما في بعض التفاسير من أن الآية منسوخة، لم يظهر وجهه، إذ الجملة الأولى لا تقبل النسخ فإن المعاهدات تبقى إلى أمدها، و الجملة الثانية في مورد خاص، و مثله لا

يقبل النسخ.

[92] سَتَجِدُونَ أيها المسلمون جماعة آخَرِينَ ممن يبطنون الكفر و يظهرون الإسلام يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أي يأمنوا من طرفكم وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ أي يأمنوا من طرف قومهم الكافرين، و هؤلاء كُلَّما أتوكم أظهروا الإسلام و إذا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ بأن رجعوا إلى قومهم و دعوهم إلى الكفر- و هو المراد بالفتنة هنا- أُرْكِسُوا فِيها أي وقعوا فيها و ارتدوا عن إسلامهم و الإسلام لا يعترف بهكذا أناس، فإن مثلهم خطرون على سلامة المسلمين فلا بد و أن يحدد هؤلاء موقفهم، إما أن يعلنوا سلمهم العام و اعتزالهم- حياديا- عن المشاركة في التحركات ضد المسلمين، و لا يشتركوا في حرب عليهم، فهم في أمان من جانب الدولة الإسلامية، و إما أن يحاربهم المسلمون كسائر الكفار، لا فضل لهم و لا حرمة فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي لم يعتزل هؤلاء الكفار عن المؤمنين وَ لم يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ بأن يسالموكم و يصالحوكم وَ لم يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 522

[سورة النساء (4): آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

بأن لا يشاركوا في حرب و تحرك ضدكم فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم، و لا تراعوا نفاقهم في إظهارهم الإسلام إذا جاءوكم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي أينما وجدتموهم وَ أُولئِكُمْ أي هؤلاء المذبذبون جَعَلْنا

لَكُمْ أيها المسلمون عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي برهانا واضحا، فإنه لا وسط بين الحرب و الحياد، فإن أخذوا جانب الحياد فهو، و إلا فالحرب حالهم حال سائر الكفار.

و من المحتمل أن لا يكون المراد من «يأمنوكم» إظهارهم الإسلام، بل إظهارهم الموادعة و المسالمة، و سوق الآية إلى آخرها- على هذا المعنى واضح- و هذا هو الذي يؤيده

ما في بعض التفاسير من «أن الآية نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الذي سماه رسول اللّه الأحمق المطاع».

و على هذا يكون الفرق بينه و بين ما تقدم في قوله سبحانه: «أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» أن الأولين جاءوا بحسن نية و صدق طوية، بخلاف هؤلاء حيث جاءوا نفاقا و مكرا، فقبل من أولئك دون هؤلاء.

[93] هذا ما كان حول معارك المسلمين مع غيرهم، و حكم إراقة الدماء بالنسبة إلى الطرفين. أما المسلمون بعضهم مع بعض فلا يحق لأحد أن يريق قطرة من دم أحد وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 523

الاستثناء منقطع، أي لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا أن يخطأ في قتله، كما لو أراد قتل حيوان فأخطأ و أصاب الرمي مؤمنا، أو نحو ذلك وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فعليه أن يكفّر عن خطأ ب تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي أن يعتق إنسانا عبدا مؤمنا، و يقال للعبد: رقبة، بعلاقة الجزء و الكل، من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، كما يقال للجاسوس: عين. وَ عليه دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدية من

«ودى يدي»، أي أعطى المال المقابل للدم، و يجب أن تكون «مسلمة» أي يسلمها إلى أهل المقتول كاملة غير منقوصة، و المراد بكون الدية عليه، وجوب الدية في الجملة، لا أنها عليه بالذات، فإنها في الخطأ على «العاقلة» و هذه الدية تقسم بين أولياء المقتول إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلم يأخذوها منه، و لا يخفى أن أصل «يصدقوا» يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما على ما هو المعروف في باب التفعّل.

فَإِنْ كانَ المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي كان من طائفة هم أعداء للمسلمين، بأن كانوا كفارا محاربين وَ هُوَ أي القتيل مُؤْمِنٌ و كان قتله له خطأ- كما يقتضيه العطف على الجملة الأولى- فعلى قاتله كفارة هي تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أما الدية فلا تجب إذ ليس للمقتول أهل مسلمون. و من المعلوم أن الحربي لا يرث المسلم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 524

[سورة النساء (4): آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

وَ إِنْ كانَ المقتول كافرا ليس بمسلم و لكنه كان مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ و معاهدة و قتله المسلم خطأ فعلى القاتل دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي أهل المقتول وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ و ذلك لأنه لا يجوز قتل المعاهد كما لا يجوز قتل المؤمن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ العبد و لا ثمنه فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي متواليين فلا يصح التفريق في أيام الشهرين، لكن إذا صام شهرا و يوما كفاه في التتابع، و جاز أن يصوم البقية بعد زمان غير متصل بالأول تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرع

ذلك في القتل لأجل التوبة و الرجوع من اللّه سبحانه على العبد القاتل، و القاتل و إن كان مخطئا مما يوجب عدم الذنب عليه، إلا أن بعده الطبيعي بسبب هذا العمل القبيح يعدّ ذنبا، فإن بعض الأعمال لها آثار وضعية، كمن شرب الخمر جهلا، فإنه يسكر و تصيبه الأمراض الملازمة للخمر وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً يعلم مصالحكم حَكِيماً فيما يأمر و ينهى.

[94] قد تقدم حكم القتل الخطأ وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ظاهر الآية أن القتل وقع عمدا مقابل قتل الخطأ فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أبد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 525

[سورة النساء (4): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

الآبدين، إلا أن تدركه شفاعة أو عفو، و هذا الاستثناء بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ و المراد في مثل هذه الصفات نتائجها، و إلا فالله سبحانه ليس محلّا للحوادث وَ لَعَنَهُ أي طرده عن رحمته وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً و في آية أخرى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «2».

[95] ثم أشار القرآن الحكيم إلى بعض الاحتياطات اللازمة على المجاهدين، لئلّا يقتلوا مسلما خطأ، و ذلك إثر وقوع حادثة و هي

أن أسامة بن زيد و أصحابه بعثهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سرية فلقوا رجلا قد انحاز بغنم له

إلى الجبل و كان قد أسلم فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أسامة فقتله و استاقوا غنمه، فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره بذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أ فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت و لا ما في نفسه علمت» «3»،

و نزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي خرجتم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، فإن الضرب بمعنى السفر، لأن المسافر يضرب برجله الأرض فَتَبَيَّنُوا أي ميزوا بين الكافر و المؤمن ليكون أمركم واضحا مبينا و لا تفعلوا شيئا بدون التثبّت و التبيّن و التأني وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ

______________________________

(1) النساء: 49.

(2) المائدة: 33.

(3) بحار الأنوار: ج 65 ص 234.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 526

[سورة النساء (4): آية 95]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)

أي حياكم بتحية الإسلام و أظهر لكم أنه مسلم و اعتزلكم فلم يقاتلكم: لَسْتَ مُؤْمِناً حقيقة و إنما إيمانك صرف لقلقة لسان خوفا من القتل تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي هل تطلبون الغنيمة و المال، حيث تنكرون إسلام من ألقى إليكم السلام؟ فيكون الكلام على الاستفهام التوبيخي، أي لماذا تقتلون مظهر الإسلام لغنيمته الزائلة التي هي عرض الحياة الدنيا؟ أو أن الاستفهام ليس توبيخيا بل على ظاهره، أي إن كنتم تطلبون المال فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ جمع

«مغنم» و هي الغنيمة في الدنيا بما ستحوزونه من الكفار، و في الآخرة، و فسرت الغنيمة لغة بأنها الفائدة كَذلِكَ الذي ألقى إليكم السلام كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فإنكم كنتم كفارا كما كان هو كذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن هداكم إلى الإيمان، فكما لم يصح لأحد أن يقول: إن إيمانكم عن خوف، كذلك لم يصح لكم أن تقولوا: إن إيمان من ألقى إليكم السلام عن خوف، و إذا علمتم خطإكم في هذه المرة فَتَبَيَّنُوا من بعد. و قد كرّر اللفظ تأكيدا، و لكي يقع الكلام موقع القبول بعد قيام الحجة، فكان «تبينوا» في الأول مجرد أمر و «تبينوا» هنا بعد الدليل و البرهان على لزوم التبيّن عقلا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فهو يعلم أعمالكم و بواعثها، فراقبوا اللّه في كل عمل تقومون به.

[96] ثم يأتي السياق ليبين فضل المجاهدين تحريضا على الجهاد و تحفيزا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 527

للقاعدين على النهوض لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يقعدون في محلّهم و لا ينهضون لمقاتلة الأعداء غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ يعني القاعدين الذين ليس بهم ضرر يمنعهم عن الجهاد كالأعمى و الأعرج و نحوهما، أما من بهم ضرر فهم معذورون ليس عليهم حرج. و لعل المفهوم من الآية أن من به ضرر، و كان مستعدا نفسيا أن يجاهد لو لا الضرر، كان له أجر المجاهدين حسب

الحديث المأثور: «نية المؤمن خير من عمله» «1».

و عليه فإن هؤلاء القاعدون لا يستوون وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ بأن أنفقوا أموالهم للجهاد و قدموا أنفسهم للقاء الكفار في سبيل إعلاء كلمة الإسلام. و سمي الجهاد جهادا لما يستلزمه من الجهد و المشقة، فإن في بذل

المال و النفس أعظم المشقات فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً إذ المجاهد يفضل على القاعد بالجهاد، و لكن لكلّ منهما فضل الإيمان و الصلاة و الصيام و سائر شرائع الإسلام وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المجاهد و القاعد، فإن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، و لذا فكلاهما موعود بالصفة الحسنى من الخير و السعادة و إن كان المجاهد أفضل.

______________________________

(1) الكافي: ج 2 ص 84.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 528

[سورة النساء (4): آية 96]

دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

و في تفسير «الأصفى» ورد: «لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، و هم الذين صحت نياتهم و نضجت جيوبهم و هوت أفئدتهم إلى الجهاد، و قد منعهم من المسير ضرر أو غير ضرر». أقول: كان هذا في غزوة تبوك.

وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً

فقد ورد: «إن فوق كل برّ برّ إلا الجهاد في سبيل اللّه» «1»

، كما

ورد: «إن الأجر على قدر المشقة»

«2»، و

ورد: «ما أعمال البر كلها ... إلا كنفثة في بحر لجي»

«3» و كان قوله «أجرا عظيما» لدفع و هم ربما يتوهم من قوله «درجة» فيقال: أنه لا فرق بين المجاهد و القاعد إلا درجة، فيقال في الجواب: أنه لا أهمية للدرجة في مقابل تعب الجهاد و مشقته فقد جعل اللّه له أجرا عظيما.

[97] ثم بيّن سبحانه الأجر العظيم بقوله: ذلك الأجر هو دَرَجاتٍ مِنْهُ أي من قبل اللّه سبحانه، و هذا تعظيم للأمر، فإن الدرجة لو كانت من غيره لكانت هينة، إذ الدنيا عرض زائل أما التي منه

سبحانه فإنها شي ء عظيم باق. و

في الحديث «إن اللّه فضل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر».

«4» وَ مَغْفِرَةً أي غفرانا لذنوب المجاهد وَ رَحْمَةً أي يرحم اللّه

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 71 ص 83.

(2) بحار الأنوار: ج 70 ص 275.

(3) نهج البلاغة: حكمة رقم 373.

(4) كنز الدقائق: ج 2 ص 583.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 529

[سورة النساء (4): آية 97]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97)

المجاهد بإعطائه النعم الكثيرة وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيغفر للمجاهد ذنوبه السابقة و يرحمه برحمته الواسعة. قال البعض: إن المراد بالدرجة الأولى علو المنزلة، كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، و أراد بالثانية الدرجات في الجنة التي بها يتفاضل المؤمنون.

[98] ثم يأتي السياق إلى طائفة أخرى من القاعدين الذين لم يعدهم اللّه الحسنى، بل وعدهم العذاب لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم و سلبهم حقوقهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تقبض الملائكة أرواحهم، فإن لملك الموت أعوانا، كما ورد في السنة، و دلت عليه هذه الآية ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي في حال كونهم ظالمين لأنفسهم، لأنهم بقوا في دار الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب و يمنعوهم من الإيمان بالله و الرسول، و قد كان بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان و يؤمنوا. و لعل الآية أعم منهم و من المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر و لا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام و العمل بما أوجبه اللّه سبحانه قالُوا أي قالت

الملائكة لهم عند قبض أرواحهم: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شي ء كنتم من أمر دينكم، و هو استفهام تقريري توبيخي قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن، أو لا يتركوننا نعمل بالإسلام قالُوا أي قالت الملائكة لهم: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها حتى تخرجوا من سلطة الكفار، و تتمكنوا من العمل بالإسلام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 530

[سورة النساء (4): الآيات 98 الى 99]

إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)

و بشرائعه. فَأُولئِكَ الذين سبق وصفهم مَأْواهُمْ مرجعهم و محلهم جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً أي أنها مصير سيئ لعذابها و أهوالها.

[99] ثم استثنى سبحانه من هؤلاء من لا يتمكن من المهاجرة فإنه ليس مكلفا، و إنما أمره إلى اللّه تعالى إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الذين استضعفهم الكفار في بلادهم مِنَ الرِّجالِ العجزة وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ و هاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار و الهجرة لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي علاجا لأمرهم و فكّا لأنفسهم من سلطة المشركين وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا للفرار و الهجرة.

[100] فَأُولئِكَ العاجزون من المستضعفين عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي لعلّ اللّه سبحانه يغفر لهم ذنبهم، و دخول «عسى» في مثل هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد اللّه سبحانه، و أنه كان قادرا أن يأمرهم بما يحرجهم من وجوب خروجهم و إظهار دينهم، و إن بلغ بهم الأمر ما بلغ، و لا يقال: إن كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يعفى عن الكفر؟ لأن الدليل العقلي و النقلي قد دلّ على

امتحان الضعفاء و العجزة و البله و من إليهم في الآخرة، و ذلك بخلاف الكافر المعاند الذي مصيره النار حتما وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا يعفو عمن يشاء غَفُوراً يغفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 531

[سورة النساء (4): آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

الذنوب. و لعلّ الفرق بين العفو و الغفران: أن العفو غفران بلا ستر، و الغفران عفو مع الستر، فإن عدم العقاب لا يلازم الستر.

[101] و قد يمنع عن الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محلّه الجديد ما يلائم مسكنه و مكسبه، و لكنه ليس إلا توهما، فإن الأرض واسعة و الكسب ممكن في كل مكان وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأمره سبحانه و من أجله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً «المراغم» مصدر بمعنى «المتحوّل» و أصله من الرغام و هو التراب وَ سَعَةً أي في الكسب و سائر شؤون الحياة وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً يهجر وطنه و محله، و ينقطع عنه إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ و الهجرة إلى اللّه بمعنى: إلى محل أمره، و الهجرة إلى الرسول إما حقيقية كما في زمان حياته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إما مجازية كما إذا هاجر إلى بلاد الإسلام حسب أمر الرسول ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي يموت في طريقه فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ لأنه خرج في سبيله و حسب أمره فأجره و ثوابه عليه سبحانه وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ذنوب المهاجر رَحِيماً يرحمه بإعطائه الثواب.

و

في الحديث «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، و كان رفيق إبراهيم و محمد عليهما السّلام»

«1».

و قد ورد في بعض التفاسير: أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19، ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 532

[سورة النساء (4): آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)

نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى «جندب بن حمزة» فقال: و اللّه ما أنا مما استثنى اللّه إني لأجد قوة، و إني لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكة حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية «1».

[102] و لما أمر سبحانه بالجهاد و الهجرة، بيّن كيفية الصلاة في السفر و الخوف إشفاقا على الأمة و رحمة بهم و تفضلا عليهم، و الآية و إن كانت ظاهرة في الخوف فقط لأنه سبحانه قال: «إن خفتم» لكن القيد على الغالب في ذلك الزمان عند نزول الآية، و إنما الاعتبار بالضرب في الأرض، و قد، كثر في القرآن الحكيم «القيد الغالبي» كقوله تعالى:

وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ «2» مع أن كونهن «في حجوركم» ليس بشرط، و كقوله: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «3» و غيرهما.

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ أي سافرتم أيها المسلمون فِي الْأَرْضِ و من المعلوم أن السفر مشروط بأمور أخرى مذكورة في الكتب الفقهية فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ليس

لفظ «ليس عليكم جناح» للإباحة كما هو الظاهر منه، بل في مقام دفع توهم «الحضر»، كقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «4» فقد كان التمام واجبا، و في السفر، حيث يتوهم بقاؤه على الوجوب،

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 171.

(2) النساء: 24.

(3) النور: 34.

(4) البقرة: 159.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 533

[سورة النساء (4): آية 102]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)

نفى سبحانه وجوبه و أجاز القصر، و ذلك لا ينافي وجوب القصر، على ما دل الدليل عليه، و المراد بالقصر تنصيف الرباعية بأن يصلي الظهر و العصر و العشاء ركعتين، فإذا تشهد التشهد الوسط سلم و لم يقم للركعتين الباقيتين، أما الصبح و المغرب فتبقيان على ما كانتا عليه إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي خفتم فتنة الذين كفروا، و الفتنة:

العذاب و القتل و ما أشبه، فإنهم إذا أرادوا الصلاة أربعا، طال الأمد عليهم و أمكن أن يهجم عليهم الكفار و يعذبوهم أو يقتلوهم، فمنّ اللّه عليهم بالقصر ليقل الأمد و لا يبقى للكفار- في ساحة الحرب- مهلة ينتهزونها للهجوم. و لصلاة السفر و الخوف و المطاردة تفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا ليس معنى «كان» الماضي، بل مجرد الربط كما في

مثل: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا «1» و ما أشبهها لَكُمْ أيها المسلمون عَدُوًّا مُبِيناً أي واضحا لظهور عداوتهم للمسلمين، فإذا لم تقصروا من الصلاة انتهزوا مدة انشغالكم بها فرصة للعدو أن يفتنكم.

[103] ثم بيّن سبحانه صلاة الخوف إذا أرادوا أن يصلوها جماعة فإن المجاهدين ينقسمون إلى طائفتين، طائفة تقتدي بالإمام، و طائفة تبقى في الميدان، فإذا سجد الإمام السجدتين من الركعة الأولى، تقوم الطائفة المقتدية للركعة الثانية و تأتي بها فرادى و تتشهد و تسلم و الإمام بعد

______________________________

(1) النساء: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 534

لم يركع، فتذهب هذه الطائفة إلى الميدان و تأتي الطائفة الثانية و تقتدي بالإمام في الركعة الثانية، حتى إذا جلس الإمام للتشهد قامت و أتت بالركعة الثانية فرادى و لحقت بالإمام في التشهد و أتمت الصلاة معه فتطول صلاة الإمام بمقدار صلاتيهما وَ إِذا كُنْتَ يا رسول اللّه فِيهِمْ فيمن ضرب في الأرض لأجل الجهاد- و من المعلوم أن الحكم لا يخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل هذا عام لكل إمام في المجاهدين يريدون الصلاة جماعة- فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقتدون بك في الصلاة، و تقوم طائفة ثانية من المجاهدين في وجه العدو وَ لْيَأْخُذُوا أي الطائفة الذين يصلون معك أَسْلِحَتَهُمْ لئلا يستسهل أمرهم العدو فيهجم عليهم، و يكونون عزلا فيحرج موقفهم. و قد استثنى من كراهية حمل السلاح في الصلاة هذا الموضع، و لم يبين أخذ الطائفة المقاتلة أسلحتهم لوضوح ذلك. فَإِذا سَجَدُوا و قمت أنت للركعة الثانية، أتموا صلاتهم فرادى و ذهبوا مكان الطائفة المقاتلة، و هذا هو المراد بقوله سبحانه: فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ و إنما قال بصيغة الجمع و لم

يقل: «من ورائك» باعتبار صلاة الطائفة الثانية مع الإمام، و هذا لا ينافي قوله بعد ذلك «وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى إذ المراد كونهم وراء المصلين باعتبار الأول وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا و هم الذين كانوا في الميدان فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 535

ليكونوا حذرين متأهبين للقتال آخذين أسلحتهم، و لعل إضافة كلمة «حذرهم» هنا بخلاف الجملة الأولى، أن هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى، لأنه بمجرد الانقسام إلى طائفتين و انسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر، و لذا لا يأخذ استعداده الكامل للهجوم- بظن كون الجميع في حال القتال- بخلاف الأمر إذا طال الأمد و تبين الأمر، و أن قسما من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب لأجل الصلاة. و إنما حكم بانقسام الجيش طائفتين لما بينه سبحانه بقوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من المحاربين لكم، أي تمنوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ فلا تحملوها وَ أَمْتِعَتِكُمْ فتبتعدون عنها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي يحملون عليكم حملة واحدة و أنتم متشاغلون بأجمعكم بالصلاة فيقضون عليكم قضاء مبرما حيث أصابوكم على غرّة بلا سلاح يقيكم و لا متاع يمدكم، و لذا فقد أمروا بأن ينقسموا طائفتين حالة الصلاة و يحملوا أسلحتهم و هم في الصلاة وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا حرج و لا إيجاب لحمل السلاح إِنْ كانَ بِكُمْ أيها المجاهدون الذين تريدون الصلاة جماعة أَذىً و صعوبة مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ فلا تحملوها في حال الصلاة للاستراحة بقدر الصلاة من ثقل السلاح، أما المريض فواضح أذية السلاح له، و أما المطر فلأن هطوله

يثقل على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 536

[سورة النساء (4): آية 103]

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)

الإنسان، فإذا اجتمع مع السلاح كان أثقل و أتعب و هكذا بالنسبة إلى حمل الدرع الموحل حال السجود و نحو ذلك وَ لكن إذا وضعتم سلاحكم لجهة الأذى ف خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترسوا عن هجوم الكفار حتى إذا هاجموكم تكونون على استعداد لا أن تكونوا غافلين إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ أي هيأ لهم عَذاباً مُهِيناً أي يذلهم، عذابا في الدنيا بأيديكم و في الآخرة بالنار و الجحيم.

قال في «المجمع»: و في الآية دلالة على صدق النبي و صحة نبوته و ذلك أنها نزلت و النبي بعسفان و المشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه يعنون صلاة العصر، فأنزل اللّه عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة خوف «1».

[104] فَإِذا قَضَيْتُمُ أي أديتم أيها المجاهدون الصَّلاةَ المأتى بها على نحو الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً أي في حال كونكم قائمين و قاعدين، و هما جمعان ل «قائم و قاعد» وَ عَلى جُنُوبِكُمْ أي في حال الاضطجاع فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ و ذهب الخوف فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ كاملة بحدودها و شروطها

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 177.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 537

[سورة النساء (4): آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أي كتبت كتابا، بمعنى فرضت فريضة مَوْقُوتاً أي ذات وقت محدد لأدائها.

[105] ثم كرر سبحانه الحث على لزوم الجهاد فقال: وَ لا تَهِنُوا من «وهن يهن» بمعنى ضعف، أي لا تضعفوا و لا تكاسلوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي طلب الكفار و محاربتهم إِنْ تَكُونُوا أنتم أيها المسلمون تَأْلَمُونَ مما ينالكم من الجرح و المشقة في الحرب فَإِنَّهُمْ أي القوم الكفار يَأْلَمُونَ مما ينالهم من الجرح و المشقة كَما تَأْلَمُونَ فكلاكما سواء في التألم وَ تَرْجُونَ أنتم أيها المؤمنون مِنَ اللَّهِ أي من قبل اللّه سبحانه الفتح و الظفر و الثواب ما لا يَرْجُونَ هم، فأنتم أولى و أحرى أن تطلبوهم و تجدّوا في قتالهم من أولئك، حيث ليس لهم وعد بالنصر و لا بالثواب وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بكم فأنتم بعلم اللّه سبحانه- كما تعتقدون- و هم و إن كانوا بعلم اللّه لكنهم لا يعتقدون بذلك حَكِيماً فأوامره و نواهيه عن تدبير و تقدير.

و

ورد أن المسلمين قالوا يوم أحد للمشركين: لا سواء، قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: نحن لنا العزى و لا عزى لكم، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للمسلمين: قولوا اللّه أعلى و أجل.

و

روى القمي أن الآية نزلت بعد رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من واقعة أحد، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما رجع إلى المدينة نزل جبرائيل عليه السّلام فقال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 538

[سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ

اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

يا محمد إن اللّه يأمرك أن تخرج في أثر القوم و لا يخرج معك إلا من به جراحة، فأقبلوا يضمدون جراحاتهم و يداوونها فخرجوا على ما بهم من الألم و الجراح

«1».

[106] و بعد ذكر جملة من الأحكام المتعلقة بالحرب و الجهاد يرجع السياق إلى ما تقدم من لزوم العدل في الحكم كما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «2» فإن الجهاد لم يشرع إلا للعدل، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعث إلا لإقامة العدل إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ بِالْحَقِ أي إنزالا مقارنا بكونه بالحق فإن الإنزال قد يكون بالباطل إذا كان من غير المستحق، أو إلى غير المستحق، و بما هو باطل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ من الشريعة العادلة وَ لا تَكُنْ يا رسول اللّه لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي لأجل الخائنين خصيما على الأبرياء بمعنى لا تأخذ جانب الخائن على البري ء فتعطي الحكم للمجرم.

[107] وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي اطلب غفرانه، و هذا تنبيه للأمة حيث يريدون القضاء، فإن القضاء يحتاج إلى ستر اللّه سبحانه حتى لا يزل القاضي إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يستر العيوب و يرحم المسترحم.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 124.

(2) النساء: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 539

[سورة النساء (4): آية 107]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)

و قد ورد في سبب نزول هاتين الآيتين و ما بعدهما ما مجملة: أن بني أبيرق المسمون بشيرا و مبشرا و بشرا و كانوا منافقين نقبوا على عم قتادة بن

النعمان فأخرجوا طعاما و سيفا و درعا، فشكا قتادة ذلك إلى مؤمنا فخرج عليهم بالسيف، و قال: أ ترمونني بالسرقة و أنتم أولى بها مني و أنتم المنافقون تهجون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنسبون الهجاء إلى قريش، فداروه، ثم جاء رجل من رهط بني أبيرق و كان منطقيا بليغا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إن قتادة عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرقة، فاغتم رسول اللّه و عاتب قتادة عتابا شديدا فاغتم قتادة و كان بدريا. فنزلت الآيات تبرّئ قتادة و تدين بني أبيرق، فبلغ بشير ما نزل فيه من القرآن- و أنه الخائن- فهرب إلى مكة و ارتد كافرا

«1».

[108] وَ لا تُجادِلْ يا رسول اللّه، و كون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة إذ النواهي تتوجه إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما تتوجه إلى سائر المسلمين، و الأوامر تعنيه كما تعني غيره عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ اختان بمعنى خان، أي لا تخاصم عن طرف الخائنين الذين يخونون أَنْفُسَهُمْ فإن الإنسان إذا صرف نفسه في المعصية فقد خانها، لأنها وديعة يجب أن ترد، و ردّها بصرفها في الطاعة شيئا فشيئا حتى ينتهي الأمد و يأتي الأجل إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً هو «فعّال» من الخيانة أَثِيماً أي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 74.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 540

[سورة النساء (4): الآيات 108 الى 109]

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ

هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

عاصيا، و معنى «لا يحب» يكره، لأنه لا واسطة، فالعاصي مكروه و المطيع محبوب.

[109] يَسْتَخْفُونَ من «استخفى» بمعنى كتم، أي يكتمون أعمالهم السيئة مِنَ النَّاسِ فإن السرّاق في قصة ابن أبيرق كانوا يكتمون عملهم من الناس خوف الفضيحة وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي لا يكتمون عملهم الإجرامي من اللّه، و معنى الاستخفاء من اللّه عدم العمل، لا العمل مكتوما عنه، إذ لا يخفى عليه سبحانه خافية، و إنما جاءت لفظة يستخفون للمقابلة نحو: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1» وَ هُوَ مَعَهُمْ أي و الحال أن اللّه تعالى معهم بالإحاطة و العلم فهو يعلم أقوالهم و أعمالهم إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ فإن أبناء أبيرق دبروا بالليل أقوالا و طبخوها ليتظاهروا بتلك الأقوال عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فهو مطلع على أقوالهم محيط بأعمالهم، و معنى الإحاطة: العلم الشامل بحيث لا يفوته شي ء كالمحيط بالشي ء الذي لا يخرج منه جانب من جوانب الشي ء المحاط.

