مختصر الامثل في تفسير كتاب الله المنزل المجلد 5

اشارة

عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل في تفسير كتاب الله المنزل/ناصر مكارم شيرازي

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، 1428

مشخصات ظاهري : ج

وضعيت فهرست نويسي : در انتظار فهرستنويسي

شماره كتابشناسي ملي : 1148393

53. سورة النجم

محتوى السورة: هذه السورة- كما يقول بعض المفسرين- هي أوّل سورة تلاها النبي صلى الله عليه و آله جهراً وبصوت عال في حرم مكة بعد أن أضحت دعوته علناً ... وأصغى إليها المشركون وسجد لها جميع المسلمين حتى المشركون «1».

إنّ هذه السورة- لكونها مكية- تحمل بين ثناياها بحوثاً في الاصول الاعتقادية خاصة «النبوة والمعاد» وفيها تهديد ووعيد وإنذارات مكررة لإيقاظ الكفار وردعهم عن غيّهم.

ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- بداية السورة تتحدث بعد القَسم العميق المغزى عن حقيقة الوحي وإتّصال النبي صلى الله عليه و آله مباشرةً بمنزل الوحي «جبريل».

2- ثم يجري الكلام على معراج الرسول صلى الله عليه و آله، له علاقة مباشرة بالوحي أيضاً.

3- ثم يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة الملائكة.

4- ويفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامة المذنبين، ويؤمّلهم بمغفرة اللَّه الواسعة، ويؤكّد على أنّ كلّاً مسؤول عن عمله، ولا تزر وازرة وزر اخرى.

5- وإكمالًا لهذه الأهداف يبيّن جوانب من مسألة- المعاد- ويقيم دليلًا واضحاً على هذه

______________________________

(1) تفسير روح البيان 9/ 208.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 6

المسألة بما هو موجود في النشأة الاولى- الدنيا-.

6- وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب الامم المؤلمة لعداوتهم للحق وعنادهم.

7- وأخيراً فإنّ السورة تختتم بالأمر بالسجود للَّه وعبادته.

وتسمية السورة ب «النجم» هي لورود هذا اللفظ في الآية الاولى من السورة ذاتها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة النجم اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمّد صلى الله عليه و آله ومن جحد به».

ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الثواب العظيم هو لُاولئك الذين يتّخذون تلاوة هذه السورة وسيلة للتفكير، ثم العمل، وأن يطبّقوا تعليمات هذه السورة على أنفسهم في حياتهم.

وَ النَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوَى (2) وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة «الطور» ختمت بكلمة «النجوم»، وهذه السورة بُدئت ب «والنّجم»- إذ أقسم به اللَّه قائلًا: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى .

والظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة «والنجم» القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة اللَّه ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة للَّه تعالى.

والتعويل على غروبها وافولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْأَفِلِينَ» «1».

لكن لنعرف لِمَ أقسم اللَّه بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى .

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 76.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 7

والتعبير ب «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة.

ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من اللَّه فإنّ القرآن يضيف قائلًا: «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى .

وهذا التعبير مشابه التعبير الاستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النبي صلى الله عليه و آله

لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع الهوى.

ثم تأتي الآية التالية لتصرّح: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى .

فهو لا يقول شيئاً من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كل ما يقوله فمن اللَّه، والدليل على هذا الإدعاء كامن في نفسه، فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً- فكيف بالامّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات- أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم.

وينبغي الإلتفات- ضمناً- إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرسول صلى الله عليه و آله أيضاً وأنّها وفق الوحي، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة: «وما ينطق عن الهوى».

والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدعى.

في الدرّ المنثور: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن تسد الأبواب التي في المسجد فشق عليهم قال:

حبة أنّي لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان وهو يقول:

أخرجت عمك وأبابكر وعمر والعباس، وأسكنت ابن عمك فقال رجل يومئذ ما يالوا برفع ابن عمه قال فعلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قد شق عليهم فدعا الصلاة جامعة فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً فلما فرغ قال: «يا أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته». ثم قرأ: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى .

وهذا الحديث

الذي يكشف عن علوّ مقام أمير المؤمنين علي عليه السلام بين جميع الامة الإسلامية بعد الرسول يدل على أنّه ليست أقوال النبي طبق الوحي فحسب بل حتى أعماله وأفعاله وتقريره وسيرته أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 8

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَ فَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) تعقيباً على الآيات المتقدمة التي تحدثت عن نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه و آله يجري الكلام في هذه الآيات عن معلم الوحي. تقول الآية: إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علّم النبي صلى الله عليه و آله: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى .

وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلط على كل شي ء: «ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى .

وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالافق الأعلى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى .

ثم اقترب واقترب حتى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . ثم أنّ اللَّه تعالى أنزل عليه الوحي «فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى .

«المِرّة»: معناها الفَتل، وبما أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوة ... فإنّ هذه الكلمة استعملت في الامور المادية أو المعنوية المحكمة والقوية.

«تدلّى»: فعل مأخوذ من التدلّي ومعناه، كما يقول الراغب في مفرداته، الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة «دنا» الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.

«قاب»: بمعنى مقدار؛ و «قوس» (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى «قاب

قوسين» ... قدر طول قوسين.

ورد في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات اللَّه المقدسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النبي وهالته.

فعلى هذا التفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و آله بالصورة التالية:

إنّ اللَّه الذي هو شديد القوى علّم النبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الافق الأعلى. ثم قرب وصار أكثر إقتراباً حتى كان بينه وبين اللَّه مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى اللَّه إليه ما أوحاه. وبما أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فإنّه يؤكّد

مختصر الامثل، ج 5، ص: 9

أنّ ما رآه قلب النبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.

وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النبي الباطني للَّه تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، واللَّه أعلم بحقائق الامور.

ونختم هذا البحث بحديث عن النبي صلى الله عليه و آله وآخر عن علي عليه السلام.

1- في تفسير القرطبي: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هل رأيت ربّك؟ فقال: «رأيته بفؤادي».

2- وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: «أفأعبد ما لا أرى؟ ...».

وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) هذه الآيات هي أيضاً تتمة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي وإرتباط النبي صلى الله عليه و آله باللَّه والشهود الباطني، إذ تقول: «وَلَقَدْ رَءَاهُ

نَزْلَةً أُخْرَى . أي مرّة ثانية، وكان ذلك «عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى . أي عند شجرة سدر في الجنة تدعى بسدرة المنتهى ومحلها في جنة المأوى:

«عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى .

هذه حقائق واقعية شاهدها النبي صلى الله عليه و آله بام عينيه و «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى .

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم، إلّاأنّ الأخبار والروايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة. وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة اللَّه وهناك محل تسبيح الملائكة ومأوى الامم الصالحة.

أمّا «جَنَّةُ الْمَأْوَى فمعناها الجنة التي يُسكن فيها؛ والمراد من هذه الجنة هو «جنة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

والآية: «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى إشارة إلى أنّ بصر النبي، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة، وما رآه النبي بعينيه هو عين الواقع؛ لأنّ «زاغ»: من مادة «زيغ» معناه الانحراف يميناً أو شمالًا؛ و «طغى : من الطغيان، معناه التجاوز عن الحد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 10

إنّ التعبير ب «نَزْلَةً أُخْرَى معناه أنّ النبي صلى الله عليه و آله رأى اللَّه في شهود باطني عند معراجه في السماء. وبتعبير آخر: نزل اللَّه مرّة اخرى على قلب النبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى اللَّه عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار اللَّه.

ورؤية قلب النبي في هذا الشهود لم تكن لغير الحق أبداً، ولم ير سواه، ولقد رأى من دلائل عظمة اللَّه في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها

بعينيه.

بحثان

1- ما هو الهدف من المعراج؟ الهدف من المعراج هو بلوغ النبي صلى الله عليه و آله مرحلة الشهود الباطني من جهة، ورؤية عظمة اللَّه في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محل البحث: «لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى .

وفي الآية الاولى من سورة الإسراء: «لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا» والإطلاع على مسائل مهمّة- كثيرة- كأحوال الملائكة وأهل الجنة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنّبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

2- جانب من إيحاءات اللَّه وكلماته لرسوله في ليلة المعراج: في كتاب ارشاد القلوب للديلمي: روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: «أنّ النبي صلى الله عليه و آله سأل ربّه سبحانه ليلة المعراج فقال:

يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟! فقال اللَّه عزّ وجل: ليس شي ء عندي أفضل من التوكل عليّ والرّضا بما قسمت. يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ، ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ، ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ، وليس لمحبتي علم ولا غاية ولا نهاية».

وجاء في جانب آخر: «يا أحمد «1» فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اعطي شي ء من الحلو والحامض اغترّ به. فقال: يا ربّ، دُلّني على عمل أتقرّب به إليك.

قال: اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلًا. قال: ربّ وكيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع».

كما جاء في مكان آخر منه: «يا أحمد، محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم

______________________________

(1) إنّ إسم النبي في كل مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلّافي بدايته، أجل فاسم النبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 11

منك ادنِك وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك

فإنّ الفقراء أحبّائي».

وجاء في موضع آخر أيضاً: «يا أحمد، أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها. قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه، قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه، قليل المنفعة، كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام، وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس لهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم.

قال: يا ربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا؟ قال: يا أحمد، إنّ عيب أهل الدنيا كثير، فيهم الجهل والحمق، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء».

ثم يتناول الحديث أهل الجنة فيقول: «يا أحمد، إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم، كثير حياؤهم، قليل حمقهم، كثير نفعهم، قليل مكرهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب، كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس من الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون، دعاؤهم عند اللَّه مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، ... الناس [الغَفلَة] عندهم موتى واللَّه عندهم حي قيّوم كريم، يدعون المدبرين كرماً ويريدون المقبلين تلطّفاً قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة، يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في كل يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم ... وإن قاموا بين يدي كأنّهم بنيان مرصوص لا أرى في قلبهم شغلًا لمخلوق

... فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيّبةً إذا فارقت أرواحهم من جسدهم ولا اسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلها ولأرفعن الحجب كلها دوني، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ»

... «يا أحمد، إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي».

وجاء في مكان آخر منه: «يا أحمد، هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ حياة أبقى؟ قال اللّهمّ لا.

قال: أمّا العيش الهني ء فهو الذي لا يفترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقي،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 12

يطلب رضاي في ليله ونهاره. وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حق عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كل سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كل ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلًا فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتى أجعل قلبه لي وفراغه وإشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي وافتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي». وأخيراً فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثّرة: «يا أحمد، لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثم أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد للَّه ربّ العالمين» «1».

هذه الأحاديث القدسية «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى

أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة إستيعابها؛ ولذلك بقيت في نفس النبي صلى الله عليه و آله طيّ الكتمان فلم يَبُح بها لأحد إلّالخلصائه المختصين به.

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى (19) وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) هذه الأصنام وليدة أهوائكم: بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء، يتناول القرآن أفكار المشركين، فينقضها ويتحدث عن معتقداتهم الخرافية ... فيقول: بعد أن أدركتم عظمة اللَّه وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم

______________________________

(1) بحار الأنوار 74/ 21.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 13

مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم: «أَفَرَءَيْتُمُ اللتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى .

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم.

«تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيْزَى . فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين اللَّه تعالى فعلام تجعلون نصيب اللَّه دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئاً بها! ويقول لهم: إنّكم ترون البنت عاراً وذلّةً وتئدونها وهي حيّة في القبر، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات اللَّه، ولا تعبدون الملائكة من دون اللَّه فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسية.

ومن

هنا يبدو واضحاً أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة، الملائكة التي يسمّون كلّاً منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات اللَّه.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والانثى، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل)، وإلّا فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والانثى من حيث القيمة الإنسانية، ولا الملائكة فيهم ذكر وانثى، ولا هم بنات اللَّه، وليس عند اللَّه من ولد أساساً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن بضرس قاطع: «إِنْ هِىَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ».

فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم، وليس لديكم إلّا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثم يختتم القرآن الآية بالقول: «إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ». فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس «وَلَقَدْ جَاءَهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى .. إلّاأنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات.

وأساساً فإنّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل لظهور الأصنام الاخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 14

أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولَى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضَى (26) هذه الآيات أيضاً تتناول بالبحث والتعقيب موضوع عبادة الأصنام وخرافتها، وهي تتمّة لما سبق بيانه في الآيات المتقدمة. فتتناول أوّلًا الامنيات الجوفاء عند عبدة الأصنام وما كانوا يتوقّعون من الأصنام: «أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى .

تُرى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام

التي لا قيمة لها ولا روح فيها عند اللَّه سبحانه؟ أو يُلتجأ إليها عند المشكلات؟ كلّا! «فَلِلَّهِ الْأَخِرَةُ وَالْأُولَى .

إنّ عالم الأسباب يدور حول محور إرادته، وكل ما لدى الموجودات فمن بركات وجوده، فالشفاعة من اختياراته أيضاً، وحلّ المشاكل بيد قدرته كذلك.

وهكذا فإنّ القرآن يقطع أمل المشركين تماماً- بشفاعة الأصنام.

وفي آخر الآيات محل البحث يقول القرآن مضيفاً ومؤكّداً على هذه المسألة: «وَكَم مّن مَّلَكٍ فِى السَّموَاتِ لَاتُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى .

فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتى ولو بشكل جماعي أن تشفع لأحد إلّابإذن اللَّه ورضاه، فما عسى يُنتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها.

بحث

سعة الأماني: الأمل أو التمنّي إنّما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه، الإنسان إذا كانت له علاقة بالشي ء ولم يستطع أن يبلغه ويحقّقه فإنّه يأخذ صورة التمنّي عنده ...

وبالطبع قد تكون أمانيّ الإنسان أحياناً نابعة من روحه العالية وباعثاً على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسيره التكاملي ... كما لو تمنّى بأن يتقدم الناس بالعلم والتقوى والشخصية والكرامة.

إلّا أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام «والأماني» كاذبة، وعلى العكس من الأماني الصادقة فانّها- أي الكاذبة- أساس الغفلة والجهل والتخدير والتخلّف كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم، وأن يملك أموالًا طائلة، وأن يحكم الناس جميعاً وأمثال هذا الخيال الموهوم.

ولذلك فقد رغّبت الروايات الإسلامية الناس في تمنّي الخير، كما في كتاب الخصال عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 15

علي عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من تمنّى شيئاً وهو للَّه عزّ وجل رضاً لم يخرج من الدنيا حتى يعطاه».

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَ

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) هذه الآيات- محل البحث- كالآيات المتقدمة، تبحث موضوع نفي عقائد المشركين، فتقول أوّلها: «إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى .

أجل، إنّ هذا الكلام القبيح والمخجل إنّما يصدر من اناس لا يعتقدون بيوم الحساب ولا بجزاء أعمالهم، فلو كانوا يعتقدون بالآخرة لما تجاسروا وقالوا مثل هذا الكلام، وأي كلام؟! كلام ليس لهم فيه أدنى دليل ... بل الدلائل العقلية تبرهن على أنّه ليس للَّه من ولد، وليس الملائكة إناثاً، ولا هم بنات اللَّه كذلك.

ثم يتناول القرآن واحداً من الأدلة الواضحة على بطلان هذه التسمية فيقول معقّباً:

«وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا».

فالإنسان الهادف والمعتقد لا يطلق كلامه دون علم ودراية، ولا ينسب أيّة نسبة لأحد دونما دليل .. فالتعويل على الظن والتصور إنّما هو من عمل الشيطان أو من يتّصف بالشيطانية ... وقبول الخرافات والأشياء الموهومة دليل الإنحراف وعدم العقل.

ولكن الظن المعقول وهو ما يخطر في الذهن، ويكون مطابقاً للواقع غالباً، وعليه يبني الإنسان أعماله و سلوكياته اليومية عادة- كشهادة الشهود في المحكمة وقول أهل الخبرة وظواهر الألفاظ وأمثال ذلك- غير داخل في هذه الآيات، وهذه الامور نوع من العلم العرفي لا الظن.

ومن أجل أن يبيّن القرآن أنّ هؤلاء الجماعة ليسوا أهلًا للإستدلال والمنطق الصحيح، وقد ألهاهم حب الدنيا عن ذكر اللَّه وجرّهم إلى الوحل في خرافاتهم وأوهامهم

يضيف قائلًا:

«فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 16

إنّما عبارة (ذكرنا) ذو مفهوم واسع بحيث يشمل كل توجّه نحو اللَّه، سواء أكان ذلك عن طريق القرآن، أو عن طريق العقل، أو عن طريق السنّة، أو تذكّر القيامة وما إلى ذلك.

وربّما لا حاجة إلى التذكير أنّ الأمر بالإعراض عن هذه الفئة (أهل الدنيا) لا ينافي تبليغ الرسالة الذي هو وظيفة النبي الأساسية، لأنّ التبليغ والإنذار والبشارة كلها لا تكون إلّافي موارد احتمال التأثير، فحيث يعلم ويتيقّن عدم التأثير فلا يصحّ هدر الطاقات، وينبغي الإعراض بعد إتمام الحجة.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يثبت القرآن إنحطاط أفكار هذه الفئة فيقول مضيفاً:

«ذلِكَ مَبْلَغُهُم مّنَ الْعِلْمِ».

إنّ آية أعلاه يمكن أن تكون إشارةً إلى خرافاتهم كعبادة الأصنام وجعلهم الملائكة بنات اللَّه: أي أنّ منتهى علمهم هو هذه الأوهام.

أو أنّها إشارة إلى حبّ الدنيا والأسر في قبضة الماديات، أي أنّ منتهى إدراكهم هو قناعتهم بالأكل والشرب والنوم والمتاع الفاني في هذه الدنيا وزبرجها وزخرفها الخ.

وقد جاء في الدعاء المعروف في أعمال شعبان المنقول عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا».

وتختتم الآية بالقول: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى .

ختام الآية يشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ اللَّه يعرف الضالين جيّداً كما يعرف المهتدين أيضاً، فيصبّ غضبه على الضالّين ويسبغُ لطفه على المهتدين، ويجازي كلّاً بعمله يوم القيامة.

وَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ

وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) لما كان الكلام في الآيات المتقدمة عن علم اللَّه بالضالين والمهتدين، فإنّ الآيات أعلاه تتمّة لما جاء آنفاً. تقول: «وَلِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 17

فالمالكية المطلقة في عالم الوجود له وحده، والحاكمية المطلقة على هذا العالم له أيضاً، ولذلك فإنّ تدبير عالم الوجود بيده فحسب. ولما كان الأمر كذلك فهو وحده الجدير بالعبادة والشفاعة.

إنّ هدفه الكبير من هذا الخلق الواسع ليستيقظ الإنسان في عالم الوجود وليسير في مسير التكامل في ضوء المناهج التكوينية والتشريعية وتعليم الأنبياء وتربيتهم، لذلك فإنّ القرآن يذكر نتيجة هذه المالكية فيختتم الآية بالقول: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى .

ثم يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ».

«الكبائر»: جمع كبيرة؛ و «الإثم» في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب، لذلك يطلق على الذنب عادةً؛ و «اللمم»: معناه الإقتراب من الذنب. في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اللمم: الرجل يلمّ بالذنب فيستغفر اللَّه منه».

والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضاً ... إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب، ثم يلتفت إليها فيتوب منها.

أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ».

وهذا يدل على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران اللَّه. يعنى أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا، إلّاأنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرة- وإنّما تقع الذنوب عَرضاً، ولذلك فما أن

يصدر منهم الذنب إلّا ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من اللَّه سبحانه.

ويتحدث القرآن في ذيل الآية عن علم اللَّه المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ».

وقوله «أنشأكم من الأرض» إمّا هو بإعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم عليه السلام الذي خلقه من تراب، أو باعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كله من الأرض، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة، ثم بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً.

وعلى كل حال، فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ اللَّه مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم إنعقدت نطفتكم في أرحام الامّهات في أسجاف من الظلمات فكيف- مع هذه الحال- لا يعلم أعمالكم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 18

وهذا التعبير مقدمة لما يليه من قوله تعالى: «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى .

فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة، فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم، وهو أعرف بكم منكم.

في علل الشرائع عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ» قال:

«لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لأنّ اللَّه تعالى أعلم بمن اتّقى منكم».

بحث

ما هي كبائر الإثم: إنّ كل ذنب فيه أحد الشروط التالية يعدّ كبيراً:

أ الذنوب التي ورد الوعيد من قبل اللَّه في شأنها والعذاب لمرتكبها.

ب الذنوب المذكورة في نظر أهل الشرع ولسان الروايات بأنّها عظيمة.

ج الذنوب التي عدّتها المصادر الشرعية أكبر من الذنوب التي هي من الكبائر.

د وأخيراً الذنوب المصرّح بها في الروايات المعتبرة بأنّها من الكبائر.

وقد ورد ذكر الكبائر في الروايات الإسلامية مختلفاً عددها فيه، إذ

جاء في بعضها أنّها سبع. في ثواب الأعمال عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «... والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف».

وجاء في بعض الروايات أنّها «عشر»، وأوصلتها روايات اخر إلى «تسع عشرة» كبيرةً، وربّما ترقّى هذا العدد إلى أكثر مما ذكر في بعض الروايات أيضاً.

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَ أَعْطَى قَلِيلًا وَ أَكْدَى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَنْ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

سبب النّزول

في مجمع البيان: نزلت في عثمان بن عفان، كان يتصدق وينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبداللَّه بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع يوشك أن لا يبقى لك شي ء؟ فقال عثمان:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 19

إنّ لي ذنوباً، وإنّي أطلب بما أصنع رضى اللَّه وأرجو عفوه. فقال له عبداللَّه: أعطني ناقتك، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها. فأعطاه، وأشهد عليه، وأمسك عن الصدقة. فنزلت الآيات.

وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على دينه، فعيره بعض المشركين، وقالوا: تركت دين الأشياخ وظلتهم، وزعمت أنّهم في النار؟ قال: إنّي خشيت عذاب اللَّه. فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه، أن يتحمل عنه عذاب اللَّه، ففعل. فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل، ومنعه تمام ما ضمن له، فنزلت الآيات.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة

في أن يجزي اللَّه تعالى من أساء بإساءته ويثيب المحسنين بإحسانهم ... وبما أنّه من الممكن أن يتصور أن يعذّب أحد بذنب غيره أو أن يتحمل أحد وزر غيره، فقد جاءت هذه الآيات لتنفي هذا التوهم في المقام، وبيّنت هذا الأصل الإسلامي المهم أنّ كلّاً يرى نتيجة عمله، فقالت أوّلًا: «أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى . أي تولّى من الإسلام أو الإنفاق. «وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى «1». بمعنى أنّه أنفق القليل ثم إمتنع وأمسك وهو يظنّ أنّ غيره سيحمل وزره يوم القيامة ..

«أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى . فأيّ رجل جاءهم من الغيب و «القيامة» فأخبرهم بأنّه يمكن أخذ الرشوة وتحمّل آثام الآخرين؟

وبعد هذا تأتي الآية الاخرى لتبيّن إعتراض القرآن الشديد على ذلك، وبيان لأصل كلي مطّرد في الأديان السماوية كلها فتقول: تُرى أهذا الذي إمتنع عن الإنفاق وآمن بالوعود الخيالية، ويريد أن يخلص نفسه من عذاب اللَّه بإنفاقه اليسير والزهيد من أمواله، أتغنيه هذه الخيالات والتصورات: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرهِيمَ الَّذِى وَفَّى «2».

«إبراهيم»: هو ذلك النبي العظيم الذي أدّى حق رسالة اللَّه، وبلّغ ما أمره به ووفي بجميع عهوده ومواثيقه، ولم يخش تهديد قومه وطاغوت زمانه، ذلك الإنسان الذي بذل نفسه للنيران وقلبه للرحمن وولده للقربان وماله للُاخوان.

ثم تأتي الآية الاخرى لتقول: «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

______________________________

(1) «أكدى»: مأخوذ من الكدية ومعناه الصلابة، ثم أطلق على من يمسك والبخيل.

(2) «وفّى»: مصدره توفية معناه البذل والأداء التامّ ..

مختصر الامثل، ج 5، ص: 20

«الوزر»: في الأصل مأخوذ من «الوَزَر»- على زنة خطر- ومعناه المأوى أو الكهف أو الملجأ الجبلي، ثم استعملت هذه الكلمة في الاعباء الثقيلة! لشباهتها الصخور الجبلية العظيمة، وأطلقت على الذنب أيضاً، لأنّه

يترك عبئاً ثقيلًا على ظهر الإنسان. والمراد من «الوازرة» من يتحمل الوزر.

ولمزيد الإيضاح يضيف القرآن قائلًا: «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى .

أمّا الآية التالية فتقول: «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . فالإنسان لا يرى غداً نتائج أعماله التي كانت في مسير الخير أو الشرّ فحسب، بل سيرى أعماله نفسها يوم الحساب، كما نجد التصريح بذلك في الآية (30) من سورة آل عمران: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا».

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فتقول: «ثُمَّ يُجْزَيهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى .

والمراد من «الجزاء الأوفى» هو الجزاء الذي يكون طبقاً للعمل، وبالطبع هذا لا ينافي لطف اللَّه وتفضّله بأن يضاعف الجزاء على الأعمال الصالحة عشرة أضعاف أو عشرات الأضعاف ومئاتها وإلى ما شاء اللَّه.

اشير في الآيات- آنفة الذكر- إلى ثلاثة اصول من الاصول الإسلامية، وقد أكّدت عليها الكتب السماوية السابقة وهي:

أ) كل إنسان مسؤول عن ذنبه ووزره.

ب) ليس للإنسان في آخرته إلّاسعيه.

ج) يُجزي اللَّه كل إنسان على عمله الجزاء الأوفى.

وهكذا فإنّ القرآن يشجب الكثير من الأوهام والخرافات التي يهتمّ بها عامة الناس أو السائدة بينهم وكأنّها مذهب عقائدي.

وَ أَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكَى (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَ أَقْنَى (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) كل شي ء ينتهي إليه: في هذه الآيات تتجلى بعض صفات اللَّه التي ترشد الإنسان إلى مسألة التوحيد وكذلك المعاد أيضاً. ففي هذه الآيات وإكمالًا للبحوث الواردة في شأن جزاء

مختصر الامثل، ج 5، ص: 21

الأعمال يقول القرآن:

«وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى .

وليس الحساب والثواب والجزاء في الآخرة بيد قدرته فحسب، فإنّ الأسباب والعلل جميعها تنتهي سلسلتها إلى ذاته المقدسة، وجميع تدبيرات هذا العالم تنشأ من تدبيراته، وأخيراً فإنّ ابتداء هذا العالم والموجودات وانتهاؤها كلّها منه وإليه، وتعود إلى ذاته المقدسة.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا انتهى الكلام إلى اللَّه فأمسكوا وتكلموا فيما دون العرش، ولا تكلموا فيما فوق العرش». أي لا تتكلّموا في ذات اللَّه فإنّ العقول تحار فيه ولا تصل إلى حدّ فإنّه لا يمكن للعقول المحدودة أن تفكّر في ما هو غير محدود لأنّه مهما فكّرت العقول فتفكيرها محدود وحاشا للَّه أن يكون محدوداً.

إنّ هذا التفسير لا ينافي ما ذكرناه آنفاً ويمكن الجمع بين المفهومين في الآية.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية مبيّناً حاكمية اللَّه في أمر ربوبيته وإنتهاء امور هذا العالم إليه فيقول: «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا* وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى .

وهذه الآيات الأربع وما قبلها هي بيان جامع وتوضيح طريف لمسألة انتهاء الامور إليه وتدبيره وربوبيته، لأنّها تقول: إنّ موتكم وحياتكم بيده واستمرار النسل عن طريق الزوجين بيده، وكل ما يحدث في الحياة فبأمره، فهو يضحك، وهو يبكي، وهو يميت، وهو يحيي، وهكذا فإنّ أساس الحياة والمعوّل عليه من البداية حتى النهاية هو ذاته المقدسة.

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يوسع مفهوم الضحك والبكاء في هذه الآية ففسّرت بأنّه سبحانه: «أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات» «1».

وبعد ذكر الامور المتعلقة بالربوبية والتدبير من قِبَل اللَّه يتحدث القرآن عن موضوع المعاد فيقول: «وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى .

«النشأة»: معناها الإيجاد والتربية، و «النشأة الاخرى» ليست شيئاً

سوى القيامة.

ثم يضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى .

فاللَّه سبحانه لم يرفع حاجات الإنسان المادية عنه بلطفه العميم فحسب، بل أولاه غنى يرفع عنه حاجاته المعنوية من امور التربية والتعليم والتكامل عن طريق إرسال الرسل إليه وإنزال الكتب السماوية وإعطائه المواهب العديدة.

______________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم القمي 2/ 339.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 22

«أغنى»: فعل مشتق من غني ومعناه عدم الحاجة؛ و «أقنى»: فعل مشتق من قنية على وزن جِزية، ومعناها الأموال التي يدّخرها الإنسان. فيكون معنى الآية على هذا النحو: هو أغنى أي رفع الحاجات الفعلية، وأقنى معناه إيلاء المواهب التي تدخّر سواء في الامور المادية كالحائط أو البستان والأملاك وما شاكلها، أو الامور المعنوية كرضا اللَّه سبحانه الذي يُعدّ أكبر «رأس مال» دائم.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتقول: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشّعْرَى .

تخصيص القرآن «الشعرى» النجم المعروف في السماء بالذكر، بالإضافة إلى أنّه أكثر النجوم لمعاناً ويطلع عند السحر في مقربة من الجوزاء مما يلفت النظر تماماً ... فإنّ طائفةً من المشركين العرب كانت تعبده، فالقرآن يشير إلى أنّ الأولى بالعبادة هو اللَّه لأنّه ربّ الشعرى «وربّكم».

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَ ثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغَى (52) وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) ألا تكفي دروس العبرة هذه: هذه الآيات- كالآيات المتقدمة- تستكمل المسائل المذكورة في الصحف الاولى وما جاء في صحف إبراهيم وموسى.

وكانت الآيات المتقدمة قد ذكرت عشر مسائل ضمن فصلين:

الأوّل: كان ناظراً إلى مسؤولية كل إنسان عن أعماله.

الثاني: ناظر إلى إنتهاء جميع الخطوط والحوادث إلى اللَّه سبحانه.

أمّا الآيات محل البحث فتتحدث عن مسألة واحدة- وإن شئت قلت- تتحدث عن موضوع واحد ذلك هو مجازاة أربع امم من الامم المنحرفة الظالمة وإهلاكهم، وفي ذلك إنذار لُاولئك الذين يلوون رؤوسهم عن طاعة اللَّه ولا يؤمنون بالمبدأ والمعاد.

فتبدأ الآية الاولى من الآيات محل البحث فتقول: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى .

وصف عاد ب «الاولى» إمّا لقدمها حتى أنّ العرب تطلق على كل قديم أنّه «عاديّ» أو لوجود امّتين في التاريخ باسم «عاد» والامّة المعروفة التي كانت نبيّها هود عليه السلام تُدعى ب «عاد الاولى».

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى .

مختصر الامثل، ج 5، ص: 23

ويقول في شأن قوم نوح: «وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى .

لأنّ نبيّهم نوحاً عاش معهم زماناً طويلًا، وبذل قصارى جهده في إبلاغهم ونصحهم، فلم يستجب لدعوته إلّاقليل منهم، وأصرّوا على شركهم وكفرهم وعتوّهم وإستكبارهم وإيذائهم نبيّهم نوحاً وتكذيبهم إيّاه وعبادة الأوثان بشكل فظيع كما سنعرض تفصيل ذلك في تفسير سورة نوح إن شاء اللَّه.

وأمّا رابعة الامم فهي «قوم لوط» المشار إليهم بقوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى .

والظاهر أنّ زلزلة شديدة أصابت حيّهم وقريتهم فقذفت عماراتهم نحو السماء بعد إقتلاعها من الأرض وقلبتها على الأرض، وطبقاً لبعض الروايات كان جبرئيل قد إقتلعها بإذن اللَّه وجعل عاليها سافلها ودمّرها تدميراً ... «فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى .

لقد امطروا بحجارة من السماء، فغشّت حيّهم وعماراتهم المنقلبة ودفنتها عن آخرها.

وفي ختام هذا البحث يشير القرآن إلى مجموع النعم الوارد ذكرها في الآيات المتقدمة ويلمح إليها بصورة استفهام إنكاري قائلًا: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكَ تَتَمَارَى .

فهل تشكّ وتتردّد بنعم اللَّه، كنعمة الحياة أو أصل نعمة الخلق والإيجاد، أو نعمة أنّ اللَّه لا يأخذ أحداً

بوزر أحد؛ وما جاء في الصحف الاولى وأكّده القرآن؟!

صحيح أنّ المخاطب بالآية هو شخص النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ مفهومها شامل لجميع المسلمين، بل الهدف الأصلي من هذه الآية إفهام الآخرين.

هذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَ تَضْحَكُونَ وَ لَا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62) تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن إهلاك الامم السالفة لظلمهم، تتوجّه هذه الآيات- محل البحث- إلى المشركين والكفار ومنكري دعوة النبي صلى الله عليه و آله فتخاطبهم بالقول: «هذَا نَذِيرٌ مّنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أي النبي أو القرآن نذير كمن سبقه من المنذرين.

وقوله عن «القرآن أو النبي «هذا نذير من النذر الاولى» يعني أنّ رسالة محمّد وكتابه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 24

السماوي لم يكن (أي منهما) موضوعاً لم يسبق إليه، فقد أنذر اللَّه امماً بمثله في ما مضى من القرون، فعلام يكون ذلك مثار تعجبكم.

ومن أجل أن يلتفت المشركون والكفار إلى الخطر المحدق بهم ويهتّموا به أكثر يضيف القرآن قائلًا: «أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ».

والتعبير ب «الآزفة» عن القيامة هو لإقترابها وضيق وقتها، لأنّ الكلمة هذه مأخوذة من الأزف على وزن نَجَف، ومعناه ضيق الوقت، وبالطبع فإنّ مفهومه يحمل الإقتراب أيضاً.

وتسمية القيامة بالآزفة في القرآن بالإضافة إلى هذه الآية محل البحث، واردة في الآية (18) من سورة غافر أيضاً ... وهو تعبير بليغ وموقظ، وهذا المعنى جاء بتعبير آخر في الآية (1) من سورة القمر: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ». فإنّ إقتراب القيامة مع الأخذ بنظر الاعتبار عمر الدنيا المحدود والقصير يمكن إدراكه بوضوح، خاصة ما ورد أنّ من يموت

تقوم قيامته الصغرى.

ثم يضيف القرآن قائلًا: أنّ المهمّ هو أنّه لا أحد غير اللَّه بإمكانه إغاثة الناس في ذلك اليوم والكشف عمّا بهم من شدائد: «لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ».

«الكاشفة»: هنا معناه مزيحة الشدائد.

فالحاكم والمالك وصاحب القدرة في ذلك الحين وكل حين هو اللَّه سبحانه، فإذا أردتم النجاة فالتجئوا إليه وإلى لطفه وإذا طلبتم الدّعة والأمان فاستظلّوا بالإيمان به.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ».

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفاً، أو أنّها إشارة إلى القرآن، لأنّه ورد التعبير عنه ب «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية (34) من سورة الطور، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الامم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثم يقول مخاطباً: «وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ». أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل، بل ينبغي أن يُبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة، والمعاصي المرتكبة، وأخيراً فلابد من التوبة والرجوع إلى ظلّ اللَّه ورحمته.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث- وهي آخر آية من سورة النجم أيضاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 25

- بعد أن بيّن أبحاثاً متعددة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» «1».

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحق فاسجدوا لذاته المقدسة فحسب، إذ للَّه وحده تنتهى الخطوط في عالم الوجود، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الامم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب اللَّه، فاعبدوا اللَّه وحده.

الذي يجلب النظر- كما جاء في روايات متعددة- أنّ النبي صلى الله عليه و آله عندما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها

جميعاً.

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النبي صلى الله عليه و آله (في قوله) إلى الآية: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

«نهاية تفسير سورة النجم»

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ هذه الآية هي ثالثة السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 27

54. سورة القمر

محتوى السورة: تحوي هذه السورة خصوصيات السور المكية التي تتناول الأبحاث الأساسية حول المبدأ والمعاد، وخصوصاً العقوبات التي نزلت بالامم السالفة، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد .. مما أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الإبتلاء بالعذاب الإلهي الشديد، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ» وذلك بعد كل مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالامم لكي يكون درساً وعظة للمسلمين والكفار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي:

1- تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة، وموضوع شقّ القمر، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهية.

2- ثم يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهية، وهم قوم نوح، وكيفية نزول البلاء عليهم.

3- ثم يتعرض إلى قصة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

4- ثم تتحدث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالح عليه السلام

وبيان معجزة الناقة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 28

وأخيراً إبتلاؤهم بالصيحة السماوية.

5- تتطرق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف لإنحرافهم الأخلاقي ... ثم عن السخط الإلهي عليهم وإبتلائهم بالعقاب الرباني.

6- ثم تركّز الآيات الكريمة الحديث عن آل فرعون، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

7- ثم تعرض مقارنة بين هذه الامم ومشركي مكة ومخالفي الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهية.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين، وجزاء وأجر المؤمنين والمتقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة ب (القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة اقتربت الساعة في كل غبّ بُعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر، ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق».

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيراً عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمل والتفكر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيداً عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبر في آيات اللَّه.

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) شقّ القمر: يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين:

أحدهما: قرب وقوع يوم القيامة، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا وإستيعابنا

للمعرفة الكونية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 29

والحادثة الثانية التي تتحدث الآية الكريمة عنها هي معجزة إنشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة الباري ء عزّ وجل المطلقة، وكذلك تدلّ- أيضاً- على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. قال تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ».

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة «أَزِفَتِ الْأَزِفَةُ» تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضاً، مما يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عندما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم، حينما نتصور مجموع عمر عالمنا هذا من جهة، ومن جهة اخرى عندما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فإنّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ إقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة: «إنشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة، حيث إنّ ظهور الرسول الأكرم- وهو آخر الأنبياء- قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود.

ومن جهة اخرى، فإنّ إنشقاق القمر دليل على إمكانية إضطراب النظام الكوني، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم، حيث إندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد، استناداً إلى الروايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فرقتين. فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إن فعلت تؤمنون»؟ قالوا: نعم.

وكانت ليلة بدر فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فرقتين ورسول اللَّه ينادي: «يا فلان! يا فلان! اشهدوا».

يقول سبحانه: «وَإِن يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ».

والمراد من قوله

تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرسول الكريم صلى الله عليه و آله معجزات عديدة، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحق وذلك بقولهم: إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

أمّا قوله تعالى: «وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ». فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه و آله أو تكذيب معاجزه ودلائله، وكذلك تكذيب يوم القيامة، هو اتّباع هوى النفس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 30

والمراد من جملة «وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ»، هو أنّ كل شي ء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتى يرى جزاء ما فعل. حيث إنّ الحق سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) تأتي هذه الآيات لتواصل البحث عن الكفار الذين كذّبوا الرسول صلى الله عليه و آله ولم يذعنوا للحقّ حيث أعرضوا عن جميع المعاجز التي شاهدوها.

والآيات أعلاه تشرح حال هؤلاء الأفراد وموضّحة المصير البائس الذي ينتظر هؤلاء المعاندين في يوم القيامة. يقول سبحانه إنّ هؤلاء لم يعدموا الإنذار والإخبار، بل جاءهم من الأخبار ما يوجب إنزجارهم عن القبائح والذنوب: «وَلَقَدْ جَاءَهُم مّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ». وذلك ليلقي عليهم الحجة.

والقصد من «الأنباء» الإخبار عن الامم والأقوام السابقة الذين

هلكوا بألوان العذاب المدمّر الذي حلّ بهم، وكذلك أخبار يوم القيامة وجزاء الظالمين والكفار، حيث اتّضحت كل تلك الأخبار في القرآن الكريم.

ويضيف تعالى: «حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ». فهذه الآيات حكم إلهية بليغة ومواعظ مؤثّرة، إلّاأنّها لا تفيد أهل العناد «1».

الآية التالية تؤكّد على أنّ هؤلاء ليسوا على إستعداد لقبول الحق، فاتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف، وهو الدعوة إلى الحساب،

______________________________

(1) «نذر»: جمع «نذير» ويعني (المنذرين) والمقصود بالمنذرين هي الآيات القرآنية وأخبار الامم والأنبياء الذين وصل صوتهم إلى أسماع الناس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 31

حيث يقول سبحانه: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْ ءٍ نُّكُرٍ» «1».

أمّا المراد من «شَىْ ءٍ نُّكُرٍ» فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم يكن معلوماً من حيث وقته قبل قيام الساعة، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم، أو جميع هذه الامور، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر.

وفي الآية اللاحقة يبيّن اللَّه سبحانه وتعالى توضيحاً أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أنّ هؤلاء يخرجون من القبور في حالة: «خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ».

نسبة «الخشوع» هنا للأبصار لأنّ المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته، لذلك فإنّها تتحوّل عنه وتطرق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا ب «الْجَرَادٌ مُّنتَشِرٌ» لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه، كما هي حركة إنتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافاً للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصة في الجو، مضافاً إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين

للوعي والإرادة.

وأمّا قوله تعالى: «مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ» فإنّ كلمة «مهطعين»: تأتي من مادة «اهطاع» أي مدّ الرقبة، والبعض يرجعها إلى النظر بإنتباه أو الركض بسرعة نحو الشي ء، ويحتمل أن تكون كل واحدة من هذه المعاني هي المقصودة، حيث إنّ بمجرد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثم يتبعه التوجّه بالنظر نحوه، ثم الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهية العادلة عند دعوتهم إليها.

وهنا يستولي الخوف من الأهوال العظيمة لذلك اليوم على وجود الكفار والظالمين، لذا يضيف سبحانه معبّراً عن حالة البؤس التي تعتري الكافرين بقوله: «يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ».

ويستفاد من هذا التعبير أنّ يوم القيامة يوم غير عسير بالنسبة للمؤمنين.

______________________________

(1) «نكر»: مفرد من مادة «نكارة» وتعنى الشى ء المبهم المخيف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 32

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (16) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) قصة قوم نوح عبرة وعظة: جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ اللَّه سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذاراً وتوضيحاً (للكفار والمجرمين) بأنّ الاستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدي بهم إلّاإلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.

وفي هذه السورة، إكمالًا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة ابتداءً من قوم نوح كما في

قوله تعالى:

«كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ». فمضافاً إلى تكذيبه وإتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الإستمرار في أداء رسالته.

فتارةً يقولون له مهدّدين ومنذرين: «قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» «1».

وتارةً اخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتى يفقد وعيه، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتى يقول: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» «2».

والتعبير ب «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون اللَّه تعالى لا مجرّد شخص «نوح».

ثم يضيف تعالى أنّ نوح عندما يئس من هداية قومه تماماً: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ».

«انتصر»: طلب العون، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة.

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 116.

(2) الدرّ المنثور 3/ 95؛ تفسير القرطبي 8/ 273؛ وجامع البيان 29/ 126.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 33

ثم يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي إبتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه: «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ».

إنّ تعبير إنفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّاً، ويستعمل عادةً عند هطول الأمطار الغزيرة.

«منهمر»: من مادة «همر» على وزن (صبر) وتعني النزول الشديد للدموع أو الماء.

ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط، بل كان من تفجير العيون في الأرض، حيث يقول تعالى: «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا». وهكذا إختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة: «فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ».

وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافياً فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح عليه السلام حيث يقول تعالى: «وَحَمَلْنهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ».

«دسر»: جمع «دِسار» بمعنى الإبعاد أو النهر بشدة مقترناً مع حالة عدم الرضا.

فإنّ التعبير القرآني هنا

ظريف، لأنّه كما يقول الباري ء عزّ وجل بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم، الذي غمر كل شي ء أودعنا أمر نجاة نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهية العظيمة.

ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوح عليه السلام حيث يقول سبحانه:

«تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا». أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهية، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.

ثم يضيف تعالى: «جَزَاءً لّمَن كَانَ كُفِرَ».

إنّ نوح عليه السلام كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهية عظيمة وموهبة من مواهبه الكبيرة على البشرية، إلّاأنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته.

ثم يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصة العظيمة موضع العظّة والاعتبار: «وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

وفي الآية اللاحقة يطرح اللَّه سبحانه سؤالًا معبّراً ومهدّداً للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

هل هذه حقيقة واقعة، أم قصة واسطورة؟

ويضيف مؤكّداً هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 34

إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير ... لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحق والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة، والشاهد على هذا أنّ التاريخ الإسلامي يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (21) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا

الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) مصير قوم عاد: تستعرض الآيات الكريمة أعلاه نموذج آخر من الكفار والمجرمين بعد قوم نوح، وهم (قوم عاد) وذلك كتحذير لمن يتنكّب طريق الحق والهداية الإلهية.

وتبدأ فصول أخبارهم بقوله تعالى: «كَذَّبَتْ عَادٌ».

لقد بذل هود عليه السلام غاية جهده في توعية قومه وتبليغهم بالحق الذي جاء به من عند اللَّه، وكان عليه السلام كلّما ضاعف سعيه وجهده لإنتشالهم من الكفر والضلال إزدادوا إصراراً ونفوراً ولجاجة في غيّهم وغرورهم الناشى ء من الثراء والإمكانات المادية، بالإضافة إلى غفلتهم نتيجة إنغماسهم في الشهوات، جعلتهم صمّ الآذان، عمي العيون، فجازاهم اللَّه بعقاب أليم، ولهذا تشير الآية الكريمة باختصار حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

كما نلاحظ التفصيل في الآيات اللاحقة بعد هذا الإجمال حيث يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ».

«صرصر»: من مادة «صرّ» على وزن (شرّ)، وفي الأصل تعني (الإغلاق والإحكام) ويأتي تكرارها في هذا السياق للتأكيد، ولأنّ الرياح التي عذّبوا بها كانت باردة وشديدة ولاذعة ومصحوبة بالأزيز، لذا اطلق عليها (صرصر).

«نحس»: ففي الأصل معناها (الإحمرار الشديد) الذي يظهر في الافق أحياناً، كما يطلق العرب أيضاً كلمة (نحاس) على وهج النار الخالية من الدخان، ثم أطلق هذا المصطلح على كل (شؤم) مقابل (السعد).

«مستمر» صفة ل (يوم) أو ل (نحس) ومفهومه في الحالة الاولى هو استمرار حوادث

مختصر الامثل، ج 5، ص: 35

ذلك اليوم كما في الآية (7) من سورة الحاقة قوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ».

وتعني في الحالة الثانية إستمرار نحوسة ذلك اليوم حتى هلك الجميع.

ثم يستعرض سبحانه وصف الريح بقوله: «تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ».

«منقعر»: من مادة

«قعر» بمعنى أسفل الشي ء أو نهايته، ولذا يستعمل هذا المصطلح بمعنى قلع الشي ء من أساسه.

«أعجاز»: جمع «عجز»- على وزن رجل- بمعنى خَلْفُ أو تحت، وقد شبّهوا بالقسم الأسفل من النخلة وذلك حسبما يقول البعض لأنّ شدة الريح قطّعت أيديهم ورؤوسهم ودفعتها باتّجاهها، وبقيت أجسادهم المقطعة الرؤوس والأطراف كالنخيل المقطعة الرؤوس، ثم قُلعت أجسادهم من الأرض وكانت الريح تتقاذفها.

وللسبب المذكور أعلاه، يكرّر اللَّه سبحانه وتعالى إنذاره للكفار بقوله: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ».

فنحن كذلك فعلنا وجازينا الأقوام السالفة التي سلكت سبيل الغي والطغيان والعصيان، فعليكم أن تتفكروا في مصيركم وأنتم تسلكون نفس الطريق الذي سلكوه.

وفي نهاية القصة يؤكّد قوله سبحانه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر هي تأكيد قوله سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ» حيث تكرّرت مرّتين: الاولى: في بداية الحديث عن قصة قوم عاد، والثانية: في نهايتها، ولعل سبب هذا الاختلاف بين قوم عاد والأقوام الاخرى، أنّ عذاب قوم عاد كان أكثر شدّة وإنتقاماً، رغم أنّ جميع ألوان العذاب الإلهي شديد.

إنّ مسألة الإهتمام بموضوع (سعد ونحس) الأيام، وكذلك الحوادث التي وقعت فيها، بالإضافة إلى أنّها ترشدنا للكثير من الحوادث التأريخية ذات العظة والعبرة، فإنّها أيضاً عامل للتوسل باللَّه والتوجّه إلى رحاب عظمته السامقة، واستمداد العون من ذاته القدسية، وهذا ما نلاحظه في روايات عديدة.

ففي الأيام النحسة مثلًا نستطيع أن نطمئن نفسياً لممارستنا العملية وبكل تفاؤل وموفّقية، وذلك حينما ندعو اللَّه ونطلب منه العون ونتصدق على الفقراء، ونقرأ شيئاً من الآيات القرآنية ونتوكل على الذات الإلهية المقدسة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 36

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلَالٍ وَ سُعُرٍ (24) أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا

بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) العاقبة الأليمة لقوم ثمود: تكملة للأبحاث السابقة، تتحدث الآيات الكريمة باختصار عن ثالث قوم ذكروا في هذه السورة، وهم (قوم ثمود) الذين عاشوا في (حجر) الواقعة في شمال الحجاز، ليستفاد من قصّتهم الدروس والعبر.

لقد بذل نبيّهم «صالح» عليه السلام أقصى الجهد من أجل هدايتهم وإرشادهم ولكن دون جدوى. قال تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ».

إنّ «نذر» جاءت هنا جمع «إنذار» وهو الكلام الذي يتضمن التهديد، والذي هو الطابع العام لكلام الأنبياء جميعاً.

ويستعرض سبحانه سبب تكذيبهم (الأنبياء) حيث يقول على لسان قوم ثمود: «فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِى ضَللٍ وَسُعُرٍ».

إنّ الكبرياء والغرور والنظرة المتعالية تجاه الآخرين، بالإضافة إلى حبّ الذات كانت حاجزاً عن الإستجابة لدعوة الأنبياء عليهم السلام، لقد قالوا: إنّ (صالح) شخص مثلنا وليست له أيّ امتيازات علينا ليصبح زعيماً وقائداً نطيعه ونتّبعه، كما لا يوجد سبب لإتّباعه.

وهذا هو الإشكال الذي تورده جميع الأقوام الضالة على أنبيائها بأنّهم أشخاص مثلنا، ولذا لا يستطيع أن يبلغ رسالة سماوية.

وتزداد اللجاجة والعناد في قوم ثمود فيتساءلون: إذا اريد نزول الوحي على إنسان، فلماذا اختّص بصالح من بيننا: «أَءُلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا».

وفي الحقيقة أنّ هذه الأقوال لها شبه كبير بأقوال مشركي مكة، ذلك أنّهم شكّكوا برسالة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 37

النبي بأقوال مماثلة: «مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى

فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا» «1».

ثم تختتم الآية بقوله سبحانه: «بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ». وذلك إتّهاماً لصالح عليه السلام بالكذب فيما ادّعاه من اختصاص الوحي به وإنذار قومه وأنّه يريد أن يتحكّم علينا ويجعل كل امورنا تحت قبضته ويسيرنا وفق هواه وإرادته ..

«أشر»: وصف من مادة «أشر» على وزن (قمر) بمعنى بطر ومرح زائد عن الحد.

ويردّ الباري ء عزّ وجل عليهم بصورة قاطعة بقوله: «سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ».

وعندما يدركهم العذاب الإلهي ويسوّيهم مع التراب ويحوّلهم رماداً، وبعد أن يجازيهم اللَّه بأعمالهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... عندئذ سيدركون حقيقة اتّهاماتهم الزائفة التي اتّهموا بها نبي من أنبياء اللَّه المقربين، وسيعلمون أيضاً أنّ هذه الإفتراءات هي أحق بهم وألصق.

ثم يشير سبحانه إلى قصة «الناقة» التي ارسلت كمعجزة ودلالة على صدق دعوة صالح عليه السلام حيث يقول: «إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ».

«الناقة»: انثى البعير، وهي ليست كبقية النوق لما تتصف به من خصوصيات خارقة للعادة، وطبقاً للروايات المشهورة فإنّ هذه الناقة قد خرجت من بطن صخرة جبل حجة دامغة للمنكرين والمعاندين.

ومن الواضح أنّ قوم ثمود قد جُعلوا أمام إمتحان عسير، حيث يستعرض سبحانه هذا الإختبار لهم بقوله: «وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ». يوم لهم ويوم للناقة.

ومع أنّ القرآن الكريم لم يوافنا بتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، ولكن كما يذكر الكثير من المفسرين فإنّ ناقة صالح عليه السلام كانت تشرب كل الماء يوم يكون شربها، ويعتقد البعض الآخر أنّ هيئتها ووضعها كانا بشكل يدفع الحيوانات إلى الفرار من الماء عندما تقترب الناقة نحوه، ولذلك فإنّهم إقترحوا حلًا وهو: أن يكون الماء يوماً لهم وآخر للناقة.

إنّ

قوم ثمود المتمردين عقدوا العزم على قتل الناقة، في الوقت الذي حذّرهم نبيّهم

______________________________

(1) سورة الفرقان/ 7.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 38

صالح عليه السلام من مسّها بسوء، وأخبرهم بأنّ العذاب الإلهي سيقع عليهم بعد فترة وجيزة إن فعلوا ذلك. ونظراً لإستخفافهم بهذا التحذير (فقد نادوا أحد أصحابهم حيث تصدّى للناقة وقتلها). يقول اللَّه سبحانه: «فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ».

ويمكن أن يكون المراد ب (صاحب) أحد رؤساء ثمود، وكان أحد أشرارهم المعروفين ويعرف في التاريخ ب (قدارة بن سالف) «1».

«عَقَرَ»: من مادة «عقر» على وزن (ظلم) وفي الأصل بمعنى الأساس والجذر، وإذا استعمل هذا المصطلح بخصوص الناقة فإنّه يعني القتل والنحر.

وتأتي الآية اللاحقة مؤكّدة إنذارهم قبل نزول العذاب الشديد عليهم، حيث يقول سبحانه: «فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ». ثم وقع العذاب والسخط الإلهي على هؤلاء المتمردين المعاندين حيث يضيف سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ».

«الهشيم»: من مادة «هشم» على وزن «حسم» وفي الأصل بمعنى إنكسار الأشياء الضعيفة كالنباتات.

«محتظر»: في الأصل من مادة «حظر» على وزن (حفز) بمعنى المنع، ولذلك فإنّ إعداد الحظائر للحيوانات والمواشي تكون مانعة لها من الخروج ولدرء المخاطر عنها، ومفردها (الحظيرة)، و «محتظر» على وزن محتسب- هو الشخص الذي يملك مثل هذا المكان.

والإستعراض الذي ذكرته الآية الكريمة حول عذاب قوم ثمود عجيب جدّاً ومعبّر للغاية، حيث لم يرسل اللَّه لهم جيوشاً من السماء أو الأرض للتنكيل بهم، وإنّما كان عذابهم بالصيحة السماوية العظيمة، فكانت صاعقة رهيبة، أخمدت الأنفاس، وكان إنفجاراً هائلًا حطّم كل شي ء في قريتهم.

إنّ إستيعاب هذا اللون من العذاب كان صعباً وعسيراً للأقوام السالفة، ولكنّه يسير بالنسبة لنا، وذلك من خلال معرفتنا لتأثير الأمواج الناتجة من الإنفجارات، حيث إنّها تحطّم كل

شي ء يقع ضمن دائرة إشعاعاتها.

ومن الطبيعي أنّنا لا نستطيع المقارنة بين الإنفجارات البشرية وصاعقة العذاب الإلهي

______________________________

(1) «قدارة»: على وزن (منارة)- كان رجلًا قبيح الشكل والسيرة، ومن أكثر الأشخاص شؤماً في التاريخ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 39

التي أشاعت الدمار الرهيب في هؤلاء القوم الحمقى المستبدين، وعلى بيوتهم وقصورهم، عسى أن يكون عبرة ودرساً للآخرين، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) المصير الأكثر شؤماً: نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقوية حول قصة «قوم لوط» والعذاب الشديد الذي حلّ بهم، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي استعرضتهم هذه السورة المباركة ... حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه:

«كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ».

«نذر»: جمع «إنذار» وتعني التهديد والتخويف. ومن المحتمل أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النبي لوط لقومه، والتي كُذّب بها أجمع، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوط والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى اللَّه ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية للَّه.

وتستعرض الآيات التالية مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا».

«حاصب»: تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء، والحصباء هي الحصى،

ويكون المقصود: إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتى علت أجسادهم ودفنوا تحتها؛ «إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ».

وتتحدث الآيات القرآنية الاخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها، وبذلك اصيبت بكارثة الدمار الماحق ... وتتحدث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدة، فيقول سبحانه في ذلك: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 40

جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ» «1». ويضيف الباري ء عزّ وجل بقوله: «نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ».

إنّ لوطاً عليه السلام قد أتمّ الحجة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم، حيث يوضّح اللَّه سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى: «وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ».

«بطش»: على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشي ء بالقوة، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلّا بالقوة ليلقي جزاءه، لذلك فإنّها تعني المجازاة.

«تماروا»: من «تمارى» بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشك وإلقاء الشبهة مقابل الحق، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النبي العظيم «لوط» عليه السلام.

ولم يكتف هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّاً أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوط عليه السلام بصورة شباب وسيمين، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ». أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرفهم.

لقد بلغ الألم الذي اعترى «لوطاً» عليه السلام حدّاً لا يطاق نتيجة هذا التصرف القبيح والمخجل لقومه، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء.

بل وأبدى إستعداده عليه السلام لتزويج بناته لهم- إن أعلنوا توبتهم- وهذه أعلى حالات المظلومية التي

يتعرض لها هذا النبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة، كما في قوله سبحانه: «قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِى إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ» «2».

ولم يمض وقت طويل حتى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه: «فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ».

إنّ يد القدرة الإلهية إمتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين، وذلك بأن طمست على أعينهم، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد امر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا

______________________________

(1) سورة هود/ 82.

(2) سورة الحجر/ 71.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 41

بصرهم حالًا، وقيل إنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.

وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر اللَّه بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأساً على عقب وصُبّ عليهم العذاب صبّاً مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحول إلى أنقاض وخرائب، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كل معالم الحياة لديهم حتى لم يبق أي أثر لهم.

وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى بإختصار وتركيز: «وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ».

«مستقرّ»: تعني الثبوت والإحكام، أي بمعنى (ثابت الحكم). ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو: أنّ العذاب الإلهي كان شديداً إلى حدّ أنّ أي قوّة لم تكن قادرة على مواجهته.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ومكرّراً مرّة اخرى قوله: «فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ».

لكي لا يكون مجال للشك والتردد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا.

وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

نعم، لم يتّعظ قوم لوط من النذر، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم

والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم ..

وَ لَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهَى وَ أَمَرُّ (46) هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة: المجموعة الخامسة التي يتحدث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الاستفادة من العبر التي جاءت فيها والإتّعاظ منها ...

يقول سبحانه: «وَلَقَدْ جَاءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 42

المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلقيه فقط، بل يشمل كل أتباعه بصورة عامة.

«نذر»: على وزن (كتب) وهي جمع نذير، وهنا إشارة إلى المعجزات التسع لموسى عليه السلام.

و الآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول اللَّه سبحانه: «كَذَّبُوا بَايَاتِنَا كُلّهَا».

(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية، وعند ملاحظة قوله تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ» يتبين لنا أنّ المقصود ب (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى عليه السلام.

إنّ الإنسان إذا كان صادقاً في البحث عن الحقيقة فإنّه يكفيه أن يرى واحدة منها، وخاصة تلك التي يسبقها إنذار، ثم بلاء، ثم زوال هذا البلاء عند دعاء النبي الإلهي، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور

إذا ركب الإنسان، فحتى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات للَّه، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ» تكملة للآية مورد البحث.

والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصة لا يوجد له شبه في التعابير المماثلة في القصص الاخرى، وذلك لأنّ الفراعنة كانوا يتباهون بقوّتهم وسطوتهم وعزّهم أكثر من بقية الامم، والحديث عن قوّة سلطانهم كان في كل مكان. يقول اللَّه تعالى: «فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ». وذلك كي يكون واضحاً للجميع أنّ القوة الحقيقة هي للَّه وحده، لأنّ كل قوة وعزة اخرى غير قوّته وما يتّصل بذاته وهميّة لا تساوي شيئاً في قبال عزّته وقدرته ...

والعجيب أنّ نهر النيل العظيم الذي كان مصدر خير وثروة لهم، هو الذي امر بالإنتقام منهم، والأعجب من ذلك أنّ أضعف المخلوقات سلّطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز ومسكنة لا يقدرون على دفعها، وهم الذين كانوا من السطوة والقوّة موضع حديث أهل زمانهم.

وبعد بيان هذه المشاهد المؤثّرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي العظيم الذي حلّ بهؤلاء الجبابرة المتمرّدين على الحق، يخاطب اللَّه سبحانه في الآية اللاحقة مشركي مكة بقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُولِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِى الزُّبُرِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 43

فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ اولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارةً والزلازل والصواعق اخرى.

ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الادّعاءات ادّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ».

والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب، أمّا في الآية مورد

البحث والآيات اللاحقة، فإنّ الحديث عن الكفار بلغة الغائب، وهو نوع من أنواع التحقير، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.

ويواجه القرآن الكريم هؤلاء السادرين في غيّهم بإخبار غيبي حاسم وقوي، حيث يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».

«سيهزم»: من مادة «هزم» في الأصل بمعنى الضغط على الجسم اليابس لحد التلاشي.

وهذا إشارة إلى النقطة التالية وهي: رغم حالة الإتحاد والإنسجام لهؤلاء القوم ظاهراً، إلّا أنّهم كالموجودات اليابسة والفاقدة للروح، فبمجرد تعرّضها إلى ضغط قوي تتهشّم.

لقد صدق هذا التنبّؤ في معركة بدر وسائر الحروب الاخرى حيث كانت هزيمة الكفار ساحقة، فإنّه رغم قدرتهم وقوّتهم فقد تلاشى جمعهم.

وفي آخر الآية مورد البحث يشير سبحانه إلى أنّ الهزيمة التي مُني بها المشركون سوف لن تكون في الدنيا فقط، وإنّما هي في الآخرة أشدّ وأدهى، حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ».

«أدهى»: من مادة (دَهَوَ) و (دهاء)، بمعنى المصيبة والكارثة العظيمة والتي لا مخرج منها ولا نجاة، ولا علاج لها، وتأتي أيضاً بمعنى الذكاء الشديد، إلّاأنّ المقصود منها في الآيه الكريمة هو المعنى الأوّل.

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَ مَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 44

إنّ هذه الآيات هي استمرار لبحث الآيات السابقة حول بيان أحوال المشركين والمجرمين في يوم القيامة، وآخر آية من تلك الآيات تعكس هذه الحقيقة

بوضوح، وهو أنّ يوم القيامة هو الموعد المرتقب لهؤلاء الأشرار في الاقتصاص منهم، حيث يحمل المرارة والصعوبة والأهوال لهم، والتي هي أشد وأقسى مما اصيبوا به في هذه الدنيا. وتتحدث الآية الاولى- مورد البحث- عن ذلك حيث يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَللٍ وَسُعُرٍ».

يقول الباري ء عزّ وجل: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ».

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له: سقر شكا إلى اللَّه عزّ وجل شدّة حرّه، وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفس فأحرق جهنم».

ولكي لا يتصور أنّ هذه الشدة في العذاب لا تتناسب مع المعاصي، يقول سبحانه: «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنهُ بِقَدَرٍ».

إنّ عذابهم في هذه الدنيا كان بتقدير وحساب، وكذلك سيكون عقابهم المؤلم في الآخرة، وليس الجزاء فقط، ذلك أنّ اللَّه سبحانه خلق كل شي ء بحساب وتقدير.

ثم يضيف تعالى إنّه ليست أعمالنا موافقة للحكمة فحسب، بل انّها مقترنة مع القدرة والحسم، لأنّه: «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

ولذلك فإنّ اليوم الذي تقوم فيه الساعة يحدث بأمر اللَّه بلمح البصر، وكل شي ء يكون في مسار الآخرة حينئذ، وتبعث الحياة من جديد في الأبدان.

كما أنّ المشيئة الإلهية في مجازاة المجرمين بالصواعق والصيحات السماوية والزلازل والطوفان والرياح العاتية ... كل ذلك يحدث بمجرد الأمر الإلهي وبدون تأخير.

إنّ أمره تعالى في كل مكان وكل شي ء هو (كلمة واحدة) والتي تكون أسرع من لمح البصر، ولكن محتوى الأمر الإلهي متفاوت ومختلف، ومن خلال معرفة السنّة التدريجية للعالم المادي وخاصيته وطبيعة الحركة- نلاحظ أنّها تتأثّر بالزمان.

وفي الآية اللاحقة يخاطب الكفار والمجرمين مرّة اخرى، ويلفت إنتباههم إلى مصير الأقوام السابقة حيث يقول: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ».

إنّ الآية

الكريمة تؤكّد هذه الحقيقة مرّة اخرى، وهي أنّ أعمال مشركي قريش وممارساتهم هي نفس أعمال وممارسات وعقائد الأقوام السابقة، لذا فلا يوجد دليل على أنّ مصيركم سوف يكون أفضل من مصيرهم، فاتّعظوا وعوا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 45

ثم يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم، بل هي باقية ومسجّلة عليهم، يقول سبحانه: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ». فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.

«زبر»: جمع «زبور» بمعنى الكتاب، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان.

ثم يضيف سبحانه: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ».

وبناءً على هذا فحساب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، حيث يستلم المجرمون صفحة أعمالهم كاملة، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها: «وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «1».

ولما كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالباً ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل، فهنا أيضاً بعد الحديث عن مصير الكفار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتقين حيث يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ».

وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح الباري ء بصورة أكثر (مستقر المتقين) حيث يقول سبحانه أنّهم: «فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ».

ويا له من وصف رائع وظريف! حيث إنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين تجمعان كل السمات الرائعة:

الاولى: أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل، بل كلّه حق يجد فيه المتقون كل ما وعدوا به كاملًا غير منقوص.

الثانية: أنّهم في جوار وقرب اللَّه سبحانه، وهذا هو

المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي، وهذا القرب هو من اللَّه المالك القادر ... ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته، وهو المنّان

______________________________

(1) سورة الكهف/ 49.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 46

الذي لا ينقصه شي ء في السماوات والأرض، والذي وعد المتقين بالخير العظيم وأعدّ لهم عظيم العطايا والإحسان.

والنقطة الجديرة بالذكر في هاتين الآيتين والتي تتحدث فيها عن الهبات وجزاء أصحاب اليمين، حيث في البداية تتحدث عن العطايا الماديّة التي تشمل البساتين الوارفة والحدائق الغنّاء والأنهار الجارية، ثم تتحدث بعد ذلك عن الجزاء المعنوي العظيم، والذي يتجسّد بحضورهم من المليك المقتدر، وذلك تهيئة للإنسان من مرحلة إلى اخرى، يغمرها الشوق والحبور والرغبة في العمل الصالح.

«نهاية تفسير سورة القمر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 47

55. سورة الرحمن

محتوى السورة: توضّح هذه السورة بصورة عامة النعم الإلهية المختلفة، سواء كانت مادية أو معنوية، والتي تفضّل بها الباري ء عزّ وجل على عباده وغمرهم بها، ويمكن تسميتها لهذا السبب ب (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالإسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام الباري ء سبحانه، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ويمكن أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام:

1- في الآيات الاولى من هذه السورة حديث عن النعم الإلهية الكبيرة، سواء تلك التي تتعلق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه، أو الحساب والميزان، وكذلك سائر الامور الاخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان، إضافةً إلى الغذاء الروحي والجسمي

له.

2- يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجن.

3- يتضمن توضيح الآيات والدلائل الإلهية في الأرض والسماء.

4- وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدث الآيات عن نعم اللَّه في عالم الآخرة بدقّة وظرافة، خاصة عن الجنة، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق ...

مختصر الامثل، ج 5، ص: 48

5- تتحدث عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب.

إنّ تكرار آية: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ» وفي مقاطع قصيرة أعطت وزناً متميّزاً للسورة، وخاصة إذا قري ء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها ... فإنّ حالة من الشوق والإنبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن. ولذلك فلا نعجب عندما نقرأ في حديث للرسول صلى الله عليه و آله حيث يقول: «لكل شي ء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره» «1».

فضيلة تلاوة السورة: إنّ اتّصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة أدّى إلى ورود روايات كثيرة في فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحركها باتّجاه الطاعات وبعيداً عن لقلقة اللسان.

وفي تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الرحمن، رحم اللَّه ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم اللَّه عليه».

وفي ثواب الأعمال عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كل: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ»: لا شي ء من آلائك ربّي اكذّب، فإن قرأها ليلًا ثم مات، مات شهيداً، وإن قرأها نهاراً ثم مات، مات شهيداً».

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) بداية النعم الإلهية: لمّا كانت هذه السورة تبيّن أنواع النعم والهبات

الإلهية العظيمة، فإنّها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة، ولو لم تكن (الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين، لذلك يقول: «الرَّحْمنُ». «عَلَّمَ الْقُرْءَانُ» وبهذا فإنّ أوّل نعمة تفضّل بها اللَّه سبحانه، هي نعمة «تعليم القرآن».

والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل «خَلَقَ الْإِنسَانَ» و «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلًا إلى مسألة خلق الإنسان، ومن ثم نعمة تعليم البيان، ثم نعمة تعليم القرآن، وذلك استناداً للترتيب الطبيعي، إلّاأنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 326.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 49

وقد جاءت هذه الآية جواباً لقولهم: وما الرحمن في قوله: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ». [الفرقان قالوا وما الرحمن؟ وقد روي أنّه لما نزل قوله «قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» قالوا: ما نعرف الرحمن إلّاصاحب اليمامة. فقيل لهم «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانُ» أي: علم محمّداً صلى الله عليه و آله القرآن، وعلّمه محمّد صلى الله عليه و آله امته «1».

وعلى كل حال فإنّ لإسم «الرحمن» أوسع المفاهيم بين أسماء الباري ء عزّ وجل بعد إسم الجلالة (اللَّه) لأنّنا نعلم أنّ للَّه رحمتين: (الرحمة العامة) و (الرحمة الخاصة) واسم «الرحمن» يشير إلى رحمة اللَّه العامة التي تشمل الجميع، كما أنّ اسم «الرحيم» يشير إلى «الرحمة الخاصة» بأهل الإيمان والطاعة، ولعله لهذا السبب لا يطلق اسم الرحمن على غير اللَّه سبحانه (إلّا إذا كانت كلمة عبد قبله)، أمّا وصف «الرحيم» فيقال لغير اللَّه أيضاً، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامة سوى اللَّه تعالى، أمّا الرحمة الخاصة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.

وهنا يطرح التساؤل التالي: من

الذي علّمه اللَّه سبحانه القرآن الكريم.

إنّ هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهية للإنس والجن ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة، وذلك بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». والأنسب هو أنّ اللَّه علّم القرآن للإنس والجن بواسطة نبيّه الكريم محمّد صلى الله عليه و آله.

وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول: «خَلَقَ الْإِنسنَ».

من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم عليه السلام فقط.

وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل على عمومية كلمة الإنسان.

إنّ ذكر إسم «الإنسان» بعد «القرآن» هو الآخر يستوجب التأمل، ذلك لأنّ القرآن الكريم يمثّل مجموعة أسرار الكون بصورة مدوّنة «الكتاب التدويني»، والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية «الكتاب التكويني»، كما أنّ كل واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.

وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «عَلَّمَهُ الْبَيَانَ».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 329.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 50

مختصر الامثل ج 5 99

كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع، حيث تقال لكل شي ء يوضّح ويبيّن شيئاً معيناً.

وبناءً على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الاستدلالات العقلية والمنطقية التي تبيّن المسائل المختلفة والمعقّدة أيضاً رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلم والنطق.

وإذا أخذنا دور البيان في تكامل وتقدم الحياة الإنسانية، فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدم والعلم والدين والأخلاق ... وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة، ولو أخذنا

«البيان» بمعناه الواسع الذي يشمل الخط والكتابة والفنون المختلفة، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية.

ويتطرق بعد ذلك إلى النعمة الإلهية الرابعة والتي هي هبة من هبات اللَّه العظيمة أيضاً، حيث يقول تعالى: «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ».

إنّ أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهية للإنسان، لأنّ العيش في المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن. إنّ نمو ونضج النبات والمواد الغذائية أجمع، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح، كلّها ببركة هذه الهبة الإلهية.

كما أنّ للقمر دوراً هامّاً في حياة الإنسان، فبالإضافة إلى أنّه يضي ء الليالي المعتمة، فإنّ جاذبيته هي علة المد والجزر في البحار والمحيطات، وهي عامل لبقاء الحياة في البحار، كما أنّها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة للسواحل والتي تصبّ الأنهار بالقرب منها.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ثبات الإنتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول الأرض، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة، وبالتالي فإنّه سبب أساسي لإنتظام الحياة الإنسانية وبرمجة الامور التجارية والصناعية والزراعية، وإن فقد الإنتظام فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختلّ الكثير من مرتكزاتها.

وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدّاً فحسب، بل إنّ مقدار كثافة وجاذبية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 51

ومسافة كل منهما عن الأرض هي الاخرى محسوبة بدقّة وحساب (وحسبان).

ومن المؤكّد أنّ اختلال كل واحدة من هذه الامور سيولّد اختلالات عظيمة في المنظومة الشمسية، ومن ثم في النظام الحياتي للبشر.

والجدير بالذكر أنّ الشمس بالرغم من أنّها في وسط المنظومة الشمسية وتبدو ساكنة وثابتة، إلّاأنّها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرّة المتعلقة بها إلى نقطة معينة (تسمّى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضاً نظام وسرعة

معينان.

ثم يتحول بنا اللَّه إلى نعمة عظيمة اخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة، حيث يوجّه النظر إلى ألطافه في الأرض حيث يقول:

«وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ».

«النجم»: يأتي أحياناً بمعنى كوكب، ويأتي اخرى بمعنى النبات الذي لا ساق له، ولمّا جاءت الكلمة هنا بقرينة «الشجر» فيكون المقصود هو المعنى الثاني، أي النباتات بدون سيقان.

ومن الواضح أنّ النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان، حيث يستهلك قسماً مباشراً منه، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الاخرى التي هي جزء أساسي من غذاء الإنسان، ومن هنا فإنّ النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهذا المعنى يصدق أيضاً في عالم الحيوانات البحرية، لأنّها تتغذّى على نباتات صغيرة جدّاً تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدّر بملايين البليارات، وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية، وتنمو هذه النباتات الصغيرة في البحر بتأثير الضوء (أشعة الشمس) التي تتحرك بين الأمواج.

وبهذا فإنّ «النجم» أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار وأمثاله).

أمّا «الشجر» فإنّه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار الفاكهة ونباتات الغلّات وغير ذلك.

وتعبير «يسجدان» إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهية وقوانين الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان. وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضاً حيث توجد في كل ورقة وكل بذرة آيات عجيبة من عظمة وقدرة اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 52

وَ السَّمَاءَ رَفَعَهَا وَ وَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَنْ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَ الْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) السماء رفعها ووضع الميزان: في الآية

مورد البحث يتحدث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول: «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا».

(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو، أو الكواكب السماوية، أو جو الأرض ... إنّ كل واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.

إنّ النور الذي يمنحنا الدف ء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً، (وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عاماً، مادياً ومعنوياً).

ثم يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: «وَوَضَعَ الْمِيزَانَ».

«الميزان»: كل وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحق من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الاجتماعية المختلفة.

و (الميزان) يشمل كذلك كل نظام تكويني ودستور اجتماعي، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.

ونستنتج من الآية اللاحقة استنتاجاً رائعاً حول هذا الموضوع حيث يضيف بقوله تعالى:

«أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ».

يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة التوحيد، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة في جميع المفردات وفي كل مكان.

ويؤكّد مرّة اخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 53

هذه الآية يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاص، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر.

إنّ أهمية الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ (الميزان) قد فسّر بوجود (الإمام)، وذلك لكون الوجود

المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحق من الباطل، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية. وهكذا في تفسير «الميزان» بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.

ثم ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عزّ وجل: «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ».

إنّ القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجن تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجن والإنس).

وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية، والتي تتضمّن قسماً من المواد الغذائية التي وهبها اللَّه سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى: «فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتِ الْأَكْمَامِ».

«الفاكهة»: تشمل كل نوع من الفاكهة.

و «أكمام»: جمع (كِم) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة.

إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل- والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثم ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب- يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاذ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف، والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.

ثم يتحدث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه:

«وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ».

الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها، وبهذا الترتيب فلا يوجد شي ء فيها غير ذي فائدة.

ومن جهة اخرى، فإنّ اللَّه تعالى خلق الأزاهير المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الاطمئنان والنشاط، ولذا فإنّ اللَّه سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 54

وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجن والإنس بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». هذه النعم التي يدلّ كل هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟

إنّ هذا الاستفهام استفهام تقريري جي ء به في

مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شي ء من آلائك ربّي اكذّب) بعد كل مرّة نتلو فيها الآية الكريمة: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

إنّ التعبير ب (أيّ) إشارة إلى أنّ كل واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية اللَّه ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة.

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) الصلصال وخلق الإنسان: إنّ اللَّه تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها «خَلَقَ الْإِنسَانَ»، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجن كدليل على قدرته العظيمة من جهة، وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اخرى، فيقول سبحانه: «خَلَقَ الْإِنسنَ مِن صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ».

«صلصال»: في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردد الصوت في الأجسام الصلبة)، ثم اطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً.

«فخار»: من مادة «فخر» بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكل إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها.

ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان، أنّه كان من التراب ابتداءً. قال تعالى: «فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ» «1». ثم خرج مع الماء وأصبح طيناً:

______________________________

(1) سورة الحجّ/ 5.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 55

«هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن طِينٍ» «1». ثم أصبح بصورة طين خبيث الرائحة: «إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ» «2». ثم أصبح مادة في حالة لاصقة: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن

طِينٍ لَّازِبٍ» «3». ومن ثم يتحول إلى حالة يابسة ويكون من «صَلْصلٍ كَالْفَخَّارِ» كما ذكر في الآية مورد البحث.

هذه المراحل كم تستغرق من الوقت، وكم هي المدة التي يتوقف فيها الإنسان في كل مرحلة من هذه المراحل، وفي أي ظروف تحدث هذه التطورات؟

هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، واللَّه وحده هو العالم بها فقط.

ثم يتطرق سبحانه لخلق الجن حيث يقول: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ».

«مارج»: في الأصل من «مرج» على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج، والمقصود هنا اختلاط شعل النيران المختلفة.

ولكن كيف خلق الجن من هذه النيران المتعددة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة، كما أنّ الخصوصيات الاخرى عن هذا المخلوق، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الرباني وكتاب اللَّه الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي. (وسيكون لنا إن شاء اللَّه شرح مفصّل حول خلق الجن وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجن).

وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى:

«فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اخرى، حيث يقول سبحانه: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ».

بما أنّ الشمس في كل يوم تشرق من نقطة وتغرب من اخرى، وبعدد أيام السنة لها

______________________________

(1) سورة الأنعام/ 2.

(2) سورة الحجر/ 28.

(3) سورة الصّافات/ 11.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 56

شروق وغروب، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقية بينهما.

إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير

الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالًا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع استفادة الإنسان. فإنّ اللَّه تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجن بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَ لَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) البحار وذخائرها الثمينة: استمراراً لشرح النعم الإلهية يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامة، بل عن كيفية خاصة ومقاطع معينة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع استفادة البشرية. يقول تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ». ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: «بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ».

المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالاستدلال بقوله تعالى:

«وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا» «1».

إنّ الأنهار العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدة طويلة بسبب اختلاف درجة الكثافة؛ وتثير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة.

ومرّة اخرى يخاطب اللَّه تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم

______________________________

(1) سورة الفرقان/ 53.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 57

سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

واستمراراً لهذا الحديث يقول عزّ وجل: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَىّ

ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

«اللؤلؤ»: فهو حبّة شفافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها؛ و «المرجان»: فهو كائن حي يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان العلماء يتصورون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلّا أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات. وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن.

واستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهية يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: «وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ».

والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن السفن بأنها «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي للَّه تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها اللَّه للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي للَّه، وكذلك فإنّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوة للرياح، وأنّ اللَّه تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة.

«أعلام»: جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شي ء معين، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها ب (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على «الراية».

ومرّة اخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَ يَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَ الْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا

تُكَذِّبَانِ (30) كل شي ء هالك إلّاوجهه: استمراراً لشرح النعم الإلهية، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ». وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟

مختصر الامثل، ج 5، ص: 58

وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألّا يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد؛ أو أنّ النعم الإلهية الكثيرة- المذكور سابقاً- يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير ذلك، مما يستلزم تحذيراً إلهياً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقر، فالحذر من التعلق بها، ولابد من الاستفادة من هذه النعم في طاعة اللَّه ... إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة. ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ».

«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشي ء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدسة).

أمّا «ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ» والذي هو وصف ل (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال للَّه سبحانه، لأنّ «ذُو الْجَللِ» تنبّئنا عن الصفات التي يكون اللَّه أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشي ء، وهي الصفات الثبوتية للَّه سبحانه كعلمه وقدرته.

وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي: إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدسة للَّه سبحانه، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزهة عن الصفات السلبية.

ثم يخاطب الخلائق مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ومضمون الآية اللاحقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول سبحانه: «يَسْئَلُهُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع

ويبقى وحده سبحانه.

التعبير ب (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات مستمر من الذات الإلهية المقدسة، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط، وإنّما في البقاء أيضاً.

ثم يضيف سبحانه: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ».

إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ ابداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 59

والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له، وخلاصة الأمر أنّه في كل يوم- وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل- يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.

ومرّة اخرى- بعد هذه النعم المستمرة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَ نُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) النعم الإلهية التي إستعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم، إلّاأنّ الآيات مورد البحث تتحدث عن أوضاع يوم القيامة، وخصوصيات المعاد، وفي الوقت الذي تحمل تهديداً للمجرمين، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة، لذلك بعد ذكر كل واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كل نعمة من النعم السابقة.

يقول سبحانه في البداية: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ».

«الثقلان»: من مادة «ثقل» على وزن (كبر)

بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضاً، إلّاأنّ «ثقل» على وزن (خبر) تقال عادةً لمتاع وحمل المسافرين، وتطلق على جماعة الإنس والجن وذلك لثقلهم المعنوي، لأنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلًا وشعوراً وعلماً ووعياً له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضاً.

وبعد هذا يكرّر اللَّه سبحانه سؤاله مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وتعقيباً على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق، يخاطب الجن والإنس مرّة اخرى بقوله: «يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» للفرار من العقاب الإلهي؛ «فَانفُذُوا لَاتَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ». أي بقوّة إلهيّة، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 60

«معشر»: في الأصل من «عشر» مأخوذ من عدد «عشرة»، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل، فإنّ مصطلح (معشر) يقال: للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة. «أقطار»: جمع «قُطْر» بمعنى أطراف الشي ء.

«تنفذوا»: من مادة «نفوذ»، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شي ء.

والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

إنّ الآية أعلاه تتحدث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به العاصون في ذلك اليوم.

في مجمع البيان: روى مسعدة بن صدقة عن كليب قال: كنا عند أبي عبداللَّه عليه السلام، فأنشأ يحدثنا فقال: «إذا كان يوم القيامة جمع اللَّه العباد في صعيد واحد، وذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس والملائكة. ثم يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين، فلا يزالون كذلك حتى يهبط أهل سبع سماوات فيصير الجن والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثم ينادي مناد: «يَا مَعْشَرَ الْجِنّ

وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ» الآية. فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة».

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين (الجن والإنس) بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

والتهديد هنا لطف إلهي أيضاً، فالبرغم من أنّه يحمل تهديداً ظاهرياً، إلّاأنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية، حيث إنّ وجود المحاسبة في كل نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة، والذي يتعلق بعدم قدرة الجن والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية، حيث يقول سبحانه: «يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ».

«شواظ»: بمعنى (الشعلة العديمة الدخان). إنّ هذا التعبير يشير إلى شدة حرارة النار.

و «نحاس»: بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان)، لأنّها تتحدث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

ثم يضيف سبحانه قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 61

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَ الْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) تكملة للآيات السابقة يتحدث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب. يقول سبحانه في بداية الحديث: «فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ».

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغير ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّاً

في كل الوجود، فتتغير الكواكب والسيارات والأرض والسماء، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه، وهي إنشقاق وتناثر الكرات السماوية، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة- أو قبلها- تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء، ولطف من ألطاف اللَّه سبحانه، يتكرر هذا السؤال: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم، حيث يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لَّايُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ».

وكل شي ء واضح، وكل شي ء يُقرأ في وجه الإنسان.

إنّ يوم القيامة يوم طويل جدّاً، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعددة فيه، حيث لابد من التوقف في كل محطّة مدة زمنية.

إنّ في بعض هذه المواقف لا يسأل الإنسان إطلاقاً، كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه. قال تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 62

وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «1». كما أنّ في بعض المحطّات يُسأل الإنسان وبدقة متناهية عن كافة أعماله.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده، حيث يقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

نعم، إنّه لا يسأل حيث «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ».

ثم يضيف سبحانه: «فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالْأَقْدَامِ».

«النواصي»: جمع ناصية وفي الأصل بمعنى الشعر وما يكون بمقدمة الرأس، من مادة (نصأ) وتعني الإتصال والإرتباط، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدمة رأسه، كما تأتي أحياناً كناية عن الغلبة الكاملة على الشي ء.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلة ويلقونهم في جهنم، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام

ملائكة الرحمن، حيث يقذفونهم في نار جهنم بذلة تامة.

ومرّة اخرى يضيف سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ». لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثم يقول سبحانه: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ».

ويضيف سبحانه في وصف جهنم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول: «يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ».

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق.

فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنم، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) مما يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب جهنم، ويلقى فيها من يستحق عذابها ثم في النار يسجرون. قال تعالى: «يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى

______________________________

(1) سورة يس/ 65.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 63

النَّارِ يُسْجَرُونَ» «1».

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ، الذي هو لطف من اللَّه يقول الباري ء عزّ وجل: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وَ لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) الجنّتان اللتان اعدّتا للخائفين: يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة، ويحدثنا فيها عن الجنة وأهلها، وما أعدّ لهم من النعم فيها، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدثت عنها الآيات السابقة، وما ينتظر

المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات أعلاه، يقول سبحانه: «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ».

وللخوف من اللَّه أسباب مختلفة، فأحياناً يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهية حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة اللَّه، وأحياناً اخرى لمجرد تصورهم لعظمة اللَّه اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة ... وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة للَّه سبحانه، ويكون خاصاً بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ومرّة اخرى، وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنتين بقوله: «ذَوَاتَا أَفْنَانٍ».

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنة بقوله: «فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ».

ثم يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

______________________________

(1) سورة غافر/ 71 و 72.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 64

وفي الآية اللاحقة ينتقل البحث إلى فاكهة هاتين الجنّتين حيث يقول سبحانه: «فِيهِمَا مِن كُلّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ». ثم يضيف سبحانه قوله: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

لقد طرحت في الآيات السابقة ثلاث صفات لهاتين الجنّتين، وتستعرض الآية التالية الصفة الرابعة حيث يقول تعالى: «مُتَّكِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ».

وهذا التعبير يدلّل على الهدوء الكامل والإستقرار التامّ لدى أهل الجنة.

إنّ أثمن قماش يتصور في هذه الدنيا يكون بطانة لتلك الفرش، إشارة إلى أنّ القسم الظاهر لا يمكننا وصفه من حيث الجمال والجاذبية.

وأخيراً، وفي خامس نعمة يشير سبحانه إلى كيفية هذه النعم العظيمة، حيث يقول:

«وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ». «جنى»: على وزن (بقى) وتعني الفاكهة التي نضج قطفها؛ و «دان» في الأصل (داني) بمعنى

قريب.

ومرّة اخرى يخاطب الجميع سبحانه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَ الْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) الجنة والزوجات الحسان: في الآيات السابقة ذكرت خمسة أقسام من هبات وخصوصيات الجنتين، وهنا نتطرّق لذكر النعمة السادسة وهي الزوجات الطاهرات، حيث يقول سبحانه: «فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ». قد قصرن طرفهنّ على أزواجهن، ولم يردن غيرهم. ثم يضيف تعالى: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ» «1».

في تفسير مجمع البيان: قال أبو ذرّ: إنّها تقول لزوجها: وعزة ربّي ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد للَّه الذي جعلني زوجتك، وجعلك زوجي.

«طرف»: على وزن (حرف) بمعنى جانب العين، وبما أنّ الإنسان عندما يريد النظر يحرّك

______________________________

(1) «يطمثهنّ»: من مادة «طمث»، في الأصل بمعنى دم الدورة الشهرية، وجاءت بمعنى زوال البكارة؛ والمراد هنا أنّ النساء الباكرات في الجنة لم يكن لهنّ أزواج قطّ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 65

أجفانه، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر، وبناءً على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن طرفهن على أزواجهن، ويعني أنّهن يكننّ الحبّ والودّ لأزواجهن فقط، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكّر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الودّ.

وفي التعقيب على نعمة الجنة هذه يكرّر قوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يتطرق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنة، حيث يقول: «كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ».

ومرّة اخرى، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي نهاية هذا البحث يقول عزّ وجل: «هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ».

وهل ينتظر أن يجازى

من عمل عملًا صالحاً في الدنيا بغير الإحسان الإلهي؟

يقول الراغب في المفردات: الإحسان فوق العدل، وذاك أنّ العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله، والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ مما له فالإحسان زائد على العدل ..

ويتكرّر قوله سبحانه مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل اللَّه تعالى، حيث يؤكّد سبحانه أنّ جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم، مضافاً إلى أنّ طاعاتهم وعباداتهم إنّما هي بتوفيق اللَّه ولطفه، وبركاتها تعود عليهم.

وَ مِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) جنتان بأوصاف عجيبة: بعد بيان صفات جنتي الخائفين وخصوصياتهما المتميزة، واستمراراً للبحث ينتقل الحديث في الآيات التالية عن جنتين بمرتبة أدنى من السابقتين يكونان لأشخاص أقلّ خوفاً وإيماناً باللَّه تعالى من الفئة الاولى، حيث إنّ هدف العرض هو بيان سلسلة درجات ومراتب للجنان تتناسب مع الإيمان والعمل الصالح للأفراد.

يقول سبحانه في البداية: «وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 66

في تفسير مجمع البيان: فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما».

وفي نفس الموضوع ورد في حديث آخر: «جنتان من ذهب للمقربين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين» «1». أي من فضة. ثم يضيف سبحانه: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم ذكر القرآن الخصوصيات الخمس لهاتين الجنتين التي تشبه- إلى حد ما- ما ذكر حول الجنتين السابقتين، كما أنّهما تختلفان في بعض الخصوصيات الاخرى

حيث يقول سبحانه:

«مُدْهَامَّتَانِ».

«مدهامتان»: من مادة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل، ثم اطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار، ممّا يعكس منتهى السرور والإنشراح، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي الآية اللاحقة يصف الجنة وصفاً إضافياً حيث يقول سبحانه: «فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ». «نضّاختان»: من مادة (نضخ) بمعنى فوران الماء.

ومرّة اخرى يسأل سبحانه عن الإنس والجن سؤالًا إستنكارياً فيقول: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وتتحدث الآية التالية حول فاكهة هاتين الجنتين حيث تقول: «فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ».

ويكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَ الْإِكْرَامِ (78)

______________________________

(1) الدرّ المنثور 6/ 146. والتعبير بالذهب والفضة يمكن أن يكون إشارة إلى اختلاف درجة هاتين الجنتين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 67

زوجات الجنة ... مرّة اخرى: استمرار لشرح نعم الجنتين التي ذكرت في الآيات السابقة، تتحدث هذه الآيات عن قسم آخر من هذه النعم التي تزخر بها جنان اللَّه التي أعدّها للصالحين من عباده، حيث يقول سبحانه في البداية: «فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ».

تستعمل كلمة (خير) غالباً للصفات الجيدة والجمال المعنوي، أمّا «حسن» فإنّها تستعمل للجمال الظاهر. لذا فإنّ المقصود ب «خَيْرَاتٌ حِسَانٌ» اولئك النسوة اللواتي جمعن بين حسن السيرة، وحسن الظاهر.

وجاء في الروايات في تفسير هذه الآية أنّ الصفات الحسنة للزوجات في الجنة

كثيرة ومن جملتها طيب اللسان والنظافة والطهارة، وعدم الإيذاء، وعدم النظر للرجال الأجانب.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ثم يضيف مستمراً في وصف الزوجات في الجنة: «حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ».

«حور»: جمع حوراء وأحور، وتطلق على الشخص الذي يكون سواد عينه قاتماً وبياضها ناصعاً، وأحياناً تطلق على النساء اللواتي يكون لون وجوههن أبيض.

والتعبير ب «مقصورات» إشارة إلى أنّهن مرتبطات ومتعلقات بأزواجهن ومحجوبات عن الآخرين.

ومرّة اخرى يكرّر السؤال نفسه بقوله تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

ويضيف سبحانه وصفاً آخر لحوريات الجنة، حيث يقول: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ».

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ الزوجين المؤمنين في هذه الدنيا سيلتحقان في الجنة مع بعضهما ويعيشان في أفضل الحالات.

ويستفاد أيضاً من الروايات أنّ درجة ومقام زوجات المؤمنين الصالحات أعلى وأفضل من حوريات الجنة وذلك بما قمن به في الدنيا من صالح الأعمال وعبادة اللَّه سبحانه.

ثم يضيف تعالى: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنة يذكر سبحانه تعالى: «مُتَّكِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ».

«رفرف»: في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار، ثم اطلقت على الأقمشة الملوّنة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 68

«عبقري»: في الأصل بمعنى كل موجود قلّ نظيره.

و «حسان»: جمع «حسن» على وزن «نسب» بمعنى جيّد ولطيف.

فإنّ هذه التعابير حاكية جميعاً عن أنّ كل موجودات الجنة لا نظير له ولا شبيه في نوعه.

وللمرّة الأخيرة وهي (الحادية والثلاثون) يسأل سبحانه جميع مخلوقاته من الجن والإنس هذا السؤال: «فَبِأَىّ ءَالَاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ».

هل النعم المعنوية؟ أم النعم الماديّة؟ أم نعم هذا العالم؟ أم الموجودة في الجنة؟ إنّ كل هذه النعم شملت وجودكم وغمرتكم ... إلّاأنّه- مع الأسف- قد أنساكم غروركم وغفلتكم هذه الألطاف

العظيمة، ومصدر عطائها وهو اللَّه سبحانه الذي أنتم بحاجة مستمرّة إلى نعمه في الحاضر والمستقبل ... فأيّاً منها تنكرون وتكذّبون؟

ويختم السورة سبحانه بهذه الآية الكريمة: «تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ».

«تبارك»: من أصل (برك) بمعنى صدر البعير، وذلك لأنّ الجمال حينما تبرك تضع صدرها على الأرض أوّلًا، ومن هنا استعمل هذا المصطلح بمعنى الثبات والدوام والاستقامة، لذا فإنّ كلمة (مبارك) تقال للموجودات الكثيرة الفائدة، وأكرم من تطلق عليه هذه الكلمة هي الذات الإلهية المقدسة باعتبارها مصدراً لجميع الخيرات والبركات.

واستعملت هذه المفردة هنا لأنّ جميع النعم الإلهية- سواء كانت في الأرض والسماء في الدنيا والآخرة والكون والخلق- فهي من فيض الوجود الإلهي المبارك، لذا فإنّ هذا التعبير من أنسب التعابير المذكورة في الآية لهذا المعنى.

والملفت للنظر هنا أنّ هذه السورة بدأت باسم اللَّه (الرحمن) وانتهت باسم اللَّه ذي الجلال والإكرام) وكلاهما ينسجمان مع مجموعة مواضيع السورة.

«نهاية تفسير سورة الرحمن»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 69

56. سورة الواقعة

محتوى السورة: إنّ سورة الواقعة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكانت قبلها سورة (طه) وبعدها (الشعراء) «1».

هذه السورة- كما هو واضح من لحنها، وذكره المفسرون أيضاً- نزلت في مكة، بالرغم من أنّ بعضهم قال: إنّ الآيتين (81 و 82) نزلتا في المدينة، إلّاأنّ هذا الإدعاء ليس له دليل، كما أنّ محتوى الآيتين الكريمتين لا يساعدان على ذلك أيضاً.

وسورة الواقعة- كما هو واضح من إسمها- تتحدث عن القيامة وخصوصياتها، ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.

إلّا أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:

1- بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.

2- تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقربين).

3- بحث مفصل حول

مقام المقربين، وأنواع الجزاء لهم في الجنة.

______________________________

(1) الفهرست للنديم/ 28.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 70

4- بحث مفصل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع الهبات الإلهية الممنوحة لهم.

5- بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنم.

6- بيان أدلة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة اللَّه عزّ وجل، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، إشتعال النار.

7- وصف حالة الاحتضار والإنتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الاخروي والتي تعتبر من مقدمات يوم القيامة.

8- وأخيراً نظرة إجمالية كلية حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأ سورة الواقعة، كتب ليس من الغافلين». وذلك لأنّ آيات هذه السورة تتّصف بالتحريك والإيقاظ بصورة لا تسمح للإنسان أن يبقى في جوّ الغفلة.

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في كل ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللَّه وأحبّه إلى الناس أجمعين، ولم ير في الدنيا بؤساً أبداً ولا فقراً ولا فاقة، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه السلام».

ومن الواضح أنّنا لا نستطيع الحصول على جميع البركات التي وردت لهذه السورة بالقراءة السطحية، بل ينبغي بعد تلاوتها التفكر والتدبر، ومن ثم الحركة والعمل.

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَ بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (6) وَ كُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ

(13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) الواقعة العظيمة: إنّ الأحداث المرتبطة بالقيامة تذكر غالباً في القرآن الكريم مقترنة بحوادث أساسية عظيمة قاصمة ومدمّرة، وهذا ما يلاحظ في الكثير من السور القرآنية التي

مختصر الامثل، ج 5، ص: 71

تتحدث عن القيامة؛ وفي سورة الواقعة، نجد هذا واضحاً في الآيات الاولى منها، حيث يبدأ سبحانه بقوله: «إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ». «لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ». وذلك لأنّ الحوادث التي تسبقها عظيمة وشديدة بحيث تكون آثارها واضحة في كل ذرات الوجود.

فإنّ الحشر لا يقترن بتغيير الكائنات فحسب، بل إنّ البشر يتغيّر كذلك كما يقول سبحانه في الآية اللاحقة: «خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ».

أجل، بعض يسقط إلى قاع جهنم، وبعض آخر إلى أعلى عليين في الجنة.

وفي الخصال عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: «خافضة خفضت واللَّه بأعداء اللَّه في النار، رافعة رفعت واللَّه أولياء اللَّه إلى الجنة».

ثم يستعرض القرآن الكريم وصفاً أوسع في هذا الجانب حيث يقول: «إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا».

يا له من زلزال عظيم وشديد إلى حدّ أنّ الجبال فيه تندكّ وتتلاشى. قال تعالى: «وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا* فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا».

«رُجّت»: من مادة «رجّ» على وزن (حجّ) بمعنى التحرّك الشديد للشي ء وتقال رجرجة للإضطراب؛ و «بُسّت»: من مادة «بسّ» على وزن (حجّ) والأصل بمعنى تليّن الطحين وتعجنه بواسطة الماء؛ و «هباءً»: بمعنى غبار؛ و «منبث»: بمعنى منتشر.

وبعد بيان وقوع هذه الظاهرة العظيمة والحشر الكبير يستعرض القرآن المجيد ذكر حالة الناس في ذلك اليوم، حيث قسّم الناس إلى ثلاثة أقسام بقوله سبحانه: «وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلثَةً».

وحول القسم الأوّل يحدّثنا القرآن الكريم بقوله: «فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ». والمقصود من أصحاب الميمنة هم الأشخاص الذين يعطون صحيفة أعمالهم بأيديهم اليمنى، وهذا الأمر

رمز لأهل النجاة، ودليل الأمان للمؤمنين والصالحين في يوم القيامة، كما ذكر هذا مراراً في الآيات القرآنية.

عبارة «ما أصحاب الميمنة» هو بيان حقيقة السعادة التي ليس لها حدّ ولا يمكن تصوّرها لهؤلاء المؤمنين.

ثم يستعرض اللَّه تعالى المجموعة الثانية بقوله: «وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 72

الْمَشْئَمَةِ». حيث الشؤم والتعاسة، وإستلام صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى التي هي رمز سوء عاقبتهم وعظيم جرمهم وجنايتهم، نتيجة عمى البصيرة والسقوط في وحل الضلال. والتعبير ب «ما أصحاب المشئمة» هو الآخر يعكس نهاية سوء حظّهم وشقاوتهم.

وأخيراً يصف المجموعة الثالثة أيضاً بقوله سبحانه: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ».

(السابقون) ليسوا الذين سبقوا غيرهم بالإيمان فحسب، بل في أعمال الخير والأخلاق والإخلاص، فهم اسوة وقدوة وقادة للناس، ولهذا السبب فهم من المقربين إلى الحضرة الإلهية.

وإذا فسّرت (السابقون) كما في بعض الروايات الإسلامية بأنّها تعني الأشخاص الأربعة وهم «هابيل»، و «مؤمن آل فرعون»، و «حبيب النجار» الذين تميّز كل منهم بأسبقيته في قومه، وكذلك «أمير المؤمنين» عليه السلام الذي هو أوّل من دخل في الإسلام من الرجال، فإنّ هذا التفسير هو بيان للمصاديق الواضحة، وليس تحديداً لمفهوم الآية.

ثم يوضّح المقام العالي للمقربين، حيث يقول سبحانه: «فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

التعبير ب «جَنَّاتِ النَّعِيمِ» يشمل أنواع النعم المادية والمعنوية.

ويشير في الآية اللاحقة إلى الحالة العددية في الامم السابقة وفي هذه الامة أيضاً حيث يقول سبحانه: «ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ». أي أنّهم جماعة كثيرة في الامم السالفة والأقوام الاولى.

«وَقَلِيلٌ مّنَ الْأَخِرِينَ».

وطبقاً لهاتين الآيتين فإنّ قسماً كبيراً من المقربين هم من الامم السابقة، وقسم قليل منهم فقط هم من امة محمّد صلى الله عليه و آله.

عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ

وَ أَبَارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَ لَا يُنْزِفُونَ (19) وَ فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لَا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلَاماً سَلَاماً (26) الجنة بإنتظار المقربين: هذه الآيات تتحدث عن أنواع نعم الجنة التي أعدّها اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 73

سبحانه للقسم الثالث من عباده المقربين، والتي كل واحدة منها أعظم من اختها وأكرم ..

وقد لخّصت هذه النعم بسبعة أقسام:

يقول تعالى في البداية: «عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ* مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ».

«سرر»: جمع «سرير» من مادة (سرور) بمعنى التخت الذي يجلس عليه المنعّمين في مجالس الانس والسرور.

ونلاحظ استمرار الأوصاف الرائعة في القرآن الكريم لسرر الجنة، ومجالس أهلها، ومنتديات أحبّتها مما يدل على أنّ من أهم نعم وملذات هؤلاء هي جلسات الانس هذه ..

ثم يتحدث سبحانه عن نعمة اخرى لهم حيث يقول: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ».

التعبير ب «يطوف» من مادة (طواف) إشارة إلى استمرار خدمة هؤلاء (الطوافين) لضيوفهم.

والتعبير ب «مخلّدون» إشارة إلى خلود شبابهم ونشاطهم وجمالهم وطراوتهم، والأصل أنّ جميع أهل الجنة مخلّدون وباقون.

ويضيف القرآن أنّ هؤلاء الولدان يقدّمون لأصحاب الجنة أقداح الخمر وكؤوس الشراب المأخوذ من أنهار الجنة: «بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقٍ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ» «1».

وشرابهم هذا ليس من النوع الذي يأخذ لباب العقل والفكر، حيث يقول تعالى: «لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ» «2».

إنّ الحالة التي تنتابهم من النشوة الروحية حين تناولهم لهذا الشراب لا يمكن أن توصف، إذ تغمر كل وجودهم بلذة ليس لها مثيل.

ثم يشير سبحانه إلى رابع وخامس قسم من النعم المادية التي وهبها اللَّه للمقربين في الجنة، حيث

يقول سبحانه: «وَفَاكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ». «وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ».

______________________________

(1) «أكواب»: جمع «كوب» بمعنى القدح أو الإناء الذي لا عروة له؛ و «أباريق»: جمع «إبريق» وهي في الأصل اخذت من الفارسية (أبريز) بمعنى الأواني ذات اليد من جهة، ومن الاخرى ذات أنبوب لصبّ السائل؛ و «كأس»: تقال للإناء المملوء بالسائل لدرجة يفيض من جوانبه؛ و «معين» من مادة «معن» بمعنى الجاري.

(2) «يصدّعون»: من مادة «صداع» على وزن (حباب)، بمعنى وجع الرأس، وهذا المصطلح في الأصل من (صدع) بمعنى (الإنفلاق) لأنّ الإنسان عندما يصاب بوجع رأس شديد فكأنّ رأسه يريد أن ينفلق من شدّة الألم، لذا فإنّ هذه الكلمة قد استعملت في هذا المعنى؛ و «ينزفون»: من أصل «نزف» بمعنى سحب جميع مياه البئر بصورة تدريجيّة، وتستعمل أيضاً حول (السُكْرُ) وفقدان العقل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 74

إنّ تقديم الفاكهة على اللحم بلحاظ كون الفاكهة أفضل من الناحية الغذائية بالإضافة إلى نكهتها الخاصة عند أكلها قبل الطعام. والذي يستفاد من بعض الروايات أنّ غصون أشجار الجنة تكون في متناول أيدي أهل الجنة، بحيث يستطيعون بكل سهولة أن يتناولوا أي نوع من الفاكهة مباشرة، وهكذا الحال بالنسبة لبقيّة الأغذية الموجودة في الجنة، إلّاأنّ مما لا شك فيه أنّ تقديم الغذاء من قبل (الولدان المخلّدين) له صفاء خاص ولطف متميز حيث إنّ تقديم الطعام يعبّر عن مزيد الإحترام والإكرام لأهل الجنة.

ثم يشير سبحانه إلى سادس نعمة وهي الزوجات الطاهرات الجميلات، حيث يقول سبحانه: «وَحُورٌ عِينٌ». «كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُوِ الْمَكْنُونِ».

«حور»: جمع حوراء وأحور، ويقال للشخص الذي يكون سواد عينه شديداً وبياضها شفافاً؛ و «عين»: جمع عيناء وأعين، بمعنى العين الواسعة.

«مكنون»: بمعنى مستور، والمقصود هنا الاستتار في الصدف. أنّهن مستورات عن أعين الآخرين بصورة

تامة، لا يد تصل إليهن ولا عين تقع عليهن.

وبعد الحديث عن هذه المنح، والعطايا المادية الستّة، يضيف سبحانه: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». كي لا يتصور أحد أنّ هذه النعم تعطى جزافاً، بل إنّ الإيمان والعمل الصالح هو السبيل لنيلها والحصول عليها، حيث يلزم للإنسان العمل المستمر الخالص حتى تكون هذه الألطاف الإلهية من نصيبه.

ويلاحظ بأنّ (يعملون) فعل مضارع يعطي معنى الإستمرار.

ويتحدث القرآن الكريم عن سابع نعمة من نعم أهل الجنة، وهي التي تتسّم بالطابع الروحي المعنوي، حيث يقول تعالى: «لَايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا».

فالجوّ هناك جوّ نزيه خالص بعيد عن الدنس، فلا كذب، ولا تهم، ولا إفتراءات، ولااستهزاء ولا غيبة ولا ألفاظ نابية وعبارات لاذعة ... وليس هنالك لغو ولا كلام فارغ.

ثم يضيف سبحانه: «إِلَّا قِيلًا سَلمًا سلمًا».

سلام وتحية من اللَّه، ومن الملائكة المقربين، وسلامهم وتحيّتهم لبعضهم البعض في تلك المجالس العامرة المملوءة بالصفاء والتي تفيض بالودّ والاخوّة والصدق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 75

وَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ مَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَ فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَ لَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) أصحاب اليمين وهباتهم: بعد بيان الهبات والنعم الماديّة والمعنوية (للمقرّبين) يأتي الدور في الحديث عن (أصحاب اليمين)، ويشير سبحانه إلى نعم ستّ، ممّا أنعم به عليهم تمثّل مرحلة أدنى في مقابل سبع نِعم منحها سبحانه إلى المقرّبين من عباده.

تبدأ الآيات في الحديث عنهم أوّلًا من حيث مقامهم العالي، حيث يقول عزّ وجل:

«وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا

أَصْحَابُ الْيَمِينِ».

إنّ هذا الوصف هو أروع وصف لهؤلاء، لأنّ هذا التعبير يستعمل في موارد لا تستطيع الألفاظ التعبير عنه، وهو تعبير عن المقام العالي لأصحاب اليمين.

وتشير الآية اللاحقة إلى أوّل نعمة منحت لهذه الجماعة، حيث تقول: «فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ».

وفي تفسير روح المعاني: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقولون: إنّ اللَّه تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم، أقبل أعرابي يوماً، فقال: يا رسول اللَّه! لقد ذكر اللَّه في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أنّ في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟

قال: «وما هي». قال: السدر، فإنّ له شوكاً.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أليس اللَّه يقول: في سدر مخضود، خضد اللَّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، وأنّ الثمرة من ثمره تفتق اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر».

ثم يأتي الحديث عن ثاني هبة لهم حيث يقول سبحانه: «وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ».

«الطلح»: شجرة خضراء لطيفة اللون والرائحة، وذكر البعض أنّها شجرة الموز التي تتميّز بأوراق عريضة وخضراء وجميلة، وفاكهتها حلوة ولذيذة.

و «منضود»: من مادة (نضد) بمعنى متراكم.

وقال بعض المفسرين: بالنظر إلى أنّ أوراق شجر السدر في غاية الصغر، وأوراق شجر

مختصر الامثل، ج 5، ص: 76

الموز في غاية الكبر فقوله تعالى «فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ» اشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر من الأشجار وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر منها فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظراً إلى أوراقها، والورق أحد مقاصد الشجر «1». ثم يستعرض سبحانه ذكر النعمة الثالثة من نعم أهل اليمين بقوله: «وَظِلّ مَّمْدُودٍ».

فسّر البعض هذا (الظل الواسع) بحالة شبيهة للظل الذي يكون ما بين الطلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حيث إنتشاره في كل مكان،

وقد نقل حديث للرسول صلى الله عليه و آله بهذا المعنى في روضة الكافي «2».

وينتقل الحديث إلى مياه الجنة حيث يقول سبحانه: «وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ».

«مسكوب»: من مادة «سكب» تعني في الأصل الصبّ، ولأنّ صبّ الماء يكون من الأعلى إلى الأسفل بصورة تيّار أو شلّال فهى إحدى الهبات التي منحها اللَّه لأهل الجنة.

ومن الطبيعي أنّ هذه الجنة المليئة بالأشجار العظيمة، والمياه الجارية، لابدّ أن تكون فيها فواكه كثيرة، وهذا ما ذكرته الآية الكريمة، حيث يقول سبحانه في ذكر خامس نعمة:

«وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَّامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ».

نعم، ليست كفواكه الدنيا من حيث محدوديتها في فصول معيّنة من أسابيع أو شهور.

ثم يشير سبحانه إلى نعمة اخرى حيث يقول: «وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ». أي الزوجات الرفيعات القدر والشأن.

«فرش»: جمع فراش وتعني في الأصل كل فراش يفرش ولهذا التناسب فإنّها تستعمل في بعض الأحيان كناية عن الزوج (سواء كان رجلًا أو امرأة).

ويصف القرآن الكريم زوجات الجنة بقوله تعالى: «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً».

وهذه الآية لعلّها تشير إلى الزوجات المؤمنات في هذه الدنيا حيث يمنحهنّ اللَّه سبحانه خلقاً جديداً في يوم القيامة، ويدخلن الجنة وهنّ في قمّة الحيوية والشباب والجمال والكمال الظاهر والباطن، وبشكل يتناسب مع كمال الجنة وخلوّها من كل نقص وعيب.

ثم يضيف تعالى: «فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا».

واحتمال أن يكون الوصف مستمرّاً، كما صرّح كثير من المفسرين بذلك، واشير له في

______________________________

(1) التّفسير الكبير، الفخر الرازي 29/ 162.

(2) روضة الكافي 8/ 99.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 77

الروايات الإسلامية أيضاً، حيث الزواج لا يغيّر وضعهن ويبقين أبكاراً «1».

ويضيف في وصفهن بوصف آخر فيقول تعالى: «عُرُبًا».

«عُرُباً»: جمع «عروبة» بمعنى المرأة التي يحكي وضع حالها عن مقام عفّتها وطهارتها، وعمّا تكنّه من المحبة لزوجها؛ و «إعراب»: معناه هو نفس مدلول الإظهار، ويأتي هذا

المصطلح أيضاً بمعنى الفصاحة ولطافة الكلام، ويمكن جمع المعنيين في هذه الآية.

والوصف الآخر لهن: «أَتْرَابًا». أي: أنّها متماثلات في الجمال وأتراب في الظاهر والباطن، ومتماثلات في العمر مع أزواجهن.

«أتراب»: جمع «ترب» بمعنى المثل والشبيه. إنّ هذا الشبه والتماثل يمكن أن يكون في أعمار الزوجات بالنسبة لأزواجهن، كي يدركن إحساسات ومشاعر أزواجهن كاملة.

ثم يضيف تعالى: «لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ».

وهذا تأكيد جديد على إختصاص هذه الصفات والنعم الإلهية بهم.

وفي نهاية هذا العرض يقول سبحانه: «ثُلَّةٌ مّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مّنَ الْأَخِرِينَ».

«ثلّة»: في الأصل بمعنى قطعة مجتمعة من الصوف، ثم اطلقت على كل مجموعة من الناس عظيمة ومتماسكة، وبهذا الترتيب فإنّ مجموعة عظيمة من أصحاب اليمين هم من الامم السابقة، ومجموعة عظيمة من الامة الإسلامية، لأنّ بين المجموعتين كثير من الصالحين والمؤمنين، بالرغم من أنّ السابقين للإيمان في الامة الإسلامية أقلّ من السابقين للإيمان في الامم السابقة، وذلك لكثرة تلك الامم وكثرة أنبيائها.

وَ أَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَ لَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَ كَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كَانُوا يَقُولُونَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) العقوبات المؤلمة لأصحاب الشمال: بعد الاستعراض الذي مرّ بنا حول النعم والهبات العظيمة التي منحها اللَّه سبحانه للمقربين من عباده ولأصحاب اليمين من أوليائه، يتطرق

______________________________

(1) روح المعاني 27/ 142.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 78

الآن إلى ذكر المجموعة الثالثة (أصحاب الشمال) والعذاب المؤلم والعاقبة السيئة التي حلّت بهم، في عملية مقارنة لوضع

المجموعات الثلاثة، حيث يقول الباري ء: «وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ». أصحاب الشمال هم الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى إشارة إلى سوء عاقبتهم، وأنّهم من أهل المعاصي والذنوب.

ثم يشير سبحانه إلى ثلاثة أنواع من العقوبات التي يواجهونها، الهواء الحارق القاتل من جهة: «فِى سَمُومٍ»، والماء المغلي المهلك من جهة اخرى: «وَحَمِيمٍ»، وظل الدخان الخانق الحارّ من جهة ثالثة: «وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ».

هذه الألوان من العذاب تحاصرهم وتطوقهم وتسلب منهم الصبر والقدرة.

ثم يضيف الباري ء مؤكّداً فيقول: «لَّابَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ».

المظلة عادةً تحمي الإنسان من الشمس والمطر والهواء ولها منافع اخرى، والظل المشار إليه في الآية الكريمة ليس له من هذه الفوائد شي ء يذكر.

ومن الطبيعي أنّ مظلّة من الدخان الأسود الخانق لا ينتظر منها إلّاالشر والضرر.

وبالرغم من أنّ جزاء أهل النار له أنواع مختلفة مرعبة من العذاب، إلّاأنّ ذكر الأقسام الثلاثة يكفي لإعطاء فكرة عن بقية الأهوال.

وفي الآيات اللاحقة يذكر الأسباب التي أدّت بأصحاب الشمال إلى هذا المصير المخيف والمشؤوم، وذلك بثلاث جمل: أ) يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ».

«مترف»: من مادة «ترف» بمعنى التنعّم، وتطلق على الشخص الذي ملكته الغفلة وجعلته مغروراً سكراناً، وجرّته إلى الطغيان.

صحيح أنّ أصحاب الشمال ليسوا جميعاً من زمرة المترفين، إلّاأنّ المقصودين في القرآن الكريم هم أربابهم وأكابرهم.

ب) ثم يشير سبحانه إلى العامل الذي كان مصدراً وسبباً لعذاب أصحاب الشمال، فيقول سبحانه: «وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ».

«الحنث»: في الأصل يعني كل نوع من الذنوب. فإنّ خصوصية أصحاب الشمال ليس فقط في إرتكاب الذنوب ولكن في الإصرار عليها.

ج) وثالث عمل سبب لهم هذا الويل والعذاب، هو أنّهم قالوا: «وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 79

وعلى هذا فإنّ

إنكار القيامة والذي هو بحدّ ذاته مصدر للكثير من الذنوب، هو وصف آخر لأصحاب الشمال، ومصدر لشقائهم. وتعبير «كَانُوا يَقُولُونَ» يوضّح لنا أنّهم كانوا يصرّون ويعاندون في إنكار يوم القيامة أيضاً.

إنّ الذنوب الثلاثة التي اشير إليها في الآيات الثلاثة السابقة كانت بمثابة نفي اصول الدين الثلاثة من قبل أصحاب الشمال.

ففي آخر آية تحدّث القرآن الكريم عن تكذيبهم ليوم القيامة، وفي الآية الثانية عن إنكار التوحيد، وفي الآية الاولى كان الحديث عن المترفين وهي إشارة إلى تكذيب الأنبياء.

إنّهم لم يكتفوا بما ذكروا وذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث قالوا بتعجب: «أَوَ ءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ».

ثم إنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يجيبهم: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

«ميقات»: من مادة «وقت» بمعنى الزمان الذي يحدّد لعمل ما أو موعد. والمقصود من الميقات هنا هو نفس الوقت المقرر للقيامة.

ويستفاد من التعابير المختلفة التي وردت في الآية السابقة والتأكيدات العديدة حول مسألة الحشر، أنّ حشر جميع الناس ينجز في يوم واحد.

ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنّ معلومية يوم القيامة هي عند اللَّه فقط، وإلّا فإنّ جميع البشر بما فيهم الأنبياء والمرسلون والمقربون والملائكة ليس لهم علم بتوقيتها.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) عقوبات جديدة للمجرمين: هذه الآيات استمرار للأبحاث المرتبطة بعقوبات أصحاب الشمال، حيث يخاطبهم بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ لَأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ».

«زقّوم»: نبات مرّ نتن الرائحة وطعمه غير مستساغ، وفيه عصارة إذا دخلت جسم الإنسان يصاب بالتورّم، وتقال أحياناً لكل نوع من الغذاء

المنفّر لأهل النار.

وجملة «فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ» إشارة إلى الجوع الشديد الذي يصيبهم بحيث إنّهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 80

يأكلون بنهم وشره من هذا الغذاء النتن وغير المستساغ جدّاً فيملؤون بطونهم. وعند تناولهم لهذا الغذاء السي ء يعطشون ولكن ما هو شرابهم! يتبيّن ذلك في قوله تعالى: «فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ».

إنّ البعير الذي يبتلى بداء العطش فإنّ شدة عطشه تجعله يشرب الماء باستمرار حتى يهلك، وهذا هو نفس مصير «الضَّالُّونَ الْمُكَذّبُونَ» في يوم القيامة.

وفي آخر آية- مورد البحث- يشير سبحانه إلى طبيعة مأكلهم ومشربهم في ذلك اليوم حيث يقول: «هذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدّينِ».

ومن الطبيعي أنّ أهل النار ليسوا ضيوفاً، وأنّ الزقّوم والحميم ليس وسيلة لضيافتهم بل هو نوع من الطعن فيهم، وأنّه إذا كان كل هذا العذاب هو مجرد استقبال لهم، فكيف بعد ذلك سيكون حالهم.

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْ لَا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْ لَا تَذَكَّرُونَ (62) سبعة أدلة على المعاد: بما أنّ الآيات السابقة تحدثت عن تكذيب الضالين ليوم المعاد، فإنّ الآيات اللاحقة استعرضت سبعة أدلة على هذه المسألة المهمة، كي يتركّز الإيمان وتطمئن القلوب بالوعود الإلهية التي وردت في الآيات السابقة حول «المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال». يقول سبحانه في المرحلة الاولى: «نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدّقُونَ».

أي لِمَ لا تصدّقون بالمعاد؟! لماذا تتعجبون من الحشر والمعاد الجسمي بعد أن تصبح أجسامكم تراباً؟ ألم نخلقكم من التراب أوّل مرّة؟ أليس حكم الأمثال واحداً؟

وفي الآية اللاحقة يشير البارى ء إلى دليل

ثان حول هذه المسألة فيقول: «أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ».

وهل أنّ القادر على الخلق المتكرر يعجز عن إحياء الموتى في يوم القيامة؟

ثم يستعرض ذكر الدليل الثالث حيث يقول سبحانه: «نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 81

إنّنا لن نغلب أبداً، وإذا قدّرنا الموت فلا يعني ذلك أنّنا لا نستطيع أن نمنح العمر السرمدي، بل إنّ الهدف هو أن نذهب بقسم من الناس ونأتي بآخرين محلّهم، وأخيراً نعيدكم خلقاً جديداً في عالم لا تعلمون عنه شيئاً: «عَلَى أَن نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لَا تَعْلَمُونَ».

ويمكن توضيح الدليل بالصورة التالية: إنّ اللَّه الحكيم الذي خلق الإنسان وقدّر له الموت فطائفة يموتون وآخرين يولدون باستمرار، من البديهي أنّ له هدف.

فإذا كانت الحياة الدنيا هي الهدف فالمناسب أن يكون عمر الإنسان خالداً وليس بهذا المقدار القصير المقترن مع ألوان الآلام والمشاكل.

وسنّة الموت تشهد أنّ الدنيا معبراً وليست منزلًا وأنّها جسر وليست مقصداً، لأنّها لو كانت مستقرّاً ومقصداً للزم أن تدوم الحياة فيها.

وفي آخر آية- مورد البحث- يتحدث سبحانه عن رابع دليل للمعاد حيث يقول: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ».

هذا الدليل نستطيع بيانه بصورتين:

الاولى: إنّ خلق هذه الدنيا العظيمة وما فيها هل يمكن أن يكون لهدف صغير محدود، كأن يعيش الإنسان فيها بضعة أيام؟ كلّا ليس كذلك، وإلّا فإنّه يعني أنّ خلق العالم سيكون بدون هدف، ولكن مما لا شك فيه أنّ هذه المخلوقات العظيمة قد خلقت لموجود شريف- مثل الإنسان- ليعرف اللَّه سبحانه من خلالها، معرفة تكون رأسماله الوحيد في الدار الآخرة، فالهدف إذن هو الدار الآخرة، وهذا دليل آخر على المعاد.

الثانية: هو أنّنا نلاحظ مشاهد المعاد في هذا العالم تتكرر أمامنا

في كل سنة وفي كل زاوية وكل مكان، حيث مشهد القيامة والحشر في عالم النبات، فتحيى الأرض الميتة بهطول الأمطار الباعثة للحياة. قال تعالى: «إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى «1».

أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) هل أنتم الزارعون أم اللَّه: استعرضنا لحدّ الآن أربعة أدلة من الأدلة السبعة التي جاء

______________________________

(1) سورة فصّلت/ 39.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 82

ذكرها في هذه السورة حول المعاد، والآيات- مورد البحث واللاحقة لها- تستعرض الأدلة الاخرى المتبقّية والتي كل منها مصداق لقدرة اللَّه اللا متناهية. فالدليل الأوّل يرتبط بخلق الحبوب الغذائية، والثاني يرتبط بخلق الماء، والثالث يتعلق بالنار، وهذه المحاور تشكّل الأركان الأساسية في الحياة الإنسانية.

يقول سبحانه في البداية: «أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ».

واللَّه سبحانه هو الذي يخلق في وسط هذه البذرة الحياة، فعندما توضع البذرة في محيط مهيّأ من حيث التربة والضوء والماء، فإنّها تستفيد ابتداءاً من المواد الغذائية المخزونة فيها إلى أن تصبح برعماً وتولّد جذراً، ثم تنمو بسرعة عجيبة مستفيدة من المواد الغذائية الموجودة في الأرض.

وفي الآية اللاحقة يؤكّد الدور الهامشي للإنسان في نمو ورشد النباتات فيقول: «لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ».

«حطام»: من مادة «حطم» تعني في الأصل كسر الشي ء، وغالباً ما تطلق على كسر الأشياء اليابسة كالعظام النخرة وسيقان النباتات الجافّة، والمقصود هنا هو التبن.

ويحتمل أيضاً أنّ المقصود بالحطام هنا هو فساد البذور في التربة وعدم نموّها.

نعم، تتعجبون وتغمركم الحيرة وتقولون: «إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» «1».

وإذا كنتم أنتم الزارعين الحقيقيين، فهل بإمكانكم أن تمنعوا وتدفعوا عن زرعكم الأضرار والمصير المدمّر والنتيجة البائسة؟

وهذا التحدي يؤكّد لنا أنّ جميع امور الخلق من اللَّه سبحانه.

أَ فَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْ لَا تَشْكُرُونَ (70) أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَ مَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) من الذي خلق الماء والنار: يشير سبحانه في هذه الآيات إلى سادس وسابع دليل للمعاد في هذا القسم من آيات سورة الواقعة، التي تبيّن قدرة اللَّه تعالى على إحياء الموتى، بل

______________________________

(1) «مغرمون»: من مادة «غرامة» بمعنى الضرر وفقدان الوقت والمال.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 83

في كل شي ء: «أَفَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ». «ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ».

«مزن»: يعني (الغيوم البيضاء) وفسّرها البعض بأنّها (الغيوم الممطرة).

إنّ هذه الآيات تجعل الوجدان الإنساني أمام استفسارات عدّة كي تأخذ إقراراً منه، حيث يسأل اللَّه سبحانه: هل فكّرتم بالماء الذي تشربونه باستمرار والذي هو سرّ حياتكم؟

وإذا لاحظنا في الآيات أعلاه عملية استعراض لماء الشرب- فقط- وعدم التحدث عن تأثيره في حياة الحيوانات أو النباتات فإنّ السبب هو الأهمية البالغة للماء في حياة الإنسان نفسه، بالإضافة إلى أنّه قد اشير له في الآيات السابقة في حديث الزرع، لذا لا حاجة لتكرار ذلك.

وأخيراً- ولإكمال البحث في الآية اللاحقة- يقول سبحانه: «لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ». «اجاج»: من مادة «أجّ» وقد أخذت في الأصل من «أجيج النار» يعني إشتعالها وإحتراقها، ويقال «اجاج» للمياه التي تحرق الفمّ عند شربها لشدّة ملوحتها ومرارتها وحرارتها.

وأخيراً نصل إلى سابع- وآخر- دليل للمعاد في هذه السلسلة من الآيات الكريمة، وهو خلق النار التي هي أهمّ وسيلة لحياة

الإنسان وأكثرها أهمية له في المجالات الصناعية المختلفة، حيث يقول سبحانه: «أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشُونَ». «تورون»: من مادة «ورى» بمعنى الستر، ويقال للنار التي تكون مخفية في الوسائل التي لها القابلية على الإشتعال والتي تظهر بشرارة، ويقال «ورى» و «ايراء».

جملة (تورون)- بمعنى إشعال النار- بالرغم من أنّها فسّرت هنا بما يستفاد منه توليد النار، إلّاأنّه لا مانع من أن تشمل الأشياء المشتعلة أيضاً كالحطب باعتباره ناراً خفيّة تظهر وقت توفّر الشروط المناسبة لها.

وفي الآية اللاحقة يضيف مؤكّداً الأبحاث أعلاه بقوله سبحانه: «نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ».

إنّ عودة النار من داخل الأشجار الخضراء تذكّرنا برجوع الأرواح إلى الأبدان في الحشر من جهة، ومن جهة اخرى تذكّرنا هذه النار بنار جهنم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 84

يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم» «1». جملة «مَتَاعًا لّلْمُقْوِينَ» إشارة إلى الفوائد الدنيوية لهذه النار.

يستنتج سبحانه نتيجة مهمّة بعد ما ركّز على أهميّة هذه النعم للإنسان وذلك بتسبيحه والشكر له تعالى باعتباره المصدر الوحيد لهذه النعم ... فيقول سبحانه في آخر آية مورد البحث: «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

إنّ اللَّه الذي خلق كل هذه النعم، والتي كل منها تذكّرنا بقدرته وتوحيده وعظمته ومعاده، لائق للتسبيح والتنزيه من كل عيب ونقص.

إنّه ربّ، وكذلك فإنّه «عظيم» وقادر ومقتدر، وبالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله إلّاأنّ من الواضح أنّ جميع البشر هم المقصودون.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ

مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) المطهّرون ومعرفة أسرار القرآن: استمراراً للأبحاث التي جاءت في الآيات السابقة، والتي تركّز الحديث فيها حول الأدلة السبعة الخاصة بالمعاد، ينتقل الحديث الآن عن أهمية القرآن الكريم باعتباره يشكّل مع موضوع النبوة ركنين أساسيين بعد مسألة المبدأ والمعاد والتي بمجموعها تمثّل أهمّ الأركان العقائدية. يبدأ الحديث بقسم عظيم، حيث يقول سبحانه:

«فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ».

وعندما يلاحظ الإنسان- طبقاً لتصريحات العلماء- أنّ في (مجرّتنا) فقط ألف مليون نجمة، وتوجد في الكون مجرّات كثيرة، وكل واحدة منها لها مسار خاص، عندئذ ستتوضّح لنا أهمية هذا القسم القرآني.

ولهذا السبب فإنّه تعالى يضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ».

وهذه بحد ذاتها تعتبر إعجازاً علميّاً للقرآن الكريم، حيث في الوقت الذي كانت تعتبر

______________________________

(1) جامع البيان 27/ 262؛ وروح المعاني 27/ 150.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 85

النجوم عبارة عن مسامير فضائية رصّعت السماء بها فإنّ مثل هذا البيان القرآني الرائع في ظلّ ظروف وأوضاع يخيّم عليها الجهل، محال أن يصدر من بشر عادي.

وتوضّح الآية اللاحقة ما هو المقصود من ذكر هذا القسم؟ حيث يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ».

وبهذه الصورة فإنّه يردّ على المشركين المعاندين الذين يصرّون بإستمرار على أنّ هذه الآيات المباركة هي نوع من التكهّن- والعياذ باللَّه- أو أنّه حديث جنوني أو شعر، أو أنّه من قبل الشيطان ... فيردّ عليهم سبحانه بأنّه وحي سماوي وحديث بيّن وعظمته وأصالته لا غبار عليها، ومحتواه يعبّر عن مبدأ نزوله.

نعم، إنّ القرآن كريم وقائله كريم ومن جاء به كذلك، وأهدافه كريمة أيضاً.

ثم يستعرض الوصف الثاني لهذا الكتاب السماوي العظيم حيث يقول تعالى: «فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ».

إنّه في «لوح

محفوظ» في علم اللَّه، محفوظ من كل خطأ وتغيير وتبديل.

وفي ثالث وصف له يقول سبحانه: «لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ».

ذكر الكثير من المفسرين- تماشياً مع بعض الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام- بعدم جواز مسّ (كتابة) القرآن الكريم بدون غسل أو وضوء.

كما اعتبر بعضهم أنّها إشارة إلى أنّ الحقائق والمفاهيم العالية في القرآن الكريم لا يدركها إلّا المطهّرون. فإنّ طهارة الروح في طلب الحقيقة تمثّل حدّاً أدنى من مستلزمات إدراك الإنسان لحقائق القرآن، وكلّما كانت الطهارة والقداسة أكثر كان الإدراك لمفاهيم القرآن ومحتوياته بصورة أفضل.

وفي رابع وآخر وصف للقرآن الكريم يقول تعالى: «تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ اللَّه المالك والباري ء لجميع الخلق، قد نزّل هذا القرآن لهداية البشر، وقد أنزله سبحانه على قلب النبي الطاهر، وكما أنّ العالم التكويني صادر منه وهو تعالى رب العالمين فكذلك الحال في المجال التشريعي، فكل نعمة وهداية فمن ناحيته ومن عطائه.

ثم يضيف سبحانه: «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ». هل أنتم بهذا القرآن وبتلك الأوصاف المتقدمة تتساهلون، بل تنكرونه وتستصغرونه في حين تشاهدون الأدلة الصادقة والحقّة بوضوح، وينبغي لكم التسليم والقبول بكلام اللَّه سبحانه بكل جديّة، والتعامل مع هذا الأمر كحقيقة لا مجال للشك فيها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 86

عبارة «هذا الحديث» في الآية الكريمة إشارة للقرآن الكريم.

«مدهنون»: في الأصل من مادة «دهن» بالمعنى المتعارف عليه، ولأنّ الدهن يستعمل للبشرة وامور اخرى، فإنّ كلمة (أدهان) جاءت بمعنى المداراة والمرونة، وفي بعض الأحيان بمعنى الضعف وعدم التعامل بجدية ... ولأنّ المنافقين والكاذبين غالباً ما يتّصفون بالمداراة والمصانعة، لذا استعمل هذا المصطلح أحياناً بمعنى التكذيب والإنكار، ويحتمل أن يكون المعنيان مقصودان في الآية. وفي آخر آية- مورد البحث- يقول سبحانه إنّكم بدلًا من أن تشكروا اللَّه

تعالى على نعمه ورزقه وخاصة نعمة القرآن الكبيرة، فإنّكم تكذّبون به: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ».

فَلَوْ لَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) عندما تصل الروح إلى الحلقوم: تكملة لأبحاث المعاد والردّ على المنكرين والمكذبين فإنّ القرآن الكريم يرسم لنا صورة معبّرة ومجسّدة لهذه اللحظات حيث يقول سبحانه:

«فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ» ولا تستطيعون عمل شي ء من أجله.

والمخاطبون هنا هم أقارب المحتضر الذين ينظرون إلى حالته في ساعة الاحتضار من جهة، ويلاحظون ضعفه وعجزه من جهة ثانية، وتتجلّى لهم قدرة اللَّه تعالى على كل شي ء، حيث إنّ الموت والحياة بيده، وأنّهم- أي أقاربه- سيلاقون نفس المصير.

ثم يضيف سبحانه: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلكِن لَّاتُبْصِرُونَ».

نعم، نحن الذين نعلم بصورة جيّدة ما الذي يجول في خواطر المحتضر؟ وما هي الإزعاجات التي تعتريه؟ نحن الذين أصدرنا أمرنا بقبض روحه في وقت معيّن، إنّكم تلاحظون ظاهر حاله فقط، ولا تعلمون كيفية إنتقال روحه من هذه الدار إلى الدار الآخرة.

ثم للتأكيد الأشد في توضيح هذه الحقيقة يضيف تعالى: «فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إنّ ضعفكم هذا دليل أيضاً على أنّ مالك الموت والحياة واحد، وأنّ الجزاء بيده، وهو الذي يحي ويميت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 87

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحَانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ

الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) مصير الصالحين والطالحين: هذه الآيات نوع من الخلاصة للآيات الاولى والأخيرة من هذه السورة، كما أنّها تجسّد حالة التفاوت بين البشر في حالة الاحتضار، وكيف أنّ قسماً منهم يلفظون أنفاسهم بهدوء وراحة في تلك اللحظات الصعبة، وآخرين تلوح لهم من بعيد النار الحامية، ويسيطر عليهم الخوف والاضطراب والهلع فيلفظون أنفاسهم بصعوبة بالغة.

يقول سبحانه في البداية: «فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ».

«روح»: على وزن (قول) في الأصل بمعنى التنفّس؛ و «الريحان»: بمعنى النبات أو الشي ء ذي العطر، ثم اصطلح على كل شي ء باعث للحياة والراحة، كما أنّ الريحان يطلق على كل نعمة ورزق كريم. وبناءً على هذا فإنّ الروح إشارة إلى كل الامور التي تخلّص الإنسان من الصعوبات ليتنفّس براحة، وأمّا الريحان فإنّه إشارة إلى الهبات والنعم التي تعود إلى الإنسان بعد إزالة العوائق.

والجدير بالملاحظة أنّ الحديث عن «جنّة النعيم» جاء بعد ذكر الروح والريحان وقد يستفاد من هذا أنّ الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في الإحتضار والقبر والبرزخ، وأمّا الجنة ففي الآخرة. في الأمالي للصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال: « «فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ» يعني في قبره، وجنّة نعيم يعني في الآخرة».

ثم يضيف سبحانه: «وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ». وهم تلك الثلّة الصالحة من الرجال والنساء الذين يستلمون صحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى كعلامة للفوز والنصر والنجاح «فَسَلمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ».

وبهذا الترتيب فإنّ ملائكة اللَّه المختصّين بقبض الروح في لحظات الإنتقال من هذه الدنيا يوصلون سلام أصحاب اليمين إلى المحتضر. كما قال تعالى- في الآية (26) من نفس السورة- في وصف أهل الجنة

وكلامهم: «إِلَّا قِيلًا سَلمًا سَلمًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 88

ثم تستعرض الآيات الكريمة القسم الثالث الذين مرّ ذكرهم في أوائل هذه السورة عبر التصنيف الذي ذكر واصطلح عليهم ب (أصحاب الشمال)، حيث يقول تعالى: «وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ».

نعم، إنّهم على مشارف الموت حيث يذوقون أوّل عذاب إلهي، ويتجرّعون مرارة عقاب يوم القيامة في القبر والبرزخ.

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ قسماً من الأشخاص الضالين من فصيلة الأفراد المستضعفين أو الجهلة القاصرين الذين ليس لديهم إصرار وعناد على الباطل، يمكن أن تشملهم الألطاف الإلهية، أمّا المكذبون المعاندون فإنّهم سيبتلون بالمصير البائس والعاقبة السيّئة التي تقدّم ذكرها.

وفي نهاية هذا الحديث يضيف سبحانه: «إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

إنّ التعبير ب (فسبّح)- الفاء تفريعية- هو إشارة إلى أنّ ما قيل حول الأقسام الثلاثة هو عين العدالة، وبناءً على هذا اعتبر (ربّك) منزّهاً من كل ظلم، وإذا ما اريد الإبتعاد عن مصير أصحاب الشمال فعلينا أن نتنزّه من كل شرك وظلم المتلازمان مع إنكار القيامة.

وفي الدرّ المنثور: لما نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ» قال: «اجعلوها في ركوعكم». ولما نزلت «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى» قال: «اجعلوها في سجودكم».

«نهاية تفسير سورة الواقعة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 89

57. سورة الحديد

محتوى السورة: نستطيع أن نقسّم موضوعات هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- الآيات الاولى من هذه السورة لها بحث جامع حول التوحيد وصفات اللَّه تعالى.

2- يتحدث عن عظمة القرآن، هذا النور الإلهي الذي أشرق في ظلمات الشرك.

3- يستعرض وضع المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، وبهذا تعكس السورة في أبحاثها الاصول الإسلامية الثلاثة: التوحيد والنبوّة والمعاد.

4- تتحدث الآيات

فيه عن الدعوى إلى الإيمان والخروج من الشرك، وعن مصير الأقوام الضالة من الامم السابقة.

5- جزء مهم من هذه السورة يتحدث حول الإنفاق في سبيل اللَّه، وخصوصاً في تقوية اسس الجهاد في سبيل اللَّه، وأنّ مال الدنيا ليس له وزن وقيمة.

6- في قسم قصير من الآيات- إلّاأنّه وافٍ ومستدلّ- يأتي الحديث عن العدالة الاجتماعية والتي هي إحدى الأهداف الأساسية للأنبياء.

7- وفيه تتحدث الآيات عن سلبية الرهبانية والإنزواء الاجتماعي وأنّ ذلك يمثّل إبتعاداً عن الخط الإسلامي.

إنّ تسمية السورة ب (الحديد) هو لما جاء في الآية (25) من ذكر كلمة الحديد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 90

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) فضيلة تلاوة السورة: وردت في الروايات الإسلامية نقاط جديرة بالملاحظة حول فضيلة تلاوة سورة الحديد، ومما لا شك فيه أنّ المقصود في التلاوة هي تلاوة التدبر والتفكر الذي يكون توأماً مع العمل.

في الدرّ المنثور عن عرباض بن سارية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال: «إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية».

وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ المسبحات كلها قبل أن ينام، لم يمت حتى يرى القائم عليه السلام، وإن مات كان في جوار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

آيات للمتفكّرين: إنّ هذه السورة بدأت بقسم التوحيد، الذي يشتمل على عشرين صفة من صفات اللَّه سبحانه، تلك الصفات التي بمعرفتها يصل الإنسان إلى مستوى عال من المعرفة الإنسانية باللَّه، وتعمّق

معرفته بذاته المقدسة، وهذه الأوصاف والتي تشير إلى جانب من صفات جلاله وجماله، كلما تعمق العلماء وأهل الفكر فيها توصّلوا إلى حقائق جديدة عن الذات الإلهية المقدسة.

في الكافي: عندما سئل الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد فقال: «إنّ اللَّه عزّ وجل علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل اللَّه تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، والآيات من سورة الحديد إلى قوله: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» فمن رام وراء ذلك فقد هلك».

إنّ أوّل آية من هذه السورة بدأت بتسبيح وتنزيه اللَّه عزّ وجل حيث يقول سبحانه:

«سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

وبعد ذكر صفتين من صفات الذات الإلهية يعني (العزة والحكمة) يتطرق إلى (مالكيته وتدبيره، وقدرته في عالم الوجود) والتي هي من مستلزمات القدرة والحكمة، حيث يقول تعالى: «لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 91

إنّ مالكية اللَّه عزّ وجل لعالم الوجود ليست مالكية اعتبارية وتشريعية، إذ أنّها مالكية حقيقية وتكوينية. وهذا يعني أنّ اللَّه سبحانه محيط بكل شي ء، وأنّ جميع العالم في قبضته وقدرته وتحت إرادته وأوامره، لذا فقد جاء الحديث بعد هذا الكلام عن (الإحياء والإفناء) والقدرة على كل شي ء.

الاختلاف بين «العزّة» و «القدرة» هو أنّ العزّة أكثر دلالة على تحطيم المقابل والقدرة تعني توفير الأسباب وإيجادها. وبناءً على هذا فإنّهما يعدّان وصفين مختلفين بالرغم من أنّهما مشتركان في أصل القدرة (يرجى ملاحظة ذلك).

ثم يتطرق سبحانه إلى ذكر خمس صفات اخرى حيث يقول: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

الوصف هنا ب «الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ» تعبير رائع عن أزليته وأبديته تعالى، لأنّنا نعلم أنّه وجود لا متناهي وأنّه (واجب الوجود) أي أنّ وجوده من

نفس ذاته، وليس خارجاً عنه حتى تكون له بداية ونهاية، وبناءً على هذا فإنّه كان من الأزل وسيبقى إلى الأبد.

إنّه بداية عالم الوجود، وهو الذي سيبقى بعد فناء العالم أيضاً. وبناءً على هذا فإنّ التعبير ب «الْأَوَّلُ وَالْأَخِرُ» ليس له زمان خاصّ أبداً، وليس فيه إشارة إلى مدّة زمنية معينة.

والوصف ب «الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ» هو تعبير آخر عن الإحاطة الوجودية- أي وجود اللَّه- بالنسبة لجميع الموجودات، أي إنّه أظهر من كل شي ء لأنّ آثاره شملت جميع مخلوقاته في كل مكان، وهو خفي أكثر من كل شي ء أيضاً لأنّ كنه ذاته لم يتّضح لأحد.

فإنّ أحد نتائج هذه الصفات المتقدمة هو ما جاء في نهاية الآية الكريمة: «وَهُوَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». إذ إنّ من كان في البداية ويبقى في النهاية، وموجود في ظاهر وباطن العالم ...

سيكون عالماً بكل شي ء قطعاً.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 92

على عرش القدرة دائماً: تحدثت الآيات السابقة عن إحدى عشرة صفة للذات الإلهية المقدسة، وتبيّن الآيات أعلاه أوصافاً اخرى حيث اشير في الآية الاولى مورد البحث إلى خمسة أوصاف اخرى من صفات جلاله وجماله. ويبدأ الحديث عن مسألة الخلقة حيث يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ».

لقد ذكرت مسألة الخلقة في (ستّة أيام) سبع مرّات

في القرآن الكريم، المرّة الاولى في الآية (54) من سورة الأعراف، والأخيرة هي هذه الآية مورد البحث (الحديد/ 4).

فإنّ المقصود من (اليوم) في هذه الآيات ليس المعنى المتعارف (لليوم)، بل المقصود هو (الزمان) سواء كان هذا الزمان قصيراً أو طويلًا حتى لو بلغ ملايين السنين.

ثم تتطرق الآيات إلى مسألة الحكومة وتدبير العالم حيث يقول سبحانه: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».

إنّ زمام حكومة وتدبير العالم كانت دائماً بيده ولا زالت، وبدون شك فإنّ اللَّه تعالى ليس جسماً، ولذا فليس معنى «العرش» هنا هو عرش السلطة، والتعبير كناية لطيفة عن الحاكمية المطلقة للَّه سبحانه ونفوذ تدبيره في عالم الوجود.

ثم يستعرض نوعاً آخر من علمه اللا متناهي بقوله تعالى: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا».

وفي رابع وخامس صفة له سبحانه يركّز حول نقطة مهمة حيث يقول: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

وكيف لا يكون معنا في الوقت الذي نعتمد عليه، ليس في إيجادنا فحسب، بل في البقاء لحظة بلحظة- أيضاً- ونستمدّ منه العون، إنّه روح عالم الوجود.

الحقيقة أنّ الاحساس بأنّ اللَّه معنا في كل مكان يعطي للإنسان عظمة وجلالًا من جهة، ومن جهة اخرى يخلق فيه إعتماداً على النفس وشجاعة وشهامة، ومن جهة ثالثة فإنّه يثير إحساساً شديداً بالمسؤولية، لأنّ اللَّه حاضر معنا في كل مكان، وناظر ومراقب لأعمالنا، وهذا أكبر درس تربوي لنا. وهذا الاعتقاد يمثّل دافعاً جدّياً للتقوى والطهارة والعمل الصالح في الإنسان، ويعتبر رمز عظمته وعزّته.

وبعد مسألة الحاكمية والتدبير يأتي الحديث عن مسألة مالكيته سبحانه في كل عالم الوجود، حيث يقول: «لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 93

وأخيراً يشير إلى مسألة مرجعيته فيقول تعالى:

«وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».

نعم، عندما يكون الخالق والمالك والمدبر معنا في كل مكان، فمن البديهي أن يكون رجوعنا ورجوع أعمالنا إليه كذلك.

وفي آخر آية مورد للبحث يشير إلى صفتين اخريين بقوله تعالى: «يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

بالتدريج ينقص أحد الوقتين (الليل والنهار) ليضيف للآخر، وتبعاً لذلك يتغير طول النهار والليل في السنة، وهذا التغير يكون مصحوباً بالفصول الأربعة في السنة مع كل البركات التي تكون مختصة في هذه الفصول لبني الإنسان.

وتفسير آخر لهذه الآية هو: إنّ شروق وغروب الشمس لن يحدثا فجأة ودون مقدّمات، بل يتمّ هذا التغيير بصورة تدريجية حتى يتهيّأ الجميع لذلك.

ويضيف سبحانه في النهاية: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

فكما أنّ أشعة الشمس الباعثة للحياة تنفذ في أعماق ظلمات الليل، وتضي ء كل مكان، فإنّ اللَّه عزّ وجل ينفذ كذلك في كل زوايا قلب وروح الإنسان، ويطّلع على كل أسراره.

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ مَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَ مَا لَكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قَاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) الإيمان والإنفاق أساسان للنجاة: بعد البيان الذي

تقدم حول دلائل عظمة اللَّه في عالم الوجود وأوصاف جماله وجلاله، تلك الصفات المحفّزة للحركة باتّجاه اللَّه تعالى، ننتقل الآن إلى جوّ هذه الآيات المفعم بالدعوة للإيمان والعمل ...

مختصر الامثل، ج 5، ص: 94

يقول سبحانه في البداية: «ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».

إنّ هذه الدعوة دعوة عامة لجميع البشر، فهي تدعو المؤمنين إلى إيمان أكمل وأرسخ، وتدعو- أيضاً- غير المؤمنين إلى التصديق والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله، وهذه الدعوة إلى الإيمان جاءت توأماً مع أدلة التوحيد التي تناولتها الآيات التوحيدية السابقة.

ثم يدعو إلى أحد الالتزامات المهمة للإيمان وهي: (الإنفاق في سبيل اللَّه) حيث يقول تعالى: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

إنّ للإنفاق مفهوماً واسعاً ولا ينحصر بالمال فقط، بل يشمل- أيضاً- العلم والهداية والسمعة الاجتماعية ورؤوس الأموال المعنوية والمادية.

ثم يقول تعالى في الحثّ على الإنفاق: «فَالَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفِقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ».

إنّ وصف الأجر بأنّه «كبير» إشارة إلى عظمة الألطاف الإلهية والهبات الإلهية، وأبديتها وخلوصها ودوامها ليس في الآخرة فحسب، بل في عالم الدنيا أيضاً حيث إنّ قسماً من الأجر سوف يكون من نصيب الإنسان في الدنيا.

وبعد الأمر بالإيمان والإنفاق يعطي بياناً لكل منهما، وهو بمثابة الاستدلال والبرهان، وذلك بصورة استفهام توبيخي ابتداءاً، حيث يستفسر عن علة عدم قبول دعوة الرسول صلى الله عليه و آله حول الإيمان باللَّه فيقول سبحانه: «وَمَا لَكُمْ لَاتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

يعني أنّكم إذا كنتم مستعدّين حقيقة وصدقاً لقبول الحق، فإنّ دلائله واضحة عن طريق الفطرة والعقل، وكذلك عن طريق النقل.

وجاءت الآية اللاحقة لتأكيد وتوضيح نفس هذا المعنى حيث تقول: «هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ

وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

إنّ كلمة (رؤوف) جاءت هنا إشارة إلى محبته ولطفه الخاص بالنسبة إلى المطيعين، في حين أنّ كلمة (رحيم) إشارة إلى رحمته بخصوص العاصين.

ثم يأتي استدلال آخر على ضرورة الإنفاق حيث يقول تعالى: «وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». أي أنّكم سترحلون عن هذه الدنيا وتتركون كل ما منحكم اللَّه فيها، وتذهبون إلى عالم آخر، فلماذا لا تستفيدون من هذه الأموال التي جعلها اللَّه تحت تصرفكم بتنفيذ أمره بالإنفاق.

ولأنّ للإنفاق قيماً مختلفة وأحوالًا متفاوتة الشرائط والظروف، يضيف يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 95

سبحانه: «لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ». أي أنّ الذين بذلوا المال والنفس في الظروف الحرجة مفضّلون على الذين ساعدوا الإسلام بعد سكون الموج وهدوء العاصفة. لذلك وللتأكيد أكثر يضيف تعالى: «أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا».

وبما أنّ القسمين (الإنفاق والجهاد) مشمولان بعناية الحق تعالى مع اختلاف الدرجة، فيضيف في النهاية: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .

وهذا تقدير لعموم الأشخاص الذين ساهموا

في هذا الطريق.

وكلمة (حسنى) لها مفهوم واسع، حيث تشمل كل ثواب وجزاء وخير في الدنيا والآخرة.

ولكون قيمة العمل بإخلاصه للَّه سبحانه فيضيف في نهاية الآية: «وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

نعم، إنّه يعلم بكيفية وكميّة أعمالكم. وكذلك نيّاتكم ومقدار خلوصكم، ولغرض الحثّ على ضرورة الإنفاق في سبيل اللَّه، ومن خلال تعبير رائع يؤكّد سبحانه ذلك في الآية مورد البحث بقوله: «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا». فينفق مما آتاه اللَّه في سبيل اللَّه «فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ».

والمراد من الإقراض للَّه تعالى هو كل إنفاق في سبيله، وأحد مصاديقه المهمة الدعم الذي يقدّم للرسول صلى الله عليه و آله وأئمة المسلمين من بعده، كي يستعمل في الموارد اللازمة لإدارة الحكومة الإسلامية. لذا نقل في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه لم يسأل خلقه مما في أيديهم قرضاً من حاجة به إلى ذلك، وما كان للَّه من حق فإنّما هو لوليّه».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 96

لقد بشّر اللَّه المنفقين في آخر آية من الآيات السابقة بالأجر الكريم، واستمراراً للبحث فالآيات أعلاه تتحدث عن هذا الأجر، وتبيّن مدى قيمته وعظمته في اليوم الآخر. يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم».

والمقصود من النور- في الواقع- تجسيم نور الإيمان، لأنّ في ذلك اليوم تتجسّد أعمال البشر، فيتجسّد الإيمان الذي هو نور هدايتهم بصورة نور ظاهري، ويتجسّد الكفر الذي هو الظلام المطلق بصورة ظلمة ظاهرية.

وهنا يصدر هذا النداء الملائكي بإحترام للمؤمنين: «بُشْرَيكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

أمّا المنافقون الذين سلكوا طريق الظلام والكفر والذنوب والمعصية، فإنّ صراخهم يعلو في مثل تلك الساعة ويلتمسون من المؤمنين شيئاً من النور، لكنّهم يواجهون

بالردّ والنفي، كما في قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءامَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ».

ويأتي الجواب على طلبهم بقوله تعالى: «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا».

كان من الممكن أن تحصلوا على النور من الدنيا التي تركتموها وراءكم، وذلك بإيمانكم وأعمالكم الصالحة، إلّاأنّ الوقت انتهى، وفاتت الفرصة عليكم ولا أمل هنا في حصولكم على النور.

«فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ». وهذا الباب أو هذا الجدار من نوع خاص وأمره فريد، حيث إنّ كلًا من طرفيه مختلف عن الآخر تماماً، حيث: «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ».

ويمكن أن يكون هذا الباب من أجل أن يرى المنافقون من خلاله نعم الجنة ويتحسّرون عليها، أو أنّ من كان قليل التلوّث بالذنوب وقد نال جزاءه من العذاب بإمكانه أن يدخل منها ويكون مع المؤمنين في نعيمهم.

غير أنّ هذا الحائط ليس من النوع الذي يمنع عبور الصوت حيث يضيف سبحانه: أنّ المنافقين «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ». لقد كنّا نعيش معكم في هذه الدنيا فما الذي حدث وإنفصلتم عنّا وذهبتم إلى الروح والرحمة الإلهية وتركتمونا في قبضة العذاب؟

«قَالُوا بَلَى . كنّا معكم في أماكن كثيرة في الأزقّة والأسواق، في السفر والحضر، وكنّا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 97

أحياناً جيراناً أو في بيت واحد ... نعم كنّا معاً، إلّاأنّ اختلافاتنا في العقيدة والعمل كانت هي الفواصل بيننا، لقد كنتم تسيرون في خطّ منفصل عن خطّنا وكنتم غرباء عن اللَّه في الاصول والفروع، لذا فأنتم بعيدون عنّا، ثم يضيفون: لقد إبتليتم بخطايا وذنوب كثيرة من جملتها:

1- «وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ» وخدعتموها بسلوك طريق الكفر والضلال.

2- «وَتَرَبَّصْتُمْ» وانتظرتم موت النبي وهلاك المسلمين وإنهدام أساس الإسلام، بالإضافة إلى التهرّب من إنجاز كل عمل إيجابي وكل حركة صحيحة، حيث تتعلّلون

وتماطلون وتسوّفون إنجازها.

3- «وَارْتَبْتُمْ» في المعاد وحقّانية دعوة النبي والقرآن ..

4- وخدعتكم الآمال «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ».

هذه الأماني لم تعطكم مجالًا- حتى لحظة واحدة- للتفكر الصحيح، لقد كنتم مغمورين في تصوراتكم وتعيشون في عالم الوهم والخيال، واستولت عليكم امنية الوصول إلى الشهوات والأهداف المادية.

5- «وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». إنّ الشيطان غرّكم بوساوسه في مقابل وعد اللَّه عزّ وجل، فتارةً صوّر لكم الدنيا خالدة باقية واخرى صوّر لكم القيامة بعيدة الوقوع، وفي بعض الأحيان غرّكم بلطف اللَّه والرحمة الإلهية، وأحياناً جعلكم تشكّون في أصل وجود اللَّه العظيم الخالق.

وأخيراً فإنّ المؤمنين- بلحاظ ما تقدّم- يخاطبون المنافقين بقولهم: «فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا». وبهذا الترتيب يواجه المنافقون نفس مصير الكفار أيضاً، وكلّهم رهينة ذنوبهم وأعمالهم القبيحة، ولا يوجد لهم أي طريق للخلاص.

ثم يضيف سبحانه: «مَأْوَيكُمُ النَّارُ هِىَ مَوْلكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

الإنسان- عادةً- لكي ينجو من العقوبة المتوقعة في الدنيا، يتوسل للخلاص منها إمّا بالغرامة المالية أو طلب العون والمساعدة من قوّة شفيعة، إلّاأنّه في يوم القيامة تنقطع كل الأسباب والوسائل المادية المتعارف عليها في هذا العالم للوصول إلى المقاصد المرجوة.

وبهذه الصورة يوضّح القرآن الكريم أنّ الوسيلة الوحيدة للنجاة في ذلك اليوم هي الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، حتى أنّ دائرة الشفاعة محدودة للأشخاص الذين خلطوا عملًا صالحاً وآخر سيّئاً وليسوا من الغرباء مطلقاً عن الإيمان والذين قطعوا إرتباطهم بصورة كلية من اللَّه وأوليائه وعصوا أوامره.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 98

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقَاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)

سبب النزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ الآية الاولى نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإنّ فيها العجائب. فنزلت «الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ» إلى قوله «لَمِنَ الْغَافِلِينَ» «1» فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص وأنفع لهم من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء اللَّه. ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك، فنزلت آية «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا» «2» فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء اللَّه. ثم عادوا فسألوا سلمان، فنزلت هذه الآية.

التّفسير

إلى متى هذه الغفلة: بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة، وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة، جاءت الآية الاولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كلية من ذلك، فتقول: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «3».

«تخشع»: من مادة «خشوع» بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي، حيث تنتاب الإنسان هذه الحالة- عادةً- مقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة.

______________________________

(1) سورة يوسف/ 1- 3.

(2) سورة الزمر/ 23.

(3) «يأن»: من مادة إنا، على وزن (ندا) ومن مادة (أناء) على وزن جفاء بمعنى الإقتراب وحضور وقت الشي ء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 99

ومن الواضح أنّ ذكر اللَّه عزّ وجل إذا دخل أعماق روح الإنسان، وسمع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع، والقرآن الكريم هنا يلوم بشدة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم

أمام هذه الامور، لأنّه قد إبتلي كثير من الامم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل.

وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان.

إنّ آية: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...» من الآيات المثيرة في القرآن الكريم، حيث تليّن القلب، وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة. لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم اللَّه إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة، وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها، ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها، حتى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد. مختصر الامثل ج 5 119

ولأنّ إحياء القلوب الميتة لا يكون إلّابالذكر الإلهي، الحياة الروحية التي لن تكون إلّا بظل الخشوع والخضوع وخاصة في أجواء القرآن الكريم ... لذا فإنّ القرآن يشبّه عملية إحياء القلوب الميتة بإحياء الأراضي الميتة، فكما أنّ هذه تحيا ببركة نزول الأمطار كذلك فإنّ القلوب تحيا بذكر اللَّه سبحانه ... حيث يضيف سبحانه في الآية اللاحقة: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْأَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

هذه الآية تشير إلى إحياء الأراضي بوسيلة المطر، كذلك فإنّ إحياء القلوب الميتة يكون بواسطة ذكر اللَّه وقراءة القرآن المجيد الذي نزل من سماء الوحي على القلب الطاهر للنّبي محمّد صلى الله عليه و آله وكلاهما جديران بالتدبر والتعقل.

ويرجع مرّة اخرى في الآية اللاحقة إلى مسألة الإنفاق، والتي هي إحدى ثمار شجرة الإيمان والخشوع، حيث يتكرر نفس التعبير الذي قرأناه في الآيات السابقة مع إضافة، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ».

إنّ المقصود من القرض الحسن للَّه في هذه الآيات

والآيات المشابهة هو الإنفاق في سبيل اللَّه، بالرغم من أنّ القرض لعباد اللَّه هو من أفضل الأعمال أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 100

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَانٌ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) استمراراً للبحث الذي تناولته الآيات السابقة في بيان حال المؤمنين وأجرهم عند اللَّه تعالى، تضيف الآيات التالية بهذا الصدد قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ».

«الصدّيق»: صيغة مبالغة من «الصدق» بمعنى الشخص الذي يستوعب الصدق جميع وجوده، حيث يصدّق عمله قوله، وهو النموذج التام للصدق.

«شهداء»: جمع «شهيد» بمعنى الحضور مع المشاهدة. إلّاأنّ المراد من (الشهداء) في الآية مورد البحث قد يكون الشهادة على الأعمال، كما يستفاد من الآيات القرآنية الاخرى، فالأنبياء شهداء على أعمال اممهم، ورسول الإسلام شاهد عليهم وعلى الامة الإسلامية، والمسلمون أيضاً شهداء على أعمال الناس.

واحتمل البعض أنّ (شهداء) هنا هو الشهداء في سبيل اللَّه، أي الأشخاص المؤمنون الذين لهم أجر وثواب الشهادة، يحسبون بمنزلة الشهداء.

ثم يضيف تعالى: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ».

إنّ هذا التعبير المختصر يشير إلى عظيم الأجر والنور الذي ينتظرهم.

وفي النهاية يضيف تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ».

وذلك كي تتوضّح بهذه المقارنة والنتيجة التي آلت إليها المجموعتان، والتي تتدرّج بين القمّة والقاع، حيث إنّ القسم الأوّل في المقام

العالي من دار الخلد، والقسم الثاني في الدرك الأسفل من النار يندبون سوء حظّهم وإنحطاط مصيرهم.

وبما أنّ المجموعة الاولى كانت في أعلى مستويات الإيمان، ففي المقابل أيضاً ذكرت الآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 101

أيضاً الكفر بأسوأ صوره في الجماعة الثانية المقارن للتكذيب بآيات اللَّه.

ولأنّ حبّ الدنيا مصدر كل رذيلة، ورأس كل خطيئة، فالآية اللاحقة ترسم بوضوح وضع الحياة الدنيا والمراحل المختلفة والمحفّزات والظروف والأجواء التي تحكم كل مرحلة من هذه المراحل، حيث يقول سبحانه: «اعْلَمُوا إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلدِ».

وبهذه الصورة فإنّ «الغفلة» و «اللهو» و «الزينة» و «التفاخر» و «التكاثر» تشكّل المراحل الخمس لعمر الإنسان.

ويذكر سبحانه مثالًا لبداية ونهاية الحياة ويجسّد الدنيا أمام أعين الناس بهذه الصورة حيث يقول سبحانه: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَيهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا» «1».

«كفّار» هنا ليس بمعنى الأشخاص غير المؤمنين، ولكن بمعنى «الزرّاع» لأنّ أصل الكفر هو التغطية، وبما أنّ الزارع عندما ينثر البذور يغطّيها بالتراب، فقد قيل له كافر.

«حطام»: من مادة «حطم» بمعنى التكسير والتفتيت، ويطلق على الأجزاء المتناثرة للتبن (حطام) وهي التي تأخذها الرياح باتّجاهات مختلفة.

إنّ المراحل التي يمرّ بها الإنسان مدّة سبعين سنة أو أكثر تظهر في النبات بعدّة أشهر، ويستطيع الإنسان أن يسكن بجوار المزرعة ويراقب بداية ونهاية العمر في وقت قصير.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى حصيلة العمر ونتيجته النهائية حيث يقول سبحانه: «وَفِى الْأَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ».

وأخيراً تنهي الآية حديثها بهذه الجملة: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ».

«غرور»: في الأصل من مادة «غَرّ» بمعنى الأثر الظاهر للشي ء، ويقال (غُرّة) للأثر الظاهر في جبهة الحصان، ثم اطلقت الكلمة على حالة الغفلة، حيث

إنّ ظاهر الإنسان واعٍ، ولكنّه غافل في الحقيقة، وتستعمل أيضاً بمعنى الخدعة والحيلة.

«المتاع»: بمعنى كل نوع ووسيلة يستفاد منها، وبناءً على هذا فإنّ جملة (الدنيا متاع الغرور) كما جاءت في قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». تعني أنّها وسيلة

______________________________

(1) «يهيج»: من مادة «هيجان» جاءت هنا بمعنيين الأوّل: جفاف النبات، والآخر: التحرّك والحيوية، وقد يرجع هذان المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات عند جفافه يكون مهيّأ للإندثار والإنتشار بحركة الرياح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 102

وأداة للحيلة والخدعة للفرد وللآخرين. وطبيعي أنّ هذا المعنى وارد في الأشخاص الذين يعتبرون الدنيا هدفهم النهائي، وتكون منتهى غاياتهم، ولكن إذا كانت الهبات المادية في هذا العالم وسيلة للوصول بالإنسان للسعادة الأبدية، فذلك لا يعدّ من الدنيا، بل ستكون جسراً وقنطرة ومزرعة للآخرة التي ستتحقّق فيها تلك الأهداف الكبيرة حقّاً.

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَ لَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) المسابقة المعنوية الكبرى: بعد ما بيّنت الآيات السابقة قيمة هذه الدنيا المتواضعة الفانية، وكيف أنّ الناس فيها منهمكون في اللذات والتكاثر والتفاخر وجمع الأموال ... تأتي الآيات مورد البحث لتدعو الناس إلى العمل للحصول على موقع في الدار الآخرة، ذلك الموقع المتّسم بالثبات والبقاء والخلود،

وتدعوهم إلى السباق في هذا المجال وبذل الجهد فيه، حيث يقول سبحانه: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ».

وفي الحقيقة أنّ مغفرة اللَّه هي مفتاح الجنة، تلك الجنة التي عرضها السماوات والأرض وقد اعدّت من الآن لضيافة المؤمنين، حتى لا يقول أحد إنّ الجنة نسيئة ودَين ولا أمل في النسيئة.

وممّا ينبغي ملاحظته أنّ المسارعة لمغفرة اللَّه لابدّ أن تكون عن طريق أسبابها كالتوبة والتعويض عن الطاعات الفائتة، وأساساً فإنّ طاعة اللَّه عزّ وجل يعني تجنّب المعاصي.

ويضيف تعالى في نهاية الآية: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 103

ومن المؤكّد أنّ جنّة بذلك الإتّساع وبهذه النعم، ليس من السهل للإنسان أن يصل إليها بأعماله المحدودة، لذا فإنّ الفضل واللطف والرحمة الإلهية- فقط- هي التي تستطيع أن تمنحه ذلك الجزاء العظيم في مقابل اليسير من أعماله، إذ إنّ الجزاء الإلهي لا يكون دائماً بمقياس العمل، بل إنّه بمقياس الكرم الإلهي.

ولمزيد من التأكيد على عدم التعلق بالدنيا، وعدم الفرح والغرور عند إقبالها، أو الحزن عند إدبارها، يضيف سبحانه: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

إنّ المصائب التي تحدث في الطبيعة كالزلازل والسيول والفيضانات والآفات المختلفة، وكذلك المصائب التي تقع على البشر كالموت وأنواع الحوادث المؤلمة التي تشمل الإنسان، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.

والجدير بالإنتباه أنّ المصائب المشار إليها في الآية هي المصائب التي لا يمكن التخلّص منها، وتكون مقدّرة وحتمية وغير قابلة للإجتناب، وليست ناتجة عن أعمال الإنسان. وإلّا فإنّ المصائب والمصاعب التي تكون بسبب ذنوب الإنسان

وتسامحه في الطاعات والالتزامات الإلهية، فإنّ لمواجهتها لابدّ من وضع برنامج صحيح في حياة الإنسان.

والمقصود من «اللوح المحفوظ» هو: العلم اللا متناهي للَّه سبحانه، أو صحيفة عالم الخلقة ونظام العلّة والمعلول، والتي هي مصداق العلم الفعلي للَّه سبحانه.

ولنلاحظ الآن ما هي فلسفة تقدير المصائب في اللوح المحفوظ، ومن ثم بيان هذه الحقيقة في القرآن الكريم؟

الآية اللاحقة تزيح هذا الحجاب عن هذا السرّ المهم حيث يقول تعالى: «لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ».

هاتان الجملتان تحلّان- في الحقيقة- إحدى المسائل المعقّدة لفلسفة الخلقة، لأنّ الإنسان يواجه دائماً مشاكل وصعوبات وحوادث مؤسفة في عالم الوجود، ويسأل دائماً نفسه هذا السؤال وهو: رغم أنّ اللَّه رحمن رحيم وكريم ..، فلماذا هذه الحوادث المؤلمة؟!

ويجيب سبحانه أنّ هدف ذلك هو: ألا تأسركم مغريات هذه الدنيا وتنشدّوا إليها وتغفلوا عن أمر الآخرة ... كما ورد في الآية أعلاه.

هذه المصائب هي إنذار للغافلين وسوط على الأرواح التي تعيش الغفلة والسبات، ودلالة على قصر عمر الدنيا وعدم خلودها وبقائها.

إنّ هذه المصائب تكسر حدّة الغرور والتفاخر وحيث يقول سبحانه في نهاية الآية:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 104

«وَاللَّهُ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ». «مختال»: من مادة «خيال» بمعنى متكبر، لأنّ التكبر من التخيّل، أي من تخيّل الإنسان الفضل لنفسه، وتصوره أنّه أعلى من الآخرين؛ و «فخور»: صيغة مبالغة من مادة «فخر» بمعنى الشخص الذي يفتخر كثيراً على الآخرين.

والشخص الوحيد الذي يبتلى بهذه الحالات هو المغرور الذي أسكرته النعم، وهذه المصائب والآفات بإمكانها أن توقظه عن هذا السكر والغفلة وتهديه إلى سير التكامل.

ومن ملاحظة ما تقدم أعلاه فإنّ المؤمنين عندما يرزقون النعم من قبل اللَّه سبحانه فإنّهم يعتبرون أنفسهم مؤتمنين عليها، ولا يأسفون على فقدانها وفواتها، ولا يغفلون

ويسكرون بوجودها.

وفي آخر آية مورد البحث نلاحظ توضيحاً وتفسيراً لما جاء في الآيات السابقة، والذي يوضّح حقيقة الإنسان المختال الفخور حيث يقول عنه تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ».

نعم، إنّ الإنشداد العميق لزخارف الدنيا ينتج التكبر والغرور، ولازم التكبر والغرور هو البخل ودعوة الآخرين للبخل، أمّا البخل فلأنّ التكبر والغرور كثيراً ما يكون بسبب ثراء الإنسان الذي يدفعه إلى أن يحرص عليه، وبالتالي يبخل في إنفاقه، ومن هنا فإنّ لازمة الغرور والتكبر هو البخل.

أمّا دعوة الآخرين إلى البخل، فلأنّ سخاء الآخرين سيفضح غيرهم من البخلاء، هذا أوّلًا، والثاني أنّ البخيل يحبّ البخل، لذا فإنّه يدعو للشي ء الذي يرغب فيه.

ولكي لا يتصور أنّ تأكيد اللَّه سبحانه على الإنفاق وترك البخل، أو كما عبّرت عنه الآيات السابقة ب (القرض للَّه) مصدره إحتياج ذاته المقدسة، فإنّه يقول في نهاية الآية:

«وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

بل نحن كلّنا محتاجون إليه وهو الغني عنّا جميعاً، لأنّ جميع خزائن الوجود عنده وتحت قبضته، ولأنّه جامع لصفات الكمال فإنّه يستحق كل شكر وثناء.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 105

الهدف الأساس من بعثة الأنبياء: ابتدأ اللَّه سبحانه وتعالى عباده بالنعم فكانت رحمته ولطفه ومغفرته، ونعمه الكثيرة التي لا تحصى والتي اشير إليها في الآيات السابقة ... ولأنّ هذه النعم تحتاج إلى تقنين في استعمالها، ونظم وشرائط لنيل نتائجها المرجوّة، لذا فإنّه يحتاج إلى قيادة تقوم بمباشرتها والإشراف عليها وإعطاء التوجيهات الإلهية بشأنها، وهؤلاء القادة يجب أن يكونوا (قادة إلهيين) والآية

مورد البحث- التي تعتبر من أكثر الآيات القرآنية محتوى- تشير إلى هذا المعنى، وتبيّن هدف إرسال الأنبياء ومناهجهم بصورة دقيقة، حيث يقول سبحانه: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ».

وبهذه الصورة فإنّ الأنبياء كانوا مسلّحين بثلاث وسائل وهي: «الدلائل الواضحة»، و «الكتب السماوية»، و «معيار قياس الحق من الباطل» والجيّد من الردي ء. ولا يوجد مانع من أن يكون القرآن (بيّنة) أي معجزة، وهو كذلك كتاب سماوي ومبيّن للأحكام والقوانين، أي أنّ الأبعاد الثلاثة تصبّ في محتوى واحد وهي موجودة في القرآن الكريم.

وعلى كل حال، فإنّ الهدف من تعبئة هؤلاء الرجال العظام بهذه الأسلحة الأساسية، هو إقامة القسط والعدل.

وأنّ هذه الآية تشير إلى أحد الأهداف العديدة لارسال الرسل.

ثم إنّ أي مجتمع إنساني مهما كان مستواه الأخلاقي والاجتماعي والعقائدي والروحي عالياً، فإنّ ذلك لا يمنع من وجود أشخاص يسلكون طريق العتو والطغيان، ويقفون في طريق القسط والعدل، واستمراراً لمنهج الآية هذه يقول سبحانه: «وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ».

إنّ هذه الأسلحة الثلاثة التي وضعت تحت تصرّف الأنبياء هي بهدف أن تكون الأفكار والمفاهيم التي جاء بها الأنبياء فاعلة ومؤثّرة، وتحقّق أهدافها المنشودة، فقد وضع الحديد والبأس الشديد في خدمة رسل اللَّه.

إنّ تعبير (أنزلنا) إشارة إلى الهبات التي تعطى من المقام الأعلى إلى المستوى الأدنى، وهنا حديث لأمير المؤمنين عليه السلام في تفسيره لهذا القسم من الآية حيث قال: «فإنزاله ذلك: خلقه إيّاه» «1».

______________________________

(1) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي 1/ 372.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 106

ثم يشير سبحانه إلى هدف آخر من أهداف ارسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، وخلقه وتسخيره الوسائل المفيدة للإنسان كالحديد مثلًا، حيث يقول تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ».

المقصود من (علم

اللَّه) هنا هو التحقق العيني ليتوضّح من هم الأشخاص الذين يقومون بنصرة اللَّه ومبدئه، ويقومون بالقسط، ومن هم الأشخاص الذين يتخلّفون عن القيام بهذه المسؤولية العظيمة.

ومفهوم هذه الآية يشبه ما ورد في الآية (179) من سورة آل عمران: «مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ».

وبهذه الصورة نلاحظ أنّ المسألة هنا مسألة إختبار وتمحيص واستخراج الصفوة التي استجابت لمسؤوليتها والقيام بواجبها الإلهي، وهذا هو هدف آخر من الأهداف الأساسية في هذا البرنامج.

ومن الطبيعي أنّ المقصود ب (نصرة اللَّه) أنّها نصرة الدين والمبدأ والحاملين وحي الرسالة، وإقامة الحق والقسط ... وإلّا فإنّ اللَّه ليس بحاجة إلى نصرة أحد، بل الكل محتاج إليه.

ولتأكيد هذا المعنى تنتهي الآية بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ».

حيث بإمكانه سبحانه أن يغيّر ما يشاء من العالم، بل يقلبه رأساً على عقب بإشارة واحدة، ويهلك أعداءه، وينصر أولياءه ... وبما أنّ الهدف الأساس له سبحانه هو التربية وتكامل البشر، لذا فقد دعاهم عزّ وجل إلى نصرة مبدأ الحق.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَ إِبْرَاهِيمَ وَ جَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) تعاقب الرسل واحداً بعد الآخر: للقرآن الكريم منهجه المتميز، ومن خصوصياته أنّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 107

بعد بيان سلسلة من الاصول العامة يشير ويذكّر بمصير الأقوام السابقة، لكي يكون ذلك شاهداً وحجّة.

وهنا أيضاً يتجسّد

هذا المنهج، حيث يشير في المقدمة إلى ارسال الرسل مع البينات والكتاب والميزان والدعوة إلى الإيمان بالحق، لنيل مرضاته سبحانه والفوز بالسعادة الأبدية ... ثم يتحدث عن بعض الامم السابقة وأنبيائهم ويعكس هذه الاسس في منهج دعوتهم.

ويبدأ بشيوخ الأنبياء وبداية سلسلة رسل الحق، نوح وإبراهيم عليهما السلام، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ».

ومما يؤسف له أنّ الكثيرين لم يستفيدوا من هذا الميراث العظيم، والنعم الإلهية الفيّاضة، والهبات والألطاف العميمة، حيث يقول عزّ وجل: «فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ».

نعم، لقد بدأت النبوّة بنوح عليه السلام توأماً مع الشريعة والمبدأ، ومن ثم إبراهيم عليه السلام من الأنبياء اولي العزم في إمتداد خطّ الرسالة.

ثم يشير إلى قسم آخر من سلسلة الأنبياء الكرام التي تختتم بعيسى عليه السلام آخر رسول قبل نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله حيث يقول سبحانه: «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا».

حيث حملوا نور الهداية للناس ليضيئوا لهم الطريق، وتعاقبوا في حملها الواحد بعد الآخر، حتى وصل الدور إلى السيّد المسيح: «وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ».

ثم يشير هنا إلى الكتاب السماوي للسيّد المسيح عليه السلام حيث يقول: «وَءَاتَيْنهُ الْإِنجِيلَ».

ويستمرّ متحدّثاً عن خصوصيات أتباعه فيقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً».

وفي تفاوت مصطلحي «الرأفة» و «الرحمة» قالوا: إنّ «الرأفة» تعني الرغبة في دفع الضرر، و «الرحمة» تعني الرغبة في جلب المنفعة. ولهذا تذكر الرأفة قبل الرحمة غالباً، لأنّ قصد الإنسان ابتداءً هو دفع الضرر ومن ثم يفكّر في جلب المنفعة.

ثم يضيف سبحانه: «وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «1».

______________________________

(1) إنّ الرهبانية أخذت من «الرهبة»

التي جاءت بمعنى الخوف من اللَّه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 108

إنّ المستفاد من الآية أعلاه إجمالًا هو أنّ الرهبانية لم تكن في شريعة السيّد المسيح عليه السلام، وأنّ أصحابه ابتدعوها من بعده، وكان ينظر إليها في البداية على أنّها نوع من أنواع الزهد والإبداعات الخيّرة لكثير من السنن الحسنة التي تشيع بين الناس. ولا تتّخذ عنوان التشريع أو الدستور الشرعي، إلّاأنّ هذه السنّة تعرّضت إلى الانحراف- فيما بعد- وتحريف التعاليم الإلهية، بل إقترنت بممارسات قبيحة على مرّ الزمن.

ومن جملة الممارسات القبيحة للمسيحيين في مجال الرهبانية تحريم الزواج للنساء والرجال بالنسبة لمن يتفرّغ (للرهبنة) والإنزواء الاجتماعي، وإهمال كافّة المسؤوليات الإنسانية في المجتمع، والركون إلى الصوامع والأديرة البعيدة، والعيش في محيط منزوٍ عن المجتمع ... بالإضافة إلى جملة من المفاسد التي حصلت في الأديرة ومراكز الرهبان.

وفي أمالي الصدوق رحمه الله عن أنس بن مالك، قال: توفي ابن لعثمان بن مظعون، فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له: «يا عثمان، إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية امّتي الجهاد في سبيل اللَّه».

إنّ الإسلام ندّد للرهبانية بشدّة، حتى أنّ الكثير من المصادر الإسلامية أوردت الحديث المعروف: «لا رهبانية في الإسلام».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال سعيد بن جبير: بعث رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي، يدعوه. فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به. فلمّا كان عند إنصرافه، قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به.

فقدموا مع جعفر. فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقالوا: يا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 109

نبي اللَّه! إنّ لنا أموالًا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا. فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين.

فأنزل اللَّه تعالى فيهم: «الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» إلى قوله «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» «1» فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قوله: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا» فخروا على المسلمين، فقالوا: يا معشر المسلمين! أمّا من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجران، ومن آمن منا بكتابنا، فله أجر كاجوركم، فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ» الآية، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة.

التّفسير

الذين لهم سهمان من الرحمة الإلهية: بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن أهل الكتاب والمسيحيين، فإنّ الآيات مورد البحث مكمّلة لما جاء في الآيات السابقة. يقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ».

إنّ المخاطب في هذه الآية هم جميع المؤمنين الذين قبلوا- بالظاهر- دعوة الرسول صلى الله عليه و آله ولكنّهم لم يؤمنوا بها الإيمان الراسخ الذي يضي ء أعماق النفوس ويتجسّد في أعمالهم وممارساتهم.

وتكملة للآية الكريمة يشير القرآن الكريم إلى ثلاث نعم عظيمة تحصل في ظلّ الإيمان العميق والتقوى، حيث يقول تعالى: «يُؤْتِكُمْ

كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«كفل»: على وزن (طفل) بمعنى الحصّة التي توفّر للإنسان حاجته، ويقال للضامن «كفيل» أيضاً بهذا اللحاظ، حيث يكفل الطرف المقابل ويضمنه بنفسه.

والمقصود من هاتين الحصّتين أو النصيبين هو ما جاء في قوله تعالى: «رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْأَخِرَةِ حَسَنَةً».

وحول القسم الثاني من الجزاء والأجر يقول تعالى: «وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ».

إنّ للآية مفهوماً مطلقاً واسعاً حسب الظاهر ولا يختص بالدنيا فقط ولا بالآخرة فحسب. وبتعبير آخر: فإنّ الإيمان والتقوى هي التي تسبّب زوال الحجب عن قلوب

______________________________

(1) سورة القصص/ 52- 54.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 110

المؤمنين، حيث يتبيّن لهم وجه الحقيقة واضحاً وبدون حجاب، وفي ظلّ الإيمان والتقوى هذين سيكون للإنسان وعي وبصيرة حرم غير المؤمنين منها، لأنّ أكبر حاجز عن المعرفة وأهمّ مانع لها هو الحجاب الذي يغطّي قلب الإنسان، والذي هو هوى النفس والنزعات الذاتية والأماني الفارغة، والآمال البعيدة، والوقوع في أسر المادة ومغريات الدنيا، حيث لا تسمح للإنسان أن يرى الحقائق بصورتها الطبيعية، وبالتالي فإنّ الحكم على الأشياء يكون بعيداً في منطق العقل والصواب.

إلّا أنّ إستقرار الإيمان والتقوى في القلوب يبدّد هذه الحجب ويزيل عتمتها وظلامها عن صفحة القلب.