[110] ها أَنْتُمْ «ها» للتنبيه هنا و في هؤلاء هؤُلاءِ أي أنتم الذين دافعتم و جادَلْتُمْ عَنْهُمْ أي عن أولئك المجرمين الذين سرقوا

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 541

[سورة النساء (4): الآيات 110 الى 111]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا هنا حيث يمكن الإخفاء و

المجادلة بما يظن الناس أنه حق و هو في الواقع باطل فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ استفهام إنكاري، أي ليس هنالك من يجادل عنهم في محضر عدل اللّه سبحانه الذي يطلع على السرائر و الواقعيات أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يتوكل عنهم في إنقاذهم من عملهم الذي صنعوه خفية.

و الاستفهام في معنى الإنكار، أي ليس هناك وكيلا يدافع عنهم، و لعل الفرق بين «من يجادل» و «من يكون» أن المجادل لا يلزم أن يكون وكيلا فقد يوكل الإنسان من يدافع عنه، و قد يدافع عنه شخص تبرعا.

[111] ثم بيّن سبحانه أن لا يأس من روح اللّه، و أن الآثم لا يظن أنه قد انقطعت الصلة، بل باب التوبة مفتوح وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً بإتيان معصية تتعداه إلى غيره كالزنا و السرقة أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بمعصية لا تتعداه، كشرب الخمر و ترك الصلاة. و من المعلوم أن كل ظلم للنفس و كل سوء ظلم، لكن حيث تقابلا في التعبير فرقنا بينهما بما لعله المستفاد من السياق ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يطلب غفرانه بما أمر من التوبة و التدارك، إن كان للعصيان له تدارك يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ذنبه و يتفضل عليه بالرحمة و المنّ.

[112] وَ لا يظن الآثم أنه أضر الغير و ربح نفسه، بل بالعكس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 542

[سورة النساء (4): الآيات 112 الى 113]

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ

وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

فإنه مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ إذ كل خير يفعله الإنسان يعود إلى نفسه، و كل عصيان يأتي به يعود إلى نفسه، و إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بما يكسبه الإنسان حَكِيماً في عقابه و ثوابه يضع الأشياء مواضعها، فلا يظن أحد أنه يعصي ثم يفرّ من عدل اللّه، أو أنه ما الفائدة من الخير الذي لا يعود نفعه إليه؟ إنه سبحانه حكيم، و قد تقدم أن الحكمة وضع الأشياء مواضعها.

[113] وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً لعلّ الفرق بينهما كون الأول لا عن عمد، و الثاني عن عمد، و هذا الفرق إنما هو في المقام حيث تقابلا، و إلا فالخطيئة تطلق على كل إثم. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً من «رمى يرمي» أي ينسب ذنبه إلى إنسان بري ء، كما سبق في قصة ابن أبيرق فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً أي إثم البهتان، و هو رمي الناس بالذنب كذبا وَ إِثْماً مُبِيناً أي معصية واضحة، فهو يتحمل إثمين إثم العمل و إثم البهتان.

و هذا لا ينافي ما احتملنا في الخطيئة إذ الخطأ ينقلب إثما إذا تمادى الإنسان في توابعه، و لم يتداركه.

[114] في بعض التفاسير: أن وفدا من ثقيف قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا، و على أن نمتّع بالعزى سنة. فلم يقبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طلبهم، و إنما قبل منهم

______________________________

(1) الطور: 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 543

الإسلام بجميع شرائطه «1»، فأنزل اللّه سبحانه: وَ

لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ بتأييدك من لدنه و تثبيتك على الصحيح الحق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي قصدت و أضمرت جماعة من هؤلاء- و الضمير عائد إلى المقدّر، نحو: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ «2»- أَنْ يُضِلُّوكَ بأن تجيز لهم ما أرادوا. و قيل إن الآية من تتمة قصة ابن أبيرق و ما أراده المزكي من تزكية السرّاق و إلقاء التهمة على البري ء.

وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ وبال كلامهم يعود إلى أنفسهم فهم يزيلون أنفسهم عن الحق و يهلكونها، لا أنهم يزيلونك و يهلكونك، ثم المراد بقوله «لو لا» نفي تأثير ما همّ به أولئك في الرسول لا نفي همّهم، فالمراد: أنه لو لا فضل اللّه لأضلوك، لا أن المراد: لو لا فضل اللّه لهمت طائفة .. وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ فإنهم لا يضرونك- بكيدهم- في الدنيا لأن اللّه ناصرك، و لا في الآخرة وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ أي علم وضع الأشياء مواضعها و تقدير الأشياء بأقدارها، فأنت العالم بالأشياء الحكيم في التطبيق، فكيف يمكن إضلالك- كما همّ أولئك- فإن الإضلال يحصل لمن لا يعرف الأشياء أو لا يتمكن من وضع الأشياء مواضعها

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 188.

(2) النساء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 544

[سورة النساء (4): آية 114]

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من الأمور الخارجة عن نطاق الكتاب، فإن الكتاب خاص بعلم بعض الأشياء- حسب الظاهر- وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ يا رسول

اللّه عَظِيماً و ارتباط الآية بما قبلها على القول الأول- أي كونها حول وفد ثقيف- كون القصتين من واد واحد حيث حفظ اللّه الرسول في قصة السرقة و في قصة الوفد حتى لا يقول و لا يعمل إلا بالحق.

[115] و بمناسبة الحديث عن المؤامرات التي تجري في السر، و يتناجى في شأنها المبيّتون، و حيث أن في مثل هذه القضايا لا بد و أن تكثر النجوى و غالبها حول النقد و الرد و الطعن، يذكر القرآن حكم النجوى، و أنه لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي حديث بعضهم مع بعض سرّا و ذكر «كثير» إما من باب المورد، فإنه في مثل الموارد السابقة يكثر النجوى، و إما أن المراد: الكثير من النجوى لا خير فيه، أما القليل الذي لا بد لكل أحد حيث عنده بعض الأسرار التي يجب الإعلان عنها فلا بأس به، لكن الظاهر المعنى الأول، و أن المفهوم المطلق للنجوى كما قال سبحانه:

إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ «1» إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ بأي قسم منها من المال على الفقراء، أو الوقف، أو الإحسان أَوْ أمر ب مَعْرُوفٍ من أبواب البر الذي يعرفه الناس- و منه سمي المعروف معروفا مقابل المنكر

______________________________

(1) المجادلة: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 545

[سورة النساء (4): آية 115]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115)

الذي هو ما ينكره الناس- أَوْ أمر ب إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فإن الحاجة غالبا تدعو إلى الإسرار بهذه الأمور لتكمل و لا يمنع عنها مانع وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي النجوى في هذه الأمور، أو المراد: من فعل

أحد هذه الأمور ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاه سبحانه فَسَوْفَ في القيامة نُؤْتِيهِ أي نعطيه أَجْراً عَظِيماً مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر- كما هو كذلك في كل طاعة-.

[116] و حيث تقدم في القصتين مخالفة الجماعتين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما أرادوا، بيّن سبحانه أن عاقبة المخالفة و خيمة وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه، و معنى المشاقة أي يكون كل واحد في شق غير شق الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق و أن الرسول لا يقول و لا يعمل إلا بالحق- أما من قبل التبيين فالمشاقّ معذور لعدم تمام الحجة عليه- وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريقهم الذي هو دينهم، و هذا أعم من الأول، و إن كان في مخالفة الدين مشاقة للرسول بالنتيجة نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نخلي بينه و بين معتقده و عمله فلا نجبره على الرجوع، لأن الدنيا للاختبار و الامتحان و الجبر ينافي ذلك، كما قال سبحانه: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «1» وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ من «أصلاه

______________________________

(1) البقرة: 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 546

[سورة النساء (4): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117)

يصليه» أي أدخله النار، أي نتركه في الدنيا على حاله و ندخله يوم القيامة النار وَ ساءَتْ جهنم مَصِيراً أي محلّا يصير إليه المجرمون.

[117] و بمناسبة ذكر مشاقة الرسول، يبيّن سبحانه أنه لا يأس

من رحمة اللّه تعالى، فمن تاب كان اللّه غفورا، فإذا أخطأ أحد فليرجع إلى اللّه تعالى، ليغفر ذنبه و يتوب عليه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات مشركا كما دل الدليل وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي دون الشرك لِمَنْ يَشاءُ إن تاب و إن لم يتب فذلك رهن إرادته سبحانه، و الإرادة ليست اعتباطا، بل حسب النفسيات و الأعمال و القابليات و ما أشبه وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي يجعل له شريكا فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً أي عن طريق الحق.

[118] ثم يبيّن سبحانه وجه ضلال المشركين بصورة فردية قبيحة فقال تعالى:

إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون و يعبدون مِنْ دُونِهِ أي من دون اللّه إِلَّا إِناثاً جمع أنثى، فإنهم كانوا يعبدون اللات و العزى و مناة و أساف و نائلة، و كان لكل قبيلة صنم تعبده، و كانوا يسمون الأصنام أنثى فيقولون: أنثى قريش و أنثى تميم، و كان الشيطان يكلمهم منها أحيانا، كما أن قسما منهم كان يعبد الملائكة و يقول: إنها بنات اللّه، كما حكى سبحانه عنهم: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1»

______________________________

(1) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 547

[سورة النساء (4): الآيات 118 الى 119]

لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)

وَ إِنْ يَدْعُونَ أي ما يدعون إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً أي ماردا، فإن «المريد و المارد و المتمرد» بمعنى واحد، و هو العاصي العاتي، و كانت عبادتهم للشيطان عين عبادتهم للأصنام إذ هي من صنع الشيطان

و أمره فلا يستشكل بأنه كيف يجمع بين النفيين؟

[119] لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرد اللّه الشيطان عن رحمته و قربه، فهؤلاء يعبدون و يطيعون المطرود عن رحمة اللّه وَ قالَ الشيطان لله سبحانه حين طرده: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ أي عبيدك نَصِيباً مَفْرُوضاً أي معلوما، و المراد من اتخاذه لهم: إضلالهم و إغوائهم عن الإيمان و العمل الصالح، و قد كان الشيطان يعلم ذلك حين قال له سبحانه:

فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ «1» و لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ «2».

[120] وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن طريق الهداية، و هذا إما عطف بيان لقوله «اتخذن» أو المراد من الاتخاذ الاختصاص أي أختص بجملة من عبادك فأضلهم وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ من الأمنية أي أمنينهم طول البقاء في الدنيا و حب الرئاسة و المال حتى يعصون وَ لَآمُرَنَّهُمْ بالوسوسة و الإلقاء في قلوبهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ من «بتك يبتك» بمعنى «قطع يقطع» فقد كان المشركون يقطعون آذان الأنعام علامة على حرمة

______________________________

(1) الإسراء: 64.

(2) ص: 86.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 548

[سورة النساء (4): آية 120]

يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120)

ركوبها و أكلها و شرب لبنها، و كان ذلك حراما إذ هو من المثلة و

قد قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور»

«1» كما أن تحريمهم كان بدعة و تشريعا محرما وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ من التغييرات المحرمة كإخصاء العبد و فق ء عين الدابة و التمثيل بالأحياء و الأموات و ما أشبه ذلك. و يستفاد من الآية أن كل تغيير في الخلق حرام إلا ما دل عليه الدليل.

و بعد ما ذكر سبحانه بعض أقسام وساوس الشيطان التي كانت دارجة في ذلك

الزمان و إلى زماننا هذا، جعل الكل في إطار عام، و أعطى القاعدة الكلية المنطبقة على كل جزئي بقوله سبحانه: وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يلي أموره و يطيع أوامره مِنْ دُونِ اللَّهِ قيد توضيحي للتهويل، لا أنه من الممكن الجمع بين تولي الشيطان و تولي اللّه سبحانه فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي خسرانا ظاهرا.

[121] يَعِدُهُمْ أي يعد الشيطان أولياءه النصر و السعادة إن اتبعوه وَ يُمَنِّيهِمْ بالأماني الكاذبة الباطلة حتى يركنوا إلى الدنيا و يتركوا الآخرة و يرجّحوا الشهوات على الأعمال الصالحة وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً فكل و عوده غرور و كذب يغرّ به البسطاء الغافلين.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 29 ص 128.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 549

[سورة النساء (4): الآيات 121 الى 122]

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

[122] أُولئِكَ الذين اتخذوا الشيطان وليا و ناصرا مَأْواهُمْ أي مرجعهم و محلهم جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها أي عن جهنم، فإنها «مؤنثة سماعية» مَحِيصاً أي مخلصا و مهربا، من «حاص» بمعنى عدل و انحرف.

[123] هذا لمن اتخذ الشيطان وليا، أما من اتخذ الرحمن وليا وَ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به من أصول الدين وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الحسنة سَنُدْخِلُهُمْ قيل: إن «السين و سوف» بمعنى واحد، و قيل: إن السين للمستقبل القريب، و تستعمل الكلمتان بالنسبة إلى الجنة باعتبارين: فباعتبار أن كل آت قريب تستعمل السين، و باعتبار فصل البرزخ الطويل تستعمل سوف جَنَّاتٍ جمع «جنة» و هي البستان، سمي بها لكونها مستورة

بالأشجار من «جن» بمعنى ستر، و منه «الجنّ و الجنين و الجنّة» تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا انقطاع لها و لا زوال وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعد اللّه ذلك وعدا في حال كونه حقا، أو متصفا بكونه حقا، لا خلف فيه و لا كذب وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي من حيث القول، فهو أصدق القائلين، خبيرا و مخبرا، و الاستفهام في معنى النفي، أي لا أصدق من اللّه، و السبب أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 550

[سورة النساء (4): آية 123]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 599

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123)

الإنسان مهما أوتي من الصدق، فإنه قد يجهل و قد لا يقدر و قد يشتبه، و اللّه منزّه عن جميع ذلك.

[124] ثم يبين السياق القاعدة الكلية للعمل و الجزاء، بعد ما بيّن ما لمن أشرك و ما لمن آمن؟ فقال سبحانه: لَيْسَ أمر الثواب و العقاب و السعادة و الخسران بِأَمانِيِّكُمْ جمع «أمنية» بمعنى رغبة النفس، فلا ينال الإنسان خيرا بالأماني فيما إذا كان عمله خلاف ذلك، و الخطاب للمسلمين وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ في «المجمع» قيل: تفاخر المسلمون و أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى بالله منكم. فقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، و كتابنا يقضي على الكتب، و ديننا الإسلام. فنزلت الآية، فقال أهل الكتاب: نحن و أنتم سواء. فأنزل اللّه الآية التي بعدها «وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ..» ففلح المسلمون

«1».

مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإن الذي ينفع عند اللّه هو العمل الصالح، أما الأنساب و الأحساب و ما أشبه فلا تنفع إلا بقدر ما يرجع إلى العمل أيضا كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «المرء يحفظ في ولده»

«2» و لذا من عمل عملا سيئا يجز به. و بما ذكرنا تبين أن حفظ نسب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما يرجع إلى أتعاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام.

وَ لا يَجِدْ العامل للسوء لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ غير اللّه

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 197.

(2) البحار: ج 28 ص 302.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 551

[سورة النساء (4): الآيات 124 الى 125]

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)

وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً فلا أحد يتولى أمره و ينصره.

[125] و لما كان الأمر محتملا لأن يشمل أهل الكتاب إذا لم يعملوا سوءا طبقا للمفهوم من الآية السابقة، ذكر سبحانه أن من شروط قبول الأعمال الخيرة الإيمان الكامل وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي بعض الصالحات فإن الصالحات كلها لا يمكن أن يؤتى بها مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى و لعل التنصيص هنا لإفادة العموم، و لدفع و هم جري التقاليد الجاهلية، التي كانت تقضي بأكل الرجال ثمار الأعمال الطيبة للنساء، و حرمان النساء من الحقوق وَ هُوَ مُؤْمِنٌ بما في الكلمة من معنى- لا إيمان ببعض الأصول دون بعض

فَأُولئِكَ العاملون المؤمنون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي قدر نقير، و هو النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة التي منها تنبت.

[126] ثم بيّن سبحانه فوائد الإيمان و مزاياه و أنه أحسن من جميع الطرق و المذاهب وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً الدين هو الطريقة التي يسلكها الإنسان في حياته لأجل نيل السعادة، و الاستفهام في معنى الإنكار أي ليس أحد أحسن طريقة مِمَّنْ أَسْلَمَ و أخضع وَجْهَهُ لِلَّهِ و المراد بالوجه: الذات و النفس، و إنما ذكر الوجه لأن خضوع الوجه كاشف عن خضوع الذات، و معنى إسلام الوجه الإيمان بالله حيث أنه اعترف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 552

[سورة النساء (4): آية 126]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)

به و خضع له وَ هُوَ مُحْسِنٌ أي يحسن العمل فيتبع الأوامر و النواهي، و إنما لم يكن أحد أحسن دينا من هذا الإنسان لأن الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى، و الإحسان، عمل بما هو الأصلح، إذ ما يقرره الإله العليم الحكيم أحسن مما يقرّره الإنسان الجاهل ذو الطيش و السفه وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي طريقته حَنِيفاً أي في حال كون إبراهيم عليه السّلام مستقيما في الطريق عقيدة و عملا فإيمان و إحسان و اتباع طريقة صحيحة. و قد تكرر في الكتاب و السنة لزوم اتباع إبراهيم عليه السّلام لأن دينه لم يكن يتطرّق إليه التحريف الذي تطرق إلى كتابي الكليم و المسيح عليهما السّلام بالإضافة إلى أن موسى و عيسى عليهما السّلام كانا بعد إبراهيم عليه السّلام و أنه عليه السّلام بصفته أب المسلمين العرب، كان ذكره محفّزا لهم على الإيمان، إنه طريقة جدهم

كما قال سبحانه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «1» وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا من الخلة، بمعنى الحب و الود لإبراهيم عليه السّلام بإطاعته لله صار خليل اللّه، فما يمنع الناس أن يتبعوا طريقة إبراهيم، كي ينالوا حب اللّه و رضاه.

[127] و أخيرا فمن الأحسن اتباع طريقة الإله الذي له كل شي ء و هو العالم بكل شي ء وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فهو المالك لكل شي ء، و إذا أراد الإنسان اتباع طريقة للنفع فليتبع طريقة من له كل نفع وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً أي إحاطة علمية لا يعزب عنه شي ء،

______________________________

(1) الحج: 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 553

[سورة النساء (4): آية 127]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)

و إحاطة بالقدرة، إذ المحيط بالشي ء يقدر عليه.

[128] قد سبق قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ «1» و قد سبق الكلام في الآيات التالية حول هذا الموضوع مع شي ء من الاستطراد. ثم يأتي السياق ليبين بعض أحكام النساء، فإنه من الحكم بين الناس بما أراه اللّه سبحانه وَ يَسْتَفْتُونَكَ يا رسول اللّه فِي النِّساءِ أي يسألونك الفتوى- و هو تبيين المشكل من الأحكام- فقد سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الواجب لهن و عليهن و كيفية معاشرتهن قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ أي في النساء و إنما نسب الجواب إلى اللّه

سبحانه لتقوية إفادة أن الحكم لا يصح إلا من اللّه سبحانه، فليس لأحد أن يحكم إطلاقا، و قد سئل مثل هذه الأسئلة في غير الأحكام فجاء الجواب بدون النسبة إليه تعالى، نحو: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2» يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ «3» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «4» و هكذا.

وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ عطف على «اللّه» أي أن الفتوى في باب النساء تأخذونه من اللّه سبحانه بما سيأتي، و تأخذونه بما تلي عليكم في القرآن سابقا، فقد سبق في ابتداء السورة وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «5»،

______________________________

(1) النساء: 106.

(2) الإسراء: 86.

(3) البقرة: 216.

(4) البقرة: 190.

(5) النساء: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 554

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «1» و الحاصل أن الفتوى- أي تبيين مسائل النساء- يأتي فيما يقول اللّه و فيما سبق. فِي يَتامَى النِّساءِ أي البنات الصغيرات اليتيمات اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ أي لا تعطوهن ما كُتِبَ لَهُنَ من الصداق فقد كان أهل الجاهلية لا يعطون اليتيمة صداقها لتمنع هذه العادة فقوله «في يتامى» متعلق ب «ما يتلى»، أي تأخذون الفتوى في أمر النساء من اللّه و مما تلي عليكم سابقا في باب النساء اليتامى اللاتي تحرمونهن من مهورهن وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ أي تريدون نكاحهن لأكل أموالهن. ثم إن قوله «و ما يتلى» بصيغة المضارع للاستمرار لا الاستقبال. وَ ما يتلى عليكم في الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أي ما تقدم في باب أمر الأيتام، و هو قوله سبحانه: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فإنه عام يشمل اليتيمات أيضا وَ ما يتلى عليكم

في أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل كما تقدم في قوله «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى و على هذا فقوله «و ما يتلى» إلى «بالقسط» جملة واحدة، عطف على «اللّه».

و الحاصل أن اللّه يفتيكم، و ما تقدم في القرآن من آيات اليتامى

______________________________

(1) النساء: 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 555

[سورة النساء (4): آية 128]

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

يفتيكم به أيضا، ثم جمع سبحانه الكل في إطار عام فقال: وَ ما تَفْعَلُوا أيها المؤمنون مِنْ خَيْرٍ عدل و إحسان بالنسبة إلى النساء فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً يعلمه و يجازيكم عليه بحسن الثواب.

[129] ثم توجه السياق إلى بعض أحكام النساء إيفاء لقوله سبحانه: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» و ذلك حكم خوف النشوز، فقد كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج و كانت قد دخلت في السن و كانت عنده امرأة شابة سواها فطلقها تطليقة حتى إذا أبقى من أجلها يسيرا، قال إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة، و إن شئت تركتك. قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة فراجعها، فنزلت وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها أي من زوجها نُشُوزاً ارتفاعا عليها بأن لا يعاملها معاملة الأزواج، بل يعاملها و كأنه أرفع منها أَوْ إِعْراضاً أي يعرض عنها إطلاقا، أو طلاقا، و قد خافت لظهور أمارات ذلك فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما الضمير في «يصلحا» راجع إلى الزوجين، أي يصطلحا فيما بينهما صُلْحاً أي نوع

من أنواع الصلح الجائز، فتتنازل هي عن بعض حقوقها ليبقى النكاح على حاله و لا تحصل الفرقة، أو نحوها وَ الصُّلْحُ بينهما ببقاء عقد الزواج و الألفة خَيْرٌ من الافتراق و الشقاق وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ الشح البخل و عدم التنازل عن الحقوق، أي أن الأنفس يخالطها الشح، فلا هي ترغب أن تتنازل عن بعض حقوقها لتبقى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 556

[سورة النساء (4): آية 129]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)

الألفة، و لا الزوج مستعد لأن يعاشرها معاشرة صالحة لئلّا ينتهي الأمر إلى الطلاق وَ إِنْ تُحْسِنُوا يحسن أحد الزوجين إلى الآخر وَ تَتَّقُوا فلا تفعلوا ما يوجب سخط اللّه، فإن الغالب أن يرتكب أحد الطرفين الحرام، فيما إذا حدث بينهما صدام فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه. و لا مفهوم للآية بأنه «إن لم تحسنوا فلا يعلم اللّه» كما هو واضح، بل الشرط أتي به للتحريض و الترغيب.

[130] ثم ذكر سبحانه حكم تعدّد الأزواج، و أنه لا يمكن التسوية بينهن في الحب و الود، فإذا كان الميل القلبي يميل كليّا إلى جهة، فاللازم حفظ العدالة بين الزوجات، لئلّا يبقى بعضهن كالمعلقة وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيها الرجال أبدا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ عدالة في المودة و الحب، فإنه ليس بأيديكم، و لا بد أن تكون بعض النساء أقرب إلى قلوبكم من بعض وَ لَوْ حَرَصْتُمْ في العدالة القلبية فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى جانب امرأة من زوجاتكم المتعددات فَتَذَرُوها أي المرأة التي لا تميلون إليها كَالْمُعَلَّقَةِ التي علقت فلا هي

مستريحة بالزوج و لا هي مستريحة بعدم الزوج، فتكون في عذاب و شقاء، و إذا لم يكن باستطاعتكم العدالة فباستطاعتكم عدم الميل الكلي.

و

قد روي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه كان يقسم بين نسائه و يقول:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 557

[سورة النساء (4): آية 130]

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

«اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك»

«1».

و

قد ورد أنه سئل الصادق عليه السّلام عن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً «2» فقال أما قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا» فإنه عني في النفقة، و أما قوله: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا» فإنه عني في المودة، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة

«3».

وَ إِنْ تُصْلِحُوا بالتسوية في القسمة و النفقة الواجبتين وَ تَتَّقُوا باجتناب المحرمات، و ذلك بترك الميل الكلي الذي نهى اللّه عنه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً يغفر ما صدر منكم من الذنوب رَحِيماً يرحمكم بلطفه و يسبغ عليكم فضله.

[131] وَ إِنْ يَتَفَرَّقا فيما إذا لم يصطلح الزوجان، بل طالبت هذه بكل حقوقها و أراد الرجل الميل، فخيّرها بين الطلاق و التنازل عن بعض حقوقها، فاختارت الطلاق، فتفرقا و وقع الافتراق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا من الزوجين مِنْ سَعَتِهِ أي سعة فضله و رحمته، فليس بابه مرتجا في وجه أي من الطرفين، بل الرجل يستغني عن هذه المرأة بامرأة أخرى و عيشة أخرى، و المرأة تستغني عن هذا الرجل برجل آخر و سعادة هنيئة. و في هذه الجملة لفتة مشرقة لجبر انكسار قلبي الطرفين، إذ من المعلوم أن كلّا منهما ينكسر

قلبه حين الافتراق، و لو كان هو السبب

______________________________

(1) تفسير التبيان: ج 3 ص 349.

(2) النساء: 4.

(3) بحار الأنوار: ج 10 ص 202.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 558

[سورة النساء (4): الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

في الفراق وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً في فضله حَكِيماً فيما يأمر و ينهى و يفعل و يريد، و نسبة السعة إليه يراد به السعة في فضله «مجازا».

[132] ثم ذكر سبحانه أنه يملك كل شي ء فهو يقدر على إغناء الزوجين من فضله وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ قد تقدم أن المراد ب «ما في» الأعم من الظرف و المظروف وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم مِنْ قَبْلِكُمْ إشارة إلى كون الوصية لم تزل من القديم وَ إِيَّاكُمْ أي وصيناكم أيها المسلمون أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فاعملوا بالأوامر و النواهي وَ إِنْ تَكْفُرُوا كفرا في العقيدة بإنكار الأصول، أو كفرا في الفروع بالعصيان فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فلا يضره كفركم و لا ينفعه إيمانكم و عملكم وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا لا يحتاج إلى إيمانكم و لا إلى أعمالكم و إنما أنتم تحتاجون إلى ذلك حَمِيداً أي مستوجبا عليكم الحمد له لصنائعه الحميدة.

[133] ثم يؤكّد غناه سبحانه و أن له كل شي ء

بقوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ليس شي ء لغيره، فإذا قطع عنكم رحمته لا تحصلون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 559

[سورة النساء (4): الآيات 133 الى 134]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

على ما تريدون من غيره وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي أنه أحسن وكيل و أكفى وكيل، فلا يحتاج الإنسان إلى وكيل آخر إذا وكله سبحانه في أمره. و قد قيل في وجه التكرار في الآيتين ثلاث مرات أن الأولى:

لإيجاب طاعته، حيث له كل شي ء و المالك تجب طاعته على المملوك، و الثانية: لأن الخلق محتاجون إليه و هو الحميد المطلق، فن ذلك لا يكون إلا لمن له كل شي ء، و الثالثة: لبيان أنه يكفي توكيله مطلقا، فإن ذلك لا يكون إلا لمن يملك كل شي ء.

[134] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ إنه في غنى عنكم، و قدرته تعمّكم فناء و إيجادا، فإن أراد أذهبكم و أفناكم و أهلككم وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ أناسا آخرين يوجدهم من العدم وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً يقدر على إنفاذه.

[135] و لقد كان المنافقون يتبعون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للغنيمة و للتحفظ على دنياهم، و حيث تقدم أن لله ما في السماوات و الأرض، ذكّرهم بأن الإطاعة توجب خير الدنيا و الآخرة، فلم لا يسلكون أنفسهم في سلكها مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا أي منافعها، فإن الثواب من «ثاب» بمعنى رجع، لأن الثواب جزاء العمل الصادر من الإنسان، يرجع إليه فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ

الْآخِرَةِ إذ يملك الجميع و بيده أزمة الكل، فلم لا يطيعون حتى ينالوا الأمرين وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً لأقوالهم بَصِيراً بأعمالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 560

[سورة النساء (4): آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

[136] و لما ذكر سبحانه أن عنده ثواب الدنيا و الآخرة، عقّبه بالأمر بالعدل و عدم الجور كي ينالوا الثوابين، و قد سبق الأمر بالعدل في قوله: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «1» فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قد تقدم أن الخطاب إنما خصص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون السامعون، و إلا فالأوامر و النواهي عامة للجميع كُونُوا قَوَّامِينَ جمع «قوّام» و هو كثير القيام بِالْقِسْطِ هو العدل، أي كونوا دائمين في القيام بالعدل، بأن تكون عادتكم على ذلك قولا و عملا، و لعلّ في ذلك إشارة تنبيه إلى ما اعتاده الناس من أنهم لا بد و أن يزيغوا عن العدل إذا تمادت بهم الأزمان، و لذا نرى من الحكام من يتنزّه عن الجور في أول أمره ثم إذا امتد به الزمان زاغ و انحرف شُهَداءَ جمع شهيد لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي اشهدوا بالحق- لأجل أمر اللّه و رضاه- و لو كانت الشهادة في ضرركم و نفع الغير أَوِ على الْوالِدَيْنِ أي في ضررهما لنفع الغير، إذا كان الحق مع الغير وَ على الْأَقْرَبِينَ أي من يتقرب إليكم بنسب، فلا تميلوا عن الحق لنزوات أنفسكم، أو ملاحظة مصلحة الوالدين، أو رعاية

الأقربين إِنْ يَكُنْ المشهود له أو المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تشهدوا للغني أو للفقير باطلا، مراعاة لغناه أو شفقة عليه لفقره فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما إنه

______________________________

(1) النساء: 59.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 561

[سورة النساء (4): آية 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

سبحانه أولى بالغني و الفقير و أنظر لحالهما من سائر الناس، و مع ذلك فقد أمركم بالشهادة على الحق فلا بد من ملاحظة أمره، لا مراعاة الغني لغناه و الفقير شفقة عليه فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى النفس في الحكم الجائر أَنْ تَعْدِلُوا أي لأن تعدلوا، قالوا: و ذلك كقولهم:

«لا تتبع هواك لترضي ربك»، أو المعنى: «لا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا من الحق» وَ إِنْ تَلْوُوا من «لوى يلوي»، بمعنى الانحراف، أي أن تنحرفوا أيها المؤمنون- في حال الحكم- عن الحق أَوْ تُعْرِضُوا عن الحق إطلاقا. و لعل الفرق أن «اللّيّ» الانحراف اليسير، و «الإعراض» الانحراف مطلقا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم الانحراف و الإعراض و يجازيكم عليهما، كما يعلم إقامتكم للحق.

[137] ثم أنه سبحانه بعد أن ذكر لزوم القيام بالقسط، بيّن لزوم الإيمان الحقيقي عن قلب و عقيدة، و لا يكون ذلك القيام بالقسط إلا إذا توفر في الإنسان ذلك الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر، فإن الخطاب موجّه إلى كل من أظهر شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و من المعلوم أن كثيرا منهم كانوا مؤمنين لفظا فقط

آمَنُوا إيمانا راسخا و عقيدة في الجوارح و الجوانح بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ آمنوا ب الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ و هو القرآن الكريم وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 562

[سورة النساء (4): آية 137]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)

أي جنس الكتاب، فإن من شرائط الإيمان، الإيمان بكتب اللّه جميعا وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ بأن يجحدهم أو يعاديهم أو ينزلهم عن المنزلة اللائقة بهم وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ و إن كان بجحد أحد من الرسل أو أحد من الكتب وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن جحد أو شك في الميعاد فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق كمن يضل الطريق و يبعد عنه كثيرا، و ذلك في قبال من يعمل محرما أو ما أشبه، فإنه قد ضل ضلالا، لكن لا بذلك البعد.

[138] و بعد ما ذكر سبحانه لزوم الإيمان واقعا، بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلا إيمانا سطحيا، و لذا يميلون مع كل جانب قوي، فإذا قوى الإسلام آمنوا و إذا ضعف كفروا، و هكذا يراوحون بين الإيمان و الكفر حتى يموتون و هم كفار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا إما كفر باللفظ أو بالقلب، فإن كثيرا من الأشخاص الذين يقدمون على الإيمان يقدمون عليه سطحيا، و بمجرد هبوب ريح الكفر يكفرون قلبا، و إن بقوا في الظاهر مؤمنين ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا و هذا من باب المثال، و إلا فليس للتكرار أربع مرات مزية لا توجد في المرتين، أو في

الست، أو ما أشبه ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بأن تطبّعت قلوبهم بالكفر فلم يؤمنوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لأنهم بقوا كافرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 563

[سورة النساء (4): الآيات 138 الى 139]

بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)

و إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «1» وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي طريقا إلى الجنة و الخلاص، كما قال سبحانه: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ «2» و يحتمل أن يكون المعنى: «أنه يخذلهم في الدنيا و لا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم، فلا يهتدون إلى الحق بعد ما تكرر منهم الإيمان و الكفر».

[139] بَشِّرِ يا رسول اللّه الْمُنافِقِينَ الذين هم يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر- خلافا لما تقدم من قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و البشارة هنا مجاز للاستهزاء، كما يقال للزنجي: كافور بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يؤلمهم جسديا و نفسيا. و لعلّ هذه الآية تدل على كون الآية المتقدمة في شأن المنافقين، و أن المراد بالكفر، الكفر القلبي الذي كانوا يراوحون فيه بين الإذعان و الكفر، مع التحفظ على ظاهرهم في الإيمان.

[140] و بمناسبة النفاق، ذكر اللّه سبحانه أظهر ميزات المنافق، فقال:

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ و أحباء من صميم القلب مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يتخذون المؤمنين أولياء، بل يعاملونهم معاملة ظاهرية فقط لتأمين حياتهم، و إنما قلوبهم مع الكفار و ميلهم إليهم أَ يَبْتَغُونَ أي هل يطلبون عِنْدَهُمُ أي عند الكفار الْعِزَّةَ

______________________________

(1) النساء: 49.

(2) النساء: 169 و 170.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 564

[سورة النساء (4): آية 140]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ

أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)

الدنيوية، فإن الغالب أن المنافق إنما ينافق تحفظا على دنياه، أي على عزته المزعومة التي يجدها في ضلال الكفر و بمؤاخاة و صداقة الكافرين فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً إذ بيده الدنيا بجميع ما فيها، فلو آمنوا حقيقة لكان لهم من العزة ما ليس للمنافقين، لأن دنياهم بالإضافة إلى عزتهم الظاهرية حاصلة عند المؤمنين، فإن المنافق منبوذ لا عزة له بين المؤمنين.

[141] ثم ذكر سبحانه خصلة أخرى للمنافقين، فقد كانوا يجالسون أهل الكتاب، فيسخر أولئك من القرآن و الرسول، و المنافقون ساكتون حيث يوافقونهم قلبا، بخلاف المؤمنين الذين لم يكن أهل الكتاب يجرءون لمثل ذلك أمامهم، و هذه صفة المؤمن و المنافق في كل زمان وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن في قوله: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «1» بمعنى أنه إذا خاضوا في غيره حال مجالستهم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ أيها المسلمون آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها و الفرق بينهما واضح فإن الكفر بها إنكارها، و الاستهزاء بها السخر و الاستهانة بها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ بل قوموا و اذهبوا حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الخوض في الحديث

______________________________

(1) الأنعام: 69.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 565

[سورة النساء (4): آية 141]

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ

نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

الدخول فيه كالخوض في الماء، و «حتى» للغاية، و هي غير داخلة في المعنى، يعني يجوز لكم مجالستهم إذا خاضوا في حديث غير الكفر بالآيات و الاستهزاء بها إِنَّكُمْ أيها المسلمون إذا جالستم الكفار و هم يكفرون و يستهزءون إِذاً مِثْلُهُمْ حيث لم تنكروا عليهم، مع قدرتكم على الإنكار، و من رضي بعمل قوم قلبا أو تظاهرا فهو منهم إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ الذين أبطنوا الكفر وَ الْكافِرِينَ الذين أظهروا الكفر فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً لأن كليهما كافر، و إن كان في الظاهر تجري أحكام الإسلام على المنافق.

[142] ثم وصف سبحانه المنافقين بما هي السمة الظاهرة لهم في كل حال و زمان الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ التربّص الانتظار و الترقّب، يعني أنهم ينتظرون لأموركم و يراقبون أحوالكم فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ بالظفر و الغلبة و الغنيمة قالُوا أي أولئك المنافقون: أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أيها المؤمنون، فإنا آمنا و غزونا و صلينا و عملنا تحت لواء الإسلام، يريدون بذلك التحفظ على أنفسهم في مستوى المؤمنين جاها و غنيمة وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ بأن تقدم الكفار أو دارت الدائرة على المؤمنين قالُوا أولئك المنافقون للكافرين الذين كان لهم نصيب: أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي نسيطر عليكم و نرشدكم مواقع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 566

[سورة النساء (4): آية 142]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)

صلاحكم وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ بأس الْمُؤْمِنِينَ بدلالتكم على مواقع الهلكة، و كنا نلقي الرعب في

قلوب المؤمنين منكم، حتى نلتم أيها الكافرون ما نلتم بسببنا، و لذا فلنا ما لكم، يريدون بذلك إشراك أنفسهم في جاه الكفار و أرباحهم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ و يعطي كلّا جزاءه، ثم لا يظن المسلمون أن المنافقين يتمكنون بنفاقهم أن يحدثوا ثغرة بينهم، فإن الكافر لا يسلّط على المؤمن أبدا لا في الحجة و لا في غيرها، ما دام المؤمنون ملتزمين بشرائط الإيمان عقيدة و عملا وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ أبدا لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا نعم إذا خرج المؤمنون عن شرائط الإيمان عقيدة أو عملا، صار للكفار عليهم سبيل. و قد نرى في طول التاريخ أنه لم يتغلّب الكفار على المؤمنين إلا إذا خرج المؤمنون عن طاعة اللّه و رسوله، كما رأينا في قصة أحد حين ترك الرماة مواقعهم، و هذا لا ينافي تسلط بعض أفراد الكفار على بعض أفراد المؤمنين قتلا و نحوه، لأن قضية «لن يجعل» طبيعية كسائر القضايا الواردة في مثل هذا المقام.

[143] و لما ذكر سبحانه أن المنافقين يراوحون بين المؤمنين و الكافرين لإرضاء كليهما و لأن يهيئوا لهم حياة سعيدة مهما تقلبت الظروف و الأحوال، بيّن أن خداعهم هذا لا ينطلي على اللّه سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ حيث يظهرون الإيمان لحقن دمائهم و حفظ أموالهم و أعراضهم، بينما هم كفار غير مؤمنين وَ هُوَ خادِعُهُمْ إذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 567

[سورة النساء (4): آية 143]

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)

يلزمهم أحكام المسلمين في الدنيا و يجازيهم جزاء الكافرين في الآخرة وَ من صفاتهم الظاهرة أنهم إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى جمع «كسلان»

أي متثاقلين، لأنهم لا يعتقدون بالصلاة حتى يقوموا إليها قيام نشاط و فرح كما يقوم المؤمنون إليها يُراؤُنَ النَّاسَ أي أن أصل عملهم لأجل الرياء و أن يظهروا للمؤمنين أنهم مسلمون لا لأجل اللّه، و لذا لو تمكنوا من تركها تركوها وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا في مواقع الشدة و المحنة كما قال سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ «1» بخلاف المؤمنين الذين يعتقدون بالله فإنهم ذاكرون له دائما.

[144] مُذَبْذَبِينَ يقال: «ذبذبته» أي حركته، أي أن المنافقين مترددين بَيْنَ ذلِكَ المجتمع المنقسم إلى المؤمن و الكافر لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين، أي لا مع هؤلاء تماما وَ لا إِلى هؤُلاءِ الكافرين، و دخول كلمة «إلى» باعتبار أن من يكون مع قوم ينتهي إليهم في حركاتهم و سكناتهم، بخلاف المنافق الذي هو في الوسط لا ينتهي إلى أحد الجانبين وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ و إضلاله بترك لطفه الخاص به، بعد ما أراه الطريق فلم يسلكه، و قد تقدم معنى الإضلال من اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الحق لأنه قد ران على قلبه ما كسبه من السيئات و الإعراض عن الإيمان بالله و العمل الصالح.

______________________________

(1) العنكبوت: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 568

[سورة النساء (4): الآيات 144 الى 145]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)

[145] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أي أنصارا و أخلاء يتولّون شؤونكم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ بأن تتركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً السلطان:

الحجة و المبين، بمعنى الواضح، فينكّل بكم حيث انحرفتم عن طريقته إلى طريقة الكفار، إن المنافقين قد اتخذوا الكافرين أولياء، فأنتم أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم، لتتم عليكم الحجة فيصحّ عقابكم لأنه جاء بعد البيان و الإنذار، و الاستفهام بمعنى الإنكار، أي لا تجعلوا لله سلطانا عليكم.

[146] إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى، و ذلك لأن المنافق شرّ من الكافر، إذ هو كافر بإضافة أنه في المسلمين فيطّلع على عوراتهم و يعين الأعداء عليهم. و في آية أخرى قال تعالى بالنسبة إلى المنافقين: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ «1» على نحو الحصر، و لعلّ السبب في قبول المنافق بعد العلم بباطنه رجاء زوال نفاقه، و أنه لو وكل الأمر إلى الناس لأخذوا كثيرا من المؤمنين بأنهم منافقين وَ لَنْ تَجِدَ يا رسول اللّه لَهُمْ أي للمنافقين نَصِيراً من بأس اللّه و عقابه.

______________________________

(1) المنافقون: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 569

[سورة النساء (4): الآيات 146 الى 147]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

[147] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من نفاقهم وَ أَصْلَحُوا نياتهم و أعمالهم كسائر المؤمنين وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ أي تمسكوا به و أخلصوا طريقهم لله، بخلاف المنافق الذي يبعّض في طريقته، فبعضها لله و بعضها للأصنام فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في دنياهم و آخرتهم وَ سَوْفَ في الآخرة يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً هو النعيم المقيم الذي لا زوال له و لا اضمحلال.

[148] و لما ذكر سبحانه أن المنافقين في

الدرك الأسفل، بيّن أنه ليس من حاجة له إلى عذاب أحد، و إنما ذلك لسوء صنيعهم، فلو بدّلوا صنيعهم لكان خيرا لهم ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أيها الناس، و الاستفهام في معنى الإنكار، أي لا حاجة إلى عذابكم إذ لا ينتفع اللّه بذلك كما لا يتضرر بتركه إِنْ شَكَرْتُمْ نعمه سبحانه وَ آمَنْتُمْ إيمانا صحيحا وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً لمن شكره، و معنى كونه شاكرا: أنه يفعل فعل الشاكر من الحفاوة إلى المشكور له عَلِيماً بكم و بأعمالكم، فلا يفوته شي ء منها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 571

تقريب القران الى الأذهان الجزء السّادس من آية (149) من سورة النساء إلى (83) من سورة المائدة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 572

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 573

[سورة النساء (4): الآيات 148 الى 149]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

[149] و حيث تقدم الكلام حول النفاق و هو شي ء ربما اشتبه فيه الناس، و لذا نراهم يرمي بعضهم بعضا بالنفاق، بيّن سبحانه أنه لا يجوز أن يجهر الإنسان بالقول السيئ بالنسبة إلى أحد إلا إذا كان الإنسان الجاهر مظلوما فإنه يحق له أن يجهر بظلامته فلا يحق لأحد أن يبدي عورة غيره حتى فيما إذا علم، فكيف بما لو ظن أو توهم؟ و في آية أخرى:

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ «1» لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بأن

يقول القول السيئ بالنسبة إلى غيره جهرا أمام الناس، و معنى «لا يحب» أنه يكره ذلك إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فإنه يحق له أن يذكر ظلامته أمام الناس وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً يسمع ما يجهر به الإنسان من القول السيئ في غيره عَلِيماً بصدق الصادق و كذب الكاذب فيجازي كلّا حسب جزائه.

[150] و إذ ذكر تعالى جواز الجهر بالسوء لمن ظلم، بيّن أن إبداء الخير و إخفاء السوء أحسن، فإن ذلك من صفات اللّه سبحانه العفوّ القدير، الذي يعفو مع قدرته إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا خَيْراً أي عملا حسنا جميلا لمن أحسن أَوْ تُخْفُوهُ أي تتركوا إظهار الخير، أو المعنى:

تعزموا عليه أي تنووه. و لعل الثاني أقرب أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فلا تنتقموا ممن أساء إليكم مع قدرتكم على الانتقام، ففي المقام

______________________________

(1) الحجرات: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 574

[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 151]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)

لا تجهروا بالقول السيئ بالنسبة إلى من ظلمكم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا كثير العفو عن خلقه ممن أساء و ظلم قَدِيراً على الانتقام منهم، فما أجدر أن يتصف الخلق بصفة الخالق.

[151] و لما ذكر سبحانه في الآيات السابقة حال المنافقين، أتم الكلام في الآيات التالية حول حال الكافرين و المؤمنين، فالناس ينقسمون أمام الدعوة الجديدة إلى مؤمن و كافر و منافق بين أولئك إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ و إن كان كفرا برسول واحد، و الكفر إما بالإنكار أو نحو ذلك

وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ لعلّهم طائفة أخرى حيث أنهم يؤمنون بالله و يكفرون بالرسل، فبهذه الصفة أنهم يفرقون بين اللّه بالإيمان و بين الرسل بالكفر وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ فإن هناك المنكر المطلق و الذي لا ينكر اللّه و لكن ينكر الأنبياء جملة، و الذي يبعّض في الأنبياء وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الحق الواقع سَبِيلًا طريقا لا الإنكار المطلق و لا الإذعان المطلق، و إنما يفعلون ذلك لأغراض نفسية و تقاليد بالية.

[152] أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي حقيقة، فلا يخرج إيمانهم ببعض عن كونهم كافرين، كما قد ينطبق على البعض الذين لا يعرفون معيار الكفر و الإيمان، فإن الكفر هو إنكار أحد الأصول و الإيمان هو الإقرار بها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 575

[سورة النساء (4): الآيات 152 الى 153]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)

أجمع وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي هيّئنا لهم عَذاباً مُهِيناً يهينهم و يذلهم.

[153] وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ جميعا وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لفظ «أحد» إذا دخل عليه النفي أو كان في معناه أفاد العموم، و لذا صحّ إدخال «بين» عليه و ليس كذلك إذا كان للإثبات أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ اللّه أُجُورَهُمْ في الآخرة وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً يغفر ما صدر منهم من ذنب رَحِيماً

يرحم بلطفه و رحمته.

[154] و إذ تقدم الكلام عن الذين يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض، و من أظهر مصاديق أولئك أهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء السالفة و لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحجج واهية، انتقل السياق إلى هؤلاء مبيّنا أنهم كاذبون في زعمهم الإيمان بموسى عليه السّلام بأسئلة و أعمال بشعة، يَسْئَلُكَ يا رسول اللّه أَهْلُ الْكِتابِ و المراد بهم هنا اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ كما نزل على موسى التوراة، مكتوبا جملة، لا أن تأتي الآيات على نحو الوحي.

و في بعض التفاسير: أن كعب الأشرف و جماعة من اليهود قالوا: يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة جملة «1»

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 228.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 576

[سورة النساء (4): آية 154]

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فهل آمنوا بموسى عليه السّلام لما آتاهم الكتاب من السماء؟ كلا بل سألوه شيئا أكبر من ذلك فَقالُوا له عليه السّلام:

أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً حتى نشاهده بأعيننا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بسبب ظلمهم و تجرّؤهم على ساحة قدس اللّه و جلاله، فقد جاءت صاعقة و أماتتهم جميعا- كما تقدم في سورة البقرة «1»- ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها عبدوه من دون اللّه سبحانه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الأدلة الواضحة على الربوبية و النبوة، من نجاتهم من بني إسرائيل، و تفريق البحر لهم، و ما رأوا من معجزات العصا و غير ذلك فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ بما تقدم في سورة البقرة

من أمرهم بقتل بعضهم بعضا، و لكن لم ينفعهم ذلك أيضا بل بقوا معاندين قساة جفاة وَ آتَيْنا مُوسى أي أعطيناه سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة واضحة تبين صدقه و نبوته، و مع ذلك لم يؤمنوا.

[155] وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي جبل الطور حيث اقتلع جزء منه و رفع فوق رؤوس بني إسرائيل تخويفا لهم حتى يأخذوا الأحكام و يقبلوا التعاليم بسبب ميثاقهم أي عهدهم، و لعل المراد: حين إرادة

______________________________

(1) البقرة: 56.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 577

[سورة النساء (4): آية 155]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)

أخذ الميثاق منهم وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً أي في حال السجود، اسجدوا و ادخلوا الباب وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا أي تعتدوا فِي السَّبْتِ باصطياد السمك، فقد كان ذلك محرما عليهم وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب المتقدم ذكرهم مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا أكيدا بأن يسمعوا الأوامر و ينزجروا عن النواهي. و قد تقدم بعض الكلام حول الأمور المذكورة في سورة البقرة.

[156] ثم ذكر سبحانه أن اليهود بأعمالهم القبيحة استحقوا عقاب الدنيا و عقاب الآخرة أما عقاب الدنيا فتحريم الطيبات عليهم و أما عقاب الآخرة فالنار المهيأة لهم، فقوله سبحانه: «فَبِما نَقْضِهِمْ .. إلى آخر الآيات» متعلق بقوله: «حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ ..» فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقض اليهود معاهدتهم مع اللّه بأن يعملوا بكل ما في التوراة من الأحكام فإنهم لم يعملوا بغالب أحكامها أصولا و فروعا وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ التي أقامها على صدق أنبيائه ككفرهم بأدلة نبوة عيسى عليه السّلام

وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ فإنهم كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا يقتلون و فريقا يكذبون و كلمة «بغير حق» للتوضيح لا للتأكيد إذ قتل الأنبياء لا يكون بالحق أبدا وَ بسبب قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع «أغلف» أي في غلاف من دعوتك يا محمد، فلا نفهم ما تقول، كالشي ء المغلف الذي لا يصل إليه شي ء من الخارج، فقد كانوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 578

[سورة النساء (4): آية 156]

وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)

يقولون ذلك للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى لا يدعوهم إلى الهدى. ثم جاء سبحانه بجملة معترضة في الكلام ردا لقولهم «قلوبنا غلف» بقوله:

بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فإن الإنسان إذا رأى الحق فأنكره و تكرر منه العصيان يكون قلبه في معزل عن الحق، و صار الإنكار كالملكة له فإنه يعرف الحق كلما رآه لكنه ينكره، لا لأنه لا يرى الحق- لأن قلبه في غلاف- و على هذا يكون معنى بكفرهم: لسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا إذ قلّما يرتدع من صار الإنكار ملكة له بسبب غيه و ضلاله، ثم إن نسبة الطبع إلى اللّه تعالى إما حقيقة لأنه خلق القلب كذلك، بحيث يصير الأمر المتكرر ملكة له، و إما مجازا يراد بذلك: تركهم و شأنهم.

[157] وَ بسبب كفرهم بعيسى المسيح عليه السّلام أو المراد: الكفر المطلق، كرّر تأكيدا أو هو إرهاص لقوله «وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ» يريد بذلك أنهم صاروا كفارا بسبب هذه التهمة لعظمتها وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ الصديقة المعصومة أم المسيح عليها السّلام بُهْتاناً عَظِيماً حيث نسبوها إلى الزنا لما ولد عيسى عليه السّلام منها من غير أب.

عن «الكلبي» أن عيسى

عليه السّلام مر برهط فقال بعضهم لبعض:

جاءكم الساحر ابن الساحرة. فقذفوه بأمه فسمع ذلك عيسى فقال:

اللهم أنت ربي و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم العن من سبّني و سبّ والدتي فاستجاب اللّه دعوته فمسخهم خنازير

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 340.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 579

[سورة النساء (4): الآيات 157 الى 158]

وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

[158] وَ بسبب قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و هذا القول موجب لسخط اللّه تعالى لأنه عليه السّلام رسوله، و قوله: رَسُولَ اللَّهِ إما قول اليهود على وجه الاستهزاء، و إما قول اللّه تعالى، فليس «مقول قولهم» و إما أنه اعتراف منهم بأنه الرسول، كما اعترف أهل الكوفة بأن الحسين إمام و قتلوه لهوى النفس. ثم ردهم اللّه سبحانه بقوله: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ لأنهم كانوا يقولون: قتلناه صلبا وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بأن ألقى اللّه شبه عيسى على بعض اليهود، فقتلوا ذلك الشبيه لعيسى عليه السّلام لا أنهم قتلوا نفس المسيح وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في المسيح عليه السّلام هل أنه قتل أم لم يقتل؟ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ فإنهم صاروا فريقين: قسم يقولون قتلناه، و قسم يقولون لم نقتله و إنما قتلنا شبيها له، و لم يكن قولهم عن يقين و إنما عن شك و تردد ما لَهُمْ بِهِ أي لهؤلاء القائلين بقتله مِنْ عِلْمٍ

إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ هذا الاستثناء منقطع، فإنه كثيرا ما يستثني من أصل الكلام لا من قيوده، فكأنه قال هنا: «ما لهم من حالة نفسية حول هذا الموضوع إلا اتباع الظن» فمن يقول قتلناه يظن ذلك لا أنه يستيقن. و لا يخفى أن الشك بمعناه اللغوي يلائم الظن، و ليس الشك بمعنى تساوي الطرفين حتى ينافي الظن الذي بمعنى ترجيح أحد الطرفين. وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي: باليقين و القطع لم يقتلوا عيسى.

[159] بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى محل تشريفه و هو السماء، فإنه قد ثبت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 580

[سورة النساء (4): الآيات 159 الى 160]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)

في علم الكلام أنه سبحانه لا محلّ له. ثم إن رفعه له إلى السماء يمكن أن يكون في بعض الكواكب فإنها- كما

في الحديث «مدن كمدنكم»

«1» وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً ذا عزة و سلطة يتمكن مما أراد و أمر حَكِيماً يضع الأشياء مواضعها و تقديراته عن حكمة و بصيرة.

[160] وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي ما من أحد من أهل الكتاب من اليهود إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ أي بالمسيح عليه السّلام قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت المسيح عليه السّلام ينزل من السماء و يصلي خلف الإمام المهدي عليه السّلام فيؤمن به كل يهودي «2». و من المعلوم أن المراد بكل يهودي من كان في ذلك الوقت، لا كل يهود العالم الذين ماتوا من قبل. و هذه العبارة عرفية فيقال: يعرف أهل البلد الفلاني جميعهم حتى إذا

خرجت منها، يريد بذلك: من كان منهم فيها، لا كل من مات أو خرج قبل رحلته وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ المسيح عليه السّلام عَلَيْهِمْ أي على اليهود شَهِيداً بأنه قد بلغ رسالات ربه، و أنهم آذوه و طردوه و لم يقبلوا منه.

و هناك احتمال أن يعود الضمير «به» إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي هو محل البعث مع الكفار، و ضمير «موته» إلى الكتابي، أي كل كتابي يؤمن بالرسول قبل أن يموت حين الاحتضار حيث ينكشف له الواقع.

[161] و لما ذكر سبحانه اليهود قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي بسبب

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2 ص 219.

(2) العمدة: ص 438.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 581

[سورة النساء (4): الآيات 161 الى 162]

وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)

ظلم اليهود لأنبيائهم و لأنفسهم و لغيرهم. بما تقدم من أقسام الظلم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فقد أحلّ قسم من الطيبات لهم، لكنهم لما ظلموا حرّم عليهم تلك الطيبات جزاء على أعمالهم. و المحرمات هي ما بيّن في قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ .. «1»، وَ بِصَدِّهِمْ أي بمنعهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً عطف على قوله: «فبظلم» فإنهم كانوا يصدون عن سبيل اللّه و يمنعون الناس عن التدين بدين المسيح و محمد عليهما السّلام كما كانوا يحرفون التوراة

حسب رغباتهم و أهوائهم.