وفي الآية اللاحقة- والتي هي آخر آيات هذه السورة- بيان ودليل لما جاء في الآية الآنفة الذكر حيث يقول تعالى: «لِّئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْ ءٍ مّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

إنّه جواب لهؤلاء الكتابيين الذين زعم قسم منهم: أنّ لهم أجراً واحداً كبقية المسلمين حينما رفضوا الإيمان بالرسول صلى الله عليه و آله وأمّا الذين آمنوا بالرسول منهم فلهم أجران:

أجر الإيمان بالرسل السابقين، وأجر الإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله، حيث يجيبهم القرآن ويردّ عليهم بأنّ المقصود بالآية هم المسلمون.

فهؤلاء هم الذين لهم أجران، لأنّهم آمنوا جميعاً برسول اللَّه بالإضافة إلى إيمانهم بكل الأنبياء السابقين، أمّا أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول اللَّه فليس لهم أي نصيب أو سهم من الأجر، ذلك ليعلموا أنّ الرحمة الإلهية ليست في اختيارهم حتى يهبوا ما يشاؤون منها وفق مشتهياتهم، ويمنعوها عن الآخرين.

«نهاية تفسير سورة الحديد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 111

58. سورة المجادلة

محتوى السورة: نزلت هذه السورة في المدينة، وانسجاماً مع موضوعات السورة المدنية فإنّها تتحدث في الغالب عن الأحكام الفقهية، ونظام الحياة الاجتماعية، والعلاقات بين المسلمين وغيرهم ... ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام:

1- يتحدث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعاً من الطلاق والانفصال الدائم، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.

الثاني: يتحدث عن مجموعة من التعليمات الخاصة بآداب المجالسة، والتي منها:

«التفسّح» في المجالس ومنع النجوى.

يتعرض إلى بحث وافٍ ومفصل عن المنافقين، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام، إلّاأنّها تتعاون مع أعدائه، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق، ويدعوهم إلى الحب في اللَّه والبغض في اللَّه والإلتحاق بحزب اللَّه.

وقد اشتق اسم هذه السورة (المجادلة) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة المجادلة كتب من حزب اللَّه في يوم القيامة».

في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الحديد والمجادلة في صلاة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 112

فريضة أدمنهما لم يعذّبه اللَّه حين يموت أبداً، ولا يرى في نفسه ولا في أهله سوءاً أبداً، ولا

خصاصة في بدنه».

وحيث إنّ موضوعات هذه السورة تتناسب مع الجزاء المرتقب من اللَّه تعالى، لذلك فإنّ الروايات أعلاه توضّح لنا الهدف من التلاوة من أجل العمل بمحتوياتها.

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه عن الحسن بن محبوب عن أبي ولّاد عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ امرأة من المسلمات أتت النبي صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ فلاناً زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته، لم ير منّي مكروهاً أشكوه إليك. فقال: فيم تشكينه؟ قالت: إنّه قال: أنت عليّ حرام كظهر امّي، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أنزل اللَّه تبارك وتعالى عليّ كتاباً أقضي فيه بينك وبين زوجك، وأنا أكره أن أكون من المتكلّفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى اللَّه عزّ وجل وإلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وانصرفت.

قال:

فسمع اللَّه تبارك وتعالى مجادلتها لرسول اللَّه في زوجها وما شكت إليه وأنزل اللَّه في ذلك قرآناً: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» إلى قوله «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 113

التّفسير

الظهار عمل جاهلي قبيح: بالنظر إلى ما قيل في سبب النزول، وكذلك طبيعة الموضوعات التي وردت في السورة، فإنّ الآيات الاولى منها واضحة في دلالتها حيث يقول سبحانه: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا».

«تجادل»: من المجادلة مأخوذة من مادة «جدل» وتعني في الأصل (فتل الحبل).

ثم يضيف تعالى: «وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا».

«تحاور»: من مادة «حور» بمعنى المراجعة في الحديث أو الفكر.

«إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ». إنّ اللَّه عالم بكل المسموعات والمرئيات، بدون أن يحتاج إلى حواس نظر أو سمع، لأنّه حاضر وناظر في كل مكان، يرى كل شي ء ويسمع كل حديث.

ثم يستعرض تعالى حكم الظهار بجمل مختصرة وحاسمة تقضي بقوة على هذا المفهوم الخرافي حيث يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِن نّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا الِى وَلَدْنَهُمْ».

«الام» و «الولد» ليس بالشي ء الذي تصنعه الألفاظ، بل إنّهما حقيقة واقعية عينية خارجية لا يمكن أن تكون من خلال اللعب بالألفاظ.

ويضيف تعالى مكمّلًا الآية: «وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا» «1».

وتماشياً مع مفهوم هذه الآية فإنّ «الظهار» عمل محرّم ومنكر، ومع أنّ التكاليف الإلهية لا تشمل الممارسات السابقة، إلّاأنّها ملزمة لحظة نزول الحكم، ولابدّ عندئذ من ترتيب الأثر، حيث يضيف اللَّه سبحانه هذه الآية: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌ غَفُورٌ».

وبناءً على هذا فإذا كان المسلم قد إرتكب مثل هذا العمل قبل نزول الآية فلا بأس عليه لأنّ اللَّه سيعفو عنه، وأمّا مسألة الكفارة باقية بقوّتها.

إلّا أنّ مثل هذا العمل القبيح (الظهار) لم

يكن شيئاً يستطيع الإسلام أن يغضّ النظر عنه، لذلك فقد جعل له كفارة ثقيلة نسبيّاً كي يمنع من تكراره، وذلك بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا».

ثم يضيف تعالى: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ».

______________________________

(1) «زور»: في الأصل بمعنى الإنحناء الموجود على الصدر وجاءت أيضاً بمعنى الانحراف، ولأنّ حدود الكذب والباطل منحرفة عن الحق، فيقال له (زور) كما يطلق على الصنم أيضاً بهذا اللحاظ. مختصر الامثل، ج 5، ص: 114

أي يجب ألّا تتصوروا أنّ مثل هذه الكفارة في مقابل الظهار، كفارة ثقيلة وغير متناسبة مع الفعل، إنّ المقصود بذلك هو الموعظة والإيقاظ لنفوسكم، والكفارة عامل مهم في وضع حدّ لمثل هذه الأعمال القبيحة والمحرمة، ومن ثم السيطرة على أنفسكم وأقوالكم.

وأساساً فإنّ جميع الكفارات لها جنبة روحية وتربوية، والكفارات المالية يكون تأثيرها غالباً أكثر من التعزيرات البدنية.

ولأنّ البعض يحاول أن يتهرّب من إعطاء الكفارة بأعذار واهية في موضوع الظهار، يضيف عزّ وجل أنّه يعلم بذلك حيث يقول في نهاية الآية: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

إنّه عالم بالظهار، وكذلك عالم بالذين يتهرّبون من الكفارة، وكذلك بنيّاتكم!

ولكن كفارة تحرير (رقبة) قد لا تتيسّر لجميع من يرتكب هذا الذنب كما لاحظنا ذلك في موضوع سبب نزول هذه الآية المباركة.

وقد يتعذّر وجود المملوك، ليقوم المكلّف بتحرير رقبته حتى مع قدرته المالية، كما في عصرنا الحاضر، لهذا كله ولأنّ الإسلام دين عالمي خالد فقد عالج هذه المسألة بحكم آخر يعوّض عن تحرير الرقبة، حيث يقول عزّ وجل: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا».

وهذا اللون من الكفارة له أثر عميق على الإنسان، حيث إنّ الصوم بالإضافة إلى أنّه وسيلة لتنقية الروح وتهذيب النفس، فإنّ

له تأثيراً عميقاً وفاعلًا في منع تكرّر مثل هذه الأعمال في المستقبل.

ومن الواضح- كما في ظاهر الآية- أنّ مدّة الصوم يجب أن تكون ستّين يوماً متتابعاً، وكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا طبقاً لظاهر الآية، إلّاأنّه قد ورد في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ المكلّف إذا صام أيام قلائل حتى ولو يوماً واحداً بعد صوم الشهر الأوّل، فإنّ مصداق التتابع في الشهرين يتحقق، وهذا الرأي حاكم على ظاهر الآية.

ولأنّ الكثير من الناس غير قادرين على الوفاء بالكفارة الثانية، وهي صوم الشهرين المتتابعين، فقد ذكر لذلك بديل آخر حيث يقول سبحانه: «فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا».

والظاهر من الإطعام أن يعطي غذاء يشبع الشخص في وجبة طعام، إلّاأنّ الروايات الإسلامية ذكرت أنّ المقصود بذلك هو (مدّ) لإطعام كل واحد (والمد يعادل 750 غم).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 115

ثم يشير تعالى في تكملة الآية مرّة اخرى إلى الهدف الأساس لمثل هذه الكفارات:

«ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ».

نعم إنّ إزالة الذنوب بوسيلة الكفارات تقوّي اسس الإيمان، وتربط الإنسان بالتعاليم الإلهية قولًا وعملًا.

وفي نهاية الآية يؤكّد سبحانه بصورة قاطعة على الالتزام بأوامره حيث يقول: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

يقال للقوانين الإلهية إنّها حدود، وذلك لحرمة تجاوزها.

وقد أدان الإسلام للظهار وشرّع له حكم الكفارة.

وبناءً على هذا فكلّما جعل الرجل على زوجته ظهاراً فإنّ الزوجة تستطيع أن تراجع الحاكم الشرعي وتلزمه، إمّا أن يطلّقها بصورة شرعية، أو يرجعها إلى حالتها الزوجية السابقة، بعد دفعه للكفارة بالصورة التي مرّت بنا سابقاً.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَ

نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) اولئك أعداء اللَّه: إذا كانت آخر جملة في الآيات السابقة تحثّ الجميع بضرورة الالتزام بالحدود الإلهية وعدم تجاوزها، فإنّ الآيات مورد البحث لا تتحدث عن الأشخاص الذين تجاوزوا حدود اللَّه فحسب، بل عن الذين حاربوا اللَّه ورسوله، وتوضّح عاقبتهم ومصيرهم في هذه الدنيا والعالم الآخر كذلك. يقول سبحانه في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

«يحادون»: من مادة «محادة» بمعنى الحرب المسلّحة والاستفادة من الحديد وتقال أيضاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 116

للحرب غير المسلّحة؛ و «كبتوا»: من مادة «كبت» بمعنى المنع بذلة، و (كبتوا) إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى يجعل جزاء المحاربين للَّه ورسوله الذلّة والهوان ويمنعهم من لطفه الشامل. ثم يضيف الباري سبحانه: «وَقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَاتٍ بَيّنَاتٍ».

وبناءً على هذا فقد تمّت الحجة بشكل كامل، ولم يبق عذر، وحجة للمخالفة، ومع ذلك فإن خالفوا، فلابدّ من أن يجازوا، ليس في هذه الدنيا فحسب، بل في القيامة: «وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

فإنّ هذا التهديد الإلهي للأشخاص الذين يقفون بوجه الرسول صلى الله عليه و آله والقرآن الكريم قد تحقّق، حيث واجهوا الذلة والإنكسار في غزوة بدر وخيبر والخندق وغير ذلك، وأخيراً في فتح مكة حيث كسرت شوكتهم واحبط كيدهم بانتصار الإسلام في كل مكان.

والآية اللاحقة تتحدث عن إستعراض زمان وقوع العذاب الاخروي عليهم حيث يقول عزّ

وجل: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». نعم: «أَحْصهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ».

وهذا بحد ذاته عذاب مؤلم، لأنّ اللَّه تعالى يذكّرهم بذنوبهم المنسيّة ويفضحهم في مشهد الحشر أمام الخلائق.

وفي نهاية الآية يقول الباري ء سبحانه: «وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

إنّ حضور اللَّه سبحانه في كل مكان وفي كل زمان وفي الداخل والخارج، يوجب ألّا يحصي أعمالنا- فقط- بل نيّاتنا وعقائدنا، وفي ذلك اليوم الكبير الذي هو «يوم البروز» يُعرف كل شي ء ولكي يعلم الإنسان السبب في شدة العقاب الإلهي.

ولتأكيد حضور اللَّه سبحانه في كل مكان وعلمه بكل شي ء ينتقل الحديث إلى مسألة «النجوى» حيث يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ثم يضيف تعالى: «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيمَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

المقصود من أنّ «اللَّه» رابعهم أو سادسهم هو أنّ اللَّه عزّ وجل موجود حاضر وناظر في كل مكان وعالم بكلّ شي ء، وإلّا فإنّ ذاته المقدسة لا مكان لها، ولا يوصف بالعدد أبداً، ووحدانيّته أيضاً ليست وحدة عدديّة، بل بمعنى أنّه لا شبيه له، ولا نظير ولا مثيل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 117

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لَا أَدْنَى مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا

نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

سبب النّزول

نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الاولى أعلاه، وكل واحدة منهما تخصّ قسماً من الآية الكريمة. تقول الرواية الاولى: قال ابن عباس: نزل قوله «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى الآية، في اليهود والمنافقين، إنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم، دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلّاوقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل، أو مصيبة أو هزيمة. فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فنزلت الآية «1».

أمّا الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التفسير، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: أتى النبي صلى الله عليه و آله اناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. قال: «وعليكم». قالت عائشة قلت: بل عليكم السام والذام. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «يا عائشة لا تكوني فاحشة». فقالت ما سمعت ما قالوا. فقال: «أوليس قد رددت عليهم الذي

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 413؛

وتفسير روح المعاني 28/ 25.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 118

قالوا قلت وعليكم». فأنزل اللَّه عزّ وجل «وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ ...» «1».

التّفسير

النجوى من الشيطان: البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة.

يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ».

ويستفاد من هذه الآية بصورة جليّة أنّ المنافقين واليهود قد نهوا من قبل ومنعوا من النجوى التي تولّد سوء الظن عند الآخرين وتسبّب لهم القلق.

واستمراراً لهذا الحديث فإنّ القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: «وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللَّهُ».

«حيّوك»: من مادة «تحيّة» مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الاخرى؛ والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو (سلام اللَّه عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنة، ومن جملتها قوله تعالى في الآية (181) من سورة الصافات: «سَلمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ».

ثم يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقول عزّ وجل: «وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ».

وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرسول صلى الله عليه و آله وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية للَّه سبحانه.

ويرد عليهم القرآن الكريم: «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، لأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحياناً وذلك للضرورة أو لبعض الميول، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا

تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

يستفاد من هذا التعبير- بصورة واضحة- أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن

______________________________

(1) صحيح مسلم 7/ 5؛ صحيح البخاري 8/ 51؛ وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام 2/ 648.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 119

تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابدّ أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد البحث، حيث يقول تعالى:

«إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا». ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّاأن يأذن اللَّه بذلك «وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ذلك لأنّ كل مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر اللَّه حتى إحراق النار وقطع السيف.

«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ». إذ أنّهم- بالروح التوكّلية على اللَّه، وبالاعتماد عليه سبحانه- يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل.

لهذا العمل- أي النجوى- من الوجهة الفقهية الإسلامية أحكام مختلفة:

فتارةً يكون هذا العمل «حراماً» وذلك فيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحياناً «واجبة» وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية، حيث إنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالإستحباب، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساساً، فإنّ كل حالة لا يوجد فيها هدف مهم فالنجوى عمل غير محمود، ومخالف لآداب المجالس، ويعتبر نوعاً من اللامبالاة وعدم الإكتراث بالآخرين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ

تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الصفّة، وفي المكان ضيق، وذلك يوم الجمعة. وكان صلى الله عليه و آله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فجاء اناس من أهل بدر، وفيهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 120

مختصر الامثل ج 5 149

ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس. فقاموا حيال النبي صلى الله عليه و آله فقالوا: السلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، فردّ عليهم النبي صلى الله عليه و آله. ثم سلّموا على القوم بعد ذلك، فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فلم يفسحوا لهم. فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه و آله، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يا فلان، بقدر النفر الذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه، وعرف الكراهية في وجوههم. وقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس، فواللَّه ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم! فنزلت الآية.

التّفسير

إحترام أهل السابقة والإيمان: تعقيباً على الموضوع الذي جاء في الروايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس، يتحدث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ».

جملة «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» لها مفهوماً واسعاً، وتشمل كل سعة إلهية، سواء

كانت في الجنة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة، أو في المال والرزق.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحياناً بحيث إنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمراراً لهذا البحث، يقول تعالى: «وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا». أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف، لأنّ القادمين أحياناً يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للإحترام الخاص لهم، وأسباب اخرى.

ثم يتطرق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي، حيث يقول عزّ وجل: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ».

وذلك إشارة إلى أنّ الرسول صلى الله عليه و آله إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين، فإنّه لهدف إلهي مقدس، وإحتراماً للسابقين في العلم والإيمان.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء، والتظاهر ... فيضيف تعالى في نهاية الآية: «وَاللَّهُ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 121

بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاص، إلّاأنّ لها مفهوماً عاماً، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند اللَّه شيئان: الإيمان، والعلم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان:

نزلت في الأغنياء، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و آله فيكثرون مناجاته. [وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرسول صلى الله عليه و آله ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم إرتياح المستضعفين منه، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم فأمر اللَّه سبحانه بالصدقة عند المناجاة. فلمّا رأوا ذلك، انتهوا عن مناجاته. فنزلت آية الرخصة.

[التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة، حيث إنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود].

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (إختبار رائع): في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى، وفي الآيات مورد البحث استمراراً وتكملة لهذا المطلب. يقول سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولُ فَقَدّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَيكُمْ صَدَقَةً».

ثم يضيف بقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ».

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجباً على الجميع، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرسول صلى الله عليه و آله فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة مما مكّنهم من مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله والتحدّث

مختصر الامثل، ج 5، ص: 122

معه: «فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجباً على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيراً عجيباً وامتحاناً رائعاً أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّاشخص واحد، ذلك هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح،

وأخذ المسلمون درساً في ذلك، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه: «ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَيكُمْ صَدَقَاتٍ».

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسول صلى الله عليه و آله واتّضح أيضاً أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى، خاصة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة.

ثم يضيف تعالى: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَ لَا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَ لَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْ ءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) حزب الشيطان: هذه الآيات تفضح قسماً من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسماً ممّن ناجوا الرسول كانوا من المنافقين، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول صلى الله عليه و آله ويتستّرون على مؤامراتهم، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 123

يقول تعالى في البداية: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا

قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم».

ثم يضيف تعالى: «مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ». فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كل يوم ويظهرون كل لحظة لكم بصورة جديدة.

ويضيف- أيضاً- واستمراراً لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».

وهذه طريقة المنافقين، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

ثم يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرّين على الباطل والمعاندين للحقّ، حيث يقول تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا». وبدون شك فإنّ هذا العذاب عادل وذلك:

«إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ثم للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

يحلفون أنّهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح، في حين أنّهم منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم ... وفي الحقيقة فإنّهم يستفيدون من الاسم المقدس للَّه للصدّ والمنع عن سبيل اللَّه تعالى ...

ويضيف تعالى في النهاية: «فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ». أي مذلّ.

إنّهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم، إلّاأنّ اللَّه سيبتليهم بعذاب أليم مذلّ.

ولأنّ المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوة الاقتصادية والقوة البشرية) في تحقيق مآربهم وحلّ مشاكلهم، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: «لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلدُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا».

وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقاً في أعناقهم وسبباً لعذابهم المؤلم، كما يوضّح اللَّه سبحانه ذلك في الآية (180) من سورة آل عمران: «سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

وفي ذيل الآية يهدّدهم ويقول: «أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

والعجيب أنّ المنافقين لا يتخلّون عن نفاقهم حتى في

يوم القيامة أيضاً، كما يوضّح اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 124

سبحانه ذلك في قوله: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ». إنّ يوم القيامة يوم تتجلّى فيه الأعمال، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في الدنيا، ولأنّ المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ، فإنّها ستتضح يوم القيامة أيضاً، ومع علمهم بأنّ اللَّه سبحانه لا يخفى عليه شي ء وأنّه علّام الغيوب، إلّاأنّهم- إنسجاماً مع سلوكهم المعهود- فإنّهم يحلفون أمام اللَّه حلفاً كاذباً.

ثم يضيف عزّ وجل أنّهم بهذا اليمين الكاذب يظنّون أنّه بإمكانهم كسب منفعة أو دفع ضرر: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْ ءٍ».

إنّ هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال.

وأخيراً تنتهي الآية بهذه الجملة: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ». وبهذه الصورة سيفتضح.

وفي آخر آية مورد البحث يبيّن الباري عزّ وجل المصير النهائي للمنافقين العمي القلوب بقوله تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

«استحوذ»: من مادة «حوذ» بمعنى الجزء الخلفي لفخذ البعير، ولأنّ أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها، فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلّط أو السوق بسرعة.

نعم، إنّ المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم، ليس لهم مصير سوى أن يكونوا تحت سيطرة الشيطان واختياره ووساوسه بصورة تامّة، وينسون اللَّه بصورة كلية، أنّهم ليسوا منحرفين فحسب، بل إنّهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 125

كان الحديث عن المنافقين وأعداء اللَّه وبيان بعض صفاتهم وخصائصهم في الآيات السابقة، واستمراراً لنفس البحث- في هذه الآيات التي هي آخر آيات سورة المجادلة- تطرح خصوصيات اخرى لهم، ويتّضح المصير الحتمي لهم حيث الموت والإندحار. يقول تعالى في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الْأَذَلّينَ» «1». أي أذلّ الخلائق.

والآية اللاحقة دليل على هذا المعنى حيث يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ».

وبنفس القدر الذي يكون فيه اللَّه قويّاً عزيزاً فإنّ أعداءه يكونون ضعفاء أذلّاء، وهذا بنفسه بمثابة الدليل على ما ورد في الآية السابقة من وصف الأعداء بأنّهم «فِى الْأَذَلّينَ».

ولقد اتّضح على مرّ العصور هذا الإنتصار للمرسلين الإلهيين في أوجه مختلفة، سواء في أنواع العذاب الذي أصاب أعداءهم وصوره المختلفة كطوفان نوح وصاعقة عاد وثمود والزلازل المدمّرة لقوم لوط وما إلى ذلك، وكذلك في الإنتصارات في الحروب المختلفة كغزوات بدر وحنين وفتح مكة، وسائر غزوات رسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

وأهمّ من ذلك كلّه إنتصارهم الفكري والمنطقي على أفكار الشيطان وأعداء الحق والعدالة.

آخر آية مورد البحث- والتي هي آخر آية من سورة المجادلة- تعدّ من أقوى الآيات القرآنية التي تحذّر المؤمنين من إمكانية الجمع بين حبّ اللَّه وحبّ أعدائه، إذ لابدّ من اختيار طريق واحد لا غير، وإذا ما كانوا حقّاً مؤمنين صادقين فعليهم اجتناب حبّ أعداء اللَّه.

يقول تعالى: «لَّاتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ

أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ».

إنّ حبّ الآباء والأبناء والاخوان والعشيرة شي ء ممدوح، ودليل على عمق العواطف الإنسانية، إلّاأنّ هذه المحبة حينما تكون بعيدة عن حبّ اللَّه فإنّها ستفقد خاصيتها.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى الجزاء العظيم لهذه المجموعة التي سخّرت قلوبها لعشق اللَّه تعالى، حيث يستعرض خمسة من أوصافهم والتي يمثّل بعضها مدداً وتوفيقاً من اللَّه تعالى، والآخر نتيجة العمل الخالص له سبحانه ... وفي بيان القسم الأوّل والثاني يقول تعالى:

«أُولئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مّنْهُ».

______________________________

(1) «يحادّون»: من مادة «محادّة» بمعنى الحرب المسلّح وغير المسلّح، أو بمعنى الممانعة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 126

ومن الطبيعي أنّ هذا الإمداد واللطف الإلهي لا يتنافي أبداً مع أصل حرية الارادة واختيار الإنسان، لأنّ الخطوات الاولى في ترك أعداء اللَّه قد قرّرها المؤمنون ابتداءً، ثم جاء الإمداد الإلهي بصورة استقرار الإيمان حيث عبّر عنه ب (كتب).

هذه الروح الإلهية التي يؤيّد اللَّه سبحانه المؤمنين بها هي نوع من الحياة المعنوية الجديدة التي أفاضها اللَّه تعالى على المؤمنين.

ويقول تعالى في ثالث مرحلة: «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا».

ويضيف في رابع مرحلة لهم: «رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ».

إنّ أعظم ثواب معنوي وجزاء روحاني لأصحاب الجنة في مقابل النعم المادية العظيمة في القيامة من جنان وحور وقصور هو شعورهم وإحساسهم أنّ اللَّه راضٍ عنهم وأنّ رضى مولاهم ومعبودهم يعني أنّهم مقبولون عنده، وفي كنف حمايته وأمنه، حيث يجلسهم على بساط قربه، وهذا أعظم إحساس ينتابهم، ونتيجته رضاهم الكامل عن اللَّه سبحانه.

وفي آخر مرحلة يضيف تعالى بصورة إخبار عام يحكي عن نعم وهبات اخرى حيث يقول: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُوَن».

وليس المقصود بالفلاح هنا ما يكون في عالم الآخرة ونيل

النعم المادية والمعنوية في يوم القيامة فحسب، بل كما جاء في الآيات السابقة أنّ اللَّه تعالى ينصرهم بلطفه في هذه الدنيا أيضاً على أعدائهم وستكون بأيديهم حكومة الحق والعدل التي تستوعب هذا العالم أخيراً.

«نهاية تفسير سورة المجادلة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 127

59. سورة الحشر

محتوى السورة: تأخذ هذه السورة بصورة متميزة قصة حرب المسلمين مع بعض اليهود (يهود بني النضير) والتي انتهت بإخراجهم من المدينة وتطهير هذه المدينة المقدسة منهم.

وهذه السورة من السور المهمة والمثيرة والموقظة في القرآن الكريم، ولها انسجام قريب جدّاً مع الآيات الأخيرة مع السورة السابقة، والتي وعدت «حزب اللَّه» بالنصر، والنصر الوارد في هذه السورة يعدّ مصداقاً بارزاً لذلك النصر الموعود.

ويمكن تلخيص موضوعات هذه السورة في ستة أقسام هي:

1- تتحدث عن تسبيح اللَّه الحكيم العليم من قبل الموجودات جميعاً.

2- يوضّح قصة إشتباك المسلمين مع ناقضي العهد من يهود المدينة.

3- يستعرض القرآن قصة منافقي المدينة مع اليهود والتعاون بينهما.

4- يشمل مجموعة من التوجيهات والنصائح العامة لعموم المسلمين.

5- عبارة عن وصف بليغ للقرآن الكريم وبيان أثره في تطهير الروح والنفس.

6- يتناول قسماً مهماً من أوصاف جلال وجمال الذات الإلهية المقدسة، وبعض أسمائه الحسنى، وهذه الصفات تكون عوناً للإنسان في طريق معرفة اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 128

إنّ اسم هذه السورة مأخوذ من الآية الثانية فيها، والتي تتحدث عن «الحشر»، والذي يعني هنا تجمّع اليهود للرحيل عن المدينة، أو حشر المسلمين اليهود لطردهم منها.

وأخيراً فإنّ هذه السور هي إحدى (سور المسبّحات) والتي بدأت بتسبيح اللَّه، وانتهت بتسبيح اللَّه أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ومن قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة ولا نار، ولا

عرش ولا كرسي ولا حجاب، ولا السماوات السبع ولا الأرضون السبع، والهوام والرياح والطير والشجر والدواب، والشمس والقمر والملائكة، إلّا صلّوا عليه، واستغفروا له، وإن مات من يومه أو ليلته مات شهيداً».

ومما لا شك فيه أنّ هذا من آثار التفكّر والتدبّر في محتوى هذه السورة وعند قراءتها.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَ لَوْ لَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

سبب النّزول

ذكر المفسرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي:

كان بالمدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلًا، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها، وذلك لما قرأوه في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 129

كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة، حيث كانوا بإنتظار هذا الظهور العظيم.

وعندما هاجر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى المدينة عقد معهم حلفاً بعدم تعرّض كل منهما للآخر، إلّاأنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهداً في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد،

التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب كعب بن الأشرف زعيم قبيلة بني النضير مع أربعين فارساً إلى مكة، وهنالك عقد مع قريش حلفاً لقتال محمّد صلى الله عليه و آله، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصاً، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفراً من اليهود، ودخلا معاً إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة، فعلم النبي صلى الله عليه و آله بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخل يوماً مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير، وذلك بحجّة إستقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لإغتيال رسول اللَّه وتنادى القوم: إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وهاهو قد جلس بالقرب من حائطكم، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه، فقام عمرو بن جحاش وأبدى إستعداده لتنفيذ الأمر، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي، إلّاأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علم عن طريق الوحي بذلك، فقفل راجعاً إلى المدينة دون أن يتحدث بحديث مع أصحابه، إلّاأنّ الصحابة تصوروا أنّ الرسول سيعود مرّة اخرى، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضاً.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نقض اليهود للعهد، فأعطى أمراً للإستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله بشعر يتضمّن مسّاً بكرامة الرسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول اللَّه (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود، إذ كانت له به معرفة، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدمات وقتله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 130

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلًا في صفوف اليهود، عند ذلك أعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمراً للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعندما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القوية، وأحكموا الأبواب، إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

فقد إرتفع صوت اليهود عندما شعروا بالضيق، وهم محاصرون في حصونهم ... فقالوا: يا محمّد، لقد كنت تنهى عن هذا، فما الذي حدا بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (5) من الآيات محل البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللَّه عزّ وجل.

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام، ومنعاً لسفك الدماء إقترح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة، فوافقوا على هذا وحملوا مقداراً من أموالهم تاركين القسم الآخر ... واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام»، وقليل منهم في «خيبر»، وجماعة ثالثة في «الحيرة»، وتركوا بقية أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها «1».

التّفسير

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح اللَّه وبيان عزّته وحكمته. يقول سبحانه: «سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وهذه مقدمة لبيان قصة يهود بني النضير، اولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة اللَّه وصفاته.

التسبيح العام

الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء، أعم من الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كل ذرّة من ذرّات هذا الوجود، وهو التسليم المطلق للَّه سبحانه والإعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسماً من العلماء يعتقدون أنّ كل موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطّلع عليه، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 425؛ وتفسير علي بن إبراهيم 2/ 358؛ وتفسير القرطبي 18/ 2.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 131

وبعد بيان المقدمة أعلاه نستعرض أبعاد قصة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ».

«حشر»: في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر، وهذه بحد ذاتها إشارة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

ويضيف الباري ء عزّ وجل: «مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللَّهِ». لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة، وقدرتهم المادية الظاهرية.

ولأنّ اللَّه سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب، هو دليل على قدرته سبحانه، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم

مانعتهم من اللَّه.

ولذلك يضيف- استمراراً للبحث الذي ورد في الآية- قوله تعالى: «فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ». نعم، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله اللَّه تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين، وقد خيّم على قلوبهم، وسلب منهم قدرة الحركة والمقاومة، لقد جهّزوا وهيّأوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة اللَّه تعالى، حيث يرسل لهم جيشاً من داخلهم.

وفي نهاية الآية- بعنوان استنتاج كلي- يقول تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يَأُولِى الْأَبْصَارِ».

«اعتبروا»: من مادة «إعتبار» وفي الأصل مأخوذة من العبور، أي العبور من شي ء إلى شي ء آخر، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين، وكذلك يقال «عبارة» لهذا السبب، حيث إنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات «عبر» لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكليّة وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير ب «اولى الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 132

واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

والمقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الإنتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر. يعني مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل. وتضيف الآية اللاحقة: «وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا».

وبدون شك فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهداً بليغاً في الحصول عليها، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم، وبناءً على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب، فإنّ بإنتظارهم عذاباً آخر هو القتل أو الأسر

بيد المسلمين ...

إلّا أنّ اللَّه سبحانه أراد لهم التيه في الأرض والتشرّد في العالم، لأنّ هذا أشدّ ألماً وأسىً على نفوسهم، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين، وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصة على المستوى النفسي.

وكان هذا عذاباً دنيوياً لهم، إلّاأنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى، ذلك هو عذاب الآخرة، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَلَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ».

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافاً إلى تجسيد قدرة اللَّه وصدق الدعوة المحمّدية، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذاراً وتنبيهاً لكل من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

«شاقّوا»: من مادة «شقاق» وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين، وبما أنّ العدو يكون دائماً في الطرف المقابل، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جواباً على إعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم- كما ورد في شأن النزول- بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة، وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم، فقالوا: يا محمّد، قد كنت تنهي عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل وتحرقها؟ فنزلت الآية مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر اللَّه سبحانه حيث يقول الباري ء: «مَا قَطَعْتُم مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 133

فَبِإِذْنِ اللَّهِ

وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ». «لينة»: من مادة «لون» تقال لنوع جيّد من النخل.

وَ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لَا رِكَابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: نزل قوله «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الآية. في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبنو النضير، وهما بالمدينة. وفدك، وهي من المدينة على ثلاثة أميال. وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها اللَّه لرسوله، يحكم فيها ما أراد. وأخبر أنّها كلّها له. فقال اناس: فهلا قسمها، فنزلت الآية.

[وسنلاحظ أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة].

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب: بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدث عن إندحار يهود بني النضير، لذا فإنّ هذه الآيات تبيّن حكم غنائم بني النضير، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكماً عاماً حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفي ء).

يقول اللَّه تعالى: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِن خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ».

«أفاء»: من مادة «في ء» وهي في الأصل بمعنى الرجوع، وإطلاق كلمة (في ء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ اللَّه سبحانه قد

خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين، وعلى رأسهم الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي هو أشرف الكائنات.

وبناءً على هذا فإنّ الجاحدين لوجود اللَّه والعاصين له بالرغم من إمتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية، إلّاأنّهم يعتبرون غاصبين لها، ولذلك فإنّ عودة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 134

هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئاً) في الحقيقة. «أوجفتم»: من مادة «إيجاف» بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالباً في الحروب.

«خيل»: بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول) «1».

«ركاب»: من مادة «ركوب» وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً.

ثم يضيف سبحانه أنّ الإنتصارات لا تكون غالباً لكم «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

نعم، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي، ولتعلموا أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

ولابدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية، ويلاحظوا علائم حقّانية النبي صلى الله عليه و آله، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكل على الذات الإلهية المقدسة في جميع ممارساتهم.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفي ء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة: «مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرسول صلى الله عليه و آله وسائر المحتاجين، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما

صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعاً في موارده الشخصية، وإنّما اعطيت له لكونه رئيساً للدولة الإسلامية، وخاصة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

إنّ الرسول صلى الله عليه و آله لا يريد الأموال لُاموره الشخصية، بل بعنوان قائد المسلمين ورئيس دولتهم يصرفها في الامور التي تحقّق مصلحة الدولة الإسلامية بشكل عام.

______________________________

(1) يقول الراغب في المفردات: إنّ الخيل في الأصل من مادة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالباً، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 135

ومما يجدر بالملاحظة أنّ هذا الحق ينتقل من بعد الرسول صلى الله عليه و آله إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام ومن بعدهم إلى نوّابهم. يعني (كل مجتهد جامع للشرائط) لأنّ الأحكام الإسلامية لا تعطّل، والحكومة الإسلامية من أهمّ المسائل التي يتعامل المسلمون معها وقسم من هذه الاسس قنّنت ضمن الهيكل الاقتصادي العام للمجتمع الإسلامي، كما أنّها تمثّل مبدأً أساسياً في النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية.

ثم يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى: «كَىْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ». فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلًا أساسياً في الاقتصاد الإسلامي وهو:

وجوب التأكيد في الاقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها، مع كامل الإحترام للملكية الشخصية، وذلك بإعداد برنامج واضح بهذا الصدد يحرّك عملية

تداول الثروة بين أكبر قطاع من الامة.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وبالرغم من أنّ هذا القسم من الآية نزل بشأن غنائم بني النضير، إلّاأنّ محتواها حكم عام في كل المجالات، ومدرك واضح على حجية سنّة الرسول صلى الله عليه و آله.

وطبقاً لهذا الأصل فإنّ جميع المسلمين ملزمون بإتّباع التعاليم المحمّدية، وإطاعة أوامر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإجتناب ما نهى عنه، سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أو الاقتصادية أو العبادية وغيرها.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَ لَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 136

السمات الأساسية للأنصار والمهاجرين والتابعين: هذه الآيات- التي هي إستمرار للآيات السابقة- تتحدث حول طبيعة مصارف الفي ء الستّة، التي تشمل الأموال والغنائم التي حصل عليها المسلمون بغير حرب، وقد أوضحت الآية المعني باليتامى والمساكين وأبناء السبيل، مع التأكيد على المقصود من أبناء السبيل بلحاظ أنّهم يشكّلون أكبر رقم من عدد المسلمين المهاجرين في ذلك الوقت، حيث تركوا أموالهم ووطنهم نتيجة الهجرة، وكانوا فقراء بعد أن هجروا الدنيا من أجل دينهم. يقول تعالى: «لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن

دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

هنا بيّنت الآية ثلاثة أوصاف مهمة وأساسية للمهاجرين الأوائل، تتلخص ب:

«الإخلاص» و «الجهاد» و «الصدق».

وفي الآية اللاحقة يستعرض سبحانه ذكر مورد آخر من موارد صرف هذه الأموال، ومن بين ما يستعرضه في الآية الكريمة أيضاً وصف رائع ومعبّر جدّاً عن طائفة الأنصار، ويكمل البحث الذي جاء في الآية السابقة حول المهاجرين، فيقول سبحانه: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ».

«تبؤوا»: من مادة «بواء» وهي في الأصل بمعنى تساوي أجزاء المكان. وبعبارة اخرى يقال: (بواء) لترتيب وتسوية مكان (ما)، هذا التعبير كناية لطيفة لهذا المعنى، وهو أنّ طائفة الأنصار- أهل المدينة- قد هيّؤوا الأرضية المناسبة للهجرة.

والتعبير «تَبَوَّءُو» يوضّح لنا أنّ الأنصار لم يهيّؤوا بيوتهم لاستقبال المهاجرين فحسب، بل إنّهم فتحوا قلوبهم ونفوسهم وأجواء مجتمعهم قدر المستطاع للتكيّف في التعامل مع وضع الهجرة المرتقب.

وجملة «مِن قَبْلِهِمْ» يوضّح لنا أنّ كل تلك الامور كانت قبل هجرة مسلمي مكة، وهذا أمر مهمّ.

ثم يتطرق سبحانه إلى بيان ثلاث صفات اخرى توضّح روحية الأنصار بصورة عامة، حيث يقول تعالى: «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ».

فلا فرق بين المسلمين في وجهة نظرهم والمهمّ لديهم هو مسألة الإيمان والهجرة وهذا الحبّ كان يعتبر خصوصية مستمرّة لهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 137

والأمر الآخر: «وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا». فهم لا يطمعون بالغنائم التي اعطيت للمهاجرين، ولا يحسدونهم عليها، ولا حتى يحسّون بحاجة إلى ما اعطي للمهاجرين منها.

ويضيف تعالى في المرحلة الثالثة إلى وصفهم: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ» «1».

ومن هذه السمات الثلاث: «المحبّة» و «عدم الطمع» و «الايثار»، كانت تتشكّل خصوصية الأنصار المتميزة.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: قال

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم بني النضير للأنصار:

«إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شي ء من الغنيمة». فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها فنزلت الآية.

وفي نهاية الآية- ولمزيد من التأكيد لهذه الصفات الكريمة، وبيان تأثيرها الإيجابي العميق- يضيف سبحانه: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«الشحّ»: البخل مقترناً بالحرص عادةً؛ و «يوق»: من مادة وقاية.

وفي الكافي عن الفضل بن أبي قرة قال: قال الصادق عليه السلام: «تدري ما الشحيح»؟ قلت: هو البخيل. قال: «الشحّ أشدّ من البخل، إنّ البخيل يبخل بما في يده، والشحيح يشحّ على ما في أيدي الناس، وعلى ما في يديه، حتى لا يرى مما في أيدي الناس شيئاً إلّاتمنّى أن يكون له بالحلّ والحرام، ولا يقنع بما رزقه اللَّه».

وفي آخر آية مورد البحث يأتي الحديث عن آخر طائفة من المسلمين، الذين عرفوا بيننا باصطلاح القرآن الكريم ب (التابعين)، والذين يشكّلون المجموعة الغالبة من المسلمين بعد المهاجرين والأنصار الذين تحدّثت عنهم الآيات السابقة. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ».

______________________________

(1) «خصاصة»: من مادة «خصاص» بمعنى الشقوق التي توجد في جدران البيت، ولأنّ الفقر في حياة الإنسان يمثّل شقّاً، لذا عبّر عنه بالخصاصة. مختصر الامثل، ج 5، ص: 138

وبهذا الترتيب فإنّ خصوصياتهم هي: (تربية النفس) و (الإحترام للسابقين في الإيمان) و (الإبتعاد عن الحسد والبغضاء).

والتعبير ب (إخوان) والإستمداد من الرؤوف الرحيم في نهاية الآية يحكي عن روح المحبّة والصفاء والاخوّة التي يجب أن

تسود المجتمع الإسلامي أجمع، فكل شخص يتمنّى صفة حسنة لا يتمنّاها لنفسه فحسب.

إنّ الآيد أعلاه لبيان هذه الحقيقة وهي أنّ أموال «الفي ء» لا تنحصر بمحتاجي المهاجرين والأنصار فقط، بل تشمل سائر المحتاجين من المسلمين على مرّ العصور.

بحث

الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ: يصرّ بعض المفسرين- بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكل من المهاجرين والأنصار والتابعين- على إعتبار جميع الصحابة بدون استثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية (للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكل خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرسول صلى الله عليه و آله أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كل مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.

إلّا أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.

ففي «المهاجرين»: الإخلاص والجهاد والصدق.

وفي «الأنصار»: المحبة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كل حرص وبخل.

وفي «التابعين»: بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن كل بغض وحسد.

إنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التاريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها- بما يناسب- مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل.

مختصر

الامثل، ج 5، ص: 139

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)

سبب النّزول

في تفسير روح البيان: إنّ قسماً من منافقي المدينة- كعبد اللَّه بن ابي وأصحابه- أرسلوا إلى بني النضير وأبلغهم بما يلي: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين وهو جالس في بيته حتى قال أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم لحيي بن أخطب الذي كان هو المتولي لأمر بني النضير واللَّه يا حيي إنّ قول ابن ابي لباطل وليس بشي ء وإنّما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمّداً فيجلس في بيته يتركك فقال حيي نأبى الاعداوة محمّد والا قتاله فقال سلام فهو واللَّه جلاؤنا من أرضنا وذهاب أموالنا وشرفنا وسبى ذرارينا مع قتل مقاتلينا فكان ما كان كما سبق في أوّل السورة وفيه حجة بينة لصحة النبوة واعجاز القرآن.

التّفسير

دور المنافقين في فتن اليهود: بعد بيان ما جرى ليهود بني النضير في الآيات السابقة، وبيان حالة الأصناف الثلاثة من المؤمنين، يتعرّض

القرآن الكريم الآن لشرح حالة المنافقين ودورهم في هذا الحادث، وفي البداية يتحدث مع الرسول صلى الله عليه و آله حيث يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 140

وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ». وهكذا فإنّ هؤلاء المنافقين وعدوا طائفة اليهود بامور ثلاثة، وجميعها كانت كاذبة.

ولهذا السبب يقول القرآن الكريم بصراحة: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ».

أجل، لقد كان المنافقون كاذبين دائماً، والكاذبون منافقين غالباً.

ثم ... للإيضاح والتأكيد الأكثر حول كذب المنافقين يضيف سبحانه:

«لَئِنْ أُخْرِجُوا لَايَخْرُجُونَ مَعَهُمْ». «وَلَئِن قُوتِلُوا لَايَنصُرُونَهُمْ». «وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ». «ثُمَّ لَايُنصَرُونَ».

والآية اللاحقة تتحدث عن سبب هذا الإندحار، حيث يقول سبحانه: «لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ».

ولأنّهم لا يخافون اللَّه، فإنّهم يخافون كل شي ء خصوصاً إذا كان لهم أعداء مؤمنون مثلكم: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ».

ثم يستعرض دليلًا واقعياً واضحاً يعبّر عن حالة الخوف والاضطراب حيث يقول سبحانه: «لَايُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ».

«قرى»: جمع قرية، أعمّ من المزروعة وغير المزروعة، وتأتي أحياناً بمعنى الناس المجتمعين في مكان واحد.

«محصّنة»: من مادة «حصن» بمعنى مسوّرة، وبناءً على هذا فإنّ (القرى المحصّنة) تعني القرى التي تكون في أمان بوسيلة أبراجها وخنادقها والمواضع التي تعيق تقدّم العدو فيها.

نعم، بما أنّهم خرجوا من حصن الإيمان والتوكل على اللَّه، فإنّهم بغير الإلتجاء والإتّكاء على الجدران والقلاع المحكمة لا يتجرّؤون على مواجهة المؤمنين.

ثم يوضّح أنّ هذا ليس ناتجاً عن جهل بمعرفة فنون الحرب، أو قلة في عددهم وعدّتهم، أو عجز في رجالهم، بل إنّ «بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ».

ولهذا السبب- واستمراراً لما ورد في نفس الآية- نستعرض سبباً آخر من

أسباب إندحار المنافقين، حيث يقول سبحانه: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 141

وهكذا فإنّ الإنسجام الظاهري للعناصر غير المؤمنة والإتفاقيات العسكرية والاقتصادية يجب ألّا تخدعنا أبداً، لأنّ وراءها قلوب متناحرة متنافرة، ودليلها واضح وهو إنهماك كل منهم بمنافعه المادية بشكل شديد، وبما أنّ المنافع غالباً ما تكون متعارضة، فعندئذ تبرز الاختلافات والشحناء فيما بينهم، ولن تغني عن ذلك العهود والإتفاقيات وشعارات الوحدة والانسجام الظاهري. في الوقت الذي تكون فيه وحدة وانسجام المؤمنين على قواعد واصول ربانية كأصل الإيمان والتوحيد والقيم الإلهية.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَ ذلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَ لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يستمرّ البحث في هذه الآيات حول قصة بني النضير والمنافقين ورسم خصوصية كل منهم في تشبيهين رائعين: يقول سبحانه في البداية: «كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

تحدّثنا هذه الآية عن ضرورة الاعتبار بما جرى لبني النضير والقوم الذين كانوا من قبلهم وما جرى لهم.

ويعتقد كثير من المفسرين أنّ المقصود بقوله «الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» هو إشارة إلى قصة يهود «بني قينقاع»، التي حدثت بعد غزوة بدر، وانتهت بإخراجهم من المدينة، لأنّ يهود بني قينقاع كيهود بني النضير

كانوا ذوي ثراء ومغرورين بقدرتهم القتالية، يهدّدون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمين بقوّتهم وقدرتهم العسكرية إلّاأنّ العاقبة لم تكن غير حصاد التيه والتعاسة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 142

«وبال»: بمعنى (عاقبة الشؤم والمرارة) وهي في الأصل مأخوذة من «وابل» بمعنى المطر الغزير، لأنّ المطر الغزير غالباً ما يكون مخيفاً.

ثم يستعرض القرآن الكريم تشبيهاً للمنافقين حيث يقول سبحانه: «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِى ءٌ مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».

والمقصود ب «الإنسان» في هذه الآية هو مطلق الإنسان الذي يقع تحت تأثير الشيطان، وينخدع بأحابيله ووعوده الكاذبة، ويسير به في طريق الكفر والضلال، ثم إنّ الشيطان يتركه ويتبرّأ منهم.

نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى اتون المعارك والمشاكل ثم يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.

وتتحدث الآية اللاحقة عن مصير هاتين الجماعتين (الشيطان وأتباعه، والمنافقين وحلفائهم من أهل الكفر) وعاقبتهما البائسة، حيث النار خالدين فيها، فيقول سبحانه عنهم: «فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاؤُا الظَّالِمِينَ».

وهذا أصل كلّي فإنّ عاقبة تعاون الكفر والنفاق، والشيطان وحزبه، هو الهزيمة والخذلان، وعدم الموفّقية، وعذاب الدنيا والآخرة، في الوقت الذي تكون ثمره تعاون المؤمنين وأصدقائهم تعاون وثيق وبنّاء، وعاقبته الخير ونهايته الانتصار والتمتع بالرحمة الإلهية الواسعة في عالم الدنيا والآخرة.

وتوجّه الآية اللاحقة حديثها للمؤمنين بعنوان استنتاج من حالة الشؤم والبؤس التي اعترت المنافقين وبني النضير والشياطين، حيث يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لَغَدٍ».

إنّ هذه الذخيرة الاخروية تمثّل أكبر رأسمال حقيقي للإنسان في مشهد يوم القيامة، لذا فإنّ هذا النوع من الأعمال

الصالحة يلزم إعداده وتهيئته وإرساله مسبقاً، وإلّا فلا أحد يهتمّ له بعد وفاته وإنقضاء أجله، وإذا ارسل شيئاً فليس له شأن يذكر.

ثم يضيف تعالى مرّة اخرى للتأكيد بقوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

نعم، التقوى والخوف من اللَّه يدعوان الإنسان للتفكير بيوم غده (القيامة) بالإضافة إلى السعي إلى تنقية وتخليص وتطهير أعماله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 143

وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر اللَّه سبحانه، حيث يقول تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ».

وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر اللَّه تعالى، وذلك بالتوجّه والإنشداد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كل مكان وفي كل الأحوال، والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها في صحيفة أعمالنا ...

ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين (المبدأ والمعاد) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء، وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع.

وأساساً فإنّ النسيان- بحدّ ذاته- من أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه، لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات، وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته، وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية، ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات.

وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور، بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة اللَّه، ولهذا يقول سبحانه: «أُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

وفي آخر آية- مورد البحث- يستعرض سبحانه مقارنة بين هاتين الجماعتين: الجماعة المؤمنة المتّقية السائرة باتّجاه المبدأ والمعاد، والجماعة الغافلة عن ذكر اللَّه، التي ابتليت كنتيجة للغفلة عن اللَّه بنسيان ذاتها، حيث يقول سبحانه: «لَايَسْتَوِى أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ».

ليس في الدنيا، ولا في المعتقدات،

وليس في طريقة التفكير والمنهج، وليس في طريقة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان وأهدافه، ولا في المحصّلة الاخروية والجزاء الإلهي ... إذ إنّ خطّ كل مجموعة من هاتين المجموعتين في اتّجاه متعارض ... متعارض في كل شي ء وكل مكان وكل هدف ... إحداهما تؤكّد على ذكر اللَّه والقيامة وإحياء القيم الإنسانية الرفيعة، والقيام بالأعمال الصالحة كذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ... والاخرى غارقة في الشهوات واللذات المادية، وأسيرة الأهواء ومبتلية بالنسيان .. وبهذا فإنّ الإنسان على مفترق طريقين، إمّا أن يرتبط بالقسم الأوّل، أو بالقسم الثاني، وليس غيرهما من سبيل آخر.

وفي نهاية الآية نلاحظ حكماً قاطعاً حيث يضيف سبحانه: «أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 144

فليس في الدار الآخرة فقط يوجد (فائزون وخاسرون) بل في هذه الدنيا أيضاً، حيث يكون الإنتصار والنجاة والسكينة من نصيب المؤمنين المتقين، كما أنّ الهزيمة والخسران في الدارين تكون من نصيب الغافلين.

لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) لو نزل القرآن على جبل: تكملة للآيات السابقة التي كانت تهدف إلى تحريك النفوس والقلوب الإنسانية، وخاصة عن طريق التذكير بالنهاية التي يكون عليها الإنسان، والمصير الذي ينتظره، والذي يجدر أن يهيّئه في أبهى وأفضل صورة ... تأتي هذه الآيات المباركات

التي هي آخر آيات سورة الحشر، والتي تأخذ بنظر الاعتبار مجمل ما ورد من آيات هذه السورة، لتوضّح حقيقة اخرى حول القرآن الكريم، وهي: أنّ هذا الكتاب المبارك له تأثير عميق جدّاً حتى على الجمادات، حيث إنّه لو نزل على الجبال لهزّها وحرّكها وجعلها في وضع من الإضطراب المقترن بالخشوع إلّا أنّه- مع الأسف- هذا الإنسان القاسي القلب يسمع آيات اللَّه تتلى عليه ولا تتحرّك روحه ولا يخشع قلبه. يقول سبحانه: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» «1».

وقد حملها البعض الآخر على ظاهرها وقالوا: إنّ كل الموجودات في هذا العالم- ومن جملتها الجبال- لها نوع من الإدراك والشعور الخاصّ بها، وإذا نزلت هذه الآيات عليها فإنّها

______________________________

(1) «متصدّع»: من مادة «صدع»، بمعنى شقّ الأشياء القوية، كالحديد والزجاج، وإذا قيل لوجع الرأس: صداع، فإنّه بسبب شعور الإنسان أنّ رأسه يريد أن يتشقّق من الألم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 145

ستتلاشى، ودليل هذا ما ورد في الآية (74) من سورة البقرة في وصف جماعة من اليهود.

قال تعالى: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ».

الآيات اللاحقة تستعرض قسماً مهمّاً من صفات جمال وجلال اللَّه سبحانه، التي لكل واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب، وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفاً للَّه سبحانه. أو بتعبير آخر: فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات، وكل منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدس، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحق

سبحانه. يقول تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ».

هنا وقبل كل شي ء يؤكّد على مسألة التوحيد، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية، ثم يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود.

ثم يعتمد على رحمته العامة التي تشمل جميع الخلائق: (الرحمن) ورحمته الخاصة التي تخصّ المؤمنين، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملًا، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو اللَّه.

أمّا في الآية اللاحقة، فبالإضافة إلى التأكيد على مسألة التوحيد فإنّها تذكر ثمانية صفات اخرى للَّه سبحانه، حيث يقول الباري ء عزّ وجل: «هُوَ اللَّهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». «الْمَلِكُ» الحاكم والمالك الحقيقي لجميع الكائنات.

«الْقُدُّوسُ» المنزّه من كل نقص وعيب.

«السَّلمُ» لا يظلم أحد، وجميع الخلائق في سلامة من جهته.

ثم يضيف سبحانه:

«الْمُؤْمِنُ» يعطي الأمان لأحبّائه، ويتفضّل عليهم بالإيمان.

«الْمُهَيْمِنُ» الحافظ والمراقب لكل شي ء.

«الْعَزِيزُ» القادر الذي لا يقهر.

«الْجَبَّارُ»: مأخوذ من (جبر) وقد ورد هذا المصطلح عشر مرّات في القرآن الكريم، تسع مرّات حول الأشخاص الظالمين والمستكبرين المتسلّطين على رقاب الامّة والمفسدين في الأرض ومرّة واحدة فقط عن اللَّه القادر المتعال، حيث ورد بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 146

ثم يضيف سبحانه: «الْمُتَكَبّرُ».

«المتكبّر»: من مادة «تكبّر» وجاءت بمعنيين:

الأوّل: إستعملت صفة المدح، وقد اطلقت على لفظ الجلالة، وهو إتّصافه بالعلو والعظمة والسمات الحسنة بصورة عامة.

والثاني: استعملت صفة الذم وهو ما يوصف به غير اللَّه عزّ وجل.

ولأنّ العظمة وصفات العلو والعزة لا تكون لائقة لغير مقام اللَّه سبحانه، لذا استعمل هذا المصطلح هنا بمعناه الإيجابي حول اللَّه سبحانه، وكلّما إستعمل لغير اللَّه أعطى معنى الذم.

وفي نهاية الآية يؤكّد مرّة اخرى مسألة التوحيد التي كان الحديث حولها ابتداءً حيث يقول تعالى: «سُبْحَانَ

اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

وفي آخر آية مورد البحث يشير سبحانه إلى ستّ صفات اخرى حيث يقول تعالى:

«هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ». «الْبَارِئُ». «الْمُصَوّرُ».

ولأنّ صفات اللَّه لا تنحصر فقط بالتي ذكرت في هذه الآية فإنّه سبحانه يشير إلى صفة أساسية لذاته المقدسة اللامتناهية، حيث يقول عزّ وجل: «لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .

ولهذا السبب فإنّه سبحانه منزّه ومبرّأ من كل عيب ونقص: «يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». ويعتبرونه تامّاً وكاملًا من كل نقص وعيب.

وأخيراً- للتأكيد الأكثر على موضوع نظام الخلقة- يشير سبحانه إلى وصفين آخرين من صفاته المقدسة، التي ذكر أحدهما في السابق بقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

الاولى دليل كمال قدرته على كل شي ء، وغلبته على كل قوّة.

والثانية إشارة إلى علمه وإطّلاعه ومعرفته ببرامج الخلق وتنظيم الوجود وتدبير الحياة.

إنّ مجموع ما ورد في الآيات الثلاث بالإضافة إلى مسألة التوحيد التي تكرّرت مرّتين، فإنّ مجموع الصفات المقدسة للَّه سبحانه تكون سبع عشرة صفة مرتبة بهذا الشكل: 1- عالم الغيب والشهادة، 2- الرحمن، 3- الرحيم، 4- الملك، 5- القدوس، 6- السلام، 7- المؤمن، 8- المهيمن، 9- العزيز، 10- الجبار، 11- المتكبر، 12- الخالق، 13- الباري ء، 14- المصور، 15- الحكيم، 16- له الأسماء الحسنى، 17- الموجود الذي تسبّح له كل موجودات العالم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 147

إنّ هذه الآيات تأخذ بيد السائرين في طريق معرفة اللَّه، وتقودهم من درجة إلى درجة ومن منزل إلى منزل، حيث تبدأ الآيات أوّلًا بالحديث عن ذاته المقدسة، ومن ثم إلى عالم الخلقة، وتارةً اخرى بالسير نحو اللَّه تعالى، حيث ترتفع روحيته إلى سمو الواحد الأحد، فيتطهّر القلب بالأسماء والصفات الإلهية المقدسة، ويربى في أجواء هذه الأنوار والمعارف، حيث تنمو براعم التقوى على ظاهر أغصان وجوده، وتجعله لائقاً لقرب جواره

لكي يكون وجوداً منسجماً مع كل ذرّات الوجود، مردّدين معاً ترانيم التسبيح والتقديس.

إنّ الآيات الأخيرة لهذه السورة آيات خارقة وعظيمة وملهمة، وهي درس تربوي كبير للإنسان.

في تفسير مجمع البيان: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«اسم اللَّه الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة حشر».

وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ آخر سورة الحشر، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».

«نهاية تفسير سورة الحشر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 149

60. سورة الممتحنة

محتوى السورة: تتكوّن موضوعات هذه السورة من قسمين:

1- يتحدث عن موضوع «الحبّ في اللَّه» و «البغض في اللَّه»، وينهى عن عقد الولاء والودّ مع المشركين، ويدعو المسلمين لكي يستلهموا من سيرة الرسول العظيم إبراهيم عليه السلام فيما يتعلّق بموقفه من أقرب الأقربين إليه (أبيه آزر) بلحاظ ما يمليه عليه الموقف المبدئي، كما تذكر بعض الخصوصيات الاخرى في هذا المجال ويتكرّر هذا المعنى في نهاية السورة، كما في بدايتها.

2- يتناول هذا القسم مسائل المرأة المهاجرة وضرورة تمحيصها، كما يبيّن أحكاماً اخرى في هذا الصدد.

واختيار اسم (الممتحنة) لهذه السورة كان بلحاظ حالة التمحيص والإمتحان التي وردت في الآية العاشرة من هذه السورة «1».

كما ذكر اسم آخر لهذه السورة وهو (سورة المودّة) وذلك بلحاظ النهي عن عقد الولاء والودّ مع المشركين، وقد أكّدت عليه السورة كثيراً.

______________________________

(1) قرأها البعض «ممتحَنة» (بفتح الحاء) وذلك بسبب حالة التمحيص والإمتحان للنسوة المهاجرات، وقرأها آخرون «ممتحِنة» (بكسر الحاء) وذلك لأنّ موضوعات السورة- أجمع- كانت وسيلة للامتحان والتمحيص.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 150

مختصر الامثل ج 5 169

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: عن ابي بن كعب قال: قال

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ومن قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

إنّ هذه النعم والألطاف الإلهية تكون للأشخاص الذين لا يكتفون بالتلاوة السطحية الفارغة من محتوى الروح، والبعيدة عن العلم والعمل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَ مَا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، أتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أمسلمة جئت»؟ قالت: لا. قال: «أمهاجرة جئت»؟ قالت: لا. قال: «فما جاء بك»؟ قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني! قال: «فأين أنت من شباب مكة»؟ وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر [وهذا يدلّ على عمق النازلة التي نزلت بمشركي قريش في بدر]؛ فحثّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليها بني عبدالمطلب، فكسوها وحملوها، وأعطوها نفقة. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتجهّز لفتح مكة، فأتاها حاطب بن

أبي بلتعة وكتب معها كتاباً إلى أهل مكة، وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إنّ رسول اللَّه يريدكم فخذوا حذركم»! فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه و آله بما فعل، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

مختصر الامثل، ج 5، ص: 151

علياً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود، وأبا مرثد وكانوا كلّهم فرساناً وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها. فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت باللَّه ما معها من كتاب، فنحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً، فهمّوا بالرجوع. فقال علي عليه السلام: «واللَّه ما كذبنا ولا كُذِبنا»، وسلّ سيفه وقال لها: «أخرجي الكتاب وإلّا واللَّه لأضربنّ عنقك»! فلمّا رأت الجدّ أخرجته من ذؤابتها قد أخبأته في شعرها.

فرجعوا بالكتاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب»؟ قال: نعم. قال: «فما حملك على ما صنعت»؟ قال: يا رسول اللَّه! واللَّه ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّاوله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عريراً فيهم [أي غريباً] وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتّخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ اللَّه ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فصدقه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعذره. فقام عمر بن الخطاب وقال:

دعني يا

رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وما يدريك يا عمر لعلّ اللَّه اطّلع على أهل بدر فغفر لهم فقال لهم: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

[وكيفية العلاقة التي يجب أن تتحكّم بين المسلمين من جهة، والمشركين وأعداء اللَّه من جهة اخرى، والتأكيد على إلغاء وتجنّب أي ولاء مع أعداء اللَّه .

التّفسير

نتيجة الولاء لأعداء اللَّه: علمنا مما تقدّم أنّ سبب نزول الآيات السابقة هو التصرف المشين الذي صدر من أحد المسلمين (حاطب بن أبي بلتعة) ورغم أنّه لم يكن قاصداً التجسّس إلّاأنّ عمله نوع من إظهار المودّة لأعداء الإسلام، فجاءت الآيات الكريمة تحذّر المسلمين من تكرار مثل هذه التصرفات مستقبلًا وتنهاهم عنها.

يقول سبحانه في البداية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ». مؤكّداً أنّ أعداء اللَّه وحدهم هم الذين يضمرون العداء للمؤمنين والحقد عليهم، ومع هذا التصور فكيف تمدّون يد الصداقة والودّ لهم.

ويضيف تعالى: «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبّكُمْ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 152

إنّهم يخالفونكم في العقيدة، كما أنّهم شنّوا عليكم الحرب عمليّاً، ويعتبرون إيمانكم باللَّه- الذي هو أكبر فخر لكم وأعظم قداسة تجلّلكم- غاية الجرم وأعظم الذنب، ومع هذه الأعمال التي مارسوها معكم، هل من المناسب إظهار المودّة لهم.

ثم يضيف القرآن الكريم موضّحاً: «إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى». فلا تعقدوا معهم أواصر الولاء والودّ.

فإذا كنتم ممّن تدّعون حبّ اللَّه حقّاً، وهاجرتم من دياركم لأجله سبحانه وترغبون في الجهاد في سبيله طلباً لرضاه تعالى، فإنّ هذه الأهداف العظيمة لا يناسبها إظهار الولاء لأعداء اللَّه سبحانه.

ثم يضيف عزّ وجل للمزيد من الإيضاح فيقول: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِم

بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ».

وبناءً على هذا فما عسى أن يغني الإخفاء وهو واقع بعلم اللَّه في الغيب والشهود؟

وفي نهاية الآية نجد تهديداً شديداً لمن يجانب السبيل الذي أمر به اللَّه سبحانه بقوله:

«وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ».

فمن جهة انحرف عن معرفة اللَّه تعالى بظنّه أنّ اللَّه لا يعلم ولا يرى ما يصنع، وكذلك إنحرف عن طريق الإيمان والإخلاص والتقوى، حينما يعقد الولاء وتقام أواصر المودّة مع أعداء اللَّه، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه وجّه ضربة قاصمة إلى حياته حينما أفشى أسرار المسلمين إلى الأعداء، ويمثّل ذلك أقبح الأعمال وأسوأ الممارسات حينما يسقط الشخص المؤمن بهذا الوحل ويقوم بمثل هذه الأعمال المنحرفة بعد بلوغه مرتبة الإيمان والقداسة.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه للتوضيح والتأكيد الشديد في تجنّب موالاتهم: «إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ» «1».

أنتم تكنّون لهم الودّ في الوقت الذي يضمرون لكم حقداً وعداوة عميقة ومتأصّلة، وإذا ما ظفروا بكم فإنّهم لن يتوانوا عن القيام بأي عمل ضدّكم.

والأدهى من ذلك هو سعيهم الحثيث في ردّكم عن دينكم وإسلامكم، والعمل على تجريدكم من أعظم مكسب وأكبر مفخرة لكم، وهي حقيقة الإيمان: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ».

______________________________

(1) «يثقفوكم»: من مادة: «ثقف» و «ثقافة»، بمعنى المهارة في تشخيص أو إنجاز شي ء ما، ولهذا السبب تستعمل- أيضاً- بمعنى الثقافة أو التمكّن والتسلّط المقترن بمهارة على الشي ء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 153

وفي آخر آية من هذه الآيات يستعرض سبحانه الجواب على حاطب بن أبي بلتعة ومن يسايره في منهجه من الأشخاص، حينما قال في جوابه لرسول اللَّه عن السبب الذي حدا به إلى إفشاء أسرار المسلمين لمشركي مكة، حيث قال بلتعة: أهلي وعيالي في مكة، وأردت أن

أمنع عنهم الأذى وأصونهم بعملي هذا، (واتّخذ عند أهلها يداً). يقول تعالى: «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ».

وذلك لأنّ الأرحام والأولاد المشركين سوف لن يجلبوا خيراً وعزّة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة.

ثم يضيف تعالى: «يَوْمَ الْقِيمَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ».

وهذا تأكيد على أنّ مقام أهل الإيمان هو الجنة، وأنّ أهل الكفر يساقون إلى جهنم وبئس المصير.

وفي نهاية الآية يحذّر الجميع مرّة اخرى بقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

إنّه عالم بنيّاتكم، وعالم بالأعمال التي تصدر منكم، سواء كانت في حالة السرّ أو العلن، وإذا كانت المصلحة الإلهية تقتضي عدم إفشاء أسراركم أحياناً كما في حادثة حاطب بن أبي بلتعة، فلأنّها لحكمة أو مصلحة يراها سبحانه، وليس لأنّه لا يعلم بها أو تخفى عليه خافية.

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَ بَدَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَ الْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنَا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) إنّ منهج القرآن (من أجل التأكيد على تعاليمه القيّمة) يعتمد في كثير من الموارد طريقة الاستشهاد بنماذج أساسية في عالم الإنسانية والحياة، وبعد التشديد السابق الذي مرّ بنا خلال الآيات السابقة في تجنّب عقد الولاء لأعداء اللَّه، يتحدث القرآن الكريم عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 154

إبراهيم عليه

السلام ومنهجه القدوة كنموذج رائد يحظى باحترام جميع الأقوام وخصوصاً العرب منهم. قال تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ».

والمراد من تعبير «الَّذِينَ مَعَهُ» هم المؤمنون الذين ساروا برفقته في هذا الطريق بالرغم من قلّة عددهم. ثم يضيف سبحانه لتوضيح هذا المعنى: «إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ».

ومرّة اخرى يؤكّدون مضيفين: «كَفَرْنَا بِكُمْ». والكفر هنا هو كفر البراءة الذي اشير له في بعض الروايات ضمن ما ورد في تعدّد أقسام الكفر الخمسة.

ويضيفون للمرّة الثالثة مؤكّدين بصورة أشدّ: «وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ».

وبهذا الإصرار وبهذه القاطعية وبدون أي تردّد أو مواربة يعلن المؤمنون انفصالهم وإبتعادهم ونفرتهم من أعداء اللَّه حتى يؤمنوا باللَّه وحده، وهم مستمرّون في موقفهم وإلى الأبد ولن يتراجعوا عنه أو يعيدوا النظر فيه إلّاإذا غيّر الكفار مسارهم وتراجعوا عن خطّ الكفر إلى الإيمان.

ولأنّ هذا القانون العام كان له استثناء في حياة إبراهيم عليه السلام يتجسّد ذلك بإمكانية هداية بعض المشركين، حيث يقول سبحانه معقّباً: إنّ هؤلاء قطعوا كل إرتباط لهم مع قومهم الكافرين حتى الكلام الودود والملائم: «إِلَّا قَوْلَ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ». وقد عمل إبراهيم عليه السلام بما وعد آزر به.

ويقول عزّ وجل في بيان هذا المعنى: «وَمَا كَانَ إِسْتِغْفَارُ إِبْرهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌ لِّلَّهِ تَبَّرَأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «1».

إنّ إبراهيم عليه السلام وأصحابه كانوا من أشدّ المخالفين والمحاربين للشرك، ولابدّ لنا من الإقتداء بهم وأخذ الدروس والعبر من سيرتهم، بما في ذلك ما يتعلق بموقفه من «آزر» إذا توفّرت لنا نفس

الشروط والخصوصيات.

وبما أنّ محاربة أعداء اللَّه، والصرامة والشدّة معهم- خصوصاً مع تمتّعهم بقدرة ظاهرية- سوف لن تكون فاعلة إلّابالتوكل على اللَّه تبارك وتعالى، يضيف سبحانه في نهاية الآية:

______________________________

(1) سورة التوبة/ 114.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 155

«رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

وفي الآية اللاحقة يشير القرآن الكريم إلى طلب آخر مهم وحسّاس لإبراهيم عليه السلام وأصحابه في هذا المجال، حيث يقول تعالى: «رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا».

من المحتمل أن يكون ما ورد في الآية إشارة إلى عمل حاطب بن أبي بلتعة واحتمال صدور شبيهه من أشخاص جهلة يكونون سبباً في تقوية الظالمين، من حيث لا يشعرون، بل يتصورون أنّهم يعملون لمصلحة الإسلام.

ويضيف في نهاية الآية: «وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فقدرتك يا اللَّه لا تقهر، وحكمتك نافذة في كل شي ء.

ومرّة اخرى يؤكّد سبحانه في آخر آية من هذه الآيات على نفس الأمر الذي ذكر في أوّل آية، حيث يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأَخِرَ».

لقد كانوا لنا اسوة، ليس فقط في موقفهم ضد منهج الكفر وعبدة الأوثان، بل هم اسوة لنا في الدعاء بين يدي الباري ء عزّ وجل، وقدوة لنا في طلب المغفرة منه.

وبدون شك فإنّ هذا التأسّي والإقتداء يرجع نفعه إلى المسلمين أنفسهم قبل الآخرين، لذا يضيف سبحانه في النهاية قوله: «وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

وذلك أنّ عقد الولاء مع أعداء اللَّه يقوّي عودهم وشوكتهم وبالتالي يؤدّي إلى هزيمة المسلمين.

وفي الغالب فإنّ وجود القدوة في حياة البشر مؤثّر في تربيتهم وتوجيههم، ولهذا السبب فإنّ النبي الأعظم صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين، وبقية الأنبياء الكرام عليهم السلام كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم

والتزاماتهم.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 156

مودّة الكفار غير الحربيين: يستمر الحديث في هذه الآيات المباركات تكملة للموضوعات التي طرحت في الآيات السابقة حول «الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه» وقطع العلاقة مع المشركين، بالرغم من أنّ قطع هذه الرابطة يولّد فراغاً عاطفياً بالنسبة للبعض من المسلمين، فإنّ المؤمنين الصادقين، وأصحاب رسول اللَّه المخلصين آمنوا بهذا المنهج وثبتوا عليه، واللَّه تعالى بشّر هؤلاء ألّا يحزنوا، لأنّ الثواب هو جزاؤهم بالإضافة إلى أنّ هذه الحالة سوف لن تستمرّ طويلًا، حيث يقول سبحانه: «عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِّنْهُم مَّوَدَّةً».

ويتحقق هذا الوعد وتصدق البشارة في السنة الثامنة للهجرة حيث منّ اللَّه على المسلمين بفتح مكة، ودخل أهلها جماعات جماعات في دين الإسلام الحنيف، مصداقاً لقوله تعالى: «يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا». وعند ذلك تتبدّد غيوم الظلمة والعداء والعناد من سماء حياتهم، وتشرق نفوسهم بنور الإيمان وحرارة الودّ وأجواء المحبة والصداقة.

وعلى كل حال، إذا تباعد بعض الناس عن خط الإسلام والمسلمين وكانت تربطهم علاقات إيجابية مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة لا ينبغي اليأس، لأنّ اللَّه تعالى قادر على كل شي ء، ويستطيع تغيير ما في قلوبهم، فهو الذي يغفر الذنوب والخطايا لعباده، حيث يضيف تعالى في نهاية الآية: «وَاللَّهُ قَدِيرٌ

وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وتبيّن الآيات اللاحقة شارحة وموضّحة طبيعة علاقة المودة مع المشركين، حيث يقول سبحانه: «لَّايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

إنّ المستفاد من الآيات الكريمة حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو (أصل كلي) لا يختص بذلك الوقت فقط، بل يمثّل خطاً عاماً لطبيعة هذه العلاقة في كل الأزمنة سواء اليوم أو غداً، في حياتنا المعاصرة والمستقبلية.

وواجب المسلمين وفق هذه الاسس أن يقفوا بكل صلابة أمام أية مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعين من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً ... وقطع كل صلّة قائمة على أساس المحبة والصداقة معهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 157

أمّا إذا كان الكفار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإياهم بروابط المودة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَ اسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِنْ فَاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا

اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قال ابن عباس: صالح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحديبية مشركي مكة على أنّ من أتاه من أهل مكة، رده عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو لهم، ولم يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتاباً، وختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبي صلى الله عليه و آله بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم، في طلبها، وكان كافراً. فقال: يا محمّد، اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ» من دار الكفر إلى دار الإسلام «فَامْتَحِنُوهُنَّ».

قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفن ما خرجت من بغض زوج، ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلّاحبّاً للَّه ورسوله. فاستحلفها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحلفت باللَّه الذي لا إله إلّاهو على ذلك. فأعطى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها عليه، فتزوجها عمر بن الخطاب.

فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يرد من جاءه من الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنّ ويعطي أزواجهن مهورهنّ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 158

التّفسير

تعويض خسائر المسلمين والكفار: إستعرضت الآيات السابقة موضوع «البغض في اللَّه» وما يترتّب على ذلك من قطع أي صلة مع أعداء اللَّه ... أمّا موضوع هذه الآيات فهو عن «الحبّ في اللَّه» وعن طبيعة العلاقة مع الذين إنفصلوا عن الكفر وإرتبطوا بالإيمان.

وينصبّ الحديث في الآية الاولى- من هذه الآيات

المباركات- عن النساء المهاجرات، حيث ضمّت هذه الآية سبع نقاط تتعلق بالنساء المهاجرات، كما تناولت نقاطاً اخرى تختص بالنساء المشركات.

النقاط التي تختص بالنساء المهاجرات هي:

1- امتحان النساء المهاجرات، حيث يوجّه سبحانه الحديث إلى المؤمنين فيقول تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ».

إنّ هذا الإمتحان هو أن يستحلفن أنّ هجرتهن لم تكن إلّامن أجل الإسلام.

كما يوجد احتمال آخر حول كيفية امتحان النسوة المهاجرات، وذلك كما ورد في الآية (12) من نفس السورة. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

ومن الممكن أن يكون الكذب في الحلف أيضاً، فيقول البعض خلافاً لما يعتقد به، إلّاأنّ التزام الكثير من الناس حتى المشركين في ذلك الزمان بمسألة البيعة والحلف باللَّه كان سبباً في تقليص دائرة غير الصادقين.

لذا يضيف سبحانه في العبارة التالية: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ».

2- يقول سبحانه في الأمر اللاحق: «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ».

3- في ثالث نقطة التي هي دليل على الحكم السابق يضيف تعالى: «لَاهُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ».

فالإيمان والكفر لا يجتمعان في مكان واحد، لأنّ عقد الزواج المقدس لا يمكن أن يربط بين محورين وخطّين متضادين (خط الإيمان) من جهة و (الكفر) من جهة اخرى.

4- كان المتعارف بين العرب أن يدفعوا للمرأة مهرها سلفاً، ولهذا المعنى أشار سبحانه في قوله في الأمر الرابع: «وَءَاتُوهُمْ مَّا أَنفَقُوا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 159

بالرغم من أنّ أزواج المؤمنات كفار فلابدّ من إعطائهم ما أنفقوا من مهور على زوجاتهم، وذلك لأنّ الطلاق

والانفصال قد تمّ بمبادرة من المرأة بسبب إيمانها، لذا توجب العدالة الإسلامية دفع خسارة الزوج.

وطبيعي أنّ دفع المهر يكون لمن عقد معاهدة صلح من الكفار مع المسلمين، كما في صلح الحديبية.

5- الحكم الآخر الذي يلي الحكم أعلاه، فهو قوله تعالى: «وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ».

ومن الضروري ملاحظة أنّ انفصال المرأة المؤمنة عن زوجها الكافر لا يحتاج إلى طلاق، إلّاأنّه لابدّ من انتهاء العدّة.

6- أمّا إذا كان الزوج قد آمن بالإسلام، وبقيت المرأة كافرة، فهنا تنفصل الرابطة الزوجية، فتنقطع صلة زواجهما، كما في قوله تعالى: «وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ».

«عصم»: جمع عصمة، وهي في الأصل بمعنى المنع، وهنا بمعنى النكاح والزوجية.

«الكوافر»: جمع كافرة، بمعنى النساء الكافرات.

7- أمّا آخر حكم ذكر في الآية الكريمة، فهو مهور النساء اللواتي ارتددن عن الإسلام والتحقنّ بالكفار فإنّ لكم الحق في المطالبة بمهورهن مثلما للكفار الحق في المطالبة بمهور زوجاتهم اللاتي دخلن دائرة الإسلام والتحقن بالمسلمين، حيث يقول تعالى: «وَسَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسَلُوا مَا أَنفَقُوا». وهذا ما توجبه العدالة والإحترام المتقابل للحقوق.

وفي نهاية الآية- وتأكيداً لما سبق- يقول سبحانه: «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

إنّ هذه الأحكام المستلهمة من العلم الإلهي، الممتزجة بحكمته تعالى.

والإلتفات إلى حقيقة أنّ كون جميع هذه الأحكام إلهية يُعدّ أكبر ضمانة إجرائية لها في قوّة التنفيذ.

وإستعرضت ثاني و آخر آية من هذه الآيات متابعة لما تقدّم، بعض الامور في هذا الصدد.

يقول تعالى أنّه في كل مرّة ترتدّ امرأة متزوّجة عن الإسلام وتلتحق بالكفار، ثم حدثت معركة بينكم وبين الكفار وحالفكم النصر عليهم وغنمتم منهم مغانم فاعطوا الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار: «وَإِن فَاتَكُمْ شَىْ ءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم

مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 160

وتدعو الآية الكريمة في نهايتها جميع المسلمين إلى الالتزام بالتقوى حيث يقول تعالى:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ».

والأمر بالتقوى هنا يمكن أن يكون بمراعاة الدقة والعدل في تعيين مقدار مهر الزوجة، باعتبار أنّ هذا الأمر يعتمد فيه على قول الزوج في الغالب، ولا يوجد سبيل لإثبات هذا الحق إلّاأقوال الزوجين، ولاحتمال أن تسبّب الوساوس الشيطانية في الإدعاء بمبلغ أكثر من المقدار الحقيقي للمهر، لذا يوصي بالتقوى.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لَا يَسْرِقْنَ وَ لَا يَزْنِينَ وَ لَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَ لَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) شروط بيعة النساء: استمراراً للبحث الذي تقدّم في الآيات السابقة والذي استعرضت فيه أحكام النساء المهاجرات، تتحدث هذه الآية عن تفاصيل وأحكام بيعة النساء المؤمنات مع الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

لقد ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت يوم فتح مكة لما فرغ النبي صلى الله عليه و آله من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية، فشرط اللَّه تعالى في مبايعتهم أن يأخذ عليهن هذه الشروط. يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلدَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

وبعد هذه الآية أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله البيعة من النساء المؤمنات.

وروي أنّه صلى الله عليه و آله كان إذا بايع النساء، دعا

بقدح ماء، فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن فيه. وقيل: إنّه كان يبايعهن من وراء الثوب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) بدأت هذه السورة بآية تؤكّد على قطع كل علاقة بأعداء اللَّه، وتختتم هذه السورة بآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 161

تؤكّد هي الاخرى على نفس المفهوم والموقف من أعداء اللَّه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

ويحذّر القرآن الكريم من أن يتّخذ أمثال هؤلاء أولياء وأن تفشى لهم الأسرار فيحيطون علماً بخصوصيات الوضع الإسلامي.

إنّ عبارة «قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» لها مفهوماً واسعاً حيث يشمل جميع الكفار والمشركين. والتعبير ب «الغضب» في القرآن الكريم لا ينحصر باليهود فقط، إذ ورد بشأن المنافقين أيضاً كما في الآية (6) من سورة الفتح.

ثم تتناول الآية أمراً يعتبر دليلًا على هذا النهي حيث يقول تعالى: «قَدْ يِسُوا مِنَ الْأَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ».

ذلك أنّ موتى الكفار سيرون نتيجة أعمالهم في البرزخ حيث لا رجعة لهم لجبران ما مضى من أعمالهم السيّئة، لذلك فإنّهم يئسوا تماماً من النجاة، وهؤلاء المجرمون في هذه الدنيا قد غرقوا في آثامهم وذنوبهم إلى حدّ فقدوا معه كل أمل في نجاتهم، كما هو الحال بالنسبة للموتى من الكفار.

«نهاية تفسير سورة الممتحنة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 163

61. سورة الصف

محتوى السورة: تدور أبحاث هذه السورة حول محورين أساسيين.

الأوّل: فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية، وضمان خلوده وبقائه.

والثاني: وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والإلتزام به.

إلّا أنّنا حينما نتأمل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى ثلاثة أقسام أخرى:

1- الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل.

2- الإشارة إلى موقف

اليهود من العهود ونقضهم لها، بالإضافة إلى بشارة السيد المسيح عليه السلام بظهور الإسلام العظيم.

3- استعراض لحياة حواري السيد المسيح والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.

إنّ إختيار إسم «الصّف» لهذه السورة كان بلحاظ العبارة التي وردت في الآية الرابعة منها، وتسمّى أحياناً بسورة «عيسى»، أو سورة «الحواريين».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة عيسى عليه السلام كان عيسى مصلّياً عليه، مستغفراً له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 164

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون: وددنا لو أنّ اللَّه دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبرهم اللَّه أنّ أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد. فكره الناس، وشق عليهم، وتباطأوا عنه، فنزلت الآية.

التّفسير

اعتبرت هذه السورة من السور المسبّحات، ذلك لأنّها تبدأ بتسبيح اللَّه في بدايتها:

«سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ولِم لا يسبّحونه ولا ينزّهونه من كل عيب ونقص: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» القدير الذي لا يقهر والحكيم المحيط بكل شي ء علماً.

ثم يضيف الباري ء عزّ وجل في معرض لوم وتوبيخ للأشخاص الذين لم يلتزموا بأقوالهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ».

ثم يضيف سبحانه مواصلًا القول: «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ».

فمفهوم الآية يشمل كل تخلّف عن عمد، سواء

تعلق بنقض العهود والوعود أو غير ذلك من الشؤون، حتى أنّ البعض قال: إنّها تشمل حتى النذور.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف اللَّه بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ»».

ثم تطرح الآية اللاحقة مسألة مهمة للغاية في التشريع الإسلامي، وهي موضوع الجهاد في سبيل اللَّه، حيث يقول تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 165

«مرصوص»: من مادة «رصاص» بمعنى معدن الرصاص، ولأنّ هذه المادة توضع بعد تذويبها بين طبقات البناء من أجل استحكامه وجعله قوياً ومتيناً للغاية، لذا اطلقت هذه الكلمة هنا على كل أمر قوي ومحكم.

والمقصود هنا أن يكون وقوف وثبات المجاهدين أمام العدو قوياً راسخاً.

إنّ من العوامل المهمة والمؤثرة في تحقيق النصر عامل الانسجام ووحدة الصفوف أمام الأعداء في ميادين القتال، وهذا المبدأ لا يجدر بنا الالتزام به في الحرب العسكرية فحسب، بل علينا تجسيده في الحروب الإقتصادية والسياسية ... وإلّا فسوف لن نحقق شيئاً.

وَ إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَ إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) البشارة بظهور النبي (أحمد): تأتي الآية الكريمة- أعلاه- مكمّلة لمحورين أساسيين تحدثت عنهما الآيات السابقة وهما (الانسجام بين القول والعمل) و (وحدة

الصف الإيماني)، لتستعرض لنا زاوية من حياة النبيين العظيمين (موسى وعيسى) عليهما السلام، ومتطرّقة إلى طبيعة التناقض والانفصام بين أقوال أتباعهم وأعمالهم، بالإضافة إلى (عدم إنسجام صفوفهم) وأخيراً المصير السي ء الذي انتهوا إليه. يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَدْ تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ».

والمراد من هذا الإيذاء هو ما كانوا ينسبونه لموسى عليه السلام من تهم، كما يبيّن ذلك في الآية (69) من سورة الأحزاب: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا».

ومما لا شك فيه أنّ هذه الممارسات لم تبق بدون عقاب كما نقرأ ذلك في نهاية الآية حيث قال تعالى: «فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

إنّ ما يستفاد من المفهوم الذي إستعرضته الآية المباركة أنّ الهداية والضلالة وإن كانت من قبل اللَّه سبحانه، إلّاأنّ مقوّماتها وأرضيتها تكون من الإنسان نفسه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 166

وتشير الآية اللاحقة إلى مسألة تكذيب بني إسرائيل لرسالة عيسى عليه السلام ومخالفتهم له، حيث يضيف تعالى: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى إِسْمُهُ أَحْمَدُ».

وهذا بيان من عيسى عليه السلام أنّه يمثّل همزة وصل وحلقة من الرسالة بين نبيين وكتابين وامّتين، فقد سبقته رسالة موسى عليه السلام وكتابه، وستليه رسالة الإسلام على يد النبي العظيم محمّد صلى الله عليه و آله.

وبالرغم من أنّ قسماً من بني إسرائيل قد آمنوا بالرسول الموعود، إلّاأنّ الأكثرية الغالبة كان لهم موقف عدائي متشدّد تجاهه، مما دعاهم وسوّل لهم إنكار معاجزه الواضحة، وذلك ما يجسّده قوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيّنَاتِ قَالُوا هذَا

سِحْرٌ مُّبِينٌ».

العجيب هو أنّ اليهود كانوا قد شخّصوا الرسول العظيم محمّد صلى الله عليه و آله قبل مشركي العرب، إلّا أنّهم بقي على لجاجتهم وإصرارهم وعنادهم وإنكارهم له.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَ ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم: لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله رغم ما بشّر به المسيح عليه السلام حول ظهور رسول الإسلام، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة. وتبيّن الآيات- مورد البحث- عاقبة هؤلاء ومصيرهم السي ء ونتيجة عملهم الخائب. فيقول تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلمِ».

نعم، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي الرسول به من إعجاز سحراً، وما يتحدث به من مبادى ء إلهية سامية ضلالًا وباطلًا ... فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحق والهداية والنجاة، ويصدّون سائر عباد اللَّه عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية.

ويضيف سبحانه في نهاية الآية: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 167

ثم يستعرض القرآن الكريم نقطة اخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحق ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادى ء السماء والأنوار الإلهية العظيمة، حيث يقول سبحانه: «يُرِيدُونَ لِيُطْفُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ

نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

إنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد صلى الله عليه و آله، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية ... بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الاحصائيات، حيث إنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمر رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (الماديين الشرقيين).

وهذا الأمر بحد ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم.

ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية- مورد البحث- حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزّ وجل: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدّم مستمر، وقوّة يخشى منها عالميّاً.

ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظهور الإمام المهدي- أرواحنا فداه- إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) التجارة الرابحة: قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمة

لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل اللَّه، وما الآيات مورد البحث إلّاتأكيد على هذين الأصلين، من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 168

خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهية في روح الإنسان، والتي هي شرط إنتصار الإسلام على كل الأديان، وقد اشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية. يقول تعالى في البداية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ».

وقد بادر في نفس الوقت وبدون إنتظار للإجابة متحدّثاً عن هذه التجارة المتعددة المنافع، حيث يضيف تعالى: «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ». ومما لا شك فيه أنّ اللَّه سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين. لذا يقول في نهاية الآية: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

إنّ الإيمان بالرسول لا ينفصل عن الإيمان باللَّه تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال.

وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّه تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهمية، بل بلحاظ أنّه مقدمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلّاعند توفّر الإمكانات المادية.

لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها.

(فالمشتري) هنا هو اللَّه سبحانه، و (البائع) هم المؤمنون، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال، ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة.

يقول تعالى: «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان، وعندما يتحقق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء

والإطمئنان تنشر ظلالها عليه.

كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها الباري ء على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول: «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ».

يالها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 169

ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) كونوا كالحواريين: في الآية الأخيرة من سورة الصّف يدور الحديث مرّة اخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقاً في هذه السورة، إلّاأنّ الحديث عنه يستمر هنا في هذه الآية- أيضاً باسلوب جديد. لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمة غير الجنة والنار وذلك بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ».

نعم، أنصار اللَّه، اللَّه الذي هو منشأ جميع القدرات، ومرجعها.

ثم يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى: «كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَن أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ».

ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز: «قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ». وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية، ومتصدّين لحرب أعداء الحق والرسالة، حيث يقول سبحانه: «فَامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ».

وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه:

«فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ».

وأنتم أيضاً يا حواريي محمّد، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي، لأنّكم أنصار

اللَّه، وإنّ النصر على أعداء اللَّه سيكون حليفكم أيضاً، كما انتصر الحواريون عليهم.

من هم الحواريون؟ جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات، مرتين منها في هذه السورة المباركة.

«الحواريون»: تعبير يراد به الإشارة إلى إثني عشر شخصاً من الأنصار الخواص

مختصر الامثل، ج 5، ص: 170

لعيسى عليه السلام وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حالياً ك (إنجيل متّى، ولوقا باب 6).

في الدرّ المنثور: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للنفر الذين لاقوه بالعقبة: «أخرجوا إلي إثنى عشر رجلًا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم». مما يعكس أهمية هؤلاء العظام.

«نهاية تفسير سورة الصّف»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 171

62. سورة الجمعة

مختصر الامثل ج 5 199

محتوى السورة: تدور هذه السورة حول محورين أساسيين:

1- التوحيد وصفات اللَّه والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.

2- الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات المتعلقة بهذه العبادة العظيمة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها ما أمكن، ومع أنّ العدول في القراءة عن سورة «التوحيد» و «كافرون» إلى سور اخرى غير جائز، إلّاأنّ هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة، فيجوز العدول عنهما إلى سورة «الجمعة» و «المنافقون» بل عدّ ذلك مستحبّاً.

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ

إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 172

تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح للَّه عزّ وجل، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى للَّه، ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدمة للأبحاث القادمة، حيث يقول تعالى:

«يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». حيث يسبّحونه بلسان الحال والقال وينزّهونه عن جميع العيوب والنقائض: «الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

وبناءً على ذلك تشير الآية أوّلًا إلى «المالكية والحاكمية المطلقة»، ثم «تنزّهه من أي نوع من الظلم والنقص» وذلك لإرتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي، فجاءت كلمة «قدّوس» لتنفي كل ذلك عنه جلّ شأنه.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات اللَّه، يتحدث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدوس، حيث يقول: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ».

وذلك من أجل أن يطهّرهم من كل أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد «وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

«الامّيين»: جمع «امّي» وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الام باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة غير مدرسة الام).

إنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الاميين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقانيتها، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص امّي أيضاً، بل هو نور أشرق في الظلمات، وهي بحد ذاتها معجزة باهرة وسنداً قاطعاً على

حقانيته.

ولخصّت الآية الهدف من بعثة الرسول صلى الله عليه و آله في ثلاثة امور، جاء أحدها كمقدمة وهو تلاوة الآيات عليهم، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير.

نعم، جاء الرسول صلى الله عليه و آله ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى اللَّه لتنال القرب منه.

ويمكن أن يكون الفرق بين «الكتاب» و «الحكمة» هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرسول صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 173

وتعبير «الضلال المبين» إشارة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام.

نعم لقد جاء الرسول وأنقذهم ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم. وحقّاً إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضال يعتبر أحد الأدلة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة.

ولكن لم يكن الرسول مبعوثاً لهذا المجتمع الامّي فقط، بل كانت دعوته عامة لجميع الناس، فقد جاء في الآية التالية: «وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ».

بناءً على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرسول من العرب والعجم.

وجاء في آخر الآية: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة- أي نعمة بعث نبي الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي- يضيف قائلًا: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ».

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَ لَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا

قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) الحمار الذي يحمل الأسفار: جاء في بعض الروايات أنّ اليهود قالوا: (إذا كان محمّد قد بعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد اشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به. يقول تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُوا التَّوْرَيةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا». أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم «كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا».

لقد إقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 174

هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة.

ثم يقول تعالى: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِ اللَّهِ». إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملًا، بل أنكروه بلسانهم أيضاً، حيث نصّت الآية (87) من سورة البقرة وهي تصف اليهود قائلة: «أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ».

ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

صحيح أنّ الهداية شأن إلهي، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة، وهي الروح التواقة لطلب الحق والبحث عنه، وهي امور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه، ولا شك أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية.

وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون، ففي رواية عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من اللَّه إلّابعداً» «1».

ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاءً على المجتمع ووبالًا عليه، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه

من هذا القبيل إلى مصير خطير.

يقول الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنهافكيف إذا الرعاة لها ذئاب.

وأوضحنا سابقاً أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم امّة مختارة، أو نسيجاً خاصاً لا يشبه غيره، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء اللَّه وأحبّاؤه المنتقمون، وهذا ما أشارت إليه الآية (18) من سورة المائدة: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنؤُا اللَّهِ وَأَحِبؤُهُ». (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين).

ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اخرى بقوله: «قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائماً، ولا يتمّ اللقاء المعنوي باللَّه يوم القيامة.

إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلقون بهذه الدنيا وغير صادقين في إدعائكم.

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 1/ 126.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 175

ثم يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله: «وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».

لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشي ء من عاملين أساسيين:

الأوّل: عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.

والثاني: أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تقام المحكمة الإلهية.

وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون- أيضاً- بيوم الحساب.

وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي إرتكبوها، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية.

غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئاً، فالموت أمر حتمي لابدّ أن يدرك الجميع، إذ يقول تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلقِيكُم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء

والملائكة وجميع الناس: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَللِ وَالْإِكْرَامِ» «1».

وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد، إضافة إلى علم اللَّه تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل.

وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى اللَّه وتطهير النفس والقلب من المعاصي، وبعد أن يخلص الإنسان للَّه تعالى فإنّه لن يخاف الموت حينئذٍ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَ تَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجَارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

______________________________

(1) سورة الرحمن/ 26 و 27.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 176

سبب النّزول

نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصاً الآية «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً» روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد، هو أنّه في أحد السنوات: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه و آله يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه و آله إلّارهط، فنزلت الآية فقال صلى الله عليه و آله:

«والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».

وقال المقاتلان: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام

بتجارة. وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق، إلّاأتته وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق، أو برّ، أو غيره فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه، فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه.

فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائم على المنبر يخطب. فخرج الناس، فلم يبق في المسجد إلّااثنا عشر رجلًا وامرأة، فقال صلى الله عليه و آله: «لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء». وأنزل اللَّه هذه الآية «1».

التّفسير

أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي: كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان، وتمثّل الهدف الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلقة بها. ففي البداية يخاطب اللَّه تعالى المسلمين جميعاً بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

«نودي»: من مادة «نداء» وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان.

فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر للَّه.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 11.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 177

من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كل عمل يمكن أن يزاحم الصلاة.

المقصود من (ذكر اللَّه) بالدرجة الاولى هو الصلاة، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاخرى ومتضمنة (لذكر اللَّه) وهي جزء من صلاة الجمعة، وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً.

تضيف الآية

التي تليها قائلة: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

في آخر الآية- مورد البحث- ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، إذ يقول تعالى: «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا».

ولكن «قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

فمن المؤكّد، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والإستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن مقارنتها بأي شي ء آخر، فإذا كنتم تظنّون إنقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ «اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

التعبير ب «اللهو» إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة، فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة، إضافةً إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو.

بحوث

1- أوّل صلاة جمعة في الإسلام: في المجمع: قيل: قبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضاً مثل ذلك، فلنجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر اللَّه عزّ وجل ونشكره. وكما قالوا يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة، وذلك لقلتهم. فأنزل اللَّه تعالى في ذلك: «إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ» الآية. فهذه أوّل جمعة في الإسلام. فأمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأصحابه فقيل:

إنّه قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مهاجراً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 178

حتى نزل قبا على عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين، لإثنتي عشرة ليلة، خلت من شهر ربيع الأوّل حين الضحى، فأقام بقبا يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة قاصداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجده. وكانت هذه الجمعة أوّل جمعة جمعها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الإسلام. فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة.

2- أهمية صلاة الجمعة: إنّ أفضل دليل على أهمية هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكل ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة.

ورد عن النبي صلى الله عليه و آله في خطبة طويلة نقلها المخالف والؤالف: «إنّ اللَّه تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إستخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللَّه شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب» «1».

ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة، عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم) وأمّا في زمن الغيبة، فإنّه لا يكون مشمولًا بهذا الذم والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميتها في هذا الوقت أيضاً.

3- فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسية: إنّ صلاة الجمعة- قبل كل شي ء- عبادة جماعية ولها

أثر العبادات عموماً، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب.

أمّا من الناحية السياسية والاجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحج السنوي، لهذا نجد الرسول صلى الله عليه و آله يقول في رواية أنّ الجمعة حج من لا يملك القدرة على المشاركة في الحج.

ويعطي الإسلام أهمية خاصة لثلاثة مؤتمرات كبيرة:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 5/ 7 (باب وجوب صلاة الجمعة). رسائل شهيد الثاني، رسالة الجمعة/ 61.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 179

التجمعات التي تتمّ يومياً لصلاة الجماعة.

التجمع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة.

ومؤتمر الحج الذي يعقد في كل سنة مرّة.

ودور صلاة الجمعة مهم جدّاً خاصة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

«نهاية تفسير سورة الجمعة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 181

63. سورة المنافقون

محتوى السورة: يمكن تقسيم مباحث هذه السورة بأربعة أقسام:

1- صفات المنافقين وتتضمن نقاطاً مهمة وحساسة.

2- تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الإنتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق.

3- حثّ المؤمنين على عدم الاستغراق في الدنيا وزخرفها والإنشغال بذلك عن ذكر اللَّه.

4- حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل اللَّه، والإنتفاع من الأموال قبل الموت وقبل إشتعال الحسرة في نفوسهم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الواجب على كل مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل كعمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان جزاؤه وثوابه على اللَّه الجنة».

إنّ المرور على هذه السور دون الاستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجاً

للحياة، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق وإجتثاث جذورها من نفس الإنسان.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 182

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) مصدر النفاق وعلامات المنافقين: نذكر مقدمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اسس الإسلام وظهور عزّه، فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكة، لأنّ الأعداء يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم.

وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كل ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء.

ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كل تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكة.

ومما يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة- أي مسألة النفاق- غير محصورة بعصر الرسول، بل إنّ جميع المجتمعات- وخاصة الثورية منها- تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال

اعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع، وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر.

ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 183

القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اخرى.

ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم.

ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر، أي معسكر النفاق ولهذا نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم.

وبعد هذه المقدمة نرجع إلى تفسير الآيات.

إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامة للنفاق، حيث يقول تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ».

ويضيف: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ». لأنّهم لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول اللَّه وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض.

وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث اختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً، وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق.

وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: «اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

ذلك لأنّهم يضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء.

من عبارة «جُنَّةً» يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضد المؤمنين، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً.

وتتطرق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء

هذه الأعمال السيئة، حيث يقول تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ».

والواقع أنّ المنافقين مجموعتان:

المجموعة الاولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً.

والثانية: كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثم ارتدّوا ولزموا طريق النفاق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 184

والظاهر أنّ الآية- مورد البحث- تتعرض للمجموعة الثانية.

وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلمِهِمْ».

فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم.

وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً، إذ يقول تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ» فهم يتمتعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة.

«وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» لأنّه ينطوي على شي ء من التحسين والعذوبة.

وفي الوقت الذي يتأثّر الرسول بحديث بعضهم- كما يبدو من ظاهر التعبير- فكيف بالآخرين؟!

هذا فيما يخصّ ظاهرهم، أمّا باطنهم ف «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ».

فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاوٍ منخور من الداخل، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتعون بأيّة استقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة.

وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكل والاعتماد على اللَّه ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اخرى: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ».

يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظن، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة ...

تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم.

وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلًا: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ». أي: هم الأعداء الواقعيون.

ويضيف: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ». أي: كيف ينحرفون عن الحق.

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ

اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 185

سبب النّزول

ذكرت كتب التاريخ والتفسير سبباً مسهباً لنزول هذه الآيات، وجاء في الكامل في التاريخ: أنّه بعد غزوة بني المصطلق إزدحم الناس على الماء، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد اللَّه بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث السنّ فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما واللَّه «لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، واللَّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي صلى الله عليه و آله وذلك عند فراغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من غزوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يا رسول اللَّه مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه؟ ولكن أذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال: يا رسول اللَّه، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك

ما قال عبد اللَّه بن ابي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. قال أسيد: فأنت واللَّه تُخرجُه إن شئت، فإنّك العزيز وهو الذليل.

ثم قال: يا رسول اللَّه، ارفق به فواللَّه لقد منّ اللَّه بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبد اللَّه بن ابي أنّ زيداً أعلم النبي صلى الله عليه و آله قوله فمشى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحلف باللَّه ما قلت ما قال ولا تكلّمت به، وكان عبد اللَّه في قومه شريفاً، فقالوا: يا رسول اللَّه عسى أن يكون الغلام قد أخطأه. وأنزل اللَّه: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ» تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باذن زيد وقال: هذا الذي أوفى اللَّه باذنه. وبلغ عبد اللَّه بن أبي سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلًا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 186

عاتبه قومه وعنّفوه وتوعدوه «1».

التّفسير

علامات اخرى للمنافقين: تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها. يقول تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُّسْتَكْبِرُونَ».

إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني

التسليم والرضا والاستسلام الكامل للحق.

«لوّوا»: من مادة «لي» وهي في الأصل بمعنى برم الحبل، وتأتي أيضاً بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضاً واستكباراً.

ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

إنّ استغفار النبي تؤثّر حينما يتوبون بصدق وإخلاص، ويستسلمون للحقّ، هنالك يؤثّر استغفار الرسول وتقبل شفاعته.

والمقصود من الفسّاق، هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم.

والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّاً، هو قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا». فلا تعطوا المسلمين شيئاً من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرقوا عن رسول اللَّه.

«وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ».

إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة، ولم يعرفوا أنّ كل ما لدى الناس إنّما هو من اللَّه. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من دواعي الإفتخار والإعتزاز، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد.

ثم يقول تعالى في إشارة اخرى إلى مقالة اخرى سيّئة من مقالاتهم: «يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ».

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 81.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 187

وهذا نفس الكلام الذي أطلقه عبد اللَّه بن ابي، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرسول وأصحابه من المهاجرين، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها.

ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد، لكنه كان لسان حال المنافقين جميعاً، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي «يقولون ...» فيردّهم ردّاً حازماً، إذ يقول:

«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَايَعْلَمُونَ».

ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا

هذا الكلام، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا: (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم إقتصادياً أو أخرجناهم من مكة).

وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها، فإن لم تخضع لها تحاصرها اقتصادياً لتركيعها.

وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجاً واحداً على مدى التاريخ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق، ولم يعلموا أنّ اللَّه قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم: إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمة التي تدفع باتّجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة اللَّه وتحصيل رضوانه، لكنّها يمكن أن تتحول إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلق به الإنسان بشكل مفرط.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 188

بعد هذا التحذير الشديد، يأمر اللَّه تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول: «وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ».

والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع

الإنفاق الواجبة والمستحبة.

والطريف أنّه جاء في ذيل الآية «فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ» لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان.

إنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كل ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة، عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً، ليعوّضوا ما فات، ويأتيهم الجواب «وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا».

وفي الآية (34) من سورة الأعراف: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَايَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ».

ثم تنتهي الآية بهذه العبارة: «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فقد سجل كل شي ء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب.

«نهاية تفسير سورة المنافقون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 189

64. سورة التغابن

محتوى السورة: إنّ سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور المدنية، وصدرها أكثر انسجاماً مع السور المكية، ولكنّنا نرى أنّها مدنية طبقاً للمشهور.

يمكن تقسيم مباحث هذه السورة إلى عدّة أقسام:

1- بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال اللَّه تعالى.

2- حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين.

3- ثم يجري الحديث عن المعاد، وأنّ يوم القيامة «يوم تغابن»، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة، واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم.

4- الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه و آله وتحكيم قواعد النبوّة.

5- ويأمر اللَّه تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله، ويحذّر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات، وتختم السورة بذكر صفات اللَّه تبارك وتعالى.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة التّغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل

عند من يجيز شهادتها، ثم لا تفارقه حتى يدخل الجنة».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 190

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) تبدأ هذه السورة بتسبيح اللَّه، اللَّه المالك المهيمن على العالمين القادر على كل شي ء:

«يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ». ويضيف: «لَهُ الْمُلْكُ». والحاكمية على عالم الوجود كافّة، ولهذا السبب: «وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ثم يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ» وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار «فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ».

وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له معنى عميقاً: «وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

ثم يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية اللاحقة: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

فإنّ هذا الخلق الحق الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة، حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة «ص»: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا».

ثم يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس. يقول تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ

صُوَرَكُمْ». لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه، وأخيراً تنتهي الامور إليه تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

ولأنّ الإنسان خلق لهدف سام عظيم، فعليه أن يكون دائماً تحت إرادة الباري ء وضمن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 191

طاعته، فإنّه: «يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

تجسّد هذه الآية علم اللَّه اللامتناهي في ثلاثة مستويات: علمه بكل المخلوقات، وما في السماوات والأرض.

ثم علمه بأعمال الإنسان كافّة، سواء أضمرها أو أظهرها.

والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه.

وممّا لا شك فيه أنّ ذلك سيهي ء الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.

ثم يلفت القرآن الكريم الإنتباه إلى أهمّ عامل في تربية الإنسان وتعليمه، وهو الإتّعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ألم تمرّوا على مدنهم المهدّمة وآثارهم المدمّرة في طريقكم إلى الشام والأماكن الاخرى، فتروا بامّ أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم، وكان هذا عذابهم في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشد.

ثم تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبر على الأنبياء:

«ذلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا». وبهذا المنطق عصوا وكفروا «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا» واللَّه في غنى عن طاعتهم «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و «اللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

ولو كفرت كل الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شي ء، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً، نحن الذين نحتاج إلى كل هذه التعليمات والمناهج التربوية.

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ

وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 192

في أعقاب تلك الآيات التي بحثت مسألة الخلقة والهدف من الخلق، جاءت هذه الآيات لتكمّل البحث الذي يطرح قضية المعاد والقيامة، حيث يقول تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا».

فإنّ القرآن الكريم يأمر الرسول الأكرم في أعقاب هذا الكلام بقوله: «قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ». لأنّهم في البداية كانوا عدماً وخلقهم اللَّه، فإعادتهم إلى الوجود مرّة اخرى أيسر ..

ولابدّ أن تكون النتيجة كما قرّرتها الآية اللاحقة وأنّه بعد أن ثبت أنّ المعاد حق: «فَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

وبناءً على ذلك يأمرهم الباري ء أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء.

والإيمان هنا لابدّ أن يرتكز على ثلاثة اصول: (اللَّه) و (الرسول) و (القرآن) التي تتضمن الامور الاخرى جميعاً.

وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ».

فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو «يوم الجمع» الذي ورد كراراً بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم، منها ما جاء في الآية (49 و 50) من سورة الواقعة: «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْأَخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ».

ثم يضيف تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ». أي اليوم الذي يعرف فيه «الغابن» بالفوز عن «المغبون» بالغلبة، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذين غبنوا وخسرت تجارتهم.

ثم يتحدث القرآن

الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلًا: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقق الشرطين الأساسيين، الإيمان والعمل الصالح.

ثم يقول تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِايَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 193

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) كل ما يصيبنا بإذنه وعلمه: في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفار كانوا دائماً يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائماً بالمشاكل، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها، وبذلك يتّضح وجه الإرتباط بين هذه الآية وما قبلها.

يقول تعالى أوّلًا: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

فما يجري من حوادث كلّها بإذن اللَّه لا تخرج عن إرادته أبداً.

وعندما نقول يقع ذلك بإرادة اللَّه، فإنّما نعني «الإرادة التكوينية» لا الإرادة التشريعية.

من مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين:

الأوّل: ما يكون جزءاً من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاخرى، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن

اللَّه.

الثاني: هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده، وله الدور الأساسي في تحققها، وهذه يقول القرآن: إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم.

ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ».

فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع، واللَّه يهدي الإنسان حينما يكون شكوراً لنعمه، صابراً على بلائه، مستسلماً لقضائه.

وتقول الآية في نهاية المطاف: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الامتحانات والاختبارات الصعبة، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة، وسيؤثر ذلك حتماً ويدفع الإنسان إلى طاعة اللَّه ورسوله، و «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».

لا يخفى أنّ إطاعة الرسول فرع عن إطاعة اللَّه تعالى وطاعة الرسول تقع في طول طاعة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 194

اللَّه، فهما في خطّ واحد، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة. وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك، فإنّ طاعة اللَّه تتعلق باصول القوانين والتشريعات الإلهية، بينما طاعة الرسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل، فعلى هذا تكون الاولى هي الأصل، والثانية فرع.

ثم يضيف قائلًا: «فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

نعم، إنّ الرسول ملزم بتبليغ الرسالة، وسيتولّى الباري ء جلّ شأنه محاسبتكم، وهذا نوع من التهديد الخفي الجاد.

ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضية التوحيد في العبودية، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة، إذ يقول تعالى: «اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ». وبما أنّه كذلك إذاً: «عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

فليس غير اللَّه يستحق العبودية، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره، والغنى كله له، وكل ما لدى الآخرين فمنه وإليه، فيجب الرجوع له والإستعانة به على كل شي ء.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَ أَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا

وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله تعالى:

«إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ». وذلك أنّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعلّق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك اللَّه أن تذهب عنّا وتدعنا فنضبع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذّرهم اللَّه أبناءهم ونساءهم، ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 195

يمضي ويذرهم ويقول: أما واللَّه لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع اللَّه بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي ء أبداً، فلمّا جمع اللَّه بينه وبينهم أمره اللَّه أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال: «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

التّفسير

أولادكم وأموالكم وسيلة لإمتحانكم: حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة للَّه ورسوله حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِن أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».

إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحياناً يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، واخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك.

وتظهر هذه العداوة أحياناً بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحيناً آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد.

ومن أجل أن لا يؤدي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل، نجد

القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية: «وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرضوا لهم بعد ذلك، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفو اللَّه عنكم.

«العفو»: بمعنى صرف النظر عن العقوبة؛ و «الصفح»: في مرتبة أعلى، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم؛ و «الغفران»: الذي يعني ستر الذنب وتناسيه.

وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلي آخر حول الأموال والأولاد، حيث تقول: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ». فإذا تجاوزتم ذلك كله فإنّ: «وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».

وقد تقدم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة»، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الإمتحان والإبتلاء.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «لا يقولنّ أحدكم: أللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلّاوهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن فإنّ اللَّه سبحانه يقول: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 196

وجاء في الآية اللاحقة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لّاَنفُسِكُمْ».

لقد أمر اللَّه تعالى أوّلًا بإجتناب الذنوب، ثم بإطاعة الأوامر، وتعدّ الطاعة في قضية الإنفاق مقدمة لتلك الطاعة، ثم يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم.

وللتأكيد على أهمية الإنفاق ختمت الآية ب «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

«شحّ»: بمعنى «البخل المرادف للحرص»، أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الفضل بن أبي مرة قال: رأيت أبا عبداللَّه الصادق عليه السلام يطوف من أوّل

الليل إلى الصباح وهو يقول: «اللّهمّ قني شحّ نفسي»! فقلت: جعلت فداك ما سمعتك تدعو بغير هذا الدعاء. قال: «وأي شي ء أشد من شحّ النفس وأنّ اللَّه يقول: «وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»».

وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل، يقول تعالى: «إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ».

فاللَّه الخالق الواهب للنعم الذي له كل شي ء، يستقرض منّا ثم يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك، إنّه لطف ما بعده لطف.

«القرض»: في الأصل بمعنى القطع، ولأنّها اقترنت بكلمة «حسن» فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير.

وعبارة «يَغْفِرْ لَكُمْ» للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب.

ويقول في آخر الآية: «عَالِمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل اللَّه، وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده.

«نهاية تفسير سورة التّغابن»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 197

65. سورة الطلاق

محتوى السورة: يمكن أن نقسّم مباحث هذه السورة إلى قسمين:

1- الآيات السبع الاول التي تتحدث عن الطلاق وما يرتبط به من امور.

2- ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة، ويدور الحديث فيه عن عظمة اللَّه ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجراء هذه المسألة الإجتماعية المهمّة، ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اخرى كسورة «النساء القصرى» (على وزن صغرى) مقابل سورة «النساء» المعروفة «النساء الكبرى».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللَّه».

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لَا يَخْرُجْنَ إِلَّا

أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 198

شرائط الطلاق والإنفصال: تقدم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطباً الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصفته القائد الكبير للمسلمين، ثم يوضّح حكماً عموميّاً بصيغة الجمع، حيث يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ».

إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية، مع عدم المقاربة الزوجية- هذا هو أوّل شرط للطلاق.

ثم يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة، حيث يقول تعالى: «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ».

«أحصوا»: من مادة «الإحصاء» بمعنى الحساب.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في «حساب العدّة» هم الرجال وليس النساء، وذلك لوقوع مسؤولية «النفقة والسكن» على عاتق الرجال، كما أنّ «حق الرجوع» عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء، وإلّا فهنّ ملزمات أيضاً في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ.

بعد ذلك يدعو اللَّه تعالى الناس جميعاً إلى التقوى واجتناب المعاصي، حيث يقول تعالى:

«وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ». فهو ربّكم الحريص على سعادتكم، فلا تعصوا له أمراً ولا تتركوا له طاعة، وخاصة في «حساب العدّة» والتدقيق بها.

ثم يذكر الحكم «الثالث» الذي يتعلق بالأزواج والحكم «الرابع» الذي يتعلق بالزوجات. يقول تعالى: «لَاتُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ».

ورغم أنّ كثيراً من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرد إجراء صيغة الطلاق، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرد ذلك.

ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة، فهو بالإضافة إلى إسداء الإحترام إلى المرأة، يهيى ء أرضية جيّدة للانصراف والإعراض عن

الطلاق، ويؤدي إلى تقوية الأواصر الزوجية.

إنّ عدم الالتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم، يسبّب كثيراً من حالات الطلاق التي تؤدي إلى الفراق الدائم، بينما كثيراً ما يؤدي الالتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدداً.

ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الاحتفاظ بها في البيت،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 199

فيجيى ء الحكم الخامس الاستثنائي، إذ يقول تعالى: «إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ».

كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقاً، ويكون أحدهما مثلًا سي ء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد، وإلّا ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة.

بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم- مرّة اخرى- بقوله: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ». لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو اسعاد الناس أنفسهم، والتجاوز على هذه الأحكام- سواء من قبل الرجل أو المرأة- يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم.

ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة، والحكمة من تشريعها، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت. يقول: «لَاتَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا».

ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت، وإظهار ندم ومحبّة كل واحد منهما إلى الآخر، وكذلك التفكير مليّاً في عواقب هذا العمل القبيح، خاصة مع وجود الأطفال، كل هذه الأمور قد تهيى ء أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب، لأنّ اللَّه عزّ وجل يقول: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْرًا» لعلّها تقع في نفسه

فيراجعها».

أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق: إنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلّافي الحالات التي يتعذر فيها مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة. ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى اللَّه).

ففي الكافي عن الإمام الصادق قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ... وما من شي ء أبغض إلى اللَّه عزّ وجل من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة يعني الطلاق».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما من شي ء ممّا أحلّه اللَّه عزّ وجل أبغض إليه من الطلاق».

والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء، وأكثر منهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 200

مختصر الامثل ج 5 239

بالأطفال والأولاد.

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3) فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف: يشير في الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة، إلى عدّة أحكام اخرى، إذ يقول تعالى في البداية: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ».

والمراد من عبارة «بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» هو تشرف على الانتهاء، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدة غير جائز، إلّاأن يكون إبقاؤهن عن طريق صيغة عقد جديدة.

فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل

مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان.

فالانفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى اصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الاستمرار مدّة طويلة، هذا إضافة إلى أنّ الانفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدى إلى عشيرة وأقرباء كل منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل.

ثم يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: «وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ».

وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى.

وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ». حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحق.

إنّ تعبير «ذَوَىْ عَدْلٍ مِنكُمْ» دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور.

ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً، تقول الآية الكريمة: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 201

وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ».

وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا». ويساعده حتماً على إيجاد الحل لمشكلاته.

«وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لَايَحْتَسِبُ». ولا يتصور تحصيله.

«وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ». وسيكفيه ما يهمّه من اموره.

«إِنَّ اللَّهَ بِالِغُ أَمْرِهِ». لأنّ اللَّه عزّ وجل قادر مطلق، وأمره نافذ في كل شي ء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته ...

ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا

قول الحق، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتقين أمرهم.

إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث- أكثر من غيرها- الأمل في النفوس، وتمنح القلب صفاءً خاصاً، وتمزّق حجب اليأس والقنوط، إذ تعد كل المتقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل امورهم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قوله «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا»: «من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة».

وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 202

أحكام النساء المطلّقات وحقوقهن: من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدة بعد الطلاق، ولما كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها، فقد ذكرت الآيات محل البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معينة، أو الحوامل لتكمل بحث العدة.

يقول تعالى في بداية الأمر:

«وَالِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلثَةُ أَشْهُرٍ».

فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدة حينئذ ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهن العادة الشهرية بعد: «وَالِى لَمْ يَحِضْنَ».

ثم يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلًا: «وَأُولتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».

وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهن ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة- أي النساء الحوامل- تنتهي عدّتهن بوضع الحمل، سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلًا.

ومعنى عبارة «إِنِ ارْتَبْتُمْ» هو الشك في وجود «الحمل» بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات، وستون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الاحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر.

وأخيراً يؤكّد مرّة اخرى في نهاية الآية على التقوى، حيث يقول تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا».

ييسّر اموره ويسهّلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضية الطلاق أو في قضايا اخرى.

وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلًا: «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ». «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا».

وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من حيث «السكن» و «النفقة» وامور اخرى. يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ». «وجد»: على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكّن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 203

ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإنّ الامور الاخرى من الإنفاق ستقع هي الاخرى على عاتق الزوج، والشاهد على هذا المدّعى ذيل

الآية الذي يتحدث عن نفقة النساء الحوامل.

ثم يتطرق تعالى لذكر حكم آخر: «وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنَّ».

حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، مما يؤدّي إلى إخراجكم عن جادة الحق، فتحرمونهن حقوقهن الطبيعية في السكن والنفقة.

يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل: «وَإِن كُنَّ أُولتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ».

فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدة يستحقّن النفقة والسكن على الزوج.

ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ».

اجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع، وطبقاً لما هو معروف وشائع عرفاً.

ونظراً لأنّ الأطفال كثيراً ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال:

«وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ». وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم.

ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة، مما يترك عليهم آثاراً واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي، إذ يحرمون من حنان الام والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان اللَّه تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها.

وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضية إرضاعهم، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال: «وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى .

وتبيّن الآية اللاحقة سابع- وآخر حكم- في هذا المجال حيث يقول تعالى: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءَاتَيهُ اللَّهُ لَايُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَاهَا».

إنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدن رضاعة أطفالهن بعد الفرقة والطلاق، وأثناء العدة التي اشير إليها في الآيات السابقة.

وبناءً على هذا لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الامور، كما أنّ الذين

لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّابالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحق

مختصر الامثل، ج 5، ص: 204

للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك. وفي نهاية المطاف يبشّرهم اللَّه تعالى بقوله: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا». أي: لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سبباً لخروجكم عن الطريق السوي، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَ رُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَ كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) العاقبة المؤلمة للعاصين: في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الامم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كل من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضية طابعاً حسيّاً.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج، فبعد ذكر وظائف كل من الرجال والنساء عند الطلاق، يحذّر العاصين والمتمردين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةً عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا».

والمقصود ب «القرية» هو محل اجتماع الناس، وهو أعمّ من المدينة والقرية، والمراد هو أهلها.

«عتت»: من مادة «عتو» بمعنى التمرّد على الطاعة؛ و «نكر»: يعني العمل الصعب الذي لم يسبق

له مثيل.

«حساباً شديداً» إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة: «فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا».

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه اللَّه، والخروج من هذه الدنيا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 205

ليس فقط بعدم شراء المتاع- وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ثم يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا». عذاباً مؤلماً، مخيفاً، مذلًا، فاضحاً، دائماً أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنم.

والآن «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

إنّ الفكر والتفكّر من جهة، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمردة التي عصت أمر ربّها، والاعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم.

وبعد ذلك يخاطب اللَّه تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات اللَّه بقوله: «قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا». وهو الشي ء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولًا يتلو عليكم آيات اللَّه الواضحة: «رَّسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».

إنّ «الذكر» يعني القرآن؛ و «رسولًا» تعني شخص الرسول؛ ومعنى «الإنزال» هنا هو وجود الرسول صلى الله عليه و آله في الامة وبعثه فيها من قبل اللَّه تعالى.

إنّ الهدف من إرسال الرسول وإنزال هذا الكتاب السماوي، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وإرتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله: «وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا».

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان، وإنّما لهما استمرار وديمومة.

والتعبير ب (خالدين) دليل

على كون الجنة خالدة.

والتعبير ب «رزقاً» يشمل كل النعم الإلهية في الدنيا والآخرة، لأنّ الصالحين والمتقين لهم حياتهم الكريمة حتى في الحياة الدنيا.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 206

الهدف من خلق العالم: هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة الباري ء جلّ شأنه في خلق السماوات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق. يقول تعالى أوّلًا: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ». «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ». بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع، وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

إنّ مفهوم هذه الآية مع الإلتفات إلى الآية (6) من سورة الصّافات التي تقول: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ». هو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّاً، أو لعلها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحالياً.

ثم يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه: «يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ».

وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول: «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عِلْمًا».

ومن ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ اللَّه محيط بكل أسرار وجوده، عالم بكل أعماله ما ظهر

منها وما بطن، ثم يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد اللَّه في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين، كل ذلك غير قابل للتخلف والتأخر.

«نهاية تفسير سورة الطّلاق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 207

66. سورة التحريم

محتوى السورة: تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسية:

1- يرتبط بقصة الرسول صلى الله عليه و آله مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من (1- 5).

2- خطاب لكل المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب، وهو من الآية (6- 8).

3- وهو الآية التاسعة التي تتضمن خطاباً إلى الرسول صلى الله عليه و آله بضرورة مجاهدة الكفار والمنافقين.

4- يتضمن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي صلى الله عليه و آله من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الإقتداء بالنموذجين الأوّلين من الآية (10- 12).

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه اللَّه من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله اللَّه الجنة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبي صلى الله عليه و آله».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 208

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى

اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَ أَبْكَاراً (5)

سبب النّزول

عن عائشة: إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يمكث عند زينب ابنة جحش [إحدى أزواج الرسول ويشرب عندها عسلًا فتواصيت أنا وحفصة ان أتينا دخل عليها النبي صلى الله عليه و آله فلتقل إنّي لأجد منك ريح المغافير أكلت المغافير [وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى عرفط ويترك رائحة غير طيبة، علماً أنّ الرسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائماً]، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال: «لا بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له». [ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ المغافير وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالًا فيقتدون بالرسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك. لكنّها أفشت السر فتبين أخيراً أنّ القصة كانت مدروسة ومعدّة فتألم الرسول صلى الله عليه و آله لذلك كثيراً، فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «1».

______________________________

(1) صحيح البخاري 6/ 167، والتوضيحات التي ذكرت في تستفاد من كتب اخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 209

التّفسير

التوبيخ لبعض زوجات الرسول: مما لا شك فيه أنّ

رجلًا عظيماً كالرسول صلى الله عليه و آله لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملًا حازماً وقاطعاً لا يسمح بتكرّرها، لكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محل البحث تعتبر تحذيراً من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظاً على اعتبار الرسول صلى الله عليه و آله. البداية كانت خطاباً إلى الرسول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ».

إنّ هذا التحريم ليس تحريماً شرعياً، بل هو- كما يستفاد من الآيات اللاحقة- قسم من قبل الرسول الكريم، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنباً. وبناءً على هذا فإنّ جملة «لِمَ تُحَرّمُ» لم تأت كتوبيخ وعتاب، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف.

ثم يضيف في آخر الآية: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددنه.

ويضيف في الآية اللاحقة أنّ اللَّه قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا القسم: «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ». أي: أعط كفارة القسم وتحرّر منه.

ثم يضيف: «وَاللَّهُ مَوْلكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ». فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقاً لعلمه وحكمته.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي صلى الله عليه و آله أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم.

وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع: «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ».

إنّ هذا السر يتكوّن من أمرين:

الأوّل: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت

جحش).

والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل.

أمّا الزوجة التي أذاعت السر ولم تحافظ عليه فهي «حفصة» حيث أنّها نقلت ذلك

مختصر الامثل، ج 5، ص: 210

الحديث الذي سمعت به إلى عائشة.

وعلى كل حال فإنّه: «فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ».

ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء النبي صلى الله عليه و آله بكلامهن، بل لا يحفظن سرّه، وحفظ السر من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها. ثم يتحدث القرآن مع زوجتي الرسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله: «إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا».

وقد اتّفق المفسرون الشيعة والسنة على أنّ تلك الزوجتين هما «حفصة بنت عمر» و «عائشة بنت أبي بكر».

ثم يضيف تعالى: «وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ».

ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرسول صلى الله عليه و آله وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرسول المتكاملة نشاهد أنّ اللَّه يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له.

مما لا شك فيه أنّ صالح المؤمنين، لها معانٍ واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتم لهذا المصطلح؟

يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام.

في آخر آية من هذه الآيات يخاطب اللَّه تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد:

«عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَارًا».

يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجاً يقتدى به في انتخاب الزوجة اللائقة.

الأوّل «الإسلام» ثم «الإيمان» أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ

في أعماق قلب الإنسان، ثم حالة «القنوت» أي التواضع وطاعة الزوج، بعد ذلك «التوبة» ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنباً بحق زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك، وتأتي بعد ذلك «العبادة» التي جعلها اللَّه سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد، ثم «إطاعة أوامر اللَّه» والورع عن محارمه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 211

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) قوا أنفسكم وأهليكم النار: تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والاسرة بشكل عام، فهي تقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ».

وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كل رذيلة ونقص.

وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاولى لبناء العائلة، أي منذ أوّل مقدمات الزواج، ثم مع أوّل لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقة حتى النهاية.

ويضيف القرآن قائلًا: «عَلَيْهَا مَلِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ».

وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب، ولن يؤثّر البكاء والإلتماس

والجزع والفزع.

في الآية اللاحقة يخاطب الكفار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين، ليكون واضحاً أنّ عدم الالتزام بأوامر اللَّه وعدم الإهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفار يوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 212

ومما يجدر ذكره أنّ عدم قبول الإعتذار ناتج عن كونه نوعاً من التوبة، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها.

ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا».

«نصوح»: من مادة «نصح»، بمعنى طلب الخير بإخلاص، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعاً يجب أن يكون عمله توأماً للإتقان جاءت كلمة «نصح» أحياناً بهذا المعنى، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه «نصاح»- على وزن كتاب- ويقال للخيّاط «ناصح»، وكلا المعنيين- أي الخلوص والمتانة- يجب توفّرهما في التوبة النصوح.

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول اللَّه! ما التوبة النصوح؟ قال: «أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع».

وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث إنقلاباً في داخل النفس الإنسانية، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب، وتجعل من الرجوع أمراً مستحيلًا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي.

ثم يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله: «عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ». «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». «يَوْمَ لَايُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ». «نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ

وَبِأَيْمَانِهِمْ». ويضي ء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنة.

وهنا يتوجّهون إلى اللَّه بطلب العفو: «يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 213

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنَافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَ كُتُبِهِ وَ كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) نماذج من النساء المؤمنات والكافرات: بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته- التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة- بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكل ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلظ عليهم، حيث يقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

الجهاد ضد الكفار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح، أمّا الجهاد ضد المنافقين فإنّه بدون شك جهاد غير مسلّح، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين.

إنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان.

وذلك بعد حياة الرسول صلى الله عليه و

آله حدث في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.

ومن أجل أن يعطي اللَّه تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله عاد مرّة اخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء

مختصر الامثل، ج 5، ص: 214

اللَّه، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة، حيث يقول أوّلًا: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِن عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ».

وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.

كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكل المؤمنين بأنّ القرب من أولياء اللَّه والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب اللَّه ومجازاته.

وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء اللَّه. والخيانة هنا لا تعني الانحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه و آله قال: «ما بغت امرأة نبي قطّ».

ثم يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ».

من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى عليه السلام أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ اللَّه ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات

عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الاستسلام إطلاقاً.

وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: «رَبّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.

في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه و آله، ومريم بنت عمران، وآسيه بنت مزاحم امرأة فرعون».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 215

ثم يضرب اللَّه تعالى مثلًا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل:

«وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا».

فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء اللَّه العظام (من اولي العزم).

ويضيف تعالى قائلًا: «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ».

كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثم إنّها كانت قد أخضعت قلبها للَّه، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.

«نهاية تفسير سورة التحريم»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 217

67. سورة الملك

محتوى السورة: تسمّى سورة الملك أيضاً ب (المنجية)، وكذلك تسمّى ب (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي من السور التي لها فضائل عديدة. وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلّاأنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:

1- أبحاث حول المبدأ، وصفات

اللَّه سبحانه، ونظام الخلق العجيب، خصوصاً خلق السماوات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة ... وكذلك ما يتعلق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاخرى.

2- ثم تتحدث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنم، بالإضافة إلى امور اخرى في هذا الصدد.

3- وأخيراً تتحدث عن التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاخروي للكفار والظالمين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «سورة المُلك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 218

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلّامن خلال التدبر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ جَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية اللَّه سبحانه، وخلود ذاته المقدسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة. يقول تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

«تبارك»: من مادة «بركة» في الأصل من «برك» على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير)، واطلقت كذلك على كل

نعمة باقية ودائمة.

ثم يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: «الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا».

«الموت»: حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالامور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً، لذا فإنّه غير مقصود.

أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الاستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من اللَّه سبحانه، وقد بحثنا ذلك مفصّلًا فيما سبق.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النيّة، وإنجاز كل عمل خيّر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 219

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به، فيجدر به ألّا يكون متشائماً ويائساً من عون اللَّه سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ».

وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمل في عالم الوجود، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم. يقول تعالى: «الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ طِبَاقًا».

ثم يضيف سبحانه: «مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمنِ مِن تَفَاوُتٍ».

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود- بكل ما يحيطه من العظمة- قائم وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقّة متناهية، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

ثم

يضيف تعالى مؤكّداً: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ».

«فطور»: من مادة «فطر» على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه. لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسًا وَهُوَ حَسِيرٌ».

«كرّتين»: من مادة «كر» على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شي ء معيّن.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأملوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات- كحد أدنى- ويتدبّروا أسرار الخلق.

وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية، مما يؤدي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدسة.

«خاسى ء»: من مادة «خسأ» و «خسوء» على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده؛ و «حسير»: من مادة «حسر»، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشي ء عارياً، وإذا ما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 220

فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب، فإنّه يكون عارياً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز. وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسى ء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود. إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها

أنّ وجود النظام في كل شي ء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشي ء.

ثم تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث يقول سبحانه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ».

وتؤكّد الآية الكريمة- مرّة اخرى- الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلّا جزء من السماء الاولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اخرى من السماوات السبع، لذا اطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السماوات الاخرى.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحق، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة، ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اتون العذاب الإلهي. يقول تعالى في البداية:

«وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

ثم يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: «إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 221

إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم

بصدور صوت مرعب وشديد من جهنم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.

ثم يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى:

«تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ» «1».

إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فإنّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب.

ثم يستمرّ تعالى بقوله: «كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ».

فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة، إنّ الملائكة (خزنة جهنم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به اللَّه سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين ... فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟

«قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ كَبِيرٍ».

وهكذا يأتي الإعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلّاأنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم واعتبرناهم ضالّين، وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنّا ..

ثم يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول:

«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ». أجل هكذا يأتي إعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لّاَصْحَابِ السَّعِيرِ».

فمن جهة أعطاهم اللَّه تعالى الاذن السامعة والعقل، ومن جهة اخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان.

«سحق»: على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشي ء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة، إلّاأنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة اللَّه. وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى «فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ»

هو: فبعداً لأصحاب النار عن رحمة اللَّه، ولأنّ لعنة وغضب اللَّه تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة اللَّه بشكل كلي.

______________________________

(1) «تميّز»: بمعنى التلاشي والتشتّت وكانت في الأصل (تتميّز).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 222

ملاحظة

المقام السامي للعقل: ليست هذه هي المرّة الاولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، كما أنّها ليست المرّة الاولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنم ... هو عدم الاستفادة من هذه القوة الإلهية العظيمة، وإغفال هذه القدرة الجبارة، وعدم استثمار هذه الجوهرة والنعمة الربانية. فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة اللَّه تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل.

لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كل مكان إلى (اولوا الألباب) و (اولوا الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.

في الكافي عن الإمام علي عليه السلام قال: «هبط جبرئيل على آدم عليه السلام، فقال: يا آدم! إنّي امرت أن اخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين. فقال آدم: إنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: إنصرفا ودعاه.

فقالا: يا جبرئيل، إنّا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج».

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) بعد ما بيّنا- في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة- مصير الكفار يوم القيامة، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات

مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند اللَّه سبحانه .. يقول في البداية: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

«الغيب» هنا إشارة لمعرفة اللَّه تعالى غير المرئية، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد، أو يقصد به الأمران معاً.

كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من اللَّه تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوباً في السرّ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الإبتعاد عن الذنوب والمعاصي، والالتزام بالأوامر الإلهية، إذ إنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء.

كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 223

ثم يضيف للتأكيد: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيخبره جبرائيل بما قالوا فيقول بعضهم (أسرّوا قولكم)، حتى لا يسمع إله محمّد. فأنزل اللَّه هذه الآية «1» [فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإنّ اللَّه يعلمه وأسرار الأقوال واعلانها مستويان عنده تعالى في تعلق علمه .

وتأتي الآية اللاحقة دليلًا وتأكيداً على ما ورد في الآية السابقة، حيث يقول تعالى: «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

«اللطيف»: مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كل موضوع دقيق وظريف، وكل حركة سريعة وجسم لطيف، وبناءً على هذا فإنّ وصف اللَّه تعالى ب (اللطيف) إشارة إلى علمه عزّ وجل بالأسرار الدقيقة للخلق.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ

مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثم إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية. يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا». «فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ».

«ذلول»: بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعددة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة.

يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي:

______________________________

(1) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 8/ 60، والتفسير الكبير 30/ 66.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 224

الاولى: حركتها حول نفسها.

والثانية: حول الشمس.

والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.

هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والانسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.

ومن جهة اخرى، فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً.

ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كل شي ء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كل شي ء على سطحها.

وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته.

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها

عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الاستقرار في مكان.

والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات.

كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصول عليه، وإلّا فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلفين عن السعي.

ويجب الالتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ إنّ كل ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.

وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه: «ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ».

إنّ الباري ء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.

ثم يضيف سبحانه: «أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا». فلا يلزم حتماً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 225

حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها ... وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ».

إنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباري ء عزّ وجل أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإنّ أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الامور في الامم السابقة.

لذا فإنّ اللَّه تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات: «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ» «1».

نعم، فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة، وأقواماً آخرين بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح ... وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس واعتبار لمن كان له

قلب واع.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) انظروا إلى الطير فوقكم: في الآيات الاولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة اللَّه سبحانه ومالكيته، وعن السماوات السبع والنجوم والكواكب ... ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية- مورد البحث- وذلك بذكر مفردة اخرى من كائنات هذا الوجود، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ».

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكل راحة، وأحياناً أيّاماً وأسابيع وشهوراً، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.

فمن يا ترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكل سهولة وراحة؟

______________________________

(1) «نكير»: بمعنى (الإنكار) وجاءت هنا كناية عن العقوبة، لأنّ إنكار اللَّه تعالى مقابل أفعال هؤلاء القوم جاءت عن طريق مجازاتهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 226

لذا يقول في ختام الآية: «مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ بَصِيرٌ».

إنّه اللَّه تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران، وحافظ عليها في السماء، هو بذاته المقدسة يحفظ الأرض والكائنات الاخرى، وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والاستقرار.

ثم يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة اللَّه عزّ وجل حيث يقول: «أَمَّنْ هذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مّن دُونِ الرَّحْمنِ».

إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم)

ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم.

ألا «إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِى غُرُورٍ». فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة.

ثم يضيف سبحانه مؤكّداً ما سبق: «أَمَّنْ هذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ».

فإذا أمر اللَّه السماء أن تمتنع عن المطر، والأرض عن الإنبات، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل ... فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟

وإذا ما قطع اللَّه الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلة دامغة، إلّاأنّ العناد هو الذي يشكّل حجاباً للإدراك وللشعور الحق: «بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».

السائر سويّاً على جادة التوحيد: تعقيباً لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 227

الكافرين والمؤمنين، فإنّ اللَّه تعالى يصوّر لنا- في أوّل آية من هذه الآيات- حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف، حيث يقول تعالى: «أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه،

يحرّك يديه ورجليه للإهتداء إلى سبيله، لأنّه لا يبصر طريقه جيّداً، وليس بقادر على السيطرة على نفسه، ولا بمطّلع على العقبات والموانع، وليست لديه القوّة للسير سريعاً، وبذلك يتعثّر في سيره ... يمشي قليلًا ثم يتوقّف حائراً.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه- حقّاً- لتشبيه لطيف فذّ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماماً، وإنعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين، وذلك ما نلاحظه بامّ أعيننا.

ثم يوجّه اللَّه تعالى الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله في الآية اللاحقة فيقول: «قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

إنّ اللَّه تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للإطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثم وسيلة اخرى للتفكر والتدبر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ اللَّه تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرفوا على العلوم العقلية والنقلية، إلّاأنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر اللَّه المنعم، حيث إنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله، تُرى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثم يخاطب الرسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى: «قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

إنّ الآيات أعلاه يؤكّد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الإتّجاه، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 228

ثم يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم،

فيقول تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ويجيبهم اللَّه سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

ولابدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة، حيث إنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيداً فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة، وإن كان قريباً فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب، وعلى كل حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم: «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا». فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم: «وَقِيلَ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ».

«تدّعون»: من مادة «دعاء» يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائماً أن يجي ء يوم القيامة، وها هو قد حان موعده، ولا سبيل للفرار منه.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) إنّ الآيات أعلاه، التي هي آخر آيات سورة الملك، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث أنّها تمثّل استمراراً للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفار، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب الباري ء عزّ وجل- في البداية- الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كل شي ء، وهذا الشعور كثيراً ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القويّة والمؤثّرة. يقول تعالى مخاطباً إيّاهم:

«قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ

مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ».

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكة، كانوا دائماً يسبّون الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين، وكانوا يتمنّون موته ظنّاً منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك، لذا جاءت الآية أعلاه ردّاً عليهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 229

واستمراراً لهذا البحث، يضيف تعالى: «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وهذا يعني أنّنا إذا آمنّا باللَّه، واتّخذناه وليّاً ووكيلًا لنا، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن، شملت رحمته الواسعة كل شي ء، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر)، أمّا الذين تعبدونهم من دون اللَّه فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟

ويقول تعالى في آخر آية، عارضاً لمصداق من رحمته الواسعة، والتي غفل عنها الكثير من الناس: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ».

جاء في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي عليه السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

وممّا يجدر الإنتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى: فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علّة حياة الموجودات الحيّة، أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمام عليه السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الاخرى تكون سبباً لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

«نهاية تفسير سورة الملك»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 231

محتوى السورة: إنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماماً مع السور المكية، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلام صلى الله عليه و آله ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عام يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام:

1- في

البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصة لرسول الإنسانية محمّد صلى الله عليه و آله وخصوصاً أخلاقه البارّة الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسِم الباري ء عزّ وجل في هذا الصدد.

2- ثم تتعرض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

3- كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصة (أصحاب الجنة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

4- ثم ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفار في ذلك اليوم.

5- كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

6- ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد صلى الله عليه و آله بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 232

7- وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرسول محمّد صلى الله عليه و آله.

إنتخاب (القلم) اسماً لهذه السورة المباركة، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها.

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة ن والقلم أعطاه اللَّه ثواب الذين حسن أخلاقهم».

كما عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة ن والقلم في فريضة أو نافلة، آمنه اللَّه أن يصيبه في حياته فقر أبداً، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر، إن شاء اللَّه».

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسباً خاصاً مع محتوى السورة، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثم العمل بمحتواها.

ن وَ الْقَلَمِ وَ مَا يَسْطُرُونَ (1) مَا

أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى: «ن». ثم يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى:

«وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ».

وقد يتصور أنّ القسم هنا يتعلق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب- أو شي ء يشبه ذلك- وبقليل من مادة سوداء، ثم السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلًا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية ... كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 233

ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الامم وهداية الإنسان ... وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التاريخ) و (عصر ما قبل التاريخ) وعصر تاريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصة حياته وأحداثها على الصفحات.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كل مكة- التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز- لم يتجاوز ال (20) شخصاً، ولذا فإنّ القسم ب (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصة.

ثم يتطرق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى: «مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ».

إنّ

الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة، إنّ إبتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثم يضيف تعالى بعد ذلك: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ». أي غير منقطع.

«ممنون»: من مادة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبداً.

وتعرض الآية اللاحقة وصفاً آخر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وذلك بقوله تعالى: «وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

تلك الأخلاق التي لا نظير لها، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف، ولطف منقطع النظير، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها، وتجسيد لمبادى ء الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلًا فيما يدعو إليه، ثم يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عندما دعوت- يا رسول اللَّه- الناس لعبادة اللَّه، فقد كنت أعبد الناس جميعاً، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع، تقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرّع إلى اللَّه بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رمياً بالحجارة، واستهزاءاً بالرسالة، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

في تفسير مجمع البيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّما بعثت لُاتمّم مكارم الأخلاق».

وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 234

«خُلُق»: من مادة «الخلقة» بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان، وهي ملازمة له، كخلقة الإنسان.

فإنّ تأصّل هذا (الخُلُق العظيم) في شخصية الرسول صلى الله عليه و آله هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثم يضيف سبحانه بقوله: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ». «بِأَييّكُمُ الْمَفْتُونُ». أي: من منكم هو المجنون.

«مفتون»:

اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الإبتلاء، وورد هنا بقصد الإبتلاء بالجنون.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين، وأنّ هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحق الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة، ويخسر هنالك المبطلون، حيث تتبيّن الامور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدم يقول سبحانه مرّة اخرى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

وبلحاظ معرفة الباري ء عزّ وجل بسبيل الحق وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو إنحرف عنه، فإنّه يطمئن رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَ لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) اجتنب أصحاب هذه الصفات: بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين، وذلك من خلال المقارنة بينهما. يقول تعالى في البداية: «فَلَا تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 235

ثم يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرسول صلى الله عليه و آله بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ».

«يدهنون»: من مادة «مداهنة» مأخوذة في الأصل من (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة، وفي

الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق.

ثم ينهى سبحانه مرّة اخرى عن اتّباعهم وطاعتهم، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم، والتي كل واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سبباً للإبتعاد عنهم والصدود عن الإستجابة لهم. يقول تعالى: «وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ».

تقال كلمة «حلّاف» على الشخص الكثير الحلف، والذي يحلف على كل صغيرة وكبيرة.

«مهين»: من «المهانة» بمعنى الحقارة والضّعة.

ثم يضيف عزّ وجل: «هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ».

«همّاز»: من مادة «همز»، (على وزن رمز) ويعني: الغيبة وإستقصاء عيوب الآخرين.

«مشّاء بنميم» تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم.

ثم يسرد تعالى أوصافاً اخرى لهم، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم: «مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ».

ومن صفاتهم أيضاً أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير، ولا يسعون في سبيله، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه ... بل إنّهم يقفون سدّاً أمام أي ممارسة تدعو إليه، ويمنعون كل جهد في الخير للآخرين، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكل السنن والحقوق التي منحها اللَّه عزّ وجل لكل إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه.

وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير، معتدية وآثمة.

وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: «عُتُلّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ».

«عتل»: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كل شي ء، ويمنع الآخرين منه.

وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السي ء الطبع والخُلُق، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سي ء الخُلُق عديم الحياء.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 236

«زنيم»: تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له

معهم.

والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة.

وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرسول الكريم صلى الله عليه و آله كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب.

ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم، بقوله: «أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ».

وممّا لا شك فيه أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً، وهذه الآيات ما هي إلّا تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع، ولن تنفع جميع الاغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية.

وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات اللَّه عزّ وجل.

وتوضّح لنا آخر آية- من هذه الآيات- مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ».

وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أوّلًا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم.

وثانياً: أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة، كما يقال للفارس حين إذلاله: مرّغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزّته.

وثالثاً: أنّ وضع العلامة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها- خصوصاً انوفها- أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل.

ومع كل ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر وافٍ وواضح أنّ اللَّه تعالى

سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل، وتجاوزهم على الرسول والرسالة ... سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 237

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَ لَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) قصة (أصحاب الجنة): في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم- بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة- قصة أصحاب الجنة ... فالآيات الكريمة تذكر لنا قصة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلّاأنّهم فقدوها فجأة. يقول تعالى: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ».

وموضوع القصة هو: أنّ شيخاً مؤمناً طاعناً في السنّ كان له بستان عامر، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين، وقد ورثه أولاده بعد وفاته، وقالوا:

نحن أحق بحصاد ثمار هذا البستان، لأنّ لنا عيالًا وأولاداً كثيرين، ولا طاقة لنا بإتّباع نفس الاسلوب الذي كان أبونا عليه ... ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعاً، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه ..

يقول تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ».

«يصرمن» من مادة «صرم» بمعنى حصد الفاكهة، وبمعنى القطع المطلق.

«وَلَا يَسْتَثْنُونَ». أي: لا يتركون منها شيئاً للمحتاجين.

إنّ تصميمهم هذا ناشى ء عن البخل وضعف الإيمان، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئاً ممّا أعطاه اللَّه.

ثم يضيف

تعالى استمراراً لهذا الحديث: «فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ».

لقد سلّط اللَّه عليها ناراً حارقة، وصاعقة مهلكة، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ». ولم يبق منها شي ء سوى الرماد.

«طائف»: من مادة «طواف» وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شي ء معيّن، كما تستعمل أحياناً كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل، وهذا المعنى هو المقصود هنا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 238

«صريم»: من مادة «صرم» بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود). والمقصود بذلك هو: البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة- فيما يبدو- أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود.

فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر، جاهزة للقطف:

«فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ».

وقالوا: «أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ».

«أغدوا»: من مادة «غدوة» بمعنى بداية اليوم.

وعلى ضوء المقدّمات السابقة: «فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ». «أَن لَّايَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مّسْكِينٌ».

ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام، لأنّهم تعوّدوا في كل سنة أن ينالهم شي ء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن، إلّاأنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم، لم تدع أحداً يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان ... حيث يطّلع الفقراء على الأمر بعد انتهائه، وبهذا تكون النتيجة:

«وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ».

«حرد»: على وزن «فرد» بمعنى الممانعة التي تكون توأماً مع الشدّة والغضب.

فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا

رَاغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذَابُ وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) الآيات الشريفة- أعلاه- استمرار لقصّة أصحاب الجنة. يقول القرآن الكريم: «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ».

ثم أضافوا: «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ». أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلّا أنّنا حرمنا أكثر من الجميع، حرمنا من الرزق المادي، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 239

طريق الإنفاق في سبيل اللَّه للفقراء والمحتاجين.

«قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلَا تُسَبّحُونَ».

ويستفاد مما تقدم أنّ أحدهم كان شخصاً مؤمناً ينهاهم عن البخل والحرص، إلّاأنّهم كانوا لا يسمعون كلامه.

وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و «قَالُوا سُبْحَانَ رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ».

إلّا أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحد، حيث يقول تعالى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلوَمُونَ».

والملاحظ من منطوق الآية أنّ كل واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر، ويوبّخه بشدّة.

نعم، هكذا تكون عاقبة كل الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي، ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلًا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم، ويسعى جاهداً لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين.

ثم يضيف تعالى: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ».

لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم.

وأخيراً- بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم، بل وإعترافهم بالذنب والإنابة إلى اللَّه- توجّهوا إلى الباري ء عزّ وجل داعين، وقالوا: «عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبّنَا رَاغِبُونَ». فقد توجّهنا إليه ونريد منه انقاذنا ممّا تورّطنا فيه ..

ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به: «كَذلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كل

المغرورين، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكل شي ء دون المحتاجين ... بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 240

مختصر الامثل ج 5 280

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، واستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها اللَّه سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الاسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية ... فمثلًا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم ... ثم كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين، ويجعل كلّاً منهما في ميزان، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة، للوصول إلى الحقيقة.

وتماشياً مع هذا المنهج وبعد استعراض النهاية المؤلمة ل (أصحاب الجنة) في الآيات السابقة، يستعرض الباري ء عزّ وجل حالة المتقين فيقول: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

«جنّات»: من «الجنة» حيث كل نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال.

ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإنّ اللَّه يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة، بل يحاكمهم فيقول: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

ثم يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدّعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون: «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ

فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ». أي: ما اخترتم من الرأي ... إنّ توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم ...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع اعتبار.

ثم تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل أخذتم عهداً من اللَّه أنّه سيكون معكم إلى الأبد: «أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 241

وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من اللَّه سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه.

ويضيف سبحانه- استمراراً لهذه التساؤلات- كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كل الجهات، فيقول: «سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذلِكَ زَعِيمٌ». فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أنّ اللَّه تعالى سيؤتيه كل ما يريد؟! وفى آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى: أم لهم شركاء فلياتوا بشركائهم إن كَانُوا صَادِقِينَ».

فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة اللَّه تعالى وتشفع لهم عنده.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) العجز عن السجود: تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب اللَّه تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها، والمكثرة للادّعاءات،

هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان. يقول تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ».

وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباري ء عزّ وجل، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود.

وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم، حيث يقول سبحانه: «خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ».

هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيراً عن هذه الحالة المهينة.

ثم يضيف تعالى: «وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ». إنّهم لن يسجدوا أبداً، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟

مختصر الامثل، ج 5، ص: 242

ثم يوجّه الباري ء عزّ وجل الخطاب لنبيّه الكريم ويقول: «فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ». وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهار لهؤلاء المكذبين المتمردين، حيث يخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بقوله: لا تتدخّل، واتركني مع هؤلاء، لُاعاملهم بما يستحقّونه.

ثم يضيف سبحانه: «سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَايَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ».

في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا أحدث العبد ذنباً، جدّد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الإستدراج».

إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية:

إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه.

أو أن ينزل اللَّه عليه العذاب ليعود إلى رشده.

أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه اللَّه نعمة بدل البلاء وهذا هو: (عذاب الإستدراج). لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه، وليحذر من أن يكون ما يمنحه اللَّه من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الإستدراج). ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الامور

ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً، كي يكونوا قريبين من طاعة اللَّه، ويؤدّون حق الألطاف والنعم التي وهبها اللَّه لهم.

في الكافي عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي سألت اللَّه عزّ وجل أن يرزقني مالًا فرزقني، وإنّي سألت اللَّه أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً، فقال: «أما- واللَّه- مع الحمد فلا».

أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) استمراراً للاستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين، يضيف الباري ء عزّ وجل سؤالين آخرين، حيث يقول في البداية: «أَمْ تَسَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ».

أي: إذا كانت حجّتهم أنّ الاستجابة لدعوتك تستوجب أجراً مادياً كبيراً، وأنّهم غير

مختصر الامثل، ج 5، ص: 243

قادرين على الوفاء به، فإنّه كذب، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر، كما لم يطلب أي من رسل اللَّه أجراً.

ثم يضيف واستمراراً للحوار بقوله تعالى: «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ».

ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتدفعه إلى أن يدعو اللَّه عليهم، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئاً من آلام رسوله الكريم، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ». أي انتظر حتى يهي ء اللَّه لك ولأعوانك أسباب النصر، ويكسر شوكة أعدائك، واعلم بأنّ اللَّه ممهلهم وغير مهملهم، وما المهلة المعطاة لهم إلّانوع من عذاب الإستدراج.

ثم يضيف تعالى: «وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ

نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ».

والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى: «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

وبذلك فقد إعترف النبي يونس عليه السلام بترك الأولى وطلب العفو والمغفرة من اللَّه تعالى.

ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة: «لَّوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ».

إنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحاله عليه السلام حسب الظاهر. لذا يقول الباري ء عزّ وجل في الآية اللاحقة: «فَاجْتَبهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ».

وبذلك فقد حمّله اللَّه مسؤولية هداية قومه مرّة اخرى، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه، مما كانت نتيجته أن آمن قومه جميعاً.

وَ إِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) يريدون قتلك ... لكنّهم عاجزون: هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم، وتتضمّنان تعقيباً على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليه صلى الله عليه و آله من قبل الأعداء.

يقول تعالى: «وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ». «ليزلقونك»: من مادة «زلق» بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض، وهي كناية عن الهلاك والموت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 244

إنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيراً عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالباً في الامور التي تثير الإعجاب كثيراً) إلّاأنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون، وهذا يمثّل التناقض حقّاً، إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟

وفي آخر آية يضيف تعالى: «وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ».

حيث إنّ معارف القرآن الكريم واضحة، وإنذاراته موقظة، وأمثاله هادفة، وترغيباته وبشائره مربّية، وبالتالي فهو عامل وسبب

ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟

بحث

هل أنّ إصابة العين لها حقيقة: يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثاراً خاصة عندما تنظر لشي ء بإعجاب، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف، وإذا كان المنظور إنساناً فقد يمرض أو يجنّ ..

إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية، كما جاء في بعض الروايات الإسلامية- أيضاً- ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية.

في الكافي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: رقي النبي صلى الله عليه و آله حسناً وحسيناً فقال:" اعيذكما بكلمات اللَّه التامات وأسمائه الحسنى كلها عامة، من شرّ السامّة والهامّة، ومن شرّ كل عين لامّة، ومن شرّ حاسد إذا حسد" ثم التفت النبي صلى الله عليه و آله إلينا فقال: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق».

«نهاية تفسير سورة القلم»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 245

69. سورة الحاقَّة

محتوى السورة: تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور:

الأوّل: وهو أهمّ محاور هذه السورة، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي: (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة).

أمّا المحور الثاني: فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين، خصوصاً قوم عاد وثمود وفرعون، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكّفار ومنكري يوم البعث والنشور.

والمحور الثالث تتحدث حول عظمة القرآن الكريم، ومقام الرسول صلى الله عليه و آله وجزاء المكذّبين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الحاقّة حاسبه اللَّه حساباً يسيراً».

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ

(5) وَ أَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 246

تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة. يقول تعالى: «الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحَاقَّةُ». والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقق حتماً.

ذهب أغلب المفسرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة، باعتباره قطعي الوقوع، كما هو بالنسبة ل (الواقعة) في سورة (الواقعة).

«ما الحاقّة»: تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم؛ والتعبير ب «ما أدريك ما الحاقّة» للتأكيد مرّة اخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتى أنّ الباري ء عزّ وجل يخاطب رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم.

ثم تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا، حيث يضيف تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ* فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ».

لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، فبعث اللَّه النبي صالح عليه السلام إليهم، ودعاهم إلى الإيمان باللَّه ... إلّاأنّهم لم يستجيبوا له، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقاً، وفي هذه الحالة من التمرد الذي هم عليه، سلّط اللَّه عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كل وجودهم في لحظات، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة، وتهاوت أجسادهم على الأرض.

ثم تتطرق الآية اللاحقة لتحدثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة، وأجساد قوية، ومدن عامرة، وأراض خضراء خصبة، وحدائق نضرة وكان نبيّهم (هود) عليه السلام يدعوهم إلى الهدى

والإيمان باللَّه ... إلّاأنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحق، فانتقم اللَّه منهم شرّ إنتقام، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذاباً شديداً مؤلماً، سنوضّح شرحه في الآيات التالية. يقول تعالى: «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ».

«صرصر»: تقال للرياح الباردة، أو المقترنة بصوت وضوضاء، أو المسمومة، وقد ذكر المفسرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً.

«عاتية»: من مادة «عتو» بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر اللَّه.

ثم تبيّن الآية التالية وصفاً آخر لهذه الرياح المدمّرة، حيث يقول تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 247

«حسوماً»: من مادة «حسم» بمعنى إزالة آثار شي ء ما، ويقال: (حسم) أحياناً لوضع الشي ء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس.

لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميّز بالابّهة والجمال، واستأصلتهم من الجذور.

ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: «فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ».

إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي إقتلعت من الجذور، بالإضافة إلى خواء نفوسهم، حيث إنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اخرى.

«خاوية»: من مادة «خواء» في الأصل بمعنى كون الشي ء خالياً، ويطلق هذا التعبير أيضاً على البطون الجائعة، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب.

ويضيف في الآية التالية: «فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مّن بَاقِيَةٍ».

نعم، لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد، بل حتى مدنهم العامرة، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شي ء يذكر أبداً.

وَ جَاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا

لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) أين الآذان الواعية: بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درساً وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم ... يقول تعالى: «وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ».

ال «خاطئة»: بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب.

«المؤتفكات»: جمع (مؤتفكة) من مادة (ائتفاك) بمعنى الإنقلاب، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط، حيث إنقلبت بزلزلة عظيمة.

والمقصود ب «وَمِن قَبْلِهِ» هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون، كقوم شعيب، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 248

ثم يضيف تعالى: «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً».

لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) عليهما السلام وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة ... وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط عليه السلام الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم ... وهكذا كان- أيضاً- موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول، والتشكيك والإعراض والتحدّي ..

إنّ كل مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمرّدين قد إبتلاهم اللَّه بنوع من العذاب، وأنزل عليه رجزاً من السماء بما يستحقّون، فالفراعنة أغرقهم اللَّه سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدراً لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم، وقوم لوط سلّط اللَّه عليهم (الزلزال) الشديد ثم (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود.

وأخيراً تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم. قال تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ».

إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب، ومن هنا

جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّاً وكأنّه السيل ينحدر من السماء، وفاضت عيون الأرض، والتقت مياههما بحيث أصبح كل شي ء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلّامجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح عليه السلام في سفينته.

جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق، وإلّا فنحن لم نكن في عالم الوجود حينذاك.

ثم يبيّن اللَّه سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى: «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ».

إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً، بل الهداية والخير والسعادة، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم.

«تعيها»: من مادة «وعى» في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشي ء معيّن في القلب، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها.

تعقيب

فضيلة اخرى من فضائل الإمام علي عليه السلام جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة أنّ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 249

النبي صلى الله عليه و آله قال عند نزول هذه الآية «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»: «سألت ربّي أن يجعلها اذن علي».

فكان علي عليه السلام يقول: «ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً قطّ فنسيته، إلّاوحفظته» «1».

وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي عليه السلام حيث يكون موضع أسرار الرسول صلى الله عليه و آله، ووارث علمه، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه- الموافق له والمخالف- بعد النبي صلى الله عليه و آله وذلك عندما يواجهون المشاكل الاجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخّل في حلّها، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَ

حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) الصيحة العظيمة: استمراراً لما تعرّضت له الآيات الاولى من هذه السورة، والتي كانت تتعلق بمسألة الحشر والقيامة، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب باسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علماً بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب. يقول تعالى في البداية: «فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ».

لقد بيّنا فيما سبق أنّ مما يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجى ء عظيم، وذلك ما عبّر عنه ب (نفخة الصور).

نفخة الصور فهي نفختان: (نفخة الموت)، و (نفخة الحياة الجديدة)، لكن المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاولى) التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا.

ثم يضيف تعالى: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً».

«دكّ»: بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتى تستوي، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى «الدق الشديد».

والمقصود في الآية مورد البحث هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات.

______________________________

(1) تفسير القرطبي 18/ 264، وتفسير مجمع البيان 10/ 107.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 250

ثم يضيف تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ».

في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شى فيه الأرض والجبال فحسب، بل يقع حدث عظيم آخر، وذلك قوله تعالى: «وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ». وذلك بيان لما تتعرّض له الأجرام السماوية العظيمة من إنفلاقات وتناثر وتلاشي.

«وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا». «أرجاء»: جمع «رجا» بمعنى جوانب وأطراف شي ء معيّن.

ثم يقول تعالى:

«وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ».

المقصود ب (العرش) هو (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة اللَّه سبحانه، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أنّ حملة العرش ثمانية؛ أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، والأربعة من الآخرين:

محمّد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.

وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين، والشفاعة- عادةً- تكون لمن هم أهل لها، وممّن لهم لياقة لنيلها، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش.

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) يا أهل المحشر: اقرؤا صحيفة أعمالي: قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاولى ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية، واستمراراً للحديث في هذا الصدد، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية، تحدّثنا هذه الآيات عن شي ء من ذلك حيث يقول تعالى:

«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَاتَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ».

«تعرضون»: من مادة «عرض» بمعنى عرض شي ء معيّن، بضاعة أو غيرها.

وممّا لا شك فيه أنّ جميع ما في الوجود- بشراً وغيره- هو بين يدي اللَّه سبحانه، سواء في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 251

هذه الدنيا أو في عالم الآخرة، إلّاأنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشد في يوم القيامة.

في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات

الجميع فإنّها هي الاخرى تبرز وتظهر، وهذا أمر عظيم جدّاً، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال- كما يقول البعض- حيث الفضيحة الكبرى للطالحين، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له.

لذا يقول سبحانه بعد ذلك: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ».

ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول: «إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلقٍ حِسَابِيَهْ».

«ظن»: في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول: إنّ ما تفضّل به اللَّه تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان.

ثم يبيّن اللَّه تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول: «فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ».

وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كل ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع، إلّاأنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر: «فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ».

إنّ الجنة تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ، ولم يسمع بها، ولم يتصور مثلها.

«قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ» «1». حيث لا جهد مكلّف ولا مشقة في قطف الثمار، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء.

وفي آخر آية- مورد البحث- يوجّه الباري ء عزّ وجل خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ».

وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها اللَّه لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة الإلهية واللطف الرباني.

والسؤال المطروح هو: هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم- طبقاً لما جاء في الآية الكريمة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ

فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ»- تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟

______________________________

(1) «قطوف»: جمع «قطف» بمعنى أن الثمر قد اقتطف، و تأتى أحياناً بمعنى الثمار المهيئة للإقتطاف أيضاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 252

وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن النبي صلى الله عليه و آله حيث يقول: «يدني اللَّه العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلّها، حتى إذا رآى أنّه قد هلك. قال اللَّه تعالى: إنّي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه» «1».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للإطّلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها، ثم يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي. أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدم مقارنة بين المجموعتين، حيث يقول تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ». «وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ».

نعم، في ذلك اليوم العظيم، وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السي ء الذي أوصل نفسه إليه، والشرّ الذي جلبه عليها، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماماً، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى: «وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا» «2».

ثم يضيف تعالى مستعرضاً إعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ».

فالأموال التي كنت أجمعها

في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي.

«هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدة فحسب، بل إنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاخرى هلكت وزالت عنّي.

القصة المثيرة: نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات،

______________________________

(1) في ظلال القرآن 8/ 256.

(2) سورة النبأ/ 40.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 253

لتكون درساً لُاولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل، وانغمسوا حتى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما، ومن جملتها ما يلي:

في سفينة البحار عن كتاب النصائح لابن ظفر أنّه لمّا اشتدّ مرض الرشيد بطوس، احضر طبيباً طوسياً فارسيّاً وأمر أن يعرض عليه مائه مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رآى قارورة الرشيد فقال: قولوا لصاحب هذه الماء يوصى فإنّه قد انحلّت قواه وتداعت بنيته فاقيم وأمر بالذّهاب فدهب ويئس الرشيد من نفسه وتمثّل قائلًا:

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحب قد أتى

ما للطبيب يموت بالدّاء الذي قد كان يُبرئ مثله فيما مضى

وبلغه أنّ الناس أرجفوا بموته فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه فاسترخت فخذاه فقال:

انزلوني صدق المرجفون ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه وأمر فشقّ له قبر أمام فراشه ثم اطّلع فيه فقال: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» فتوفى في يومه.

خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَ لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَ لَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) خذوه

فغلّوه: استمراراً للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى، فتنطلق الآهات والأنّات، ويتمنّى أحدهم الموت، يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول:

«خُذُوهُ فَغُلُّوهُ». «غلّوه»: من مادة (غلّ)، والمراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقة والألم.

«ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ».

«السلسلة»: في الأصل مأخوذة من مادة «تسلسل» بمعنى الإهتزاز والإرتعاش، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرك.

إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد، بل لمجاميع يربط كل منها بسلسلة.

«ذراع»: بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب، وهي قياس طبيعي.

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَ مَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 254

وقال البعض: إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه، حيث إنّ كل وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنم.

وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير، فيقول تعالى: «إِنَّهُ كَانَ لَايُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ».

وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل اللَّه تعالى يدعونه للتوجه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل، ولذا فإنّ إرتباطه بالخالق كان مقطوعاً بصورة تامة.

«وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضاً.

ويستفاد من التعبير السابق- بصورة واضحة- أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين: (الإيمان) و (إطعام المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهمية البالغة لهذا

العمل الإنساني العظيم.

ثم يضيف تعالى: «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ ههُنَا حَمِيمٌ». أي: صديق مخلص وحميم.

«وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ». أي: القيح والدم.

والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماماً، فبسبب قطع علاقتهم باللَّه، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم، كما أنّ سبب إمتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلّاالقيح والدم، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهباً للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.

ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد: «لَايَأْكُلُهُ إِلَّا الخَاطُونَ».

إنّ (خاطى ء) تقال للشخص الذي يرتكب خطأً عمداً. وبناءً على ما تقدم فإنّ طعام أهل جهنم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّاً وعصياناً وعمداً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 255

القرآن كلام اللَّه قطعاً: بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه اللَّه سبحانه للمؤمنين والكفار، يبيّن الباري ء عزّ وجل في هذه الآيات بحثاً وافياً حول القرآن والنبوّة، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلّاً منهما مكمّلًا للآخر. يقول تعالى في البداية: «فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَاتُبْصِرُونَ». وهذه الجملة لها معنىً واسع، حيث تشمل كل ما يراه البشر وما لا يراه. وبعبارة اخرى: تشمل كل عالم (الشهود) و (الغيب).

ثم تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم، حيث يقول تعالى بأنّ هذا القرآن هو قول رسول كريم: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

والمقصود من الرسول هنا- بدون شك- هو الرسول الكريم صلى الله عليه و آله وليس جبرائيل.

والآية ذكرت كلمة «رسول» وهذا يعني أنّ كل ما يقوله الرسول فهو قول مرسله.

ثم يضيف تعالى: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ

قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ».

تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم باطلة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ كانوا يقولون أحياناً: إنّه (شاعر) وإنّ هذه الآيات من شعره، كما كانوا يقولون أحياناً: إنّه (كاهن) وإنّ الذي يقوله هو (كهانة).

الشعر في الغالب وليد الخيال، ومعبّر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس، ولهذا فإنّه يجسّد حالة عدم الإستقرار وعدم التوازن صعوداً ونزولًا، شدّة وإنخفاضاً، في الوقت الذي نلاحظ أنّ القرآن الكريم، وهو يمثّل قمّة الروعة والجاذبية، فإنّه كتاب استدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم، وعقلاني في محتواه، وما فيه من التنبّؤ المستقبلي لا يشكّل قاعدة أساسية للقرآن الكريم، بالإضافة إلى أنّها صادقة جميعاً بخلاف ما عليه تنبّؤ الكهنة.

ويقول سبحانه في آخر آية- مورد البحث- كتأكيد على هويّة القرآن الربانية: «تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ». وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر الرسول، ولا قول جبرائيل ... بل إنّه كلام اللَّه سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 256

استمراراً للأبحاث المتعلقة بالقرآن الكريم، تستعرض الآيات التالية دليلًا واضحاً يؤكّد يقينية كون القرآن من اللَّه سبحانه، حيث يقول: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ».

ويذكّر سبحانه مرّة اخرى في الآية اللاحقة

مؤكّداً ما سبق عرضه في الآيات السابقة «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ». إنّ كتاب اللَّه هذا أنزله للأشخاص الذين يريدون أن يطهّروا أنفسهم من الذنوب، ويسيروا في طريق الحق، ويبحثوا عن الحقيقة، ويسعوا للوصول إليها، أمّا من لم يصل إلى هذا الحد من صفاء النظرة وتقوى النفس، فمن المسلّم أنّه لن يستطيع أن يستلهم تعاليم القرآن الكريم ويتذوّق حلاوة معرفة الحق المبين.

إنّ التأثير العميق الفذّ للقرآن الكريم الذي يحدثه في نفوس سامعيه وقارئيه، هو بحدّ ذاته علامة على إعجازه وحقانيته.

ثم يضيف تعالى: «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ».

إنّ وجود المكذبين المعاندين لم يكن مانعاً أبداً من الدليل على عدم حقانيتهم.

إنّ المتقين وطلّاب الحق يتّعظون به، ويرون فيه سمات الحق، وإنّه عون لهم في الوصول إلى طريق اللَّه سبحانه.

ويضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ».

إنّ هؤلاء الكفرة الذين يتحدّون القرآن الكريم اليوم ويكذّبونه، فإنّهم غداً حيث (يوم الظهور) و (يوم البروز) وهو في نفس الوقت (يوم الحسرة) يدركون مدى عظمة النعمة التي فرّطوا بها بسبب لجاجتهم وعنادهم، وما جلبوه لأنفسهم من أليم العذاب.

ولكي لا يتصور أحد أنّ التكذيب والتشكيك كان بلحاظ غموض وإبهام مفاهيم القرآن الكريم، فيضيف في الآية اللاحقة: «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ».

يعني أنّ القرآن الكريم هو (يقين خالص). أو بتعبير آخر: أنّ لليقين مراحل مختلفة، حيث يحصل أحياناً بالدليل العقلي كما في حصول اليقين بوجود النار من خلال مشاهدة دخّان من بعيد، لذا يقال لمثل هذا الأمر (علم اليقين).

وحينما نقترب أكثر ونرى إشتعال النار بام أعيننا، فعند ذلك يصبح اليقين أقوى ويسمّى عندئذ ب (عين اليقين).

وعندما يكون اقترابنا أكثر فأكثر ونصبح في محاذاة النار أو في داخلها ونلمس حرارتها

مختصر الامثل، ج 5، ص: 257

بأيدينا، فإنّ من المسلّم أنّ

هذه أعلى مرحلة من مراحل اليقين، وتسمّى ب (حق اليقين).

والآية أعلاه تقول: إنّ القرآن الكريم في مثل هذه المرحلة من اليقين، ومع هذا فإنّ عديمي البصيرة ينكرونه ويشكّكون فيه.

وأخيراً يقول سبحانه في آخر آية من سورة الحاقّة: «فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ».

والجدير بالملاحظة- هنا- أنّ مضمون هذه الآية والآية السابقة قد جاء بتفاوت يسير مع ما ورد في سورة الواقعة، وهذا التفاوت هو أنّ الآية وصفت القرآن الكريم هنا بأنّه (حق اليقين) أمّا في نهاية سورة (الواقعة) فكان الحديث عن المجاميع المتباينة للصالحين والطالحين في يوم القيامة.

«نهاية تفسير سورة الحاقّة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 259

70. سورة المعارج

محتوى السورة: المعروف بين المفسرين هو أنّ سورة المعارج من السور المكّية، ولكن بعض آياتها مدنية؛ وهناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الاولى من هذه السورة هي آيات مدنية. فإنّ لهذه السورة أربعة أقسام:

1- يتحدث عن العذاب السريع الذي حلّ بأحد الأشخاص ممن أنكر أقوال النبي صلى الله عليه و آله وقال: لو كان هذا القول حقّاً فلينزل عليّ العذاب. فنزل الآيات (1- 3).

2- ذكر الكثير من خصوصيات يوم القيامة ومقدماتها وحالات الكفار في ذلك اليوم.

3- توضّح هذه السورة بعض الصفات الإنسانية الحسنة والسيّئة والتي تعيّن هذا الشخص من أهل الجنان أم من أهل النار.

4- يشمل إنذارات تخصّ المشركين والمنكرين وتبيان مسألة المعاد وينهى السورة بذلك.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سأل سائل أعطاه اللَّه ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون».

من البديهي أنّ الإنسان يحصل على مثل هذا الثواب العظيم إذا كانت قراءته بإيمان وعقيدة، وثم يقترن ذلك بالعمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 260

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ

(1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: الحاكم أبوالقاسم الحسكاني عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: «لما نصّب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام يوم غدير خم وقال:" من كنت مولاه فعليّ مولاه". طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صلى الله عليه و آله النعمان بن الحرث الفهري فقال: أمرتنا عن اللَّه أن نشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّك رسول اللَّه، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها. ثم لم ترض حتى نصّبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللَّه؟ فقال:" واللَّه، الّذي لا إله إلّاهو إنّ هذا من اللَّه". فولى النعمان بن الحرث وهو يقول: أللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء! فرماه اللَّه بحجر على رأسه فقتله، وأنزل اللَّه تعالى: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ»».

التّفسير

العذاب العاجل: من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ».

هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث.

ثم يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم: «لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ».

وتصف الآية الاخرى من ينزل العذاب منه، وهو اللَّه ذي المعارج فتقول الآية: «مِّنَ اللَّهِ ذِى الْمَعَارِجِ». أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.

«المعارج»: جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون، إذ إنّ اللَّه جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج، وقد وصف اللَّه تعالى بذي المعارج.

نعم، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفار والمجرمين، والذين هبطوا على إبراهيم عليه السلام، وأخبروه بأنّهم قد امروا

بإبادة قوم لوط.

تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَرَاهُ قَرِيباً (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 261

يوم مقداره خمسين ألف سنة: بعد إيراد قصة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب، تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الاخروي للمجرمين في ذلك اليوم. في البداية يقول تعالى: «تَعْرُجُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [أي إلى اللَّه فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».

المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي، وليس العروج الجسمي، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لإستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة.

والمراد بالروح هو (الروح الأمين) وهو أكبر الملائكة، وهذا ما اشير إليه أيضاً في سورة القدر، حيث يقول تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِن كُلّ أَمْرٍ».

وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدنيا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدنيا، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (5) من سورة السجدة من أنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة، ولأجل ذلك ذكر في الروايات أنّ في القيامة خمسين موقفاً، وكل موقف مثل ألف سنة مما تعدون «1».

فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار. روى أبوسعيد الخدري قال: قيل يا رسول اللَّه! ما أطول هذا اليوم؟ فقال: «والذي نفس محمّد بيده! إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» «2».

ثم يخاطب اللَّه تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه و آله في الآية الاخرى ويقول: «فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا».

المراد ب (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه

والشكوى، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلًا.

ثم يضيف: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَيهُ قَرِيبًا». إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم، وذلك في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا اللَّه وفي قلوبهم ريب بقدرة اللَّه.

______________________________

(1) أمالى الطوسى/ 36.

(2) تفسير مجمع البيان 10/ 120؛ تفسير القرطبى 13/ 23.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 262

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَ لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعَى (18) تضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث يقول اللَّه تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ». «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ».

«المهل»: على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما.

«العهن»: مطلق الصوف المصبوغ ألوناً.

في مثل ذلك اليوم تتلاشى السماوات وتذوب، تتدكدك الجبال ثم تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الريح، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثم يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كل هذا الخراب.

وعندما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيراً ومرعباً بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه: «وَلَا يَسَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا» «1».

ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضاً، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ». غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لايدعه يفكّر بغيره.

وإكمالًا للحديث وتوضيحاً

لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ». وليس ببنيه فحسب بل، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضاً «وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ». «وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تْوِيهِ». أي عشيرته وأقرباءه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا: «وَمَن فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ».

«يودّ»: من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى

______________________________

(1) «الحميم»: في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق، ثم اطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 263

«يفتدي»: من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شي ء ما.

«الفصيلة»: هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.

«تؤيه»: من «الإيواء» من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.

ولكنّه يجيب على كل هذه الأماني والآمال في قوله: «كَلَّا». أي لا تقبل الفدية والإفتداء.

«إِنَّهَا لَظَى نار ملتهبة تحرق كل من بجانبها وفي مسيرها.

«نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.

«لظى : تعني لهيب النار الخالص، وهي اسم من أسماء جهنم أيضاً.

«نزاعة»: أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي

و «شوى : الأطراف كاليد والرجل، وتأتي أحياناً بمعنى الشواء، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل.

ثم يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النار، فيقول: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى .

وبهذا فإنّ هذه النار المحرقة تدعو اولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصة المودعة فيها تجاه المجرمين، أو بلسان مقالها الذي أعطاها اللَّه إيّاها، إنّها تدعو اولئك المتصفين بهاتين الصفتين: الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة اللَّه ورسوله.

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَ الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ

يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) أوصاف المؤمنين: بعد ذكر أوصاف الطالحين وجوانب من أنواع العذاب في يوم القيامة، يأتي هنا وصف المؤمنين للتعرف عن سبب انقسام الناس إلى صنفين، المعذبون والناجون. يقول أوّلًا: «إِنَّ الْإِنسنَ خُلِقَ هَلُوعًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 264

«إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا».

ثم تذكر الآيات الكريمة صفات الأشخاص الجيدين على شكل استثناء، وتبيّن لهم تسع صفات ايجابية بارزة، فيقول تعالى: «إِلَّا الْمُصَلّينَ». «الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ».

هذه هي الخصوصية الاولى لهم وأنّهم مرتبطين باللَّه بشكل دائم، وهذه الرابطة تتوثق بالصلاة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصلاة التي تربي روح الإنسان وتذكره دائماً باللَّه تعالى، والسير بهذا الإتجاه سوف يمنعه من الغفلة والغرور، والغرق في بحر الشهوات، والوقوع في قبضة الشيطان وهوى النفس.

والمراد من الإدامة على الصلاة هو المحافظة على أوقات الصلاة المعينة.

بعد توضيح أهميّة الصلاة وأنّها من أهم الأعمال ومن أهم أوصاف المؤمنين تنتقل الآيات إلى ذكر الصفة الثانية فيضيف تعالى: «وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».

وبهذا سوف يحافظون على إرتباطهم بالخالق من جهة، وعلاقتهم بخلق اللَّه من جهة اخرى.

والمراد من الحق المعلوم هو شي ء غير الزّكاة والذي يجب على الإنسان منحه للمحتاجين.

والفرق بين «السائل» و «المحروم» هو أنّ السائل يفصح عن حاجته ويسأل، والمحروم هو الذي لا يسأل لتعففه وحيائه.

الآية الاخرى أشارت إلى الخصوصية الثالثة لهم فيضيف: «وَالَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدّينِ».

والخصوصية الرابعة هي: «وَالَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ». «إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ».

وصحيح البخاري أنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يقول: «لن يدخل أحداً عمله الجنة». قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: «ولا أنا،

إلّاأن يتغمدني اللَّه برحمته».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 265

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) في الآيات السابقة ذكرت أربعة أوصاف من الأوصاف الخاصة بالمؤمنين الصادقين من أهل الجنان، وفي الوصف الخامسة يقول اللَّه عزّ وجل: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» «1».

لا شك في أنّ الغريزة الجنسية من غرائز الإنسان الشديدة والطاغية، والكثير من الجرائم الكبيرة سببها هي هذه الغريزة، ولذا كانت السيطرة على هذه الغريزة وحفظ حدودها من العلامات المهمّة للتقوى وبهذا ذكرت أهمية السيطرة على هذه الغريزة بعد تبيان أهمية الصلاة وإعانة المحتاجين والإيمان بيوم القيامة والإشفاق من عذاب اللَّه.

وفي الآية الاخرى يؤكّد بشكل أكثر على نفس الموضوع فيضيف: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».

وبهذه الطريقة فإنّ الإسلام يخطط لمجتمع يحافظ على غرائزه الفطرية، ولا يؤدي به إلى الغرق بالفحشاء والفساد الجنسي والمضارّ الناتجة منه.

عندئذ يشير إلى الصفات السادسة والسابعة، فيقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

من الطبيعي أنّ للأمانة معنىً واسعاً وليست هي الأمانات المادية المتنوعة للناس فحسب، بل إنّها تشمل الأمانات الإلهية وأمانات الأنبياء والأئمة المعصومين عليهم السلام.

إنّ كل نعمة من النعم الإلهية هي من أماناته تعالى، منها المقامات الاجتماعية وبالخصوص المسؤولون في الدولة فإنّها تعتبر من أهم الأمانات.

والأهم من ذلك كلّه هو الدين والشريعة الإلهية وكتاب اللَّه، وهو من الأمانات الكبيرة التي يجب الحفاظ عليها بالسعي.

______________________________

(1) «فروج»: جمع

«فرج» وهو كناية عن الآلة التناسيلة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 266

«العهد»: وله مفهوم واسع أيضاً، يشمل العهود الإنسانية وكذلك العهود الإلهية.

ويضيف في الوصف الثامن: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ». لأنّ القيام بالشهادة العادلة وترك كتمانها من أهم بنود إقامة العدل في المجتمع البشري.

وفي الوصف الأخير، وهو الوصف التاسع من هذه المجموعة، يعود مرّة اخرى إلى موضوع الصلاة، كما كان البدء بالصلاة. يقول تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ».

والصلاة هي المدرسة العالية للتربية، وأهم وسيلة لتهذيب النفوس.