[162] وَ ب أَخْذِهِمُ الرِّبَوا و هو أخذ الزيادة من المقترض، فقد كان حراما حتى في شريعتهم و لكنهم لم يكونوا يأبهون بالشريعة وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ أي و الحال أنهم كانوا قد نهوا عن أخذ الربا وَ ب أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ فقد كانوا يأخذون الرشوة في الحكم و يسيطرون على أموال الآخرين بالمكر أو القوة وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ الذين لم يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَذاباً أَلِيماً يؤلم أجسامهم و أرواحهم.

[163] و لما ذكر سبحانه «للكافرين منهم» فهم أن بعضهم ليس كذلك، و قد

______________________________

(1) الأنعام: 147.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 582

بيّن ذلك سبحانه بقوله: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد اللّه بن سلام و أصحابه الذين رسخوا في العلم و ثبتوا فيه و عرفوا العلم حق المعرفة وَ الْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المحتمل أن المراد بهم: المؤمنون بموسى حقيقة، مقابل سائر اليهود الذين كان إيمانهم مزيفا كاذبا يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا رسول اللّه من القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من كتب موسى و عيسى عليهما السّلام بخلاف اليهود الذين لم يؤمنوا إطلاقا، و كان إيمانهم بالتوراة كذبا، كما قال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1».

و هنا قد يتساءل البعض: أن اليهود إن كان في طبيعتهم الانحراف كما هو المشهور بين الناس و الظاهر من قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «2» و قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ «3» و من أعمالهم مع أنبيائهم و بالأخص موسى عليه السّلام، فكيف يمكن لهم التخلّي

عن هذه الطبيعة؟ و كيف يقبلون بالإسلام إذا أسلموا؟

و كيف يمكن التفريق بين من كفر منهم و بين من قال سبحانه عنه «لكن الراسخون ..»؟

و الجواب: أن اليهود لهم جهتا انحراف: الأولى طبيعتهم المتحجرة، و الثانية دينهم الباطل الذي يأمرهم بكل منكر، و تقاليدهم

______________________________

(1) الجمعة: 6.

(2) البقرة: 75.

(3) المائدة: 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 583

البالية السخيفة. و من المعلوم أن اليهودي إذا أسلم روضت طبيعته و صقلت بالإسلام، كالجبان الذي يشجع نفسه حتى تصبح له ملكة الشجاعة، و الفاسق الذي يسلك الصلاح حتى تحصل له ملكة العدالة.

و كذلك تذهب تقاليده و دينه المحرّف فلا يكون حافز له على الاجرام و الرذيلة، بالإضافة إلى أن الانحراف ليس من طبيعة الكل مطلقا بل الأغلب، كما لا يخفى.

وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ عطف على «الراسخون» أي الذين يقيمون الصلاة من اليهود فإن لكل دين صلاة، و إنما عطف بالنصب و القاعدة الرفع أي «المقيمون» لأنه نصب على المدح، و هذا تفنّن في الكلام لإزالة الضجر النفسي الذي يحصل من سبك واحد. و قد كانت إقامة الصلاة الدائمة من أقوى العوامل للإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنها مذكرة مستمرة توجب ملكة طيبة وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ فقد كان كل دين يأمر بالزكاة بمعناها الأعم وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا حقيقيا لا صوريا- كما كان عند غالب اليهود- أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات سَنُؤْتِيهِمْ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً في جنات النعيم التي فيها ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين و هم فيها خالدون.

و يمكن أن يكون الكلام من قوله: «و المقيمين» استئنافا إلى أن الراسخين في العلم من اليهود و المؤمنين الذين يقيمون الصلاة- من المسلمين-

أولئك نعطيهم الأجر العظيم، فلا يكون «المقيمين .. إلخ» من صفات اليهود الراسخين في العلم، و ربما يؤيد هذا الوجه نصب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 584

[سورة النساء (4): آية 163]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)

«المقيمين» كأنه أراد بيان الانقطاع عما قبله و أنه في حكم الضمير في «سنؤتيهم» أي سنؤتي المقيمين .. سنؤتيهم أجرا عظيما، كباب الاشتغال.

[164] ثم ذكر سبحانه أن مجادلات اليهود باطلة و أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوحي إليه كما أوحي من قبله إلى سائر الأنبياء، و قولهم بإنزال الكتاب عليهم بحيث قد كثر في الأنبياء السابقين من أوحي إليه، قال تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه «الوحي» هو الإلقاء في القلب بواسطة ملك، أو ابتداء بدون ملك في اليقظة أو المنام كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح عليه السّلام. ثم ذكر بعض الأنبياء بالاسم تعظيما و إن كانوا داخلين في عموم النبيين وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ و قدّم إسماعيل لأنه أرفع شأنا في الإيمان، و إن كان الثاني أكبر سنا- كما هو المشهور- وَ يَعْقُوبَ و هو حفيد إبراهيم ابن إسحاق جدّ اليهود، كما أن إسماعيل جد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الْأَسْباطِ أي: الأنبياء المبعوثون من أولاد يعقوب، و يسمّون الأسباط لأنهم أحفاد يعقوب كيوسف و غيره عليهم السّلام وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ

وَ سُلَيْمانَ و لم يذكر موسى عليه السّلام لأنه نزل عليه الكتاب من السماء الذي كان محل احتجاج اليهود- كما تقدم- وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً جمع «زبر» أي شيئا فشيئا، و لم ننزل على هؤلاء الأنبياء كتابا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 585

[سورة النساء (4): الآيات 164 الى 166]

وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)

كاملا بل إما وحيا و إما جزءا، كداود عليه السّلام.

[165] وَ أرسلنا رُسُلًا بالوحي إليهم قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ كيونس عليه السّلام مِنْ قَبْلُ في سائر القرآن وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ فقد كان عدد الأنبياء- على المشهور- مائة و أربعة و عشرين ألفا «1» وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً فلم يكن كل ما أتاه بشكل الكتاب، فموسى عليه السّلام الذي هو محل احتجاج اليهود كان اللّه قد كلمه، و الكلام قسم من الوحي، و لا يخفى أن كلام اللّه سبحانه إنما هو بخلق الصوت في الفضاء لأنه سبحانه منزّه عن الجسمية و لوازمها.

[166] رُسُلًا مُبَشِّرِينَ لمن آمن و أطاع بالثواب وَ مُنْذِرِينَ لمن كفر و عصى بالعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ بل لله الحجة البالغة، و المراد بالناس الغالب لا الكل إذ بعضهم لم تدركه الدعوة كما هو معلوم بالضرورة، و صرحت بذلك بعض الأحاديث وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً مقتدرا للعقاب و الثواب حَكِيماً يفعل الأفعال عن مصلحة و حكمة.

[167] إن

اليهود إن لم يشهدوا لك يا رسول اللّه بالنبوة بحجة مختلقة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 586

[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 168]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168)

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ و شهادة اللّه هي إجراء المعجزة على يد الرسول و لا يكون ذلك إلا لله وحده، و الفرق بين السحر و المعجزة أن السحر يوصل بالأسباب إلى مسبباتها و لو كانت الأسباب ختوما و أورادا، و المعجزة خرق لنواميس الطبيعة بمجرد إرادة الرسول و من آتاه اللّه ذلك. و لا يفرق بين الأمرين إلا أهل المعرفة، فالرسول يتمكن من إحياء الميت بينما لا يتمكن الساحر من ذلك و هكذا. أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي بعلمه أنك أهل للنبوة، أو أنزله مقترنا بالعلم الذي من لدنه، أو أن الإنزال كان معلوما لله تعالى لا كما يأمر الآمر و هو غافل أو جاهل أو ناس أو ساه، و الأول أقرب وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بما أنزل إليك، و لعل ذكر الملائكة تشريعي، أي بشهادة واقعية و إن لم يكن لها أثر، أو أن الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر و كما ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً يشهد بأنك رسوله.

[168] ثم ذكر سبحانه جزاء الكافرين بالرسول بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا الناس عن الإيمان و منعوا الإسلام عن التقدم قَدْ ضَلُّوا طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً متباعدا عن الطريق السوي.

[169] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسله و ما

جاءوا به وَ ظَلَمُوا أنفسهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 587

[سورة النساء (4): الآيات 169 الى 170]

إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

بالعصيان و الناس بالحرمان عن طريق الهداية لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إذا ماتوا على الكفر، كما يظهر القيد من سائر الآيات وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً و المراد طريق الجنة.

[170] إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ جزاء لما فعلوا من الكفر و الظلم خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا زوال للعذاب و لا انقطاع. و قد يتساءل البعض: و لم العذاب الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ و الجواب: أن العذاب للشر الكامن الذي كان له مظهر، و ذلك باق أبدا، و لذا قال سبحانه: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1»، وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لقدرته الكاملة و سلطانه المطلق.

[171] ثم خاطب سبحانه جميع الناس بوجوب الإيمان و التنكّب عن طريق الكفر بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْحَقِ أي مجيئه بالحق، أو بالدين الذي ارتضاه اللّه لعباده مِنْ رَبِّكُمْ أي من طرفه و جانبه، فربكم هو الباعث له. و فيه تأكيد لوجوب القبول فَآمِنُوا بما أتى به من الأصول، و أتوا خَيْراً لَكُمْ أي خيرا تعود فائدته إلى أنفسكم وَ إِنْ تَكْفُرُوا فلا تظنوا أن ذلك يضر اللّه تعالى

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 588

[سورة النساء (4): آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا

فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فلا ينقصه كفركم شيئا وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بمصالحكم و مفاسدكم، فالرسول آت بما هو الصلاح لكم حَكِيماً في أمره و نهيه و تدبيره و تقديره.

[172] ثم توجه السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدم الكلام عنهم، لكن هنا يراد بهم النصارى فقط، فقال سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الغلو: هو مجاوزة الحد و الارتفاع، و منه «غلا في دينه» أي تجاوز الحد إلى الارتفاع، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة:

الأب و الابن و روح القدس، و يريدون بالأول هو اللّه، و بالثاني المسيح، و بالثالث جبرائيل عليه السّلام وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي لا تفتروا على اللّه بأن تقولوا: إن اللّه أمرنا بعبادة آلهة ثلاثة، أو المعنى: لا تقولوا بالنسبة إلى اللّه ما ينافي عظمته من قولكم إن له شريكا إِلَّا الْحَقَ و هو أنه لا شريك له و لم يأمر إلا بذلك إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ قيل: إنما سمي بالمسيح لأنه كان يمسح الأرض و يسيح في البلاد، و «عيسى ابن مريم» بيان لقوله «المسيح» يعني أنه ابن مريم، لا أنه ابن اللّه، و «رسول اللّه» خبر لقوله «المسيح» وَ كَلِمَتُهُ أي كلمة اللّه، و هذا تشبيه، فكما أن المتكلم إذا قال القول، حدث

منه في الخارج شبه إلقاء، كذلك اللّه سبحانه يلقي الأشياء إلى الخارج فهي كلماته، و لذا يقال للمخلوقات «كلمات اللّه» و «إنما» هنا للحصر الإضافي مقابل النبوة و الألوهية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 589

أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوجدها في رحمها الطاهرة بدون زواج و اقتراب من رجل وَ رُوحٌ مِنْهُ سبحانه و «الروح» هي القوة- الطاقة- التي تتحرك و تحرك، و المعنى: أن عيسى روح من قبل اللّه سبحانه، و لذا يقال له: «روح اللّه»، و من المعلوم أن الإضافة تشريفية نحو:

بيت اللّه.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ إيمانا صحيحا بالإذعان لوحدانيته، و أنه لا شريك له و لا ولد، و أن المسيح رسوله الكريم وَ لا تَقُولُوا أيها النصارى أن الإله ثَلاثَةٌ أب و ابن و روح القدس انْتَهُوا عن هذا الكلام البشع، و أتوا خَيْراً لَكُمْ في دنياكم و آخرتكم من التوحيد و التنزيه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فليس المسيح شريكا له في الألوهية، فإن من كان له شريك لا يصلح أن يكون إلها إذ الشركة تلازم التركيب، و التركيب يلازم الحدوث، فإن كل مركّب لا بد له من مركّب و أجزاء سابقة- و لو رتبة- و ما سبقه غيره ليس بإله سُبْحانَهُ أي أسبّحه سبحانه، بمعنى: أنزهه تنزيها أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن اللّه، فإنه لو أريد بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات الإله، إذ لا يعتري الإله التغيير، و إلا كان حادثا، و لو أريد المعنى التشريعي كما يقول الشخص الكبير لبعض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 590

[سورة النساء (4): آية 172]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ

أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)

الناس- إذا أراد تشريفهم-: «فلان ولدي» فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى اللّه سبحانه إذ شؤونه كلها توقيفية، فقد أذن أن يقال: «فلان خليله» و لم يأذن أن يقال: «ابنه أو ولده». و المراد بالآية هو المعنى الأول.

لَهُ أي اللّه تعالى ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ و من يكون كل شي ء ملكه، لا يمكن أن يكون شي ء ولدا له، إذ الولد من جنس الوالد، و هو جسم فعل لله فليس له نظير و لا شبيه وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نفاذ أمره، و هو وعيد للقائلين بالتثليث.

[173] ثم ذكر سبحانه أن المسيح عليه السّلام يعترف بأنه عبد اللّه فلم يقول هؤلاء بأنه ابن اللّه أو شريك اللّه؟ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أي لن يأنف عيسى عليه السّلام أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ بل اعترف هو عليه السّلام حين ولادته بذلك قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا «1»، وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. و لعل هذا إشارة إلى رد من زعم أنهم أولاد اللّه كما حكى سبحانه بقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2»، وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ يأنف و يمتنع عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فيرى نفسه أكبر و أعظم من أن يعترف لله بالعبودية

______________________________

(1) مريم: 31.

(2) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 591

[سورة النساء (4): الآيات 173 الى 174]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً

أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)

فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً الحشر هو الجمع، أي يجمعهم يوم القيامة جميعا ليجازيهم باستكبارهم. و «إليه» ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه، بل المراد: المحل المعدّ لقضائه و جزائه.

[174] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صحيحا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أي يعطيهم عطاء كاملا تاما أُجُورَهُمْ التي وعد اللّه لهم وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم على ما كان قد وعدهم به من الجزاء على أعمالهم الحسنة تفضّلا منه و كرما وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا عن عبادته و طاعته فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يتولى أمورهم و ينجيهم من عذاب اللّه وَ لا نَصِيراً ينصرهم.

[175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة و دليل يدلّكم على الحق وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً أي نورا واضحا و هو القرآن، فكما أن النور يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الليل و نحوه، كذلك القرآن يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات الحياة، و بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 592

[سورة النساء (4): الآيات 175 الى 176]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

المعنى يعني اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1».

[176] فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ إيمانا صحيحا كما أمر العقل و الشرع وَ اعْتَصَمُوا بِهِ أي تمسكوا بالله في أمورهم، أو أن الضمير «به» يرجع إلى النور فَسَيُدْخِلُهُمْ يوم القيامة فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ سبحانه يرحمهم بها و يتفضل عليهم بالجنة وَ فَضْلٍ أي زيادة على ما استحقوا وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي يرشدهم إلى نفسه، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «2»، صِراطاً مُسْتَقِيماً أي جادة مستقيمة، فهم يصلون إلى الحقائق و السعادة في صراط مستقيم، حيث أنهم اتبعوا الدعوة و لبّوا الداعي. و مفهوم الآية: أن الذين كفروا بالله و اعتصموا بسواه فسيدخلهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا و يضلهم ضلالا بعيدا. و ما في بعض الأخبار من تفسير «النور» بأمير المؤمنين و الأئمة الطاهرين عليهم السّلام فإن ذلك من باب أظهر المصاديق، كما قد تكرّر بيانه.

[177]

في حديث أن جابر بن عبد اللّه الأنصاري كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: إن لي كلالة- أي أخوات- فكيف أصنع في مالي بالنسبة إلى ميراثهن؟ فنزلت الآية

«3» يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتوى يا رسول اللّه، و لهذه الآية ربط بما سبق في حكم

______________________________

(1) النور: 36.

(2) محمد: 18.

(3) راجع كتاب فقه القرآن: ج 2 ص 338.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 593

الكلالة وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً «1»، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ أي يبيّن لكم الحكم فِي مسألة الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي مات، و ليس معنى «الهلاك» ما يتبادر غالبا من كونه

هلاكا سيئا بل مطلقا، كما قال في قصة يوسف عليه السّلام حَتَّى إِذا هَلَكَ «2»، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ و لا أبوان حتى لا يكون هناك من في الطبقة الأولى كما دل عليه النص و الإجماع وَ لَهُ أُخْتٌ واحدة فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ فرضا، و النصف الآخر ردّا وَ هُوَ يَرِثُها أي الأخ يرث الأخت، لو كانت الأخت ميتة و الأخ حيا يرث جميع أموالها فرضا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ و لا والدان، و هذا مع قطع النظر عن الزوجين، و إلا فهما يرثان نصيبهما الأعلى و الباقي للكلالة.

فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ أي كان للرجل الميت أختان فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ فرضا و الثلث الآخر قرابة وَ إِنْ كانُوا أي الكلالة التي ترث الميت إِخْوَةً أي جماعة أكثر من الاثنين رِجالًا وَ نِساءً بعضهم أخوان و بعضهم أخوات فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لكل أنثى سهم واحد و لكل ذكر سهمان اثنان، و هذا كله في الأخوة من الجانبين

______________________________

(1) النساء: 13.

(2) غافر: 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 594

أو من جانب الأب، أما الأخوة من جانب الأم فقد سبق حكمهم في أول السورة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الأحكام أَنْ تَضِلُّوا أي لئلا تضلوا، أو كراهة أن تضلوا. بمعنى: تخطئوا الحكم في مسألة الكلالة وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم الصالح و الفاسد و لذا يكون أمره و نهيه و تقديره عن حكمة و صلاح.

قال في «المجمع»: و قد تضمنت الآية التي أنزلها اللّه في أول هذه السورة بيان ميراث الولد و الوالد، و الآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج و الزوجات و الأخوة و الأخوات من قبل الأم، و تضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة

بيان ميراث الأخوة و الأخوات من الأب و الأم، و الأخوة و الأخوات من قبل الأب عند عدم الأخوة و الأخوات من الأب و الأم. و تضمن قوله سبحانه: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1»، أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث فمن كان أقرب رحما و أدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد، و اللّه العالم «2».

______________________________

(1) الأنفال: 76.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 595

5 سورة المائدة مدنية- آياتها 121

سميت السورة بالمائدة لاشتمالها على كلمة «المائدة»، و حيث ختمت السورة المتقدمة ببيان الحكم بين الميت و الحي، تبتدئ هذه السورة ببيان الحكم بين الأحياء، فقال سبحانه:

[سورة المائدة (5): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و قد كان لتكرار البسملة أول كل سورة تعليما للناس أنهم إذا أرادوا أن يبتدءوا بعمل أن يقولوا هذه الجملة المباركة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 596

[2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا سبق أن الأحكام عامة، و إنما يخاطب المؤمنون بها لكونهم المستفيدين منها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «الجمع المحلّى بأل» يفيد العموم، أي كل العقود و «عقود» جمع عقد، و هو كل التزام و ميثاق بين جانبين، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض و المعاهدات الدولية و المواثيق التي بين اللّه و بين خلقه، و حيث كانت المواثيق بين اللّه و الخلق أولى العهود بالوفاء، ابتدأ بها بقوله سبحانه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فإن الحلال و الحرام و سائر الأحكام عقود بين اللّه و الخلق، أن يعمل

الخلق بالأوامر و يجزيهم اللّه عوض ذلك الجنة، كما قال سبحانه: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ «1»، و البهيمة من «الإبهام» يراد بها كل دابة، و الأنعام هي الإبل و البقر و الغنم و ما أشبهها كالظبأ و اليحمور، و سميت بهيمة لأنها لا تميّز، و الأنعام من «النّعم» لأنها من نعم اللّه على الخلق، و المراد ب «الحلية» الحلية ذبحا و أكلا و انتفاعا.

إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يقرأ عليكم مما هو محرم و هو قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ «2»، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال من «أحلت» أي أن التحليل في حال كونكم لا تحلّون الصيد في حال الإحرام، و هذا الحال استثناء يأتي بهذه الصورة كما تقول: «يجوز لك أن تتصرف في أموالي في حال

______________________________

(1) التوبة: 111.

(2) المائدة: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 597

[سورة المائدة (5): آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)

كونك لا يجوز لك التصرف في النفائس منها» تريد أن الجواز في غيرها إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل و تحريم و سائر الأحكام مما يراه صلاحا.

[3] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة، و هي الأمر المرتبط بشي ء كأنه من علائمه و مزاياه، فشعائر الحج:

الأمور المرتبطة بالحج، و شعائر اللّه الأمور المرتبطة بالله، و لعل اشتقاقها من «الشعر» بمعنى ما ينبت من الإنسان، كأن الشعيرة تلازم الشي ء تلازم الشعر، أو تلازم الشعار- الذي هو الثوب الذي على الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني- لبدن الإنسان. و الشعائر في الآية- لكونها مطلقة- تشمل كل شي ء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة بالله مما لم ينه عنه، فمعالم الحج من الشعائر، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من الشعائر. و المراد من عدم إحلال الشعائر:

خرق حرمات اللّه.

و

قد ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال «نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم، و قيل أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سأله عن معالم الإيمان، ثم أخبر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر، و لما وصل إلى سرح ساقه معه بها و أقبل في القابل حاجا قد قلد هديا، فلما قصد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معاقبته نزلت الآية»

«1» يريد بذلك «آمّين البيت الحرام».

______________________________

(1) البحار: ج 19 ص 148.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 598

وَ لَا تحلوا الشَّهْرَ الْحَرامَ بأن تقاتلوا فيه، و الأشهر الحرم هي: رجب و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم وَ لَا تحلوا الْهَدْيَ و هو الشي ء الذي يهديه الحاج إلى بيت اللّه الحرام للذبح من إبل أو بقر أو غنم، و المراد: لا تحولوا دون بلوغ ذلك إلى محله وَ لَا تحلوا الْقَلائِدَ و هي جمع قلادة، ما يقلد به الهدي من الإبل، و هو أن يقلد في عنقها شي ء

ليعلم أنه هدي لا يجوز تحليتها إذ بعد تقليدها تكون لله و لا يجوز الرجوع فيها وَ لَا تحلوا حال كونكم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ جمع «آمّ» على وزن «مادّ» من «أمّ» بمعنى قصد أي لا تتعرضوا لمن قصد البيت الحرام لأداء الحج يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً أي يطلبون بقصدهم الحج الفضل- أي الزيادة في الثواب أو المال أو غيرهما- من اللّه و رضاه مقابل من قصد الحج للإفساد فإن صده جائر.

وَ إِذا حَلَلْتُمْ عن الإحرام فَاصْطادُوا الصيد الذي حرمه الإحرام، و الأمر هنا للجواز لأنه في مقام توهم الحضر، و هذا دفع لما تقدم من قوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» فقد كان السياق لبيان المحرمات، و لذا أتت الآية الثانية لبيان سائر المحرمات مما أشير إلى بعضها في الآية الأولى و هو «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ».

ثم إنه لما أنهى سبحانه عن تحليل تلك الحرمات، بيّن أن هذه الحرمات لا فرق فيها بين من اعتدى عليكم و بين من لم يعتد عليكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 599

[سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

بقوله: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنّكم من «جرمني فلان على أن صنعت كذا» أي حملني شَنَآنُ

أي بغضاء و عداوة قَوْمٍ لكم ب أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي منعوكم عنه كما في عام الحديبية.

أَنْ تَعْتَدُوا عليهم بتحليل المحرمات المذكورة بالنسبة إليهم وَ تَعاوَنُوا أيها المسلمون عَلَى الْبِرِّ أي الخير واجبا كان أو غير واجب وَ التَّقْوى و هو اجتناب المحرمات، بأن يعين بعضكم بعضا في الأعمال الخيرية و ترك الآثام وَ لا تَعاوَنُوا أيها المسلمون عَلَى الْإِثْمِ فإذا أراد أحد منكم أن يعمل إثما فلا تعينوه وَ الْعُدْوانِ أي الظلم و التعدي، و هذا مرتبط بقوله: «أن تعتدوا» فقد جرت العادة أن يتعاون الناس على الإثم و الظلم، و لذا نهى اللّه المسلمين عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ اجتنبوا مخالفته و عصيانه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه و عصاه.

[4] و في سياق المحرمات المرتبطة بالحج- غالبا- ذكر سبحانه قسما آخر من المحرمات و هو ما استثناه سبحانه في الآية السابقة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أيها المسلمون الْمَيْتَةُ و هي التي لم تمت بسبب شرعي من ذبح و نحر و غيره، و ذلك مختلف ففي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 600

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 649

الأنعام مثلا تحتاج التذكية إلى فري الأوداج و سائر الشرائط، و في الصيد رميه، و في السمك موته خارج الماء، و هكذا .. و المراد بالتحريم: أكلها، فإن التحريم الشرعي يراد منه: بحسب الأمر المتوقع منه، فتحريم الحرير يراد به لبسه، و تحريم الأم يراد به اقترابها، و تحريم المسكن يراد به سكناه وَ الدَّمُ و هو ما بيّنه سبحانه في آية أخرى بقوله: دَماً مَسْفُوحاً «1»، أما المقدار المتبقي في اللحم فلا حرمة فيه وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ و

خصّص بالذكر مع كثرة تحريم اللحوم لاعتياد الناس أكله و ظنهم طيبه.

ثم لا يخفى أن المحرمات تنقسم إلى قسمين: قسم لما فيه من الإضرار.

أما ما يذكره بعض الناس- الآن من العلم الحديث- من إمكان التخلص من أضرار لحم الخنزير بالتعقيم، فليس بمحرم إذا عقّم.

فالجواب عنه: أنه أي دليل لعدم وجود أضرار أخرى فيه بعد التعقيم لم يكشف عنها العلم إلى الآن، كما لم يهتد العلم طيلة أربعة عشر قرنا لهذا الضرر الذي اكتشف الآن.

و قسم حرم لجهة معنوية، كالذي لم يسمّ عليه اسم اللّه سبحانه، و هذا لا يتوقف تحريمه على الضرر الجسدي بل يحرم لانحرافه عن الميزان المستقيم.

وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ الإهلال بالشي ء الابتداء به بِهِ أي

______________________________

(1) الأنعام: 146.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 601

الذبيحة التي ذكر اسم غير اللّه عليها عند الذبح- كما تقدم في سورة البقرة «1» وَ الْمُنْخَنِقَةُ و هي ما خنقت بأي نحو كان وَ الْمَوْقُوذَةُ الوقذ هو الضرب، أي التي ضربت حتى ماتت وَ الْمُتَرَدِّيَةُ التردي:

الوقوع من مكان عال، و المراد بها: التي وقعت من مكان عال فماتت، و قد كان أهل الجاهلية يقتلون الحيوان بهذه الكيفيات وَ النَّطِيحَةُ و هي التي ينطحها غيرها فتموت وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ فريسة السبع: و هي التي أكل الحيوان المفترس بعضها و أبقى بعضا، فإنه يحرم أكل الباقي إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ التذكية لغة هي «تمام الشي ء» و المراد بها هنا: تحليل الحيوان بإجراء السنن الشرعية عليه من كون الذابح مسلما، و التوجه إلى القبلة بالذبيحة، و كون آلة التذكية من حديد، و ذكر اللّه حالة الذبح، و فري الأوداج الأربعة، و المراد:

الاستثناء من «ما أَكَلَ السَّبُعُ» و إن كان الحكم

عاما أي أنه لو أدركتم ما أكله السبع فذكيتموه فهو حلال.

و إدراكها ما

عن الباقرين عليهما السلام حيث قالا: «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه»

«2».

وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع «نصاب» و هي الحجارة التي كانوا يعبدونها، أي التي تذبح باسم الأوثان تقرّبا إليها

______________________________

(1) البقرة: 174.

(2) بحار الأنوار: ج 62 ص 107.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 602

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ الاستقسام طلب القسمة، و الأزلام جمع «زلم» و هو القدح أي السهام، فقد كان أهل الجاهلية يشترون جزورا ثم يكتبون على سهام عشرة أسماء خاصة، فلسهم حصة واحدة، و لسهم حصتان، و هكذا إلى سبعة حصص، و يتركون ثلاثة أسهم لا حصة لها، ثم يجتمعون عشرة أشخاص فيخرج سهم باسم شخص و يعطى بمقدار حصة السهم لذلك الشخص و هكذا .. بعد ما كانوا يقسمون الجذور ثمانية و عشرين قسما، أما ثمن الجزور فقد كان على من يخرج باسم السهام التي لا حصة لها. و هذا نوع من القمار فحرمه الإسلام.

ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام أو جميع ما سبق من المحرمات، إتيانها فِسْقٌ و الفسق هو الخروج عن الطاعة و ارتكاب المعصية الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قال في «مجمع البيان»: ليس يريد يوما بعينه، بل معناه: «الآن يئس الكافرون من دينكم» «1». و روى القمي: إنه يوم نصب الإمام عليه السّلام «2» و هذا هو الأوفق بما تواترت به النصوص و ذكره المفسرون من شأن نزول آية الإكمال، فقد كان الكفار يترقبون أن يترك الرسول الأمر سدىّ حتى إذا قبض و لم يقم له خلف انقضوا على الإسلام يهدمونه، فلما نصب الرسول صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم الإمام يئسوا من ذلك حيث كانوا يعلمون كفاية الإمام و قدرته العظيمة، و لذا لما مات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علم الكفار و المنافقين باغتصاب الخلافة انقضوا على الإسلام يريدون

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 273.

(2) تفسير القمي: ج 1 ص 162.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 603

اقتلاع جذوره و قد علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك حين وصى الإمام بالصبر و إلا قامت حروب داخلية و خارجية تذهب بالإسلام.

و هنا يتساءل البعض: كيف أن الإمام لما نهض بالأمر نكثت طائفة و مرقت أخرى و قسط آخرون؟ و الجواب: أن الظروف التي تقدمت على نهضة الإمام غيّرت معالم الإسلام، و لذا احتاج الإمام إلى إرساء قواعد الدين من جديد، و ذلك مما يوجب اضطرابا و اختلافا شأن الأنبياء حين يدعون أممهم إلى الخير، لكن الخطر الخارجي كان حين ذاك بعيدا حيث أن الكفار انكمشوا و قوي الإسلام- و لو الصوري منه- و الحروب الداخلية لم تكن تؤثر شيئا بالنسبة إلى انعكاس كفة الإسلام و الكفر، لتميل الكفة الثانية على حساب خفة الكفة الأولى.

فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا على دين الإسلام كما كنتم تخشونهم من قبل وَ اخْشَوْنِ في أن ترتكبوا العصيان و تخالفوا أمر اللّه و الرسل. الْيَوْمَ أي يوم الغدير أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بنصب علي عليه السّلام خليفة من بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فإن نعمة الإسلام دون نعمة الإيمان بالولاية ناقصة وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فإن الإسلام ذو درجات، و اليوم رقيتم الدرجة القصوى فرضي اللّه عن المسلمين بالحال التي و

صلوا إليها، و «الرضى» هنا ليس في مقابل السخط بل في مقابل النقص الأثري، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول: لم أرض بعد، أي لم يكمل رضاي، و إنما يقول:

رضيت الآن، إذا تم بناء الدار.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 604

[سورة المائدة (5): آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)

و قد كان ذلك عند نصب الرسول للإمام أمير المؤمنين خليفته الرسمي بعد منصرفه من حجة الوداع بمحضر مائه و عشرين ألف من الأصحاب من الرجال و النساء،

فصعد المنبر و خطب خطبة طويلة ثم قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله» «1» و هو آخذ بكف علي.

و نزل عن المنبر و أمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، و بقوا هناك ثلاثة أيام حتى تمت البيعة ثم قفلوا راجعين إلى المدينة.

فَمَنِ اضْطُرَّ إلى أكل المحرمات المذكورة فِي مَخْمَصَةٍ و هي «القحط» يسمى بذلك لإيجابه خمص البطون جوعا غَيْرَ مُتَجانِفٍ أي في حال كون المضطر لم يمل لِإِثْمٍ فإن «الجنف» بمعنى الميل، فلا يفرط في الأكل، كأن يكون محتاجا إلى شرب نصف رطل من الخمر- مثلا- فيشرب رطلا، و كذا بالنسبة إلى الميتة و سائر المحرمات فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر هذه السيئة الذاتية بمعنى عدم العقاب عليها رَحِيمٌ يرحم الناس فلا يجبرهم على الترك حتى عند أشد الضرورات.

[5] و بعد بيان قسم من المحرمات، يأتي السياق لبيان

قسم من المحللات لتتعادل الكفتان، و قد ورد في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر بقتل الكلاب «2»، فسئل عن الاستثناء، فنزلت الآية تحلل ما يصطاده

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 295.

(2) فقه القرآن: ج 2 ص 245.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 605

الكلاب المعلمة و التي فيها نفع، و نهت عن إمساك ما لا نفع فيه و أمرت بقتل الكلب العقور و ما يضر و يؤذي يَسْئَلُونَكَ يا رسول اللّه ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ من المأكولات بقرينة السياق قُلْ يا رسول اللّه: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و الطيب هو الشي ء الذي لا خبث فيه مما لا ينفر منه الطبع، و إذن الشارع في بعض المأكولات دون بعض لهذا الميزان، و إن لم يعرف العرف أن هذا طيب و هذا خبيث، فما أباحه الشارع فهو طيب و إن ظنّه العرف خبيثا، و ما حرمه الشارع فهو خبيث و إن ظنّه العرف طيبا.

وَ أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ و حذف المضاف أي «صيد» لدلالة قوله: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ»، و «الجوارح» جمع جارحة، سمي بذلك الكلب و سائر السباع لأنها تجرح الصيد، ثم خصّص سبحانه عموم الجوارح بقوله: مُكَلِّبِينَ أي في حال كونكم أصحاب كلاب معلّمة، يقال: «كلّب الكلب» إذا علّمه الصيد تُعَلِّمُونَهُنَ أي الكلاب الجارحة.

مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فإن اللّه قد علمكم تعليمهن، و لعل الإتيان بضمير «هن» الذي هو للمؤنث العاقل لانسجام سياق التعليم و التعلم مع ذلك، و إلا فالقاعدة «تعلموها» كما أن فائدة «مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» لإيقاظ الضمير و توجيهه إلى اللّه سبحانه، فإن القرآن الحكيم يربط الأحكام و القصص بذاك الرباط العام و هو

معرفة اللّه و سوق النفس إليه في كل مقام و مناسبة فَكُلُوا أيها الصائدون مِمَّا أَمْسَكْنَ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 606

حفظن و اصطدن تلك الكلاب عَلَيْكُمْ أي لأجلكم لا لأنفسهن، فإن ذلك حرام وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي على «ما أمسكن» حين إرسال الكلب. و لا يخفى أن بهذا القيد أي «مكلبين» خرج صيد سائر الجوارح إذا لم يدرك الإنسان ذكاته.

روى الحضرمي عن الإمام الصادق عليه السلام قال سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب؟ فقال: «لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب». فقلت: فإن قتله؟ قال: «كل، فإن اللّه يقول: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ثم قال عليه السلام: «كل شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها»

«1» و إنما تعدى الإمساك ب «على» لإفادة الإمساك ثقلا و مشقة، أو يتضمن معنى «الرد» فالكلب يرد بعض الحيوان لصاحبه و قد أكل بعضه، كما قال سبحانه: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ «2».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم و نهاكم فلا تتناولوا ما حرمه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فإن الإنسان و إن ظنّ طول المدة في الدنيا و أنه بعيد جزاؤه، لكن لا تمض إلا مدة يسيره و إذا به يرى نفسه أمام الحساب.

قال أمير المؤمنين عليه السلام «فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا و كأن الآخرة لم تزل لهم دارا»

«3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 23 ص 333.

(2) الأحزاب: 38.

(3) نهج البلاغة: خطبة 186 ص 385.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 607

[سورة المائدة (5): آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ

أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

[6] الْيَوْمَ الذي تمّ فيه بيان كل الأحكام، و نوجز المحللات فنقول:

أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و هذا عام يشمل الطيب من المآكل و المناكح و المساكن و الملابس و غيرها بقرينة «و المحصنات» بخلاف الآية السابقة التي كانت خاصة بالمأكل بحكم السياق، و هذه الآية تدل على كون الأصل في كل الأشياء الحلّ إلا ما خبث، و من المعلوم أن الخبث لا يميّز إلا بالشرع أو بالعقل نادرا وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي الذين أرسل لهم الكتاب السماوي كاليهود و النصارى و المجوس حِلٌّ لَكُمْ و الطعام إما المراد به الحبوب، كما هو المروي و المتعارف إلى اليوم، فإن كلمة «باعة الأطعمة» أو ما أشبهها تنصرف إلى باعة الحبوب، أو المراد به العام لكل طعام، و قد استثني من ذلك الذبائح، لقوله سبحانه: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ «1»، و ألحق به غيره إجماعا، كما استثني ما لامسة الكتابي برطوبته لأنهم مشركون لقوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «2»، و في آية أخرى حكم بنجاسة المشرك بقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «3»، و تفصيل البحث في الفقه «4».

و هنا سؤال يفرض نفسه و هو: ما الفائدة من هذا التنصيص و الحال أن طعام غير أهل الكتاب حلّ أيضا؟ و الجواب: إنه من باب المورد و القيد الغالب لابتلاء المسلمين به غالبا، كما يدل على ذلك وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و من

المعلوم أن طعام المسلم حلّ حتى

______________________________

(1) البقرة: 174.

(2) الأعراف: 191.

(3) التوبة: 28.

(4) موسوعة الفقه: ج 3.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 608

للمشرك الوثني، ثم لو قلنا: إن الجملة عامة لكل طعام، فهل معنى حلية طعامنا لهم الحلّية بالنسبة إلينا أي أن طعامهم حل لنا، أو الحلية بالنسبة إليهم أي يجوز لهم أن يطعموه؟ الظاهر الثاني، و إن كان لا يبعد الأول لأن قاعدة «ألزموهم بما التزموا به» تقتضي كون الحرام عندهم من أطعمتنا كذبائحنا بالنسبة إلى اليهود مثلا، لا يجوز لهم أن يطعموه. و في الكلام مناقشة.

وَ أحلت لكم الْمُحْصَناتُ أي العفيفات اللاتي أحصن أنفسهن عن الحرام مِنَ النساء الْمُؤْمِناتِ بأن تنكحوهن، أما الزانيات غير العفيفات فالمشهور بين العلماء جواز نكاحهن بالسّنّة، و لا مفهوم للآية حتى يمنع عن ذلك، لما ثبت في الأصول من عدم حجية مفهوم اللقب و إنما خصّصن لأنهن من «الطيبات».

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ و هم اليهود و النصارى و المجوس- و المجوس أهل كتاب على الأصح- و قد اختلف العلماء في جواز نكاحهن نكاحا دائما بعد كون المشهور جواز نكاحهن منقطعا، و لو قلنا بعدم جواز الدائم فهو تخصيص بالسنّة، و قد ثبت جواز تخصيص الكتاب بالسنة الواردة إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي أعطيتموهن مهورهن، و ليس معنى «الإعطاء» الإعطاء الفعلي بل ذلك و إن كان في المستقبل، و لا مفهوم للآية بالنسبة إلى الحكم الوضعي حتى يكون: «من لا يريد الإعطاء إطلاقا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 609

و لم يعط تحرم عليه المرأة المزوجة» بل المراد: الحكم التكليفي، أي أن ذلك حرام لا يجوز و هذا تحريض للإعطاء.

في حال كونهم مُحْصِنِينَ بالمسلمة

أو الكتابية، بأن كان اقترابكم منهن بالإحصان و النكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ تأكيد لقوله «محصنين» و السفاح هو الزنا وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ الخدن هو الصديق، و هو أن ينفرد الرجل بالمرأة يزني بها دائما فهي و هو خدنان، أي أنه لا يجوز للرجل بالنسبة إلى المسلمة و الكتابية ذلك كما لا يجوز العكس. و قد تقدم شبه هذا في سورة النساء، و معنى الآية جملة: أن مقاربة المرأة المسلمة العفيفة و الكتابية العفيفة يجوز لكم و يطيب، و أعطوا مهورهن، لكن اللازم أن يكون الاقتراب بالنكاح لا بالسفاح أو باتخاذهن أخدانا كما يكثر الأمران عند غير المسلمين.

ثم إن ما ذكرناه من المحرمات و المحللات كلها من مقتضيات الإيمان الواجب التمسك به وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ تعبير آخر عن المعصية و الخروج عن الطاعة، و لعل الإتيان بهذه اللفظة هنا لإفادة أن الكفر- في باب المحللات و المحرمات- ليس بالأصول و إنما هو بالفروع، و قد تقدم في بعض الآيات أن الكفر قسمان: كفر بالأصول هو الموجب لخروج الإنسان عن كونه مسلما، و كفر بالفروع، كما قال سبحانه: وَ مَنْ كَفَرَ «1»، و قال وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ «2»، و هو الموجب لكون

______________________________

(1) النور: 56.

(2) إبراهيم: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 610

[سورة المائدة (5): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

الإنسان فاسقا فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ معنى «الحبط» عدم استحقاق الثواب على العمل كما قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1»، وَ هُوَ الكافر بالإيمان فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ اللذين خسروا أنفسهم حيث استحقوا العقاب حين استحق سائر المطيعين الثواب.

[7] و في سياق ذكر الطيبات و الملاذ الجسدية يأتي دور الطيبات و الملاذ الروحية التي من أكثرها طيبا و لذة الصلاة بما لها من طهارة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي أردتم إياها فان المريد لشي ء يقوم إليه ليأتي به، ألا ترى أن الناس يقعدون إلى أشغالهم فإذا أذّن المؤذن قاموا إلى الصلاة ليأتوا بها فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ من قصاص الشعر إلى الذقن طولا، و ما اشتملت عليه الإبهام و الوسطى عرضا، بالماء الطاهر المباح، غسلا طبيعيا، من الأعلى إلى الأسفل وَ اغسلوا أَيْدِيَكُمْ و لما كان المنصرف من «اليد»: تمام اليد إلى الكتف، أخرجه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ فإن الغسل يستثني منه غسل العضد و لذا لا يستفاد من «إلى» هذه كونها غاية للغسل بل المستفاد كونها غاية للمغسول، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض: ادهن رجلك إلى الركبة.

لم يستفد عرفا منه لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة بل استفيد كون الفخذ خارجا عن التدهين، و على هذا فاللازم الابتداء من الأعلى لأنه الغسل الطبيعي الذي وردت به السنة وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 611

«الباء» للتبعيض أي: بعض رؤوسكم، و هو الربع المقدم من الرأس من المفرق إلى قصاص الشعر وَ امسحوا أَرْجُلَكُمْ و المراد بهما ظهرهما إِلَى الْكَعْبَيْنِ و هما قبتا القدمين، و إنما قرء بالنصب

مع أنه معطوف على المجرور باعتبار المحل، و قد كان الترتيب المجزي قطعا في باب الوضوء غسل الوجه ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم مسح الرأس ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى، و المسح ببقية بلل الوضوء.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً «الجنب» لفظ يقع على المفرد و المثنى و الجمع، و المذكر و المؤنث، بلفظ واحد، هو من «البعد»، كأن الإنسان إذا اعترته هذه الحالة يبتعد من النظافة، و حصول الجنابة بالإنزال أو الإدخال فَاطَّهَّرُوا من «تطهر» ثم أدغمت التاء في الطاء و جي ء بهمزة الوصل لامتناع الابتداء بالساكن، و التطهير هو الاغتسال بالارتماس في الماء مرة واحدة، أو الترتيب بغسل الرأس و الرقبة ثم الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لا تتمكنون من استعمال الماء للوضوء أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين- و قد سبق أن ذكر السفر لغلبة عدم وجود الماء فيه- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ و «الغائط» هو المحل المنخفض من الأرض و سمي البراز به بعلاقة الحال و المحل و ذلك كناية عن الحدث أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ و هو كناية عن الجماع فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا مرتبط بالسفر و الحدث و اللمس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 612

فَتَيَمَّمُوا معنى الآية بالجملة: إن مريد الصلاة يلزم عليه الوضوء و الغسل إن كان جنبا. و إن كان مريضا يضره الماء أو مسافرا أو مجامعا، و لم يجد الماء للغسل أو الوضوء فليتيمّم و يبقى قوله: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فإنه ليس في مرتبة تلك الأمور، و لعل الإتيان به لمراعاة غلبة التخلي عند إرادة الصلاة.

و قد سبق أن التيمم مصدر باب التفعل بمعنى القصد، أي اقصدوا صَعِيداً أي

أرضا طَيِّباً ليس بنجس و لا مغصوب فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ الباء للتبعيض، أي بعض وجوهكم، و هو من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى وَ أَيْدِيَكُمْ من الزند إلى رؤوس الأصابع مِنْهُ أي مبتدءا بالمسح من ذلك الصعيد، فاللازم أن يضرب باليدين على الأرض ثم يمسح بها ليصدق «منه».

ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ من ضيق فأمره بالوضوء و الغسل و التيمم ليس لأجل التضييق عليكم وَ لكِنْ يُرِيدُ اللّه سبحانه لِيُطَهِّرَكُمْ و ينظفكم من الأدران و الأوساخ الظاهرية و الباطنية، أما تطهير الغسل و الوضوء من الأدران فظاهر، و أما تطهير التيمم فقد ثبت في العلم الحديث أن التراب يقتل الجراثيم بمرتبة أضعف من مرتبة الماء وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإرشادكم إلى مصالحكم كلها بعد ما أرشدكم إلى أكبر النعم و هو الإيمان لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إياه بما أنعم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 613

[سورة المائدة (5): الآيات 7 الى 8]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)

عليكم و أرشدكم إلى مصالحكم و ما يقربكم منه سبحانه.

[8] وَ إذ أتم سبحانه نعمته عليكم ف اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ اذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي عهده الذي عاهدكم به من الإيمان و السمع و الطاعة، فقد أخذ سبحانه ميثاق الأمم على يد الأنبياء إِذْ قُلْتُمْ بعد ما آمنتم: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا فعليكم حسب المعاهدة السمع و الطاعة و

على اللّه الإسعاد في الدنيا و الآخرة، و اللّه سبحانه فعل ما عليه فعليكم أن تفعلوا ما عليكم وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره و نواهيه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ في «ظلال القرآن» قال: و «ذات الصدور» أي صاحبة الصدور الملازمة لها اللاصقة بها، و هي كناية عن النيات المقيمة و الأسرار الدفينة و المشاعر التي لها صفة الملازمة للقلوب و الاستقرار في الصدور و هي على خفائها هناك مكشوفة لعلم اللّه و اللّه بها عليم.

[9] ثم يرجع السياق إلى لزوم الجادة و عدم الاعتداء- كما سبق- في قوله:

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ «1»، كما تجد مثل ذلك كثيرا في القرآن الحكيم حيث يلطف الجو بذكر الصلاة و نحوها ثم يرجع إلى المطلب السابق بعد ما لطف الجو و ربطه بالطابع الإلهي العام و أخرج الكلام عن كونه مملّا. ثم إن ما يأتي هو من الميثاق الذي واثق اللّه

______________________________

(1) المائدة: 3

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 614

[سورة المائدة (5): آية 9]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9)

عباده به يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي كثيري القيام لأمر اللّه سبحانه و رضاه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل في كل أمر من الأمور وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي: عداؤهم لكم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا في الحكم عليهم و عند مخالطتهم، فإن الإنسان إذا عادى شخصا لا يعدل بالنسبة إليه- غالبا- انتقاما و شفاء لما في صدره من الضغينة عليه، و لذا كان من أسس الإسلام قول الحق في الرضى و الغضب اعْدِلُوا هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى و ليس المفهوم: أن الجور قريب

إلى التقوى، فإن التفضيل في مثل المقام ينسلخ عن معناه اللغوي وَ اتَّقُوا اللَّهَ باجتناب نواهيه و الإتيان بأوامره إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

[10] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله و ما جاءوا به وَ عَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ و ذلك يلازم ترك السيئات لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ و جملة «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» في موضع نصب مفعولا ل «وعد» و لعلّ سر الإتيان بالجملة، إفادة أن المطلب مقطوع به، فإن الجملة الاسمية تفيد اليقين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 615

[سورة المائدة (5): الآيات 10 الى 11]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

[11] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فلم يؤمنوا إيمانا صحيحا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا براهيننا و أدلتنا التي أقمناها على التوحيد و سائر الأصول أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الذين يصاحبون النار و يخلدون فيها.

[12] ثم ذكّر المؤمنين بنعمة من نعمه سبحانه و أنه كيف و في لهم بميثاقه حيث أنقذهم من كيد أعدائهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ أي قصد و أراد قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ و المراد ب «بسط اليد» إيذاؤهم و قتلهم و استئصالهم. قال القمي يعني: أهل مكة من قبل فتحها، فكف أيديهم بالصلح يوم الحديبية «1». و قيل: إن المراد بذلك العموم، أي من أراد السوء بالمسلمين. و قيل: المراد بالقوم خصوص بني النظير حيث أرادوا قتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبر بذلك

فنجى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كيدهم. و قيل غير ذلك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي منعهم من الفتك بكم بل نصركم عليهم وَ اتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره و اجتناب زواجره وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يكلون إليه سبحانه أمورهم و يجعلونه نصيرا و ظهيرا لهم.

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 163.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 616

[سورة المائدة (5): آية 12]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)

[13] لو كانت الآية السابقة حول بني النظير- و هم من اليهود- لكان الارتباط بين الآيتين واضحا، إذ بيّن سبحانه هنا أنهم خانوا الأنبياء مع ما تفضل اللّه عليهم بكل خير و نعمة، فكيف لا يريدون خيانة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟! و يحتمل أن يكون الارتباط من جهة الميثاق فيريد سبحانه أن يذكر المسلمين حتى لا يكونوا كاليهود الذين خانوا و نقضوا الميثاق بعد أخذه منهم إذ قد سبق قوله: وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ «1» وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ العهد الأكيد الذي أخذه اللّه منهم على لسان أنبيائه وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من «النقب» و هو الكشف، فكأن النقيب- و هو كفيل القوم- ينقب عن أسرارهم و يكشف ضمائرهم ليسير بهم نحو الخير و الصلاح في المجتمع. أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر، اثنى عشر رجلا

كالطلائع يتحسّسون و يأتون بني إسرائيل بأخبار أرض الشام و أهلها الجبارين، فاختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا- أي أمينا كفيلا- فرجعوا يثنون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة بأسهم و عظم خلقهم إلا رجلين منهم، بن يوقنا و يوشع بن نون وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي قال لبني إسرائيل، و كونه معهم بمعنى أنه يؤيدهم و ينصرهم و يهديهم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ يا معشر بني إسرائيل وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ أي أعطيتموها

______________________________

(1) المائدة: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 617

[سورة المائدة (5): آية 13]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي الذين يأتون من بعد موسى عليه السّلام و لذا أخّر الإيمان عن إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي عظمتموهم، أو نصرتموهم وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي أنفقتم في سبيله، فإنه كالقرض الذي يعطى ثم يؤخذ، و المراد بكونه «حسنا» أن لا يكون فيه منّ و لا أذى و لا دواع غير اللّه سبحانه لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ أي أذهبن، و معنى «التكفير» التغطية، أي أغطي بالغفران سَيِّئاتِكُمْ التي صدرت منكم، و هو جواب «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ» وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت قصورها و بساتينها فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد أخذ الميثاق مِنْكُمْ يا بني إسرائيل فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ وسط الطريق، فإن سواء كل شي ء وسطه.

[14] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم الذي كان بيني و بينهم حيث

أنهم تركوا الصلاة و منعوا الزكاة و كذبوا بالرسل و قتلوهم لَعَنَّاهُمْ أي طردناهم عن ساحة القرب و قطعنا رحمتنا عنهم حيث جعلنا بعضهم قردة و خنازير و جعلناهم مشردين مطرودين دائما لا تقوم لهم قائمة وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 618

و تميل نحو الظلم و الكفر. و جعله سبحانه قلوبهم قاسية، بمعنى: تركه اللطف بهم حتى تردّت ملكة أخلاقهم، كمن يعصي أستاذه في أوامره فيترك تدريسه و تهذيب أخلاقه حتى يصبح جاهلا ذا أخلاق سيئة.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة عَنْ مَواضِعِهِ و تحريفهم الكلم على قسمين: قسم بمحو بعض التوراة، و قسم بتأويله على غير المعنى المقصود منه.

وَ نَسُوا حَظًّا أي قسما مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي من الأحكام التي ذكّرناهم بها في التوراة فإنه قد فقد بعض التوراة مما لا يعلّمونه للناس، أو المراد من «النسيان» أنه صار كالمنسي عندهم من جرّاء عدم العمل، فإن النسيان يطلق على ما أهمله الإنسان يقال: «نسيني» أي أهملني، و قال سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1»، وَ لا تَزالُ يا رسول اللّه تَطَّلِعُ باستمرار عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي طائفة خائنة، أو نفس خائنة، إذا قالوا قولا خالفوه و إذا عاهدوا عهدا نقضوه- كما أراد بنو النظير الغدر به و الخيانة بعد الميثاق- إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ إما استثناء من الجميع أو من الجملة الأخيرة، فإن «قليلا منهم» ليسوا كذلك كعبد اللّه بن سلام، أو إن «قليلا منهم» لا يخون فَاعْفُ عَنْهُمْ أي عن

______________________________

(1) التوبة: 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 619

[سورة المائدة (5): آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا

بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

هؤلاء وَ اصْفَحْ أي تجاوز، فإنك لست منتقما، و أن ذلك ليس من شأنك إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فإن العفو و الصفح إحسان، و الإحسان محبوب حتى بالنسبة إلى المجرم.

[15] هذا كان شأن اليهود، أما النصارى فليسوا أحسن حالا من اليهود في بعض الجهات وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قولا باللفظ لا اعتقادا بالقلب، كما تقول: فلان يقول إني مسلم، تريد بذلك أنه ليس بمسلم حقيقة بل مسلم قولا أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإيمان بالرسل و اتباع أوامر اللّه فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كما نسي اليهود ذلك من ذي قبل فَأَغْرَيْنا التسليط و التحرّش و التحريض بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإنهم انقسموا إلى أقسام و أخذ بعضهم يعادي بعضا عداء لا مثيل له، حتى إن عداء بعضهم بلغ إلى حد لم يبلغ عداؤهم لليهود و المسلمين و الوثنيين، و قد شهد التاريخ قديما مذابح في فرق النصارى و معاداة الكاثوليك و البروتستانت و الأرثوذكس فعلا لا يحتاج إلى برهان، و هذه إحدى معجزات القرآن الحكيم، كإخباره عن ذلّة اليهود ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «1».

______________________________

(1) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 620

[سورة المائدة (5): آية 15]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15)

و هنا سؤال و هو: كيف يكون إلى يوم القيامة، و في زمان المهدي عليه السّلام الكلّ يسلم وجهه إلى اللّه؟ ثم إن يوم

القيامة إنما يكون بعد موت الناس عشرات السنوات؟

و الجواب: إن هذا معناه: بقاء العداوة ما بقوا، يعبّر عن استمرار الشي ء إلى الآخر بمثل هذا التعبير.

وَ سَوْفَ في يوم القيامة يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ أي يخبرهم سبحانه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ و يقف التعبير إلى هذا الحد ليرسم صورة من التهديد، كما تقول للمجرم: غدا أنبئك بما عملت اليوم، تريد بذلك تهديده بالعقاب القاسي.

[16] ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب بصورة عامة لهدايتهم سواء السبيل:

يا أَهْلَ الْكِتابِ أيها اليهود و النصارى- و لعل المجوس أيضا داخلون في الخطاب- قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من أحكام اللّه سبحانه التي عارضت مصالحهم فأخفوه عن الناس إبقاء على كيانهم و انحرافهم وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ممّا استوجبوه من العقاب، أو يعفو عن بعض الأحكام التي أوجبت عليهم العقوبة، كما قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 621

[سورة المائدة (5): آية 16]

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»، فالفرصة سانحة الآن لتتداركوا ما فات منكم.

قَدْ جاءَكُمْ يا أهل الكتاب مِنَ اللَّهِ نُورٌ هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فكما أن النور الخارجي يهتدى به إلى الأمور المحسوسة في الظلمة، كذلك النور المعنوي يهتدى به إلى دروب الحياة في ظلمات الأهواء و الجهل وَ كِتابٌ مُبِينٌ هو القرآن، فإنه واضح لا لبس فيه و لا غموض.