ومن الطبيعي أنّ الوصف الأوّل كان إشارة إلى المداومة، ولكن الخطاب هنا حول حفظ آداب وشروط الصلاة وخصائصها، والآداب التي تكمن في ظاهر الصلاة والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر من جهة، وتقوي روح الصلاة بحضور القلب من جهة اخرى وتمحو الأخلاق الرذيلة التي تكون كحجر عثرة أمام قبولها، ولهذا لا يعتبر ذكرها مرّة اخرى من قبيل التكرار.

وفي النهاية تبيّن الآية الأخيرة عاقبة المتصفين بهذه الأوصاف، كما بيّنت في الآيات السابقة المسير النهائي للمجرمين، فيقول تعالى: «أُولئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ».

لماذا لا يكونوا مكرمين! وهم ضيوف اللَّه، وقد وفرّ اللَّه القادر الرحمن لهم جميع وسائل الضيافة.

فَمَا لِالَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَ الْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) الطمع الواهي في الجنة: جاء البحث في الآيات السابقة من هذه السورة حول علامات المؤمنين والكفار، ومصير كل من المجموعتين، في الآيات يعود ليوضح أحوال الكفار واستهزاءهم بالمقدسات.

قال البعض: إنّ هذه الآيات نزلت في جماعة من المشركين فعندما كان الرسول صلى

الله عليه و آله يتلو على المسلمين آيات المعاد، كان هؤلاء الكفار يقدمون من كل صوب وحدب ويقولون: إذا كان هناك معاد فإنّ حالنا في الآخرة أحسن من حال من آمن بك، كما أنّ حالنا في هذه الدنيا أحسن منهم!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 267

يقول القرآن الكريم في جوابهم: «فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ». أي: يقبلون نحوك من كل جانب مسرعين.

«عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ عِزِينَ». أي جماعات متفرقين.

«أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ». بأي إيمان وبأي عمل يستحقون ذلك؟!

«مهطعين»: جمع مهطع، وتعني الذي يمدّ عنقه مقبلًا على شي ء بسرعة للبحث عنه، وأحياناً تأتي- فقط- بمعنى مدّ العنق لاستطلاع الأمر.

«عزين»: جمع عزة، على وزن «هبة» وتعني جماعات متفرقين.

وهنا يجيبهم القرآن المجيد فيقول: «كَلَّا». ليس الأمر كذلك وليس لهم حق الدخول إلى الجنة: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ».

في الحقيقة أنّ اللَّه يريد بهذه الجملة أن يحطم غرورهم، لأنّه يقول: إنّكم تعلمون جيداً مم خلقناكم؟ من نطفة قذرة، من ماء آسن مهين.

ويجيب ثانياً على المستهزئين بالمعاد فيقول: إذا كنتم في شك من المعاد فتمعنوا في حال هذه النطفة، وانظروا كيف خلقنا موجوداً بديعاً من قطرة ماء قذرة يتطور فيها الجنين كل يوم يتّخذ شكلًا جديداً، ألا يقدر خالق الإنسان من هذه النطفة أن يعيد إليه الحياة بعد دفنه؟

ثم يقول تعالى مؤكّداً ذلك: «فَلَا أُقْسِمُ بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ».

لعل هذه الجملة إشارة إلى أنّنا لسنا قادرين على أن نعيد لهم الحياة بعد الموت فحسب، بل إنّنا نستطيع أن نبدله إلى أكمل الموجودات وأفضلها، ولا يمنعنا من ذلك شي ء.

أو هو إشارة إلى أنّنا نهلككم جزاءً لأعمالكم ولا يمنعنا من ذلك شي ء،

ونستبدل بكم مؤمنين واعين، ليكونوا أنصاراً للنبي صلى الله عليه و آله ولا يضرّنا ذلك شيئاً.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) هذه الآيات وهي آخر آيات سورة المعارج جاءت لتنذر وتهدد الكفار المعاندين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 268

والمستهزئين. يقول سبحانه: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ» «1».

لا يلزم الإستدلال والموعظة أكثر من هذا، فإنّهم لا يتعضون وليس لهم الإستعداد للإستيقاظ، دعهم يخوضوا في أباطيلهم وأراجيفهم كمايلعب الأطفال حتى يحين يومهم الموعود، يوم البعث ويرون كل شي ء بأعينهم.

ثم تبيّن الآية التالية اليوم الموعود، وتذكر بعض علامات ذلك اليوم المرعب فيقول تعالى: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».

إنّ هذا التعبير في الحقيقة استهزاء بعقائدهم التافهة التي كانوا يعتقدون بها في الدنيا.

«الأجداث»: جمع جدث- على وزن (عبث)- وتعني القبر.

«سراع»: جمع سريع، تعني الحركة السريعة للشي ء أو الإنسان.

«نصب»: جمع نصيب، والمراد منه هو ما ينصب كعلامة، وتطلق على الأصنام الحجرية إذ كانوا ينصبونها في مكان ما ليعبدوها ويُقدّم لها القرابين ثم يلطخون دماءها عليها.

«يوفضون»: من «إفاضة» وتعني الحركة السريعة المشابهة لحركة الماء المنحدر من العين.

ثم تذكر الآيات حالات اخرى لهؤلاء فتضيف: «خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» «2».

من شدة الهول والوحشة وقد غرقوا في ذلة مهينة.

وفي آخر الآية يتابع قوله: «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ».

«نهاية تفسير سورة المعارج»

______________________________

(1) «يخوضوا»: من أصل خوض- على وزن حوض- وتعني في الأصل الحركة في الماء، ثم جاءت بصيغة الكناية في موارد يغطس فيه الإنسان في الباطل.

(2) «ترهقهم»: من أصل «رهق» على وزن (سقف) ويراد به غشيان

الشي ء بقهر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 269

71. سورة نوح

محتوى السورة: هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، تشير إلى قصة نوح عليه السلام، واشير إلى قصة هذا النبي العظيم كذلك في سور متعددة في القرآن المجيد، منها: سورة الشعراء، والمؤمنون، والأعراف، والأنبياء، وبشكل أوسع في سورة هود.

وما جاء في سورة نوح عن قصته عليه السلام هو مقطع خاص من حياته، وهو أقل مما ذكر في بقية السور، وهذا القسم يرتبط بدعوته المستمرة والمتتابعة إلى التوحيد، وترتبط بكيفيتها وعناصرها.

بلحاظ أنّ هذه السورة نزلت في مكة، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله والمسلمين القلائل في ذلك الزمان كانوا يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف عصر نوح عليه السلام وأعوانه، فإنّها تعلمهم اموراً كثيرة، وكانت هذه واحدة من أهداف إيراد هذه القصة، ومنها:

1- أنّها تذكرهم كيف يبلغون الرسالة للمشركين عن طريق الإستدلال المنطقي المقترن بالمحبة والمودة، واستخدام كل طريقة تكون مفيدة ومؤثرة في الدعوة.

2- أنّها تعلّمهم الثبات والنشاط في طريق الدعوة إلى اللَّه وعدم التكاسل مهما طالت الأعوام، ومهما وضع الأعداء العوائق.

3- أنّها تعلّمهم كيف يرغبونهم ويشجعونهم تارةً، وتكون لديهم عوامل الإنذار

مختصر الامثل، ج 5، ص: 270

والرهبة تارةً اخرى والإستفادة من كلا الطريقين في الدعوة إلى اللَّه جلّ وعلا.

4- الآيات الأخيرة من هذه السورة هي تحذير للمشركين المعاندين، بأنّ عاقبتهم وخيمة إذا لم يستسلموا للحق، وتخلّفوا عن أمر اللَّه.

فإنّ هذه السورة ترسم أبعاد الكفاح الدائم بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، ترسم منهج أصحاب الحق الذي يجب عليهم إتّباعه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح».

ولا يخفى أنّ الهدف من قراءة السورة هو الإقتباس من

منهج وسلوك هذا النبي العظيم، من صبره واستقامته في طريق الدعوة إلى اللَّه تعالى ليدركوا دعوة النبي.

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قلنا: إنّ هذه السورة تبيّن من أحوال نوح عليه السلام وما يرتبط بأمر دعوته، وتبدأ أوّلًا بذكره في بعثته عليه السلام فيقول تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

من الممكن أن يكون هذا العذاب الأليم هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، والأنسب أن يكون الإثنان معاً، وإن كانت القرائن في آخر آيات هذه السورة تشير إلى أنّ هذا العذاب هو عذاب الدنيا.

نوح عليه السلام الذي كان هو من اولي العزم، وصاحب أوّل شريعة إلهيّة، وله دعوة عالمية، جاء إلى قومه بعد صدور هذا الأمر إليه قال: «قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

الهدف هو أن تعبدوا اللَّه الذي لا إله إلّاهو، وتتركوا من دونه، وتتقوا وتطيعوا أمري الذي هو أمر اللَّه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ».

ثم ذكر النتائج المهمّة المترتبة على استجابتهم الدعوة في جملتين لترغيبهم فقال: «يَغْفِرْ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 271

لَكُم مّن ذُنُوبِكُمْ».

ثم يضيف: «وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَايُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ».

يستفاد جيداً من هذه الآية أنّ «الأجل» وموعد عمر الإنسان قسمان، هما: الأجل المسمّى والأجل النهائي. أو بعبارة اخرى: الأجل المعلق، والأجل الحتمي. القسم الأوّل للأجل قابل للتغير والتبديل، فقد يتدنى ويقل عمر

الفرد كثيراً بسبب الذنوب والأعمال السيئة وهذا نوع من أنواع العذاب الإلهي، وبالعكس فإنّ التقوى وحسن العمل والتدبير يمكن أن تكون سبباً لتأخير الأجل، ولكن الأجل النهائي لا يتغير بأي حال من الأحوال.

وفي الروايات الإسلامية أيضاً تأكيد على هذا المعنى، منها ما ورد- في الأمالي الشيخ الطوسي- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار».

قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) استخدام مختلف الوسائل لهدايتهم، ولكن: تتحدث هذا الآيات عن استمرار مهمّة نوح في دعوته قومه ولكن هذه المرّة جاء الحديث على لسانه مخاطباً ربّه وشاكياً إليه أمره معهم بعبارة مؤثّرة بليغة. خطاب نوح عليه السلام في هذا الإطار يمكن أن يعبّد الطريق لكل المبلغين الرساليين: «قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا».

وإنّني لم أتوانى لحظة واحدة في إرشادهم وإبلاغ الرسالة لهم، ثم يقول: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَاءِى إِلَّا فِرَارًا».

ومن العجيب أن تكون الدعوة سبباً لفرارهم، ولكن بما أنّ كل دعوة تحتاج إلى نوع من الإستعداد وصفاء القلب والتجاذب المتبادل فليس عجيباً أن يكون هنا أثر معاكس في القلوب الخاملة.

ثم إنّ نوحاً عليه السلام يضيف: «وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 272

ولكي لا يسمعوا صوت الحق كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم، ويلفون ثيابهم حول أنفسهم أو يضعونها على رؤوسهم لئلا تصل

أمواج الصوت إلى أدمغتهم! وربّما كانوا يتقنعون لئلا تقع أعينهم على الهيئة الملكوتية لهذا النبي العظيم، وكانوا يصرون على أن تتوقف الآذان عن السماع والعيون عن النظر.

هذه الآية يشير إلى أحد الأسباب المهمة لتعاستهم وهو الغرور والتكبر، فكان هذا الغرور والكبر أحد الموانع المهمة والدائمة في طريق الحق، ونحن نشاهد النتائج المشؤومة لذلك على طول التاريخ في حياة اناس لا إيمان لهم.

واستمر نوح عليه السلام في حديثه عند المقام الإلهي، فيقول: «ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا».

ثم لم أكتفي بهذا: «ثُمَّ إِنّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا».

كان صبره عجيباً، والأعجب ما فيه رأفته، وكانت همته واستقامته الفريدة رأس ماله في السير في طريق الدعوة إلى دين الحق.

والأعجب من ذلك هو أنّ طيلة دعوته التي دامت (950) عاماً لم يؤمن به إلّاثمانون شخصاً.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) ثمرة الإيمان في الدنيا: يستمر نوح عليه السلام في تبليغه المؤثر لقومه المعاندين العصاة، ويعتمد هذه المرّة على عامل الترغيب والتشجيع، ويوعدهم بانفتاح أبواب الرحمة الإلهية من كل جهة إذا ما تابوا من الشرك والخطايا، فيقول: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا».

ولا يطهركم من الذنوب فحسب بل: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا» «1».

ثم يضيف: «وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا». وبهذا فإنّه وعدهم بنعمة معنوية كبيرة، وبخمس نعم اخرى مادية كبيرة، والنعمة المعنوية الكبيرة هي

______________________________

(1) «مدراراً»: من أصل «درّ» وتعني في الأصل انسكاب الحليب من ثديي الام ويعطي معنى هطول الأمطار.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 273

غفران

الذنوب والتطهير من درن الكفر والعصيان، وأمّا النعم المادية فهي هطول الأمطار المفيدة والمباركة في حينها، كثرة الأموال، كثرة الأولاد (الثروات الإنسانية)، الحدائق المباركة والأنهار الجارية.

نعم، إنّ الإيمان والتقوى يبعثان على عمران الدنيا والآخرة بشهادة القرآن المجيد.

ويعود نوح عليه السلام مرّة اخرى لينذرهم، فيقول: «مَّا لَكُمْ لَاتَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا» «1». ولا تخافون عقابه وقد خلقكم في مراحل مختلفة. ويقول أيضاً: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا».

كنتم في البداية نطفة لا قيمة لها، ثم صوركم علقة ثم مضغة، ثم وهبكم الشكل الإنساني، ثم ألبسكم لباس الحياة، فوهب لكم الروح والحواس والحركة.

وليست أجسامكم هي المتغيرة فقط بل إنّ الروح هي أيضاً في تغيّر مستمر، لكل منكم استعداده الخاص. وعلى هذا فإنّه معكم في كل مكان هو يهديكم في كل خطوة ويشملكم بلطفه وعنايته، فلم كل هذا الكفران والإستهانة.

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجاً (20) كان نوح عليه السلام يبيّن للمشركين المعاندين حقائق عميقة ومستدلة، إذ كان يأخذ بهم إلى أعماق وجودهم ليشاهدوا حقائق هذه الآيات (كما مرّ في الآيات السابقة) ودعاهم إلى ما خلق اللَّه من علامات في هذا العالم الكبير، فكان يسير بهم إلى تلك الآفاق.

يبدأ أوّلًا بالسماء فيقول: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَموَاتٍ طِبَاقًا».

«طباقاً»: مصدر من باب (مفاعلة) بمعنى «مطابقة»، وأحياناً تأتي بمعنى وضع الشي ء فوق شي ء آخر، وتأتي أحياناً اخرى بمعنى مطابقة ومماثلة شيئين أحدهما مع الآخر، والمعنيان يصدقان هنا.

______________________________

(1) «الوقار»: الثقل والعظمة؛ و «ترجون»: من

أصل رجاء بمعنى الأمل وهو ملازم للخوف، ومعنى الآية لماذا لاتخضعون لعظمة اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 274

وعلى الإحتمال الثاني فإنّ القرآن يشير إلى مطابقة وتناسق السماوات السبع في النظم والعظمة والجمال. ثم يضيف: «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا».

التعبير بالسراج للشمس وبالنور للقمر هو أنّ نور الشمس ينشأ من ذاتها كالسراج، وأمّا نور القمر فإنّه ليس من باطنه بل انعكاس لنور الشمس.

ثم يعود ذلك إلى الإنسان فيقول: «وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا».

التعبير ب «الإنبات»، في شأن الإنسان لأسباب؛ أوّلًا: خلق الإنسان الأوّل من التراب.

ثانياً: إنّ المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان وبها ينمو ويحيى، هي من الأرض، فهو إمّا يتناول الخضار والحبوب الغذائية أو الفواكه مباشرة، أو بطريق غير مباشر كلحوم الحيوانات.

ثالثاً: هناك تشابه كثير بين الإنسان والنبات، وهناك كثير من القوانين التي يسري حكمها على نمو وتغذية النباتات هي سارية أيضاً على الإنسان.

ثم يمضي إلى مسألة المعاد والتي كانت من المسائل المعقدة عند المشركين فيقول: «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا».

كنتم في البدء تراباً، ثم تعودون إلى التراب ثانية، ومن كانت له القدرة على أن يخلقكم من التراب هو قادر على أن يحييكم بعد الموت.

ثم يعود مرّة اخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا».

ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الإنتقال والاستراحة عليها، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها، وتفقدون القدرة على الحركة، مضافاً إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.

وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق بعض والتي يمكن العبور من خلالها.

«لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا». «فجاج»:

على وزن (مزاج)، وهو جمع فج، وبمعنى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 275

الوادي الفسيح بين الجبلين، وقيل الطريق الواسعة.

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَ لَا سُوَاعاً وَ لَا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) لطف اللَّه معك: عندما رأى نوح عليه السلام عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلّافساداً وضلالًا، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث:

«قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا».

تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون للَّه تعالى، وهذه الإمتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.

ثم يضيف في قوله تعالى: «وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا».

إنّهم كانوا يضعون خططاً شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح عليه السلام، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقاً للروايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح عليه السلام وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها.

وتدل الآية الاخرى على هذا الأمر، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى: «وَقَالُوا لَاتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ».

ولا تقبلوا دعوة نوح إلى اللَّه الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام، وقالوا: «وَلَا تَذَرُنَّ

وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا».

ويستفاد من القرائن أنّ هذه الأصنام الخمسة لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 276

ثم يضيف عن لسان نوح عليه السلام: «وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَللًا».

المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم ليكون سبباً في تعاستهم، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم اللَّه بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان، ولتحلّ محله ظلمة الكفر. وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث، يقول اللَّه تعالى فيها: «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا».

تشير الآية إلى ورودهم النار بعد الطوفان، وممّا يثير العجب هو دخولهم النار بعد الدخول في الماء! وهذه النار هي نار البرزخ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية، وكذا ذكرت الروايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.

وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ لَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28) على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا: هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح عليه السلام في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى: «وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لَاتَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا».

دعا نوح عليه السلام بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والعناء في دعوته إيّاهم، فلم يؤمن إلّاقليل منهم.

والتّعبير ب «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوح عليه السلام كانت

تشمل العالم، وكذا مجي ء الطوفان والعذاب بعده.

ثم يستدل نوح عليه السلام للعنه القوم فيقول: «إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا». وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح عليه السلام لم يكن ناتجاً عن الغضب والإنتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 277

«الفاجر»: يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً.

«كفّار»: المبالغ في الكفر.

والإختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية.

ثم يدعو نوح عليه السلام، لنفسه ولمن آمن به فيقول: «رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا».

طلب المغفرة هذا من نوح عليه السلام كأنّه يريد أن يقول إنّني وإن دعوت قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا ابري ء نفسي أمام اللَّه تعالى.

«نهاية تفسير سورة نوح»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 279

72. سورة سورة الجن

محتوى السورة: تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا وهم الجن، كما سمّيت السورة باسمهم، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك، وفي هذا القسم من السورة (19) آية من (28) آية تصحح ما حُرّف من معتقدات حول الجن.

وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد، والقسم الأخير يتحدث عن العلم الذي لا يعلمه إلّامن شاء للَّه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أكثر قراءة «قُلْ أُوحِىَ» لم يصبه في الحياة الدنيا شي ء من أعين الجن، ولا من نفثهم، ولا من سحرهم، ولا من كيدهم، وكان

مع محمّد صلى الله عليه و آله فيقول: يا ربّ، لا اريد بهم بدلًا، ولا أريد بدرجتي حولًا».

وطبعاً التلاوة مقدمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها، ثم العمل بما فيها.

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لَا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 280

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29- 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، ونوضح سبب النزول باختصار كما يلي:

1- إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام، فلم يجبه ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فأسلموا وآمنوا وعلمهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شرائع الإسلام «1».

2- عن ابن عباس قال: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب.

قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القران استمعوا له، فقالوا: هذا واللَّه الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فهناك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا* يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا» «2».

ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبداللَّه بن المسعود: من كان منكم مع النبي صلى الله عليه و آله ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب، فلقيناه مقبلًا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول اللَّه! اين كنت لقد أشفقنا عليك؟ وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك! فقال لنا: «إنّه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن» «3».

______________________________

(1) تفسير علي بن ابراهيم 2/ 299 و 388.

(2) في ظلال القرآن 7/ 429.

(3) تفسير مجمع البيان 10/ 145.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 281

مختصر الامثل ج 5 299

التّفسير

القرآن العجيب: يقول اللَّه تعالى: «قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا».

يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلًا وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن

المجيد.

إنّ لهم الحق في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاميين.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ ب (أن) وهي دلالة على التأكيد.

فيقول أوّلًا بأنّهم قالوا: «يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا».

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللَّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللَّه تعالى:

«وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا».

«جد»: لها معانٍ كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب. وأمّا المعنى الحقيقي فهو «القطع»، وتأتي بمعنى «العظمة» إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات.

ثم قالوا: «وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا». أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للَّه زوجة وأطفالًا، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً.

واحتمل بعض المفسرين أنّ «السفيه» هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو «ابليس» الذي نسب إلى اللَّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللَّه.

ولمّا كان ابليس من الجن، وكان قد بدا منه ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً.

«شطط»: على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحق.

ثم قالوا: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 282

لعلّ هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون باللَّه وينسبون إليه الزوجة والأولاد، فهم يقولون: لقد كنّا نصدقهم بحسن ظنّنا بهم ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على اللَّه بهذه الأكاذيب، ولكنّنا الآن نخطّى ء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقرّ بما التبس علينا،

بانحراف المشركين من الجن. ثم ذكروا إحدى الإنحرافات للجن والإنس وقالوا: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا».

«رهق»: على وزن (شفق) ويعني غشيان الشي ء بالقهر والغلبة، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه.

فإنّ للآية مفهوماً واسعاً، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجن، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن، وتبيان الدعوة لقومهم، وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) وَ أَنَّا لَا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة، فيقولون: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا».

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكنّنا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم وليتمسكوا بالقرآن وبالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ثم يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة، فيقولون: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا» «1».

______________________________

(1) «لمسنا»: من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث؛ و «حرس»: على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 283

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب

ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكنّنا منعنا من ذلك الآن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا». أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وكتاب اللَّه السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنبوّة.

ثم قالوا: «وَأَنَّا لَانَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدُ بِمَن فِى الْأَرْضِ أَم أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا». أي: مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد اللَّه بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة اخرى أنّنا لا ندري هل هذا هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من اللَّه، أم مقدمة لهدايتهم، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم صلى الله عليه و آله هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الاخرى، وليس هذا إلّاانتهاءً لعصر الظلام، وابتداء عصر النور.

ومع هذا، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلّا فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَ لَا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا

رَشَداً (14) وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالين فيقولون:

«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا».

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أنّ وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 284

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية.

ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذه الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا». وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من الجزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ». وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلًا، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثم بيّنوا عاقبة الإيمان فقالوا: «فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا».

إنّ المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون اجور ذلك بلا نقص أو قلّة.

وفي الآية الاخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون: «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا» «1».

«وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

والتعبير ب «تَحَرَّوْا رَشَدًا» يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق،

وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية.

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) الفتنة باغداق النعمة: إنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة،

______________________________

(1) «القاسط»: من أصل «قسط» وتعني التقسيم العادل؛ فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والانحراف عن سبيل الحق؛ و «تحروا»: من أصل «تحرى وتعني توخّاه وقصده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 285

وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول: «وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا».

ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شي ء وعلى هذا فإنّنا نشلمهم بأنواع النعم.

القرآن المجيد أكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة المادية).

الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات.

والآية الاخرى إشارة إلى حقيقة اخرى بنفس الشأن، فيضيف: «لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ».

ومن هنا يتّضح أنّ وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمة في الإمتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللَّه تعالى ويُهيي ء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون

أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون للَّه على كل حال، غير الناسين له تعالى.

ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: «وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا».

«صعد»: على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الامور الشّاقة.

ولكن، مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، ورابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة اخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللَّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة.

وقال مؤمنو الجن في الآية الاخرى وهم يدعون إلى التوحيد: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».

المراد بالمساجد هي المواطن التي يُسجد فيها للَّه تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّى فيها ويسجد عليها، وهو مصداق قول الرسول

مختصر الامثل، ج 5، ص: 286

الأكرم صلى الله عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» «1». وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك باللَّه، ومن اتّخذ الكعبة معبداً للأصنام، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب الثلاثة في الكنائس واللَّه تعالى يقول: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا».

ويضيف في إدامة الآية بياناً عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرسول للدّعاء فيقول: «وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا». أي: عندما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقوم للصلاة، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.

«لبد»: على وزن (فِعَل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة، وهذا

التعبير بيان لتعجب الجن ممّا يشاهدونه من عبادته وقراءته صلى الله عليه و آله قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله.

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَ لَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لَا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلَاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسَالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) في هذه الآيات يأمر اللَّه تعالى نبيّه أن يقول: «قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبّى وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا».

وذلك لتقوية قواعد التوحيد، ونفي كل أنواع الشرك، كما مرّ في الآيات السابقة.

ثم يأمره أن: «قُلْ إِنّى لَاأَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا».

ثم يضيف: قل لهم بأنّي لو خالفت أمر اللَّه تعالى فسوف يحيق بي العذاب أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه: «قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِّنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا».

وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شي ء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية للَّه تعالى، وإلى نفي كل أنواع الغلو في شأن النبي صلى الله عليه و آله من جهة اخرى، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّ الأصنام ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2/ 970/ 3.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 287

فقط لا تنفع ولا تحمي، بل إنّ نفس الرسول أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون له ملجأ من عذاب اللَّه، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه

و آله أن يريهم المعاجز الإلهية، ويثبت أنّ التوسل والشفاعة أيضاً لا يتحققان إلّابإذنه تعالى.

ويضيف في الآية الاخرى: «إِلَّا بَلغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ».

وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة المائدة: «أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلغُ الْمُبِينُ». وكذا في الآية (188) من سورة الأعراف: «قُلْ لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

ويحذر في نهاية الآية فيقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا».

الواضح أنّ المراد فيها ليس كل العصاة، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النار.

ثم يضيف: «حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا».

إنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبجّحون بقدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين ويستضعفونهم، لهذا كان القرآن يواسيهم- المسلمين- ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28) اللَّه عالم الغيب: لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد اللَّه بالعذاب، وهنا يطرح السؤال، وهو: متى يتحقق وعد اللَّه؟

وقد أجاب القرآن على ذلك فقال: «قُلْ إِن أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَدًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 288

هذا العلم يخص ذاته المقدسة

تعالى شأنه، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن عباده المؤمنين، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية، وإلّا فلن يؤثر الإختبار.

فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن، وعندما يسأل الرسول صلى الله عليه و آله عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس له علم بذلك، وأنّ علمه عند اللَّه. ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمّد أخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهْوَريّ فقال: يا محمّد، متى الساعة؟ قال: «ويحك، إنّها كائنة فما أعددت لها»؟ قال: أمّا إنّي لم اعدّ لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني احبّ اللَّه ورسوله، قال صلى الله عليه و آله: «فأنت مع من أحببت». قال أنس: فما فرح المسلمون بشي ء فرحهم بهذا الحديث «1».

ثم يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا».

ثم يضيف مستثنياً: «إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ». أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا».

«رصد»: في الأصل مصدر، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شي ء؛ ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم اللَّه مع الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليحيطوه من كل جانب، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجن والإنس ووساوسهم ومن كل شي ء يخدش أصالة الوحي، ليوصلوا الرسالات إلى العباد، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء عليهم السلام المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية، والملائكة.

في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول:

«لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْ ءٍ عَدَدًا».

المراد

من العلم هنا هو العلم الفعلي، وبعبارة اخرى ليس معنى الآية أنّ اللَّه ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثم علم، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجة بذلك.

______________________________

(1) تفسير المراغي 29/ 105.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 289

بحثان

1- تحقيق موسّع حول علم الغيب: من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان:

القسم الأوّل: ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلّاهو، كما في الآية (59) من سورة الأنعام: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَايَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ». والآية (50) من سورة الأنعام: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ».

القسم الثاني: يطرح بوضوح إطّلاع أولياء اللَّه على الغيب، كما في الآية (179) من سورة آل عمران: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ».

ونقرأ في معاجز المسيح عليه السلام كما في الآية (49) من سورة آل عمران: «وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ».

والآية السابقة مورد البحث أيضاً تشير إلى أنّ اللَّه تعالى يهب العلم لمن يرتضيه من رسله، ومن جهة اخرى فإنّ الآيات التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآيات (2- 4) من سورة الروم: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ».

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم اللَّه عليه، فكيف يمكن أن ننفي إطّلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كله فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النبي صلى الله عليه و

آله والأئمة المعصومين عليهم السلام مطّلعون على الغيب، ويخبرون به أحياناً.

وكذلك إخباره صلى الله عليه و آله بحوادث معركة مؤتة، واستشهاد جعفر الطيار رضى الله عنه وبعض القادة المسلمين، في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه و آله يطلع الناس على ذلك في المدينة «1». والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النبي صلى الله عليه و آله.

وورد في نهج البلاغة أيضاً أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية، أخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام، ممّا يدل على اطّلاعه بأسرار الغيب، كما جاء في الخطبة (13) في

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 112 (ذكر غزوة مؤتة).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 290

ذمّه أهل البصرة حيث يقول: «كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث اللَّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها».

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أخبرني بأنّك قاتلي «1».

أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والروايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير اللَّه وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها:

1- أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب باللَّه تعالى هو العلم الذاتي والإستقلالي، ولهذا لا يعلم الغيب إلّاهو، وما يعلمونه فهو من اللَّه، وذلك بلطفه وعنايته.

2- أسرار الغيب قسمان: قسم خاص باللَّه عزّ وجل لا يعلمه إلّاهو كقيام الساعة، وغيرها ممّا يشابه ذلك، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء، كما جاء في الخطبة (128) نهج البلاغة حيث يقول علي عليه السلام: «وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدّده اللَّه سبحانه بقوله: «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ

أَرْضٍ تَمُوتُ»» الآية. ثم أضاف الإمام عليه السلام في شرح هذا المعنى:

«فيعلم اللَّه سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو انثى وقبيح أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنّبيّين مرافقاً فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلّااللَّه وما سوى ذلك فعلم علّمه اللَّه نبيّه فعلّمنيه».

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علماً إجمالياً، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الامور فهو خاص بذات اللَّه تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النبي صلى الله عليه و آله أو الأئمة المعصومون عليهم السلام قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

3- والطريق الآخر هو أنّ اللَّه تعالى يعلم بكل أسرار الغيب، وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم اللَّه تعالى بها، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلّابإذن اللَّه تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والروايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى

______________________________

(1) الإصابة لابن حجر 5/ 486.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 291

عدم المعرفة الفعلية، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى إمكان معرفتهم لها.

2- تحقيق حول خلق الجن: الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور، وقد ذكرت له مواصفات كثيرة في القرآن؛ منها:

1- إنّهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان المخلوق من التراب؛ كما نقرأ في الآية (15) من سورة الرحمن: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَارِجٍ مّن نَّارٍ».

2- إنّهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على المنطق والإستدلال؛ كما هو واضح من آيات سورة

(الجن).

3- إنّهم مكلّفون ومسؤولون؛ كما في آيات سورة الجن والرحمن.

4- وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون؛ كما نقرأ في الآية (11) من سورة الجن: «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ».

5- إنّهم يحشرون وينشرون؛ كما نقرأ في الآية (15) من سورة الجن: «وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا».

6- لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخبار واستراق السمع، ولكنّهم منعوا من ذلك فيما بعد؛ كما نقرأ في الآية (9) من سورة الجن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا».

7- كانوا يوجدون ارتباطاً مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية؛ كما نقرأ في الآية (6) من سورة الجن: «وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا».

8- ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة، كما هو موجود في أوساط الإنس؛ كما نقرأ في الآية (39) من سورة النمل: «قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ».

9- لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان؛ كما نقرأ في الآيتان (12 و 13) من سورة سبأ: «وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَينَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ يَعْمَلُونَ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجَفَانٍ كَالْجَوَابِ».

10- إنّ خلقهم كان قبل خلق الإنسان؛ كما نقرأ في الآية (27) من سورة الحجر:

«وَالْجَانَّ خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ». ولهم خصائص اخرى.

إلى هنا كان الحديث عن امور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 292

من كل الخرافات والمسائل غير العلمية، ولكنّنا نعلم أنّ السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافي مع العقل والمنطق، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة، وأنّهم موجودات سامة

وذوات أذناب مؤذية، ومبغضة، سيئة التصرف والسلوك، وأوهام اخرى من هذا القبيل، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات يكون قابلًا للقبول.

ومن جهة اخرى، ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن، ولهذا لابدّ من الإعتقاد بهم، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

ومما يلاحظ أيضاً أنّ لفظ الجن يطلق أحياناً على مفهوم أوسع يشمل أنواعاً من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك والفاقدة لهما، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضاً، والدليل على ذلك روايات وردت عن النبي صلى الله عليه و آله حيث قال: «خلق اللَّه الجن خمسة أصناف: صنف كالريح في الهواء، وصنف حيات، وصنف عقارب، وصنف حشرات الأرض، وصنف كبني آدم عليهم الحساب والعقاب» «1».

«نهاية تفسير سورة الجن»

______________________________

(1) بحار الأنوار 60/ 267.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 293

73. سورة المزمل

محتوى السورة: يمكن أن نقسم مباحث السورة في خمسة أقسام:

1- الآيات الاولى للسورة والتي تأمر النبي صلى الله عليه و آله بقيام الليل والصلاة فيه، ليستعد بذلك لنقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل.

2- يأمره صلى الله عليه و آله بالصبر والمقاومة ومداراة المخالفين.

3- بحوث حول المعاد، وإرسال موسى بن عمران إلى فرعون وذكر عذابه الأليم.

4- فيه تخفيف لما ورد في الآيات الاولى من الأوامر الشديدة عن قيام الليل، وذلك بسبب محنة المسلمين والشدائد المحيطة بهم.

5- والقسم الأخير من السورة يعود ليدعو إلى تلاوة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق في سبيل اللَّه والإستغفار.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة المزمل رفع عنه العسر في الدنيا والأخرة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«ومن قرأ سورة المزّمل في العشاء الآخرة، أو في آخر الليل كان له الليل والنهار شاهدين مع السورة، وأحياه اللَّه حياة طيبة وأماته ميتة طيبة».

ومن الطبيعي أنّ هذه الفضائل لابدّ أن تكون ملازمة مع قيام الليل وقراءة القرآن والصبر والإستقامة والإيثار والإنفاق العملي، وليس بالتلاوة الخالية من العمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 294

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) يشير سياق الآيات كما بيّنا إلى دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله للإستقامة والإستعداد لقبول مهمة كبيرة وثقيلة، وهذا لا يتمّ إلّابالبناء المسبق للذات، فيقول: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا» «1». إنّ هذا ليس زمان التزمل والإنزواء، بل زمان القيام والبناء الذاتي والإستعداد لأداء الرسالة العظيمة.

واختيار الليل لهذا العمل أوّلًا: لأنّ أعين الأعداء نائمة؛ وثانياً: تتعطل الأعمال والمكاسب، ولهذا فإنّ الإنسان يستعد للتفكر ولتربية النفس.

وكذلك اختيار القرآن لأن يكون المادة الاولى في البرنامج العبادي في الليل إنّما هو لإقتباس الدروس اللازمة في هذا الباب، وهو يعدّ من أفضل الوسائل لتقوية الإيمان والإستقامة والتقوى وتربية النفوس.

والتعبير بالترتيل الذي يراد به التنظيم والترتيب الموزون هنا هو القراءة بالتأني والإنتظام اللازم، والأداء الصحيح للحروف، وتبيين الحروف، والتأمل في مفاهيم الآيات، والتفكر في نتائجها. والروايات التي وردت في تفسير الترتيل كلّها تشير إلى ضرورة التمعن في كلمات القرآن، والتدبّر فيها وتذكر بأنّ القرآن هو خطاب اللَّه تعالى للإنسان.

ولكن وللأسف إنّ الكثير من المسلمين ابتعدوا عن هذا الواقع، واكتفوا بالتلفظ وغدا همّهم ختمه، من دون

الإهتمام بمعرفة سبب نزوله ومحتواه! صحيح أنّ ألفاظ القرآن عظيمة ولقراءتها فضيلة، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ هذه الألفاظ وتلاوتها هي مقدمة لبيان المحتوى.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل اللَّه عزّ وجل الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ باللَّه من النار».

ثم يبيّن الهدف النهائي لهذا الأمر المهم والشاق فيقول: «إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا».

______________________________

(1) «مزّمل»: أصلها متزمل، وهي من التزمل، وتعني لف الثوب على نفسه، ولهذا جاء لفظ الزميل، أي المصاحب والرفيق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 295

إنّ ثقل القول يراد به القرآن المجيد بأبعاده المختلفة ... ثقيل بلحاظ المحتوى ومفاهيم الآيات.

ثقيل بلحاظ حمل القلوب له لما يقوله القرآن: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» «1».

ثقيل بلحاظ التبليغ ومشاكل طريق الدعوة.

وثقيل في ميزان العمل وفي عرصة القيامة.

ولكن الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه القلائل استطاعوا أن يتغلبوا على كل تلك هذه المشاكل باستمدادهم من تربية القرآن، والإستعانة بصلاة الليل، وبالاستفادة من قربهم من ذات اللَّه المقدسة، واستطاعوا بذلك حمل هذا القول الثقيل والوصول إلى مرادهم.

بحث

فضيلة صلاة الليل: هذه الآيات تبيّن أهمّية إحياء الليل بالعبادة وقراءة القرآن عندما يكون الغافلون نياماً، فإنّ العبادة في الليل وبالخصوص عند السحر لها الأثر البالغ في تصفية الروح وتهذيب النفوس والتربية المعنوية للإنسان وطهارة القلب وإيقاظه، وكذا في تقوية الإيمان والإرادة، وتوكيد أركان التقوى في الروح والقلب، ويمكن لمس ذلك بمجرّد الاختبار مرّة واحدة، وقد أكّدت الروايات على ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات القرآنية. منها ورد- في أمالي الطوسي- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ من روح

اللَّه تعالى ثلاثة: التهجد بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان».

تأثير الدعاء والمناجاة في أعماق الليل: تستمر هذه الآيات في البحث حول عبادة الليل والتعاليم المعنوية الموجودة قراءة القرآن في الليل، وهي بمنزلة بيان الدليل على ما جاء في الآيات السالفة، فيقول تعالى: «إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطًا وَأَقْوَمُ قِيلًا».

______________________________

(1) سورة الحشر/ 21. مختصر الامثل، ج 5، ص: 296

«الناشئة»: من مادة «نشأ» وتعني الحادثة، وقد ذكر هنا ثلاثة تفاسير لما يراد منها.

الأوّل: المراد به ساعات الليل الحادثة بالتوالي.

والثاني: إنّ المراد هو إحياء الليل بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن.

والثالث: الحالات المعنوية والروحية والنشاط والجذوة الملكوتية التي تحصل في القلب الإنسان وروحه في هذه الساعات الخاصّة بالليل، والتي تكون آثارها في روح الإنسان أعمق واستمرارها أكثر، والتّفسيران الثاني والثالث متلازمان، ويمكن جمعها في ما يراد بمعنى الآية.

والتعبير ب «أَشَدُّ وَطًا»: التأثيرات الثابتة والراسخة الحاصلة من شعاع هذه العبادات في روح الإنسان.

«أقوم»: من القيام، ويراد بكونها أثبت للقول وأصوب لحضور القلب.

«قيلًا»: تعني القول، وتشير هنا إلى ذكر اللَّه وقراءة القرآن.

إنّ هذه الآية من الآيات التي تحتوي على أبلغ الأحاديث حول العبادة الليلية، ورمز إظهار المحبة مع المحبوب في ساعات يختلي فيها الحبيب بحبيبه وأكثر من غيرها.

ويضيف في الآية الاخرى: «إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا».

أي إنّك مشغول بهداية الخلق وإبلاغ الرسالة وحلّ المشاكل المتنوعة، ولا مجال لك بالتوجه التام إلى ربّك والإنقطاع إليه بالذكر، فعليك بالليل والعبادة فيه.

وهناك معنى أدق وتفسير يناسب الآيات السابقة أيضاً هو: أنّك تتحمل في النهار مشاغل ثقيلة ومساعي كثيرة، فعليك بعبادة الليل لتقوى بها روحك وتستعد للفعاليات والنشاطات الكثيرة في النهار.

وبعد الإشارة إلى العبادة الليلية، والإشارة الإجمالية إلى الآثارها العميقة يذكّر القرآن بخمسة أوامر اخرى مكملة

لتلك فيقول: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ».

والطبيعي أنّ المراد ليس ذكر الإسم فحسب، بل التوجه إلى المعنى، لأنّ الذكر اللفظي مقدمة للذكر القلبي، والذكر القلبي يبعث على صفاء القلب والروح ويروي منهل المعرفة والتقوى في القلب.

ويقول في الأمر الثاني: «وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا».

«التبتل»: من «البتل» على وزن (حتم)، وتعني في الأصل الإنقطاع، ولهذا سمّيت «مريم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 297

العذارء عليها السلام» بالبتول، لأنّها لم تتخذ لنفسها زوجاً وسمّيت الزهراء عليها السلام بالبتول لأنّها كانت أفضل نساء عصرها في السيرة والسلوك، وكانت بالغة درجة الإنقطاع إلى اللَّه تعالى.

فالتبتل هو التوجه القلبي التام إلى اللَّه تعالى، والإنقطاع عن غيره إليه تعالى، والإتيان بالأعمال الخالصة للَّه، وكذا الخلوص له تعالى.

ثم ينتهي إلى الأمر الثالث فيقول: «رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا».

وهنا تأتي مسألة إيداع الامور إلى اللَّه، وذلك بعد مرحلة ذكر اللَّه والإخلاص، إيداع الامور للربّ الذي بيده الحاكمية والربوبية على المشرق والمغرب والمعبود الوحيد المستحق للعبادة، وهذا التعبير في الحقيقة هو بمنزلة الدليل على موضوع التوكل على اللَّه، فكيف لا يتوكل الإنسان عليه، ولا يودعه أعماله، وليس في العالم الواسع من حاكم وآمر ومنعم ومولى ومعبود غيره؟

وبالتالي يقول في الأمر الرابع والخامس: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا».

ويأتي هنا مقام الصبر والهجران، لكثرة إتهامات الأعداء وإيذاءهم له في طريق الدعوة إلى اللَّه، فالفلاح إذا أراد قطف الورود، عليه أن يصبر ويتحمل أذى الأشواك، مضافاً إلى ذلك يلزم الإبتعاد عنهم وهجرانهم أحياناً، وليبقى في مأمن من شرّهم، ويعطيهم بذلك درساً بالغاً، ولا يعني ذلك قطع سبل التربية والتبليغ والدعوة إلى اللَّه.

يقول الطبرسي رحمه الله في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: وفي هذا دلالة على

وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَ جَحِيماً (12) وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبَالُ وَ كَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 298

أشارت الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة، وعدائهم وإيذائهم للنبي صلى الله عليه و آله، أمّا في هذه الآيات فإنّ اللَّه تعالى يهددهم بالعذاب الأليم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، ويواسي المؤمنين الأوائل، فيقول تعالى شأنه: «وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُولِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلًا». أي دعني وايّاهم، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلًا. لتتمّ الحجة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.

ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم في البرزخ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النار في يوم القيامة.

ثم يقول مصرّحاً: «إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا».

«الأنكال»: جمع (نكل)، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال، وأصلها من نكول الضعف والعجز، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.

نعم، لقد تنعموا في الدنيا وأخذوا حريتهم المطلقة، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنار.

وكذا يضيف: «وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا».

هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في

الدنيا الحرام، حيث العذاب الأليم، ولما تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدنيا، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحد ذاته عذاب أليم، ثم يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاخروي لا يعلم شدّته وعظمته إلّااللَّه تعالى، ولهذا ورد في حديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق «1».

ثم يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا».

«الكثيب»: يراد به الرمل المتراكم؛ و «المهيل»: من هيل- على وزن كيل- هو صبّ شي ء ناعم كالرمل على شي ء، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.

ثم يقارن بين بعثة النبي صلى الله عليه و آله ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 166.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 299

إنّ هدف النبي صلى الله عليه و آله هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى عليه السلام هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.

لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب، ففي النهاية اغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟ وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل»: من «الوبل» ويراد به المطر الشديد والثقيل، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات، والآية تشير إلى

شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثم وجه الحديث إلى كفار عصر نبي الأكرم صلى الله عليه و آله ويحذرهم بقوله: «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا».

في الآية الاخرى يبيّن وصفاً أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف: «السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا».

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السماوات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!

وفي النهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى: «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ». إنّكم مخيرون في اختيار السبيل «فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلًا». ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى اللَّه بالإجبار والإكراه، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ آتُوا الزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 300

مختصر الامثل ج 5 332

فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن: هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة، فيقول تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثِىَ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ».

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرسول صلى الله عليه و آله في صدر السورة من قيام

الليل والصلاة فيه، وما اضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النبي صلى الله عليه و آله (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي)، لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والإستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل، ولكن يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك، وكان ذلك يستدعي إستيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم، ولذا بُني هذا الحكم على التخفيف، فقال: «عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ».

ثم يبيّن دليلًا آخراً للتخفيف فيضيف تعالى: «عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم، ولذا يكرر قوله: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».

والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل اللَّه ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر، والمعنى هو أنّ اللَّه يعلم أنّكم سوف تلاقون كثيراً من المحن والمشاكل الحياتية، وبالتالي تؤدّي إلى قطع المنهج الذي امرتم به، فلذا خفف عليكم الحكم.

إنّ وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصة لذلك، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم، وظهر الإستحباب بالنسبة للمقدار الميسر.

يستفاد من الروايات الإسلامية إنّ فضائل قراءة القرآن في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها. وفي تفسير مجمع البيان: روي عن الإمام الرضا عليه السلام عن أبيه عن جده صلى الله عليه و آله قال:

«ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر».

ثم يشير إلى أربعة أحكام اخرى، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:

«وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُوا

الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُوا لِأَنفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 301

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة، ومن إقراض اللَّه تعالى هو إقراض الناس، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئاً، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الإستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى: وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات، وبأن تتصوروا بأنّ لكم حقّاً على اللَّه، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا للَّه.

«نهاية تفسير سورة المزّمل»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 303

74. سورة المدثر

محتوى السورة: إنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة، والمدّثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية.

فإنّ سياق السور المكية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور، وهي:

1- يأمر اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه و آله بإعلان الدعوة العلنية، ويأمر أن ينذر المشركين، والتمسك بالصبر والإستقامة في هذا الطريق والإستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

2- تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

3- الإشارة إلى بعض خصوصيات النار مع إنذار الكافرين.

4- التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

5- إرتباط عاقبة الإنسان بعمله، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

6- الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النار وأهل الجنة وعواقبهما.

7- كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 304

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثر كان حقّاً على اللَّه أن يجعله مع محمّد صلى الله عليه و آله في درجته، ولايدركه في حياة الدنيا شقاء أبداً».

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرد قراءة الألفاظ فحسب، بل لابدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفياً.

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

سبب النّزول

إنّ النفر الذين آذوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وامية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون في أيّام الحج ويسألوننا عن أمر محمّد، فكل واحد منّا يجيب بجواب آخر، فواحد يقول مجنون، وآخر يقول كاهن، وآخر يقول شاعر، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فتعالوا نجتمع على تسمية محمّد باسم واحد، فقال واحد إنّه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص وكلام امية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، وقال آخر كاهن، قال الوليد ومن الكاهن؟ قالوا الّذي يصدق تارة ويكذب اخرى، قال الوليد ما كذب محمّد قط، فقال آخر إنّه مجنون، قال الوليد ومن يكون المجنون؟

قالوا مخيف الناس، فقال الوليد ما أخيف بمحمّد أحد قط، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته، فقال الناس صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال ما لك يا أبا عبد الشمس؟

هذه قريش تجمع لك شيئاً، زعموا أنّك احتججت

وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة ولكني فكرت في محمّد، فقلت إنّه ساحر، لأنّ الساحر هو الّذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين، وبين المرأة وزوجها، ثم إنّهم اجتمعوا على تلقيب محمّد صلى الله عليه و آله بهذا اللقب، ثم إنّهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون، فقالوا: إنّ محمّداً لساحر، فوقعت الضجة في الناس أنّ محمّداً ساحر، فلما سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذلك اشتد عليه، ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 305

فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ» «1».

التّفسير

قم وانذر الناس: لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه و آله وإن لم يصرح باسمه، ولكن القرائن تشير إلى ذلك، فيقول أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ». فلقد ولى زمن النوم والإستراحة، وحان زمن النهوض والتبليغ.

ثم يعطي للنبي صلى الله عليه و آله خمسة أوامر مهمة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار، تعتبر منهاجاً يحتذي به الآخرون، والأمر الأوّل هو في التوحيد، فيقول: «وَرَبَّكَ فَكَبّرْ».

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر، فليس المراد من جملة «فكبّر» هو (اللَّه أكبر) فقط، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد في الروايات، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقاداً وعملًا، قولًا فعلًا وهو تنزيهه تعالى من كل نقص وعيب، ووصفه بأوصاف الجمال، بل هو أكبر من أن يوصف، ولذا ورد في الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى اللَّه أكبر: «اللَّه أكبر من أن يوصف».

ثم صدر الأمر الثاني بعد مسألة التوحيد، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف:

«وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ». التعبير بالثوب قد يكون كناية عن

عمل الإنسان، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه، وظاهره مبين لباطنه.

ويمكن أن يكون المعنى هو اللباس الظاهر، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة، خصوصاً في عصر الجاهلية حيث كان الإجتناب من النجاسة قليلًا وإنّ ملابسهم وسخة غالباً، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يُسحل على الأرض، وما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في معنى أنّه: «ثيابك فقصر» «2»، ناظر إلى هذا المعنى.

والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة والقيام بها أمر آخر، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثالث بقوله: «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ».

______________________________

(1) التفسير الكبير 30/ 189.

(2) تفسير مجمع البيان 10/ 175. مختصر الامثل، ج 5، ص: 306

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الإضطراب والتزلزل، وفي القرآن الكريم غالباً ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب.

فإنّ للآية مفهوماً جامعاً، وهو الإنحراف والعمل السي ء، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللَّه عزّ وجل، والباعثة على سخط اللَّه في الدنيا والآخرة، ومن المؤكّد أنّ النبي صلى الله عليه و آله قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى اللَّه، وليكون للناس اسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرابع: «وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ».

هنا المتعلق محذوف أيضاً، ويدل على سعة المفهوم وكلّيته، ويشمل المنّة على اللَّه والخلائق، أي فلا تمنن على اللَّه بسعيك واجتهادك.

وبعبارة اخرى: لا تمنن على اللَّه بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك للَّه وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز، ولا تستعظم كل ذلك، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواءاً في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي

أن تقدمها مقابل منّة، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالْأَذَى «1».

ويشير في الآية الاخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول: «وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ».

أي: اصبر في طريق أداء الرسالة، واصبر على أذى المشركين الجهلاء، واستقم في طريق عبودية اللَّه وطاعته، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية.

ثم إنّ الآيات الشريفة وفي تعقيب لأمر ورد في الآيات السابقة في إطار القيام وإنذار المشركين، تؤكّد مرّة اخرى على الإنذار والتحذير، فيقول تعالى: «فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ».

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17)

______________________________

(1) سورة البقرة/ 264.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 307

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي، وذلك أنّ قريشاً اجتمعت في دارالندوة، فقال لهم الوليد: إنّكم ذوو أحساب، وذوو أحلام، وإنّ العرب يأتونكم فينطلون من عندكم، على أمر مختلف. فاجمعوا أمركم على شي ء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول إنّه شاعر. فعبس عندها وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر.

فقالوا: نقول إنّه كاهن. قال: إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة. قالوا: نقول إنّه لمجنون. فقال: إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً. قالوا: نقول إنّه ساحر. قال: وما الساحر؟ فقالوا:

بشر يحببون بين المتباغضين ويبغضون بين المتحابين. قال: فهو ساحر، فخرجوا. فكان لا يلقى أحد منهم النبي صلى الله عليه و آله إلّاقال:

يا ساحر، يا ساحر. واشتدّ عليه ذلك فأنزل اللَّه تعالى «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ» إلى قوله «إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ».

التّفسير

الوليد بن المغيرة ... الثري المغرور: تواصل هذه الآيات انذار الكفار والمشركين كما في الآيات السابقة مع فارق، وهو أنّ الآيات السابقة كانت تنذر الكافرين بشكل عام، وهذه تنذر أفراداً معينين بتعابير قوية وبليغة بأشدّ الإنذارات، فيقول تعالى: «ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا». والآيات الآتية نزلت في الوليد بن المغيرة كما قلنا.

ثم يضيف تعالى: «وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا».

وقيل: إنّ أمواله بلغت حدّاً من الكثرة بحيث ملك الإبل والخيول والأراضي الشاسعة ما بين مكة والطائف، وقيل إنّه يملك ضياع ومزارع دائمة الحصاد، وله مائة ألف دينار ذهب، وكل هذه المعاني تجتمع في كلمة «الممدود».

ثم أشار تعالى إلى قوّته في قوله: «وَبَنِينَ شُهُودًا».

إذ كانوا يعينونه على حياته، وحضورهم انس وراحة له، إذ كان له عشرة بنين، كما في الروايات.

ثم يستطرد بذكر النعم التي وهبها له. يقول تعالى: «وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا».

ولم يهبه ما ينفع من المال والأولاد فحسب، بل أغدق عليه ما يريد من جاه وقوّة.

«التمهيد»: من «المهد» وهو ما يستخدم لنوم الطفل، ويطلق على ما يتهيأ من وسائل الراحة والمقام وانتظام الامور.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 308

ولكنّه كفر بما أنعم اللَّه عليه وهو بذلك يريد المزيد: «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ». وليس هذا منحصراً بالوليد، بل إنّ عبيد الدنيا على هذه الشاكلة أيضاً، فلن يروى عطشهم مطلقاً، ولو أعطوا الأقاليم السبعة لما اكتفوا بذلك.

والآية الاخرى تردع الوليد بشدّة، يقول تعالى: «كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِأَيَاتِنَا عَنِيدًا».

ومع أنّه كان يعلم أنّ هذا القرآن ليس من كلام الجن أو الإنس، بل متجذر في الفطرة، وله جاذبية خاصة وأغصان مثمرة، فكان يعاند ويعتبر ذلك سحراً ومظهره ساحراً.

«العنيد»:

من «العناد» وقيل هو المخالفة والعناد مع المعرفة، أي أنّه يعلم بأحقّية الشي ء ثم يخالفه عناداً، والوليد مصداق واضح لهذا المعنى.

وأشار في آخر آية إلى مصيره المؤلم، فيقول تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا».

«سارهقه»: من «الإرهاق» وهو غشيان الشي ء بالعنف، وتعني أيضاً فرض العقوبات الصعبة، جاء بمعنى الإبتلاء بأنواع العذاب، والصعود، إشارة إلى ما سيناله من سوء العذاب، ويستعمل في العمل الشاق.

ويحتمل أن يراد به العذاب الدنيوي للوليد بن المغيرة. قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول الآية في نقص من ماله وولد حتى هلك «1».

إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ»: في هذه الآيات توضيحات كثيرة عمّن أعطاه اللَّه المال والبنين وخالف بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. أي الوليد بن المغيرة. يقول تعالى: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ».

«قدّر»: من التقدير، وهو التهيؤ لنظم أمر في الذهن والتصميم على تطبيقه.

ثم يضيف في مذمته: «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ».

بعدئذ يؤكّد ذلك فيضيف: «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ». وهذا إشارة لما قيل في سبب النّزول حيث كان يرى توحيد الأقوال فيما يقذف به الرسول صلى الله عليه و آله.

فإنّ تكرار المعنى في الآيتين دليل على دهاء الوليد في تفكره الشيطاني، ولذا كانت شدّة تفكره سبباً للتعجب.

______________________________

(1) تفسير المراغي 29/ 131.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 309

بعدئذ يضيف اللَّه تعالى: «ثُمَّ نَظَرَ». أي نظر بعد التفكر والتقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر مهمّ ليطمئن من استحكامه وانسجامه: «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هذَا إِلَّا

سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ».

بهذه الأقوال يظهر عداءه للقرآن المجيد، وذلك بعد تفكره الشيطاني، وبقوله هذا صار يمدح القرآن من حيث لا يدري، إذ أشار إلى جاذبية القرآن الخارقة وتسخيره للقلوب.

على كل حال هو إقرار ضمني بإعجاز القرآن. وليس للقرآن أي علاقة وتشبيه بأعمال السحرة، فهو كلام رصين عميق المعاني وجذاب لا نظير له كما يقول الوليد، فإنّه ليس من كلام البشر، وإن كان كذلك لكانوا قد أتوا بمثله، وهذا ما دعا إليه القرآن كراراً.

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَ لَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) المصير المشؤوم: في هذه الآيات بيان للعقوبات المؤلمة لمن أنكر القرآن والرسالة، وكذب النبي صلى الله عليه و آله وهو ما أشارت إليه الآيات السابقة فيقول اللَّه تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ».

«سقر»: في الأصل من «سقر» على وزن فقر، بمعنى التغير والذوبان من أثر حرارة الشمس، هو من أحد أسماء جهنم، كثير ما ذكر في القرآن.

ثم يبيّن عظمة وشدّة عذاب النار فيقول: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا سَقَرُ». أي إنّ العذاب يكون شديداً إلى حدّ يخرج عن دائرة التصور، ولا يخطر على بال أحدٍ، كما هو الحال في عدم إدراك عظمة النعم الإلهية في الجنان.

«لَا تَبْقَى وَلَا تَذَرُ». قد تكون هذه الآية إشارة إلى أنّ نار جهنم بخلاف نار الدنيا التي ربّما تركت بعض ما ألقي فيها ولم تحرقه، وإذا نالت إنساناً مثلًا نالت جسمه وصفاته الجسمية وتبقى روحه وصفاته الروحية في أمان منها، وأمّا «سقر» فلا تدع أحداً ممن ألقي فيها إلّا نالته واحتوئه بجميع وجوده، فهي نار شاملة تستوعب جميع من القي فيها.

ثم ينتقل إلى بيان وصف آخر للنار

المحرقة فيضيف: «لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ».

إنّها تجعل الوجه مظلماً أسود أشد سواداً من الليل.

«بشر»: جمع بشرة، وتعني الجلد الظاهر للجسد.

«لوّاحة»: من مادة «لوح» وتعني أحياناً الظاهر، وأحياناً بمعنى التغيير، ويكون المعنى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 310

بمقتضى التّفسير الأوّل: (أنّ جهنم ظاهرة للعيان). كما جاء في الآية (36) من سورة النازعات: «وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى . وبمقتضى التفسير الثاني يكون المعنى: أنّها تغير لون الجلود.

وفي آخر آية من آيات مورد البحث يقول تعالى: «عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ».

إنّهم ليسوا مأمورين بالرحمة والشفقة، بل إنّهم مأمورين بالعذاب والغلظة، وأمّا الآية الاخرى التي تليها فإنّها تشير إلى أنّ هذا العدد هم ملائكة العذاب.

ومن هنا يتّضح ضعف وعجز أفكار اناس من قبيل أبي جهل. في تفسير مجمع البيان:

قالوا: ولما نزلت هذه الآية قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم امهاتكم أتسمعون ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدّهم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر: عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين.

وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَ لَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكَافِرُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَ مَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) لِمَ هذا العدد من أصحاب النار: ذكر اللَّه سبحانه وتعالى كما قرأنا في الآيات السابقة عدد خزنة جهنم ومأموريها وهم تسعة عشر نفراً (أو مجموعة)، وكذا قرأنا أنّ

ذكر هذا العدد صار سبباً للحديث بين أوساط المشركين والكفار، واتّخذ بعضهم ذلك سخرية، وظنّ القليل منهم أنّ الغلبة على اولئك ليس أمراً صعباً، الآية أعلاه والتي هي أطول آيات هذه السورة تجيب عليهم وتوضح حقائق كثيرة في هذا الصدد. فيقول تعالى أوّلًا: «وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلِكَةً» «1». ملائكة أقوياء مقتدرون وكما يعبّر القرآن غلاظ، شداد، قساة، في مقابل المذنبين بجمعهم الغفير وهم ضعفاء عاجزون.

______________________________

(1) أصحاب النار: ذكرت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن وكلّها تعني الجهنميين، إلّافي هذا الموضع فإنّهابمعنى خزنة جهنم، وذكر هذه العبارة يشير إلى أنّ كلمة «سقر» في الآيات السابقة تعني جهنم بكاملها وليس قسماً خاصّاً منها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 311

ثم يضيف تعالى: «وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا».

وهذا الإختبار من وجهين:

الأوّل: لأنّهم كانوا يستهزئون بالعدد تسعة عشر، ويتساءلون عن سبب اختيار هذا العدد، في حين لو وضع عدد آخر لكانوا قد سألوا السؤال نفسه.

والوجه الثاني: أنّهم كانوا يستقلون هذا العدد ويسخرون من ذلك بقولهم: لكل واحد منهم عشرة منّا، لتكسر شوكتهم.

في حين أنّ ملائكة اللَّه وصفوا في القرآن بأنّ نفراً منهم يؤمرون بإهلاك قوم لوط عليه السلام ويقلبون عليهم مدينتهم.

ثم يضيف تعالى أيضاً: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ».

وسكوت هؤلاء اليهود وعدم اعتراضهم على هذا الجواب يدلّ على أنّه موافق لما هو مذكور في كتبهم، وهذا مدعاة لإزدياد يقينهم بنبوّة النبي صلى الله عليه و آله، وصار قبولهم هذا سبباً في تمسك المؤمنين بإيمانهم وعقائدهم. لذا تضيف الآية في الفقرة الاخرى: «وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا».

ثم تعود مباشرة بعد ذكر هذه الآية إلى التأكيد على تلك الأهداف الثلاثة، إذ يعتمد مجدداً على إيمان أهل الكتاب، ثم المؤمنين، ثم على

اختبار الكفار والمشركين، فيقول: «وَلَا يَرْتَابُ الَّذِينَ أُتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذَا مَثَلًا».

عبارة: «الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ» اطلقت على جميع الكفار والمعاندين والمحاربين لآيات الحق.

ثم يضيف حول كيفية استفادة المؤمنين والكفار والذين في قلوبهم مرض من كلام اللَّه تعالى؛ فيقول تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

إنّ الجمل السابقة تشير بوضوح إلى أنّ المشيئة والإرادة الإلهية لهداية البعض واضلال البعض الأخر ليس اعتباطاً، فإنّ المعاندين والذين في قلوبهم مرض لا يستحقون إلّا الضلال، والمؤمنون والمسلّمون لأمر اللَّه هم المستحقون للهدى

ويقول في نهاية الآية: «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ».

فالحديث عن التسعة عشر من خزنة النار، ليس لتحديد ملائكة اللَّه تعالى، بل إنّهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 312

كثيرون جدّاً أنّ الروايات تصفهم أنّهم يملؤون السماوات والأرض. أوّل خطبة في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام حول هذا الموضوع حيث يقول: «ثم فتق ما بين السماوات العلا، فملأهنّ أطواراً من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر».

كَلَّا وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)

وَ الصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) استمراراً للبحث مع المنكرين لنبوّة الرسول صلى الله عليه و آله واليوم الآخر تؤكّد الآيات التالية في أقسام عديدة على مسألة القيامة والجحيم وعذابها، فيقول تعالى: «كَلَّا وَالْقَمَرِ».

وأقسم بالقمر لأنّه إحدى الآيات الإلهية الكبرى، لما فيه من الخلقة والدوران المعظم والنور والجمال والتغييرات التدريجية الحاصلة فيه لتعيين الأيام باعتباره تقويماً حيّاً كذلك.

ثم يضيف: «وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ». «وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ» «1».

والليل وإن كان باعثاً على الهدوء والظلام وعنده سرّ عشاق الليل، ولكن الليل المظلم يكون جميلًا عندما يدبر ويتجه العالم نحو الصبح المضي ء وآخر السحر، وطلوع الصبح المنهي للّيل المظلم أصفى وأجمل من كل شي ء حيث يثير في الإنسان النشاط ويجعله غارقاً في النور والصفاء.

هذه الأقسام الثلاثة تتناسب ضمنياً مع نور الهداية (القرآن) واستدبار الظلمات

______________________________

(1) «أسفر»: من مادة «سفر» على وزن (قفر) ويعني انجلاء الملابس وانكشاف الحجاب، ولذا يقال للنساء المتبرجات (سافرات) وهذا التعبير يشمل تشبيهاً جميلًا لطلوع الشمس.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 313

الصباح (التوحيد)، ثم ينتهي إلى تبيان ما أقسم من أجله فيقول تعالى: «إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ».

ثم يضيف تعالى: «نَذِيرًا لّلْبَشَرِ». لينذر الجميع ويحذرهم من العذاب الموحش الذي ينتظر الكفار والمذنبين وأعداء الحق.

وفي النهاية يؤكّد مضيفاً أنّ هذا العذاب لا يخص جماعة دون جماعة، بل: «لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ». فهنيئاً لمن يتقدم، وتعساً وترحاً لمن يتأخر.

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ

مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) لِم صرتم من أصحاب الجحيم: إكمالًا للبحث الذي ورد حول النار وأهلها في الآيات السابقة، يضيف تعالى في هذه الآيات: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ».

«رهينة»: من مادة «رهن» وهي وثيقة تعطى عادة مقابل القرض، وكأن نفس الإنسان محبوسة حتى تؤدّي وظائفها وتكاليفها، فإن أدت ما عليها فكت وأطلقت، وإلّا فهي باقية رهينة ومحبوسة دائماً. لذا يضيف مباشرة: «إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ».

إنّهم حطموا أغلال وسلاسل الحبس بشعاع الإيمان والعمل الصالح ويدخلون الجنة بدون حساب.

وأصحاب اليمين هم الذين يحملون كتبهم بيمينهم، فهم ذوو إيمان وعمل صالح، وإذا كانت لهم ذنوب صغيرة فإنّها تمحى بالحسنات وذلك بحكم: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ» «1».

فحينئذ تغطّي حسناتهم سيئاتهم أو يدخلون الجنة بلا حساب، وإذا وقفوا للحساب فسيخفف عليهم ذلك ويسهل، كما جاء في الآية (7 و 8) من سورة الإنشقاق: «فَأَمَّا مَنْ

______________________________

(1) سورة هود/ 114.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 314

أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا».

في تفسير القرطبي: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون». ثم يضيف مبيّناً جانباً من أصحاب اليمين والجماعة المقابلة لهم: «فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ».

يستفاد من هذه الآيات أنّ الرابطة غير منقطعة بين أهل الجنان وأهل النار، فيمكنهم مشاهدة أحوال أهل النار والتحدث معهم، ولكن ماذا سيجيب المجرومون عن سؤال أصحاب اليمين؟ إنّهم يعترفون بأربع خطايا كبيرة كانوا قد ارتكبوها:

الاولى: «قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ». لو كنّا مصلّين لذكّرتنا الصلاة باللَّه تعالى، ونهتنا عن الفحشاء والمنكر ودعتنا إلى صراط اللَّه المستقيم.

والثانية: «وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ».

وهذه الجملة وإن كانت تعطي معنى إطعام المحتاجين، ولكن الظاهر أنّه يراد بها المساعدة والإعانة الضرورية للمحتاجين عموماً بما ترتفع بها حوائجهم كالمأكل والملبس والمسكن وغير ذلك.

وصرّح المفسرون أنّ المراد بها الزكاة المفروضة، لأنّ ترك الإنفاق المستحب لا يكون سبباً في دخول النار.

والثالثة: «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ». «نخوض»: من مادة «خوض» على وزن (حوض)، وتعني في الأصل الغور والحركة في الماء، ويطلق على الدخول والتلوث بالامور، والقرآن غالباً ما يستعمل هذه اللفظة في الإشتغال بالباطل والغور فيه.

(الخوض في الباطل) له معان واسعة فهو يشمل الدخول في المجالس التي تتعرض فيها آيات اللَّه للإستهزاء أو ما تروج فيها البدع، أو المزاح الوقح، أو التحدث عن المحارم المرتكبة بعنوان الإفتخار والتلذذ بذكرها، وكذلك المشاركة في مجالس الغيبة والإتهام واللهو واللعب وأمثال ذلك، ولكن المعنى الذي انصرفت إليه الآية هو الخوض في مجالس الإستهزاء بالدين والمقدسات وتضعيفها وترويج الكفر والشرك.

وأخيراً يضيف: «وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ حَتَّى أَتنَا الْيَقِينُ».

من الواضح أنّ إنكار المعاد ويوم الحساب والجزاء يزلزل جميع القيم الإلهية والأخلاقية، ويشجع الإنسان على ارتكاب المحارم. على كل حال فإنّ ما يستفاد من هذه الآيات أنّ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 315

الكفار هم مكلّفون بفروع الدين، كما هم مكلّفون بالاصول، وكذلك تشير إلى أنّ الأركان الأربعة، أي الصلاة والزكاة وترك مجالس أهل الباطل، والإيمان بالقيامة لها الأثر البالغ في تربية وهداية الإنسان، وبهذا لا يمكن أن يكون الجحيم مكاناً للمصلين الواقعيين، والمؤتين الزكاة، والتاركين الباطل والمؤمنين بالقيامة.

وفي الآية الأخيرة محل البحث إشارة إلى العاقبة السيئة لهذه الجماعة فيقول تعالى: «فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ». فلا تنفعهم شفاعة الأنبياء ورسل اللَّه والائمة، ولا الملائكة والصديقين والشهداء والصالحين، ولأنّها تحتاج إلى عوامل مساعدة

وهؤلاء أبادوا كل هذه العوامل، فالشفاعة كالماء الزلال الذي تسقى به النبتة الفتية، وبديهي إذا ماتت النبتة الفتية، لا يمكن للماء الزلال أن يحييها.

وهذه الآية تؤكّد مرّةً اخرى مسألة الشفاعة وتنوع وتعدد الشفعاء عند اللَّه، وهي جواب قاطع لمن ينكر الشفاعة، وكذلك تؤكّد على أنّ للشفاعة شروطاً وأنّها لا تعني اعطاء الضوء الأخضر لإرتكاب الذنوب، بل هي عامل مساعد لتربية الإنسان وايصاله على الأقل إلى مرحلة تكون له القابلية على التشفع، بحيث لا تنقطع وشائج العلاقة بينه وبين اللَّه تعالى والأولياء.

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ مَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) يفرّون من الحق كما تفرّ الحمر من الأسد: تتابع هذه الآيات ما ورد في الآيات السابقة من البحث حول مصير المجرمين وأهل النار، وتعكس أوضح تصوير في خوف هذه الجماعة المعاندة ورعبها من سماع حديث الحق والحقيقة. فيقول اللَّه تعالى أوّلًا: «فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ». «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ* فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ».

«حمر»: جمع (حمار) والمراد هنا الحمار الوحشي.

«قسورة»: من مادة «قسر» أي القهر والغلبة، وهي أحد أسماء الأسد.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 316

فإنّ هذه الآية تعبير بالغ عن خوف المشركين وفرارهم من الآيات القرآنية المربية للروح، فشبههم بالحمار الوحشي لأنّهم عديمو العقل والشعور، وكذلك لتوحشّهم من كل شي ء، في حين أنّه ليس مقابلهم سوى التذكرة.

«بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً». وذلك لتكبّرهم وغرورهم الفارغ بحيث يتوقعون من اللَّه تعالى أن ينزل

على كل واحد منهم كتاباً.

وهذا نظير ما جاء في الآية (93) من سورة الإسراء: «وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ».

ولذا يضيف في الآية الاخرى: «كَلَّا». ليس كما يقولون ويزعمون، فإنّ طلب نزول مثل هذا الكتاب وغيره هي من الحجج الواهية، والحقيقة: «بَل لَّايَخَافُونَ الْأَخِرَةَ».

والحق يقال إنّ الإيمان بعالم البعث والجزاء وعذاب القيامة يهب للإنسان شخصية جديدة يمكنه أن يغير إنساناً متكبراً ومغروراً وظالماً إلى إنسان مؤمن متواضع ومتقٍ عادل.

ثم يؤكّد القرآن على أنّ ما يفكرون به فيما يخصّ القرآن هو تفكّر خاطى ء: «كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ* فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ».

وفي الوقت نفسه لا يمكن ذلك إلّابتوفيق من اللَّه وبمشيئته تعالى: «وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». يعني أنّ الإنسان لا يمكنه الحصول على طريق الهداية إلّابالتوسل باللَّه تعالى وطلب الموفقية منه.

وفي النهاية يقول: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ». فهو أهل لأن يخافوا من عقابه وأن يتقوا في اتّخاذهم شريكاً له تعالى شأنه، وأن يأملوا مغفرته، وفي الحقيقة، أنّ هذه الآية إشارة إلى الخوف والرجاء والعذاب والمغفرة الإلهية، وهي تعليل لما جاء في الآية السابقة.

وهناك احتمالًا آخر، وهو أن تؤخذ التقوى بمعناها الفاعلي، أي أنّ اللَّه أهل للتقوى من كل أنواع الظلم والقبح ومن كل ما يخالف الحكمة، وما عند العباد من التقوى هو قبس ضعيف من ما عند اللَّه.

إنّ الآية قد بدأت بالإنذار والتكليف، وانتهت بالدعوة إلى التقوى والوعد بالمغفرة.

«نهاية تفسير سوره المدّثّر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 317

75. سورة القيامة

محتوى السورة: كما هو واضح من اسم السورة فإنّ مباحثها تدور حول مسائل ترتبط بالمعاد ويوم القيامة إلّابعض الآيات التي تتحدث حول القرآن والمكذبين، وأمّا الآيات المرتبطة بيوم القيامة فإنّها تجتمع في أربعة محاور:

1- المسائل المرتبطة بأشراط الساعة.

2- المسائل

المتعلقة بأحوال الصالحين والطالحين في ذلك اليوم.

3- المسائل المتعلقة باللحظات العسيرة للموت والإنتقال إلى العالم الآخر.

4- الأبحاث المتعلقة بالهدف من خلق الإنسان ورابطة ذلك بمسألة المعاد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبريل له يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بيوم القيامة، وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها، بعثها اللَّه يوم القيامة معه في قبره، في أحسن صورة تبشر وتضحك في وجهه حتى يجوز الصراط والميزان».

والجدير بالملاحظة أنّ ما كنّا نستوحيه من الروايات الواردة في فضائل تلاوة السور القرآنية قد صرّح بها الإمام هنا في هذه الرواية حيث يقول: «من أدمن قراءة لا اقسم وكان يعمل بها»، ولذا فإنّ كل ذلك هو مقدمة لتطبيق المضمون.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 318

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَ لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) قسماً بيوم القيامة والنفس اللوامة: تبدأ هذه السورة بقَسمين غزيرين بالمعاني، فيقول تعالى: «لَاأُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيمَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ».

وفي العلاقة والرابطة الموجودة بين القسمين؛ الحقيقة أنّ أحد دلائل وجود «المعاد» هو وجود «محكمة الوجدان» الموجودة في أعماق الإنسان، والتي تنشط وتسر عند الإقدام لإنجاز عمل صالح، وبهذه الطريقة تثيب صاحبها وتكافئه، وعند إرتكاب الأعمال السيئة والرذيلة فإنّها سوف تقوم بتقريع صاحبها وتأنّبه وتعذبه إلى حدّ أنّه قد يقدم على الإنتحار للتخلص ممّا يمرّ فيه من عذاب الضمير.

عندما يكون (العالم الصغير) أي وجود

الإنسان محكمة في قلبه، فكيف يمكن للعالم الكبير أن لا يملك محكمة عدل عظمى

فمن هنا نفهم وجود البعث والقيامة بواسطة وجود الضمير الأخلاقي، ومن هنا تتّضح الرابطة الظريفة بين القَسَمين. وبعبارة اخرى: فإنّ القسم الثاني هو دليل على القسم الأوّل.

ثم يستفهم تعالى في الآية الاخرى للتوبيخ فيضيف: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ».

ويمكن أن يكون ذلك إشارة لطيفة إلى الخطوط الموجودة في أطراف الأصابع والتي نادراً ما تتساوى هذه الخطوط عند شخصين.

وفي الآية الاخرى إشارة إلى أحد العلل الحقيقة لإنكار المعاد فيقول: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ». إنّهم يريدون أن يكذبوا بالبعث وينكروا المعاد، ليتسنى لهم الظلم وارتكاب المحارم والتنصل عن المسؤولية أمام الخلق.

ثم يضيف بعد ذلك: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

أجل، إنّه يستفهم مستنكراً عن وقوع يوم القيامة ويهرب ممّا كُلّف به لكي يفسح لنفسه طريق الفجور أمامه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 319

بحث

محكمة الضمير أو القيامة الصغرى نستفيد من آيات القرآن المجيد أنّ للنفس الإنسانية ثلاث مراحل:

1- النفس الأمارة: وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى الرذائل والقبائح باستمرار، وتزيّن له الشهوات.

2- النفس اللوامة: وهي ما اشير إليها في الآيات التي ورد البحث فيها، وهي نفس يقظة وواعية نسبياً، فهي تزل أحياناً لعدم حصولها على حصانة كافية مقابل الذنوب، وتقع في شبك الآثام إلّاأنّها تستيقظ بعد فترة لتتوب وترجع إلى مسير السعادة.

وهذا هو ما يذكرونه تحت عنوان (الضمير الأخلاقي) ويكون هذا قوياً جدّاً عند بعض الأفراد، وضعيفاً وعاجزاً عند آخرين، ولكن النفس اللوامة لا تموت بكثرة الذنوب عند أي إنسان.

3- النفس المطمئنة: وهي النفس المتكاملة المنتهية إلى مرحلة الإطمئنان والطاعة والمنتهية إلى مقام التقوى والإحساس بالمسؤولية وليس من السهل

انحرافها.

إنّ النفس اللوامة هي كالقيامة الصغرى في داخل الروح والتي تقوم بمحاسبة الإنسان، ولذا تحس أحياناً بالهدوء والإستقرار بعد القيام بالأعمال الصالحة وتمتلي ء بالسرور والفرح والنشاط.

هذه المحكمة الداخلية العجيبة لها شبه عجيب بمحكمة القيامة.

أ) إنّ القاضي والشاهد والمنفذ للأحكام واحد، كما في يوم القيامة: «عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ» «1».

ب) إنّ هذه المحكمة ترفض كل توصية ورشوة وواسطة، كما هو الحال في محكمة يوم القيامة، فيقول تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «2».

ج) إنّ محكمة الضمير تحقق وتدقق في الملفات المهمّة بأقصر مدّة وتصدر الحكم بأسرع وقت، وهذا هو ما نقرأهُ أيضاً في محكمة البعث: «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَامُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «3».

______________________________

(1) سورة الزمر/ 46.

(2) سورة البقرة/ 48.

(3) سورة الرعد/ 41. مختصر الامثل، ج 5، ص: 320

د) مجازاتها وعقوباتها ليست كعقوبات المحاكم الرسمية العالمية، فإنّ شرر النيران تتقد في الوهلة الاولى في أعماق القلب والروح، ثم تسري إلى الخارج، فتعذب روح الإنسان أوّلًا، ثم تظهر آثارها في الجسم وملامح الوجه وطبيعة النوم والأكل، فيعبّر تعالى عن ذلك في قوله:

«نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» «1».

ه) عدم إحتياج هذه المحكمة إلى شهود، بل إنّ المعلومات التي يعطيها الإنسان المتهم بنفسه والذي يكون شاهداً على نفسه هي التي تقبل منه، نافعة كانت له أم ضارة؛ كما تشهد ذرات وجود الإنسان حتى يداه وجلده على أعماله في محكمة البعث، فيقول تعالى: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم» «2».

وهذا التشبيه العجيب بين المحكمتين دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد، لأنّه كيف يمكن أن يكون في الإنسان الذي يعتبر قطرة صغيرة

في محيط الوجود العظيم هكذا حساب ومحاكم مليئة بالرموز والأسرار في حين لا يوجد حساب ومحاكم في هذا العالم الكبير؟ فهذا ما لا يصدق.

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) أنهت الآيات السابقة بسؤال كان قد وجهه المنكرون للبعث يوم القيامة، وهو يوم القيامة متى يأتي ذلك اليوم؟ وهذه الآيات هي التي تجيب عن هذه السؤال.

فتشير أوّلًا إلى الحوادث السابقة للبعث، أي إلى التحول العظيم وإنعدام القوانين في الأنظمة الكونية فيقول تعالى: «فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ». بمعنى اضطراب العين ودورانها من شدّة الخوف والرعب: «وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ».

وفي ما يراد بالجمع بين الشمس والقمر، فيحتمل أن ينجذب القمر تدريجياً بواسطة الشمس باتجاهها ثم اجتماعهما معاً بعد ذلك، وينتهي بالتالي ضياؤهما.

______________________________

(1) سورة الهمزة/ 6 و 7.

(2) سورة فصّلت/ 20.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 321

فيقول تعالى في سورة التكوير: «إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ». أي إذا أظلمت الشمس، ونعلم أنّ ضوء القمر من الشمس، وعندما يزول نور الشمس يزول بذلك نور القمر، وبالتالي تدخل الكرة الأرضية في ظلام دامس وعتمة مرعبة.

وبهذه الطريقة والتحول العظيم ينتهي العالم، ثم يبدأ بعث البشرية بتحول عظيم آخر (بنفخة الصور الثانية والتي تعتبر نفخة الحياة)، فيقول الإنسان في ذلك اليوم: «يَقُولُ الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ».

أجل، الكفرة والمذنبون الذين كذبوا بيوم الدين يبحثون عن ملجأ في ذلك اليوم لشدّة خجلهم، ويطلبون سبل الفرار لثقل خطاياهم وخوفهم من العذاب.

ولكن سرعان ما يقال لهم: «كَلَّا لَاوَزَرَ» «1».

فلا

ملجأ إلّاإلى اللَّه تعالى: «إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ».

عندئذٍ يضيف في إدامة هذا الحديث: «يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ».

والمراد من هاتين العبارتين هو ما قدم من الأعمال في حياته، أو الآثار الباقية منه بعد موته، ممّا ترك بين الناس من السنن الصالحة والسيئة والتي يعملون ويسيرون بها ووصول حسناتها وسيئاتها إليه، أو الكتب والمؤلفات والأبنية القائمة على الخير والشرّ، والأولاد الصالحين والطالحين التي تصل آثارهم إليه.

في تفسير علي بن إبراهيم: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله «يُنَبَّؤُا الْإِنسنُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ» قال: «بما قدم من خير وشرّ وما أخر مما سن من سنّة ليستنّ بها من بعده فإن كان شرّاً كان عليه مثل وزرهم، ولا ينقص من وزرهم شي ء، وإن كان خيراً كان له مثل اجورهم، ولا ينقص من اجورهم شي ء».

ثم يضيف في الآية الاخرى ويقول: إنّ اللَّه وملائكته يطلعون العباد على أعمالهم، وإن كان لا يحتاج إلى ذلك، لأنّ نفسه وأعضاءه هم الشهود عليه في ذلك اليوم، فيقول تعالى: «بَلِ الْإِنسنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيَرةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ».

سياق هذه الآيات هو نفس سياق الآيات التي تشير إلى شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان، كالآية (20) من سورة فصّلت، حيث يقول اللَّه تعالى: «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

______________________________

(1) «وزر»: تعني في الأصل الملاجى ء الجبلية وأمثالها، وتعني في هذه الآية كل نوع من الملجأ والمخبأ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 322

وعلى هذا فإنّ أفضل شاهد على الإنسان في تلك المحكمة الإلهية للقيامة هو نفسه، لأنّه أعرف بنفسه من غيره. «معاذير»: جمع (معذرة) وتعني في الأصل البحث عمّا تمحى به آثار الذنوب، وقد تكون أحياناً أعذاراً واقعية، واخرى صورية وظاهرية.

إنّ الآيات

مفهومها واسع، ولذا فإنّها تشمل عالم الدنيا، وتعلم الناس بأحوال أنفسهم وإنّه كان فيهم من يكتم ويغطي وجهه الحقيقي بالكذب والإحتيال والتظاهر والمراء.

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) إنّ علينا جمعه وقرآنه: هذه الآيات بمثابة الجملة الإعتراضية التي تتداخل أحياناً في كلام المتحدث، حيث يترك اللَّه تعالى الحديث عن القيامة وأحوال المؤمنين والكفرة مؤقتاً، ليعطي تذكرة مختصرة للنبي صلى الله عليه و آله حول القرآن فيقول: «لَاتُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ».

في تفسير هذه الآية نقل عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان إذا نزل عليه الوحي ليقرأ عليه القرآن، تعجّل بقراءته ليحفظه وذلك لحبّه الشديد للقرآن، فنهاه اللَّه عن ذلك وقال: «إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ».

ثم يضيف: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ».

وبالتالي لا تقلق على جمع القرآن، نحن نجمعه ونتلوه عليك بواسطة الوحي.

ثم يقول تعالى: «فَإِذَا قَرَأْنهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ». ثم يضيف: «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ».

فيكون جمع القرآن وقراءته لك وتبيينه وتفصيل معانيه بعهدتنا، فلا تقلق على شي ء، فالذي أنزل الوحي هو الذي يحفظه.

وهذه الآيات تبيّن ضمنياً أصالة القرآن، وحفظه من أي تغيير وتحريف، لأنّ اللَّه تعالى تعهد بجمعه وقراءته وتبيينه.

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) ترجع هذه الآيات مرّة اخرى لتكمل البحوث المتعلقة بالمعاد، وخصوصيات اخرى من

مختصر الامثل، ج 5، ص: 323

القيامة، وكذلك تبيّن علل إنكار المعاد فيقول تعالى: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ». فليس الأمر كما يتصور من أنّ دلائل المعاد خفيّة ولا يمكنكم الاطّلاع

عليها، بل إنّكم عشقتم الدنيا. ولهذا السبب تركتم الآخرة: «وَتَذَرُونَ الْأَخِرَةَ».

إنّ الشك في قدرة اللَّه تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار المعاد، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم إلى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون الآخرة بتمامها.

وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ». وقال أيضاً: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

ثم ينتهي إلى تبيان أحوال المؤمنين الصالحين والكفار المسيئين في ذلك اليوم، فيقول تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ».

«ناضرة»: من مادة «نضرة» وتعني البهجة الخاصة التي يحصل عليها الإنسان عند وفور النعمة والرفاه، ووفورها يلازم السرور والجمال والنورانية.

هذا من ناحية العطايا المادية، وأمّا عن العطايا الروحية فيقول تعالى: «إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ». نظرة بعين القلب وعن طريق شهود الباطن، نظرة تجذبهم إلى الذات الفريدة وإلى ذلك الكمال والجمال المطلقين، وتهبهم اللذة الروحانية والحال الذي لا يوصف.

في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إذا دخل أهل الجنة، الجنة قال اللَّه تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟

قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم عزّ وجل».

وفي النقطة المقابلة لهذه الجماعة المؤمنة، هناك جماعة تكون وجوههم مقطبة. «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ».

فعندما ينظر الكافرون إلى علامات العذاب وصحائف أعمالهم الخالية من الحسنات والمملوءة بالسيئات، يصيبهم الندم والحسرة والحزن ويعبسون وجوههم لذلك. «تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ».

إنّ هذا التعبير كناية للعقوبات الثقيلة والتي تنتظر هذه الجماعة في جهنم، لكن إنّ الجماعة

السابقة منتظرون لرحمة اللَّه تعالى ومستعدون للقاء المحبوب. هؤلاء لهم أسوأ العذاب.

وأولئك لهم أسمى النِعم الجسمانية والمواهب واللذات الروحانية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 324

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَ قِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) إتماماً للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر باباً إلى العالم الآخر فيقول تعالى: «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ». أي كلّا إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.

هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينه البرزخية، وتزال عنها الحجب، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء، ويوقف على أعماله، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعهُ ولا يفيد حاله أبداً.

«تراقي»: جمع «ترقوة»، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال، وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان.

وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه. يقول تعالى: «وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ». أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟

ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس، والحال أنّهم يعلمون أنّه قد فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.

«راق»: من مادة «رقي» على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيه) وهو الصعود، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأدعية التي تبعث على نجاة المريض.

وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى: «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ».

أي: في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق. ثم: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ».

وهذا الإلتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.

ثم يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث: «إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ». أجل، إلى اللَّه تعالى المرجع

حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية، وهكذا ينتهي المطاف إليه، وهذه الآية أيضاً تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدسة واللامتناهية.

لحظة الموت المؤلمة: يستفاد من القرآن أنّ لحظة الموت لحظة صعبة ومؤلمة، والمستفاد

مختصر الامثل، ج 5، ص: 325

من الروايات أنّ هذه اللحظة سهلة على المؤمنين، وصعبة ومؤلمة على فاقدي الإيمان.

في عيون أخبار الرضا عليه السلام عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: «قيل للصادق عليه السلام: صف لنا الموت. فقال: للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ».

فَلَا صَدَّقَ وَ لَا صَلَّى (31) وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) استمراراً للبحوث المتعلقة (بالموت) الذي يعتبر الخطوة الأولى في السفر إلى الآخرة يتحدث القرآن في هذه الآيات عن خواء أيدي الكفار من الزاد لهذا السفر. فيقول أوّلًا:

«فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى . أي إنّ هذا الإنسان المنكر للمعاد لم يؤمن اطلاقاً ولم يصدّق بآيات اللَّه ولم يصلّ له.

وقال تعالى: «وَلكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

المراد من جملة «فَلَا صَدَّقَ» عدم التصديق بالقيامة والحساب والجزاء والآيات الإلهية والتوحيد ونبوّة النبي صلى الله عليه و آله.

ويضيف تعالى في الآية الاخرى: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى .

إنّه يظنّ بعدم اهتمامه للنّبي صلى الله عليه و آله وتكذيبه

إيّاه وللآيات الإلهية قد حقق نصراً باهراً، إنّه كان ثملًا من خمرة الغرور، واتجه إلى أهله لينقل لهم كالعادة ما كان قد حدث وليفتخر بما صدر منه، وكان سيره وحركته تشيران إلى الكبر والغرور.

«يتمطى : من مادة «مطا» وأصله الظهر، و (تمطى مدّ الظهر عن غرور ولا مبالاة، أو عن كسل، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

ثم يخاطب القرآن أفراداً كهؤلاء ويهددهم فيقول تعالى: «أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى .

في المجمع: وجاء الرواية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: «أولى لك فأولى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 326

ثم أولى لك فأولى . فقال أبو جهل: بأي شي ء تهددني لا تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً، وإنّي أعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل اللَّه سبحانه كما قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ثم ينتهي القرآن في هذا البحث إلى استدلالين لطيفين حول المعاد وأحدهما عن طريق (الحكمة الإلهية وهدف الخلقة)، والآخر عن طريق بيان قدرة اللَّه في تحول وتكامل نطفة الإنسان في المراحل المختلفة لعالم الجنين، فيقول تعالى عن المرحلة الاولى: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَن يُتْرَكَ سُدًى». «سدى : على وزن (هدى وهو المهمل الذي لا هدف له.

والمراد من (الإنسان) في هذه الآية هو المنكر للمعاد والبعث، فيكون معنى الآية: كيف يخلق اللَّه هذا العالم العظيم للإنسان ولا يكون له هدف ما؟ كيف يمكن ذلك والحال أنّ كل عضو من أعضاء الإنسان خلق لهدف خاص. ولكن يحسب أن لا هدف في خلق كل ذلك.

ثم إنتهى إلى تبيان الدليل الثاني، فيضيف تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى . وبعد هذه المرحلة واستقرار المني في الرحم

يتحول إلى قطعة متخثرة من الدم، وهي العلقة، ثم إنّ اللَّه تعالى يخلقها بشكل جديد ومتناسب وموزون: «ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى .

ولم يتوقف على ذلك: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى .

أليس من يخلق النطفة الصغيرة القذرة في ظلمة رحم الام ويجعله خلقاً جديداً كل يوم، ويلبسه من الحياة لباساً جديداً ويهبه شكلًا مستحدثاً ليكون بعد ذلك إنساناً كاملًا ذكراً أو انثى ثم يولد من امّه، بقادر على إعادته: «أَلَيْسَ ذلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى .

وهذا البيان في الواقع هو لمن ينكر المعاد الجسماني ويعده محالًا، وينفي العودة إلى الحياة بعد الموت والدفن، ولإثبات ذلك أخذ القرآن بيد الإنسان ليرجعه إلى التفكر ببداية خلقه، والمراحل العجيبة للجنين ليريه تطورات هذه المراحل، وليعلم أنّ اللَّه قادر على كل شي ء.

«نهاية تفسير سورة القيامة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 327

76. سورة الإنسان

محتوى السورة: يمكن تقسيم مباحث السورة إلى خمسة أقسام:

1- يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج (مختلطة)، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته.

2- يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول الخاص بأهل البيت عليهم السلام.

3- تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات مؤثرة.

4- يشير إلى أهمّية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق.

5- جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية (مع حاكمية الإنسان).

ولهذه السورة أسماء عديدة؛ أشهرها: (الإنسان) و (الدهر) و (هل أتى ، وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة، وإن كانت الروايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها، قد ذكرت اسم (هل أتى لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على اللَّه جنّة وحريراً».

وقال الإمام

الباقر عليه السلام: «من قرأ سورة هل أتى في كل غداة خميس زوّجه اللَّه من الحور العين مائة عذراء وأربعة آلاف ثيب وكان مع محمّد صلى الله عليه و آله».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 328

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَ أَغْلَالًا وَ سَعِيراً (4) تتحدث الآيات الاولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أنّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونعم الجنان، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان، لأنّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهيي ء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة. فيقول تعالى: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسنِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيًا مَّذْكُورًا».

والمراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ويشمل بذلك عموم البشر.

ثم يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنهُ سَمِيعًا بَصِيرًا».

ولعلّ ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث، وقد اشير إلى ذلك في روايات المعصومين عليهم السلام بصورة إجمالية؛ أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجينات؛ أو أنّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة، لأنّها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.

«نبتليه»: إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإختبار والإمتحان.

وبما أنّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلّابعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل

المعرفة، العين والاذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.

إنّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين، هما: «الهداية» و «الإختبار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا». إنّ للهداية هنا معنى واسعاً، فهي تشمل «الهداية التكوينية» و «الهداية الفطرية» وكذلك «الهداية التشريعية» وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 329

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول:

«إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلسِلَا وَأَغْللًا وَسَعِيرًا».

«سلاسل»: جمع (سلسلة)، وهي القيد الذي يقاد به المجرم؛ و «الأغلال»: جمع (غل)، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد.

إنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون، وهو ما اشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل.

إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11)

سبب النزول

البرهان العظيم على فضيلة أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله: قال ابن عباس: إنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما الرسول صلى الله عليه و آله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما كان معهم شي ء،

فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصواع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم، أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللَّه من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّاالماء وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة عند الغروب، ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: «ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم». وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل وقال: خذها يا محمد، هنّأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 330

وقيل: إنّ الذي نزل من الآيات يبدأ من: «إِنَّ الْأَبْرَارَ» حتى «كَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا» ومجموعها (18) آية.

ما أوردنا هو نص الحديث الذي جاء في كتاب «الغدير» بشي ء من الإختصار كقدر مشترك وهذا الحديث من بين أحاديث كثيرة نقلت في هذا الباب، وذكر في الغدير أنّ الرواية المذكورة قد نقلت عن طريق (34) عالماً من علماء أهل السنّة المشهورين.

وعلى هذا، فإنّ الرواية مشهورة، بل متواترة عند أهل السنة «1».

واتفق علماء الشيعة على أنّ السورة أو ثمان عشرة آية من السورة قد نزلت في حق علي وفاطمة عليهما السلام، وأوردوا هذه الرواية في كتبهم العديدة واعتبروها من مفاخر الروايات الحاكية عن فضائل أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

التّفسير

جزاء الأبرار العظيم: أشارت الآيات السابقة إلى العقوبات التي تنتظر الكافرين بعد تقسيمهم إلى جماعتين وهي

«الشكور» و «الكفور»، والآيات في هذا المقطع تتحدث المكافآت التي أنعم اللَّه بها على الأبرار وتذكّر بامور ظريفة في هذا الباب. فيقول تعالى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ يُشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا».

«الأبرار»: جمع (بر) وأصله الإتّساع، واطلق البر على الصحراء لاتساع مساحتها، وتطلق هذه المفردة على الصالحين الذين تكون نتائج أعمالهم واسعة في المجتمع.

«كافور»: له معان متعددة في اللغة، وأحد معانيها المعروفة الرائحة الطيبة كالنبتة الطيبة الرائحة.

فإنّ الآية تشير إلى أنّ هذا الشراب الطهور معطّر جدّاً فيلتذ به الإنسان من حيث الذوق والشم.

ثم يشير إلى العين التي يملؤون منها كؤوسهم من الشراب الطهور فيقول: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيرًا».

هذه العين من الشراب الطهور وضعها اللَّه تعالى تحت تصرفهم، فهي تجري أينما شاءوا، والظريف هو ما نقل- في أمالي الصدوق- عن أبي جعفر الباقر عليه السلام إذ قال في وصفها: «هي

______________________________

(1) نقلت هذه الرواية في كتاب الغدير 3/ 107- 111؛ وفي كتاب إحقاق الحق 3/ 157- 171 عن (36) نفر من علماء أهل السنّة مع ذكر المأخذ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 331

عين في دار النبي تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين».

نعم، فكما تتفجر عيون العلم والرحمة من بيت النبي صلى الله عليه و آله وتجري إلى قلوب عباد اللَّه الصالحين، كذلك في الآخرة حيث التجسّم العظيم لهذا المعنى تتفجر عين الشراب الطهور الإلهي من بيت الوحي، وتنحدر فروعها، إلى بيوت المؤمنين!

ثم تتناول الآيات الاخرى ذكر أعمال «الأبرار» و «عباد اللَّه» مع ذكر خمسة صفات توضّح سبب استحقاقهم لكل هذه النعم الفريدة فيقول تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا».

جملة (يوفون) و (يخافون) والجمل التي تليها جاءت بصيغة الفعل المضارع وهذا يشير إلى استمرارية وديمومة منهجهم.

وخوفهم

من شرّ ذلك اليوم، وآثار هذا الإيمان ظاهرة في أعمالهم بصورة كاملة.

ثّم يتناول الصفة الثالثة لهم فيقول: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا».

لم يكن مجرد اطعام، بل اطعام مقرون بالإيثار العظيم عند الحاجة الماسّة للغذاء، ومن جهة اخرى فهو إطعام في دائرة واسعة حيث يشمل أصناف المحتاجين من المسكين واليتيم والأسير، ولهذا كانت رحمتهم عامّة وخدمتهم واسعة.

فإنّ ما يستفاد من الآية أنّ أفضل الأعمال إطعام المحرومين والمعوزين، ولا يقتصر على اطعام الفقراء من المسلمين فحسب بل يشمل حتى الأسرى المشركين أيضاً وقد اعتبر إطعامهم من الخصال الحميدة للأبرار.

والخصلة الرابعة للأبرار هي الإخلاص، فيقول: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَانُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا».

إنّ هذا المنهج ليس منحصراً بالإطعام، إذ إنّ جميع أعمالهم خالصة لوجه اللَّه تعالى، ولا يتوقعون من الناس شكراً وتقديراً. وأساساً فإنّ قيمة العمل في الإسلام بخلوص النية وإلّا فإنّ العمل إذا كان بدوافع غير الهية، فليس لذلك ثمن معنوي وإلهي.

ويقول في الوصف الأخير للأبرار: «إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا». (أي الشديد) من المحتمل أن يكون هذا الحديث لسان حال الأبرار، أو قولهم بألسنتهم.

وجاء التعبير عن يوم القيامة بالعبوس والشديد للإستعارة، إذ أنّها تستعمل في وصف

مختصر الامثل، ج 5، ص: 332

الإنسان الذي يقبض وجهه وشكله ليؤكد على هول ذلك اليوم، أي أنّ حوادث ذلك اليوم تكون شديدة إلى درجة أنّ الإنسان لا يكون فيه عبوساً فحسب، بل حتى ذلك اليوم يكون عبوساً أيضاً. وأشارت الآية الأخيرة في هذا البحث إلى النتيجة الإجمالية للأعمال الصالحة والنيّات الطاهرة للأبرار فيقول: «فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا».

«نضرة»: بمعنى البهجة وحسن اللون والسرور الخاص الذي يظهر عند وفور النعمة والرفاه على الإنسان. وبما

أنّهم كانوا يحسّون بالمسؤولية ويخافون من ذلك اليوم الرهيب، فإنّ اللَّه تعالى سوف يعوضهم بالسرور وبالبهجة.

وَ جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَ لَا زَمْهَرِيراً (13) وَ دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) مكافئات الجنان العظيمة: بعد الإشارة الإجمالية في الآيات السابقة إلى نجاة الأبرار من العذاب الأليم يوم القيامة، ووصولهم إلى لقاء المحبوب والغرق بالسرور والبهجة، تتناول هذه الآيات شرح هذه المواهب الإلهية في الجنان، وعددها في هذه على الأقل خمسة عشرة نعمة، فتتحدث في البدء عن المسكن والملبس فتقول: «وَجَزَيهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا».

وليس فقط في هذه الآية، بل صرح بهذه الحقيقة في آيات اخرى من القرآن، وهو أنّ مكآفات القيامة إنّما تعطى للإنسان لصبره (صبر في الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر عند المصائب). فنجد سلام الملائكة لأهل الجنان في الآية (24) من سورة الرعد: «سَلمُ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ».

مختصر الامثل ج 5 369

مختصر الامثل، ج 5، ص: 333

ثم يضيف سبحانه في الآية التالية: «مُّتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا».

ولا يعني هذا انعدام الشمس والقمر في الجنان، بل بسبب ظلال أشجار الجنان

لا تكون أشعة الشمس مؤذية.

«زمهرير»: من مادة «زمهر» وهو البرد الشديد، أو شدّة الغضب أو احمرار العين من أثر الغضب، والمراد هنا هو المعنى الأوّل.

«أرائك»: جمع «أريكة»، وتطلق في الأصل على الأسرّة التي توضع في غرفة العروس، والمراد هنا الأسرّة الجميلة والفاخرة.

عن ابن عباس: بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءاً كضوء الشمس، وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة يا رضوان ما هذا؟ وقد قال ربّنا «لَايَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا»، فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس، ولا قمر، ولكن علي وفاطمة ضحكا، فأشرقت الجنان من نور ثغريهما «1».

وتضيف الآية الاخرى متمّمة لهذه النعم: «وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِللُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا».

ليست هنا من مشكلة لقطف الثمار، ولا شوكة لتدخل في اليد، ولا تحتاج ذلك إلى مشقّة أو حركة.

ثم توضح الآية الاخرى كيفية استضافة أصحاب الجنان، وأدوات الضيافة، والمستقبلين لهم، فيقول: «وَيُطَافُ عَلَيْهِم بَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا* قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا».

تحتوي هذه الآنية على أنواع الأغذية والأشربة المتعددة الأصناف واللذيذة والباعثة على النشاط، بالقدر الذي يشاؤونه ويحبّونه، والولدان المخلدون يطوفون عليهم ليعرضوا عليهم الآنية والأكواب المليئة بما وعدهم اللَّه بها.

ثم يضيف تعالى: «وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا».

صرح الكثير من المفسرين بأنّ عرب الجاهلية كانوا يتلذذون بالشراب الممزوج بالزنجبيل، لأنّه كان يعطي قوّة خاصة للشراب.

______________________________

(1) روح المعاني 29/ 159.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 334

ويتحدث القرآن هنا عن الشراب الطهور الممزوج بالزنجبيل، ومن البديهي أنّ الفرق بين هذا الشراب وذلك الشراب كالفرق بين الدنيا والآخرة.

ثم يضيف تعالى: «عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا».

«سلسبيلا»: هو الشراب الهني ء واللذيذ جدّاً الذي ينحدر بسهولة في الحلق.

ثم يتحدث عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار اللَّه في النعيم الأعلى

فيقول تعالى: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا».

إنّهم مخلدون في الجنان، وطراوة شبابهم ونشاطهم خالد أيضاً، وكذا استقبالهم للأبرار، لأنّ عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة اخرى تبيان لهذه الحقيقة.

«لؤلؤاً منثوراً»: يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

وبما أنّ من المحال وصف النعم والمواهب للعالم الآخر مهما بلغ الكلام من البيان والبلاغة، ولذا يقول تعالى في الآية الاخرى كلاماً مطلقاً: «وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا».

إلى هنا اشير إلى قسم من نعم الجنان، وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى:

«عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ».

«سندس»: ثوب رقيق من الحرير؛ و «الإستبرق»: ثوب غليظ من الحرير.

ثم أضاف تعالى: «وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ».

وهي الفضة الشفافة اللامعة كالبلور وأجمل من الياقوت والدر واللؤلؤ.

«اساور»: جمع «أسورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار)، أو «سوار» على وزن (حوار) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية، (دستوار) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة (سوار).

ثم يقول تعالى في نهاية الآية مشيراً إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا».

في المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «يطهرهم عن كل شي ء سوى اللَّه».

وفي روضة الكافي روي عن النبي صلى الله عليه و آله حول عين مطهرة مزكية المستقرة على باب الجنة، قال: «فيسقون منها شربة فيطهر اللَّه بها قلوبهم من الحسد، ويسقط من أبشارهم الشعر وذلك قول اللَّه عزّ وجل: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا»».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 335

وفي آخر آية من آيات البحث يتحدث حديثاً أخيراً في هذا الإطار فيقول: إنّه يقال لهم من قبل ربّ العزّة بأنّ هذه النعم العظيمة ما هي

إلّاجزاء أعمالكم في الدنيا: «إِنَّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا». لئلا يتصور أحد أنّ هذا الجزاء وهذه المواهب العظيمة تعطى من دون مقابل، إنّ كل ذلك جزاء السعي والعمل، وثمرة الرياضات وجهاد النفس وبناء الذات وترك المعاصي.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) خمسة مبادي ء مهمة في تنفيذ حكم اللَّه: شرعت السورة منذ البداية وحتى هذه الآية في تبيان خلق الإنسان ثم المعاد والبعث، وفي هذه الآيات مورد البحث يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه و آله باصدار أوامر مؤكّدة لهداية الناس والصبر والثبات في هذا الطريق، وفي الواقع إنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ نيل كل تلك النعم والمواهب الاخروية لا يتمّ إلّابالتمسك بالقرآن وإتباع النبي واطاعة أوامره. يقول في البدء: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلًا».

ثم يأمر النبي صلى الله عليه و آله بأمور خمسة، أوّلها الدعوة إلى الصبر والإستقامة فيقول: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ». أي لا تخف من المشاكل ومن موانع الطريق وكثرة الأعداء وعنادهم واستقم في سيرك على الصراط المستقيم.

والأمر الثاني الموجّه للنبي صلى الله عليه و آله هو تحذيره من أي توافق مع المنحرفين، فيقول تعالى:

«وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا».

في الحقيقة أنّ هذا الحكم هو تأكيد ثان على الحكم الأوّل، لأنّ جموع الأعداء كانوا يسعون بطرق مختلفة للتوافق مع النبي وجرّه إلى طريق الباطل، كما نقل أنّ عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة قالا لرسول اللَّه: إن تركت دعوتك، فإنّنا سنغنيك حتى ترضى، ونزوّجك أجمل بنات العرب، وعروض

اخرى من هذا القبيل، فما كان على الرسول صلى الله عليه و آله هنا باعتباره المرشد الحقيقي والعظيم إلّاأن يقف أمام هذه الوساوس الشيطانية والتهديدات التي صدرت منهم بعد ذلك، ولا يستسلم للترغيب أو الترهيب.

ولكن بما أنّ الصبر والإستقامة في مقابل هذه المشكلات العظيمة ليس بالأمر اليسير،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 336

كان من الضروري لسلوك هذا الطريق التزّود بنوعين من الزاد، لذا يضيف القرآن في الآية الاخرى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا». أي في كل صباح ومساء،. ويقول تعالى أيضاً: «وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا». لتتوفر لديك في ظل ذلك الذكر وهذا السجود والتسبيح قوّة كافية وقدرة معنوية لمواجهة مشاكل هذا الطريق.

فإنّ هاتين الآيتين تأكيد لضرورة التوجه الدائم والمستمر لذات اللَّه المقدسة.

ويجب هنا الإلتفات إلى أنّ الأوامر الخمسة المذكورة في الآيات أعلاه وإن ذكرت بصورة منهج للنّبي صلى الله عليه و آله، فهي في الحقيقة دستوراً يحتذي به كل من يخطو في مسير قيادة المجتمع البشري، إنّهم يجب أن يعلموا بعد الإيمان الكامل بأهدافهم ورسالتهم بضرورة احتراف الصبر والإستقامة، وأن لا يستوحشوا من كثرة مشاكل الطريق، لأنّ هداية المجتمع من المشاكل العظيمة.

وفي المرحلة الاخرى يجب الثبات التام أمام الوساوس الشيطانية والتي تعتبر مصداقاً للآثم والكفور، والثبات أمام سعيهم في حرف القادة والأئمة بأنواع الحيل والمكائد، وأن لا ينخدعوا بالتطميع ولا يتأثروا بالتهديد، ويذكروا اللَّه تعالى في كل المراحل لاكتساب القدرة الروحية وقوّة الإرادة والعزم الراسخ، والاستمداد من العبادات الليلية، والمناجات مع اللَّه، فإذا ما روعيت هذه الامور فالنصر حتمي، وحتى لو عرضت مصيبة أو هزيمة فإنّه يمكن إصلاحها من خلال هذه الاصول، ومنهج الرسول صلى الله عليه و آله وسلوكه في دعوته نموذج مؤثر

لجميع السالكين في هذا الطريق.

إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَ شَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَ إِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31) تحذير مع بيان السبيل: رأينا في الآيات السابقة تحذيراً للنبي صلى الله عليه و آله لكي لا يقع تحت تأثير كل آثم أو كفور من المجرمين. الآيات اعلاه عرّفت الأعداء بشكل أكثر وقالت: «إِنَّ هؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 337

لا تتعدى افق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة، وتمثل هذه اللذائذ المادية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة. والعجيب أنّهم قاسوا روح النبي العظيمة بهذا المقياس.

الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوّتهم وقدرتهم، إذ إنّ اللَّه الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء، فيقول تعالى: «نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا».

هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة، وهي جهاز الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الإنسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان كامل الخلقة مهيأ للقيام بأية فعالية، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.

وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات اللَّه المقدسة، عنهم، وعن طاعتهم وإيمانهم، ليعلموا أنّ الإصرار على دعوتهم للايمان في الحقيقة هو من رحمة اللَّه بهم.

ثم أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملًا للحياة السعيدة، فيقول تعالى:

«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا».

إنّ علينا إيضاح الطريق، لا اجباركم على اختيار الطريق، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم، وهذا تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا».

وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا».

وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين)، إذ يقول من جهة: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ». فعليكم أن تختاروا ما تريدون، ويضيف من جهة اخرى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ». أي ليس لكم الإستقلال الكامل، بل إنّ قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.

من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين

مختصر الامثل، ج 5، ص: 338

الأمرين. أو بعبارة اخرى: إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية، إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة، ومن جهة اخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن اللَّه تعالى.

ولعلّ آخر الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا». يشير حكمه إلى هذا المعنى، لأنّ حكمة اللَّه تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل، وإلّا فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملًا، بالإضافة إلى أنّ حكمة اللَّه لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على اناس وفرض الأعمال الشريرة على اناس آخرين، ثم إنّه يثيب الجماعة الاولى ويعاقب الثانية.

ثم تشير الآية الاخرى بعد ذلك إلى مصير الصالحين والطالحين،

إذ تقول الآية: «يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

والظريف أنّ صدر الآية يقول: «يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ»، ويقول ذيلها:

«وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»، وهذا يشير إلى أنّ مشيئته تعالى بعقوبة الإنسان تتبع مشيئة الإنسان للظلم والمعاصي، وبقرينة المقابلة يتّضح أنّ مشيئته تعالى في الرحمة تتبع إرادة الإنسان في الإيمان والعمل الصالح وإقامة العدل، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر إلّامن حكيم.

«نهاية تفسير سورة الإنسان»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 339

77. سورة المرسلات

محتوى السورة: إنّ أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ» عشر مرّات بعد كل موضوع جديد، وتنبى ء السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الصعبة للبعث، ثم تذكر عقب ذلك هذه الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

وتتحدث السورة أوّلًا عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.

ثم تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإنسان.

وفي المرحلة الثالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.

وفي الرابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثم تأكيد تلك الآية بعد ذكر كل موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.

فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام هناك يدور عن النعم، أمّا في هذه السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 340

اختيار اسم (المرسلات) لهذه السورة، هو لتناسبه مع الآية الاولى لهذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأها عرّف اللَّه بينه وبين محمّد صلى الله عليه و

آله».

لا شك أنّ الثواب والفضيلة تكون لمن يقرؤها ويتفكر ويعمل بها.

في الخصال للصدوق عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول اللَّه! أسرع إليك الشيب؟ قال صلى الله عليه و آله: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون».

والملاحظ أنّ جميع هذه السور تعكس أحوال القيامة والمسائل المهولة لتلك المحكمة العظيمة، وهذه هي التي تركت أثراً في روح النبي المقدسة.

من البديهي أنّ القراءة بدون تدبّر وتصميم على العمل لا يمكن أن تترك مثل هذا الأثر.

وَ الْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَ إِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) ذكرت في صدر السورة ابتداءً خمسة أقسام، وذلك في خمس آيات. وهناك كلام كثير في تفسير معانيها. يقول تعالى: «وَالْمُرْسَلتِ عُرْفًا» «1». أي قسماً بالتي تُرسل تباعاً.

«فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا» التي تُسرع في حركتها كالعاصفة.

«وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا» ... التي توسّع وتنشر ما وكّلت به.

«فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا» ... التي تفرق وتفصل.

«فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا» التي تلقي بالآيات الموقظة والمذكرّة.

«عُذْرًا أَوْ نُذْرًا» إمّا لاتمام الحجة أو للانذار.

القسم الأوّل والثاني ناظر إلى الرياح والأعاصير، والقسم الثالث والرابع والخامس

______________________________

(1) «عرفاً»: بمعنى متتابعاً، وأصله بمعنى (عرف الفرس) المتساقط بعضها على البعض الآخر، وفُسر أحياناً بالعمل الحسن والمعروف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 341

يتعلق بنشر آيات الحق بواسطة الملائكة، ثم فصل الحق عن الباطل، وبعد ذلك إلقاء الذكر والأوامر الإلهية على الأنبياء بقصد إتمام الحجّة والإنذار.

والآن لابدّ أن نرى الغرض من هذه الأيمان،

الآية التالية ترفع الستار عن هذا المعنى، فتقول: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ».

إنّ البعث والنشور، والثواب والعقاب والحساب والجزاء كلّها حق لا ريب فيه.

ثم ينتهي إلى تبيان علامات ذلك اليوم الموعود، فيقول: إذا تحقق ذلك اليوم الموعود فإنّ النجوم سوف تنطفي ء وتمحى «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ». «وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ» أي انشقت.

«وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ». أي زالت وانقلعت من مكانها.

«طمست»: من مادة «طمس» وهو محو وزوال آثار الشي ء؛ وهنا إشارة إلى محو نور النجوم.

«نسفت»: من مادة «نسف»- على وزن حذف- وفي الأصل، بمعنى وضع حبوب الغذاء في الغربال وتحريكه لعزل القشور عن الحبوب، ويعني هنا تفتيت الجبال ثم نسفها في الريح، ونستوحي من بعض آيات القرآن المجيد أنّ انقراض العالم يلازم وقوع حوادث مهولة بحيث يتلاشى نظام العالم بكامله، وحلول نظام الآخرة الجديد مكان ذلك النظام.

ثم أشار القرآن بعد ذلك إلى ما يجري في البعث، فيضيف: وفي ذلك الوقت يتمّ تعيين وقت للأنبياء والرسل ليأتوا إلى ساحة المحشر ويدلوا بشهادتهم: «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ» «1».

وهو كقوله: «فَلَنَسَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» «2».

ثم يضيف تعالى: «لِأَىّ يَوْمٍ أُجّلَتْ». أي لماذا تمّ تأخير هذه الشهادة ولأي وقت؟

ثم يقول: «لِيَوْمِ الْفَصْلِ». يوم فصل الحق عن الباطل، فصل صفوف المؤمنين عن الكافرين، والأبرار عن الأشرار، ويوم حكم اللَّه المطلق على الجميع.

ثم يبيّن عظمة ذلك اليوم أيضاً، فيقول تعالى: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ».

إنّ الرسول صلى الله عليه و آله بعلمه الواسع وبنظره الحاد الذي كان يرى من خلاله أسرار الغيب لم يكن مطلعاً بصورة كاملة على أبعاد عظمة ذلك اليوم، فكيف بسائر الناس.

______________________________

(1) «اقّتت» أصلها «وقّتت» من مادة «وقت»، ويعني توقيت الوقت لرسل اللَّه تعالى.

(2) سورة الأعراف/ 6.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 342

وفي آخر آية

من آيات بحثنا هدد اللَّه تعالى المكذبين بيوم القيامة تهديداً شديداً وقال:

«وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

«ويل»: قيل هو الهلاك، وقيل المراد به العذاب المتنوع، وقيل هو وادٍ في جهنم ملي ء بالعذاب؛ وتستخدم هذه الكلمة عادة فيما يخص الحوادث المؤسفة، وهنا تحكي الآية عن مصير المكذبين المؤلم في ذلك اليوم.

المراد بالمكذّبين هنا هم المكذبون بيوم القيامة.

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وَ أَمْوَاتاً (26) وَ جَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَ أَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) هذه الآيات أيضاً تحذّر وبطرق مختلفة المنكرين للبعث، وتوقظهم ببيانات مختلفة من نوم الغفلة العميق؛ فتأخذ بأيديهم أوّلًا إلى ما مضى من التاريخ لتريهم الأراضي المترامية الأطراف التي كانت ملكاً للأقوام السابقين، فيقول تعالى: «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ».

إنّ آثارهم واضحة على صفحات البسيطة. وليس على صفحات التاريخ فحسب.

«ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْأَخِرِينَ». لأنّها سنّة مستمرة لا تبعيض فيها ولا استثناء، وهل يمكن أن يعاقب جماعة لجرم ما، ويقبل ذلك الجرم من آخرين؟!

ولذا يضيف تعالى في الآية الاخرى: «كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ».

هذه الآية هي بمنزلة بيان الدليل على هلاك الامم الاولى ويستتبعه هلاك الامم الاخرى، لأنّ العذاب الإلهي ليس فيه جانب الثأر ولا الإنتقام الشخصي. بل إنّه تابع لأصل الإستحقاق ومقتضى الحكمة.

ثم يضيف مستنتجاً: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

«يومئذ»: إشارة إلى يوم البعث الذي يعاقب فيه المكذبون بالعقوبات الشديدة، والتكرار هو لتأكيد المطلب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 343

ثم يمسك القرآن بأيديهم ليأخذهم إلى عالم الجنين ويريهم

عظمة اللَّه وقدرته وكثرة مواهبه في هذا العالم الملي ء بالأسرار، ليفهموا قدرة اللَّه تعالى على المعاد والبعث من جهة وأنّهم غارقون في نعمه اللامتناهية من جهة اخرى، فيقول تعالى: «أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهِينٍ». أي تافه وحقير: «فَجَعَلْنهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ».

مقرّ فيه ضمان لجميع ظروف الحياة والتربية والنمو والمحافظة على نطفة الإنسان، فهو عجيب وظريف وموزون بحيث يثير إعجاب كل إنسان.

ثم يضيف تعالى: إنّ بقاء النطفة في ذلك المكان المكين والمحفوظ إنّما هو لمدة معينة: «إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ».

مدة لا يعلمها إلّااللَّه تعالى، مدة مملوءة بالتغيرات والتحولات الكثيرة بحيث ترتدي النطفة في كل يوم لباساً جديداً من الحياة يؤدّي به إلى التكامل في داخل ذلك المخبأ.

ثم يستنتج من قدرته تعالى على خلق الإنسان الكامل والشريف من نطفة حقيرة بأنّ اللَّه تعالى نعم القادر: «فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ». وهذا الدليل اعتمده القرآن مرات عديدة لإثبات مسألة المعاد منها قوله تعالى في أوّل سورة الحج: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

ثم يعود في النهاية ليكرر تلك الآية وهو قوله: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». الويل لُاولئك الذين يرون آثار قدرة اللَّه تعالى ثم ينكرونها.

ثم يقول تعالى: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا* أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا».

«كفات»: على وزن (كتاب)، و «كفت» على وزن (كشف) هو جمع وضم الشي ء للآخر، ويقال أيضاً لسرعة طيران الطيور «كفات» لجمعه لأجنحته حال الطيران السريع حتى يتمكن من شق الهواء والتقدم أسرع.

والمراد

هو أنّ الأرض مقر لجميع البشر، إذ تجمع الأحياء على ظهرها وتهيي ء لهم جميع ما يحتاجونه، وتضم أمواتهم في بطنها، فلو أنّ الأرض لم تكن مهيئة لدفن الأموات لسببت العفونة والأمراض الناتجة منها فاجعة لجميع الأحياء.

ثم يشير تعالى إلى إحدى النعم الإلهية العظيمة في الأرض، فيضيف: «وَجَعَلْنَا فِيهَا

مختصر الامثل، ج 5، ص: 344

رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ» «1». هذه الجبال التي قاربت بارتفاعها السماء، واتصلت اصولها بالبعض الآخر قد لزمت الأرض كالدرع من جهة لحفظها من الضغط الداخلي والضغوط الناتجة من الجزر والمد الخارجي، ومن جهة اخرى تمنع اصطكاك الرياح مع الأرض حيث تمدّ قبضتها في الهواء لتحركه حول نفسها وكذلك تنظم حركة الأعاصير والرياح من جهة ثالثة، ولهذا تكون الجبال باعثة على إستقرار أهل الأرض.

وفي آخر الآية إشارة إلى إحدى البركات الاخرى للجبال فيضيف تعالى: «وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا». ماءاً سائغاً وباعثاً للحياة، لكم ولحيواناتكم ولبساتينكم.

فإنّ كثيراً من العيون والقنوات هي من الجبال، ومصدر الأنهار العظيمة هو من الجليد المتراكم على قمم الجبال، حيث تعتبر من الذخائر المائية المهمّة للإنسان.

ثم يقول في نهاية هذا القسم: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

اولئك الذين ينكرون كل هذه الآيات وعلامات قدرة اللَّه التي يرونها بأعينهم، وكذلك يشاهدون النعم الإلهية التي غرقوا فيها، ثم ينكرون البعث ومحكمة القيامة التي هي مظهر العدل والحكمة الإلهية.

انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَ لَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَ لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) في هذه الآيات تبيان لمصير المكذبين بيوم القيامة، والمنكرين لتلك المحكمة الإلهية العادلة، تبيان يدخل الرعب والرهبة في قلب الإنسان، ويوضح أبعاد الفاجعة. يقول تعالى:

«انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ». انطلقوا إلى جهنم التي طالما كنتم تستهزئون بها، توجهوا

______________________________

(1) «رواسي»: جمع راسية، وهي الثابتات؛ و «شامخات»: جمع شامخ، أي عال، وتأتي بعض العبارات كالقول (شمخ بأنفه) كناية عن التكبر (مفردات الراغب).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 345

إلى أنواع العذاب التي هيئتموها بأعمالكم السيئة.

ثم يعمد إلى مزيد من التوضيح حول هذا العذاب، فيقول سبحانه: «انطَلِقُوا إِلَى ظِلّ ذِى ثَلثِ شُعَبٍ». توجهوا نحو ظلّ من دخان خانق له ثلاث شعب: شعبة من الأعلى، وشعبة من الجهة اليمنى، وشعبة من الجهة اليسرى، وعلى هذا الأساس فإنّ دخان النار المميت هذا يحيط بهم من كل جانب ويحاصرهم.

ثم يقول تعالى: «لَّاظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ». فليس في هذا الظل راحة، ولا يمنع من الإحتراق بالنار لأنّه نابع من النار.

ثم يضيف وصفاً آخر لتلك النار المحرقة: «إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ». ليس كشرر نار هذه الدنيا التي لا تكون أحياناً إلّابمقدار رأس الإبرة.

ثم ينتهي في الآية الاخرى إلى وصف آخر من أوصاف هذه النار المحرقة، فيقول تعالى:

«كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ».

وإذا كان الشرر هكذا، فكيف بالنار المحرقة نفسها، وما جعل من العذاب الأليم في تلك النار؟!

ويعود مرة اخرى في آخر قسم من الآيات لينبّه بذلك التنبيه المكرر، فيقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

ثم يبدأ فصلًا آخر من علامات ذلك اليوم المهول، فيضيف تعالى: «هذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ».

نعم، إنّ اللَّه يختم في ذلك اليوم على أفواه المجرمين والمذنبين كقوله في الآية (65) من سورة يس: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ».

ثم يضيف تعالى في القول: «وَلَا يُؤْذَنُ

لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ». ليس لهم الرخصة في الكلام، ولا في الإعتذار والدفاع عن أنفسهم، لأنّ الحقائق واضحة هناك، وليس لديهم ما يقولوه، نعم يجب أن يعاقب هذا اللسان الذي أساء الإستفادة من الحرية وسعى في تكذيب الأنبياء، والإستهزاء بالأولياء، وإبطال الحق وإحقاق الباطل .. يجب أن يعاقب على أعماله بالإقفال والختم، لإبطال مفعوله، وهذا عذاب شديد وأليم بحدّ ذاته أن لا يتمكن الإنسان هناك من الدفاع عن نفسه أو الإعتذار.

في روضة الكافي عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول في قول اللَّه تبارك

مختصر الامثل، ج 5، ص: 346

وتعالى «وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»: «اللَّه أجل وأعدل وأعظم من أن يكون لعبده عذر لا يدعه يعتذر به، لكنه فلج فلم يكن له عذر». ثم يكرر تعالى في نهاية هذا المقطع قوله: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

في المقطع الآخر يوجه الخطاب إلى المجرمين ليحكي عما يجري في ذلك اليوم فيقول تعالى: «هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ». جمعنا في هذا اليوم جميع البشر من دون استثناء للحساب، وفصل الخصام في هذه العرصة والمحكمة العظمى.

ويقول: والآن إذا كان لكم قدرة على الفرار من العقاب فاعملوا ما بدا لكم: «فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ».

هل تستطيعون دفع الفدية لتتحرروا؟

أو هل يمكنكم الهرب من دائرة نفوذ حكومتي؟

أو أنّ لكم القدرة على أن تخدعوا الملائكة الموكّلين بكم وبحسابكم؟

اعملوا ما بدا لكم ولكن اعلموا أنّكم لا تستطيعون!

ثم أنّه تعالى أعاد تلك الجملة المهددة والمنبّهة مرّة اخرى، وقال: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ

(46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) من المعلوم في منهج القرآن أنّه يمزج الإنذار بالبشارة، والتهديد بالترغيب، وكذلك يذكر مصير المؤمنين في مقابل مصير المجرمين لفهم المسائل بصورة أكثر بقرينة المقابلة، وعلى أساس هذه السنّة المتّبعة في القرآن، فإنّ هذه الآيات وبعد بيان العقوبات المختلفة للمجرمين في القيامة، أشارت إلى وضع المتقين في ذلك اليوم فيقول تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِللٍ وَعُيُونٍ». ثم يضيف: «وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ».

والظريف أنّهم في هذا المضيف الإلهي يستضافون بأحسن الوجوه، كما هو الحال في الآية

مختصر الامثل، ج 5، ص: 347

التالية إذ يقول لهم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

عبارة «بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» إشارة إلى أنّ هذه المواهب لا تعطى لأيّ كان من دون عمل، ولا يمكن حصولها بالإدّعاء والتخيل والتصوّر، وإنّما يمكن نيلها والحصول عليها بالأعمال الصالحة فقط.

«هني ء»: على وزن (صبيح) هو كل شي ء ليست فيه مشقة ولا يستتبعه قلق.

وهذا إشارة إلى أنّ فواكه الجنة وأغذيتها وأشربتها ليست كأغذية الدنيا وأشربتها التي تترك أحياناً آثاراً سيئة في البدن، أو تترك أعراضاً غير مُرْضية.

ثم تؤكد الآية الاخرى على مسألة النعم وأنّها لا تمنح اعتباطاً فيضيف: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

وفي نهاية هذا المقطع يعيد تلك الآية: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». الويل لمن يُحْرَم من كل هذه النعم والألطاف، إذ إنّ عذاب حسرات هذا الحرمان ليس بأقل من نيران الجحيم المحرقة!

وبما أنّ إحدى عوامل إنكار المعاد الإهتمام بلذّات الدنيا الزائلة والميل إلى الحرية المطلقة للإنتفاع بهذه اللذّات، يتوجه بالحديث في الآية التالية إلى المجرمين بلحن تهديدي فيقول:

كلوا وتمتعوا بالملذات الدنيوية في هذه الأيّام القلائل، ولكن اعلموا أنّ العذاب الإلهي

ينتظركم، لأنّكم مجرمون: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ».

عبارة «إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ» تشير إلى أنّ مصدر العذاب الإلهي هو عمل الإنسان وذنبه، الناشي ء من عدم الإيمان أو الأسر في قبضة الشهوات.

ثم يكرر التهديد بجملة: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ». هم اولئك الذين غُرّروا وخدعوا بزخارف الدنيا ولذاتها وشهواتها واشتروا عذاب اللَّه.

وأشار في الآية الاخرى إلى عامل آخر من عوامل الانحراف والتعاسة والتلوث، وقال:

«وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَايَرْكَعُونَ».

إنّهم لم يأبوا الركوع والسجود فحسب، بل إنّ روح الغرور والكِبَر هذه كانت منعكسة على جميع أفكارهم وحياتهم، فما كانوا يسلّمون للَّه، ولا لأوامر النبي صلى الله عليه و آله، ولا يقرّون بحقوق الناس، ولا يتواضعون للَّه تعالى وللناس.

ثم يعيد هذه الآية للمرّة العاشرة والأخيرة إذ يقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 348

وفي آخر آية من آيات البحث- وهي آخر آية من السورة- يأتي السياق ممزوجاً بالعتاب ومليئاً بالملائمة، فجاءت الآية بصيغة الاستفهام التعجبي، إذ يقول «فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ». إنّ من لم يؤمن بالقرآن الذي لو انزل على الجبال لتصدعت وارتجفت، فسوف لن يسلم ولن يؤمن بأي كتاب سماوي، ولا يقبل بأي منطق عقلائي، وهذا يدّل على روح العناد والتعصب.

«نهاية تفسير سورة المرسلات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 349

78. سورة النبأ

محتوى السورة: تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكة، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة: المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار.

ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:

1- السؤال عن «النبإ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.

2- الإستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الإستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإنسانية والنعم الربانية.

3- بيان بعض علامات بدء البعث.

4- تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.

5- التشويق للجنة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.

6- وتختم

السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.

واشتق اسم السورة من الآية (2)، ويطلق عليها أيضاً اسم سورة (عمّ) نسبة إلى أوّل كلمة وردت في السورة بعد البسملة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة عمّ يتسائلون سقاه اللَّه برد الشراب يوم القيامة».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 350

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ عمّ يتسائلون لم يخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور البيت الحرام».

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) خبر هام: تأتي الآية الاولى لتستفهم بتعجب: «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ». ودون انتظار للجواب، تجيب الآية الثانية ما سُئل عنه في الآية الاولى: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ». ذلك الخبر: «الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ».

أورد المفسرون آراءً متباينة في المقصود من «النبإ العظيم»، فمنهم من اعتبره إشارة إلى يوم القيامة، ومنهم من قال بأنّه إشارة إلى القرآن الكريم، ومنهم من اعتبره إشارة إلى اصول الدين من التوحيد حتى المعاد.

بنظرة دقيقة إلى مجموع آيات السورة وسياق طرحها، وما ذكرته الآيات اللاحقة من ملامح القدرة الإلهية بعرض بعض مصاديقها في السماء والأرض، وبعد هذا العرض تؤكّد إحدى الآيات: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا». ثم مخالفة وعدم تقبل المشركين لمبدأ «المعاد»، كل ذلك يدعم التّفسير الأوّل القائل: بأنّ النبإ العظيم هو يوم القيامة.

«النبإ العظيم» كمفهوم قرآني- مثل سائر المفاهيم القرآنية- له من السعة ما يشمل كل ما ذكر من معان، وإذا كانت قرائن السورة تدلّ على أنّ المقصود منه «المعاد»، فهذا لا يمنع من أن تكون له مصاديق اخرى.

ولذا نجد في روايات أهل

البيت عليهم السلام وفي بعض روايات أهل السنّة أنّ «النبإ العظيم» بمعنى إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام، حيث كانت مثار جدال ونقاش بين جمع من المسلمين، وهناك من فسّر «النبإ العظيم» بالولاية بشكل عام.

ويضيف القرآن قائلًا: «كَلَّا سَيَعْلَمُونَ». فليس الأمر كما يقولون أو يظنون.

ويجدد التأكيد: «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ».

فسيعلمون في ذلك اليوم الواقع حتماً: «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 351

جَنبِ اللَّهِ» «1». يوم ينهال العذاب الإلهي على الكافرين فيقولون بصرخات مستغيثة: «هَلْ إِلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ» «2».

بل وإنّ طلب العودة إلى الحياة لجبران خطيئاتهم سيطرح في اولى لحظات الموت، حين تزال الحجب عن عين الإنسان فيرى بام عينيه حقيقة عالم الآخرة، فيستيقن حياة البرزخ والمعاد، ولا يبقى عنده إلّاأن يقول: «رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» «3».

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَ الْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَ خَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَ بَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَ جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَ نَبَاتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16) كل شي ء بأمرك يا ربّ ...: تجيب الآيات المذكورة على أسئلة منكري المعاد والمختلفين في هذا «النبإ العظيم» لأنّها تستعرض جوانب معينة من نظام الكون وعالم الوجود الموزون، مع تبيانها لبعض النعم الإلهية الواسعة ذات التأثير الفعال في حياة الإنسان، وذلك من جهة دليل على قدرة الباري عزّ وجل المطلقة، ومنها قدرته على إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته.

ومن جهة اخرى إشارة إلى أنّ الكون وما فيه من دقّة تنظيم، لا يمكن أن

يُخلق لمجرد العبث واللهو، بل لابدّ من وجود حكمة بالغة لهذا الخلق. في حين أنّه لو كان الموت يعني نهاية كل شي ء، فمعنى ذلك أنّ وجود العالم عبث وخالٍ من أيّة حكمة.

وبهذا فقد استدل القرآن الكريم على حقيقة «المعاد» بطريقين:

1- برهان القدرة.

2- برهان الحكمة.

وقد عرضت الآيات الإحدى عشر، اثنتي عشر نعمة إلهية، باسلوب ملؤه اللطف والمحبّة، مصحوباً بالاستدلال.

______________________________

(1) سورة الزمر/ 56.

(2) سورة الشورى 44.

(3) سورة المؤمنون/ 99 و 100.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 352

وتشرع الآيات بالإشارة إلى نعمة الأرض، فتقول: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا».

«المهاد»: المكان الممهّد الموطأ؛ واختيار هذا الوصف للأرض ينم عن مغزىً عميق ..

فمن جهة: نجد في قسم واسع من الأرض الإستواء والسهولة، فتكون مهيئة لبناء المساكن والزراعة.

ومن جهة ثانية: اودع فيها كل ما يحتاجه الإنسان لحياته من المواد الأوّلية إلى المعادن الثمينة، سواء كان ذلك على سطحها أم في باطنها.

ومن جهة ثالثة: تحلل الأجساد الميتة التي تودع فيها، وتبيد كل الجراثيم الناشئة عن هذه العملية بما أودع فيها الباري من قدرة على ذلك.

ومن جهة رابعة: ما لحركتها السريعة المنظمة ولدورانها حول الشمس وحول نفسها من أثر على حياة البشرية خاصة، بما ينجم عنها الليل والنهار والفصول الأربعة.

وبما أنّ نعمة استواء الأرض وسهولتها قد تهمش نعمة الجبال، فقد جاءت الآية التالية لتبيّن أهمية الجبال ودورها المهم في حياة الإنسان: «وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا».

تشكل الجبال آيةً ربانية زاخرة بالعطاء، وتؤدي وظائف كثيرة، منها أنّها تحفظ القشرة الأرضية من الإنهيار أمام الضغط الحاصل من المواد المذابة داخلها، وذلك لعمق تجذرها المترابط داخل الأرض ... وتحافظ عليها من تأثيرات جاذبية القمر في عملية المد والجزر ...

وتشكل جدران الجبال سداً منيعاً للتقليل من آثار الرياح الشديدة والعواصف المدمرة ...

وتقوم بخزن

المياه وادخار أنواع المعادن الثمينة في باطنها ..

بالإضافة لكل ما ذكر، فتوزيع الجبال على الأرض بالشكل الموجود وتعاملًا مع حركة الأرض يعمل على تنظيم حركة الهواء المحيط بالكرة الأرضية بالشكل الذي يؤثر إيجابياً على الحياة فوق الأرض. وفي هذا المجال، يقول العلماء: لو كان سطح الكرة الأرضية مستوياً كلّه، لتولدت عواصف شديدة لا يمكن السيطرة عليها جراء حركة الأرض وسكون الغلاف الجوي، ولفقدت الأرض صلاحيتها بتوفير مستلزمات السكن للإنسان، لأنّ استمرار الإحتكاك الحاصل من حركة الأرض الدائمة وسكون الغلاف الجوي سيؤدّي بلا شك إلى زيادة حرارة القشرة الأرضية مما يجعل الأرض غير صالحة لسكنى الإنسان.

وبعد أن بيّن القرآن هذين النموذجين من النعم الإلهية والآيات الآفاقية، عرج إلى ذكر ما أنعم الباري على الإنسان من النعم والآيات الأنفسية فقال: «وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 353

«الأزواج»: جمع زوج، المتشكل من الذكر والانثى ويخرج الإنسان إلى حياة الوجود من هذين الجنسين، ويستمر وجوده في الحياة من خلال عملية التناسل التي تساهم في استقرار الإنسان من الناحيتين الجسمية ولنفسية، كما تشير إلى هذا الآية (21) من سورة الروم: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

ويشير بعد ذلك إلى نعمة النوم، فيقول: «وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا».

«السبات»: من السبت، بمعنى القطع، ثم استعملت بمعنى (تعطيل العمل) لأجل الإستراحة.

وبالرغم من أنّ النوم يشكّل ثلث حياة الإنسان، ولكن الإنسان لا زال يجهل الكثير من خفاياه، بل ولا زال الإنسان (منذ القديم وحتى الآن) لا يعرف سبب تعطيل بعض فعاليات الدماغ في مدّة معينة وتغمض العين أجفانها وتسكن جميع أعضاء البدن.

ومع أنّ ذكر النوم في الآية قد جاء باعتباره إحدى النعم الإلهية، إلّاأنّ الآية المباركة قد تشير بذلك

إلى الموت، لما للنوم من شبه بالموت، والإستيقاظ بالبعث.

وبعد الإنتهاء من ذكر نعمة النوم، ينتقل القرآن الكريم لذكر نعمة الليل، فيقول:

«وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا».

وتضيف الآية التالية مباشرة: «وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا».

وشبّهت الآية الليل باللباس والغطاء الذي يُلقى على الأرض ليشمل كل من على الأرض، وليجبر فعاليات الموجودات الحيّة المتعبة على الأرض بالتعطل عن الحركة وممارسة النشاطات، ويخيم الظلام والسكون ليضفي على الأرض الهدوء ليستريح الناس من رحلة العمل والمعاناة خلال النهار، وليتمكنوا من مواصلة نشاطهم لليوم التالي لأنّ النوم المريح لا يتيسر للانسان إلّافي أجواء مظلمة.

وبالإضافة لكل ما ذكر، فحلول الليل يعني زوال نور الشمس وإلّا لانعدمت الحياة واحترقت جميع النباتات والحيوانات في حال استمرار شروق الشمس.

وخاتمة المقال: إنّ تعاقب الليل والنهار وما فيهما من نظام دقيق آية بيّنة من آيات خلقه سبحانه وتعالى، إضافة إلى أنّه تقويم طبيعي لتفصيل الزمن في حياة الإنسانية على مرّ التاريخ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 354

وتأتي الآية التالية لتنقلنا من عالم الأرض إلى عالم السماء حين تقول: «وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا».

قد يراد من العدد المذكور بالآية «الكثرة»، للإشارة إلى كثرة الأجرام السماوية والمنظومات الشمسية والمجرات والعوالم الواسعة لهذا الوجود، والتي تتمتع بخلق محكم وبناء رصين لا خلل فيه ... ويمكن أن يراد منه العدد، للإشارة إلى أنّ الكواكب وما يبدو لنا منها إنّما تعود إلى السماء الاولى، كما أشارت الآية (6) من سورة الصّافات إلى ذلك: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ». وثمّة سماوات ستة وعوالم اخرى وراء السماء الاولى «الدنيا» خارجة عن حدود معرفتنا.

وبعد أن أشار القرآن إجمالًا إلى السماوات، يشير إلى نعمة الشمس، فيقول: «وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا».

«الوهّاج»: من الوهج، بمعنى النور والحرارة التي تصدر من النار.

وإطلاق هذه الصفة على الشمس، للإشارة

إلى نعمتين كبيرتين وهما: (النور) و (الحرارة) ويتفرع عنهما نعم وعطايا كثيرة يزخر بها عالمنا.

ولا تتحدد فوائد نور الشمس بإضاءة الدنيا للإنسان، بل لها أثر كبير في نمو سائر الكائنات الحيّة.

وإضافة لكل ما تقدم، فلحرارة الشمس أثر أساس في: تكوّن الغيوم، حركة الهواء، نزول الأمطار، وسقي الأراضي اليابسة.

ولأشعة الشمس كذلك الأثر البالغ في مكافحة الجراثيم، لاحتوائها على الأشعة ما وراء الحمراء التي تقتل الجراثيم.

وأشعة الشمس في واقعها: نور صحي مجاني دائمي، يصلنا بكيفية لا هي بالشديدة المحرقة، ولا هي بالقليلة العديمة التأثير.

وبعد ذكر نعمة النور والحرارة يتناول القرآن نعمة حياتية اخرى لها إرتباط بأشعة الشمس، ويقول: «وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا».

«المعصرات»: جمع «معصر»، من العصر بمعنى الضغط .. والكلمة تشير إلى أنّ الغيوم تقوم بعملية وكأنّها تعصر نفسها عصراً لكي ينهمر منها الماء على شكل أمطار.

«الثجاج»: من الثج، بمعنى سيلان الماء بكمية كبيرة، و «ثجاج» صيغة مبالغة، ويراد بها هنا غزارة الأمطار المنهمرة نتيجة العصر الحاصل للغيوم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 355

وبالإضافة لكون المطر منبعاً لكثير من مصادر الخير والبركة، فهو: ملطف للجو، مزيل للتلوثات الموجودة في الجو، مخفض للحرارة ومعدل للبرودة، مقلل لأسباب الأمراض، يمنح الإنسان روحاً متجددة ونشاطاً، ومع كل ذلك .. فقد ذكر القرآن ثلاث فوائد اخرى له:

«لّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا». «وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا». «ألفافاً»: أي إلتفّ بعضها ببعض لكثرة الشجر.

والآيتان تشيران إلى ما يستفيد منه الإنسان والحيوان من المواد الغذائية التي تخرج من الأرض، فالحبوب الغذائية تشكل قسماً مهمّاً من المواد الغذائية (حبّاً)، والخضر تشكل القسم الآخر (ونباتاً)، وتأتي الفاكهة لتشكل القسم الثالث (وجنّات).

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَ

سُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) سيأتي اليوم الموعود: الآية الاولى من الآيات أعلاه بمثابة نتيجة لما تعرضت له الآيات السابقة ... «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا».

والتعبير ب «يوم الفصل» يحمل بين ثناياه إشارات كثيرة، فسيحدث في ذلك اليوم:

فصل الحق عن الباطل.

فصل المؤمنين الصالحين عن المجرمين.

فصل الوالدين عن أولادهم، والأخ عن أخيه ...

و «الميقات»: من الوقت، الميعاد من الوعد، بمعنى الوقت المعين والمقرر، وإنّما سمّيت الأماكن التي يحرم منها حجاج بيت اللَّه الحرام ب «المواقيت» لأنّ الاجتماع فيها يكون في وقت معين.

ويتناول القرآن الكريم بعض خصائص ذلك اليوم العظيم، فيقول: «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا».

ويستفاد من آيات القرآن أنّ ثمّة نفختان عظيمتان ستحدثان باسم (نفخ الصور) .. ففي النفخة الاولى سينهار كل عالم الوجود، ويخرّ ميتاً كل من في السماوات والأرض، وفي النفخة الثانية يتجدّد عالم الوجود وتعود الحياة إلى الأموات مرّة اخرى، ليقوم بعدها يوم القيامة وأمّا ما ورد في الآية فيختص بنفخة الصور الثانية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 356

وتأتي الآية الاخرى لتقول: «وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا». فاتصل به عالم الإنسان بعالم الملائكة «1».

وتأتي الآية الأخيرة لتخبرنا عن حال الجبال في ذلك اليوم الحق: «وَسُيّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا».

بملاحظة ما جاء في القرآن الكريم بخصوص مصير الجبال ليوم القيامة تظهر لنا أنّ الجبال ستطويها مراحل متعاقبة، تبدأ حركتها من: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا» «2».

ثم تُحمل وتُدك: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً» «3».

فتكون تلالًا من الرمال المتراكمة: «وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا» «4».

فتصبح كأصواف منفوشة: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ» «5».

فتتحول غباراً متناثراً في الفضاء: «وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا* فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًّا» «6».

ولا يبقى منها أخيراً إلّاالأثر، كما أشارت لذلك الآية المبحوثة.

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ

فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَ لَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزَاءً وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) جهنم ... المرصاد الرهيب: بعد أن بيّن القرآن الكريم في الآيات السابقة بعض أدلة المعاد وتناول قسماً من حوادث يوم القيامة، يذكر في هذه الآيات ما يؤول إليه حال المجرمين، فيقول: «إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا». وهي: «لِّلطَّاغِينَ مَابًا». وأنّهم: «لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا».

«المرصاد»: اسم مكان يختفى فيه للمراقبة؛ و «المآب»: هو محل الرجوع، ويأتي أحياناً بمعنى المنزل والمقر، وهو المقصود في هذه الآية.

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 20/ 166 ذيل الآية مورد البحث.

(2) سورة طور/ 10.

(3) سورة الحاقّة/ 14.

(4) سورة المزمّل/ 14.

(5) سورة القارعة/ 5.

(6) سورة الواقعة/ 5 و 6.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 357

و «الأحقاب»: جمع (حقب) على وزن (قفل)، بمعنى برهة زمانية غير معينة.

وتشير الآيات- بعد ذلك- إلى جانب صغير من عذاب جهنم الأليم، بالقول: «لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا». «إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا»، إلّاظلّ من الدخان الغليظ الخانق كما أشارت إلى ذلك الآية (43) من سورة الواقعة: «وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ». «الحميم»: هو الماء الحار جدّاً؛ و «الغسّاق»:

هو ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد والقيح.

في حين أنّ أهل الجنة يسقيهم ربّهم جلّ شأنه بالأشربة الطاهرة، كما جاء في الآية (21) من سورة الإنسان: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا».

ولكن، لِمَ هذا العذاب الأليم؟ فتأتي الآية التالية: إنّما هو: «جَزَاءً وِفَاقًا».

ولِمَ لا يكون كذلك .. وقد أحرقوا في دنياهم قلوب المظلومين، وتجاوزوا بتسلطهم وظلمهم وشرّهم على رقاب الناس دون أن يعرفوا للرحمة معنى، فجزائهم

يناسب ما اقترفوا من ذنوب عظام.

ويذكر القرآن سبب الجزاء فيقول: «إِنَّهُمْ كَانُوا لَايَرْجُونَ حِسَابًا».

وبعبارة اخرى: إنّ عدم الإيمان بالحساب سبب للطغيان، فيكون الطغيان سبباً لذلك الجزاء الأليم.

لأنّهم تناسوا حساب يوم القيامة بالكلية: ولم يفرزوا له مكاناً في كل حياتهم.

ومباشرة يضيف القرآن القول: «وَكَذَّبُوا بَايَاتِنَا كِذَّابًا».

فقد أحكمت الأهواء النفسانية قبضتها عليهم حتى جعلتهم يكذبون بآيات اللَّه تكذيباً شديداً، وأنكروها إنكاراً قاطعاً ليواصلوا أمانيهم الإجرامية باتباعهم المفرط لأهوائهم النفسانية ونوازعهم الدنيوية.

ينبه القرآن الطغاة على وجود الموازنة بين الجرم والعقاب في العدل الإلهي، فيقول:

«وَكُلَّ شَىْ ءٍ أَحْصَيْنهُ كِتَابًا».

فلا تظنوا أنّ شيئاً من أعمالكم سيبقى بلا حساب أو عقاب، ولا تساوركم الشكوك بعدم عدالة العقوبات المقررة لكم.

وفي هذا المجال، يقول القرآن: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 358

مُّسْتَطَرٌ» «1» .. وفي موضع آخر يقول: «وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ» «2». ولذلك يصرخ المجرمون بالقول: «يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «3».

حينما يستلمون كتابهم الحاوي على كل ما فعلوه في الحياة الدنيا. وممّا لا شك فيه، أنّ إدراك حقيقة الآيات الربانية بكامل القلب، سوف يدفع الإنسان لأن يكون دقيقاً في جميع أعماله، وسيكون اعتقاده الجازم بمثابة السدّ المنيع بينه وبين ارتكاب الذنوب، ومن العوامل المهمّة والمؤثرة في العملية التربوية.

ويتغيّر لحن الخطاب في الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة، فينتقل من التكلم عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر: ويهدد القرآن بنبرات غاضبة اولئك المجرمين، ويقول: «فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا».

وهذا هو جزاء اولئك الذين يواجهون دعوات الأنبياء الداعية إلى اللَّه والإيمان والتقوى، بقولهم: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ» «4».

حتى روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «هذه الآية أشدّ

ما في القرآن على أهل النار» «5».

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَ أَعْنَاباً (32) وَ كَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَ كَأْساً دِهَاقاً (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لَا كِذَّاباً (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) ممّا وعد اللَّه المتقين: كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل

______________________________

(1) سورة القمر/ 52 و 53.

(2) سورة يس/ 12.

(3) سورة الكهف/ 49.

(4) سورة الشعراء/ 136.

(5) تفسير الكشاف 4/ 210؛ وتفسير الصافي 5/ 276.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 359

بعض ما وعد اللَّه المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كل من الفريقين، على ضوء تفكيره بمصيره الأبدي. فيقول مبتدءً الحديث: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا».

ومن مفردات الفوز والسعادة: «حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا».

وقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله في خصوص العنب أنّه قال: «خير فواكهكم العنب».

ويتطرق القرآن إلى نعمة اخرى ممّا وعد اللَّه به المتقين في الجنة، فيقول: «وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا».

«الكواعب»: جمع «كاعب»، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنة؛ و «الأتراب»: جمع «ترب»، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساوين في العمر. قيل: إنّها من «الترائب» وهي: اضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

وتأتي النعمة الرابعة: «وَكَأْسًا دِهَاقًا».

وهو مُذك للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.

ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول القرآن: «لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا».

فالجنة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الإفتراءات، تبرير الباطل، بل وكل ما كان يؤذي قلوب المتقين

في الحياة الدنيا .. إنّها الجنة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: «لَّايَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلمًا».

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كل النعم علوّاً:

«جَزَاءً مِن رَبّكَ عَطَاءً حِسَابًا».

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع ألطاف وإكرام اللَّه جلّ وعلا.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: «رَّبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ».

وبما أنّ صفة «الرحمن» تشمل رحمة اللَّه العامّة لكل خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللَّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنة.

وذيل الآية يقول: «لَايَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 360

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قَالَ صَوَاباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَ يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40) رأينا في الآيات السابقة أنّها تحدثت عن بعض عقوبات الظالمين والطواغيت، وبعض المواهب والنعم المتعلقة بالصالحين في يوم القيامة، وتتناول الآيات أعلاه بعض صفات وحوادث يوم القيامة، وتشرع بالقول ب «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلِكَةُ صَفًّا لَّايَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَابًا».

وبلا شك فإنّ قيام الروح والملائكة صفّاً يوم القيامة، وعدم تكلمهم إلّابإذنه سبحانه، إنّما هو مثولًا للأوامر الإلهية وطاعة، كما هو حالهم قبل قيام القيامة، فهم بأمره يعملون ولكن في يوم القيامة سيتجلّى أمتثالهم للَّه أكثر وبشكل أوضح.

والمراد من «الروح» في الآية المبحوثة هو كونه أحد ملائكة اللَّه العظام، والذي يبدو من بعض الآيات أنّه أعظم من جبرائيل

وبدلالة ما روى على بن إبراهيم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل».

وعلى أيّة حال، فسواء كان «الروح» من الملائكة أو من غيرهم، فإنّه سيقف يوم القيامة مع الملائكة صفّاً بانتظار أوامر الخالق سبحانه، وسيكون هول المحشر بشكل بحيث لا يقوى أيّ من الخلق للتحدث معه.

في تفسير مجمع البيان: روى معاوية بن عمار عن الإمام الصادق عليه السلام قال سئل عن هذه الآية، فقال: «نحن واللَّه المأذون لهم يوم القيامة والقائلون».

قال: جعلت فداك ما تقولون؟

قال: «نُمجّد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا صلى الله عليه و آله ونشفع لشيعتنا، فلا يردنا ربّنا».

ونستفيد من هذه الرواية: أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام سيقفون صفّاً يوم القيامة مع الملائكة والروح، وسيكونون من المأذون لهم في الكلام والشفاعة، وسيكون حديثهم منصباً حول الذكر والثناء والتسبيح للباري عزّ وجل.

ويشير القرآن واصفاً ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس والملائكة أجمعون يوم الفصل،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 361

يوم عقاب العاصين وثواب المتقين، يشير بقوله: «ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ».

«الحق»: هو الأمر الثابت واقعاً، والذي تحققه قطعي. وهذا المعنى ينطبق تماماً على يوم القيامة، لأنّه سيعطى كل إنسان حقّه، إرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وتتكشف كل الحقائق التي كانت مخفية على الآخرين .. فإنّه بحق: يوم الحق، وبكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وإذا ما التفت الإنسان إلى هذه الحقيقة (حقيقة يوم القيامة) فسيتحرك بدافع قوي نحو اللَّه عزّ وجل للحصول على رضوانه سبحانه بإمتثال أوامره تعالى .. ولهذا يقول القرآن مباشرة: «فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَابًا».

فجميع مستلزمات التوجه والحركة نحو اللَّه متوفرة بعد أن بيّن طريق الحق وأشار إلى معالم سبل الشيطان، بلغ اللَّه أوامره بواسطة الأنبياء والرسل وبالقدر الكافي، أودع في

الإنسان العقل (النبي الباطن)، رغّب المتقين بالمفاز، أنذر المجرمين عذاباً أليماً، عيّن يوماً لمحكمة العدل الإلهي بيّن اسلوب المحاكمة، ولم يبق للإنسان سوى اختيار ما يتخذه إلى ربّه مآباً، وبمحض إرادته.

ثم يؤكّد القرآن على مسألة عقاب المجرمين الذين يتوهمون أنّه يوم بعيد أو نسيئة، يقول القرآن ... إنّ عقاب المجرمين لواقع، ويوم القيامة لقريب: «إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا».

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة (103) نهج البلاغة: «كل آت قريب دان».

ولِم لا يكون قريباً ما دام الأساس في العذاب الإلهي هو نفس أعمال الإنسان والتي هي معه على الدوام: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ» «1».

وبعد أن وجّه الإنذار للناس، يشير القرآن إلى حسرة الظالمين والمذنبين في يوم القيامة، حين لا ينفع ندم ولا حسرة، إلّامن أتى اللَّه بقلب سليم: «يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرَابًا».

وأساساً فإنّ تجسّم الأعمال ومرافقتها للإنسان من أفضل المكافآت للمطيعين وأشدّ عقوبة للعاصين.

نعم، فقد يصل الأمر بالإنسان، وعلى الرغم من كونه أشرف المخلوقات، لأنّ يتمنى أن يكون والجمادات بدرجة واحدة، لما بدر منه من كفر وذنوب.

______________________________

(1) سورة العنكبوت/ 54.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 362

وتصور لنا الآيات القرآنية أحوال الكافرين والمجرمين، وشدّة تأثرهم وتأسفهم وندمهم على ما فعلوا في دنياهم، يوم الفزع الأكبر، فتقول الآية (56) من سورة الزمر: «يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ».

وتقول الآية (12) من سورة السّجدة: «فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا».

أو ما يقوله كل فرد منهم- كما جاء في الآية المبحوثة-: «يَا لَيْتَنِى كُنتُ تُرُابًا».

«نهاية تفسير سورة النبأ»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 363

79. سورة النازعات

محتوى السورة: تتلخص مواضيع هذه السورة بستة أقسام:

1- التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

2- الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

3- عرض سريع

لقصة موسى عليه السلام مع الطاغي فرعون، تسلية للنبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وإنذاراً للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يترتب على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

4- طرح بعض النماذج والمظاهر لقدرة الباري سبحانه في السماء والأرض، للاستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

5- تعود الآيات مرّة اخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

6- وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

سميت السورة ب (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 364

والنازعات لم يكن حبسه وحسابه يوم القيامة إلّاكقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنة».

وليس غربياً أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاءً من عند اللَّه، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة، والمعرّفة بوظائف الإنسان في حياته، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

وَ النَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) القسم بالملائكة: جاء القَسم القرآني بخمسة أشياء مهمة، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة (المعاد)، فيقول: «وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ...».

«النازعات»: من «النزع»، ونزع الشي ء جذبه من مقرّه.

«الغَرق»: هو الرسوب في الماء، ويأتي كذلك فيمن غمره البلاء؛ والمقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.

«النّاشطات»: من «النشط»، هي العُقد التي يسهل حلها، فيكون المعنى عموماً: هو التحرك بسهولة.

«السابحات»: من «السبح»، وهو الحركة السريعة

في الماء أو الهواء.

«السابقات»: من «السبق»، وهو التقدم في السير.

«المدبرات»: من «التدبير»، وهو التفكير في عاقبة الامور، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:

إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار والمجرمين، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثم الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 365

وأخيراً، يتعلق القسم بالملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) صيحة الموت المرعبة: بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث، فتقول: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ». أي: يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثم: «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ».

«الراجفة»: من «الرجف»، بمعنى الإضطراب والتزلزل.

«الرادفة»: من «الردف»، وهو الشخص أو الشي ء الذي يأتي بعد نظيره تتابعاً.

إنّ «الراجفة» هي الصيحة ونفخة الصور الاولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق، و «الرادفة» هي الصيحة ونفخة الصور الثانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اخرى ليعيشوا يوم القيامة.

وتأتي الآية الاخرى لتقول: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ».

فقلوب العاصين شديدة الإضطراب خوفاً من الحساب والجزاء.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كل المذنبين، ولذا يقول القرآن: «أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ».

فيبدو الإضطراب والخوف ظاهراً على أعين المذنبين، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما

أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا: «يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ».

«الحافرة»: من «الحفر» بمعنى شقّ الأرض، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة).

و «الحافرة»: كناية لمن يُرد من حيث جاء، كما لو سار إنسان على أرض، فيترك فيها حفراً لتحمل آثار قدمه، ثم يعود إلى نفس تلك الحفر، فالحافرة: تعني الحالة الاولى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 366

وتستمر الآية في سرد كلامهم: «أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً». فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد، وبقولهم المعروف: كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اخرى جسماً كاملًا، والأكثر من هذا .. أن تسري فيه الحياة؟ ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئاً؟

ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الإعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه، بل وتحولوا إلى حال الإستهزاء بأحد اصول دين اللَّه: «قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ».

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة، وبلسان قاطع، يقوق: «فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ* فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ».

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق، نعم .. فتشرع كل تلك العظام النخرة وما صار منها تراباً للتجمع على الهيئة الاولى، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة.

«الزجرة»: بمعنى صيحة بشدّة وانتهار، ويراد بها: نفخة الصور الثانية.

«الساهرة»: من «السهر»، وهو الأرق، وقيل: لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ

طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَ عَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصة موسى عليه السلام وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 367

ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللَّه أسهل من أن يتصور .. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبي صلى الله عليه و آله بصيغة الإستفهام: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ مُوسَى . ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصة ذات العبر.

ثم يقول: «إِذْ نَادَيهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى».

«طوى»: يمكن أن يكون اسماً لأرض مقدّسة، تقع في الشام بين (مدين) و (مصر)، وهو الوادي الذي كلّم اللَّه تعالى فيه موسى عليه السلام أوّل مرّة.

ثم أشار القرآن إلى تعليمات اللَّه عزّ وجل إلى موسى عليه السلام في الواد المقدس: «اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى . وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء اللَّه، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات: «وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبّكَ فَتَخْشَى .

ولمّا كانت كل دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: «فَأَرَيهُ الْأَيَةَ الْكُبْرَى .

ولكن، ما الآية

الكبرى؟ هل هي عصا موسى عليه السلام التي تحولت إلى أفعى عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ وعلى أيّة حال، فالمهم في المسألة إنّ موسى عليه السلام استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

وتبيّن لنا هذه الملاحظة: إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

لكن فرعون المتجبّر قابل كل تلك المحبة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى، قابل كل ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله: «فَكَذَّبَ وَعَصَى .

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له، كما هو حال التصديق والإيمان باعتباره مقدمة للطاعات.

وازداد فرعون عتوّاً: «ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى .

وقد هددت معجزة موسى عليه السلام كل وجود فرعون الطاغوتي، مما دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كل سحرة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 368

البلاد- على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية- ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها: «فَحَشَرَ فَنَادَى . ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً، وافترى على اللَّه وعلى نفسه بأقبح ادعاء، حينما ادعى لنفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته: «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى .

فادّعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده! .. نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْأَخِرَةِ وَالْأُولَى .

«النكال»: لغةً: العجز والضعف. ويقال لمن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل).

و (النِكل)- على وزن فكر- القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل

أيّ شي ء.

و «نكال»: في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدّي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب.

«نكال الآخرة»: عذاب جهنم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه؛ و «عذاب الاولى»: إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل: «الاولى»: تشير إلى كلمة فرعون الاولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الالوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.

و «الآخرة»: إشارة إلى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعى (الربوبية العليا)، فعذّبه اللَّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كل العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدّ العذاب عبرةً للآخرين.

ويستخلص القرآن نتيجة القصة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى .

فتبيّن الآية إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللَّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 369

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَ أَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا (31) وَ الْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ (33) اللمسات الربانية في عالم الطبيعة ونظام الكون: ينتقل البيان القرآني مرّة اخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصة موسى عليه السلام مع فرعون. وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: «ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا».

والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من قولهم في الآيات السابقة: «أَءِنَّا

لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ»- أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاولى- فكل إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان ... وإذاً فمن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحاً بتفصيل: «رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّيهَا».

وقيل: إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ، والغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية.

ثم تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير، (نظام النور والظلمة): «وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحهَا».

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من إرتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش»: من «الغطش»، بمعنى الظلام.

«الضحى»: إنبساط الشمس وإمتداد النهار.

وتنتقل بنا الآية الاخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحهَا».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 370

مختصر الامثل ج 5 399

«دحاها»: من «الدحو» بمعنى الإنبساط، وفسّرها بعضهم بتحريك الشي ء و نقله من مكانه. وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما. ويقصد بدحو الأرض، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة، ثم استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفظات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت تدريجياً، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، (وحدث ذلك بعد خلق السماء

والأرض).

وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً: «أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعهَا».

ويظهر من التعبير القرآني، إنّ الماء قد نفذ إلى داخل الأرض بادي ء ذي بدء، ثم خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى»: اسم مكان من (الرعي)، وهو حفظ ومراقبة امور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها. ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الامور.

ثم ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال»، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المدّ والجزر، والزلازل .. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل اللَّه عزّ وجل «الجبال» تثبيتاً للأرض، ولهذا تقول الآية: «وَالْجِبَالَ أَرْسهَا».

«أرسى»: من «رسو»، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد؛ أي، ثبّت الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: «مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ».

كل ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللَّه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة اخرى على وجود اللَّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللَّه وتوحيده.

فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَ آثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 371

التنزّه عن الهوى: وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا:

«فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى .

«الطامة»: من «الطم» وهو

في الأصل بمعنى مل ء الفراغ والحفر، ويطلق بالطامة على كل شي ء بلغ حدّه الأعلى، ولهذا فقد اطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كل هول، واتبعت ب «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف: حال حلول الحدث ... سيستيقظ الجميع من غفلتهم، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم: «يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ مَا سَعَى .

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر، فسيقرعون ب «كَلَّا».

وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردّهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

نعم، وقد ازيلت الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتتحرك الآية التالية لوصف ما سيقع: «وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى .

فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ». ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأمّا في يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كل شي ء ولا يستثنى من ذلك جهنم.

وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة: «فَأَمَّا مَن طَغَى وَءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى .

والآية الاولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال اللَّه يتصاغر الإنسان حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، مادام سلوكه يصب في رافد معرفة اللَّه.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهماً لأن يجعلها فوق كل شي ء.

مختصر الامثل، ج 5،

ص: 372

والأمران في واقعهما كالعلّة والمعلول، فالطغيان وفساد العقيدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط، ولا يجران إلّاإلى سوء عقبى الدار، نار جهنم خالدين فيها أبداً.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنة: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى .

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنة والإستقرار بها هو الخوف من اللَّه من خلال معرفته (معرفة اللَّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللَّه.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة)، فتقول أوّلًا: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسهَا».

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم صلى الله عليه و آله، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها، ويقول: «فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَيهَا».

فما خفي عليك (يا محمّد)، فمن باب أولى أن يَخفى على الآخرين، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه اللَّه لنفسه، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقاً.

وتقول الآية التالية: «إِلَى رَبّكَ مُنتَههَا».

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآية (34) من سورة لقمان: «إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ».

وفي الآية (187) من سورة الأعراف: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبّى».

وتسهم الآية التالية في التوضيح: «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشهَا».

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحق،

وإنذار من يأبى بعقاب اخروي أليم، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس بالكثير:

«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحهَا».

«نهاية تفسير سورة النّازعات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 373

80. سورة عبس

محتوى السورة: يمكن ادراج محتويات السورة في خمسة مواضيع أساسية:

1- عتاب إلهي شديد لمن واجه الأعمى الباحث عن الحق باسلوب غير لائق.

2- أهمية القرآن الكريم.

3- كفران الإنسان بالنعم والمواهب الإلهية.

4- بيان جانب من النعم الإلهية في مجال تغذية الإنسان والحيوان لاثارة حس الشكر في الإنسان.

5- الإشارة إلى بعض الحوادث الرهيبة ومصير المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العظيم.

وتسمية السورة ب (عبس) لورود هذه الكلمة في أوّل آية منها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر».

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ مَا عَلَيْكَ أَنْ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَ هُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 374

سبب النّزول

تبيّن الآيات المباركة عتاب اللَّه تعالى بشكل إجمالي، لشخص قدّم المال والمكانة الإجتماعية على طلب الحق ... أمّا مَن هو المعاتَب؟ فقد اختلف فيه المفسرون، لكن المشهور بين عامّة المفسرين وخاصتهم، ما يلي:

إنّها نزلت في عبد اللَّه بن ام مكتوم، وذلك أنّه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وابيّاً واميّة إبني خلف، يدعوهم إلى اللَّه، ويرجو

إسلامهم. فقال: يا رسول اللَّه! أقرئني وعلمني ممّا علمك اللَّه، فجعل يناديه ويكرر النداء، ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه، وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآيات. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد ذلك يكرمه «1».

والآية لم تدل صراحة على أنّ المخاطب هو شخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله، وعلى فرض صحة شأن النزول آنفة الذكر، فإنّ فعل النبي صلى الله عليه و آله والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة.

التّفسير

عتاب ربّاني: بعد أن تحدثنا حول شأن نزول الآيات، ننتقل إلى تفسيرها:

يقول القرآن أوّلًا: «عَبَسَ وَتَوَلَّى .

لماذا؟: «أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى . «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، ويطلب الإيمان والتقوى والتزكية.

«أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى ، فإن لم يحصل على التقوى، فلا أقل من أن يتذكر ويستيقظ من الغفلة، فينفعه ذلك.

ويستمر العتاب ...: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، مَن اعتبر نفسه غنياً ولا يحتاج لأحد.

«فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى ، تتوجّه إليه، وتسعى في هدايته، في حين أنّه مغرور لما أصابه من الثروة، والغرور يولّد الطغيان والتكبر.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 265.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 375

«وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . أي في حين لو لم يسلك سبيل التقوى والإيمان، فليس عليك شي ء.

فوظيفتك البلاغ، سواء آمن السامع أم لم يؤمن، وليس لك أن تهمل الأعمى الذي يطلب الحق، وإن كان هدفك أوسع ويشمل هداية كل اولئك الأغنياء المترفين أيضاً.

ويأتي العتاب مرّة اخرى تأكيداً: «وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى ، في طلب الهداية ...

«وَهُوَ يَخْشَى

. فخشيته من اللَّه هي التي دفعته للوصول إليك، كي يستمع إلى الحقائق ليزكّي نفسه فيها، ويعمل على مقتضاها.

«فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى «1».

فالعتاب سواء كان موجه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله أو إلى غيره، فقد جاء ليكشف عن اهتمام الإسلام أو القرآن بطالبي الحق، والمستضعفين منهم بالذات.

وعلى العكس من ذلك حدّة وصرامة موقف الإسلام والقرآن من الأثرياء المغرورين إلى درجة أنّ اللَّه لا يرضى بإيذاء رجل مؤمن مستضعف لغرض هدايتهم.

كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) تأتي هذه الآيات المباركة لتشير إلى أهمية القرآن وطهارته وتأثيره في النفوس، بعد أن تناولت الآيات التي سبقتها موضوع (الإعراض عن الأعمى الذي جاء لطلب الحق)، فتقول: «كَلَّا». فلا ينبغي لك أن تعيد الكرّة ثانية.

«إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ». إنّما الآيات القرآنية تذكرة للعباد، فلا ينبغي الإعراض عن المستضعفين من ذوي القلوب النقية الصافية والتوجه إلى المستكبرين، اولئك الذين ملأ الغرور نفوسهم المريضة.

ويحتمل أيضاً، كون الآيات «كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ» جواب لجميع التهم الموجهة ضد القرآن من قبل المشركين وأعداء الإسلام.

______________________________

(1) «التلهي»: من «اللهو» ويأتي هنا بمعنى الغفلة عنه والإستغفال بغيره، ليقف في قبال «التصّدي».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 376

تقول الآية: إنّ الأباطيل والتهم الزائفة التي افتريتم بها على القرآن من كونه شعر أو سحر أو نوع من الكهانة، لا يمتلك من الصحة شيئاً، وإنّما الآيات القرآنية آيات تذكرة وإيمان، ودليلها فيها.

وتشير الآية التالية إلى

اختيارية الهداية والتذكّر: «فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ».

نعم، فلا إجبار ولا إكراه في تقبل الهدي الرباني، فالآيات القرآنية مطروحة وأسمعت كل الآذان، وما على الإنسان إلّاأن يستفيد منها أو لا يستفيد.

ثم يضيف: أنّ هذه الكلمات الإلهية الشريفة مكتوبة في صحف (ألواح وأوراق): «فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ».

إنّ تعبير «الصحف» يوضّح لنا أنّ القرآن قد كُتب على ألواح من قبل أن يُنزّل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، ووصلت إليه بطريق ملائكة الوحي، والألواح بطبيعتها جليلة القدر وعظيمة الشأن.

وهذه الصحف المكرمة: «مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ». فهي مرفوعة القدر عند اللَّه، وأجلّ من أن تمتد إليها أيدي العابثين وممارسات المحرّفين، ولكونها خالية من قذارة الباطل، فهي أطهر من أن تجد فيها أثراً لأيّ تناقض أو تضاد أو شك أو شبهة.

وهي كذلك: «بِأَيْدِى سَفَرَةٍ»، سفراء من الملائكة.

وهؤلاء السفراء: «كِرَامٍ بَرَرَةٍ».

«سفرة»: جمع (سَافِرْ) من (سَفَر)، ولغةً: بمعنى كشف الغطاء عن الشي ء، ولذا يطلق على الرسول ما بين الأقوام (السفير) لأنّه يزيل ويكشف الوحشة فيما بينهم، ويطلق على الكاتب اسم (السافر)، وعلى الكتاب (سِفر) لما يقوم به من كشف موضوع ما ... فالسفرة هنا، بمعنى:

الملائكة الموكلين بإيصال الوحي الإلهي إلى النبي، أو الكاتبين لآياته.

في تفسير مجمع البيان: روى فضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة».

يجعل الحافظين للقرآن العاملين به في درجة السفرة الكرام البررة، فليسوا هم السفرة بل في مصافهم، لأنّ جلالة مقام حفظهم وعملهم، يماثل ما يؤديه حملة الوحي الإلهي.

«كرام»: جمع «كريم»، بمعنى العزيز المحترم، وتشير كلمة «كرام» في الآية إلى عظمة ملائكة الوحي عند اللَّه وعلوّ منزلتهم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 377

«بررة»: جمع «بار»، من «البَرّ»، بمعنى التوسع، ولذا يطلق على الصحراء الواسعة

اسم (البَرْ)، كما يطلق على الفرد الصالح اسم (البار) لوسعة خيره وشمول بركاته على الآخرين.

و «البررة»: في الآية، بمعنى إطاعة الأمر الإلهي، والطهارة من الذنوب.

وعلى الرغم من توفير مختلف وسائل الهداية إلى اللَّه، ومنها ما في الصحف المكرمة من تذكير وتوجيه .. ولكن الإنسان يبقى عنيداً متمرداً: «قُتِلَ الْإِنسنُ مَا أَكْفَرَهُ».

«الكفر»: في هذا الموضع قد يحتمل على ثلاثة معان ... عدم الإيمان، الكفران وعدم الشكر ... جحود الحق وستره بأيّ غطاء كان وعلى كل المستويات.

«قُتِلَ الْإِنسنُ»: كناية عن شدّة غضب الباري جلّ وعلا، وزجره لمن يكفر بآياته.

ثم يتعرض البيان القرآني إلى غرور الإنسان الواهي، والذي غالباً ما يوقع صاحبه في هاوية الكفر والجحود السحيقة: «مِنْ أَىّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ».

لقد خلقه من نطفة قذرة حقيرة، ثم صنع منه مخلوقاً موزوناً مستوياً قدّر فيه جميع اموره في مختلف مراحل حياته: «مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ».

فالنظرة الفاحصة الممعنة في خلق الإنسان من نطفة قذرة وتحويله إلى هيئته التامّة المقدرة من كافة الجهات، ومع ما منحه اللَّه من مواهب وإستعدادات ... لأفضل دليل يقودنا بيسر إلى معرفته جلّ اسمه.

«قدّره»: من «التقدير»، وهو الحساب في الشي ء.

والتقدير بمعنى إيجاد القدرة في هذه النطفة المتناهية في الصغر.

فما أجلّ الإله الذي الذي جعل في موجود ضعيف كل هذه القدرة والإستطاعة، فترى النطفة بعد أن تتحول إلى الإنسان تسير وتتحرك بين أقطار السماوات والأرض، وتغوص في أعماق البحار وقد سخرت لها كل ما يحيط بها من قوى

ويستمر القرآن في مشوار المقال: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» ... يسّر له طريق تكامله حينما كان جنيناً في بطن امّه، يسّر له سبيل خروجه إلى الحياة من ذلك العالم المظلم.

ومن عجيب خلق الإنسان أنّه قبل خروجه من بطن امّه يكون

على الهيئة التالية: رأسه إلى الأعلى ورجليه إلى الأسفل، ووجهه متجهاً صوب ظهر امّه، وما أن تحين ساعة الولادة حتى تنقلب هيئته فيصبح رأسه إلى الأسفل كي تسهل وتتيسّر ولادته.

وبعد ولادته يمرّ الإنسان في مرحلة الطفولة التي تتميز بنموه الجسمي، ثم مرحلة نمو

مختصر الامثل، ج 5، ص: 378

الغرائز، فالرشد في مسير الهداية الإيمانية والروحية، ويساهم العقل ودعوة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام في تركيز معالم شخصية وبناء الإنسان روحياً وإيمانياً. وتشير الآية التالية إلى الأمر الحتمي الذي به تطوى آخر صفحات مشوار الحياة الدنيا:

«ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ».

وحكم دفن الأموات (بعد الغسل والتكفين والصلاة)، يبيّن لنا ... أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون طاهراً محترماً في موته، فكيف به يا تُرى وهو حيّ؟!

وينتقل البيان القرآني إلى يوم القيامة: «ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ».

«أنشره»: من «النشر»، بمعنى الإنبساط بعد الجمع، فالكلمة تشير باسلوب بلاغي رائع إلى جمع كل حياة الإنسان عند الموت لتنشر في محيط أكبر وأعلى (يوم القيامة).

وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه اللَّه من المواهب، فبالرغم من حتمية تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنّه .. «كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ».

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28) وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا (29) وَ حَدَائِقَ غُلْباً (30) وَ فَاكِهَةً وَ أَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعَامِكُمْ (32) فلينظر الإنسان إلى طعامه: تحدثت الآيات السابقة حول مسألة المعاد، والآيات القادمة تتناول نفس الموضوع بشكل أوضح، ويبدو أنّ الآيات المبحوثة-

وانسياقاً مع ما قبلها وما بعدها- تتطرق لذات البحث وتبيّن مفردات قدرة الباري جلّ شأنه على كل شي ء كدليل على إمكان تحقق المعاد، فما يقرّب إمكانية القيامة إلى الأذهان هو إحياء الأراضي الميتة بإنزال المطر عليها، العملية تمثل إحياء بعد موت مختصة بعالم النبات.

ثم إن البيان القرآني في الآيات أعلاه قد طرح بعض مفردات الأغذية التي جعلها اللَّه تحت تصرف الإنسان والحيوان، لتثير عند الإنسان الإحساس بضرورة شكر المنعم الواهب، وهذا الإحساس بدوره سيدفع الإنسان ليتقرب في معرفة بارئه ومصوّره.

وشرعت الآيات بقولها: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ»، كيف خلقه اللَّه تعالى؟!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 379

الغذاء من أقرب الإشياء الخارجية من الإنسان وأحد العوامل الرئيسية في بناء بدنه، ولولاه لتقطّعت أنفاس الإنسان وأسدلت ستارة نصيبه من الحياة، ولذلك جاء التأكيد القرآني على الغذاء وبالذات النباتي منه دون بقية العوامل المسخّرة لخدمة هذا المخلوق الصغير في حجمه.

ومن الجلي أنّ «النظر» المأمور به في الآية جاء بصيغة المجاز، واريد به التأمل والتفكير في بناء هذه المواد الغذائية، وما تحويه من تركيبات حياتية، وما لها من تأثيرات مهمّة وفاعلة في وجود الإنسان، وصولًا إلى حال التأمل في أمر خالقها جلّ وعلا.

وهكذا النظر إلى كيفية حصوله ... فهل كان من حلال أم من حرام؟ هل هو مشروع أم غير مشروع؟ أي ينظر إلى طعامه من جانبيه الأخلاقي والتشريعي.

وقد ذُكر في بعض روايات أهل البيت عليهم السلام إنّ المراد ب «الطعام» في الآية هو (العلم) لأنّه غذاء الروح الإنسانية.

في الكافي: زيد الشحام عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجل «فَلْيَنْظُرِ الْإِنسنُ إِلَى طَعَامِهِ» قال: قلت ما طعامه؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه».

نعم ... ينبغي على الإنسان أن

يكون دقيقاً في متابعة مصدر ومنبع علمه ليطمئن لغذائه الروحي، وليأمن بالنتيجة من مدلهمات الخطوب التي تؤدّي لمرض الروح أو هلاكها.

ثم يدخل القرآن في شرح تفصيلي لماهية الغذاء ومصدر تشكيله، فيقول «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا».

«الصب»: إراقة الماء من أعلى، وجاء هنا بمعنى هطول المطر. نعم .. فالماء مصدر رئيسي للحياة، وهو على الدوام ينزل من السماء وبغزارة ليجسد لطف اللَّه تعالى على خلقه.

كيف لا، وكل العيون والآبار والقنوات والأنهار قد استمدت أساس وجودها من الأمطار.

وبعد ذكر نعمة الماء وما له من أثر حيوي ومهم في نمو النباتات، ينتقل البيان القرآني إلى الأرض، فيقول: «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا».

إنّ الآية تشير إلى عملية شقّ الأرض بواسطة النباتات التي تبدأ بالظهور على سطح الأرض بعد عملية بذر الحبوب، والعلمية بحدّ ذاتها مدعاة للتأمل، إذ كيف يمكن لهذا العشب الصغير الناعم أن يفتت سطح التربة مع ما لها من صلابة وخشونة، بل ونرى في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 380

المناطق الجبلية أنّ سويقات نباتاتها قد ظهرت من بين حافات صخورها الصلدة. وثمة تفسير اخرى يقول: إنّ شقّ الأرض في الآية إشارة إلى تفتت الصخور التي كانت على سطح الأرض.

فالآية تمثل إحدى مفردات الإعجاز العلمي للقرآن، لأنّها تناولت موضوع الأمطار وتشقق الأرض لتضحى قابلة للزراعة، بشكل علمي دقيق، والآية لم تتحدث عن شي ء قد حدث، بل حدث ولا زال. يبدو أنّ هذا التفسير ينسجم مع ما تطرحه الآية التالية بخصوص عملية الإنبات.

وبعد ذكر ركنين أساسيين في عملية الإنبات- أي الماء والتراب- ينتقل القرآن بالإشارة إلى ثمانية مصادر لغذاء الإنسان أو الحيوان: «فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا».

تعتبر الحبوب من الأغذية الرئيسية للإنسان والحيوان معاً، وتتوضح أهميتها فيما لو عمّ الجفاف- على سبيل المثال- فمدّة

عام واحد، حيث يعمّ القحط وتنتشر المجاعة في كل مكان.

ثم يضيف: «وَعِنَبًا وَقَضْبًا».

وقد اختارت الآية العنب دون البقية لما اودع فيه من مواد غذائية غنية بالمقويات، حتى قيل عنه بأنّه غذاء كامل.

ومع أنّ «العنب» يطلق على الشجرة والثمرة، وبالرغم من ورود كلا الإستعمالين في الآيات القرآنية، لكن المناسب هنا الثمرة دون الشجرة.

«قضباً»: هو الخضراوت التي تؤكل طرية والنباتات الزاحفة وكذا الأرضية.

ثم يضيف: «وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا».

ومن الواضح أنّ ذكر هاتين الفاكهتين لما لهما من الأهمية الغذائية للإنسان، حيث يعتبر الزيتون والتمر من أهم الأغذية المقوية والصحية والمفيدة للإنسان.

وتأتي المرحلة التالية: «وَحَدَائِقَ غُلْبًا».