[17] يَهْدِي بِهِ أي بكل واحد من «النور و الكتاب»، كما قال سبحانه:

فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «2»

أي كل واحد منهما اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من اتبع رضوان اللّه- أي رضاه- بقبول القرآن و نبوة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سُبُلَ السَّلامِ أي طرق السلامة في كل شي ء، السلامة في الدين، و السلامة في الدنيا، و السلامة في الآخرة للفرد و المجتمع وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فإن الحياة ظلمات لا يدري الإنسان كيف يسير في دروبها، و بالقرآن و النبي يهتدي إلى الحق و ينير طريقه بِإِذْنِهِ بإذن اللّه و لطفه وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يوصلهم إلى

______________________________

(1) النساء: 161.

(2) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 622

[سورة المائدة (5): آية 17]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17)

سعادة الدنيا و الآخرة.

[18] إنه يهدي إلى الصراط المستقيم في العقيدة لا الاعتقاد بأن المسيح هو اللّه أو الاعتقاد بأن لله أبناء لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فإنه سواء جعلوه إلها واحدا أو شريكا له، فقد كفروا، إذ إنكار اللّه سبحانه و التشريك معه كلاهما كفر قُلْ يا رسول اللّه في إبطال قولهم: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من يقدر على أن يدفع أمرا من أوامر اللّه و إرادة من إرادته إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إن النصارى يعترفون بذلك، و أنه بإمكان اللّه أن يهلك كل أولئك، فكيف يجتمع هذا

الاعتراف مع الاعتقاد بألوهية المسيح؟ إن الإله لا يمكن لأحد مخالفة أمره التكويني فكيف يتمكن أحد إهلاكه؟

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فكيف يمكن أن يكون له شريك مع أن كل شي ء يتصور فهو ملك لله؟ و هل يمكن أن يكون إله مملوك؟ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إن شاء خلق من غير ذكر و لا أنثى كآدم و حواء عليهما السّلام، و إن شاء خلق من ذكر و أنثى كسائر الناس، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 623

[سورة المائدة (5): آية 18]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

شاء خلق من أنثى دون ذكر كالمسيح عليه السّلام، فليس في خلقه دلالة على ألوهيته كما زعمت النصارى وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ليست قدرته منحصرة في شي ء أو أشياء خاصة حتى إذا كان قد خلق بذلك الشكل «بشكل عيسى» دل على أنه ليس من خلقه.

[19] وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما حذّرهم نقمة اللّه و عذابه قالوا: نحن أبناؤه، و الابن الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المفترين: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ اللّه بِذُنُوبِكُمْ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم:

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1»، فإن كنتم أبناء أحباء لم يكن معنى للعذاب، و لعل المراد من «المستقبل»: الماضي، أي لم عذبكم سابقا بذنوبكم حيث جعل منكم القردة

و الخنازير و أشباه ذلك؟ بَلْ أَنْتُمْ أيها اليهود و النصارى بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ تعالى إن أحسنتم جوزيتم و أن أسأتم جوزيتم كما يجازى غيركم من الناس يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ من العاصين وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم، لأنه لا بنوّة و لا عواطف خاصة بين اللّه و بينكم وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فليس

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 624

[سورة المائدة (5): الآيات 19 الى 20]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)

شي ء من نفس اللّه حتى لا يملكه سبحانه- كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه- وَ ما بَيْنَهُما من سائر المخلوقات و المراد بالسماء هنا:

الكواكب و ما يرى في ناحيتها- كما هو المنصرف- حتى يتصور ما بينهما، لا جهة العلو وَ إِلَيْهِ سبحانه الْمَصِيرُ المرجع و المآل، فليس هناك غيره يملك شي ء أو يرجع إليه في أمر.

[20] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ الأصول و الفروع عَلى حين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي انقطاع منهم، فلم يكن قرب بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نبي، و قد كنتم في جهالة و ضلالة، و الآن جاء المعلم المنقذ الهادي. و لعل سر «تبيين الأمر» و بوضوح أن الدنيا لا تستقيم إلا بهدى السماء، فإنه

لما انقطع الوحي في الفترة ساد العالم خراب و فوضى لا مثيل لها، و بذلك يكون تجربة عملية، و إنما جاء الرسول لئلّا تحتجوا و أَنْ تَقُولُوا يوم القيامة: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ حتى نهتدي و نصلح فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ لمن آمن و اتقى بالجنة وَ نَذِيرٌ لمن كفر أو عصى بالنار وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على أن يرسل الرسول، فليس لشخص أن يقول: كيف يكون هذا رسول؟

[21] و يرجع السياق إلى قصة بني إسرائيل الذين نقضوا كل المعاهدات و المواثيق و لم يفوا لموسى نبيهم المعترف به، فكيف يفون لغيره ممن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 625

لا يعترفون به عنادا و حسدا؟! وَ اذكر إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فقابلوها بالإطاعة و اتباع الأحكام إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فقد كان سبعون نبيا في عهد موسى عليه السّلام. و لعل سر كثرة الأنبياء عليهم السّلام في تلك الأزمنة كون البشر في مثل حال الأطفال الذين يحتاجون إلى عدد من المربين، بخلاف عهدي عيسى عليه السّلام و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث نضج البشر أكثر فأكثر، كالكبار الذين لا يحتاجون إلّا إلى مرشد واع.

و هنا نكتة لا بد من ذكرها و هي أن الانهزامية الغربية التي غزت نفوس المسلمين جعلتهم يفكرون فيما يخص الأنبياء عليهم السّلام و الأمم كما فكر «دارون» و تلاميذه القائلون ب «نظرية التطور» مع العلم أن القرآن و السنة يكذّبون ذلك و أن أول بشر على وجه الأرض كان نبيا أوتي النبوة من بين جميع أولاده و زوجته الذين بعث إليهم نبيا. و هكذا تسلسلت الأمم

كلما ابتعدوا عن النبي توحشوا و كلما اقتربوا إليه ارتقوا في مدارج الإنسانية. و بنو إسرائيل كانوا أمة بعيدة عن الإنسانية و الفضيلة- بأنفسهم- لا أن من هم قبلهم كانوا أكثر توحشا كما يقول أصحاب «نظرية التطور» و يتصورون كذبا و اختلافا و تقليدا أن إنسان الغاب و قبله تطور من القرد، و من حسن الحظ أن علماء الغرب نقدوا رأي «دارون» و أقاموا أدله على بطلانه، لكن المنهزمين عندنا لا زالوا في هزيمتهم النكراء يلعقون قصاع «دارون».

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً فقد كان فيهم الملوك و الساسة و القادة وَ آتاكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 626

[سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 22]

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)

أي أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من إنزال المنّ و السلوى و التفضيل على سائر الأمم الذين في زمانهم، بجعلهم من نسل الأنبياء، و لبث الأنبياء فيهم، و جعلهم ملوكا، و إغراق أعدائهم إلى غيرها.

[22] يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ و هي أرض الشام التي قدست و طهّرت من الشرك و بوركت بكثرة الأشجار و الأنهار و طيب الهواء و كثرة الأنبياء فيها، و قد كانوا في مصر عبيدا و ها هم قد نجوا من أعدائهم، و يريد اللّه بهم أن يدخلوا الشام ليكونوا فيها سادة و ملوكا الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيها السيادة و السعادة وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ سعادة الدنيا و ثواب

الآخرة، بسبب تخيّركم الأمكنة المريحة لكم في الدنيا، و عدم سماع أمر اللّه الموجب لحرمانكم من الثواب في الآخرة.

[23] قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها في الأرض المقدسة قَوْماً جَبَّارِينَ شديدي البأس و البطش وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي الأرض المقدسة حَتَّى يَخْرُجُوا أي يخرج الجبارون مِنْها هم بأنفسهم بدون تعب أو نصب أو قتال فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 627

[سورة المائدة (5): آية 23]

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

قال في «المجمع»- بتخليص-: قال المفسرون: لمّا عبر موسى و بنوا إسرائيل البحر و هلك فرعون، أمرهم سبحانه بدخول الأرض المقدسة، فلما نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول، فبعث موسى من كل سبط رجلا و هم الذين ذكرهم اللّه في قوله: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «1»، فعاينوا من عظم شأنهم و قوتهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى عليه السّلام بذلك، فأمرهم أن يكتموا ذلك فوفى اثنان منهم يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و عصى العشرة و أخبروا بذلك و فشا الخبر في الناس، فقالوا: إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا و أهالينا غنيمة لهم، و هموا بالانصراف إلى مصر و هموا بيوشع و كالب أن يرجموهما بالحجارة، فاغتاظ لذلك موسى و قال: «إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي»، فأوحى اللّه إليهم: «إنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة و إنما يخرج منهم من لم يعص اللّه في ذلك». فبقوا في التيه أربعين سنة في ستة عشر فرسخا و هم ستمائة ألف مقاتل لا تتخرّق ثيابهم و تثبت

معهم و ينزل عليهم المن و السلوى، و مات النقباء غير يوشع و كالب، و مات أكثرهم و نشأت ذريتهم فخرجوا إلى حرب أريما و فتحوها «2».

[24] قالَ رَجُلانِ هما يوشع و كالب مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه تعالى فيتبعون أوامره و زواجره أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالدين و العقل ادْخُلُوا يا بني إسرائيل عَلَيْهِمُ أي على هؤلاء الجبارين الْبابَ أي باب

______________________________

(1) المائدة: 13.

(2) مجمع البيان: ج 3 ص 308.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 628

[سورة المائدة (5): الآيات 24 الى 25]

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)

المدينة فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي الباب فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ فقد كان أخبرهم موسى عليه السّلام بالنصر وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا في نصرة اللّه لكم على الجبارين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إيمانا حقا، فإن من توكل على اللّه كفاه.

[25] قالُوا أي قال بنو إسرائيل لموسى عليه السّلام: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي لن ندخل المدينة أَبَداً ما دامُوا فِيها أي ما دام الجبارون في المدينة، فقد خافوا منهم و لم يثقوا بوعد اللّه النصر لهم فَاذْهَبْ يا موسى أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا الجبارين. و لعل مرادهم ليس ما ينافي نزاهة اللّه عن التجسيم، بل قصدوا أن الرب يدفع عنهم، كما قال سبحانه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «1»، و قال: وَ جاءَ رَبُّكَ «2»، و لذا لم ينكر موسى عليه السّلام مقالتهم، أو أنهم قصدوا التجسيم و أنكر موسى لكن القرآن لم يحك ذلك لأنه ليس بصدد بيان الواقعة بكل

مزاياها إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ننتظر تطهير المدينة من الجبارين حتى ندخلها، أما أن نحارب الجبارين فلا طاقة لنا بذلك و لا نقدم عليه.

[26] قالَ موسى عليه السّلام معتذرا لله عن مخالفة قومه مخاطبا اللّه سبحانه:

______________________________

(1) الأنفال: 18.

(2) الفجر: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 629

[سورة المائدة (5): الآيات 26 الى 27]

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)

رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي هارون فأنا وحدي الذي أطيع أوامرك و كذلك أخي هو الذي يطيعني و يسمعني إذا أمرته بشي ء، أما هؤلاء فليسوا كذلك، أما يوشع عليه السّلام و من كان على شاكلته فلعلهم لم يكونوا حاضرين إذ ذاك عند هذا الحوار فَافْرُقْ أي افصل اللهم بَيْنَنا أنا و أخي وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين لا يطيعون الأوامر.

و المراد ب «الفرق» عدم إجراء حكم واحد عليهم في الدنيا و الآخرة، فإنهما عليهما السّلام قد باينا قومهما بالإطاعة حين عصى أولئك.

[27] قالَ اللّه تعالى لموسى عليه السّلام: و إذ عصوني و لم يؤمنوا بوعدي فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ دخولها، أي نمنعهم عنها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ من «تاه» إذا ضلّ و لم يهتد الطريق إلى مقصده فِي الْأَرْضِ فإنهم كانوا يمشون إلى الليل فإذا أرادوا في اليوم الثاني السفر رأوا أنفسهم في مكانهم السابق فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ و أنهم كيف تاهوا أربعين سنة و وقعوا في هذه الصعوبة.

[28] إن حال اليهود في نقض العهود

و ارتكاب الفواحش بلا مبرر حال ابني آدم عليه السّلام هابيل و قابيل، فإن اللّه أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية و اسم اللّه الأعظم إلى هابيل و كان قابيل أكبر، فبلغ قابيل فغضب فقال: أنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 630

[سورة المائدة (5): آية 28]

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)

أولى بالكرامة و الوصية. فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من اللّه إليه ففعلا، فتقبّل قربان هابيل حيث أخلص و قدم خير ماله، و لم يتقبّل قربان قابيل حيث أساء النية و قدم شر ماله. و لما رأى قابيل أن قربانه لم يقبل حسد و عمد إلى هابيل و وضع رأسه بين حجرين فشدخه فمات، و لم يدر ماذا يصنع بجثته، فجاء غرابان فقتل أحدهما الآخر و دفن جثته، فتعلم قابيل فدفن جثة هابيل وَ اتْلُ أي أقرأ عَلَيْهِمْ أي على اليهود يا رسول اللّه نَبَأَ أي خبر ابْنَيْ آدَمَ هابيل الصالح و قابيل الطالح بِالْحَقِ أي تلاوة بالحق و الصدق، فليس فيه كذب إِذْ قَرَّبا قُرْباناً القربان هو ما يقصد به التقرّب إلى اللّه تعالى فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما و هو هابيل وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ و هو قابيل، قالوا:

و كانت علامة القبول أن تأتي نار من السماء فتأكل ما تقبل، فأكلت النار قربان هابيل و لم تأكل قربان قابيل قالَ قابيل الذي لم يتقبّل قربانه لهابيل عليه السّلام: لَأَقْتُلَنَّكَ حسدا و عنادا قالَ هابيل عليه السّلام: و ما ذنبي؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ و لعل هذا كان تنبيها له لأن يتقي اللّه حتى يحبوه بكرامته، و لم يكن تبجّحا قطعا.

[29] ثم قال

هابيل عليه السّلام لقابيل: لَئِنْ بَسَطْتَ أي مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي تريد قتلي ما أَنَا بِباسِطٍ أي ماد يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 631

[سورة المائدة (5): الآيات 29 الى 30]

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)

من يريد قتل إنسان ظلما لا يجوز للمظلوم إلا المدافعة لا قتل الظالم، إلا إذا توقف الدفاع عليه. أو المراد: إن أردت قتلي ظلما فإني لست أريد قتلك كذلك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ في أن أقتل أحدا ظلما.

[30] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ أي ترجع أنت يا قابيل بِإِثْمِي أي إثم قتلي وَ إِثْمِكَ أي وزرك الذي عليك من غير جهة القتل، و معنى «الإرادة» هنا مجازي لأنه إرادة الفاعل، فإن الإنسان إذا أراد شيئا يقول: أردت، و إذا لم يرد أن يفعله و أراد غيره فعله يقول: أردت أن يفعله غيري.

فالتعبير بالإرادة هنا للمقابلة نحو قوله: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ «1»، فقولنا: «أريد أن تذنب» يراد به «أني لا أذنب بل أنت تحمل الذنب» لا أنه إرادة حقيقية من المتكلم لذنب المخاطب، فلا يقال: كيف يصح أن يريد هابيل عليه السّلام أن يأثم قابيل؟! فَتَكُونَ أنت يا قابيل مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الملازمين لها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم.

[31] فَطَوَّعَتْ أي شجعت لَهُ أي لقابيل نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ هابيل فَقَتَلَهُ قالوا: قتله غيلة فَأَصْبَحَ قابيل مِنَ الْخاسِرِينَ الذين

______________________________

(1) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 632

[سورة المائدة (5): آية 31]

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ

كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

خسروا الدنيا و الآخرة.

[32] و حين قتله لم يدر كيف يصنع بجثته لأنه لم ير من قبل ذلك ميتا فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يطلب و يفتش و يثير التراب ليدفن غرابا آخر قد قتله، إذ جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه لِيُرِيَهُ أي يري الغراب قابيل كَيْفَ يُوارِي أي يستر سَوْأَةَ أي جثة أَخِيهِ و إنما سمي البدن «سوءة» لأنه ساءه و كره أن يرى بدنه المقتول قالَ قابيل لما رأى فعل الغراب: يا وَيْلَتى أي يا ويلي و «الويل» بمعنى الهلاك، أي: يا هلاكي احضر فهذا أوانك، نحو: يا عجبا أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ في العلم بكيفية الخلاص من جثة الميت فَأُوارِيَ أي استر بالتراب سَوْأَةَ أَخِي ثم دفنه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله، و لم يكن ندم توبة، و إنما ندم فعل، فلا يقال: كيف يعاقب و قد تاب؟

قال ابن عباس: لما قتل قابيل هابيل أشاك الشجر، و تغيرت الأطعمة، و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و اغبرّت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل، فانشأ يقول:

تغيرت البلاد و من عليهافوجه الأرض مغبرّ قبيح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 633

[سورة المائدة (5): آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

تغير كل

ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه الصبيح

[33] و لما حكى سبحانه قصة ابني آدم و أظهر بشاعة الجريمة، ذكر جملة من الحدود على الجرائم، و ابتدأ بالقتل للمناسبة، فقال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ «أجل» في اللغة بمعنى الجناية- على أحد الوجوه- يقال:

«أجل عليهم شرا» أي جنى. أي من ابتداء تلك الجناية. ف «من» ابتدائية و ذلك إشارة إلى قتل قابيل هابيل أي من وقت تلك الجناية قررنا الحكم الآتي و هو أن «من قتل نفسا» الآية. و بعض المفسرين يفسر «أجل» بالمعنى المتعارف، فالمعنى: من أجل الاعتداء الذي لا موجب له و لا مبرر على المسالمين المتورعين الذين لا يريدون شرا و لا مدافعة كَتَبْنا أي فرضنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و ليس الحكم خاصا بهم و إنما أتى بذكرهم لأنهم مورد البحث و الكلام، و أنهم الذين عاكسوا أحكام اللّه و قتلوا أنبيائه.

أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً أي إنسانا قتلا ظلما بِغَيْرِ نَفْسٍ أي:

لا بمقابل نفس حتى يخرج قتل القاتل نفسا من موضوع الحكم أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي لم يكن المقتول مفسدا حتى يستحق بذلك أن يقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أنه باعتدائه على حياة نفس واحدة بلا مبرر كان كمن اعتدى على الحياة كلها وَ مَنْ أَحْياها لا إحياء من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 634

[سورة المائدة (5): آية 33]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)

العدم، بل إحياء بمعنى التحفظ على حياتها و إنقاذها من الهلاك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ

جَمِيعاً حيث أن تحفظه على حياة نفس واحدة يكون كتحفظه على الحياة كلها، لأن الحياة كلّ سار في كلّ حي، فالتعدي على فرد تعدي على الكل، كما أن التحفّظ على فرد تحفّظ على الكل وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ أي أتت إلى بني إسرائيل- الذين يدور الكلام حولهم- رُسُلُنا أنبياؤنا إليهم بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتهم.

ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ أي بعد مجي ء الرسل إليهم فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي يجاوزون الحد، فقد كانوا يستحلون المحارم و يسفكون الدماء.

[34] و بمناسبة قتل النفس بغير حق، ذكر سبحانه حكم من يسعى في الأرض فسادا. و

قد ورد في شأن نزول هذه الآية: أن قوما من بني ضبة قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرضى فبعثهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها و يأكلون من ألبانها فلما برءوا و اشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل و ساقوا الإبل، فبعث إليهم عليا عليه السّلام فأسرهم، فنزلت هذه الآية، فاختار رسول اللّه القطع، فقطع أرجلهم و أيديهم من خلاف.

«1»

______________________________

(1) الكافي: ج 7 ص 245.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 635

و

في بعض الروايات: أنها نزلت في قطاع الطرق.

و لا منافاة بين الأمرين إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ أي يحاربون أوليائه فإن محاربة المتعلقين بشخص هو محاربة ذلك الشخص، كقوله تعالى:

(يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ) «1»، وَ رَسُولَهُ أي يحاربون رسوله. و هذا أيضا كذلك فإن محاربة أولياء الرسول محاربة للرسول وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالإفساد و شهر السلاح للإخافة. و لا يخفى أنه لو لم نقل بعموم الآية لكل من صدق عليه هذا الموضوع، كان اللازم أن يحمل على قطاع

الطريق، لما ورد به الروايات، و كأنه اعتبر محاربة الناس و إخافتهم محاربة لله و الرسول.

أَنْ يُقَتَّلُوا تقتيلا، و إنما عدّى ب «التفعيل» لأن المراد منه قتلهم كلهم، و باب «التفعيل» يدلّ على التكثير كما قال تعالى: وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ «2»، أي غلقت كل باب أَوْ يُصَلَّبُوا بالمشنقة و «أو» هنا للتخيير، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام، و الاختيار إلى الإمام في ذلك أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ بأن تقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى، فيكون قطع كل واحدة خلاف الجهة التي يقع فيها قطع الأخرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي من بلد إلى بلد حتى يتوب

______________________________

(1) الأحزاب: 58.

(2) يوسف: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 636

[سورة المائدة (5): الآيات 34 الى 36]

إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)

و يرجع و قوله سبحانه «إنما» معناه: أن جزاءه ذلك فحسب، لا جزاء له سواه ذلِكَ الذي ذكر أنه يفعل بهم لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا أي عقوبة و فضيحة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ في النار.

[35] إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن التوبة قبل الوقوع في يد حاكم الشرع تقبل، أما لو وقع ثم تاب فإنه لا تقبل توبته بالنسبة إلى درء الحد، بل يجري عليه الحد فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر ذنبهم رَحِيمٌ لا يعاقبهم لا

في الدنيا و لا في الآخرة.

[36] ثم يتوجه القرآن الحكيم إلى تربية الوجدان إلى جنب تربية الخارجين عن طاعته بالسيف و العقاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بإتيان أوامره و اجتناب زواجره وَ ابْتَغُوا أي اطلبوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ السبب الذي يقرّبكم إليه سبحانه: من فعل الخيرات و الأعمال الصالحة وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ الخارجين عن طاعته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي رجاء أن تفلحوا، فإن الرجاء قائم في الفوز و الفلاح ما دمتم تتقون و تجاهدون.

[37] و لا تكونوا كالذين كفروا، الذين لم يتقوا و لم يجاهدوا و لا طلبوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 637

[سورة المائدة (5): الآيات 37 الى 38]

يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)

رضاه سبحانه و الوسيلة إليه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من المال و الجاه وَ مِثْلَهُ مَعَهُ بأن كان لهم ضعف ما في الأرض، و هذا من باب المثل، و إلا فالمراد كل شي ء، فإن اللفظ قد يأتي للكثرة لا للتحديد نحو: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «1»، لِيَفْتَدُوا بِهِ بما في الأرض و مثله، بمعنى: أن يجعلوه فداء لهم و بدلا مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ حتى ينجوا كما اعتادوا الفداء و الخلاص في الدنيا ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ الفداء وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[38] يُرِيدُونَ أي يريد الذين كفروا و يتمنون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها حيث أن عذابهم دائم لا انقطاع له و لا مدة وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا يزول.

[39]

و هنا يرجع السياق إلى بيان الحدود التي افتتحت بقصة ابني آدم وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ ذكر سبحانه كلّا على حدة حتى لا يظن أن

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 638

[سورة المائدة (5): الآيات 39 الى 40]

فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

الحكم لا يشمل السارقة، و قدم السارق لأنه الغالب، و في آية الزنا قدّم الزانية لامتهان بعض النساء للزنا فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما الأربع أصابع من اليد اليمنى، و اليد تطلق على مجموع العضو، و إلى المرفق، و إلى الزند، و على الأصابع فقط. و لم يقل «يداهما» لما استحسن في العربية من أنه متى اجتمع تثنيتان و هو قوله «أيديهما» مضافة إحداهما إلى الأخرى جي ء بالأول بلفظ الجمع، كقوله سبحانه: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1»، و لعل الأصل أن الجوارح في الإنسان أكثر من واحد فتكون في إنسانين جمعا، و «الفاء» إنما أتت في «الخبر» دلالة على الترتب و الجزاء. و للقطع شروط مذكورة في الفقه جَزاءً بِما كَسَبا من السرقة نَكالًا مِنَ اللَّهِ أي عقوبة على ما فعلاه وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يأخذ بعزته و يحكم بذلك بحكمته.

[40] فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ بأن ندم عن السرقة وَ أَصْلَحَ صار صالحا فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ و يغفر ذنبه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لمن تاب و يرحم عباده العصاة إذا ندموا و أقلعوا.

[41] إن ما ذكر من عقاب اللّه و غفرانه مقتضى سلطته المطلقة أَ لَمْ تَعْلَمْ

______________________________

(1)

التحريم: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 639

[سورة المائدة (5): آية 41]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)

أيها الإنسان أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرف في الجميع كما يشاء يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ممن استحق العقاب وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ حسب حكمته البالغة وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يعجزه شي ء.

[42] و في سياق بيان الحدود و ذكر مساوئ اليهود يتعرض القرآن الحكيم إلى قصة زنا وقعت في اليهود و راجعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حكمها. فقد

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام ما ملخصه «أن امرأة شريفة من خبير زنت و قد كان حكم زنى المحصن في التوراة الرجم، لكنهم راجعوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجاء أن يخفّف عنهم و يأخذوا بذلك، فأفتاهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرجم، و ذكر أنه حكم التوراة أيضا، لكن جماعة من علمائهم أنكروا ذلك فجعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «ابن صوريا» أعلمهم حكما فاعترف هو أن الحكم في التوراة هو الرجم و أنهم حرّفوا حكم التوراة فوضعوا مكانه أن يجلد أربعين جلدة ثم يسوّد وجهه و يطاف على حمار مقلوبا، تشهيرا

به!»

«1».

و في بعض التفاسير: أنه كان بين بني النضير و قريضة معاهدة في باب القتل على خلاف حكم التوراة، فقد كان حكم التوراة القتل للقاتل، و لكن كانت معاهدة بين القبيلتين أنه إن قتل بنو قريضة من بني النضير قتل القاتل، و إن قتل بنو النضير من بني قريضة أخذت الدية،

______________________________

(1) راجع فقه القرآن: ج 2 ص 375.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 640

فأراد بنو قريضة المراجعة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحكم ليحكم لهم بحكم التوراة و قال «ابن أبي» المنافق الصديق لهم: إن حكم محمد بما ترضون- يريد خلاف حكم التوراة- فارضوا به و إلا فلا تقبلوه «1».

أقول: و من المحتمل كون الآية إشارة إلى القصتين، و على أي حال فالله سبحانه يسلّي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مخالفة المنافقين و اليهود له فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ أي لا يوجب حزنك و غمك الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يسرعون للدخول فيه بالقيام على خلافك و عدم قبول حكمك مِنَ المنافقين الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ جمع «فوه» بمعنى «الفم» أي أن إيمانهم لفظي و بمجرد الشهادتين، لا عن قلب و عقيدة، و المقصود ابن أبي كما تقدم وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ بل بقيت على كفرها و ضلالها.

وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود و المراد بمسارعة اليهود في الكفر تركهم لأحكام التوراة و تمسكهم بالأحكام المخالفة لما أنزل اللّه فإنه كفر في مرتبة اليهودية و إن كان اليهود كفارا من أصلهم و بمقتضى بقائهم على اليهودية سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي هؤلاء اليهود- أو مع المنافقين- مبالغون في سماع الكذب و قبول ما يفتريه أحبارهم

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 3 ص 336.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 641

و شياطينهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يا رسول اللّه، إنهم خاضعون لقول غيرك ممن لم يأتوك لتحكيمك في قصة الزنا أو في قصة القتل يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع «كلمة» أي كلام اللّه تعالى مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه اللّه سبحانه في مواضعه، كما حرفوا حكم زنا المحصن الذي هو الرجم إلى الجلد، و كما حرفوا حكم القتل قصاصا إلى الدية يَقُولُونَ أي يقول المنافقون و اليهود بعضهم لبعض إِنْ أُوتِيتُمْ أي أعطاكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا و هو الجلد في الزنا و الدية في القتل فَخُذُوهُ و اقبلوه وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ هذا الحكم، بل حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما في التوراة من رجم الزاني و قتل القاتل فَاحْذَرُوا عن قبول قوله.