«الحدائق»: جمع (حديقة)، وهي الأرض المزروعة والمحاطة بسور يحفظها، وهي في الأصل بمعنى: قطعة الأرض التي تحتوي على الماء، وسميّت حديقة تشبيهاً بحدقة العين من حيث الهيئة وحصول الماء فيها.

ويحتمل إشارة الآية إلى أنواع الفواكه، باعتبار أنّ الحدائق غالباً ما تزرع بأشجار الفاكهة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 381

«غلب»: على وزن (قفل)، جمع (أغلب) و (غلباء)، بمعنى غليظ الرقبة، فلآية إذن ترمز إلى الأشجار الشاهقة المتينة.

ثم يضيف: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا».

«الأبّ»: (بتشديد الباء)، هو المرعى المُهيأ للرعي والحصد، وهو في الأصل بمعنى «التهيؤ»، اطلق على المرعى لما فيه من أعشاب يكون بها مهيئاً لاستفادة الحيوانات منه.

ويواجهنا سؤال: إذا كانت الآيات السابقة ذكرت بعض أنواع الفاكهة، والآية المبحوثة تناولت الفاكهة بشكل عام، هذا بالإضافة إلى ذكر ال «حدائق» في الآية السابقة والتي قيل أنّ ظاهرها يشير إلى الفاكهة ... فلِم هذا التكرار؟

الجواب: إنّ تخصيص ذكر العنب والزيتون والتمر (بقرينة ذكر النخل)، إنّما جاء ذكرها لأهميتها المميزة على بقية الفاكهة.

أمّا لماذا ذكرت الحدائق بشكل منفصل عن الفاكهة؟ فيمكن حمله على ما للحدائق من منافع خاصة بها، ولا تشترك الفاكهة فيها، كجمالية منظرها

وعذوبة نسيمها وما شابه ذلك، بالإضافة إلى استعمال أوراق الأشجار وجذورها وقشور جذوعها كمواد غذائية (كالشاي والزنجبيل وأمثالها)، أمّا بالنسبة للحيوانات، فأوراق الأشجار المختلفة من أفضل أغذيتها عموماً ... فالآيات إذن كانت في صدد الحديث عن غذاء الإنسان والحيوان.

ولذلك ... جاءت الآية التالية لتوضيح هذا المعنى: «مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ».

و «المتاع»: هو كل ما يستفيد منه الإنسان ويتمتع به.

فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صَاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) صيحة البعث ...: وينتقل الحديث في هذه الآيات إلى يوم القيامة وتصوير حوادثه، وما سيؤول إليه أحوال المؤمنين الكافرين، كل بما كسبت يداه وقدّم.

فمتاع الحياة الدنيا وإن طال فهو قليل جدّاً في حساب حقيقة الزمن، وأنّ خالق كل شي ء لعظيم في خلقه وشأنه، وأنّ المعاد حق ولابدّ من حتمية وقوعه.

ويقول القرآن الكريم: «فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 382

«الصّاخة»: من «صخّ» وهو الصوت الشديد الذي يكاد يأخذ بسمع الإنسان، ويشير في الآية إلى نفخة الصور الثانية، وهي الصيحة الرهيبة التي تعيد الحياة إلى الموجودات بعد موتها جميعاً ليبدأ منها يوم الحشر.

ولذا تأتي الآية التالية، ولتقول مباشرة: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ».

ذلك الأخ الذي ما كان يفارقه وقد ارتبط به بوشائج الاخوة الحقة!

وكذلك: «وَأُمّهِ وَأَبِيهِ».

حتى: «وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ».

فوحشة ورهبة يوم القيامة لا تُنسي الأخ والام والأب والزوجة والأولاد فحسب، بل وتتعدى إلى الفرار منهم، وعندما ستتقطع كل روابط وعلاقات الإنسان الفرد مع الآخرين.

ولكن ... لِم الفرار؟ ... «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ

يُغْنِيهِ».

«يغنيه»: كناية لطيفة عن شدّة انشغال الإنسان بنفسه في ذلك اليوم، ولما سيرى من حادث مذهلة، تأخذه كاملًا، فكراً وقلباً.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال له بعض أهله: يا رسول اللَّه! هل يذكر الرجل يوم القيامة حميمه؟ فقال صلى الله عليه و آله: «ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانه أم يخفّ، وعند الصراط حتى ينظر أيجوزه أم لا، وعند الصحف حتى ينظر بيمينه يأخذ الصحف أم بشماله، فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمه ولا حبيبه ولا قريبه ولا صديقه، ولا بنيه ولا والديه، وذلك قول اللَّه تعالى: «لِكُلّ امْرِىٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»» «1».

وينتقل البيان القرآني ليصور لنا حال العباد بقسميهم في ذلك اليوم، فتقول:

«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ». أي مشرقة وصبيحة.

«ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ». «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ». «تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ». أي تغطيها ظلمات ودخان.

«أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ».

«مسفرة»: من «الأسفار»، بمعنى الظهور بياض الصبح بعد ظلام الليل.

______________________________

(1) البرهان في تفسير القرآن 5/ 586.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 383

«غبرة»: على وزن (غَلَبَة)، من «الغبار».

«قترة»: من «القتار»، وهو شبه دخان يغشي من الكذب.

«الكفرة»: جمع (كافر)، والوصف يشير إلى فاسدي العقيدة.

«الفجر»: جمع (فاجر)، والوصف يشير إلى فاسدي العمل.

ونستخلص من كل ما تقدّم، أنّ آثار فساد العقيدة لدى الإنسان وأعماله السيئة ستظهر على وجهه يوم القيامة.

وقد اختير الوجه، لأنّه أكثر أجزاء الإنسان تعبيراً عمّاً يخالجه من حالات الغبطة والسرور أو الحزن والكآبة.

«نهاية تفسير سورة عبس»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 385

81. سورة التكوير

محتوى السورة: هذه السورة تدور حول محورين أساسيين:

الأوّل: هو ما شرعت به السورة من تبيان علائم يوم القيامة، وما يواجه العالم من تغييرات قبيل يوم القيامة.

الثاني: الحديث عن عظمة القرآن ومن جاء به،

وأثره على النفس الإنسانية، بالإضافة إلى تكرار اليمين والقسم في آيات عدّة لإيقاظ الإنسان من غفلته.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة إذا الشّمس كوّرت أعاذه اللَّه تعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

وروى أبو بكر قال: قلت لرسول اللَّه: يا رسول اللَّه! أسرع إليك الشيب؟ قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتسائلون وإذا الشّمس كوّرت».

وتلاوة القرآن المقصودة في الحديث أعلاه، ينبغي أن يكون بشروطها من: التأمل، الإيمان والعمل.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 386

يوم تطوى الكائنات فيه: نواجه في بداية السورة إشارات قصيرة، مثيرة ومرعبة لما سيجري لنهاية العالم المذهلة، فقد تحدثت هذه الآيات عن ثمانية علائم من ويوم القيامة.

وأوّل مشهد عرضته عدسة العرض القرآني، هو: «إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ».

«كوّرت»: من «التكوير» بمعنى الطي والجمع واللّف (مثل لف العمامة على الرأس).

فالمقصود هو: خمود نور الشمس وذهابه، وتغيّر نظام تكوينها.

وكما بات معلوماً ... فالشمس في وضعها الحالي، عبارة عن كرة مشتعلة، على هيئة غازية ملتهبة، وتتفجر الغازات على سطحها بصورة شعلات هائلة محرقة، قد يصل إرتفاعها إلى مئات الآلاف من الكيلو مترات.

ولو قُدّر وضع الكرة الأرضية وسط شعلة منها، فإنّها تستحيل فوراً إلى رماد وكتلة من الغازات.

ولكن ... عند حلول وقت نهاية العالم، والإقتراب من يوم القيامة، سيخمد ذلك اللهب المروع، وستجمع تلك الشعلات، فيطفأ نور الشمس، ويصغر حجمها ... وهو ما اشير

إليه بالتكوير.

وقد أيّد العلم الحديث هذه الحقيقة، من خلال اعتقاده وبعد دراسات علمية كثيرة، بأنّ الشمس تسير تدريجياً نحو الظلام والإنطفاء.

ويأتي المشهد الثاني: «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ».

«انكدرت»: من «الإنكدار»، بمعنى السقوط والتناثر، واشتق من (الكدورة)، وهي السواد والظلام.

ويمكن جمع المعنيين في الآية، لأنّ النجوم في يوم القيامة ستفقد إشعاعها وتتناثر وتسقط في هاوية الفناء.

والمشهد الثالث: «وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ».

وقد ذكرنا مراحل فناء الجبال، ابتداءً من السير والحركة وانتهاءً بتحولها إلى غبار متناثر (فراجع تفسير الآية 20 من سورة النبأ).

وثم يأتي دور المشهد الرابع: «وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلَتْ».

«العشار»: جمع (عشراء)، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، فأضحت على أبواب الولادة، بعدما امتلأت أثداؤها باللبن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 387

وهي من أحبّ وأثمن النوق لدى العرب زمن نزول الآية المباركة.

«عطلت»: تركت لا راعي لها. فهول ووحشة القيامة، سينسي الإنسان أحبّ وأثمن ما يمتلكه.

وينتقل المشهد الخامس إلى الوحوش: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ».

فالحيوانات الوحشية التي تراها في الحالات العادية تبتعد الواحدة عن الاخرى خوفاً من الإفتراس والبطش، ستراها وقد جمعت في محفل واحد، وكل منها لا يلتفت إلى ما حوله لما سيصاب به من رهبة وأهوال ذلك اليوم الخطير، وكأنّها تقصد من اجتماعها هذا التخفيف عن شدّة خوفها وفزعها.

ونقول: إذا اضمحلت كل خصائص الوحشية للحيوانات غير الأليفة نتيجة لأهوال يوم القيامة، فما سيكون مصير الإنسان حينئذ؟!

وتُصوّر البحار في المشهد السادس: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

«سجّرت»: من «التسجير»، بمعنى إضرام النار.

وإذا خالج القدماء التعجب والإستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، القابلات للإشتعال بسرعة، ولا يستبعد أن يوضع الماء- في إرهاصات يوم القيامة- تحت ضغط شديد ممّا يؤدّي إلى تجزئة وتفكيك عناصره، وعندها سيتحول

إلى كتلة ملتهبة من النار.

ويأتي درو المشهد السابع: «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ».

فتبدأ المآلفة بخلاف حال الدنيا ... فالصالحون مع الصالحين، والمسيؤون مع المسيئين، وأصحاب اليمين مع أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال مع أصحاب الشمال، فإذا ما جاور المؤمن مشركاً، أو تزوج الصالح من غير الصالحة في الحياة الدنيا، فتصنيف يوم لقيامة غير ذلك، فهو يوم الفصل الحق.

ونصل إلى المشهد الثامن: «وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ».

«الموءودة»: من «الوأد» على وزن (وعد)، بمعنى دفن البنت حيّة بعد ولادتها.

وأطلق الأئمة الأطهار عليهم السلام مفهوم الوأد، ليشمل كل قطع رحم وقطع مودّة ... حينما سئل

مختصر الامثل، ج 5، ص: 388

الإمام الباقر عليه السلام عن معنى الآية، قال: «هو من قتل في مودّتنا وولايتنا» «1». ولا شك أنّ التفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية، ولكن المفهوم والملاك قابلان للتوسع والشمول.

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) يوم يرى الإنسان ما قدّم: فبعد مرحلة الفناء العام، تأتي مرحلة الظهور الجديد للعالم، لتقام محكمة العدل الإلهي، ومن معالم هذه المرحلة: «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ».

فستنشر الصحف التي دوّنت فيها أعمال الناس من قبل الملائكة وكل سيعرف جزاءه بعد الإطّلاع على صحيفة أعماله، كما تشير إلى ذلك الآية (14) من سورة الإسراء: «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا».

وسيكون نشر الصحف أمام الملأ العام لتقرّ عيون المحسنين سروراً، ويقاسي المسيؤون العذاب النفسي.

ثم يضيف: «وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ».

«كشطت»: من «الكشط» على وزن (كشف)، بمعنى قلع جلد الناقة.

وما يراد من «كشطت» في الآية، هو: رفع الحجب الفاصلة بين العالمين الدنيوي والعلوي، التي تمنع رؤية الناس للملائكه أو الجنة والنار، فيرى الإنسان

حينها عالم الوجود شاخصاً أمام ناظريه شخوصاً حقيقياً.

فالآية قد تحدثت عن المرحلة الثانية للقيامة؛ مرحلة ما بعد البعث.

ويتأكد ذلك بوضوح من خلال الآية: «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعّرَتْ».

فجهنّم موجودة في كل الأوقات، ولكن حجب الدنيا هي المانعة من رؤيتها، فالآية على سياق الآية (49) من سورة التوبة: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ». وكما أنّ جهنم

______________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم 2/ 407.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 389

موجودة فالجنة كذلك بدلالة آيات قرآنية كثيرة.

ويبيّن البيان القرآني بذات السياق السابق: «وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ».

وهذا المعنى هو تكرار لما جاء في الآية (90) من سورة الشعراء: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ».

«ازلفت»: من «زلف» على وزن (حرف) .. و «زلفى : على وزن (كُبرى ، بمعنى القرب، فيمكن أن يكون المراد هو: القرب المكاني، أو القرب الزماني، أو القرب من حيث الأسباب والمقدمات، ويمكن أيضاً أن تحمل الكلمة جميع ما ذكر من معانٍ.

وتأتي الآية الأخيرة- من الآيات المبحوثة- لتتم ما جاء قبلها من جمل، حيث تمثل جزاء الشرط للجمل السابقة والتي وردت في (12) آية: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ».

فستحضر أعمال الإنسان كاملة، ولا من محيص من العلم والإطّلاع بها في عالم الشهود والمشاهدة.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة مرات عديدة في آيات مباركات، منها: الآية (49) من سورة الكهف: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا»، والآيتان (7 و 8) من سورة الزلزلة: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَ مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ

مَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) بعد أن تناولت الآيات السابقة مواضيع: المعاد، مقدمات يوم القيامة، وحوادث يوم القيامة ... تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن أحقية القرآن وصدق نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله، والآيات في حقيقتها تأكيد على ما جاء في الآيات السابقة لموضوع «المعاد»، إضافة لذكرها صور بيانية منبهة على هذه الحقيقة.

وتشرع الآيات ب: «فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ».

«الخنّس»: جمع (خانس)، من (خنس) وهو الإنقباض والإختفاء، ويقال للشيطان:

«الخنّاس»، لأنّه إذا ذُكر اللَّه تعالى يخنس، وكما ورد في الحديث الشريف: «الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر اللَّه خَنَس».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 390

«الجوار»: جمع (جارية)، وهي الشئ الذي يتحرك بسرعة.

«الكنّس»: جمع (كانس)، من (كنس)، وهو الإختفاء، و «كناس» الطير والوحش: بيت يتخذه.

والمقصود بهذا القَسم كما روى عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال في تفسير الآيات المذكورة: «هي خمسة أنجم: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد» «1». والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

ونقول توضيحاً: لو تأمّلنا السماء عدّة ليال، لرأينا أنّ نجوم السماء أو القبة السماوية تظهر وتغيب بشكل جماعي من دون أن تتغير الفواصل والمسافات فيما بينها، وكأنّها لئالي ء خيطت على قطعة قماش داكن اللون، وهذه القطعة تتحرك من المشرق إلى المغرب، إلّا خمسة كواكب قد خرجت عن هذه القاعدة، فنراها تتحرك وليس بينها وبين بقيّة النجوم فواصل ثابتة، وكأنّها لئالي ء قد وضعت على تلك القطعة وضعاً، من دون أن تخيّط بها.

وهذه الكواكب الخمس هي المقصودة في هذا التفسير، وما نلاحظه من حركتها إنّما تكون لقربها منّا ولا نتمكن من تمييز حركات بقية النجوم لعظم المسافة فيما بيننا وبينها.

ومن جهة اخرى: ينبغي التنويه إلى أنّ علماء الفلك

يطلقون على هذه الكواكب اسم (الكواكب المتحيرة)، لأنّها لا تتحرك على خط مستقيم ثابت، فنراها تسير باتجاه معين من الزمن ثم تعود قليلًا ومن ثم تتابع مسيرها الأوّل وهكذا ... ولهؤلاء العلماء بحوث علمية كثيرة في تحليل هذه الظاهرة.

وعليه ... يمكن حمل إشارة الآيات إلى الكواكب السيارة «الجوار»، التي في سيرها لها رجوع «الخنس»، ثم تختفي عند طلوع الفجر وشروق الشمس ... فهي تشبه غزالًا يتصيد طعامه في الليل وما أن يحّل النهار حتى يختفي عن أنظار الصيادين والحيوانات المفترسة فيذهب إلى «كناسه»، ولذا وصفت الكواكب ب «الكنّس».

فكأنّ القرآن الكريم يريد بهذا القسم الملي ء بالمعاني الممتزجة بنوع من الإبهام، كأنّه يريد إثارة الفكر الإنساني، وتوجيهه صوب الكواكب السيارة ذات الوضع الخاص على القبة السماوية، ليتأمل أمرها وقدرة وعظمة خالقها سبحانه وتعالى.

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 280.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 391

ويعرض لنا القرآن لوحة اخرى: «وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ».

«عسعس»: من «العسعسة»، وهي رقة الظلام في طرفي الليل (أوّله وآخره). وبالرغم من اطلاق هذه المفردة على معنيين متفاوتين، ولكن المراد منها في هذه الآية هو آخر الليل فقط بقرينة الآية التالية لها، وهو ما يشابه القسم الوارد في الآية (33) من سورة المدّثّر:

«وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ».

ويأتي القَسم الثالث والأخير من الآيات: «وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ».

ويأتي هذا الوصف في سياق ما ورد في سورة المدّثّر، فبعد القسم بإدبار الليل، قال:

«وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ»، فكأنّ الليل ستارة سوداء قد غطت وجه الصبح، فما أن أدبر الليل حتى رفعت تلك الستارة فبان وجه الصبح مشرقاً، وأسفر للحياة من جديد.

وتجسّد الآية التالية جواب القسم للآيات السابقة: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

فالجواب موجّه لمن اتّهم النبّي صلى الله عليه و آله باختلاق القرآن ونسبته إلى الباري جلّ

شأنه.

وقد تناولت هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف لأمين وحي اللَّه جبرائيل عليه السلام، وهي الأوصاف التي ينبغي توفرها في كل رسول جامع لشرائط الرسالة ...

فالصفة الاولى: إنّه «كريم»: إشارة إلى علوّ مرتبته وجلالة شأنه.

ومن صفاته أيضاً: «ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ».

«ذي العرش»: ذات اللَّه المقدسة.

مع أنّ اللَّه مالك كل عالم الوجود، فقد وصف «بذي العرش» لما للعرش من أهميّة بالغة على غيره (سواء كان العرش بمعنى عالم ما وراء الطبيعة، أو بمعنى مقام العلم المكنون).

أمّا وصفه ب «ذي قوّة» (أي: صاحب قدرة)، لما للقدرة العظيمة والقوّة الفائقة من دور مهم وفعّال في عملية حمل وإبلاغ الرسالة.

«مكين»: صاحب منزلة ومكانة.

والتعبير ب «عند» هو الحضور المقامي والقرب المعنوي.

وتتناول الآية التالية الصفة الرابعة والخامسة: «مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ».

ويستفاد من الروايات: إنّ جبرائيل ينزل أحياناً وبصحبته جمع كبير من الملائكة في حال ابلاغه للآيات القرآنية المباركة، وهو ما يوحي بأنّه مطاع بينهم، وهو ما ينبغي أن يكون في كل امّة تتبع رسولًا، فلابدّ من إطاعتها له.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 392

في تفسير مجمع البيان: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لجبرائيل عليه السلام: «ما أحسن ما أثنى عليك ربّك! ذي قوّة عند العرش مكين، مطاع ثّم أمين، فما كانت قوّتك وما كانت أمانتك؟ فقال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهن من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج، ونباح الكلاب، ثم هويت بهنّ فقلبتهن. وأمّا أمانتي، فإنّي لم اؤمر بشي ء فعدوته إلى غيره».

وينفي القرآن ما نُسب إلى النبي: «وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ».

«الصاحب»: هو الملازم والرفيق والجليس؛ والوصف هذا مضافاً إلى أنّه يحكي عن

تواضع النبي صلى الله عليه و آله مع جميع الناس ... فلم يرغب يوماً في الإستعلاء على أحد منكم، فإنّه قد عاش بينكم حقبة طويلة، وجالسكم، فلمستم عن قرب رجاحة عقله وحسن درايته وأمانته، فكيف تنسبون له الجنون؟!

ويؤكّد القرآن على الإرتباط الوثيق ما بين النبي صلى الله عليه و آله وجبرائيل: «وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ». وهو «الأفق الأعلى» الذي تظهر فيه الملائكة، حيث شاهد رسول اللَّه جبرائيل.

وتأتي الصفة الخامسة: «وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ».

«ضنين»: من «ضنّة» على وزن (مِنّة)، أي: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء عليهم السلام منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ما له من منبع علم إلهي.

وتقول آخر الآيات المبحوثة: «وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ».

فالآيات القرآنية ليست كحديث الكهنة الذي يأخذوه من الشياطين، ودليلها معها، حيث إنّ حديث الكهنة محشو بالأكاذيب والتناقضات، ويدور حول محور ميولهم ورغباتهم، في حين لا يشاهد ذلك في الآيات القرآنية إطلاقاً.

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) إلى أين ... أيّها الغافلون: أكّدت الآيات السابقة ببيان جلي حقيقة كون القرآن كلام اللَّه ... فمحتواه ينطق عن كونه كلاماً رحمانياً وليس شيطانياً، وقد نزل به رسول كريم مقتدر وأمين، وقام بتبليغه النبي الصادق الأمين صلى الله عليه و آله الذي لم يبخل في البلاغ في شي ء، وما تهاون عن تعليم الناس فيما ارسل به.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 393

فيما توبخ الآيات أعلاه اولئك الذين عادوا القرآن وانحرفوا عن خطّ سير الرسالة الربّانية الهادية، فتقول لهم بصيغة الإستفهام التوبيخي: «فَأَيْنَ

تَذْهَبُونَ».

وتأتي الآية الثانية لتقول: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ».

فالآية تتحدث بلسان الوعظ والتذكير، عسى أن يستيقظ مَن تملّكه نوم غفلته.

لا يمكن للهداية والتربية أن تؤدّي فعلها بوجود المرشد الناحج فقط، بل لابدّ من توفر عنصر الإستعداد وتقبل الهداية من قبل الطرف الآخر، ولذلك ... فبعد الوعظ والتذكير جاءت الآية التالية لتبيّن هذه الحقيقة: «لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ».

فالآية الاولى قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية عملية الإستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الإستقامة.

وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامة التمكين، خاصة الإستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللَّه ونعمه.

ولكي لا يتصور بأنّ مشيئة وإرادة الإنسان مطلقة في سيره على الطريق المستقيم، ولكي يربط الإنسان مشيئته بمشيئة وتوفيق اللَّه عزّ وجل، جاءت الآية التالية لتقول: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

والآيتان السابقتان تبيّنان فلسفة «أمر بين الأمرين» التي أشار إليها الإمام الصادق عليه السلام؛ فمن جهة، إنّ الإرادة والقرار بيدكم، ومن جهة اخرى، يلزم تلك الإرادة وذلك القرار ما يشاء اللَّه ربّ العالمين ... وإنّ خلقتم أحراراً مختارين، فالحرية والإختيار منه جلّ اسمه، ولولا إرادته ذلك لما كان.

فالإنسان ليس بمجبور على أعماله مطلقاً، ولا هو بمختار بكلّ معنى الإختيار، ولكن ...

كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين». فكل ما للإنسان من: عقل، فهم، قدرة بدنية، وقدرة على اتخاذ القرار، كل ذلك من اللَّه عزّ وجل، فهو من جهة في حالة الحاجة الدائمة للإتصال به جلّ شأنه، ولو شاء اللَّه لتوقف كل شي ء وانتهى، وهو من جهة

اخرى مسؤول عن أعماله لما له من حرية واختيار على تنفيذها.

«نهاية تفسير سورة التّكوير»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 395

82. سورة الإنفطار

محتوى السورة: لا تشذ السورة عن سياق سور الجزء الأخير من القرآن الكريم، وتدور حول محور المسائل المتعلقة بيوم القيامة. تتضمن مجموع آياتها المواضيع التالية:

1- أشراط الساعة، وهي الحوادث الهائلة التي سيشهدها العالم أواخر لحظات عمره وعند قيام الساعة.

2- التذكير بالنعم الإلهية الداخلة في كل وجود الإنسان، وكسر حالة غرور الإنسان، وتهيئته للمعاد.

3- الإشارة إلى ملائكة تسجيل أعمال الإنسان.

4- بيان عاقبة المحسنين والمسيئين في يوم القيامة.

5- لمحات سريعة عما سيجري في ذلك اليوم العظيم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ومن قرأ هاتين السورتين: إذا السماء انفطرت؛ وإذا السماء انشقت، وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة، لم يحجبه من اللَّه حجاب، ولم يحجزه من اللَّه حاجز، ولم يزل ينظر إلى اللَّه وينظر اللَّه إليه حتى يفرغ من حساب الناس».

ولا شك أنّ حصول ثواب السورتين إنّما يتمّ لمن وضعهما في أعماق روحه، وبنى على أساسهما شخصيته وعمله، وليس لمن يلوكهما في لسانه ولا غير.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 396

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) عندما يحلّ الحدث المروع: تقدم لنا الآيات- مرّة اخرى- مشاهداً مروعة من يوم القيامة، فتخبر عن تفطّر السماء من هول الكارثة: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ».

ثم تنتقل إلى ما سيصيب الكواكب ونظامها: «وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ».

فسينهدم العالم العلوي، وستحدث الإنفجارات العظيمة المهيبة في كل النجوم السماوية، وسيتخلخل نظام المنظومات الشمسية، فتخرج النجوم من مساراتها لتصطدم الواحدة بالاخرى وتتلاشى فينتهي عمر العالم

ويتناثر كل شي ء ليُبنى على أنقاضه عالم جديد آخر.

«انفطرت»: من «الإنفطار»، بمعنى الإنشقاق.

«انتثرت»: من «النثر» على وزن (نصر)، بمعنى نشر الشي ء وتفريقه، و «الإنتثار»: هو الإنتشار والتفرق. وباعتبار أنّ انتشار النجوم يؤدي إلى تفرقها في السماء (كحبات العقد المنفرط) فقد فسّرها الكثير من المفسرين ب (سقوط النجوم)، وهو من لوازم معنى الإنتثار.

«الكواكب»: جمع (كوكب)، وله معان كثيرة ولكن أنّ المعنى الحقيقي هو (النجم المتلألي ء)، وما دون ذلك معان مجازية استعملت لعلاقة المشابهة.

إنّ هذه الامور تهدف إلى تعريف الإنسان بما سيحدث بالمستقبل الآت، وتدعوه لخلاص نفسه من أهوالها، وهو الكائن الضعيف وسط تلك الحوادث الجسام.

وينتقل البيان القرآني من السماء إلى الأرض، فيقول: «وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ». أي اتصلت.

مع أنّ البحار متصلة فيما بينها قبل حلول ذلك اليوم (ما عدا البحيرات)، لكن اتصالها سيكون بشكل آخر، حيث ستفيض جميعها وتتمزق حدودها وتصير بحراً واحداً لتشمل كل الأرض، بسبب الزلازل المرعبة وتحطم الجبال وسقوطها في البحار ... هذا أحد تفاسير الآية (6) من سورة التكوير (الآنفة الذكر): «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

وتتناول الآية التالية عرضاً لمرحلة القيامة الثانية، مرحلة تجديد الحياة وإحياء الموتى، فتقول: «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» ... واخرج الموتى للحساب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 397

وبعد ذكر كل تلك العلائم لما قبل البعث ولما بعده، تأتي النتيجة القاطعة: «عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ».

نعم، فستتجلى حقائق الوجود، وسيصير كل شي ء بارز إنّه «يوم البروز» وسيرى الإنسان كل أعماله محضرة بخيرها وشرّها، لأنّه يوم إزالة الحجب، ورفع مبررات الغرور والغفلة، وعندها ... سيعلم الإنسان ما قدّم لآخرته، وما ترك بعده من آثار حسنها وسيئها، مثل: الصدقة الجارية، فعل الخير، عمارة الأبنية، الكتب التي ألفها، ما سنّ من السنن ... فإن كان ما خلّفه خالصاً

للَّه فسينال حسناته، وإن كانت نيّتة في أفعاله غير خالصة للَّه، فسيلاقي لتبعات أعماله.

وهذه نماذج من الأعمال التي ستصل نتائجها إلى الإنسان بعد الموت، وهو: المراد من «وأخّرت».

في الكافي عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّاثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها، فهي يعمل بها بعد موته، أوولد صالح يدعو له».

وفي أمالي الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ستّ خصال ينتفع بها المؤمن بعد موته:

ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ منه، وقليب [بئر] يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنّة حسنة يؤخذ بها بعده».

فتعكس هذه الآيات والروايات أبعاد مسؤولية الإنسان أمام أعماله، وتبيّن عظم المسؤولية، فآثار فعل الخيرات أو المنكرات يصل إليه وإن امتدت آلاف السنين بعد موته.

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) لا داعي للغرور: تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حق وما على عاتقه من مسؤوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الربانية: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 398

فبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته، ورعاه بما أنعم عليه مادياً ومعنوياً ودون أن يطلب منه أيّ مقابل، بل ويعفو عن كثير من ذنوب الإنسان بفضل كرمه ...

وفي المجمع: أنّ النبي

صلى الله عليه و آله لما تلا هذه الآية قال: «غرّه جهله».

ومن هنا يتقرّب لنا هدف الآية، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي.

وتعرض لنا الآية التالية جانباً من كرم اللَّه ولطفه على الإنسان: «الَّذِى خَلَقَكَ فَسَّوَيكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ».

فالآيات المبحوثة، إضافة لآيات اخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته، منذ كان نطفة قذرة، مروراً بتصويره وتكامله في رحم امّه، حتى فى أتمّ حالات نموه وتكامله، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم اللَّه، وكل حيّ يفعم برحمة اللَّه في كل لحظات حياته، ولابدّ لكل حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترجل من مطية غروره وغفلته، ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة: «كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدّينِ».

فالكرم الإلهي، ولطف الباري ونعمه ليست بمحفز لغروركم، ولكنّكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة، فوقعتم بتلك الهاوية المظلمة.

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولابدّ من الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور، فتقول: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ».

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند اللَّه تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم: «كِرَامًا كَاتِبِينَ». «يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ».

و «الحافظين»: هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ، كما سمّتهم الآية (18) من سورة (ق) بالرقيب العتيد: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

كما وذكرتهم الآية (17) من نفس السورة: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ».

وفي الإحتجاج للشيخ الطبرسي عن الصادق عليه السلام حديث طويل وفيه يقول السائل: فما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 399

علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم واللَّه

عالم السر وما هو أخفى؟

قال: «استعبدهم بذلك، وجعلهم شهوداً على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللَّه مواظبة، وعن معصيته أشدّ انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ، فيقول ربّي يراني، وحفظتي عليّ بذلك تشهد، وأنّ اللَّه برأفته ولطفه أيضاً وكّلهم بعباده، يذبّون عنهم مردة الشيطان، وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللَّه، إلى أن يجي ء أمر اللَّه».

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ مَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة، وما سيصل إليه كل من المحسن والمسي ء من عاقبة، فتقول الآية الاولى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ».

والثانية: «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ».

«الأبرار»: جمع (بار) و «بَرّ» على وزن (حق)، بمعنى: المحسن؛ و «البِرّ» بكسر الباء- كل عمل صالح ... والآية تريد العقائد السليمة، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم»: وهي مفرد بمعنى النعمة، ويراد به هنا «الجنة».

«الفجّار»: جمع (فاجر) من (فجر)، وهو الشقّ الواسع، و «الفجور»: شقّ ستر الديانة والعفة، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم»: من «الجحمة»، وهي تأجج النار، وتطلق الآيات القرآنية (الجحيم) على جهنم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ». الحال الحاضر، أيّ: إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنة حاليّاً، وإنّ الفجّار قابعون في أودية

النار، كما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 400

مختصر الامثل ج 5 440

يفهم من إشارة الآية (54) من سورة العنكبوت: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ».

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار: «يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ».

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنم حالياً، فسيكون إشارة هذه الآية، إلى أنّ دخولهم جهنم سيتعمق، وسيحسون بعذاب نارها، بشكل أشدّ.

«يصلون»: من «صلى» على وزن (سعى)، و «صلى النار»: دخل فيها.

ولزيادة التفصيل، تقول الآية التالية: «وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ».

اعتبر كثير من المفسرين كون الآية دليلًا على خلود الفجّار في العذاب، وخلصوا إلى أنّ المراد ب «الفجّار» هم «الكفار»، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار»: إذن: هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذبيهم بيوم الدين، ولا يقصد بهم- في هذه الآيات- اولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وتبيّن الآية أيضاً: إنّ عذاب أهل جهنم عذاب دائم ليس له انقطاع، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم، تقول الآية التالية: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ». «ثُمَّ مَا أَدْرَيكَ مَا يَوْمُ الدّينِ».

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد اخفيت عن النبي صلى الله عليه و آله- وهو المخاطب في الآية- مع كل ما له من علم ب: القيامة، المبدأ، المعاد .. فكيف يا تُرى حال الآخرين.

وينتقل البيان القرآني للتعبير عن إحدى خصائص ذلك اليوم، وبجملة وجيزة، لكنّها متضمنة لحقائق ومعان كثيرة: «يَوْمَ لَاتَمْلِكُ نَفْسٌ لّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لّلَّهِ».

فستتجلّى حقيقة أنّ كل شي ء في هذا العالم هو بيد اللَّه العزيز القهار، وستبان حقيقة حاكمية اللَّه المطلقة ومالكيته على كل من تنكر لهذه الحقيقة الحقة، وستنعدم تلك التصورات الساذجة

التي حكمت أذهان المغفلين بكون فلان أميراً ورئيساً أو حاكماً، وسينهار اولئك البسطاء الذين اعتبروا أنّ قدراتهم مستقلة بعد أن أكل الغرور نفوسهم وتكالب التكبر على تصرفاتهم في الحياة الدنيا الفانية.

«نهاية تفسير سورة الإنفطار»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 401

83. سورة المطففين

محتوى السورة: بحوث هذه السورة تدور حول محاور خمس، هي:

1- تحذير وإنذار شديد للمطفّفين.

2- الإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.

3- عرض لجوانب من عاقبة «الفجّار» في ذلك اليوم العظيم.

4- عرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنة من نعم إلهية وعطاء رباني جزيل.

5- الإشارة لآثار استهزاء الكفار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأها سقاه اللَّه من الرحيق المختوم».

وفي ثواب الأعمال روى صفوان الجمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة ويل للمطفّفين، أعطاه اللَّه الأمن يوم القيامة من النار، ولم تره، ولا يراها ولم يمر على جسر جهنم ولا يحاسب يوم القيامة».

إنّ كل هذا الفضيلة والبركة، سينالها من جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 402

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

سبب النّزول

قال ابن عباس: لمّا قدم نبي اللَّه المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلًا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقرأها عليهم وقال:

«خمس بخمس». قيل يا رسول اللَّه، وما خمس بخمس؟

قال: «ما نقض قوم العهد إلّاسلط اللَّه عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل اللَّه إلّافشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّافشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّامنعوا النبات واخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّاحبس عنهم المطر» «1».

التّفسير

ويل للمطففين: بدأ الحديث في هذه السورة بتهديد شديد للمطففين: «وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ».

وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من اللَّه عزّ وجل على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حق الناس بهذه الطريقة القذرة.

«المطفّفين»: من «التطفيف» وأصله من «الطف»، وهو جوانب الشي ء وأطرافه، و «الطفيف»: الشي ء النزر، و «التطفيف»: البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره.

«ويل»: تأتي بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب، وادٍ مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشي ء، ورغم صغر الكلمة إلّاأنّها تستبطن

______________________________

(1) التفسير الكبير 31/ 88.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 403

مفاهيم كثيرة.

وفي الكافي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «ولم يجعل الويل لأحد حتى يسميه كافراً. قال اللَّه عزّ وجل: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ»».

وما نستفيده من هذه الرواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر.

وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الاولى: «الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ».

وتقول الآية الثانية: «وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ».

وممّا ينبغي الإلتفات إليه ... أنّ الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن لا ينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدّي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنّه والحال هذه سيكون في حظيرة «المطففين»

المذمومين بشدّة في الآيات المباركة المذكورة.

ولا تخلوا من مناسبة أن يجعل أيّ تجاوز لحدود اللَّه، وأيّ إنقاص أو اخلال في الروابط الإجتماعية أو إنحلال في الضوابط الأخلاقية، إنّما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم.

ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: «أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ». «لِيَوْمٍ عَظِيمٍ».

يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله.

«يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ». أي: إنّهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأنّ أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرّها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحداً، ولأعطوا الناس حقوقهم كاملة.

وفي الكافي عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدّرة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق، فينادي: يا معشر التجّار اتّقوا اللَّه عزّ وجل، فإذا سمعوا صوته عليه السلام ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول عليه السلام: قدموا الإستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف عليه السلام

مختصر الامثل، ج 5، ص: 404

في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس».

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) وما أدراك ما سجّين: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطففين، وعن إرتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم،

فتقول: «كَلَّا» فليس الأمر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنّه ليس هنا حساب وكتاب، بل «إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ». «وَمَا أَدْرَيكَ مَا سِجّينٌ». «كِتَابٌ مَّرْقُومٌ».

وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه:

الاولى: المراد من «كتاب»: هو صحيفة الأعمال، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، من أفعال الإنسان إلّاوأحصتها.

والمراد ب «سجّين»: هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموماً.

و «سجّين»: من «السجن»، وهو (الحبس). وأطلق عليه هذا الإسم باعتبار أنّ ما فيه يؤدّي إلى حبس أصحابه في جهنم، أو أنّ هذا الديوان موجود في قعر جهنم.

على عكس كتاب الأبرار فإنّه في أعلى علّيين .. في الجنة.

الثانية: إنّ «سجّين» هي «جهنم» ... وهي سجن كبير لجميع المذنبين، أو هي محل شديد من جهنم.

و «كتاب» الفجّار، أي: ما قرر لهم من عاقبة ومصير.

فيكون التقدير على ضوء هذا التّفسير: إنّ جهنم هي المصير المقرر للمسيئين.

فلا مانع من الجمع بين التّفسيرين، لأنّ «سجّين» حسب التّفسير الأوّل بمعنى الديوان الجامع لكل أعمال المسيئين، وحسب التّفسير الثاني بمعنى: «جهنم» أو قعرها، فالأمران على صورة علّة ومعلول، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع، فإنّ مقام الديوان هو قعر جهنم.

وتأتي الآية التالية لتقول: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 405

التكذيب الذي يوقع الإنسان في ألوان من الذنوب، ومنها التطفيف والظلم.

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَ مَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذّبين، تأتي الآيات

أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: «الَّذِينَ يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدّينِ»، وهو يوم القيامة.

وتقول أيضاً: «وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ».

فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والإستدلال العقلي، بل هو نابع من حبّ الإعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة «أثيم» تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).

وتشير الآية التالية للصفة الثالثة لمنكري المعاد، فتقول: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ».

فبالاضافة لكون منكر المعاد معتدٍ وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات اللَّه، ويصفها بالخرافات البالية، وما ذلك إلّامبرر واهٍ لتغطية تهربه من مسؤولية آيات اللَّه عليه.

ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لُاولئك الضالّين المجرمين فراراً من الإستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمّة آيات اخرى تناولت ذلك؛ منها الآية (5) من سورة الفرقان: «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

ويعرّي القرآن مرّة اخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

فازيل عنها ما جعل اللَّه فيها من نور الفطرة الاولى وذهب صفائها، ولذا .. فلا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها.

«ران»: من «الرين» على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشي ء الجليل.

وفي الدر المنثور عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر اللَّه في

مختصر الامثل، ج 5، ص: 406

القرآن: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»». ويستمر البيان القرآني: «كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ».

وهو أشدّ ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللَّه ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذةً واستئناساً.

و:

«ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ».

فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن اللَّه تعالى وأثر لازم له، ومما لا شك فيه إنّ لهيب الحرمان من لقاء اللَّه أشدّ إيلاماً وإحراقاً من نار جهنم.

وتقول الآية التالية: «ثُمَّ يُقَالُ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

يقال لهم ذلك توبيخاً ولوماً لزيادة تعذيبهم روحياً، وهو ما ينتظر كل من عاند الحق وتخبط في متاهات الضلال.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَ مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) علّيّون في انتظار الأبرار: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجّار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيؤلون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: «كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِى عِلّيِّينَ».

«عليّين»: جمع (عليّ) على وزن (ملّي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضاً على ساكني قمم الجبال.

فما عرضناه بخصوص تفسير «سجّين» يصدق على «عليّين» أيضاً، بقولين:

الأوّل: أنّ المقصود من «كتاب الأبرار» هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر.

الثاني: أنّ صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أو في أعلى مكان في الجنة،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 407

وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند اللَّه عزّ وجل.

وذهب قسم من المفسرين إلى أنّ ال «كتاب» هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنة العُلى.

ولا

يضرّ من الجمع بين التّفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبنيّ على كونهم في أعلى درجات الجنة.

ولأهمية وعظمة شأن «عليّين» .. تأتي الآية التالية لتقول: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا عِلّيُّونَ»؛ إنّه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس والظن، بل وحتى أنّ النبي صلى الله عليه و آله وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته.

ويبدأ البيان القرآني بتقريب أل «علّيين» إلى الأذهان: «كتاب مرقوم».

وهذا على ضوء تفسير «علّيين» بالديوان العام لأعمال الأبرار، أمّا على ضوء التفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنّه المصير الحتمي الذي قرره اللَّه وسجّله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنة.

وكذلك: «يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ». أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه.

والآيات التالية تظهر بوضوح بأنّ المقربين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبامكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين.

فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق، حيث كل المقربين أبرار، وليس كل الأبرار مقربين.

وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: «إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ».

وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: «عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ».

ثم يضيف: «تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ».

إشارة إلى أنّ ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إن هو إلّا إنعكاس لسعادتهم الحقّة.

وبعد ذكر نِعَم: «الأرائك»، «النظر»، «الإطمئنان والسعادة» .. تذكر الآية التالية نعمة شراب الجنة، فتقول: «يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 408

إنّه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه. و «الرحيق» هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه

أيّ غش أو تلوث؛ و «مختوم»: إشارة إلى أنّه أصلي ويحمل كل صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قطّ، وهذا بحدّ ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته.

وتقول الآية التالية: «خِتَامُهُ مِسْكٌ».

هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه.

«وَفِى ذلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ». «التنافس»: تمنّي كل واحد من النفسين مثل الشي ء النفيس الذي للنفس الاخرى أن يكون له.

وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنة: «وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ». أي: أنّه ممزوج بالتسنيم: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ».

ومن خلال الآيتين أعلاه، يتّضح لنا بأنّ «التسنيم» هو أشرف شراب في الجنة، وموجود في الطبقات العليا من الجنة .. ويجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة و «المقرّبون» يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه «الأبرار» ممزوجاً بالرحيق المختوم.

وتؤكّد الأحاديث والروايات على أنّ تلك الأشربة خالصة لمن تنزّه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة.

ففي وصية النبي صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام: «ومن ترك الخمر للَّه سقاه اللَّه من الرحيق المختوم» «1».

وروي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: «من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه اللَّه من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه اللَّه من الرحيق المختوم» «2».

وجاء في حديث آخر: «من صام للَّه في يوم صائف، سقاه اللَّه على الظمأ من الرحيق

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 297.

(2) الكافي 2/ 201.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 409

المختوم» «1».

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا

إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَ مَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

سبب النّزول

ذكر المفسرون سببين لنزول هذه الآيات: الأوّل: روى أنّ عليّاً عليه السلام كرم اللَّه تعالى وجهه وجمعاً من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت الآية «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» قبل أن يصل علي عليه السلام كرم اللَّه تعالى وجهه إلى النبي صلى الله عليه و آله.

الثاني: إنّها حكاية لبعض قبائح مشركي قريش؛ أبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء «2».

التّفسير

بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين ... أمّا: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب ممّا يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم ...

فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنّفتها في أربعة أساليب:

الاسلوب الأوّل: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ».

فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زُرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والإستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار.

والاسلوب الثاني: «وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ». فحينما يمرّ المشركون على مجموعة من

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 10/ 297.

(2) روح المعاني 30/ 76.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 410

المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول:

انظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين ... إنّهم أصبحوا مقربين عند اللَّه.

انظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة ... إنّهم يدّعون نزول الوحي الإلهي لهم.

انظروا إليهم ... فإنّهم يعتقدون بأنّ العظام البالية ستعود إلى الحياة مرّة اخرى! وما شابه ذلك، من الكلمات

الرخيصة والموهنة ...

ويبدو أنّ ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمرّ المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الاسلوب الثاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين.

«يتغامزون»: من «الغمز» وهو الإشارة بالجفن أو اليد مع قصد ما في الطرف الآخر من عيوب، وعبّرت الآية بهذا اللفظ «التغامز» للإشارة إلى اشتراكهم جميعاً في ذلك الفعل.

ولكنّهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضاً، حيث تنقل لنا الآية التالية، الاسلوب الثالث بقولها: «وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ».

وكأنّهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحاً كبيراً! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والإستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم ...

«فكهين»: جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأنّ لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذّة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث مفرح اسم (فكاهة).

والاسلوب الرابع: «وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هؤُلَاءِ لَضَالُّونَ».

لماذا؟ لأنّهم تركوا ما كان شائعاً من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان باللَّه والتوحيد الخالص.

ولأنّهم باعوا لذّة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة ...

وغالباً ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك يُنظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر. فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: «وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 411

فجواب نوح عليه السلام عام يشمل حتى اولئك المغرورين في صدر الإسلام ... فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين، وإلى النبي الذي

جاء بهذا الدين، ولا تنظروا إلى من آمن به واتبعه ...

وتبقى أساليب الذين يعادون الحق محدودة في إطار الحياة الدنيا، ولكن إذا كان يوم القيامة، فستختلف الحال تماماً: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ».

فيوم القيامة، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحق، والإستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر اولئك المغرورين والمستكبرين.

في الدرّ المنثور عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ المستهزئين بالنّاس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة، فيقال: هلم هلم، فيجي ء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم، فيجي ء بكربه وغمّه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أنّه ليفتح له الباب فيقول: هلم هلم، فلا يأتيه من أياسه». [وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنّتهم .

وتقول الآية التالية: «عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ».

ماذا ينظرون؟ إنّهم ينظرون إلى: نعم اللَّه التي لا توصف ولا تنفد في الجنة، وإلى كل ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين ...

وفي آخر آية السورة يقول القرآن مستفهماً (بإستفهام تقريري): «هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».

فهذا القول سواء صدر من اللَّه، أو من الملائكة، أو من المؤمنين، فهو في كل الحالات يمثل طعناً واستهزاءاً بأفكار وادعاءات اولئك المغرورون، الذين كانوا يتصورون أنّ اللَّه سيثيبهم على أعمالهم القبيحة، ويأتيهم النداء ردّاً على خطل تفكيرهم.

«نهاية تفسير سورة المطفّفين»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 413

84. سورة الانشقاق

محتوى السورة: لا تخرج السورة عن الإطار العام لسور الجزء الأخير من القرآن الكريم، فتبدأ بوصف علامات أشراط القيامة وما سيحدث من

أحداث مروعة في نهاية العالم وبداية يوم القيامة، ثم تتحدث ثانياً عن القيامة والحساب وما ستؤول إليه عاقبة كل من الصالحين والمجرمين، ثم تعطف السورة في المرحلة الثالثة لتوضيح ماهية الأعمال والعقائد التي تجر الإنسان إلى سخط اللَّه وخلوده بالعذاب مهاناً، وفي الرابعة تنتقل السورة لعرض مراحل سير الإنسان في حياتيه (الدنيا والأخرة)، وفي آخر مطاف السورة يدور الحديث خامساً عن جزاء الأعمال الحسنة والسيئة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة انشقت، أعاذه اللَّه أن يعطيه كتابه وراء ظهره».

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ مَا فِيهَا وَ تَخَلَّتْ (4) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَ حُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 414

تبدأ السورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول: «إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ». (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها)، كإشارة الآيتين (1 و 2) من سورة الإنفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه: «إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ».

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي عليه السلام قال: «تنشق السماء من المجرّة». فإنّ النجوم التي نراها في السماء اليوم، ستنفصل عن المجرة، وبها تنشق السماء.

وتحكي الآية التالية حال السماء: «وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ».

فلا يتوهم أنّ السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر اللَّه .. بل ستستجيب لأمر اللَّه خاضعة طائعة، لأنّ إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة، ولا يحق لأي مخلوق أن

يعصي أمره جلّ وعلا.

«أذنت»: من «الاذن» على وزن (افق)، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه، وفي الآية: كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له.

«حقّت»: من «الحق»، أي: وحق لها أن تنقاد لأمر ربّها.

وكيف لها لا تسلّم لأمره عزّ وجل، وكل وجودها وفي كل لحظة من فيض لطفه، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت.

وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضاً: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ».

فالجبال- كما تقول آيات قرآنية اخرى- ستندك وتتلاشى وستستوي الأرض في كافة بقاعها، لتلمّ جميع العباد في عرصتها، كما أشارت الآيات (105- 107) من سورة طه إلى ذلك: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا».

وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية: «وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ».

والمعروف بين المفسرين أنّ الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض، مرتدين لباس الحياة من جديد.

وقال بعض المفسرين: إنّ المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضاً.

وثمّة احتمال آخر في تفسير الآية، يقول: إنّ المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج

مختصر الامثل، ج 5، ص: 415

نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد.

و ...: «وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ».

فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة امور، فمن جهة:

إنّ الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكل شي ء آخر، ومن جهة اخرى:

فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادّة في مسير عالم الخليقة، ومقدمة للدخول في مرحلة وجود جديدة، ومن جهة ثالثة، فكل ما سيجري ينبئ بعظمة قدرة الخالق المطلقة، وخصوصاً في مسألة المعاد.

نعم، فسيرضخ الإنسان،

بعد أن يرى بام عينيه وقوع تلك الحوادث العظام، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة.

وتبيّن الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ».

«الكدح»: السعي والعناء الذي يخلق أثراً على الجسم والروح.

والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللَّه ونيل حسن مآب الآخرة؟!

فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي.

وما ذكر «لقاء اللَّه» في الآية إلّالتبيان أنّ حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود، ولا يتوقف إلّابانتهاء عجلة الحياة الدنيا، ولا فرق في توجيه معنى «اللقاء» سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية اللَّه المطلقة، أو بمعنى لقاء جزاء اللَّه من عقاب أو ثواب، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني.

نعم، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب، والراحة الحقة .. هناك، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد.

واستعمال كلمة «ربّ» فيه إشارة إلى ثمّة إرتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة، وذلك البرنامج التربوي الذي أعدّه الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة اخرى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 416

وإلى ذلك المطاف، ستنفصل البشرية إلى فريقين: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا* وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا».

فالذين ساروا على هدى المخطط الرباني لحركة الإنسان على الأرض، وكان كل عملهم وسعيهم للَّه دائماً، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب، وهو مدعاة

للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر.

أمّا ما المراد من «الحساب اليسير»؟ فذهب بعض إلى أنّه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المداقة في كتاب الأعمال.

وفي المجمع: «ثلاث من كنّ فيه حاسبه اللَّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنة برحمته». قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: «تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11) وَ يَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم: بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كل منهم مشرعة لتقديم المشاهد الاخرى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ» ... فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت: «فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا». «وَيَصْلَى سَعِيرًا».

وسيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى، وكل منهم يقول:

«هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ» «1». ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلًا وذلًا، ولكي لا يطّلع أحد على ما فيها، ولكن، هيهات ..

فكل شي ء حينئذ بارز، كيف لا وهو «يوم البروز» ...

وتبيّن الآية التالية علة تلك العاقبة المخزية: «إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُورًا».

سروراً ممتزجاً بالغرور، وغروراً احتوشته الغفلة والجهل بربّ الأرباب سبحانه

______________________________

(1) سورة الحاقّة/ 19.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 417

وتعالى، فالسرور المقصود في الآية، هو ذلك السرور المرتبط بشدّة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة.

ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية: «إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ».

فاعتقاده الفاسد وظنّه الباطل الدائر على نفي المعاد، مصدر سروره وغروره وهو ما سيوصله إلى الشقاء الأبدي، لأنّه ابتعد عن

ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الإستهزاء بدعوة الأنبياء عليهم السلام الربانية، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأن يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله، كما أشارت الآية (31) من سورة المطففين: «وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ».

ولنفي العقائد الضالة، تقول الآية: «بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا».

فكلّ أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه لتعرض يوم الحساب في صحيفته.

والآية تشارك الآية السابقة: «يَا أَيُّهَا الْإِنسنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحًا فَمُلقِيهِ». في كونها دليلًا على المعاد أيضاً. فتأكيد الآيتين على كلمة «ربّ» يدل على أنّ الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربّه لا ينتهي بالموت، وأنّ الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفاً وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي ...

وكذلك كون اللَّه «بصيراً» بأعمال الإنسان وتسجيلها لابدّ من اعتباره مقدمةً للحساب والجزاء وإلّا لكان عبثاً، وهذا ما لا يكون.

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ مَا وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى .. تأتي الآيات لتقول: «فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ». «وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ». أي: وما جمع.

«وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ». أي: إذا اكتمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 418

«لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ».

«الشفق»: اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس. ف «الشفق» هو وقت الغروب.

فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في

هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان، فمنه تُعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال، وكونه وقت صلاة المغرب.

وأمّا القسم بالليل، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك مفصلًا).

«ما وسق»: إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق)، فيكون عندها سكناً عاماً للكائنات الحية، وهو من أسرار وآثار الليل المهمة.

وينبغي الإلتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن: (الشفق، الليل، ما اجتمع فيه، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة، وتحرّك عند الإنسان التأمل والتفكير في عظمة ودقّة وقدرة الخالق في خلقه، ويمكن للإنسان العاقل بتأمّل هذه التحولات السريعة من التوجّه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيّرات في عالم الوجود.

ثم يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ».

إشارة إلى المراحل والتحوّلات التي يمرّ بها الإنسان في حياته؛ منها:

تلك الحالات المختلفة التي يمرّ بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو اللَّه جلّ وعلا، فيبدأ بحالة الدنيا، ثم ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة.

ومن كل ما سبق .. يخرج القرآن الكريم بنتيجة: «فَمَا لَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

فمع وضوح أدلة الحق؛ مثل أدلة: التوحيد، معرفة اللَّه، المعاد، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان.

وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين)، فيقول: «وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَايَسْجُدُونَ».

القرآن تتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته، ويشهد محتواه على أنّه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيداً لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا

يمكن أن يصدر من إنسان مهما كان عالماً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 419

وتأتي الآية التالية لتقول: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذّبُونَ».

والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق.

وببيان جدّي وتهديد جدّي، تقول الآية التالية: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ».

فاللَّه تعالى أعلم بدافع ونيّة وهدف ذلك التكذيب، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلّابما كسبت أيديهم.

ثم ...: «فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

عادةً ما تستعمل «البشارة» للأخبار السارة، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ.

والحال، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم، وما للكاذبين إلّاالغرق في بحر من الحسرة والندم، وما هم إلّافي عذاب جهنم يخلدون.

ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».

«ممنون»: من «المنّ» وهو القطع والنقصان، (ومنه «المنون» بمعنى الموت).

وإذا ما جمعنا كل هذه المعاني، فستكون النعم الاخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاك، حيث إنّها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منّة.

أمّا الإستثناء الذي ورد في الآية السابقة، ففيه بحث: هل أنّه «متصل» أو «منقطع»؟

والأقرب لسياق الآيات أن يكون الإستثناء متصلًا، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك، لأنّ الآية تقول: إنّ العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب مَن يؤمن منهم ويعمل صالحاً وعلاوة على ذلك، سيكون له أجر غير ممنون.

«نهاية تفسير سورة الإنشقاق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 421

85. سورة البروج

محتوى السورة: بملاحظة كون السورة مكية، فيظهر إنّها نزلت لتقوية معنويات المؤمنين لمواجهة تلك الظروف الصعبة، ولترغيبهم على الصمود أمام الصعاب والثبات على الإيمان وترسيخه في القلوب.

وتناولت السورة قصة أصحاب الاخدود، الذين حفروا

خندقاً وسجّروه بالنيران، وهددوا المؤمنين بإلقائهم في تلك النار إن لم يعودوا إلى كفرهم! وأحرقوا مجموعة منهم بالنار وهم أحياء، ومع ذلك لم يرجعوا عن دينهم ..

وتَعِدُ السورة في بعض آياتها بعذاب جهنم الأليم لُاولئك الذين يؤذون المؤمنين ويعذبونهم على إيمانهم، وتذمهم ذماً شديداً، في حين تبشر المؤمنين الصابرين بالجنة والفوز بنعيمها.

وفي جانب آخر من السورة، تُعرض لنا مقتطفات من قصّتي فرعون وثمود وقوميهما الجناة الطغاة، وما آلوا إليه من ذُلّ وهلاك، كل ذلك تذكيراً لكفار مكة الذين هم أضعف قوّة وأقل جنداً من اولئك، فعسى أن يرعووا عمّا هم فيه من جهة، وتسلية لقلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله ومن كان معه من المؤمنين من جهة اخرى.

وتختم السورة في آخر مقاطعها بالإشارة إلى عظمة القرآن الكريم، وإلى الأهمية البالغة لهذا الوحي الإلهي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 422

وسمّيت بسورة «البروج» بلحاظ ذكر الكلمة في أوّل آية من السورة بعد ذكر البسملة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير البرهان: روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قرأ هذه السورة أعطاه اللَّه من الأجر بعدد كل من اجتمع في جمعة وكل من اجتمع يوم عرفة عشر حسنات، وقراءتها تنجّي من المخاوف والشدائد».

وبملاحظة أنّ أحد تفاسير «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ»- من آيات السورة- هو يومي الجمعة وعرفة من جهة، وأنّ السورة حكاية مقاومة وبسالة المؤمنين السابقين أمام الشدائد والضغوط من جهة اخرى، وبملاحظة ذلك سيتّضح لنا التناسب الموجود ما بين هذا الثواب الجزيل لمن يقرءها وبين محتوى السورة، وأنّ الأجر والثواب إنّما يحصل لمن قرأها بتأمل معانيها، وعمل على ضوء هديها.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شَاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ

(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9) ابتدأت السورة ب: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ».

والأبراج السماوية: إمّا أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شي ء معروف في الأرض، وتسمى ب «الصور الفلكية» وهي إثنا عشر برجاً، وفي كل شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج، (طبيعي أنّ الشمس لا تتحرك تلك الحركة، وإنّما الأرض تدور حول الشمس فيبدو لنا تغيّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج).

وتقول الآية الثانية: «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ».

اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة.

وفي القسم الثالث والرابع يقول: «وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 423

وقد تعرض المفسرون للآية بمعان متباينة، وصلت إلى ثلاثين معنى وأدناه أهم ما ذُكر منها:

1- إنّ «الشاهد»: محمّد صلى الله عليه و آله؛ و «المشهود»: يوم القيامة.

2- «الشاهد»: ما سيشهد على أعمال الناس، كأعضاء بدنه؛ و «المشهود»: الناس وأعمالهم.

3- «الشاهد»: يوم الجمعة؛ و «المشهود»: يوم عرفة.

4- «الشاهد»: عيد الأضحى؛ و «المشهود»: يوم عرفة.

5- «الشاهد»: الأيام والليالي؛ و «المشهود»: بنو آدم، حيث تشهد على أعمالهم.

6- «الشاهد»: الملائكة؛ و «المشهود»: القرآن.

7- «الشاهد»: الحجر الأسود؛ و «المشهود»: الحاج.

8- «الشاهد»: الخلق؛ و «المشهود»: الحق.

9- «الشاهد»: هذه الامّة؛ و «المشهود»: سائر الامم.

10- «الشاهد»: الأنبياء عليهم السلام؛ و «المشهود»: محمّد صلى الله عليه و آله.

11- «الشاهد»: النبي صلى الله عليه و آله؛ و «المشهود»: أمير المؤمنين عليه السلام.

وإذا ما أدخلنا الآية في

سياق الآيات السابقة لها، فسنصل إلى أنّ «الشاهد» هو كل من سيقوم بالشهادة يوم القيامة؛ كشهادة: النبي صلى الله عليه و آله وكل نبيّ على امّته، الملائكة، بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان، الليل والنهار ... إلخ؛ و «المشهود»: الناس أو أعمالهم.

وبهذا يُدغم الكثير من التفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوماً واسعاً للآية المباركة، لأنّ «الشاهد» ينطبق على كل من وما يشهد، وكذا «المشهود» ينطبق على كل من وما يشهد عليه، وما ورودهما بصيغة النكرة إلّالتعظيمهما.

فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق، و «اليوم الموعود» يوم حساب وكتاب دقيق أيضاً، و «شاهد ومشهود» أيضاً وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان، وكل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذّبون المؤمنين، عسى أن يكّفوا عن فعلتهم السيئة، ولإعلامهم بأنّ كل ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدّاً وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي.

وبعد هذه الأقسام الأربع، تقول الآية التالية: «قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 424

والمقصود هم الظالمين لا من القي في النار، فالجملة إنشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم.

والاخدود ملي ء بالنار الملتهبة: «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ».

وكان الظالمون جالسون على حافة الاخدود يشاهدون المعذبين فيها: «إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ». «وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ».

«الاخدود»: شقّ في الأرض مستطيل غائص، والجمع أخاديد، وأصل ذلك من «خدّ» الإنسان، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثم اطلق مجازاً على الخنادق والحفر في الأرض، ثم صار معنى حقيقياً لها.

أمّا من هم الذين عذّبوا المؤمنين؟ ومتى؟ إنّهم حفروا خندقاً عظيماً ووجّروه بالنيران، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحداً واحداً بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر، ومن رفض

القي بين ألسنة النيران حياً ليذهب إلى ربّه صابراً محتسباً!

«الوقود»: ما يجعل للإشتعال، و «ذات الوقود»: إشارة إلى كثرة ما فيها من الوقود، وشدّة اشتعالها، فالنار لا تخلو من وقود، ولعل ما قيل من أنّ «ذات الوقود» بمعنى ذات اللهب الشديد، يعود للسبب المذكور.

والآيتان: «إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ»، تشيران إلى ذلك الجمع من الناس الذين حضروا الواقعة، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (ساديّة).

وتقول الآية التالية: «وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

وذكر «العزيز الحميد» جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة، واحتجاج على اولئك الكفرة، إذ كيف يكون الإيمان باللَّه جرم وذنب؟! وهو أيضاً تهديد لهم بأن يأخذهم اللَّه العزيز الحميد جزاء ما فعلوا، أخذ عزيز مقتدر.

وتأتي الآية الاخرى لتبيّن صفتين اخرتين للعزيز الحميد: «الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

فالصفات الأربعة المذكورة، تمثل رمز معبوديته جلّ وعلا، فالعزيز والحميد .. ذو الكمال المطلق، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كل شي ء .. أحقّ أن يُعبد وحده دون غيره، لا شريك له.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 425

إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين، بحضور اللَّه سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوة.

ومن جهة اخرى تهديد للكفار، وإفهامهم بأنّ عدم منع إرتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة، ليس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه، وإنّما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم، امتحاناً لهم، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمين إلّاالعذاب المهين.

بحث

من هم أصحاب الاخدود؟ إنّ «الاخدود» هو الشق العظيم في الأرض، أو الخندق .. وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً

ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال.

وكان سببهم أنّ الّذي هيج الحبشة على غزوة اليمن ذونواس وهو آخر من ملك من حِمير «1» تهوّد، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمّى نفسه يوسف، وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثم اخبر أنّ بنجران [شمال اليمن بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى عليه السلام وعلى حكم الإنجيل، ورأس ذلك الدين عبداللَّه بن بريا فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية، ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وعرض عليهم وحرص الحرص كله، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها، واختاروا القتل، فخد لهم اخدوداً جمع فيه الحطب، وأشعل فيه النار، فمنهم من احرق بالنار، ومنهم من قُتل بالسيف، ومُثّل بهم كل مثلة. فبلغ عدد من قُتل واحرق بالنار عشرين ألفاً «2».

وأضاف بعض آخر: إنّ رجلًا من نصارى نجران تمكّن من الهرب، فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر.

فقال قيصر: إنّ أرضكم بعيدة، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم.

ثم كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه الإنتقام لدماء المسيحيين التي اريقت في

______________________________

(1) حمير: إحدى قبائل اليمن المعروفة.

(2) تفسير علي بن ابراهيم القمي 2/ 413.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 426

نجران، فلما قرأ الرسالة تأثّر جدّاً، وعقد العزم على الإنتقام لدماء شهداء نجران.

فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنة، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة «1».

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذَابُ

الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) العذاب الإلهي للمجرمين: بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الاخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر اولئك الجناة من عذاب إلهي شديد، ويشير أيضاً إلى ما اعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم باللَّه. فتقول الآية الاولى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ».

«فتنوا»: من مادة «فتن» وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، وقد استعملت «الفتنة» بمعنى (الإختبار)، وبمعنى (العذاب والبلاء)، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضاً؛ وهي في الآية بمعنى (العذاب).

«ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا»: تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لُاولئك الجناة المجرمين، وتدلّ أيضاً على مدى لطف الباري جلّ وعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنباً، وفي الجملة تنبيه لأهل مكة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى اللَّه توبة نصوح.

وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي: «عَذَابُ جَهَنَّمَ» و «عَذَابُ الْحَرِيقِ»، للإشارة إلى أنّ لعذاب جهنم ألوان عديدة، منها (عذاب النار)، وتعيين «عذاب الحريق»، للإشارة أيضاً إلى أنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنار، سوف يجازون بذات أساليبهم، ولكن أين هذه النار من تلك؟!

______________________________

(1) قصص القرآن، للبلاغي/ 288.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 427

وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ».

وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى

جوار اللَّه، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح)، وما عداه فروع لهذا الأصل.

ويعود القرآن مرّة اخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين، فيقول: «إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ».

ولا تظنوا بأنّ القيامة أمر خيالي، أو إنّ المعاد من الامور التي يشك في صحة تحققها، بل:

«إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ».

«البطش»: تناول الشي ء بصولة وقهر، وباعتباره مقدمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة؛ «ربّك»: تسلية للنبيّ صلى الله عليه و آله، وتأكيد دعم اللَّه اللامحدود له.

ثم يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف للباري جلّ شأنه: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ».

الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين.

«ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ». صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة.

«فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ».

فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد، يبيّن أنّ طريق العودة إلى اللَّه سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكل من ولغ في الذنوب، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضاً.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ألم تر ما حلّ بجيش فرعون وثمود: فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة اللَّه المطلقة وحاكميته، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين .. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد، فتخاطب النبي صلى الله عليه و آله قائلة: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ». تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء اللَّه بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة اللَّه عزّ وجل.

وتشير إلى نموذجين واضحين، أحدهما من غابر الزمان، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الإسلام: «فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 428

فأحدهما ملك

الشرق والغرب، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف بوجههم، ولكن العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء، مع ما لهاتين المادتين من الوسائل المهمة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان.

وتقول الآية التالية: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيبٍ».

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأنّ «بل» تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائماً بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كل وسيلة في هذا الطريق.

وعليهم أن يعلموا بقدرة اللَّه: «وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ».

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

وتقول الآية التالية: «بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ». ذو مكانة سامية ومقام عظيم.

«فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ». لا تصل إليه يد العبث، والشيطنة، ولا يصيبه أيّ تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتئس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراءً، كأن يتهموك بالشعر، السحر، الكهانة والجنون ... فاصولك ثابتة، وطريقك نيّر، والقادر المتعال معك.

«لَوح»: هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها، ويراد هنا: الصفحة التي كتب فيها القرآن، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا، بل (وعلى قول ابن عباس): إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب.

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ، هو «علم اللَّه» الذي يملاء الشرق والغرب، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

«نهاية تفسير سورة البروج»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 429

86. سورة الطارق

محتوى السورة: تدور مواضيع السورة حول محورين:

1- المعاد والقيامة.

2- القرآن الكريم وأهميته القيمة.

تبتدأ السورة بجملة أقسام تبعث على التأمل والتفكير، ثم تشير إلى المراقبين الإلهيين على الإنسان.

وتنتقل السورة لإثبات

إمكانية المعاد من خلال الإشارة إلى كيفية خلق الإنسان من نطفة. فالقادر على خلق الإنسان من نطفة نتنة لقادر على إعادة حياته بعد موته.

وتعرض لنا السورة بعد ذلك معالم المرحلة التالية من خلال تبيان بعض ملامح يوم القيامة، ثم تذكر جملة أقسام اخرى للتأكيد على أهمية القرآن، ومن ثم نختم بإنذار الكفار بالعذاب الإلهي.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات».

إنّ التأمل بمحتوى السورة والعمل على ضوئها هو الذي يضمن حصول ثوابها، وحركة اللسان الفارغة عن كل محتوى وتطبيق، لا تغني عن الحق شيئاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 430

وَ السَّمَاءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لَا نَاصِرٍ (10) تبتدأ السورة- كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم- بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل، وهي مقدمة لبيان أمر مهم.

«وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ» .. «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الطَّارِقُ» .. «النَّجْمُ الثَّاقِبُ».

«الطارق»: من (الطرق) وهو الضرب، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة.

ويفسّر القرآن الكريم «الطارق» بقوله: «النَّجْمُ الثَّاقِبُ». النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك، فيجلب الأنظار بميزته هذه.

ولنرى لأي شي ء كان هذا القسم: «إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ».

يحفظ عليه أعماله، وتسجل كل أفعاله، ليوم الحساب.

فلا تظنوا بأنّكم بعيدون

عن الأنظار، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كل ما يبدر منكم .. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان.

ثم يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد: «فَلْيَنظُرِ الْإِنسنُ مِمَّ خُلِقَ».

وبهذا ... أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أوّل خلقهم، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.

وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه: «خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ».

وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن، ويخرج بدفق.

ويستمر في تقريب المراد: «يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ».

«الصلب»: الظهر؛ و «الترائب»: جمع (تريبة)، وهي عظام الصدر العليا وضلوعه.

فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة «ماء دافق»، وهذا لا يصدق إلّاعلى

مختصر الامثل، ج 5، ص: 431

الرجل، وعليه يعود الضمير في «يخرج».

و «الصلب والترائب» هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين.

وهذا التفسير واضح، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.

كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.

ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم: «إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ».

فالإنسان تراباً قبل أن يكون نطفة، ثم مرّ بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنساناً كاملًا، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اخرى.

وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ».

«تبلى»: من «البلوى»، بمعنى الإختبار والإمتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الإمتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.

«السرائر»: جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.

نعم، فأسرار

الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، يوم البروز ويوم الظهور، فسيظهر على الطبيعة كل من: الإيمان، الكفر، النفاق، نيّة الخير، نيّة الشر، الإخلاص، الرياء ...

وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين ...

وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين الناس بظاهر حسن ونوايا خبيثة. وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كل الخلائق.

ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان: «فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ».

فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونيّاته، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب اللَّه سبحانه وتعالى.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 432

بعد أن تضمّنت الآيات السابقة استدلالًا على المعاد، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرّة اخرى، لتشير إلى بعض الأدلة الاخرى عليه فتقول:

«وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ» ... «وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ» ... «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ» ... «وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ».

«الرجع»: من «الرجوع» بمعنى العود، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنّها تبدأ من مياه الأرض والبحار، ثم تعود إليها تارة اخرى عن طريق الغيوم.

فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد، كما في قوله تعالى في الآية (11) من سورة «ق»:

«وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ».

وتسلّي الآيات التالية قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين من جهة، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة اخرى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا». فالكفار يخططون من جهة، وأنا أخطط لإحباط

تلك الخطط من جهة اخرى .. «وَأَكِيدُ كَيدًا». «فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا»، حتى يروا عاقبتهم.

نعم، إنّهم دوماً يكيدون في حربك والحرب ضد دينك.

فتارة بالإستهزاء ...

واخرى بالحصار الإقتصادي ...

ومرّة بتعذيب المؤمنين ...

ويقولون عنك: ساحراً، كاهناً، مجنوناً ...

ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتّبعك

ومراد الآية هو كيد الأعداء، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه.

والمقصود بالكيد الإلهي إنّه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبي صلى الله عليه و آله ومن معه من المؤمنين، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم.

هذه الآية درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم، وخصوصاً ماإذا كانوا أعداءً أقوياء، فلابدّ من الصبر والتأنّي والدقّة في حساب خطوات المواجهة، وينبغي عدم التسرع في العمل، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة.

«نهاية تفسير سورة الطّارق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 433

87. سورة الأعلى

محتوى السورة: تحتوي السورة على قسمين من المواضيع:

1- يحوي خطاباً إلى النبي صلى الله عليه و آله، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة، ثم ذكر سبعاً من صفات اللَّه عزّ وجل، لها صلة ربط بالأمر الرباني إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

2- يتحدث عن المؤمنين الخاشعين، والكافرين الأشقياء، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحق.

وفي آخر السورة، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط، بل وتناولته كتب وصحف الأوّلين أيضاً، كصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «من قرأها أعطاه اللَّه من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله اللَّه على إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم السلام».

وعن أبي بصير عن الصادق

عليه السلام قال: «من قرأ سبّح اسم ربّك الأعلى في فريضة أو نافلة قيل له يوم القيامة: ادخل الجنة من أيّ أبواب الجنة شئت».

فيبدو أنّ السورة من الأهمية بحيث روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحب هذه السورة «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 434

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) تسبيح اللَّه: تبدأ السورة بخلاصة دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث التسبيح والتقديس أبداً للَّه الواحد الأحد، فتخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالقول: «سَبّحِ اسْمَ رَبّكَ الْأَعْلَى».

فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كل عيب ونقص، ومن كل صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.

«الْأَعْلَى»: أي الأعلى من كل: أحد، تصوّر، تخيّل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.

«رَبّكَ»: إشارة إلى أنّه غير ذلك الرب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية اللَّه العليا ...: «الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى .

فنظام عالم الخليقة، بدءاً من أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (4) من سورة القيامة: «بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ». وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية كلّها شواهد ناطقة على ربوبية اللَّه سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزّ وجل.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: «وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى .

والمراد ب (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الامور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة

التي ما خلقت الموجودات إلّالأجلها.

والمراد ب (هدى هنا، هو: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلًا، إنّ اللَّه خلق ثدي المرأة وجعل فيه اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الامومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلًا غريزياً نحو ثدي امّه، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الام والإبن والثدي

مختصر الامثل، ج 5، ص: 435

مقدّر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها: «وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى .

ثم: «فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى .

«الغثاء»: هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كل ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم.

«أحوى»: من (الحوة)- على زنة قوّة- وهي شدّة الخضرة، أو شدّة السواد.

فللغثاء الأحوى منافع كثيرة .. فهو يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا، وكذا غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ مَا يَخْفَى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَ لَا يَحْيَى (13) فيما كان الحديث في الآيات السابقة

عن ربوبية اللَّه وتوحيده جلّ شأنه، والهداية العامة للموجودات، وكذا عن تسبيح الرب الأعلى .. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن: القرآن والنّبوّة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح. فتقول الآية الاولى مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى . فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها، وبخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً.

وتدخل الآية في سياق الآية (114) من سورة طه: «وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن

مختصر الامثل، ج 5، ص: 436

يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا». وكذا الآية (16 و 17) من سورة القيامة: «لَاتُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ» تدخل في سياقهما.

ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأنّ كل خير منه، تقول الآية: «إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى . ولا يعني هذا الإستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبي صلى الله عليه و آله وطراً، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبداً، وإلّا لتزعزعت الثقة بقول النبي صلى الله عليه و آله.

فمن معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل عليه السلام، دون أن ينسى منها شيئاً أبداً.

وتخاطب الآية التالية النبي الكريم صلى الله عليه و آله مسلية له: «وَنُيَسّرُكَ لِلْيُسْرَى . أي: إخبار النبيّ بصعوبة الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له صلى الله عليه و آله.

وبعد

أن تبيّن الآيات العناية الربانية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية:

«فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذّكْرَى .

قيل: الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع، وقليل اولئك الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم.

وتقسم الآيات التالية الناس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار الذي مارسه النبي صلى الله عليه و آله ...: «سَيَذَّكَرُ مَن يَخْشَى .

نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح «الخشية» والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق- والتي هي من مراتب التقوى- فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتى تذكيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن «هدًى للمتّقين».

وتذكر الآية التالية القسم الثاني، بقولها: «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى».

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثاني: «الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى .. «ثُمَّ لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى . أي، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياةً خالية من العذاب، فهو أبداً يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة.

إنّ وصف نار جهنم ب «الكبرى» مقابل (النار الصغرى) في الحياة الدنيا.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 437

في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ ناركم هذه جزءاً من سبعين جزء من نار جهنم، وقد اطفئت سبعين مرّة بالماء ثم التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفيها».

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقَى (17) إِنَّ هذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى (19) بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى

فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر اللَّه .. ويقول القرآن: «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . «وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى .

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: «التزكية»، «ذكر اسم اللَّه» و «الصلاة».

إنّ «التزكية» ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل اللَّه: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا».

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا» .. «وَالْأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى .

في عوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «حبّ الدنيا رأس كل خطيئة».

وعليه ... فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلّابإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة.

وتختم السورة ب: «إِنَّ هذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى .. «صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى .

و «الصحف الاولى»: مقابل «الصحف الأخيرة» التي انزلت على المسيح عليه السلام وعلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى عليهما السلام كتباً سماوية.

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي ذر أنّه قال: قلت يا رسول اللَّه! كم الأنبياء؟ فقال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً». قلت: يا رسول اللَّه! كم المرسلون منهم؟ قال: «ثلاثمائة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 438

وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء». قلت: كان آدم عليه السلام نبيّاً؟ قال: «نعم، كلّمه اللَّه وخلقه بيده. يا أباذر! أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك». قلت: يا رسول اللَّه! كم أنزل اللَّه من كتاب؟ قال: «مائة واربعة كتب، أنزل اللَّه منها على

آدم عليه السلام عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان».

«نهاية تفسير سورة الأعلى»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 439

88. سورة الغاشية

محتوى السورة: تدور محتويات السورة على ثلاثة محاور:

1- بحث «المعاد»، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

2- بحث «التوحيد»، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض، ونظر الإنسان إليها.

3- بحث «النبوّة»، مع عرض لبعض وظائف النبي صلى الله عليه و آله.

وعموماً، فالسورة تسير على منهج السور المكية في تقوية اسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها حاسبه اللَّه حساباً يسيراً».

وأبو بصير عن الصادق عليه السلام قال: «من أدمن قراءة هل أتاك حديث الغاشية في فرائضه أو نوافله، غشاه اللَّه برحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلّالمن تلاها بتأمل وعمل.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 440

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَ لَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) المتعبون ... الأخسرون: تبتدأ السورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ». «الغاشية»: من «الغشاوة» وهي التغطية، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كل شي ء.

وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أوّلًا: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ».

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع

لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وتصف حال تلك الوجوه ثانياً: «عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ».

فكل ما سعوا وكدوا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلّاالتعب والنصب، وذلك:

لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند اللَّه، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر اللَّه لهم.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أن: «تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً».

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذٍ: «تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ».

«آنية»: مؤنث آني من «الأني» وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته؛ وجاء في الآية (29) من سورة الكهف:

«وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا».

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: «لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ».

جاء في الحديث النبوي الشريف: «الضريع شي ء يكون في النار يشبه الشوك، أشدّ مرارة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 441

مختصر الامثل ج 5 490

من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سمّاه اللَّه ضريعاً».

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: «لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِى مِن جُوعٍ».

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم، على حساب ظلم الناس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَ نَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) صور من نعيم الجنة: بعد ذكر ما سيتعرض له أهل

النار، تنتقل عدسة السورة لتنقل لنا مشاهد رائعة لنعيم أهل الجنة .. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية، وما بين الوعيد والبشارة. فتقول الآية الاولى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ». على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة»: من «النعمة» وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة اللَّه، وجوه طرية، مسرورة ونورانية كما في الآية (24) من سورة المطففين: «تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ».

وترى الوجوه: «لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ».

على عكس أهل جهنم، فوجوههم «عاملة ناصبة»، أمّا أهل الجنة، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم، وحصلوا عى أحسن ما يتمنون، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن اللَّه ولطفه أضعافاً مضاعفة، فتارة عشرة أضعاف، واخرى سبعمائة ضعف، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب، كما أشارت الآية (10) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ».

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر: «فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ».

وكذا ...: «لَّاتَسْمَعُ فِيهَا لغِيَةً».

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

مختصر الامثل، ج 5، ص: 442

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث، والتي تؤدي إلى عدم الإستقرار النفسي، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً. وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنة من نعمة روحية، يبيّن بعض النعم المادية في الجنة: «فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ».

تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنة فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنة أشربة طاهرة ومتنوعة، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصة به.

وينتقل الوصف إلى أسرّة الجنة: «فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ». «سرر»: جمع

(سرير)، وهو من (السرور)، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور.

وجعلت تلك الأسرّة من الإرتفاع بحيث يتمكن أهل الجنة من رؤية كل ما يحيط بها والتمتع بذلك.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به، فقد قالت الآية التالية: «وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ».

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب»: جمع (كوب)، وهو القدح، أو الظرف الذي له عروة.

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنة: «وَنَمَارِقُ مَّصْفُوفَةٌ».

«نمارق»: جمع (نمرقة)، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة»: إشارة إلى تعددها بنظم خاص، ليظهر أنّ لأهل الجنة جلسات انس جماعية، التي لا يتخللها أي لغو وباطل، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمه الخالدة، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة.

ثم تكون الإشارة إلى فرش الجنة الفاخرة: «وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ».

«زرابية»: جمع (زرب) أو (زربيّة)، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 443

أَ فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الإبل ... من آيات خلق اللَّه: بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنة ونعيمها، تأتي هذه الآيات لتوضح معالم الطريق الموصل إلى الجنة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة «معرفة اللَّه»، ووصولًا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة، داعية الإنسان للتأمل، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضاً إلى أنّ

قدرة اللَّه المطلقة هي مفتاح درك المعاد ..

فتقول الآية الاولى: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ».

إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكة قبل غيرهم، والإبل أهم شي ء في حياة أهل مكة في ذلك الزمان، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة. أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات، ويعتبر بحق آية من آيات خلق اللَّه الباهرة.

ولابدّ من التذكير، بأنّ «النظر» الوارد في الآية، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء: «وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ».

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة، وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة، ولِم لَم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها.

مع كل هذا وذاك، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير، والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال: «وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 444

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر ..

«نصبت»: من «النصب»، وهو التثبيت، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضاً.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع:

فمنها: ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض.

ومنها: ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها: ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها: ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم، فالجبال وبكل

ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية، لمن رآها بعين بصيرة ولبّ شغول.

ثم إلى الأرض: «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ».

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اخرى .. ولو كانت كل الأرض عبارة عن جبال ووديان، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه.

ولابدّ لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماماً لحياة الإنسان؟ ..

إنّ هذه الإشياء الأربع (الإبل، السماء، الجبال والأرض) تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات

مختصر الامثل، ج 5، ص: 445

وما يتغذى به، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة، و ما الإبل إلّانموذج بارز متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كل مستلزمات «الزراعة» و «الصناعة» و «الثروة الحيوانية»، وحريّ بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث التوحيدي، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ» ... «لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ».

نعم، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف ...

فذكّرهم بهدفية الخلق، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار، وليس

ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وفي الآيتين التاليتين يأتي الاستثناء ونتيجته: «إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ» .. «فَيُعَذّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ».

ويراد ب «الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ» «عذاب الآخرة» الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة، بقرينة الآية (26) من سورة الزمر: «فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ».

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة، تقول آخر آيتين في السورة: «إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ» .. «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 446

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله في مواجهته لأساليب المعاندين، لكي لا يبتئس من أفعالهم، ويستمر في دعوته.

وهما أيضاً، تهديد عنيف لكل مَن تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد.

بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضاً، كما تمّت الإشارة فيما بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنبوّة، وهما دعامتا المعاد.

«نهاية تفسير سورة الغاشية»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 447

89. سورة الفجر

محتوى السورة: تقدّم لنا الآيات الاولى أقساماً نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي.

وتنقل لنا بعض آياتها ما حلّ ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فساداً (قوم عاد، ثمود وفرعون)، وجعلهم عبرة لُاولي الأبصار، ودرساً قاسياً لكل من يرى في نفسه القوّة والإقتدار من دون اللَّه.

ثم تشير باختصار إلى الإمتحان الرباني للإنسان، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات ..

وآخر ما تتحدث عنه السورة هو «المعاد» وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل، وأيضاً ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها في ليال عشر،

غفر اللَّه له، ومن قرأها سائر الأيّام، كانت له نوراً يوم القيامة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن علي عليه السلام، من قرأها كان مع الحسين بن علي عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنة».

يمكن أن يكون وصف السورة بسورة الإمام الحسين عليه السلام بلحاظ أنّه أفضل مصاديق ما

مختصر الامثل، ج 5، ص: 448

جاء في آخر آياتها، حيث فيما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية الأخيرة من السورة: إنّ «النفس المطمئنة» هو الحسين بن علي عليهما السلام.

وعلى أيّة حال، فثوابها إنّما هو لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوئها.

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) بدأت السورة بخمسة أقسام: الأوّل: «وَالْفَجْرِ» ... والثاني: «وَلَيَالٍ عَشْرٍ».

«الفجر»: بمعنى الشقّ الواسع، وقيل للصبح «الفجر» لأنّ نوره يشقّ ظلمة الليل.

وقيل: هو كل نور يشع وسط ظلام .. وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى صلى الله عليه و آله في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي عليه السلام في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الروايات) «1».

ومن مصاديقه أيضاً، ثورة الحسين عليه السلام في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني اميّة، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام الناس.

ويكون من مصاديقه، كل ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على مرّ التاريخ.

وحتى انقداح أوّل شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو «فجر».

وممّا لا شك فيه أنّ المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أمّا ظاهرها فيدل على «الفجر» المعهود.

والمشهور عن «ليال عشر»: إنّهن

ليالي أوّل ذي الحجة، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض.

وقيل: ليالي أوّل شهر محرم الحرام.

وقيل أيضاً: ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها.

والجمع بين كل ما ذُكر ممكن جدّاً.

وذكر في بعض الروايات التي تفسّر باطن القرآن: إنّ «الفجر» هو المهدي المنتظر عليه السلام ...

______________________________

(1) راجع تفسير البرهان 4/ 457/ 1.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 449

و «ليال عشر» هم الأئمة العشر قبله عليهم السلام ..؛ و «الشفع»:- في الآية- هما علي وفاطمة عليهما السلام.

ويأتي القَسم الثالث والقسم الرابع: «وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ».

للمفسرين آراء كثيرة فيما اريد ب «الشفع والوتر» حتى ذكر (36) قولًا في ذلك «1». أمّا سيكون تفسيران من التفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقرباً مع مراد الآية، وهما:

الأوّل: المراد بهما يومي العيد وعرفة، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الاولى من شهر ذي الحجّة، وفيهما تؤدي أهم فقرات مناسك الحج.

الثاني: أنّهما يشيران إلى «الصلاة» (ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل)، بقرينة ذكر «الفجر»، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى اللَّه عزّ وجل.

وقد ورد هذان التفسيران في روايات عن أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام.

ونصل هنا إلى القسم الخامس: «وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ».

وكأنّ الوصف يقول: بأنّ الليل موجود حسي، له حس وحركة، وهو يخطو في ظلمته وصولًا لنور النهار.

اختلف المفسرون في مراد الآية من «الليل»، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي، كآية من آيات اللَّه ومظهر من مظاهر الحياة المهمّة.

وإن كانت الألف واللام للتعريف، فليلة عيد الأضحى، بلحاظ الآيات السابقة، حيث يتجه حجاج بيت اللَّه الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة)- المشعر الحرام- ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس، وعند الصبح

يتجهون نحو (منى).

(وقد ورد في هذا روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام) «2».

فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود.

فالليل يكيّف حرارة الجو، ويعم على جميع الكائنات الإستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجات مع اللَّه جّل وعلا.

______________________________

(1) نقل ذلك كل من: العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان عن بعض المفسرين في الجزء 20/ 286؛ وفي تفسير روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير 30/ 120.

(2) راجع تفسير نور الثقلين 5/ 571.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 450

وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر، ليال عشر، الشفع، الوتر، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيّام ذي الحجة ومراسم الحج العظيمة. وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمّة، والتي تبيّن جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

ثم تأتي الآية التالية لتقول: «هَلْ فِى ذلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ». «الحجر»: هنا بمعنى العقل، وفي الأصل بمعنى (المنع). اطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة.

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) إمهال الظالمين ... والإنتقام: بعد أن تضمّنت الآيات الاولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة، محذرة المشركين في كل عصر

ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة، وينبغي الإتعاظ بعاقبتهم، وإلّا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات ب: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ».

المراد «بالرؤية» هنا، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشي ء الكثير وكأنّه يراهم بام عينيه.

«عاد»: هم قوم نبي اللَّه هود عليه السلام، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

ويضيف القرآن قائلًا: «إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ».

«عماد»: بمعنى العمود تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلوّ قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

ولذا تقول الآية التالية: «الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلدِ».

والآية تبيّن أنّ المراد ب «إرم» المدينة.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين: «وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ».

وصنعوا منها البيوت والقصور.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 451

«ثمود»: من أقدم الأقوام، ونبيّهم صالح عليه السلام، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام، وكانوا يعيشون حياة مرفهة، ومدنهم عامرة.

«جابوا»: من «الجوبة»- على زنة توبة- وهي الأرض المقطوعة، ثم استعملت في قطع كل أرض. فمراد الآية: قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية، كما أشارت إلى ذلك الآية (82) من سورة الحجر- حول ثمود أنفسهم-: «وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ».

«واد»: في الأصل (وادي)، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر، ومنه سمي المفرج بين الجبلين وادياً، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم، وما ذكرناه آنفاً يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال.

وتتحرك الآية التالية لتستعرض قوماً آخرين: «وَفِرْعَوْنَ ذِى الْأَوْتَادِ».

أي: ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد»: جمع (وتد)، وهو ما يثبّت به.

ولِمَ وصف

فرعون بذي الأوتاد؟ وثمّة تفاسير مختلفة:

الأوّل: لأنّه كان يملك جنوداً وكتائباً كثيرة، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثاني: لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم، حيث غالباً ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وينتقل القرآن لعرض ما كانوا يقومون به من أعمال: «الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلدِ» ..

«فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ».

الفساد الذي يشمل كل أنواع الظلم والإعتداء والإنحراف، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم، فكل من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة: «فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ».

«السوط»: هو الجلد المضفور الذي يُضرب به، وأصل السوط: خلط الشي ء بعضه ببعض، وهو هنا كناية عن العذاب، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء. أمّا أنسب معاني «السوط» فهو المعروف بين الناس به.

«صبّ عليهم»: تستعمل في الأصل لانسكاب الماء، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 452

فعلى إيجاز الآية، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم، فعاد اصيبوا بريح باردة، كما تقول الآية (6) من سورة الحاقّة: «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ». واهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة، كما جاء في الآية (5) من سورة الحاقّة أيضاً: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ». والآية (55) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون:

«فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ».

وتحذر الآية التالية كل من سار على خطى اولئك الطواغيت: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ».