ثم توجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له عن نفاق المنافقين و تحريف اليهود قال سبحانه: وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي امتحانه، فقد أراد اللّه سبحانه اختبار اليهود و المنافقين في هذه القضية ليتبيّن عنادهم و غيّهم و أنهم لا يرجعون إلى حكم اللّه، و يظهر كذبهم في قولهم أنهم متدينون فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تستطيع يا رسول اللّه أن تدفع عنه من أمر اللّه شيئا، بل إرادته نافذة و حكمه ماض أُولئِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 642

[سورة المائدة (5): آية 42]

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)

المنافقون و اليهود الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر، فلم يلطف بهم اللطف الخاص- كما يلطف بسائر المؤمنين- حتى تتطهر قلوبهم من أدران الكفر، إن اللّه سبحانه بيّن لهم الدلائل و نصب لهم الحجج لكنهم أبوا من الرضوخ و لذا قطع اللّه تعالى لطفه عنهم.

لَهُمْ أي للمنافقين و اليهود فِي الدُّنْيا خِزْيٌ فضيحة و ذلة، أما المنافقون فلظهور نفاقهم عند المؤمنين مما يوجب التنفّر منهم، و أما اليهود فبضرب الذلة عليهم إلا بحبل من اللّه و حبل من الناس وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، و اليهود معلوم حالهم هناك.

[43] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ تكرار لتصوير واقعهم البشع فإن الإنسان إذا أراد أن يؤكد شيئا قاله أكثر من مرة حتى يقع في نفس السامع موقع القبول أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ جمع «أكال» مبالغة ل «آكل» أي كثير و الأكل للرشوة و سائر أقسام الحرام، فَإِنْ جاؤُكَ يا رسول اللّه ليجعلوك حكما فيما بينهم في قصة الزنا و القتل فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بحكم اللّه سبحانه أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ و قد جاز الإعراض لأنهم كانوا يعلمون بالحكم حيث كان مثبتا في التوراة فلم يكن الإعراض يسبب سحق حكم اللّه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 643

[سورة المائدة (5): الآيات 43 الى 44]

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)

سبحانه و جهالة المجتمع به وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فلم تحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً إذ النفع و الضرر بيد اللّه سبحانه لا بيد غيره وَ إِنْ حَكَمْتَ يا رسول اللّه فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي هو إجراء حكم اللّه من رجم الزاني المحصن و قتل القاتل شخصا ما إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يعدلون في حكمهم.

[44] إن أمر هؤلاء اليهود عجيب فإنهم لا يعترفون بك رسولا و مع ذلك يحكمونك في قضيتهم و ذلك ليس إلا أنهم يريدون فرارا من حكم التوراة إلى حكم يطابق أهواءهم وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ أي يجعلونك حكما يا رسول اللّه وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ أي و الحال أن لديهم التوراة التي يعترفون بها كتابا فِيها حُكْمُ اللَّهِ بالنسبة إلى الزنا و القتل ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التحكيم، أو من بعد حكمك فلا يقبلون حكمك أيضا وَ ما أُولئِكَ اليهود و المنافقون الذين حكّموك، ثم تولوا بِالْمُؤْمِنِينَ بالتوراة أو بحكمك، و إنما يظهرون الإيمان كذبا و اختلاقا.

[45] ثم بيّن سبحانه أن التوراة التي أعرض عن حكمها في قصة الزنا و القتل كتاب سماوي يجب العمل به، و من المعلوم أنه ليس المراد بذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 644

التوراة المحرّفة التي بأيدي اليهود اليوم، فقد كان قسم من التوراة محفوظا عن التحريف إلى زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما أن المعلوم أن المراد كون التوراة في وقتها هدى و نور، أما إذا جاء أهدى منها و أكثر نورا و نسخ قسما من أحكامها لم يعمل بالمنسوخ منها، و ذلك كما لو قلنا:

أن

القرآن هدى و نور، يراد المجموع من حيث المجموع، لا أنه يعمل به حتى بالنسبة إلى الآيات المنسوخ حكمها على تقدير تسليم النسخ في القرآن.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهتدي به الناس إلى سبل الحق وَ نُورٌ ينير دروب الحياة المظلمة- و لعل العطف للبيان- يَحْكُمُ بِهَا أي بالتوراة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله و أذعنوا لحكمه، و من جملة أولئك الأنبياء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي حكم على طبقها في قصة الزاني و القاتل لِلَّذِينَ هادُوا أي أن الحكم إنما كان للذين هادوا أما غيرهم من النصارى و المسلمين فإنما يحكم بينهم حسب معتقدهم.

و قد ثبت في الشريعة جواز الحكم لكل أهل كتاب بكتابهم.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام «و اللّه لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل القرآن بقرآنهم»

«1»، كما

ثبت قولهم عليهم السّلام «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»

«2».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 30 ص 672.

(2) تهذيب الأحكام: ج 9 ص 322.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 645

لكن من المعلوم أنه ليس كل الأحكام كذلك، بل من الأحكام ما لا يجوز أن يحكم بها، و القاعدة الكلية: أنه كل ما أجاز الإسلام أن يحكم به الحاكم على طبق دياناتهم جاز ذلك، و كل ما لم يجز كان اللازم الرجوع إلى حكم الإسلام.

وَ يحكم بالتوراة الرَّبَّانِيُّونَ و هم المتدينون فإن «رباني» منسوب إلى «الرب» من غير قياس وَ الْأَحْبارُ جمع «حبر» بالكسر و «حبر» بالفتح، و هو العالم، أي أن الأنبياء و الأتقياء و العلماء يحكمون بالتوراة، و إنما يحكم هؤلاء بالتوراة بسبب ما اسْتُحْفِظُوا أي استدعوا

مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي حيث أن اللّه سبحانه جعلهم حافظين للكتاب و ائتمنهم عليه في أن يحكمون بموجبه وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي أن النبيين و الربانيين و الأحبار كانوا شهداء على أن ما في الكتاب حق و صدق. و الحاصل أن هؤلاء يحكمون بالتوراة لأنه وديعة عندهم و هم يشهدون بصدقه.

و حيث بيّن سبحانه أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة و أنهم محل وديعة و الشهداء على صحته، بيّن أن مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعا في إظهار أحكامه فلا يخون و لا يكتم و لا يخشى الناس فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ في إظهار أحكام التوراة و منها مسألة رجم الزاني و قتل القاتل وَ اخْشَوْنِ في ترك أمري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 646

[سورة المائدة (5): آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

و تحريف حكمي فإن النفع و الضرر بيدي وَ لا تَشْتَرُوا بمقابل آياتي و أحكامي ثَمَناً قَلِيلًا حيث أنكم إذا كتمتم الأحكام لأجل الرشوة و الرئاسة كنتم كمن يعطي السلعة ليأخذ المال، و كل شي ء من المال و الرئاسة في مقابل حكم اللّه ثمن قليل لأنه يزول و ينتقل و تبقى تبعة التحريف و الكتمان و الحكم بخلاف ما أنزل اللّه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ لعلّ وجه الإتيان بالنفي دون أن يقول «و من حكم بغير ما أنزل اللّه» ليشمل الحاكم بالخلاف و الساكت الكاتم، فإن من يعلم حكم اللّه و يسكت

و يكتم يكون مصداقا ل «مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و من المعلوم أن عدم الحكم كفر عملي لا كفر اعتقادي، إلا إذا رجع إلى الجحود لأصل من أصول الدين، و إنكار ضروري من ضروريات الإسلام، و يسمى كافرا لأنه ستر الحق، فإن الكفر لغة بمعنى الستر.

[46] وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي على بني إسرائيل فِيها أي في التوراة أَنَّ النَّفْسَ تقتل بمقابل النفس فإذا قتل الإنسان شخصا عمدا، قتل القاتل في قبال ذاك، و لعل هذه الآية تؤيد كون الآيات السابقة كانت بشأن قصة بني النضير و بني قريضة- كما تقدم- وَ الْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ أو معمية بها وَ الْأَنْفَ مجدوعة بِالْأَنْفِ أما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 647

ذهاب حاسة الشم فلعله خلاف الظاهر و إن كان الحكم كذلك إذا أمكن وَ الْأُذُنَ مصلومة بِالْأُذُنِ و في ذهاب السمع ما تقدم وَ السِّنَ مقلوعة بِالسِّنِ و لذلك كله شرائط مذكورة في كتب الفقه «1».

وَ الْجُرُوحَ فيها قِصاصٌ فمن جرح إنسانا جرح كما جرح، و يدخل فيه الشفة و الذّكر و البيضتان و اليدان و الرجلان و سائر أقسام الجروح. و «القصاص» مشتق من «قص» بمعنى اتّباع الأثر، كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص بأن عفا عنه و أسقطه و تنازل عن حقه فَهُوَ أي التصدّق كَفَّارَةٌ أي حط عن الذنوب لَهُ أي للمتصدق المجروح.

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «يكّفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»

«2».

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تقدم الكلام فيه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الظلم هو ظلم النفس و ظلم الغير، و قد اختلف التعبير هنا عن الآية السابقة

«الكافرون» و الآية الآتية «الفاسقون» لإفادة أن من لم يحكم بما أنزل اللّه يتصف بصفات ثلاث لأنه قد ستر حكم اللّه و كتمه فهو «كافر» إذ الكافر بمعنى الساتر، كما تقول: الزارع كافر، لأنه يستر

______________________________

(1) موسوعة الفقه: ج 89.

(2) الكافي: ج 7 ص 358.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 648

[سورة المائدة (5): آية 46]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

الحبة تحت الأرض، و لأن الكافر قد ظلم نفسه لأنه عصى اللّه سبحانه في كتمان حكمه و ظلم المترافعين و المجتمع لأن حكم اللّه هو الحق و سواه انحراف و زيغ فهو «ظالم» و أنه قد خرج بحكمه ذاك أو سكرته عن الحق عن الجادة المستقيمة فهو «فاسق» إذ الفسق بمعنى الخروج و المروق.

[47] و لما ذكر سبحانه اليهود، اتجه الكلام إلى ذكر النصارى مبيّنا أن الأنبياء من سلسلة واحدة و أن كتبهم كلها هدى و نور، و أن بعضها يصدّق بعضا وَ قَفَّيْنا من «التقفية» أصله «القفو» بمعنى اتباع الأثر يقال: قفيته بكذا أي اتبعته به عَلى آثارِهِمْ أي آثار الأنبياء حيث قال سبحانه: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا على آثار النبيين عيسى ابن مريم فقد بعثناه رسولا من بعدهم مُصَدِّقاً أي في حال كون المسيح عليه السّلام يصدّق لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما تقدمه مِنَ التَّوْراةِ بيان «ما» و يقال للسابق الزماني: «بين يديه» تشبيها بالسابق المكاني الذي هو «بين يدي الإنسان» أي في قباله وَ آتَيْناهُ أي أعطينا عيسى عليه السّلام الْإِنْجِيلَ أي أنزلناه

عليه فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ تقدم معنى ذلك وَ مُصَدِّقاً أي في حال كون الإنجيل مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ فقد كان عيسى عليه السّلام يصدق التوراة، و كتابه الإنجيل يصدقها أيضا وَ هُدىً أي أن الإنجيل كتاب هداية و إرشاد وَ مَوْعِظَةً أي واعظا لِلْمُتَّقِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 649

[سورة المائدة (5): الآيات 47 الى 48]

وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

يتقون الآثام، فهو يحذّرهم من العقاب و يرشدهم و يحرضهم على الثواب. و قد كرر التصديق و الهداية، تأكيدا و تركيزا.

[48] وَ لْيَحْكُمْ أي يجب أن يحكم أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الأحكام و الدلالات التي منها التبشير بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجوب اتّباعه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي أن الديانات كلها من عند اللّه، و أن الأنبياء كلهم سفراء له وحده، و أن الكتب كلها منزلة من عند اللّه، فمن الضروري أن يحكم الأنبياء بالكتب المنزلة و يتبع الناس الأنبياء و الكتب، أما ما حرّف منها فليس من اللّه، كما أن ما نسخ منها فاللازم تركه و اتباع الناسخ عوضه.

[49] و لما أتم الكلام حول

التوراة و الإنجيل- و هما الكتابان المتداولان في أيدي الناس- ذكر سبحانه القرآن الحكيم وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا رسول اللّه الْكِتابَ أي القرآن الحكيم بِالْحَقِ كتابا بالحق لأنه ليس فيه باطل، أو إنزالا بالحق، حيث كان المنزل و المنزل عليه لهما الحق في ذلك، فالمنزل إله يحق له التنزيل و التشريع، و المنزل إليه رسول يحق له الأخذ و القبول مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ اللام للجنس أي أن القرآن يصدق ما سبقه من كتب الأنبياء وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي أن القرآن مهيمن على الكتاب المتقدم، و معنى الهيمنة السيطرة، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 650

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 1 679

القرآن الحكيم كشاهد مسيطر يدل على مواقع الخطأ و الصواب من الكتب السابقة، كل ما حرفوه دل عليه و كل ما زادوا أو أنقصوا منهما أشار إليه، و ذلك لأن القرآن يبيّن كليات العقائد و أصول العبادة و المعاملة و الأخلاق، و في الكتب السابقة مواقع كثيرة قد زاغت عن الحق بأيادي أثيمة، يدل عليها القرآن و يشير إليها فَاحْكُمْ يا رسول اللّه بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتب السالفة، أو بين اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام، و منها في رجم زنا المحصن، و قتل القاتل وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي ما يشتهون من خلاف حكم اللّه، فقد أحبوا أن يحكم الرسول بخلاف الحق، فيفتي بجلد المحصن الزاني، ودية القاتل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ أي لا تزغ عما جاءك، فإن معنى اتباع أهوائهم: الزيغ عن الحق. و كثيرا ما يشبه فعل معنى فعل آخر فيتعدى الفعل الأول بما يتعدى به الفعل الثاني، كما ذكره «المغني».

و لما كان المقام يوهم اتحاد

الديانات من جميع الحيثيات حيث أن الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبي و كتاب لما سبقه، فأية حاجة إذا لإيمان اليهود و النصارى بالنبي و القرآن، تعرّض السياق إلى اختلاف الشرائع و المناهج في الخصوصيات و المزايا و إن اتحد الجميع في الأصول و الجوهر لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أي لكل أمة منكم أيها اليهود و النصارى و المسلمون جميعا جعلنا شِرْعَةً أي طريقة وَ مِنْهاجاً «الشرعة» أول الطريق، و «المنهاج» الطريق المستقيم الذي يلزمه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 651

[سورة المائدة (5): آية 49]

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)

الإنسان في حياته ليسير عليه، و كأن وجه تقديم «جعلنا» على «منكم» أن المقام مقام الجعل، لا مقام ذكر الأمم. و قد تقرر في علم البلاغة أن المقدم من الألفاظ هو الذي سيق له الكلام، يقال: «زيد جاء» إذا كان المقام مقام ذكر زيد و أعماله، و يقال: «جاء زيد» إذا كان المقام مقام ذكر الجائين. وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الأمم الثلاث أُمَّةً واحِدَةً بأن لا ينزل عليكم إلا كتابا واحدا و لا يرسل إلا رسولا واحدا وَ لكِنْ جعلكم على شرائع مختلفة لِيَبْلُوَكُمْ أي يمتحنكم فِي ما آتاكُمْ أي فيما فرضه عليكم و أعطاكم و شرع لكم حتى يتبين من يقبل الرسول اللاحق و من لا يقبل، و من يعمل بأوامره عملا تاما و من لا يعمل فَاسْتَبِقُوا أيتها الأمم الْخَيْراتِ أي ليبادر بعضكم بعضا في تحصيل الخيرات و العمل بما

أمر اللّه إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ و مصيركم جَمِيعاً أيتها الأمم. و إنما سمي «مرجعا» تشبيها للمعقول بالمحسوس، و إلا فلا مكان لله سبحانه حتى يكون مبدءا و مرجعا فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمور دينكم.

و في الإجمال ما لا يخفى من التهويل- كما يقول الملك لبعض رعيته:

أعلمك بما صنعت- ثم يجازيكم حسب أعمالكم و عقائدكم.

[50] ثم كرر سبحانه وجوب الحكم بين اليهود بما أنزل اللّه، و قد كرر ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 652

لأنهم حكّموه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قصتين قصة الزنا و قصة القتل وَ أَنِ احْكُمْ عطف على قوله في الآية السابقة «فاحكم» أو عطف على «الكتاب» أي أنزلنا إليك الكتاب و أنزلنا إليك «أن احكم» بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ و ما يشتهون من خلاف الحكم وَ احْذَرْهُمْ يا رسول اللّه، أي احذر اليهود أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يضلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بأن تفتي بغير ما أنزل اللّه. فقد ورد أن اليهود عرضوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام خاصة، منها حكم الرجم في الزاني المحصن، و هذا التحذير للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس معناه أنه كان يعمل على الخلاف، و إنما هو لبيان الحكم، كما يخاطب بقوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ «1»، و نحوه فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الحق و لم يقبلوا قولك و حكمك فَاعْلَمْ يا رسول اللّه أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فإن التمرد على اللّه و رسوله يوجب نكال اللّه سبحانه، و تمردهم عن حكمك

موجب لأن يسخط اللّه عليهم فيأخذهم ببعض ما سلف من ذنوبهم، أو نفس التمرد نكال سببه بعض ذنوبهم السابقة.

روي أن رجلا قال للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام إني حرمت صلاة الليل؟ قال الإمام: «أنت رجل قيدتك ذنوبك»

«2».

______________________________

(1) هود: 115.

(2) عوالي اللآلي: ج 2 ص 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 653

[سورة المائدة (5): الآيات 50 الى 51]

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة اللّه، و هذا تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يغتم لعدم نفوذ حكمه.

[51] أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ استفهام إنكاري، أي هل يبغي هؤلاء اليهود حكم الجاهلية، و المراد بها جاهلية البشر التي لا يرجع حكمهم فيها إلى قانون ثابت بل تحكم الأهواء و القبليات و العصبيات و ما أشبه، فكل من يبتغي حكما غير حكم اللّه فإنه يبتغي حكم الجاهلية، حتى إذا كان الحكم أكثرية «برلمانية» وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً أي ليس هناك حكما أحسن من حكم اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بالله و اليوم الآخر، فإنهم يعلمون أن حكم اللّه أحسن الأحكام لأنه خال من جميع الانحرافات التي تصيب حكم البشر.

[52] و بعد ما بيّن سبحانه انحراف اليهود و ضلالهم، ذكر سبحانه هنا عدم جواز اتخاذ اليهود أو النصارى أولياء. و قيل في سبب النزول: أنه لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي

و آخذ منه أمانا، و قال آخر: أنا ألحق بفلان النصراني فآخذ منه أمانا، فنزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ فلا تصادقوهم مصادقة الولي لوليه و الحميم لحميمه بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن بعضهم ينصر بعضا و يعينه عليكم، و قد ظهر انطباق كلامه سبحانه على الخارج طيلة أربعة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 654

[سورة المائدة (5): آية 52]

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)

عشر قرنا فإن اليهود و النصارى لم يزالا ينصر أحدهما الآخر على المسلمين على ما بينهما من العداء و البغضاء وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ أي يصادقهم و ينتصر بهم و يجعلهم أولياء له فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فإنه كافر عملا، من أهل النار، و هو خطر على المسلمين، فالذين تولّوا الكفار كانوا من أخطر الناس على المسلمين، و كانوا في زمرة الكفار ينصرونهم و ينتصرون بهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بعد ما علموا و عرفوا، فإنه سبحانه لا يلطف بهم ألطافه الخفية.

[53] و بعد هذا القرار الجازم، الذي دل عليه منطق التاريخ السابق على الإسلام، حيث أن كل موال لا بد و أن يكون هواه مع من يوالي، لا مع مجتمعة، و الذي قد نهي عنه صريحا فَتَرَى يا رسول اللّه الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك و نفاق. قال ابن عباس: إن المراد بذلك عبد اللّه بن أبي، أن عبادة بن الصامت الخزرجي أتى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إن لي

أولياء من اليهود، كثير عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم، و أنا أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم و لا مولى لي إلا اللّه و رسوله. فقال عبد اللّه بن أبي: لكن لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر و لا بد لي منهم.

ثم أنه شبّه النفاق بالمرض لأن كليهما موجب لانحراف الإنسان، فالمرض يوجب انحراف مزاجه، و النفاق يوجب انحراف سلوكه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 655

المنبعث من انحراف روحه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في تولي أهل الكتاب و اتخاذهم أولياء، و لعل الإتيان بلفظة «يسارعون» لإفادة أنهم يوالونهم قبل ظهور علائم الاحتياج إليهم «من هزيمة المسلمين» فإنهم يحتاطون باتخاذهم أولياء لئلا يأتي يوم يحتاجون إليهم، و ذلك أسوأ حالا ممن يوالونهم إذا ظهرت علامة هزيمة في المسلمين يَقُولُونَ أي قائلين لتبرير موقفهم نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي دوران الفلك الموجب لغلبة الكفار على المسلمين فإنا نتخذهم من الآن أولياء لنكون في أمان إذا دارت الدائرة فَعَسَى اللَّهُ أي لعل اللّه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ للمسلمين بأن يفتحوا بلاد الكفار و يكون الغلب لهم على الكفار أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ غير الفتح من إعزاز المسلمين و تكثير عددهم و جلاء الكفار فَيُصْبِحُوا أي يصبح هؤلاء المنافقون الذين والوا الكفار خوف غلبتهم و دوران الدائرة على المسلمين عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من موالاة اليهود و تمني الغلبة لهم. و لعل ذكر «أسروا» مع أنهم أعلنوا عن ولائهم خوف الدائرة، لإفادة أنهم كانوا قد أسروا أشياء كثيرة في أنفسهم، كما هو شأن النفاق و المنافقين نادِمِينَ و ليس ندمهم من جهة الحق، بل من جهة أنهم خسروا الطرفين، طرف المسلمين لأنهم عرفوا نفاقهم، و طرف

الكفار لأنهم هزموا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 656

[سورة المائدة (5): الآيات 53 الى 54]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)

[54] وَ إذ قسم اللّه الفتح للمؤمنين، أو أتاهم بأمر من عنده يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا صادقا، يقولون متعجبين من نفاق المنافقين و اجترائهم على اللّه بالأيمان الكاذبة: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ أي: هل هؤلاء المنافقون الذين انكشفت حقائقهم هم الذين حلفوا بالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جهدوا جهد أيمانهم، بمعنى: حلفوا بأغلظ الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي مع المؤمنين في صدق الإيمان و المناصرة؟ كيف حلفوا بتلك الأيمان المغلظة، و قد ظهر نفاقهم خلال المعركة الحاسمة الموجبة لترجيح كفة المسلمين؟ فإن النفاق لا يظهر جيدا إلا في المعارك و المخاوف. و هناك حيث عرف المسلمون حقيقتهم تعجبوا من إيمانهم المزيف، و أيمانهم المغلظة الكاذبة التي أرادوا بها دعم إيمانهم و إدخال أنفسهم في زمرة المؤمنين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ جملة مستأنفة، أي أن المنافقين ضاعت أعمالهم الإيمانية بسبب النفاق، أو: أنهم ضاعت مساعيهم في مصانعة الطرفين بسبب انهزام الكفار فلا ظهر لهم، و كشف باطنهم للمسلمين فيتجنبون عنهم فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ دنيا و آخرة.

[55] ثم بعد ما بيّن مضرّة النفاق، توجه السياق إلى المؤمنين مبيّنا لهم أنهم إن ارتدوا فلا يظنوا أن ذلك يضر دين اللّه سبحانه فقد و كلّ اللّه بدينه في كل دور

أناسا يقومون بشرائط الإيمان، فالمرتد إنما يضر نفسه لا أنه يضر دين اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 657

ارتدادا إلى الكفر، أو إلى النفاق، فإن انقلاب الباطن عن الإسلام هو نوع من الارتداد أيضا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ فهو ذو صلة بهم و هم ذووا صلة به سبحانه. و لعل الإتيان بكلمة «سوف» لئلّا يظنون أن في تأخير الأمر انقطاعا و انفصاما للإيمان، بل قد يتأخر مجي ء الصلحاء بعد ارتداد قسم من الناس عن الإيمان أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أذلة من «الذّل» بكسر الذال: ضد الصعوبة، و قد يكون من «الذّل» بضم الذال: ضد العزة أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي يكونون ليّنين على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين. و إنما كان ذلك مدحا لأن اللّين مع الكافر موجب لبقاء الكفر، بخلاف إظهار الشدة الذي يوجب حصر الكفر على نفسه و انكماشه، و عدم تعديه إلى المؤمنين الضعاف، كما قال سبحانه في آية أخرى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1»، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فإن الجهاد يلازم لوم اللائمين من المؤمنين و من الكافرين، أما «من الكافرين» فواضح، و أما «من المؤمنين» فلأن الآراء غالبا ما تختلف بسبب لوم بعضهم لبعض كما هو المشاهد المحسوس، و كثيرا من الناس يمنعه الجهاد و الإقدام لوم اللائمين لا صعوبة الجهاد.

و قد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين عليه السّلام و أصحابه الأكرمين، و إن كانت عامة بحسب اللفظ، كما هو شأن آيات القرآن غالبا.

______________________________

(1) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 658

[سورة المائدة (5): آية 55]

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ

وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55)

و لعل وجه قوله: «يأتي» مع أن الإمام عليه السّلام كان حاضرا وقت النزول، اعتبار الوصف أي قوله «يجاهدون». تقول: «سوف آتي بشخص يفعل كذا» تريد أن الفعل «سوف» يأتي لا الشخص.

ذلِكَ المذكور في أوصاف القوم من محبة اللّه لهم و محبتهم لله و لينهم مع المؤمنين و شدتهم على الكافرين و جهادهم بدون خوف اللوم فَضْلُ اللَّهِ حيث تفضل عليهم بهذه الصفات و هداهم إلى الحق يُؤْتِيهِ أي يعطي هذا الفضل مَنْ يَشاءُ ممن كان قابلا و أهلا وَ اللَّهُ واسِعٌ فضله فلا يخاف نفاده إن أعطى أحدا عَلِيمٌ بموضع فضله وجوده.

[56] و لما ذكر سبحانه أنه لا يجوز أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، بيّن ولي المؤمنين و أن اللازم أن يتخذوا اللّه و رسوله و من نصبه اللّه وليا.

و قد أجمع المفسرون بأن هذه الآية نزلت في علي أمير المؤمنين عليه السّلام «1». و قد يقال أن الأئمة الأحد عشر عليهم السّلام ليسوا بمشمولين للآية، لدلالة «إنما» على الحصر؟ و الجواب من وجهين:

الأول: إن الآية حصرت الأمر في وقت النزول، و كانت ولايتهم عليهم السّلام بعد ذلك.

و الثاني: و هو الأصح أن ولاية الأئمة من ولاية علي عليه السّلام، كما لو قال: والي بلدكم فلان، فإن من عينه الوالي للأمور كان امتدادا لولاية فلان.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 361 و تفسير العياشي: ج 1 ص 327.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 659

[سورة المائدة (5): آية 56]

وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فالله له الولاية المطلقة و السلطنة

الكاملة من جميع الجهات عليكم وَ رَسُولُهُ محمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الَّذِينَ آمَنُوا المتصفون بكونهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي الصدقة وَ هُمْ راكِعُونَ

و قد روت العامة و الخاصة أن هذه الآيات نزلت في علي أمير المؤمنين عليه السّلام لما تصدّق بخاتمه و هو في الركوع. و في بعض الأخبار أنه كان تصدق قبل ذلك أيضا في صلاة أخرى بحلّة قيمتها ألف دينار أرسلها النجاشي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأهداها إلى علي عليه السّلام. «1» [57] ثم ذكر سبحانه أنه في تولي هؤلاء النجاح و الغلبة، فمن ظن أن في تولي غيرهم النجاح فقد اشتبه، و دل التاريخ أنه كلما التزم المسلمون بهؤلاء نجحوا و تقدموا، و كلما تولوا غيرهم خسروا و تأخروا وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ أي يتخذه اللّه سبحانه وليا يأتمر بأوامره و ينتهي عن زواجره وَ رَسُولَهُ يقتدي به في أعماله و أقواله وَ الَّذِينَ آمَنُوا علي و الأئمة من ولده عليهم السّلام- حسب النزول- أو كل مؤمن حسب العموم، في مقابل اتخاذ الكفار أولياء فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ جنده و جماعته هُمُ الْغالِبُونَ على من سواهم من الأحزاب و الجنود، و في قطع قوله:

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 288.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 660

[سورة المائدة (5): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)

«فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ» عن

الجملة السابقة، إذ لم يقل «فإنهم الغالبون»، إفادة أن المتولي يعدّ من حزب اللّه و جماعته، فليس الأمر من ناحية العبد فقط، بل من ناحية اللّه أيضا.

[58] قد نهي المسلمون عن اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، ثم الآن يأتي السياق لينهى عن اتخاذ أي كافر أو كتابي- و لو لم يكن يهوديا أو نصرانيا- وليا. و قد ورد في سبب النزول أن زيد بن التابوت و سويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم كان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت هذه الآية، و لو كان الأمر كذلك فالمراد، بمن ذكر في الآية أعم من المنافق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً أي سخرية و تلاعبا، و ذلك بأن أظهروا الإسلام باللسان و أبطنوا الكفر بالجنان، أو المراد جعله سخرية و لعب يستهزئون به مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أنزل عليهم الكتاب مِنْ قَبْلِكُمْ و هم أهل الأديان السابقة على الإسلام وَ من الْكُفَّارَ المراد بهم الأعم من المنافقين- كما سبق- و لا يخفى أن الكفار أعم من أهل الكتاب، لكن إذا ذكروا في كلام كان المراد بالكفار غيرهم أَوْلِياءَ تتولونهم كاتخاذ المؤمنين لله و رسوله أولياء وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ باللّه و بما أمر به.

[59] وَ إِذا نادَيْتُمْ أيها المؤمنون إِلَى الصَّلاةِ إي دعوتم إليها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 661

[سورة المائدة (5): الآيات 59 الى 60]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ

وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

اتَّخَذُوها أي اتخذوا الصلاة هُزُواً وَ لَعِباً مهزلة و تلاعبا فيتضاحكون و يتغامزون بينهم- كما هي عادة منافقي اليوم أيضا- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ذلك الاستهزاء بالصلاة بسبب أن الكفار قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ منافع الصلاة و أنها موجبة للنجاة من النار.

[60] و جاء قوم من اليهود يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمن يؤمن به من الرسل؟

فقال: أؤمن بالله و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق .. إلى أن ذكر عيسى عليه السّلام فلما سمعوا ذلك منه جحدوا نبوته و قالوا: ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم، فنزلت قُلْ يا رسول اللّه لأهل الكتاب: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي تسخطون علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ إيمانا لا يشوبه كفر- كإيمانكم- وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني القرآن الحكيم وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ على جميع الأنبياء وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ فإن فسقكم- أي خروجكم- عن دين اللّه هو سبب نقمتكم علينا. و هذا كقولهم: «هل تنقم مني إلا أني عفيف و أنك فاجر»، أو: «إلا أني كريم و أنت بخيل»، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة، فهو عطف على قوله: «أن آمنا».

[61] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء المستهزئين: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي إن كان إيمانا شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 662

[سورة المائدة (5): آية 61]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء من عنده سبحانه، و سمّي «مثوبة» استهزاء بهم، و إنما سمّي ما عند المؤمنين شرا- و إن لم يكن ما للمؤمنين إلا الخير- للمقابلة في الكلام مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده عن رحمته، فلعنة اللّه لكم من شر إيماننا نحن وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بسبب عصيانه و تمرده عن الحق وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ جمع «قرد»، كما قال سبحانه: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «1»، وَ الْخَنازِيرَ بأن مسخهم على صور هذين الحيوانين النجسين وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على قوله: «لعنه اللّه» و الطاغوت هو العجل الذي عبدوه أُولئِكَ اليهود الذين هذه صفاتهم شَرٌّ مَكاناً أي أن مكانهم في سقر الذي هو شر من مكان المؤمنين الذين نقموا منهم، و قد ذكرنا أن هذا الكلام من باب المشاكلة اللفظية و إلا فليس في مكان المؤمنين شر وَ أَضَلُ أي أكثر ضلالا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي وسط الطريق.

[62] و حيث ابتدأ الكلام بعرض المنافق و أهل الكتاب في صف واحد، ذكر سبحانه صفة من صفات المنافقين، و أنهم كيف لا يؤثّر فيهم الوعظ و الإرشاد وَ إِذا جاؤُكُمْ أي جاءكم المنافقون قالُوا آمَنَّا إيمانا كإيمانكم وَ لكنهم في دعواهم تلك كاذبون، إذ

______________________________

(1) البقرة: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 663

[سورة المائدة (5): الآيات 62 الى 63]

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي بالكفر، كأن «الكفر» مادة يحملونها معهم فهم قد

دخلوا بهذه المادة حينما دخلوا في المجلس، ثم خرجوا بهذه المادة كما دخلوا، لم تؤثر فيهم الموعظة و البلاغ، حيث كانت قلوبهم مع إخوانهم الكافرين لا معكم حتى تؤثر فيهم الموعظة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي يخفون من الكفر و النفاق.

[63] ثم إن هؤلاء الكفار يجمعون مع كفرهم صفات أخرى ذميمة هي من مستلزمات الانحراف، أشار إليها بقوله تعالى: وَ تَرى يا رسول اللّه كَثِيراً مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار و هم الرؤساء و ذووا الجاه و المنصب يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ فيسابق بعضهم بعضا في فعل الإثم و التعدي على الناس، إنهم حيث لم يؤمنوا بالله و كانت ديانتهم- المزعومة- صورية كان همّهم تحصيل أكثر ما يمكن من المال و الجاه، لذا يتسابق بعضهم بعضا في ذلك، إن الإثم لا أهمية له في نظرهم إذ لم يعمر قلوبهم الإيمان، و التعدي من شأن من يريد إعمار دنياه وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ كل مال حرام من رشوة و ربا و أكل أموال اليتامى و أكل أموال الناس بالباطل لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن أعمالهم توجب خزي الدنيا و الآخرة.

[64] و هنا يتوجه السياق إلى العلماء و المتدينون منهم، كيف يسكتون على هذه المنكرات البشعة التي ظهرت في اليهود؟ و ما شأنهم إذا سكتوا عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 664

[سورة المائدة (5): آية 64]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي

الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

كل تلكم الجرائم لَوْ لا كلمة تحضيض بمعنى «هلّا» أي: لماذا لا يَنْهاهُمُ أي ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم و العدوان الرَّبَّانِيُّونَ جمع «رباني» و هو منسوب إلى الرب على غير القياس، أي الإلهيون الذين يتورعون من خوف اللّه سبحانه وَ الْأَحْبارُ جمع «حبر» بالفتح و الكسر، و هو العالم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ و هو ما يقوله الإنسان بغير حق من كذب و غيبة و نميمة و تحريف و غيرها وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ من الربا و الرشوة و غيرهما، و «السحت» هو أشد أنواع الحرام لَبِئْسَ ما كانُوا أي كان هؤلاء الربانيون و الأحبار يَصْنَعُونَ فإن سكوتهم عن الباطل و مجاملتهم لأهله نوع من الصنع.

[65] ثم بيّن سبحانه مثلا ل «قولهم الإثم» بقوله: وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ لا ينفق رزقا و لا يعطي شيئا، كأنهم قالوا ذلك تبريرا لبخلهم، فإن اللّه لو كان لا ينفق فأجدر بهم أن لا ينفقوا، و قيل: إن سبب نزول هذه الآية: أن اليهود كانوا من أكثر الناس مالا وسعة، فلما جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذبوه ضيق اللّه عليهم فقال أحد اليهود: إن يد اللّه مغلولة، فرد اللّه عليهم غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بأن تغل أيديهم عن الخير، أو إخبار عنهم بأن اليهود بخلاء لؤماء، أي أنهم غلت أيديهم، لا اللّه سبحانه وَ لُعِنُوا بِما قالُوا لعنهم اللّه و طردهم عن رحمته بسبب هذه المقالة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 665

بَلْ يَداهُ أي يدا اللّه سبحانه مَبْسُوطَتانِ كناية عن جوده و عطائه، و إنما جاء بذكر اليد للمقابلة، و ذكر «يداه» لإفادة تمام معنى

الجود يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ فليس في تضييقه على اليهود دليل على أنه مغلول اليد بل إنما ينفق سبحانه كيف يشاء حسب الحكمة و المصلحة.

ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن و فضحهم يزيد كثيرا من اليهود انحرافا وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي كثيرا من اليهود، و إنما لم يذكر كلهم لأن بعضهم لا يعنيه الأمر، و بعضهم يسبب القرآن هدايتهم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً «ما» فاعل «يزيدن» و «كثيرا» مفعول مقدم أي طغيانهم و كفرهم يزداد بسبب القرآن، أما أن كفرهم يزداد فلأنه كلما أنكروا آية و حكما ازدادوا كفرا و سترا للحق و أما أن طغيانهم يزداد، فلأنهم يقاومون الدعوة أكثر فأكثر كلما رأوا تقدمها أكثر.

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي بين اليهود الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإن طبيعتهم المتخمرة بحب الذات و اعتقاد أنهم شعب اللّه المختار و بخلهم في الأموال، لا بد و أن توجد بينهم العداوة و الحزازة- ما داموا يهودا يعتقدون بهذه الاعتقادات السخيفة- فإن أسباب النزاع في العالم يدور حول المنصب و المادة غالبا، و هذان كامنان في كل يهودي، و قد دل التاريخ على صدق ذلك، فاليهود دائما متحاربون متباغضون، حتى في فلسطين اليوم تقوم الأحزاب اليهودية و المنظمات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 666

[سورة المائدة (5): آية 65]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)

بأبشع أنواع العداوة و البغضاء فيما بينها و قد مر سابقا تفسير «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» و أنه كناية عن بقاء الحكم ما دام اليهود موجودين كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم اللّه و نصر المسلمين

عليهم، و قد دل التاريخ على ذلك، فقد غلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على يهود بني «قريضة» و «النضير» و «خيبر» و «فدك» و غيرهم مع كثرة عددهم و عددهم، و بعد ذلك لم يتمكن اليهود من محاربة المسلمين، حتى في يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل من الناس». ثم ما هي إلا فترة حتى تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فهم المفسدون دائما، حيث يريدون العلو على الناس، و جمع الأموال، و من المعلوم أن ذلك لا يتهيأ لهم إلا بالفساد وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي يكرههم، لملازمة «كراهته» ل «عدم حبه»، فإن كل مصلح محبوب و كل مفسد مكروه.

[66] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا إيمانا بما أنزل اللّه و تقوى من معاصي اللّه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترنا سيئاتهم الماضية، لأن الإسلام يجبّ ما قبله وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي التي فيها أنواع النعم و الكرامة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 667

[سورة المائدة (5): الآيات 66 الى 67]

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

[67] وَ لَوْ أَنَّهُمْ أي أهل الكتاب أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ أي عملوا بما فيهما بدون تحريف و زيادة و نقيصة وَ أقاموا ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أي القرآن، و كونه منزلا إليهم باعتبار

نزوله بين أوساطهم و في زمانهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ أي السماء، فإنه سبحانه ينزل «السماء مدرارا» لمن آمن و اتقى وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ بإعطاء الأرض خيرها و بركتها، كما قال سبحانه: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «1»، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي من هؤلاء «أهل الكتاب» جماعة معتدلون في العمل لا غلو عندهم و لا تقصير، كما نجد أن كل أمة بعضهم معتدلون، و بعضهم متطرفون، أو المراد بهم: الذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إطلاق «منهم» على أولئك باعتبار الماضي وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي أن أكثرهم متطرفون يعملون الأعمال السيئة.

[68] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا خليفة من بعده- كما أجمع عليه المفسرون- و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخشى المنافقين من ذلك، فبين

______________________________

(1) الأعراف: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 668

[سورة المائدة (5): آية 68]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)

سبحانه عظم الأمر بقوله: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي لم تبلغ خلافة علي عليه السلام فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ لأن كل الرسالة رهن هذا التبليغ، و ذلك واضح إذ عدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سدى، و قد أمنه اللّه سبحانه مما كان يخشى منه فقال: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ أي يحفظك مِنَ النَّاسِ فلا

يتمكنون من الفتنة و الانقلاب و الإيذاء مما كان يخشاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و حين ذاك،

و عند منصرف الرسول من حجة الوداع في وسط الصحراء، أمر بنصب منبر له و خطب خطبة طويلة بليغة، ثم أخذ بكف علي عليه السّلام و قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله»

، و أنشد حسان:

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخمّ و أسمع بالرسول مناديا

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الذين يكفرون ببلاغك، و معنى «لا يهديهم» أنه لا يلطف بهم اللطف الزائد بعد ما أعرضوا عن الحق عنادا و استكبارا، و لعل الارتباط بين الآية و طرفيها أنه كما أن الناس مأمورون بالقبول، فالرسول مأمور بالبلاغ، مع تلطيف جو الكلام، بتغيير الأسلوب في وسط المطلب، تفنّنا في البلاغ، و تنشيطا للأذهان، كما تقدم في آيات أخرى مشابهة.

[69] قُلْ يا رسول اللّه لأهل الكتاب:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 669

[سورة المائدة (5): آية 69]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ من الدين الصحيح الذي ارتضاه اللّه لعباده حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بالعمل بما فيهما بدون تحريف أو تحوير وَ تقيموا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن، و قد سبق وجه قوله: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ و أنه لجهة نزول القرآن في أوساطهم وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فعوض أن يهتدوا بالقرآن يزيدهم طغيانا حيث كلما رأوا القرآن صمموا على

مقابلته و كفروا بكل ما ينزل منه، و لا يخفى أن نسبة الزيادة إلى القرآن مجازا، و إلا فهوى أنفسهم هو الذي يزيدهم كفرا فَلا تَأْسَ أي فلا تحزن يا رسول اللّه عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الذين كفروا بعد ما علموا الحق، و أعرضوا عن الهدى بعد أن رأوه و عرفوه.

[70] و حيث تقدم أن اللّه لا يهدي القوم الكافرين، مما كان يوهم أن الكفار غير قابلين للهداية، ذكر سبحانه أنهم إن آمنوا- الملازم لإمكان الإيمان منهم- كان لهم ما لغيرهم من المؤمنين من الأجر و المثوبة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا ظاهرا بالشهادتين وَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود وَ الصَّابِئُونَ و هم قسم من المسيحيين أو غيرهم- كما تقدم في سورة البقرة- و رفع «الصابئون» مع أنه عطف على المنصوب ب «إن» للإلفات إلى أن الصابئ الذي لا يرجى فيه خير إن آمن قبل، فكيف بغيره؟! فهو معطوف على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 670

[سورة المائدة (5): آية 70]

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)

محل اسم «إن» حيث كان مبتدأ قبل دخول الناسخ وَ النَّصارى ليس اعتبارا بأسمائهم و صبغتهم العامة في النجاة و الثواب، بل مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا حقيقيا من القلب، لا يشوبه شرك و نحوه وَ عَمِلَ صالِحاً أي عمل عملا صالحا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لا في الدنيا و لا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، و أما في الدنيا فلأن الخوف الحقيقي و الحزن الواقعي هو الذي لا يرجى دفعه و تداركه، بينما خوف هؤلاء و حزنهم ليس

كذلك، فإن خوف المؤمن ليس كخوف الكافر، و كذلك بالنسبة إلى الحزن.

[71] إن اليهود لم يكن لهم إيمان صادق من يومهم الأول، فكيف تأس عليهم يا رسول اللّه إن لم يؤمنوا بك؟! ف لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ عهدهم الأكيد حول الإيمان بالله و أنبيائه و اتباع أوامره وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يهدونهم إلى الحق، لكنهم نقضوا الميثاق و خالفوا الأوامر و تجرءوا على أبشع جريمة ف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ و لا تميل إلى ما جاء به، بأن لم يكن يوافق مرادهم فَرِيقاً من الرسل كَذَّبُوا كالمسيح عليه السّلام، حيث نسبوهم إلى الكذب و أنهم ليسوا من قبل اللّه سبحانه وَ فَرِيقاً من الرسل يَقْتُلُونَ كزكريا عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 671

[سورة المائدة (5): الآيات 71 الى 72]

وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)

[72] وَ حَسِبُوا أي ظن هؤلاء اليهود الذين كذبوا الأنبياء عليهم السّلام و قتلوهم أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يسبب قتل الأنبياء عليهم السّلام و تكذيبهم فتنة، كما هو شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته يزول و يمحى عن الوجود مع أن الأمر بالعكس، فإن بقاء المجتمع سليما من الأخطار و الآفات إنما هو

بانتهاج تعاليم الأنبياء، فإذا أزيح النبي عن القيادة و التوجيه إما بقتله أو تكذيبه، فإنه سوف تحل بالمجتمع أشد الكوارث، و تقع أعظم الفتن فَعَمُوا وَ صَمُّوا عن مناهج الرشد، بقتلهم الأنبياء و تكذيبهم، فإن الإنسان يبصر طريقه و يسمع الحق الذي ينفعه ما دام هناك نور يضي ء، و مرشد يدعو، أما إذا أزال النور، و أزاح المرشد، فإنه يعمى عن طريقه حتى يقع في المهالك، و يصم عن الحق حتى تحلّ به الكوارث ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بإرسال أنبياء آخرين، و المراد «التوبة» على هذا الجنس لا خصوص من قتل منهم الأنبياء ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا أيضا عن الحق، بأن تركوا تعاليم الأنبياء و أخذوا يتيهون في الضلالة كَثِيرٌ مِنْهُمْ إذ بعضهم آمن و اهتدى، و لفظة «كثير» بدل «بعض» عن «كل» لا فاعل ثان وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على ما اقترفوا من الآثام و احتقبوا من الاجرام.

[73] هكذا كان حال اليهود، حيث كفروا بعد أن أرشدهم اللّه الطريق، أما النصارى فإنهم كإخوانهم اليهود في العمى عن الحق بعد الرشاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 672

[سورة المائدة (5): آية 73]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ و هؤلاء قالوا: إن اللّه اتحد بالمسيح فصار شيئا واحدا، و لا يخفى أن الاتحاد غير معقول إذ لو بقي الشيئان اثنين بعد الاتحاد لم يكن اتحاد و إن عدم أحدهما، كان اللّه، بينما المسيح بنفسه اعترف بأنه عبد اللّه وَ الحال أنه قالَ الْمَسِيحُ يا

بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده رَبِّي وَ رَبَّكُمْ فإنا جميعا عبيده إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ و يجعل له شريكا، سواء اعترف به و بالشريك، أم اتخذ إلها غيره، فإنه أيضا من جعل الشريك لله فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فلا يدخله فيها أبدا وَ مَأْواهُ أي مصيره النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم من بأس اللّه و عذابه.

[74] و هناك قسم آخر من النصارى جعلوا الآلهة ثلاثة لَقَدْ كَفَرَ النصارى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد آلهة ثلاثة، و هم: «الأب» أي اللّه، و «الابن» أي المسيح، و «روح القدس»، قالوا: هذه الثلاثة واحد، و ذاك الواحد ثلاثة، و حين يسألون: كيف يمكن ذلك و هو تناقض؟ يقولون: إنه فوق مستوى عقولنا، و لا يلزمنا معرفة الكيفية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 673

[سورة المائدة (5): آية 74]

أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

و هناك سؤال هو أنه ما الفرق بينكم أنتم المسلمون حيث تقولون بأن اللّه لا يدرك كنهه، و بين الذين قالوا إن مشكلة التوحيد و التثليث فوق مستوى عقولنا؟

و الجواب: إن الفرق من أوضح الواضحات، إذ أولئك يقولون بما لا يمكن و لا يعقل، و ما لا يدرك وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي ليس للكون إلا إله واحد هو اللّه سبحانه وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا أي لم يرجع هؤلاء النصارى القائلون بالتثليث عَمَّا يَقُولُونَ أي عن مقالتهم، و قولهم بالتثليث لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا و الآخرة، و إنما لم يقل «ليمسنهم» لإفادة أنهم بمقالتهم هذه يكونون كفارا، تأكيدا لما سبق من قوله: «لقد كفر»

و هذا من أساليب البلاغة، يقال: «اترك هذا الأمر و إلا لسجنت الفاعل له» عوض أن يقول:

«لسجنتك» لإفادة أن علة السجن هو الإتيان بذلك العمل.

[75] ثم استفهم سبحانه استفهاما تعجبيا، و قد تقرأ في الأصول أن أمثال هذه الاستفهامات و التعجبات إنما هي إنشاء مفهوم الاستفهام و التعجب و أمثالهما، لداعي آخر من ترغيب و إنكار و ما أشبه، فليس استفهامه و لا تعجبه عن جهل و تعجب كما هو عندنا أَ فَلا يَتُوبُونَ هؤلاء اليهود و المسيحيون إِلَى اللَّهِ و يرجعون عن عقائدهم السخيفة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 674

[سورة المائدة (5): آية 75]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

و أقوالهم المفتعلة وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ لما مضى من كفرهم و عصيانهم وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم إن تابوا أو استغفروا، و يرحمهم بفضله إن رجعوا و آبوا.

[76] و بعد ما ذكر سبحانه أقوال المسيحيين حول المسيح، بيّن تعالى واقع المسيح و أنه ليس كما زعموا مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أي ليس المسيح عليه السّلام و ذكر «ابن مريم»، لنفي كونه ابن اللّه- في العبادة- إِلَّا رَسُولٌ فليس هو بإله قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فهو رسول كأحدهم، فكما ليس أولئك بآلهة، ليس هذا بإله وَ أُمُّهُ مريم عليها السّلام صِدِّيقَةٌ كانت كثيرة التصديق بالله و آياته، فليست هي إله كما زعم جماعة من المسيحيين فقالوا بالأب و الأم و الابن كانا المسيح و أمه يَأْكُلانِ الطَّعامَ و ذلك من صفات المخلوق لا الإله، إذ آكل الطعام محتاج إلى الطعام، و

له جوف، و له أجزاء، و له حالات، و كل ذلك ينافي كونه إله انْظُرْ يا رسول اللّه كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ و نوضح لهؤلاء النصارى الْآياتِ الدالة على عدم كون المسيح إلها ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق، يقال: «أفكه يأفكه إفكا» إذا صرفه، و «أنى» بمعنى «أين» أي أنهم أين يصرفون عن الحق الموضّح بالآيات؟!

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 675

[سورة المائدة (5): الآيات 76 الى 77]

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)

[77] قُلْ يا رسول اللّه لهؤلاء النصارى الذين يعبدون المسيح و يجعلونه إلها أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير اللّه ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فإن شيئا في الوجود لا يملك ضر أحد و لا نفعه إلا بإذن اللّه، و من أضرّ أو نفع بالوسائل الطبيعية- كالقاتل و المعطي- أو بالوسائل الغيبية كالأنبياء و الأئمة، فإنما ذلك حيث جعل اللّه المسببات تابعة لأسبابها الخاصة، و سلط الفاعل على الأسباب، فهي ترجع أيضا إليه سبحانه وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بضمائركم و حركاتكم، فاحذروا مخالفته، كي لا تقعوا في عقوبته و نكاله.

[78] قُلْ يا رسول اللّه: يا أَهْلَ الْكِتابِ إما عام يشمل اليهود و النصارى، فالمراد بغلو اليهود: قولهم عزيز ابن اللّه، و قولهم أن المسيح ليس نبيا، فإنه غلوّ معكوس، أو المراد به النصارى فقط لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ بأن تقولوا: المسيح هو

اللّه، أو ثالث ثلاثة، أو إنه ابن اللّه غَيْرَ الْحَقِ عطف بيان، إذ كل غلوّ هو غير الحق وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فإن أسلافكم لو ضلوا في اعتقادهم و غلوا، فلما ذا تتبعونهم أنتم، إنهم كانوا من قبل و قد مضوا، فما بالكم أنتم تقتفون أثرهم الباطل وَ أَضَلُّوا كَثِيراً من الناس فأوقعوهم في ضلال الكفر و الشرك وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 676

[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 79]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)

أي الجادة المستقيمة. و التكرار إنما هو لاختلاف المتعلق، فقد تعدّى أحدهما إلى «من قبل» و تعدى الآخر إلى «عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ» أو المراد ب «القوم» كبارهم الذين كانوا قبل النبي قائلين بألوهية عيسى، و أدركوا فلم يؤمنوا، فإنهم ضلوا من قبل بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقولهم بالتثليث، و ضلوا بعد بعثته لكفرهم به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[79] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ فاللعنة عليهم من قديم الزمان حيث لم ينفكّوا يعملون القبائح و يكفرون بالأنبياء و ينسبون إلى اللّه ما لا يليق به عَلى لِسانِ داوُدَ النبي عليه السّلام في الزبور وَ على لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ في الإنجيل، فقد لعنهم داود عليه السّلام لما اعتدوا في السبت فصاروا قردة، و لعنهم عيسى عليه السّلام لما كفروا بعد فصاروا خنازير ذلِكَ اللعن إنما استحقوه بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي يتجاوزون حدود

اللّه سبحانه.

[80] ثم بيّن سبحانه بعض عصيانهم و اعتدائهم بقوله: كانُوا أي كان بنو إسرائيل لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ فقد تفشت فيهم المنكرات و لم يكن ينهاهم علماؤهم، فاستحق الجميع العقاب، أولئك بإتيان المنكر، و هؤلاء بسكوتهم عن فاعليه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ من إتيان المنكر و عدم التناهي عنه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 677

[سورة المائدة (5): الآيات 80 الى 81]

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

[81] تَرى يا رسول اللّه أن تلك الطبيعة العاتية العاصية موجودة فيهم إلى الآن، فإن كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل- اليهود- يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يتخذون الكفار أولياء لهم، فقد كان اليهود يتولون كفار مكة و يقولون: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا «1»، في حين يجب على المؤمن أن يعادي الكافر الذي لا يعترف بالله و قوانينه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أي لهؤلاء اليهود أَنْفُسُهُمْ أي بئس ما قدموا لمعادهم من الأعمال السيئة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ محله الرفع ب «بئس» فهو كزيد في قولك: «بئس رجلا زيد» أي بئس السخط الذي قدموه لأنفسهم وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ فالسخط يؤذي روحهم، كمن يعلم أن السلطان غاضب عليه، و النار تؤذي جسمهم كما قال سبحانه في عكس ذلك: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ «2»، فإن أهل النار يعذبون عذابين، و أهل الجنة ينعمون نعيمين.

[82] وَ لَوْ كانُوا أي هؤلاء اليهود يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صادقا وَ يؤمنون ب

النَّبِيِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من القرآن الحكيم

______________________________

(1) النساء: 52.

(2) آل عمران: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 678

[سورة المائدة (5): آية 82]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

مَا اتَّخَذُوهُمْ أي لم يتخذوا الكفار أَوْلِياءَ لهم، أو المراد: أنهم لو آمنوا بموسى و كتابه إيمانا صادقا، لم يتخذوا الكفار أولياء، إذ الإيمان بهما يمنع من ولاية الكافرين، فهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون بموسى و كتابه وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة اللّه و رسوله و كتابه، فإنما يدعون الإيمان باللسان، و قلوبهم خالية من الإيمان.

[83] ثم ذكر سبحانه فرقا بين اليهود و النصارى، و أن اليهود طبيعتهم العامة العناد و الاستكبار و العداوة، و أن النصارى ليسوا بتلك المثابة، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء، و ما أصدق قوله سبحانه، فإننا نرى ذلك إلى اليوم، فقد نجد كثيرا من المسيحيين يسلمون، و لا نجد إلا الشاذ النادر من اليهود يسلمون لَتَجِدَنَ يا رسول اللّه أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا أي للمسلمين الْيَهُودَ فإنهم من أعدى أعداء المسلمين وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي المشركين، فإنهم في صف اليهود- و بعدهم في الرتبة- عداوة للمسلمين.

وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ أقرب الناس مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا أي حبّا للمؤمنين الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى فإنهم و إن كانوا نصارى بصرف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 1، ص: 679

اللفظ قالُوا إِنَّا نَصارى «1»، لا أنهم على تعاليم المسيح و دينه حقيقة، لكنهم من أقرب الناس حبا للمسلمين ذلِكَ أي

سبب كونهم أقرب بِأَنَّ مِنْهُمْ أي من النصارى قِسِّيسِينَ أي علماء من «القس» بمعنى نشر الحديث وَ رُهْباناً أي الزهاد أصحاب الصوامع من «رهب» بمعنى خاف وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتّباع الحق و الانقياد إليه إذا علموه. و بهذه الصفة خرج من لم يكن كذلك من النصارى، فإن القيد يخصّص المطلق.

______________________________

(1) المائدة: 15.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.