«المرصاد»: من «الرصد» وهو الإستعداد للترقب، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة اللَّه وقبضته، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

«ربّك»: إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية

لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّد صلى الله عليه و آله .. وفي ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه و آله وتطميناً لقلوب المؤمنين، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبداً أبداً، وفيه تحذير أيضاً لُاولئك الذين يؤذون النبي صلى الله عليه و آله ويظلمون المؤمنين، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لما نزلت هذه الآية «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» [الفجر: 23] سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: بذلك أخبرني الروح الأمين أنّ اللَّه لا إله غيره، إذا أبرز الخلائق وجمع الأوّلين والآخرين، أتى بجهنم تقاد بألف زمام، مع كل زمام مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد، لها هدة وغضب وزفير، وشهيق، وإنّها لتزفر الزفرة، فلولا أنّ اللَّه عزّ وجل أخرهم للحساب لأهلكت الجميع ثم يخرج منها عنق [أي طائفة منها] فيحيط بالخلائق البر منهم والفاجر فما خلق اللَّه عز وجل عبداً من عباد اللَّه ملكاً ولا نبيّاً إلّاينادي نفسي نفسي وأنت يا نبي اللَّه تنادي: امتي امتي ثم يوضع عليها الصراط أدق من حدّ السيف، عليها ثلاث قناطر:

أمّا واحدة فعليها الأمانة والرحم، والثانية فعليها الصلاة، وأمّا الثالثة فعليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره، فيكلّفون الممر عليها، فيحبسهم الرحم والأمانة، فإن نجوا منهما حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين عزّ وجل،

وهو قوله: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ»».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 453

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمّاً (19) وَ تُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة، وتحذيرهم وإنذارهم، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الإبتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي، وتعتبر مسألة الإبتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب: «فَأَمَّا الْإِنسنُ إِذَا مَا ابْتَلهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ».

وكأنّه لا يدري بأنّ الإبتلاء سنّة ربانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء واخرى بالعسر والضراء.

«وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ».

فيأخذه اليأس، ويظن إنّ اللَّه قد ابتعد عنه، غافلًا عن سنّة الإبتلاء في عملية التربية الربانية لبني آدم، والتي تعتبر رمزاً للتكامل الإنساني، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للإبتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته، فأمّا النعيم الدائم، وأمّا العقاب الخالد.

وتأتي الآية (51) من سورة فصّلت في سياق الآيتين: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسنِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ». وكذا الآية (9) من سورة هود: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسنَ مِنًّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيُوسٌ كَفُورٌ».

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحق للبعد عن اللَّه، وتوجب عقابه: «كَلَّا». فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من اللَّه، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه، «بَل لَّاتُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ» .. «وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل

بالإكرام، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الإنكسار والذلة بفقدان أبيه، وينبغي الإعتناء به

مختصر الامثل، ج 5، ص: 454

وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه، وقد أولت الأحاديث الشريفة والروايات هذا الجانب أهمية خاصة، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم. «تحاضون»: من «الحض» وهو الترغيب، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على الناس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كل المجتمع.

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة: «وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا».

ممّا لا شك فيه أنّ الإستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الامور التالية:

الأوّل: الجمع بين حق الإنسان وحق الآخرين في الميراث.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

الثاني: عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله، وهذا عيب كبير فيكم.

الثالث: هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار، وذلك من أقبح الذنوب، لأنّ فيه استغلال فاحش لحق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

والجمع بين هذه التفاسير الثلاث ممكن.

ثم يأتي الذّم الرابع: «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا».

فأنتم .. عبدة دنيا، طالبي ثروة، عشاق مال ومتاع .. ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال، أكان من حلال أم من حرام، ومن الطبيعي أيضاً أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه، بأن لا ينفقها أو ينقص منها .. ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا

سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللَّه عزّ وجل.

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

والملاحظ أنّ الإختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 455

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يوم لا تنفع الذكرى: بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء.

فتقول أوّلًا: «كَلَّا». فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء، وأنّ اللَّه قد أعطاكم المال تكريماً وليس امتحاناً .. «إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا».

«الدك»: الأرض اللينة السهلة، ثم استعملت في تسوية الأرض من الإرتفاعات والتعرجات.

فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض، كما أشارت لذلك الآيات (105- 107) من سورة طه: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا».

وبعد أن تنتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار)، تأتي المرحلة الثانية، حيث يعود الناس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الإلهي: «وَجَاءَ رَبُّك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا».

نعم، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربانية، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّاالرضوخ التام بين

قبضة العدل الإلهي.

وتقول الآية التالية: «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسنُ وَأَنَّى لَهُ الذّكْرَى .

وما نستنبطه من الآية، إنّ جهنم قابلة للحركة، فتقرب للمجرمين، كما هو حال حركة الجنة للمتقين: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» «1».

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية، تغيّر وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعُرف في وجهه، حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله، وانطلق بعضهم إلى

______________________________

(1) سورة الشعراء/ 90.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 456

علي بن أبي طالب عليه السلام فقالوا: يا علي! لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي اللَّه صلى الله عليه و آله، فجاء علي عليه السلام فاحتضنه من خلفه، وقبّل بين عاتقيه، ثم قال: «يا نبي اللَّه بأبي أنت وامي، ما الّذي حدث اليوم؟ قال: جاء جبرائيل فأقرأني «وَجِاى ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ». قال فقلت: كيف يجاء بها؟ قال:

يجي ء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم فتقول: ما لي ولك يا محمّد، فقد حرّم اللَّه لحمك عليّ، فلا يبقى أحد إلّا قال: نفسي نفسي، وإنّ محمّداً يقول ربّ امّتي امّتي». نعم، فحينما يرى المذنب كل تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعباً، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ، ويتحسر على كل لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه، ولكن هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وعندها ... يصرح بمل ء كيانه: «يَقُولُ يَا لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى».

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي: «فَيَوْمَئِذٍ لَّايُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ».

نعم، فمن استخدم في دنياه كل قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب، فلا يجني في آخرته إلّاأشد العذاب ...

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب،

ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب: «وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ».

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين، وعذابه كذلك، كل ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق، ومارس معهم التعذيب بكل وحشية، متجرد عن كل ما وهبه اللَّه من إنسانية.

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30) الشّرف العظيم: وتنتقل السورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة باللَّه وبهدف الخلق، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا، فتخاطبهم بكل لطف ولين ومحبّة، حيث تقول: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» .. «ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً» .. «فَادْخُلِى فِى عِبَادِى» .. «وَادْخُلِى جَنَّتِى».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 457

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير ... تعبير يحكي دعوة اللَّه سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة، المخلصة، المحبة والواثقة بوعده جلّ شأنه.

ويراد بالنفس هنا: الروح الإنسانية.

«المطمئنة»: إشارة إلى الإطمئنان الحاصل من الإيمان، بدلالة الآية (28) من سورة الرعد: «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».

ويعود اطمئنان النفس، لإطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة، ولإطمئنانها لما اختارت من طريق ..

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضاً.

أمّا (الرجوع إلى اللَّه)، فهو رجوع إلى جواره وقربه بمعناه الروحي المعنوي، وليس بمعناه المكاني والجسماني.

«راضية»: لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر مما كانت تتصور.

«مرضيّة»: لرضا اللَّه تبارك وتعالى عنها.

في الكافي عن سدير الصّيرفي قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك يابن رسول اللَّه! هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: «لا واللَّه، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك،

فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللَّه، لا تجزع، فو الذي بعث محمّداً صلى الله عليه و آله لأنا أبرّ بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويمثّل له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذرّيتهم عليهم السلام، فيقال له: هذا رسول اللَّه وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام رفقاؤك، قال: فيفتح عينه فينظر، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول:" يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّداً وأهل بيته) وادخلي جنّتي". فما شي ء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي».

«نهاية تفسير سورة الفجر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 459

90. سورة البلد

محتوى السورة: هذه السورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى:

1- في بداية هذه السورة، بعد قسم ذي محتوى عميق، تُقرّر الآية أنّ حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب؛ وبذلك تُعدّ الإنسان من جهة ليصارع العقبات، ومن جهة اخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم.

2- ثم تشير إلى أهم النعم الإلهية، ثم ذكر جحود الإنسان بهذه النعم.

3- وفي آخر هذه السورة تقسيم الناس إلى: «أصحاب الميمنة» و «أصحاب المشئمة».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان ابي بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قرأها أعطاه اللَّه الأمن من غضبه يوم القيامة».

لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ وَالِدٍ وَ مَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ

يَرَهُ أَحَدٌ (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 460

في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة ... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل .. بالقسم المرتبط إرتباطاً خاصاً بالموضوع المطروح.

وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكة: «لَاأُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ». لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام.

«وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ».

أرض مكة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللَّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللَّه العظام ... ولذلك أقسم اللَّه بها ... ولكن السورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: «وَأَنتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» ... فالبلد استحق أن يقسم به اللَّه لوجودك أنت أيّها النبي الكريم فيه.

«وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ».

إنّ الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح.

ونعلم أنّ إبراهيم وإبنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين.

والعرب في الجاهلية كانوا يجلّون إبراهيم وإبنه ويفخرون في الإنتساب إليهما.

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ».

إنّ «كبد» ألم يصيب الكَبِد، ثم اطلق على كل ألم ومشقّة.

هذه طبيعة الحياة، ومن توقّع منها غير ذلك خيّبت ظنّه. يقول الشاعر:

طبعت على كدر وأنت تريدهاصفواً من الأكدار والأقذار

ومكلّف الأيّام ضد طباعهامتطلب في الماء جذوة نار

وهذه الحالة تشمل كل أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء اللَّه وأولياؤه الصالحون.

ثم إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة: «أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ».

فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدلّ على ضعف قدرته، هذه الحقيقة تردّ على اولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنّهم في مأمن من العقاب الإلهي.

«يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا».

إشارة إلى قول الذين يُطلب منهم أن ينفقوا أموالهم

في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور:

إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيراً من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئاً، وإنّ أعطوا لأحد شيئاً فللرياء ولتحقيق هدف شخصي.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 461

وقيل إنّها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرسول والرسالة، وتباهوا بذلك.

والجمع بين التفاسير المذكورة جائز، وإن كان التفسير الأوّل أكثر انسجاماً مع سياق الآيات التالية.

والفعل «أهلكت» يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها.

و «لبد»: تعني الشي ء المتراكم، وهنا تعني المال الوفير.

«أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ». إنّه غافل عن هذه الحقيقة ... حقيقة اطّلاع الباري تعالى على كل الامور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنية ... عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال.

أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِسَاناً وَ شَفَتَيْنِ (9) وَ هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) نعمة العين واللسان والهداية: استتباعاً للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في حالات الطاغين، تذكر هذه الآيات الكريمة جانباً من أهم ما أنعم اللَّه به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية ... كي تكسر فيه روح الغرور، وتدفعه إلى التفكير في خالق هذه النعم، وتحرّك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثم تسوقه إلى معرفة الخالق: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنهُ النَّجْدَيْنِ».

ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أنّ:

«العين»: أهم وسيلة لإرتباط الإنسان بالعالم الخارجي، عجائب العين تدفع الإنسان حقّاً إلى الخضوع أمام خالقه، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية، والمشيمية، والعنبية، والجلدية، والزلالية، والزجاجية، والشبكية، لكل منها تركيب عجيب دقيق مدهش، روعيت فيها القوانين الفزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق

وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو.

لو لم يكن في الكون سوى الإنسان، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم اللَّه الواسع وقدرته الجبارة جلّ وعلا.

و «اللسان»: فهو أهم وسائل إرتباط الإنسان بغيره من أبناء جلدته، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة، وبدون هذه الوسيلة الهامّة

مختصر الامثل، ج 5، ص: 462

من وسائل الإرتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقاً أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة. و «الشفتان»: تلعبان أوّلًا دوراً هامّاً في النطق، إذ أنّ الشفتين مخرج لكثير من الحروف، والشفتان تقومان بدور أيضاً في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم، وشرب الماء، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟!

وحقّاً ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة: «اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم!».

عبارة «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» إضافة لما لها من مدلول على مسألة الإختيار وحرية الإنسان، تدلّ أيضاً على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأنّ «النجد» مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كداً وسعياً وجهداً، غير أنّ طريق الشرّ له مشاكله ومصاعبه أيضاً، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير.

مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان ... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها ... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين «الخير» أو «الشر».

وفي تفسير مجمع البيان عن أبي حازم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ اللَّه تعالى يقول: يابن آدم! إن نازعك

لسانك فيما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين، فأطبق. وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك، فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ...».

وهذه الهداية يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق: من الإدراكات العقلية والإستدلال، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الإستدلال، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بيّنه اللَّه سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معاً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 463

العقبة: بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة، تنحي هذه الآيات باللائمة على اولئك الذين يكفرون بهذه النعم، ولا يسخرونها على طريق النجاة، يقول سبحانه: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ».

وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسّرها: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ».

من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون لاجتيازها هي: فك رقبة عبد وتحريره من الرقّ، أو إطعام في يوم الضائقة الإقتصادية والمجاعة، يتيماً ذا قربى أو فقيراً قد لصق بالتراب من شدّة فقره، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة الناس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين، كما إنّها أيضاً مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية. نعم، إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب الناس من التصاق بالمال والثروة.

1- «اقتحم»: من «الإقتحام» وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب)، أو الولوج والعبور بشدّة ومشقّة (تفسير الكشّاف) وهذا يعني أنّ إجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير، كما أنّه تأكيد على ما ورد في أوّل السورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته:

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى كَبَدٍ».

2- «المسغبة»: من «سغب» على وزن (غضب) وهو

الجوع؛ و «يوم ذي مسغبة» أي وقت المجاعة، والجياع موجودون في المجتمع عادة، والآية إنّما تؤكّد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع، وإلّا فإنّ اشباع الجياع هو دائماً من أفضل الأعمال.

3- «المقربة»: بمعنى القرابة والرحم، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنّما هو لمراعاة الاولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.

4- «المتربة»: مصدر ميمي من «ترب» وساكن التراب من شدّة فقره هو ذو المتربة، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضاً.

وفي الكافي عن معمر بن خلاد قال: كان أبوالحسن الرضا عليه السلام إذا أكل أتى بصفحة فتوضع بقرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شي ء شيئاً فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ». ثم يقول: «علم اللَّه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 464

عزّ وجل أنّه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة».

ثم تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة، وسبل اجتيازها فتقول: «ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ».

فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والإستقامة على الطريق، ومتواصون بالرحمة والعطف.

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أنّ القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة، وذوو أعمال البرّ والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين، إنّهم بعبارة اولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.

وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السورة مكانة المتحلين بها فتقول: «أُولئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ».

ثم تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في إجتياز «العقبة» فتقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ».

و «المشئمة»: من «الشؤم» تقابل «الميمنة» من «اليُمن».

أي إنّ هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يُمن فيهم ولا بركة، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثم إنّ علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلّمه صحيفة أعماله بيده اليسرى، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أنّ «المشئمة» هي اليسار مقابل اليمين. أي إنّ الذين كفروا بآيات اللَّه الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصة وأنّ مادة «شؤم» جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضاً.

وفي الآية الأخيرة من السورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة: «عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ».

و «الإيصاد»: إحكام الغلق، وواضح أنّ الإنسان- حين يكون في غرفة حارّة الجوّ- يتوق إلى فتح أبوابها، ليهبّ عليه نسيم يلطف الهواء، فما بالك إذا كان في محرقة جهنم والأبواب كلّها موصدة عليه؟!

«نهاية تفسير سورة البلد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 465

91. سورة الشمس

محتوى السورة: هذه السورة هي في الواقع سورة تهذيب النفس، وتطهير القلوب من الأدران، ومعانيها تدور حول هذا الهدف، وفي مقدمتها قَسم بأحد عشر مظهراً من مظاهر الخليقة وبذات الباري سبحانه، من أجل التأكيد على أنّ فلاح الإنسان يتوقف على تزكية نفسه، والسورة فيها من القَسم ما لم يجتمع في سورة اخرى.

وفي المقطع الأخير من السورة ذكر لقوم «ثمود» باعتبارهم نموذجاً من أقوام طغت وتمردت، وانحدرت- بسبب ترك تزكية نفسها- إلى هاوية الشقاء الأبدي، والعقاب الإلهي الشديد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس والقمر».

ومن المؤكّد أنّ هذه الفضيلة الكبرى لا ينالها إلّامن استوعب محتواها بكل وجوده، ووضع مهمّة تهذيب النفس نصب عينيه دائماً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 466

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحَاهَا (1) وَ الْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَ النَّهَارِ إِذَا

جَلَّاهَا (3) وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَ السَّمَاءِ وَ مَا بَنَاهَا (5) وَ الْأَرْضِ وَ مَا طَحَاهَا (6) وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) أكبر عدد من القَسم القرآني تتضمّنه هذه السورة، هو في حساب «أحد عشر»، وفي حساب آخر «سبعة» أقسام ... ويبيّن أنّ السورة تتعرض لموضوع خطير هام .. موضوع عظيم كعظمة السماء والأرض والشمس والقمر ... موضوع حياتي مصيري.

لنبدأ أوّلًا بشرح ما جاء في السورة من قَسم، لنتعرض بعد ذلك إلى موضوع الآية الاولى تقول: «وَالشَّمْسِ وَضُحهَا».

ولقد ذكرنا آنفاً أنّ القسم في القرآن يستهدف مقصدين:

الأوّل: بيان أهميّة ما جاء القَسم من أجله.

والثاني: أهمية ما أقسم به القرآن، لأنّ القسم عادة يكون بالمهم من الامور.

«الشمس»: ذات دور هام وبنّاء جدّاً في الموجودات الحية على ظهر البسيطة فهي إضافة إلى كونها مصدراً للنور والحرارة- وهما عاملان أساسيان في حياة الإنسان- تعتبر مصدراً لغيرهما من المظاهر الحياتية، حركة الرياح، وهطول الأمطار، ونمو النباتات، وجريان الأنهار والشلالات، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري ... كل واحد منها يرتبط- بنظرة دقيقة- بنور الشمس.

ولو قُدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفي ء يوماً لساد الظلام والسكوت والموت في كل مكان.

«الضحى : في الأصل انتشار نور الشمس، وهذا ما يحدث حين يرتفع قرص الشمس عن الافق ويغمر النور كل مكان، ثم يطلق على تلك البرهة من اليوم اسم «الضحى».

والقسم الثالث بالقمر: «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلهَا». وهذا التعبير إشارة إلى القمر حين يكتمل ويكون بدراً كاملًا في ليلة الرابع عشر من كل شهر، ففي هذه الليلة يطل القمر من افق المشرق متزامناً مع

غروب الشمس. فيسطع بجماله النّير ويهيمن على جوّ السماء، ولجماله

مختصر الامثل، ج 5، ص: 467

وبهائه في هذه الليلة أكثر من أيّة ليلة اخرى جاء القسم به في الآية الكريمة.

والقسم الرابع بالنهار: «وَالنَّهَارِ إِذَا جَلهَا». و «التجلية»: هي الإظهار والإبراز.

والقسم بهذه الظاهرة السماوية الهامة، يبيّن أهميتها الكبرى في حياة البشر وفي جميع الأحياء، فالنهار رمز الحركة والحياة، وكل الفعاليات والنشاطات ومساعي الحياة تتمّ عادة في ضوء النهار.

والقَسم الخامس بالليل: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشهَا».

بالليل بكل ما فيه من بركة وعطاء ... إذ هو يخفّف من حرارة شمس النهار، ثم هو مبعث راحة جميع الموجودات الحية واستقرارها.

وفي القسمين السادس والسابع تحلّق بنا الآية إلى السماوات وخالق السماوات:

«وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنهَا».

أصل خلقة السماوات بما فيها من عظمة مدهشة من أعظم عجائب الخليقة.

وبناء كل هذه الكواكب والأجرام السماوية وما يحكمها من أنظمة أعجوبة اخرى ... وأهم من كل ذلك ... خالق هذه السماوات.

القَسم الثامن والتاسع بالأرض وخالق الأرض: «وَالْأَرْضِ وَمَا طَحهَا». بالأرض التي تحتضن حياة الإنسان وجميع الموجودات الحيّة ... الأرض بجميع عجائبها: بجبالها، وبحارها، وسهولها، ووديانها، وغاباتها، وعيونها، وأنهارها، ومناجمها، وذخائرها ... وبكلّ ما فيها من ظواهر يكفي كل واحد منها لأن يكون آية من آيات اللَّه ودلالة على عظمته.

وأعظم من الأرض وأسمى منها خالقها الذي «طحاها» و «الطحو» بمعنى البسط والفرش، وبمعنى الذهاب بالشي ء وإبعاده أيضاً. وهنا بمعنى «البسط»، لأنّ الأرض كانت مغمورة بالماء، ثم غاض الماء في منخفضات الأرض، وبرزت اليابسة، وانبسطت، ويعبّر عن ذلك أيضاً بدحو الأرض.

وأخيراً القسم الحادي عشر والقسم الثاني عشر بالنفس الإنسانية وبارئها: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّيهَا».

قيل إنّ المراد بالنفس هنا روح الإنسان، وقيل إنّه جسمه وروحه معاً.

ولو كان المراد من النفس الروح فقط، فإنّ «سوّاها»

تعني إذن نظّمها وعدّل قواها ابتداء من الحواس الظاهرة وحتى قوّة الإدراك، والذاكرة، والإنتقال، والتخيل، والإبتكار،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 468

والعشق، والإرادة، والعزم ونظائرها من الظواهر المندرجة في إطار «علم النفس». ولو كان المراد من النفس الروح والجسم معاً، فالتسوية تشمل أيضاً ما في البدن من أنظمة وأجهزة يدرسها علم التشريح وعلم الفسلجة.

وفي القرآن الكريم وردت «نفس» بكلا المعنيين.

والأنسب هنا أن يكون معنى النفس هنا شاملًا للمعنيين لأنّ قدرة اللَّه سبحانه تتجلى في الإثنين معاً.

الآية التالية تتناول أهم ظاهرة في الخليقة وتقول: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَيهَا».

إنّ اللَّه سبحانه قد منح الإنسان قدرة التشخيص والعقل، والضمير اليقظ بحيث يستطيع أن يميّز بين «الفجور» و «التقوى» عن طريق العقل والفطرة.

نعم، حين اكتملت خلقة الإنسان وتحقق وجوده، علّمه اللَّه سبحانه الواجبات والمحظورات. وبذلك أصبح كائناً مزيجاً في خلقته من «الحمأ المسنون» و «نفخة من روح اللَّه»، ومزيجاً في تعليمه من «الفجور» و «التقوى». أصبح بالتالي كائناً يستطيع أن يتسلق سلّم الكمال الإنساني ليفوق الملائكة، ومن الممكن أن ينحط لينحدر عن مستوى الأنعام ويبلغ مرحلة «بَلْ هُمْ أَضَلُّ». وهذا يرتبط بالمسير الذي يختاره الإنسان عن إرادة.

«ألهمها»: من الإلهام، وهو في الأصل بمعنى البلع والشرب، ثم استعمل في إلقاء الشي ء في روع الإنسان من قِبل اللَّه تعالى.

«الفجور»: من مادة «فجر» وتعني الشق الواسع؛ ولمّا كانت الذنوب تهتك ستار الدين فإنّها سمّيت بالفجور.

المقصود بالفجور في الآية طبعاً الأسباب والعوامل والطرق المؤدية إلى الذنوب.

و «التقوى»: من «الوقاية» وهي الحفظ، وتعني أن يصون الإنسان نفسه من القبائح والآثام والسيئات والذنوب.

بعد هذه الأقسام المهمّة المتتالية يخلص السياق القرآني إلى النتيجة فيقول: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا».

و «التزكية»: تعني النمو، و «الزكاة» في الأصل بمعنى النمو والبركة؛ ثم

استعملت الكلمة بمعنى التطهير، وقد يعود ذلك إلى أنّ التطهير من الآثام يؤدّي إلى النمو والبركة، والآية الكريمة تحتمل المعنيين.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 469

نعم، الفلاح لمن ربّى نفسه ونمّاها، وطهّرها من التلوّث بالخصائل الشيطانية وبالذنوب والكفر والعصيان.

والمسألة الأساسية في حياة الإنسان هي هذه «التزكية»، فإن حصلت سعد الإنسان وإلّا شقى وكان من البائسين.

ثم يعرج السياق القرآني على المجموعة المخالفة فيقول: «وَقَدْ خَابَ مَن دَسهَا».

«خاب»: من الخيبة، وهي فوت الطلب، كما يقول الراغب في المفردات والحرمان والخسران.

«دسّاها»: من مادة «دس» وهي في الأصل بمعنى إدخال الشي ء قسراً.

وبهذا المعيار يتمّ تمييز الفائزين عن الفاشلين في ساحة الحياة: «تزكية النفس وتنميتها بروح التقوى وطاعة اللَّه» أو «تلوثها بأنواع المعاصي والذنوب».

في المجمع: وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قرأ هذه الآية «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكهَا» وقف ثم قال: «اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها ومولاها، وزكّها وأنت خير من زكّاها».

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَ سُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَ لَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) عاقبة مرّة للطغاة: عقب التحذير الذي اطلقته الآية السابقة بشأن عاقبة من ألقى بنفسه في أوحال العصيان، قدمت هذه الآيات مصداقاً تاريخياً واضحاً لهذه السنّة الإلهية، وتحدثت عن مصير قوم «ثمود» بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق.

«الطغوى و «الطغيان» بمعنى واحد وهو تجاوز الحد، وفي الآية تجاوز الحدود الإلهية والعصيان أمام أوامره.

«قوم ثمود» من أقدم الأقوام التي سكنت منطقة جبلية بين «الحجاز» و «الشام». كانت لهم حياة رغدة مرفهة، وأرض خصبة، وقصور فخمة، غير أنّهم لم يؤدوا شكر هذه

النعم، بل طغوا وكذبوا نبيّهم صالحاً، واستهزأوا بآيات اللَّه، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 470

ثم تستعرض السورة مقطعاً بارزاً من طغيان القوم وتقول: «إِذِ انبَعَثَ أَشْقهَا».

و «أشقى» ثمود، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم.

وفي المجمع: عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي بن أبي طالب عليه السلام:

«من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول اللَّه. قال: الذي يضربك على هذه- وأشار إلى يافوخه-».

وثمّة تشابه بين قاتل ناقة صالح، قدار بن سالف، وقاتل أمير المؤمنين عليه السلام، عبد الرحمن بن ملجم المرادي؛ لم يكن الإثنان يحملان عداءً شخصياً، بل كان هدف الإثنين اطفاء نور اللَّه والقضاء على معجزة وآية من آيات اللَّه.

في الآية التالية تفاصيل أكثر عن طغيان قوم ثمود: «فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيهَا».

المقصود من «رسول اللَّه» نبي قوم ثمود صالح عليه السلام؛ وعبارة «ناقة اللَّه» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لم تكن عادية، بل كانت معجزة، تثبت صدق نبوّة صالح، ومن خصائصها- كما في الرواية المشهورة- أنّها خرجت من قلب صخرة في جبل لتكون حجة على المنكرين.

الآية التالية تقول: «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا». و «العقر»:- على وزن كفر- معناه الأساس والأصل والجذر؛ و «عقر الناقة» قطع أساسها وإهلاكها.

ويلاحظ أنّ قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية بأشقاها، بينما نسب العقر إلى كل طغاة قوم ثمود: «فعقروها»، وهذا يعني أنّ كل هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة.

وعقب هذا التكذيب أنزل اللَّه عليهم العقاب فلم يترك لهم أثراً: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّيهَا».

«دمدم»: تعني أهلك، وتأتي أحياناً بمعنى عذّب

وعاقب وأحياناً بمعنى سحق واستأصل، وبمعنى سخط أو أحاط.

و «سوّاها»: من التسوية وهي تسوية الأبنية بالأرض نتيجة صيحة عظيمة وصاعقة وزلزلة، أو بمعنى إنهاء حالة هؤلاء القوم، أو تسويتهم جميعاً في العقاب والعذاب، حتى لم يسلم أحد منهم.

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه المعاني.

وتختتم السورة الحديث عن هؤلاء القوم بتحذير قارع لكل الذين يتجهون في نفس هذه

مختصر الامثل، ج 5، ص: 471

المسيرة المنحرفة فتقول: «وَلَا يَخَافُ عُقْبهَا».

كثيرون من الحكّام قادرون على انزال العقاب لكنّهم يخشون من تبعات عملهم، ويخافون ردود الفعل التي قد تحدث نتيجة فعلهم، ولذلك يكفّون عن المعاقبة. قدرتهم- إذن- محفوفة بالضعف وعلمهم ممزوج بالجهل. لا يعلمون مدى قدرتهم على مواجهة التبعات.

بينما اللَّه سبحانه قادر متعال، علمه محيط بكل الامور وعواقبها، وقدرته على مواجهة النتائج لا يشوبها ضعف، فهو سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، ولذلك فإنّ مشيئته في العقاب نافذة حازمة.

«نهاية تفسير سورة الشّمس»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 473

92. سورة الليل

محتوى السورة: بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السورة يأتي تقسيم الناس إلى منفقين متّقين، وبخلاء منكرين، وتذكر عاقبة كل مجموعة؛ اليسر والسعادة والهناء للمجموعة الاولى، والعسر والضنك والشقاء للمجموعة الثانية.

وفي مقطع آخر من السورة إشارة إلى أنّ الهداية من اللَّه سبحانه لعباده هي انذارهم من النار يوم القيامة.

ثم تذكر السورة في نهايتها من يدخل هذه النار ومن ينجو منها، مع ذكر أوصاف الفريقين.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسّر له اليسر».

وَ اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَ النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَ مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَ

اتَّقَى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنَى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 474

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان روى عن ابن عباس أنّ رجلًا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه و آله، وأخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «إذهب». ولقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صاحب النخلة فقال: «تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة». فقال له الرجل: إنّ لي نخلًا كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يا رسول اللَّه! أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: «نعم». فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له: أشعرت أنّ محمّداً أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له: يعجبني تمرتها وإنّ لي نخلًا كثيراً فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها. فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلّا أن أعطى ما لا أظنّه اعطى. قال: فما مُناك؟ قال: أربعون نخلة. فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثم سكت عنه. فقال له:

أنا أعطيك أربعين نخلة. فقال له:

أشهد إن كنت صادقاً، فمرّ إلى اناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه! إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى صاحب الدار، فقال له: «النخلة لك ولعيالك». فأنزل اللَّه تعالى: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى السورة وعن عطاء قال: اسم الرجل (أبو الدحداح).

التّفسير

التقوى والإمداد الإلهي: هذه السورة المباركة أيضاً تبتدي ء بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق. تقول: «وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى .

فالقَسم الأوّل بالليل حين يغطّي ... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية ... أو يغطّي قرص الشمس، وهذا القسم تأكيد على أهمّية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد، من تعديله لحرارة الشمس، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية، وتوفير الجوّ لعبادة المتهجدين ومناجاة الصالحين.

ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول: «وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى .

مختصر الامثل، ج 5، ص: 475

والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر، فيشقّ قلب ظلام الليل، ثم يمتدّ ليملاء كل السماء، ويغمر كل شي ء بالنور.

ثم القَسم الأخير في السورة بالخالق المتعال: «وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى .

فوجود الجنسين في عالم «الإنسان» و «الحيوان» و «النبات» ... والمراحل التي تمرّ بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة ... والخصائص التي يمتاز بها كل جنس متناسبة مع دوره ونشاطه ... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية ... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير ... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.

ثم يأتي الهدف النهائي من كل هذه الأقسام بقوله سبحانه: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى .

اتجاهات سعيكم مختلفة، ونتائجها مختلفة أيضاً، هذا يعني أنّ أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال ...

بل هم في سعي مستمر ... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها اللَّه في نفوسهم ... فانظر أيّها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك ...

في أيّ اتجاه ... وفي سبيل أيّة غاية؟!

حذار من تبديد كل هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة ... وحذار من بيعها بثمن بخس!

«شتى : جمع «شتيت» من مادة «شتّ» أيّ فرّق الجمع، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة.

ثم يأتي تقسيم الناس على قسمين، ويبيّن خصائص كل قِسم. يقول سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى .

وأساساً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.

وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الاخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية: «وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَى .

«من بخل» في هذه المجموعة مقابل «من أعطى» في تلك.

«استغنى : أي طلب الغنى، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم، ووسيلتهم لإكتناز المال.

وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشقّ عليهم فعل الخير وخاصة الإنفاق، بينما هو للمجموعة الاولى مقرون باللذة والإنشراح.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 476

ثم يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين بالآية: «وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى .

لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا، ولا يستطيع هذا المال- إذا اصطحبه- أن يقيه من السقوط في نار جهنم.

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَ إِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ

تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضَى (21) عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت الناس على مجموعتين: مؤمنة سخية، وعديمة الإيمان بخيلة، وبيّنت مصير كل منهما، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أنّ على اللَّه الهداية لا الإجبار والإلزام، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم، وأنّ انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة للَّه سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد. يقول تعالى: «إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أو عن طريق التشريع (الكتاب والسنة) ... فقد بيّنا ما يلزم وأدينا الأمر حقّه.

وبعد: «وَإِنَّ لَنَا لَلْأَخِرَةَ وَالْأُولَى . فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم، ولا طاعتكم تجدينا نفعاً ولا معصيتكم تصيبنا ضرّاً، وكل منهج الهداية لصالحكم أنفسكم.

الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال سبحانه: «فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى .

«تلظى : من اللظى، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق «لظى» أحياناً على جهنم.

ثم تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النار المتلظية الحارقة وتقول: «لَايَصْلهَا إِلَّا الْأَشْقَى».

وفي وصف الأشقى تقول الآية: «الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى .

معيار الشقاء والسعادة- إذن- هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنّه لشقي حقّاً هذا الذي يعرض عن كل معالم الهداية وعن كل الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى ... بل إنّه أشقى الناس.

ثم تتحدث السورة عن مجموعة قد جُنّبت النار وأبعدت عنها، تقول الآية: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 477

ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة: «الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى .

وعبارة «يتزكى تشير إلى قصد القربة، وخلوص النية، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي، أم قصد بها تطهير الأموال، لأنّ التزكية جاءت بمعنى «التنمية»، وبمعنى «التطهير».

وللتأكيد

على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية: «وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى .

فلا أحد قد أنعم على هذا «الأتقى» ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة.

بل هدفه رضا اللَّه لا غير: «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى .

إنّ إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردّاً على خدمات سابقة قدمت إليهم، بل دافعها رضا اللَّه لا غير، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى.

وفي خاتمة السورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية:

«وَلَسَوْفَ يَرْضَى .

نعم، ولسوف يرضى، فهو قد عمل على كسب رضا اللَّه، واللَّه سبحانه سوف يرضيه، إرضاءً واسعاً غير محدود ... إرضاءً عميق المعنى يستوعب كل النعم.

«نهاية تفسير سورة الليل»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 479

93. سورة الضحى

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة، وحسب بعض الروايات أنّها نزلت حين كان الرسول صلى الله عليه و آله متألماً بسبب تأخر نزول الوحي، وتقوّل الأعداء نتيجة هذا الإنقطاع المؤقت، نزلت السورة كغيث على قلب النبي صلى الله عليه و آله.

هذه السورة تبدأ بقَسمين، ثم تبشر النبي بأنّ اللَّه لا يتركه أبداً.

ثم تبشّره بعطاء رباني تجعله راضياً.

ثم تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهية التي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.

وفي نهاية السورة تتكرر الأوامر الإلهية برعاية اليتيم والسائل، وباظهار النعم الإلهية (شكراً لهذه النعم).

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها كان ممن يرضاه اللَّه، ولمحمّد صلى الله عليه و آله أن يشفع له، وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل».

وفضيلة التلاوة هذه هي طبعاً من نصيب من يقرأ ويعمل بما يقرأ.

جدير بالذكر أنّ الروايات تذكر هذه السورة والسورة

التي تليها: (شرح) على أنّها سورة واحدة، ولذلك لابدّ من قرائتهما معاً بعد سورة الحمد في الصلاة (لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الصلاة حسب مذهب أهل البيت عليهم السلام).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 480

وَ الضُّحَى (1) وَ اللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلَى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

سبب النّزول

في المجمع: قال ابن عباس: احتبس الوحي عنه صلى الله عليه و آله خمسة عشر يوماً، فقال المشركون:

إنّ محمّداً قد ودعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من اللَّه تعالى لتتابع عليه. فنزلت السورة.

وروي أنّه لمّا نزلت السورة قال النبي صلى الله عليه و آله لجبرائيل عليه السلام: «ما جئت حتى اشتقت إليك»! فقال جبرائيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلّابأمر ربّك.

التّفسير

في بداية السورة المباركة قسمان: الأوّل بالنور، والثاني بالظلمة. يقول سبحانه:

«وَالضُّحَى وهو قسم بالنهار- حين تغمر شمسه كل مكان.

«وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى . أي إذا عمّت سكينته كل مكان.

«الضحى»: يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو أفضل ساعات النهار.

«سجى»: من السَّجو أو السُّجو، أي سكن وهدأ.

والمهم في الليل هدؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.

بين القَسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وإرتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبي صلى الله عليه و آله، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.

وبعد القسمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: «مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى .

«قلى»: من «قلا»- على وزن صدا- وهو شدّة

البغض.

في هذا التعبير سكن لقلب النبي صلى الله عليه و آله وتسلّ له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها اللَّه تعالى، وليست- كما يقول الأعداء- لترك اللَّه نبيّه أو لسخطه عليه فهو مشمول دائماً بلطف اللَّه وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 481

«وَلَلْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى .

أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف اللَّه تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل.

وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى .

وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى الله عليه و آله. فالعطاء الرباني سيغدق عليه حتى يرضى ... حتى ينتصر على الأعداء ويعم نور الإسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولًا بأعظم الهبات الإلهية.

النبي الأعظم صلى الله عليه و آله باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في امته.

عن حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين: جعلت فداك! أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها بالعراق أحق هي؟ قال: «شفاعة ماذا»؟ قلت: شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله قال: «حق واللَّه، لحدثني عمي محمّد بن علي بن الحنفية عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أشفع لُامّتي حتى يناديني ربّي عزّ وجل أرضيت يا محمّد، فأقول: نعم رضيت». ثم أقبل علي عليه السلام فقال: إنّكم تقولون يا معشر العراق إنّ أرجى آية في كتاب اللَّه «يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ» الآية. قلت إنّا لنقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول إنّ

أرجى آية في كتاب اللَّه «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وهي الشفاعة «1».

وفي المجمع عن الصادق عليه السلام قال: «دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على فاطمة عليها السلام وعليها كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما أبصرها، فقال: يا بنتاه! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل اللَّه علي «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ».

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَ وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الشكر على كل هذه النعم الإلهية: ذكرنا أنّ هدف هذه السورة المباركة تسلية قلب النبي صلى الله عليه و آله وبيان الطاف اللَّه التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم اللَّه بها على النبي، ثم تأمره بثلاثة أوامر.

______________________________

(1) كنز العمال 14/ 636؛ المعجم الأوسط، الطبراني 2/ 307؛ وتفسير مجمع البيان 10/ 382.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 482

«أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَى .

فقد كنت يا محمّد في رحم امّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكة).

وكنت في السادسة حين توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب «عبد المطلب».

وكنت في الثامنة حين رحل جدّك «عبدالمطلب»، فسخرت لك عمّك «أبا طالب»، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه.

نعم، كنت يتيماً فآويتك.

ثم يأتي ذكر النعمة الثانية: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى .

نعم، لم تكن أيّها النبي على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في الآية (52) من سورة الشورى أيضاً: «مَا

كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا».

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة «ضالًا» في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسرين.

لكنّه صلى الله عليه و آله بعد البعثة اهتدى إلى هذه الامور بعون اللَّه تعالى.

ثم يأتي ذكر النعمة الثالثة: «وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى «1».

لقد جعلناك تستأثر باهتمام «خديجة» هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كل ثروتها تحت تصرّفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.

في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة ...

والخطاب، وإن كان متجهاً إلى الرسول صلى الله عليه و آله، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين.

«فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ».

كأنّ اللَّه يخاطب نبيّه قائلًا: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن

______________________________

(1) «العائل»: في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 483

تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

وهذا يدل على أنّ هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي. في المجمع عن عبداللَّه بن مسعود قال:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة».

«وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ».

«نَهَرَ»: بمعنى ردّ بخشونة.

وفي معنى «السائل» عدّة تفاسير.

الأوّل: أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية.

والثاني: هوالفقير في المال والمتاع،

والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

والثالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه صلى الله عليه و آله، ومع إيوائه حين كان يتيماً.

«وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ». والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل اللَّه، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة.

إنّ النعمة في الآية شاملًا للنعم المادية والمعنوية. في المجمع: قال الصادق عليه السلام معناه:

«فحدث بما أعطاك اللَّه، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك».

«نهاية تفسير سورة الضحى»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 485

94. سورة الشرح

محتوى السورة: المعروف أنّ هذه السورة نزلت بعد سورة «الضحى» ومحتواها يؤيد ذلك، لأنّها تسرد أيضاً قسماً من الهبات الإلهية للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

في سورة «الضحى» عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية، وفي هذه السورة ذكر لثلاث هبات أيضاً غير أنّ جميعها معنوية، وتدور السورة بشكل عام حول ثلاثة محاور: الأوّل: بيان النعم الثلاث؛ و الثاني: تبشير النبي بزوال العقبات أمام دعوته؛ و الثالث: الترغيب في عبادة اللَّه الواحد الأحد.

ولذلك ورد عن أهل البيت عليهم السلام ما يدل أنّ هاتين السورتين سورة واحدة ووجب قراءتهما معاً في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر كمن لقي محمّداً صلى الله عليه و آله مغتماً ففرّج عنه».

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنَا

لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 486

نِعم إلهية: سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف ربّ العالمين لنبيّه الكريم.

أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الاولى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ».

«الشرح»: في الأصل توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق؛ و «شرح الصدر»:

سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند اللَّه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع، تشمل السعة العلمية للنبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضاً توسعة قدرة النبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين.

في المجمع: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أسأله؛ قلت: أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى. قال، فقال: ألم أجدك يتيماً فآويتك. قال: قلت بلى. قال: ألم أجدك ضالًا فهديتك. قال: قلت بلى أي ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك قال: قلت:

بلى أي ربّ».

وهذا يعني أنّ نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعّن في دراسة حياة الرسول صلى الله عليه و آله، وما فيها من مظاهر تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أنّ الأمر لم يتأت لرسول اللَّه بشكل عادي، بل إنّه حتماً تأييد إلهي ربّاني.

وبسعة الصدر هذه إجتاز الرسول صلى الله عليه و آله العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدّى رسالته خير أداء.

ثم يأتي ذكر الموهبة الثانية: «وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ». أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل؟

«الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ».

وأي حمل وضعه اللَّه عن نبيّه؟ القرائن في الآيات

تدل على أنّه مشاكل الرسالة والنبوّة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبيّ الإسلام وحده بل كل الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل ...

وفي الموهبة الثالثة يقول سبحانه: «وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ».

فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم اللَّه سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد اللَّه في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 487

وروي عن الرسول صلى الله عليه و آله في تفسير هذه الآية قال: «قال لي جبرائيل قال اللَّه عزّ وجل: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي». [وكفى بذلك منزلة].

شاعر النبي «حسان بن ثابت» ضمّن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال:

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه إذ قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش «محمود» وهذا «محمّد»

الآية التالية تبشّر النبي صلى الله عليه و آله بأعظم بشرى، وتقول: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».

ويأتي التأكيد الآخر: «إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا».

لا تغتمّ أيّها النبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظلّ على هذا المنوال.

إنّ اسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النبي صلى الله عليه و آله وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامة مستنبطة مما سبق، وتبشّر كل البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كل عسر إلى جانبه يسر.

في من لا يحضره الفقيه بإسناده إلى النبي صلى الله عليه و آله قال: «واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب وفإنّ مع العسر يسراً، إنّ

مع العسر يسراً».

«فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ». أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمّة اخرى، فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائماً في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمّة بداية لمهمّة اخرى.

«وَإِلَى رَبّكَ فَارْغَب». أي فاعتمد على اللَّه في كل الأحوال.

اطلب رضاه، واسع لقربه.

الآيتان- حسب ما ذكرناه- لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمّة جديدة بعد الفراغ من كل مهمّة. وبالتوجه نحو اللَّه في كل المساعي والجهود.

إنّ هذه السورة تبيّن بمجموعها عناية ربّ العالمين الخاصة للنبي الأعظم صلى الله عليه و آله، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن.

«نهاية تفسير سورة الشرح»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 489

95. سورة التين

محتوى السورة وفضيلتها: هذه السورة تدور آياتها حول حسن خلقة الإنسان ومراحل تكامله ونموّه وانحطاطه، وتبدأ بقسم عميق المعنى، تذكر عوامل انتصار الإنسان ونجاته وتنتهي بالتأكيد على مسألة المعاد وحاكمية اللَّه المطلقة.

وفي المجمع عن ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها أعطاه اللَّه خصلتين: العافية واليقين مادام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه اللَّه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) تبدأ السورة بالقسم أربع مرّات لبيان أمر مهم:

«وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 490

«وَطُورِ سِينِينَ» «1».

«وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ».

«التين» و «الزيتون» ثمرتان معروفتان، واختلف المفسرون في المقصود بالتين

وبالزيتون، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شي ء آخر؟

بعضهم ذهب إلى أنّهما الفاكهتان بما لهما من خواص غذائية وعلاجية كبيرة، وبعض آخر قال: المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي «دمشق» و «بيت المقدس» لأنّ المكانين منبَثَق كثير من الرسل والأنبياء .. وبذلك ينسجم هذان القَسمان مع ما يليهما من قَسمين بأراض مقدسة.

«وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ». والبلد الأمين مكة، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضاً بلداً آمناً وحرماً إلهيّاً، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد.

إذا حملنا كلمتي «التين» و «الزيتون» على معناهما الظاهر الإبتدائي، فالقسم بها ذو دلالة عميقة أيضاً، لأنّ «التين» فاكهة ذات مواد غذائية ثرّة، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار، وخالية من القشر والنواة والزوائد.

وفي الكافي عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «التين يذهب بالبخر ويشدّ الفم والعظم، وينبت الشعر، ويذهب بالداء، ولا يحتاج معه إلى دواء».

وقال عليه السلام: «التين أشبه شي ء بنبات الجنة».

وحول الزيتون، فإنّ العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أنّ الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلابدّ له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي.

زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان، وله تأثير فعّال في معالجة عوارض الكلى، وحصى الصفراء، والتشنجات الكليوية والكبدية، وإزالة الإمساك.

وزيت الزيتون مفعم أيضاً بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم

______________________________

(1) قيل: إنّ «سينين» جمع بمعنى شجرة، واحدته «سينة»، فكأنّه قيل طور الأشجار. وقيل: إنّ سينين، اسم للبقعة التي فيها الجبل. وعن عكرمة بزيادة بلسان أهل الحبشة؛ وعن قتادة أنّه قال: سينين مبارك حسن ذو شجر (روح المعاني 30/ 173).

مختصر الامثل، ج 5، ص: 491

مختصر الامثل ج 5 533

والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز.

وفي المكارم الأخلاق للطبرسي عن الإمام

علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «نعم الطعام الزيت، يطيب النكهة، ويذهب بالبلغم، ويصفي اللون، ويشدّ العصب، ويذهب بالوصب [المرض والألم والضعف ويطفي ء الغضب».

ثم يأتي جواب القسم: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ».

«تقويم»: يعني تسوية الشي ء بصورة مناسبة، ونظام معتدل وكيفية لائقة، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أنّ اللَّه سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات، الجسمية والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات، وأعدّه لتسلق سلّم السموّ، وهو- وإن كان جرماً صغيراً- وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقاً لوسام: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ» «1».

وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات، يهبط حين ينحرف عن مسيرة اللَّه إلى «أسفل سافلين».

لذلك تقول الآية التالية: «ثُمَّ رَدَدْنهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ».

ولِم لا يكون كذلك وهو الموجود الملي ء بالكفاءات الثرّة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة، وينزلق طبعاً إلى «أسفل سافلين».

ولكن الآية التالية تقول: «إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».

«ممنون»: من «المن» وتعني هنا القطع أو النقص، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص، وقيل: إنّه خال من المنّة، لكن المعنى الأوّل أنسب.

الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربّه والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له:

«فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ».

تركيب وجودك من جهة، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة اخرى يؤكّدان أنّ هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير.

هذه كلّها مقدمات لعالم أوسع وأكمل، وبالتعبير القرآني، هذه «النشأة» الاولى» تنبي ء عن «النشأة الاخرى» فلِم لا يتذكر الإنسان! «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ» «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 70.

(2) راجع أدلة المعاد

في تفسير سورة الواقعة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 492

واتضح أيضاً أنّ المقصود من «الدين» ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء، و الآية التالية تؤيد ذلك: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ».

في تفسير مجمع البيان: قال قتادة: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا ختم هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».

«نهاية تفسير سورة التين»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 493

96. سورة العلق

محتوى السورة: المشهور بين المفسرين أنّها أوّل ما نزل من القرآن، ومحتواها يؤيد ذلك أيضاً.

هذه السورة تبدأ بأن تأمر النبي صلى الله عليه و آله بالقراءة، ثم تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة.

وفي المرحلة التالية تتحدث السورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف اللَّه وكرمه، وعن تعليمه وتمكينه من القلم.

ثم تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كل ما توفرت له من هبات إلهية وإكرام رباني.

وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر اولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب.

وفي ختام السورة أمر بالسجود والإقتراب من ربّ العالمين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال:

«من قرأ في يومه أو في ليلته إقرأ باسم ربّك ثم مات في يومه أو في ليلته، مات شهيداً وبعثه اللَّه شهيداً، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل اللَّه مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله».

هذه السورةالمباركة سمّيت سورة «العلق» و «إقرأ» و «القلم» لمناسبة هذه الكلمات فيها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 494

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)

سبب النّزول

جاء في الروايات أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله كان

في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له: إقرأ يا محمّد. قال: ما أنا بقاري ء، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له: إقرأ يا محمّد وتكرر الجواب. ثم أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرّة الثالثة قال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ» إلى آخر الآيات الخمس الاولى من السورة.

قال ذلك واختفى عن أنظار النبي صلى الله عليه و آله.

رسول اللَّه أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى خديجة وقال: «زملوني ودثروني» «1».

في تفسير مجمع البيان: أكثر المفسرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن وأوّل يوم نزل جبرائيل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو قائم على حراء، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. وقيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاتحة الكتاب.

رواه الحاكم أبوعبداللَّه الحافظ بإسناده عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لخديجة: «إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء». فقالت: ما يفعل اللَّه بك إلّاخيراً.

فواللَّه إنّك لتؤدّي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة، فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني. فلمّا خلا ناداه يا محمّد! قل له ذلك. فقال له: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم، وأنّك على مثل ناموس موسى، وأنّك نبي مرسل، وإنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لُاجاهدنّ معك. فلمّا توفي ورقة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي وصدّقني». يعني ورقة.

جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التفسير والتاريخ كلاماً حول حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله،

______________________________

(1) تفسير روح الجنان 12/ 96؛ وهذا المعنى أورده كثير من المفسرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 495

في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبداً مع شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وتستند حتماً إلى أحاديث مختلقة أو إلى اسرائيليات. ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الروايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النبي صلى الله عليه و آله.

التّفسير

الآية الاولى فيها خطاب للنبي صلى الله عليه و آله تقول له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ».

ويلاحظ هنا قبل كل شي ء التركيز على مسألة الربوبية، ونعلم أنّ «الربّ» يعني «المالك المصلح»، أي الشخص الذي يملك شيئاً، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضاً.

ولإثبات ربوبية اللَّه جاء ذكر الخلقة ... خلقة الكون، إذ إنّ أفضل دليل على ربوبيته خالقيته، فالذي يُدبّر العالم هو خالقه.

وهذا ردّ على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية اللَّه، وأوكلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان، ثم إنّ ربوبية اللَّه وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.

ثم اختارت الآية التالية «الإنسان» باعتباره أهم مظاهر الخليقة وقالت: «خَلَقَ الْإِنسنَ مِنْ عَلَقٍ».

«العلق»: في الأصل الإلتصاق بشي ء، والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الاولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبيّن قدرة الرب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة.

وقيل: إنّ العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم، وهو أيضاً مادة متلاصقة، وبديهي أنّ الربّ الذي

خلق آدم من طين لازب يستحق كل تمجيد وثناء.

وقيل أيضاً: أنّ العلق يعني «صاحب العلاقة»، وفيه إشارة إلى الروح الإجتماعية للإنسان، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي أساس تكامل البشر وتطور الحضارات.

وقال آخرون: إنّ العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن)، وهي تشبه دودة العلق إلى حدّ كبير، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان.

والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية اخرى من معاجزه، إذ لم تكن هذه الامور معروفة أبداً في عصر نزوله.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 496

ومن بين التفاسير الأربعة، يبدو أنّ التفسير الأوّل أوضح، وإن كان الجمع بين التفاسير الأربعة ممكن أيضاً.

وللتأكيد، تقول الآية مرّة اخرى: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ».

وهذه الآية جواب على قول الرسول صلى الله عليه و آله لجبرائيل: ما أنا بقاري ء، وهذه الآية تقول:

إنّك قادر على القراءة بكرم الربّ وفضله ومنّه.

ثم تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم:

«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ». «عَلَّمَ الْإِنسنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».

وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أنا بقاري ء، أي إنّ اللَّه الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة.

جملة «الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» تحتمل معنيين.

الأوّل: أنّ اللَّه علم الإنسان الكتابة، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات.

والثاني: المقصود أنّ اللَّه علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة.

وهو تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي

إنّ أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم ... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهّلوا- باعتراف الأعداء

والأصدقاء- لتصدير علومهم إلى العالم! إنّ علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزّق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام.

وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق امّة كتلك تمتلك بين ظهرانيها ديناً كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم.

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13) أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 497

استتباعاً للآيات السابقة التي تحدثت عن النِعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان ...

والنِعم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام اللَّه، هذه الآيات تبدأ بالقول: ليست نِعَم اللَّه تحيي روح الشكر في الإنسان دائماً، بل إنّه يطغى:

«كَلَّا إِنَّ الْإِنسنَ لَيَطْغَى . ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنياً وغير محتاج.

«أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى . هذه طبيعة أغلب أفراد البشر ... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، وينسلخون من عبودية اللَّه، ويرفضون الإعتراف بأحكامه، ويصمّون أذانهم عن ندائه، ولا يراعون حقّاً ولا عدلًا.

إنّ الهدف من الآية الفات نظر الرسول صلى الله عليه و آله بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولًا سريعاً من الناس لدعوته، وليعدّ نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين، وليعلم أنّ الطريق أمامه وعر ملي ء بالمصاعب.

ثم يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية: «إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى .

وهو الذي يعاقب الطغاة على

ما اقترفوه، وكما أنّ رجوع كل شي ء إليه، وميراث السماوات والأرض له سبحانه: «وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» «1». فكلّ شي ء في البداية منه، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالإستغناء ويطغى

ثم تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين، مثل صدّهم عباد اللَّه عن السير في طريق الحق.

«أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى . «عَبْدًا إِذَا صَلَّى .

وفي تفسير مجمع البيان: فقد جاء في الحديث أنّ أبا جهل قال: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقيل له: ها هو ذاك يصلّي، فانطلق ليطأ على رقبته، فما فاجأهم إلّاوهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه. فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إنّ بيني وبينه خندقاً من نار، وهولًا، وأجنحة. وقال نبي اللَّه: «والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً». فأنزل اللَّه سبحانه:

«أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى إلى آخر السورة.

______________________________

(1) سورة آل عمران/ 180.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 498

الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم.

«أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى . «أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى . أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النار؟

«أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى . ولو كذّب هذا الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فماذا سيكون مصيره؟

«أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ويثبت كل شي ء ليوم الجزاء والحساب.

كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19) بعد الحديث في الآيات السابقة عن الطغاة الكافرين الصادين عن سبيل اللَّه، توجّه هذه الآيات أشدّ التهديد لهم وتقول: «كَلَّا» لا يكون ما يتصور (لانّه

تصور أن يصدّ عن عبادة اللَّه بوضعه قدمه على رقبة النبي).

«كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ». نعم، إذا لم ينته من إثمه وطغيانه سنجرّه بالقوّة من شعر مقدمة رأسه (وهي الناصية)، وثم وصف الناصية هذه بأنّها كاذبة خاطئة وهو وصف لصاحبها: «نَاصِيَةً كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ».

«لنسفعاً»: من السفع، وله معاني متعددة: الجرّ بالشدّة، الصفع على الوجه، تسويد الوجه (الأثافي الثلاثة التي يوضع عليها القدر تسمى «سفع» لأنّها تسوّد بالدخان)، ووضع العلامة للإذلال.

والأنسب المعنى الأوّل، وإن كانت الآية تحتمل معاني اخرى أيضاً.

روى أنّه لما نزلت سورة الرحمن، علّم القرآن ... قال النبي صلى الله عليه و آله لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤوساء قريش»؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول اللَّه.

فأجلسه صلى الله عليه و آله، ثم قال: «من يقرؤها عليهم»؟ فلم يقم إلّاابن مسعود، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له، وكان صلى الله عليه و آله يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنّه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشقّ اذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي صلى الله عليه و آله رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً، فإذا جبريل عليه السلام

مختصر الامثل، ج 5، ص: 499

يجي ء ضاحكاً مستبشراً، فقال: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي»! فقال: ستعلم.

فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال: خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنّك تنال ثواب المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى، فإذا أبو جهل مصروع يخور ... فصعد على صدره، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً، فقال

ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنّه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي.

فروى أنّه صلى الله عليه و آله لمّا سمع ذلك قال: «فرعوني أشدّ من فرعون موسى فإنّه قال آمنت وهو قد زاد عتواً».

ثم قال [أبو جهل لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا، لأنّه أحدّ وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، فراح يجرّه على ناصيته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبذلك تحقق قوله سبحانه:

«لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ» في هذه الدنيا أيضاً «1».

«الناصية»: شعر مقدم الرأس، و (السفع بالناصية) يراد به الإذلال والإرغام، لأنّ أخذ الشخص بناصيته يفقده كل حركة ويجبره على الإستسلام.

ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأنّ السورة- عدا المقطع الأوّل منها- قد نزلت في أبي جهل إذ مرّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يصلي عند المقام فقال (يا محمّد ألم أنهك عن هذا؟

وتوعده. فاغلظ له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وانتهره ...) ولعلّها هي التي أخذ فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخناقه وقال له: (أولى لك ثم أولى). فقال: يا محمّد بأي شي ء تهددني؟ أما واللَّه إنّي لأكثر هذا الوادي نادياً «2». وهنا نزلت الآية التالية تقول لأبي جهل: فليدع هذا الجاهل المغرور كل قومه وعشيرته وليستنجد بهم: «فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ».

ونحن سندع أيضاً زبانية جهنم: «سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ». ليعلم هذا الجاهل الغافل أنّه عاجز عن فعل أي شي ء وإنّه في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهبّ الريح.

وفي آخر آية من السورة وهي آية السجدة يقول سبحانه: «كَلَّا». أي ليس الأمر كما

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 23.

(2) في ظلال القرآن

8/ 624.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 500

يتصور بأنّه قادر على أن يمنع سجودك: «لَاتُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب». فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك، فتوكل على اللَّه وأعبده واسجد له، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر.

ويستفاد ضمنياً من هذه الآية أنّ «السجود» عامل اقتراب من اللَّه، ولذا ورد في الحديث عن عبداللَّه بن مسعود أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أقرب ما يكون العبد من اللَّه إذا كان ساجداً».

وفي روايات أهل البيت عليهم السلام أنّ القرآن يتضمّن أربعة مواضع فيها سجود واجب وهي في «السجدة» و «فصّلت» و «النجم» وفي هذه السورة «العلق» وبقية المواضع السجدة فيها مستحبة.

«نهاية تفسير سورة العلق»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 501

97. سورة القدر

محتوى السورة وفضيلتها: محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمّية هذه الليلة وبركاتها.

في المجمع: ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر».

إنّ هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها، بل إنّها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها ... من يقدر القرآن حق قدره ويطبق آياته في حياته.

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ليلة القدر ليلة نزول القرآن: يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ» «1». وظاهر الآية يدل على أنّ كل

القرآن نزل

______________________________

(1) سورة البقرة/ 185.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 502

في هذا الشهر.

والآية الاولى من سورة القدر تقول: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ».

عبارة «إِنَّا أَنزَلْنهُ» فيها إشارة اخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي، فقد نسب اللَّه نزوله إليه، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

نزول القرآن في ليلة «القدر» وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم، دليل آخر على الأهمّية المصيرية لهذا الكتاب السماوي «1».

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ «ليلة القدر» هي إحدى ليالي شهر رمضان، ولكنّها أيّة ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك، ولكن المشهور في الروايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثالثة والعشرين.

وثمّة روايات متعددة عن أهل البيت عليهم السلام تركز على الليلة الثالثة والعشرين.

في الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين».

في الآيتين التاليتين يبيّن اللَّه تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه:

«وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ». «لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع.

وفي الدر المنثور عن مجاهد أنّ النبي صلى الله عليه و آله ذكر رجلًا من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللَّه: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الَقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ» التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل اللَّه

ألف شهر.

لماذا كانت خيراً من ألف شهر؟ ... الظاهر لأهمّية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من

______________________________

(1) هذه المسألة طبعاً لا تتنافي مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم. أي يقدر كل فرد ما يليق له. وبعبارة اخرى: أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافي مع الإختيار بل يؤكّده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 503

روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنّة كثير، ويؤيد هذا المعنى. أضف إلى ذلك، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية: «تَنَزَّلُ الْمَلِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ».

و «تنزّل» فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصة بزمن النبي، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

والمقصود ب «الروح» هو مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وفي الكافي أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن الروح وهل هو جبرائيل؟ قال: «الروح هو أعظم من جبرئيل، إنّ جبرئيل من الملائكة، وإنّ الروح هو خلق أعظم من الملائكة، أليس يقول تبارك وتعالى: تنزّل الملائكة والروح».

«مّن كُلّ أَمْرٍ». أي: لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة، فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الامور.

«سَلمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ».

والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح.

القرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصة، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها ... فهي إذن ليلة

مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والروايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

«نهاية تفسير سورة القدر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 505

98 سورة البينة

محتوى السورة: هذه السورة تناولت رسالة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما فيها من دلائل بيّنة.

وفي مقطع آخر من السورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام ...

بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البرية.

هذه السورة أطلق عليها لمناسبة الفاظها اسماء متعددة أشهرها: «البيّنة» و «لم يكن» و «القيمة».

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لو يعلم الناس ما في (لم يكن) لعطلوا الأهل والمال وتعلموها». فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللَّه؟ فقال: «لا يقرأها منافق أبداً ولا عبد في قلبه شك في اللَّه عزّ وجل. واللَّه إنّ الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق اللَّه السماوات والأرض لا يفترون عن قراءتها، وما من عبد يقرؤها بليل إلّابعث اللَّه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ويدعون له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهاراً اعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 506

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) في بداية السورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور

الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلّابدليل واضح قاطع.

«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ».

و «البيّنة»: التي أرادوها: رسول من اللَّه يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين:

«رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً».

وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة: «فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ».

كان هذا ادّعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا، وما تفرقوا إلّابعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبي الصادح بالحق.

«وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيّنَةُ».

وهذا المعنى يشبه ما جاء في الآية (89) من سورة البقرة: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.

«البيّنة»: في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثانية شخص «رسول اللَّه» وهو يتلو عليهم القرآن.

«صحف»: جمع «صحيفة»، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 507

و «مطهرّة»: أي طاهرة من كل ألوان الشرك والباطل، ومن تلاعب شياطين الجن والإنس، كما جاء في الآية (42) من سورة فصّلت: «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ».

ثم يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما:

«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَوةَ».

ثم تضيف الآية القول: «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ».

والمقصود هو: إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه امور معروفة فلماذا يعرضون عنها.

المقصود ب «الدين» هو مجموع الدين والشريعة، أي إنّهم امروا أن يعبدوا اللَّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات.

جملة «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» إشارة إلى أنّ الاصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الإرتباط باللَّه) والزكاة (الإرتباط بالنّاس) من الاصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان، ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثم إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) خير البريّة وشرّها: الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من اللَّه، لكنّهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البيّنة.

هذه الآيات تذكر مجموعتين من الناس مختلفتين في موقفهما من الدعوة «كافرة» و «مؤمنة» تذكر الكافرين أوّلًا بالقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 508

جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ».

وعبارة «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل واسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال.

تقديم ذكر

«أهل الكتاب» على «المشركين» في هذه الآية أيضاً، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ.

الآية التالية تذكر المجموعة الثانية، وهم المؤمنون وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».

والآية التي بعدها تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند اللَّه من مثوبة: «جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ».

عبارة «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» تبيّن بجلاء أنّ الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الاخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ» «1».

إنّهم راضون عن اللَّه لأنّ اللَّه أعطاهم ما أرادوه، واللَّه راض عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإن كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه، وأيّة لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه.

نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا اللَّه ولقاؤه، لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كل طاعة وتقوى وعمل صالح.

بحث

علي عليه السلام وشيعته خير البريّة: ثمّة روايات كثيرة بطرق أهل السنّة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسّرت الآية: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» بأنّهم علي بن أبي طالب عليه السلام وشيعته.

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 70.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 509

في الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما نزلت «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة

راضين مرضيين».

وأخرج ابن مردويه عن علي عليه السلام قال: «قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألم تسمع قول اللَّه «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جئت الامم للحساب تدعون غرّاً محجلين».

هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي عليه السلام وأتباعه.

وهذه الروايات تدل ضمناً أنّ كلمة «الشيعة» باعتبارها اسماً لأتباع علي عليه السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين المسلمين على لسان الرسول نفسه. واولئك الذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير.

«نهاية تفسير سورة البيّنة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 511

99. سورة الزلزلة

محتوى السورة: هذه السورة تدور مفاهيمها حول ثلاثة محاور: تتحدث أوّلًا: عن علامات البعث ويوم القيامة؛ و ثانياً: عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد؛ و ثالثاً: تقسم الناس إلى مجموعتين صالحة وطالحة، وتبيّن أنّ كل مجموعة ترى ثمار عملها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة واعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

وفي الكافي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال: «لا تملوا من قراءة إذا زلزلت الأرض زلزالها فإنّه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه اللَّه عزّ وجل بزلزلة أبداً، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت».

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَ قَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 512

هذه السورة تبدأ ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول: «إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا». «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا».

عبارة «زلزالها» تعني أنّ الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافاً للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنّها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة.

و «الأثقال»- جمع ثقل، بمعنى الحمل- ذكر لها المفسرون معاني متعددة. قيل: إنّها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال؛ كما جاء في الآية (4) من سورة الإنشقاق:

«وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ».

وقيل إنّها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عبّاد الدنيا.

ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإنّ الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم.

ويمكن الجمع بين هذه التفاسير.

في ذلك الجو الملي ء بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟ «وَقَالَ الْإِنسنُ مَا لَهَا».

إنّ الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين.

هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الاولى، حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم.

وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها.

وأهم من ذلك أنّ الأرض: «يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا».

تحدّث بالصالح والطالح، وبأعمال الخير والشر، مما وقع على ظهرها، وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم، وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها.

وفي المجمع: جاء

في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا، وكذا وهذا أخبارها».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 513

«بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا».

فما فعلته الأرض إنّما كان بوحي ربّها، وهي لا تتوانى في تنفيذ أمر الرب.

وعبارة «أوحى» إنّما هي لبيان أنّ حديث الأرض خلاف طبيعتها، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي.

«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ».

«أشتات»: جمع «شتّ» وهو المتفرق والمبعثر، أي أنّ الناس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين، وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كل دين منفصلين عن الآخرين.

أو قد يكون لورود أهل كل نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل.

أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر.

أو أنّ كل امّة ترد مع إمامها وقائدها؛ كما في الآية (71) من سورة الإسراء: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ».

أو أن يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين.

الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماماً لأنّ مفهوم الآية واسع.

«يصدر»: من الصدور، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة، وعكسه الورود.

وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب.

المقصود من عبارة «لّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ» هو: «تجسم الأعمال» ورؤية الأعمال نفسها.

وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال، حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالًا تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها، وتكون رفقتها سروراً وانشراحاً أو عذاباً وبلاءً.

ثم ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة.

«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ». «وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

ظاهر الآية يدل أيضاً على مسألة «تجسم الأعمال» ومشاهدة العمل نفسه،

صالحاً أم طالحاً، يوم القيامة، حتى إذا عمل ما وزنه ذرّة من الذرّات يره مجسماً يوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 514

«مثقال»: في اللغة بمعنى الثقل، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل؛ والمعنى الأوّل هوالمقصود في الآية.

و «الذرّة»: ذكروا لها معاني متعددة من ذلك، فهو هنا أصغر وزن.

الآيتان المذكورتان وآيات اخرى مشابهة تدلّ دلالة واضحة على الدقّة المتناهية في تحرّي الأعمال وفي المحاسبة يوم القيامة، كقوله سبحانه: «يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّموَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» «1».

هذه التعابير القرآنية تدلّ على أنّ أصغر الأعمال يحاسب عليها في تلك المحاسبة الكبرى، وهذه الآيات تحذر أيضاً من استصغار الذنوب الصغيرة، أو التهاون في أعمال الخير والصغيرة. فما يحاسب عليه اللَّه سبحانه- مهما كان- ليس بقليل الأهمية.

وحقّاً، لو تدبر الإنسان في محتوى هذه الآية تكفيه دافعاً إلى طريق الخير وناهياً عن طريق الفساد والإنحراف.

«نهاية تفسير سورة الزلزلة»

______________________________

(1) سورة لقمان/ 16.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 515

100. سورة العاديات

محتوى السورة وفضيلتها: هذه السورة تبدأ بالقسم بامور محفّزة محركة، ثم تتناول بعض مظاهر الضعف البشري كالكفر والبخل وحب الدّنيا، ثم تشير السورة إلى مسألة المعاد وإحاطة اللَّه بعباده.

في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة، وشهد جمعاً».

وعن الإمام الصادق صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها بعثه اللَّه مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم القيامة خاصة، وكان في حجره ورفقائه».

إنّ هذه الفضائل إنمّا هي نصيب من جعل السورة منهاجاً لحياته وآمن بكلّ محتواها وعمل بها.

وَ الْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1)

فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 516

سبب النّزول

في المجمع: قيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه و آله عليّاً إلى ذات السلاسل فأوقع بهم. وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو المروي عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث طويل قال: وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم، وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال مكتفين كأنّهم في السلاسل. ولما نزلت السورة خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الناس، فصلى بهم الغداة وقرأ «والعاديات» فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نعم إن عليّاً ظفر بأعداء اللَّه وبشّرني بذلك جبرائيل عليه السلام في هذه الليلة». فقدم علي عليه السلام بعد أيّام بالغنائم والأسارى.

التّفسير

قَسماً بالمجاهدين الواعين: قلنا إنّ هذه السورة تبدأ بالقَسم بأمور محفّزة منبّهة، تقسم أوّلًا بالخيول الجارية المندفعة (إلى ميدان الجهاد) وهي تحمحم وتتنفس بشدّة: «وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا».

ويمكن أن يكون القَسم هذا بإبل الحجاج المتجهة من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى وهي تتنفس بشدّة.

وهذا التّفسير أنسب من عدّة جهات، وورد في روايات المعصومين عليهم السلام أيضاً.

«العاديات»: جمع عادية، من «العدو» وهو المغادرة والإبتعاد بالقلب. فتكون «العداوة» أو بالحركة الخارجية فيكون (العدو)

وهو الركض، أو بالمعاملات فيسمى (العدوان).

و «العاديات» في الآية هي الجاريات بسرعة.

«الضبح»: صوت الخيل وهي تتنفس بشدّة عند الجري.

ثم يأتي القَسم التالي بهذه العاديات التي توري النيران بحوافرها:

«فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا».

وهي خيل المجاهدين التي تجري بسرعة فائقة في ميدان القتال، بحيث تنقدح النار من تحت أرجلها جرّاء احتكاك حوافرها بصخور الأرض.

أو هي الإبل التي تجري بين مواقف الحج، فتتطاير الحصى والحجارة من تحت أرجلها وترتطم بحصى وحجارة اخرى فتنقدح النيران.

«الموريات»: جمع «مورية» والإيراء يعني أضرام النار.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 517

«القدح»: ضرب الحجارة أو الخشب أو الحديد بما يشبهه لتوليد النار.

والقسم الثالث بالتي تغير صباحاً على الأعداء: «فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا».

«المغيرات»: جمع «مغيرة» والإغارة: الهجوم على العدو، وقيل إنّ الكلمة تتضمّن معنى الهجوم بالخيل.

ثم تشير الآية التالية إلى سرعة هذه العاديات في هجومها، وذلك بإثارتها الغبار في كل جانب: «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا».

أو أنّ الغبار يثور من كل صوب نتيجة هجوم إبل الحجاج من المشعر الحرام على منى.

«أثرن»: من الإثارة، وهي نشر الغبار والدخان في الجو.

وفي آخر خصائص هذه «المغيرات» تذكر الآية أنّها ظهرت بين الإعداء في الفجر:

«فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا».

هجومها كان مباغتاً خاطفاً بحيث استطاعت خلال لحظات أن تشق صفوف العدّو وتشن حملتها في قلبه، وتُشتت جمعه. وهذا نتيجة ما تتحلّى به من سرعة ويقظة وإستعداد وشهامة وشجاعة.

أو إنّها إشارة إلى ورود الحجاج من المشعر إلى قلب منى.

من هنا يتّضح أنّ الجهاد له منزلة عظيمة حتى أنّ أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها ... وهكذا الشرر المتطاير من حوافر هذه الخيول ... والغبار الذي تثيره في الجو ...

نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة.

ثم يأتي جواب القسم، ويقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنسنَ لِرَّبِهِ لَكَنُودٌ».

نعم، الإنسان البعيد عن التربية الصحيحة ...

والذي لم تشرق في قلبه أنوار المعارف الإلهية وتعاليم الأنبياء ... الإنسان الخاضع لأهوائه وشهواته الجامحة هو حتماً كفور بالنعمة وبخيل ... إنّه لكنود.

و «كنود»: اسم للأرض التي لا تنبت، وتطلق على الإنسان الكفور والبخيل أيضاً.

كلمة (الإنسان) في مثل هذه الاستعمالات القرآنية تعني الأفراد المتطبعين على الشر والشهوات الجامحة والطغيان.

«وَإِنَّهُ عَلَى ذلِكَ لَشَهِيدٌ». فهو بصير بنفسه، وإن استطاع أن يخفي سريرته فلا يستطيع أن يخفيها عن اللَّه وعن ضميره، اعترف بهذه الحقيقة أم لم يعترف.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 518

«وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ». أي أنّه شديد الحبّ للمال والمتاع.

إطلاق «الخير» على المال في الآية يعود إلى أنّ المال في حد ذاته شي ء حسن، ويستطيع أن يكون وسيلة لأنواع الخيرات، لكن الإنسان الكنود يصرفه عن هدفه الأصلي، وينفقه في طريق ذاتياته وأهوائه.

وفي استفهام استنكاري يقول سبحانه: «أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ». «وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ». وانكشف ما في نفسه من كفر وايمان، ورياء واخلاص وغرور وتواضع وسائر نيات الخير والشر.

«إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ». نعم، فهو عليم بأعمالهم ونياتهم وسيجازيهم وفقها.

«بعثر»: من «البعثرة» وهي البعث والإثارة والإخراج وبعثرة ما في القبور، بعث الموتى واخراجهم من القبور.

«حُصّل»: من التحصيل، وهو في الأصل يعني إخراج اللب من القشر، وكذلك تصفية المعادن، واستخراج الذهب وأمثاله من الخامات. ثم استعملت لمطلق الإستخراج والفصل.

والكلمة في الآية تعني فصل الخير عن الشر في القلوب ... الإيمان عن الكفر، أو الصفات الحسنة عن الصفات السيئة ... أو النوايا الحسنة عن الخبيثة ... تُفصل في ذلك اليوم وتظهر، وينال كل فرد حسب ذلك جزاؤه.

والتعبير بكلمة «يومئذ» يعني أنّ اللَّه (في ذلك اليوم) خبير بأعمال العباد وسرائرهم.

ونعلم أنّ اللَّه سبحانه عليم دائماً بذات الصدور.

فالتعبير «يومئذ» هو لأنّ ذلك اليوم يوم الجزاء، واللَّه يجازيهم على أعمالهم وعقائدهم.

نعم، اللَّه سبحانه عليم وخبير بأسرارنا وما تنطوي عليه نفوسنا كاملًا، لكن أثر هذا العلم سيكون أظهر وأوضح عند الجزاء، وهذا التحذير لو دخل دائرة إيمان البشر لكان سداً منيعاً بينهم وبين الذنوب.

«نهاية تفسير سورة العاديات»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 519

101. سورة القارعة

محتوى السورة وفضيلتها: تتناول هذه السورة بشكل عام، المعاد، ومقدماته، حيث تُصنّف الناس يوم القيامة، إلى صنفين أو جماعتين: الجماعة التي تكون أعمالها ثقيلة في ميزان العدل الإلهي، فتحظى جزاءً بذلك، حياة راضية سعيدة في جوار الرحمة الإلهية، وجماعة أعمالها خفيفة الوزن، فتعيش في نار جهنم الحارّة المحرقة.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة، أي (القارعة) من الآية الاولى فيها.

في المجمع عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ القارعة أمنه اللَّه من فتنة الدجال أن يؤمن به، ومن قيح جهنم يوم القيامة».

الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَ تَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 520

الحادثة القارعة: هذه الآيات تصف القيامة وتقول: «الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ».

«القارعة»: من القرع، وهو طرق الشي ء بالشي ء مع إحداث صوت شديد، وسمّيت كل حادثة هامّة صعبة بالقارعة. (تاء التأنيث قد تكون إشارة للتأكيد).

الآية الثالثة تخاطب حتى النبي صلى الله عليه و آله وتقول له: «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْقَارِعَةُ». وهذا يدل على أنّ عظمة هذه الحادثة القارعة إلى درجة لا تخطر على فكر أحد.

أكثر المفسرين ذكروا أنّ «القارعة» أحد أسماء القيامة،

ولكن لم يوضّحوا هل أنّه اسم لمقدمات القيامة إذ تقرع هذه الدنيا.

أو إنّه اسم للمرحلة التالية .. أي مرحلة احياء الموتى، وظهور عالم جديد، وتسميتها «القارعة»- في هذه الحالة- لما تبعثه من خوف وذعر في القلوب ..

ولكن الإحتمال الأوّل أنسب، وإن ذكرت الحادثتان كلاهما في هذه الآيات متتابعتين.

وفي وصف ذلك اليوم العجيب يقول سبحانه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ».

والتشبيه بالفراش قد يكون لأنّ هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النار، وهذا ما يفعله أهل السيئات إذ يلقون بأنفسهم في جهنم.

ثم تذكر الآية التالية وصفاً آخر لذلك اليوم وتقول: «وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ».

و «العهن»: هو الصوف المصبوغ.

و «المنفوش»: هو المنشور ويتمّ ذلك عادة بآلة الحلج الخاصة.

سبق أن ذكرنا أنّ القرآن الكريم في مواضع متعددة يتحدث عن الجبال عند قيام القيامة بأنّها تتحرك أوّلًا، ثم تُدَكّ وتتلاشى وأخيراً تصبح بشكل غبار متطاير في السماء. وهذه الحالة الأخيرة تشبهها الآية بالصوف الملون المحلوج ... الصوف المتطاير في مهبّ الريح، لم يبق منه إلّاألوان ... وهذه آخر مراحل انهدام الجبال.

ثم تتطرق الآيات التالية إلى الحشر والنشر وإحياء الموتى وتقسيمهم إلى مجموعتين:

«فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ». أي إنّ ميزان عمله ثقيل. «فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ* وَمَا أَدْرَيكَ مَاهِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ» «1».

«موازين»: جمع ميزان، وهو وسيلة للوزن، تستعمل في وزن الأجسام، ثم استعملت في المعايير المعنوية.

______________________________

(1) «ماهيه»: أصلها «ما هي»، والهاء الحقت بها للسكت.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 521

وليس من الضروري أن يكون الميزان هو الآلة المعروفة ذات الكفتين، بل هو كل وسيلة لتقويم الوزن، كما ورد في الحديث: «إنّ أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام هم الموازين» «1».

وفي احتجاج الطبرسي عن الصادق عليه السلام حين

سئل عن معنى الميزان قال: «العدل».

وبهذا نفهم أنّ أولياء اللَّه وقوانين العدل الإلهي هي موازين يعرض عليها الناس وأعمالهم ويتمّ قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة.

واضح أنّ المقصود بثقل الموازين وخفتها هو ثقل الأشياء التي توزن بها وخفة تلك الأشياء.

كلمة «ام» في قوله: «فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ» تعني المأوى والملجأ، لأنّ «الام» هي مأوى ابنائها وملاذهم، ويكون معنى الآية: إنّ هؤلاء المذنبين الذين خفت موازينهم لا ملاذ لهم سوى جهنم، وويل لمن كان ملجؤه جهنم.

«نهاية تفسير سورة القارعة»

______________________________

(1) تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد/ 115.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 523

102. سورة التكاثر

محتوى السورة: هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم استناداً إلى مسائل موهومة، وتذم ذلك وتلوم عليه، ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم وممّا سيسألون يوم ذاك عن النعم التي منّ اللَّه بها عليهم.

وقد اشتقّ اسم هذه السورة، أي (التّكاثر) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأها لم يحاسبه اللَّه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، واعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

إنّ كل هذا الثواب إنّما هو لمن يقرأها ولمن يطبقها في برنامج حياته ويتفاعل معها روحياً ونفسياً.

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 524

سبب النّزول

المفسرون يعتقدون أنّ السورة نزلت في قبائل كانت تتفاخر على بعضها بكثرة الأموال والأنفس حتى أنّها كانت تذهب إلى المقابر وتعدّ موتاها لترفع احصائية أفراد القبيلة.

سبب النزول- مهما كان- فهو لا

يحد قطعاً معنى الآية.

التّفسير

بلاء التكاثر والتفاخر: الآيات الاولى توجّه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول:

«أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ». في الأنفس والأموال.

حتى إنّكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أفراد قبيلتكم: «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ».

«ألهاكم»: من «اللهو» وهو الإنشغال بالأعمال الصغيرة والإنصراف عن المهام الكبيرة؛ و «التكاثر»: يعني التفاخر والمباهاة.

«زرتم»: من الزيارة و «زَور» (على وزن قول) في الأصل بمعنى أعلى الصدر، ثم استعمل للقاء والمواجهة؛ «المقابر»: جمع مقبرة، وهي مكان دفن الميت. وزيارة المقابر إمّا أن تكون كناية عن الموت، أو بمعنى الذهاب إلى المقابر وإحصاء الموتى بهدف التكاثر في الأنفس والتفاخر بالعدد (حسب التفسير المشهور).

والمعنى الثاني أصح، وأحد شواهده كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- في الخطبة (221) نهج البلاغة- قاله بعد تلاوته: «أَلْهكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» «يا له مراماً أبعده! وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أيّ مدّكر وتناوشوهم من مكان بعيد! أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت. ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً».

الآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين، تقول: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ».

فليس الأمر كما ترون، وبه تتفاخرون، بل سوف تعلمون عاجلًا نتيجة هذا التكاثر الموهوم.

لمزيد من التأكيد يقول سبحانه: «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ».

وفي المجمع عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التّكاثر، إلى قوله: كلّا سوف تعلمون، يريد في القبر، ثم كلّا سوف تعلمون، بعد البعث».

«كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ». كلّا ليس الأمر كما تظنون أيّها المتفاخرون المتكاثرون.

فلو أنّكم تعلمون الآخرة علم اليقين، لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 525

ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية:

«لَتَرَوُنَّ

الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ». «ثُمَّ لَتُسَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ».

في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف انفقتم تلك النعم الإلهية؛ وهل استخدمتموها في طاعة اللَّه أم في معصيته، أم أنّكم ضيعتم النعمة ولم تؤدّوا حقّها.

إنّ النعيم له معنى واسع جدّاً يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أنّ النعم التي لها أهمية أكبر مثل: نعمة «الإيمان والولاية» يُسأل عنها أكثر، هل أدّى الإنسان حقّها أم لا؟

بحثان

1- منبع التفاخر والتكاثر: من آيات السورة يتبيّن أنّ أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهات، هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.

كما أنّ جهل الإنسان بضعفه ومسكنته ... ببدايته ونهايته ... من العوامل الاخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر.

ثم عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل.

والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات، ولذلك في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما من رجل تكبر أو تجبّر إلّالذلة وجدها في نفسه».

2- اليقين ومراحله: «اليقين» يقابل «الشك». ويستفاد من الروايات أنّ اليقين هو أعلى مراحل الإيمان، وهي ثلاثة:

أ) علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخاناً فيعلم علم اليقين أن هناك ناراً.

ب) عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلًا النار.

ج) حق اليقين: وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحسّ بحرقتها، ويتصف بصفاتها.

وهذه أعلى مراحل اليقين؛ وهو في الحقيقة مؤلف من علمين، العلم بالمعلوم والعلم بأنّ خلاف ذلك العلم محال.

«نهاية تفسير سورة التّكاثر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 527

103. سورة العصر

محتوى السورة: شمولية هذه السورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسرين

إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه.

تبدأ السورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. ثم تتحدث عن خسران كل أبناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية، ثم تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد:

الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذه الاصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والإجتماعي للإسلام.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ والعصر في نوافله بعثه اللَّه يوم القيامة مشرقاً وجهه، ضاحكاً سنّه، قريرة عينه، حتى يدخل الجنة».

إنّ هذه الفضائل وهذه البشرى نصيب من طبّق الاصول الأربعة المذكورة في حياته، لا أن يقنع فقط بقراءتها.

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 528

في بداية هذه السورة نواجه قَسماً قرآنيا جديداً. يقول سبحانه: «وَالْعَصْرِ».

«العصر»: في الأصل الضغط، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة. ثم اطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام.

قيل: إنّه كل الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.

بعضهم قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر عليه السلام، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر.

والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصة.

ولكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية، لأنّ القسم القرآني- كما ذكرنا مراراً- يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللَّه من أجله ومن المؤكّد أنّ خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم

عمره، أو أنّه عصر بعثة الرسول صلى الله عليه و آله، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السورة نزل في هذا العصر.

الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسم من أجله. يقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنسنَ لَفِى خُسْرٍ».

الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى. تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.

القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض، هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض، وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة.

إنّ الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة، كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام:

«الدنيا سوق، ربح فيها قوم وخسر آخرون» «1».

الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كل الناس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلّا مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.

______________________________

(1) تحف العقول/ 483.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 529

نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السورة.

«إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ».

بحث

منهج السعادة ذو المواد الأربع: من المهم أن نقف ولو قليلًا عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران ... إنّه منهج يتكون من أربعة اصول هي:

الأصل الأوّل: «الإيمان» وهو البناء التحتي لكل نشاطات الإنسان، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من اسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.

بعبارة اخرى: أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإنّ جميع الأنبياء بدأوا قبل كل شي ء باصلاح الاسس الإعتقادية للُامم والشعوب، وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الإجتماعي.

الأصل الثاني:

«العمل الصالح» وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية: «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل اللَّه وحده، ولا الجهاد في سبيل اللَّه فقط، ولا الإكتفاء بطلب العلم ... بل كل الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من اللَّه، وتقدم المجتمع الإنساني.

ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلّافي ظل حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والإستقامة على طريق النهوض باعباء الرسالة، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلَي «الإيمان» و «العمل الصالح».

الأصل الثالث: «التواصي بالحق» أي الدعوة العامة إلى الحق، ليميز كل أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.

الأصل الرابع: «التواصي بالصبر» والاستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الاستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحق والعمل الصالح والثبات على الإيمان.

نعم، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامة وعزم اجتماعي، ومن دون

مختصر الامثل، ج 5، ص: 530

الإستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات.

«الصبر» هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات.

والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الاصول الأربعة في حياتهم الفردية والاجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصاراً، ولاقتلعوا شرّ الأشرار من على ظهر الأرض.

«نهاية تفسير سورة العصر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 531

104. سورة الهمزة

محتوى السورة: هذه السورة تتحدث عن اناس كرسوا كل همهم لجمع المال، وحصروا كل قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثم هم يسخرون من الذين

لا يملكون المال وبهم يستهزئون.

السورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء، وكيف أنّهم يلقون في جهنم صاغرين، وأنّ نار جهنم تتجه بلظاها أوّلًا إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور، وتحرقها بالنار، بنار مستمرة.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمّد وأصحابه».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء».

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 532

سبب النّزول

في المجمع: قيل: إنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه و آله من ورائه صلى الله عليه و آله ويطعن عليه في وجهه.

وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وكان يلمز الناس ويغتابهم.

ولكن، إن قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات، بل إنّها تستوعب كل الذين يحملون هذه الصفات.

التّفسير

الويل للهمّازين واللمّازين: تبدأ هذه السورة بتهديد قارع وتقول: «وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ» ... لكل من يستهزي ء بالآخرين، ويعيبهم، ويغتابهم، ويطعن بهم، بلسانه وحركاته وبيده، وعينه وحاجبه.

«الهمزة» و «اللمزة»: صيغتا مبالغة. من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنّهما بمعنى واحد، ولهما مفهوم واسع يشمل كل ألوان إلصاق العيوب بالناس وغيبتهم والطعن والإستهزاء بهم، باللسان والإشارة والنميمة والذم.

أساساً، الإسلام ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته

باحترام بالغ، ويعدّ أيّ عمل يؤدي إلى إهانة الآخرين ذنباً كبيراً. وفي أمالي الصدوق عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أذل الناس من أهان الناس».

وفي عوالي اللئالي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «رأيت ليلة الإسراء قوماً يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم. فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟

فقال: هؤلاء الهمازون من امّتك اللمازون».

ثم تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد، وتقول: «الَّذِى جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ» بطريق مشروع أو غير مشروع.

فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلًا دائماً بعدّ المال والإلتذاذ ببريق الدرهم والدينار.

تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين، ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والإستهزاء مع المؤمنين الفقراء.

«عدده»: من (عدّ) بمعنى حَسَب. هذه الآية تقصد الذين يدّخرون الأموال ولا ينظرون

مختصر الامثل، ج 5، ص: 533

إليها باعتبارها وسيلة بل هدفاً، ولا يحدّهم قيد أو شرط في جمعها، حتى ولو كان من طريق الحرام والإعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كل دنيئة ورذيلة، ويعتبرون ذلك دليلًا على عظمتهم وشخصيتهم.

هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم، وإلّا فإنّ المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم، بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللَّه»؛ حيث يقول تعالى في الآية (10) من سورة الجمعة: «وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ».

وفي موضع آخر يسميه خيراً، كقوله سبحانه في الآية (180) من سورة البقرة: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ».

مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان، ولا وسيلة تفاخر، ولا دافع سخرية بالآخرين، لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون» إلى الطغيان، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللَّه والخلود في النار.

ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلّابالسقوط في أوحال الحرام. في الخصال عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: «لا يجتمع المال إلّابخصال خمس: ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وايثار الدنيا على الآخرة».

في الآية التالية يقول سبحانه: «يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أخْلَدَهُ».

ما أتفه هذا التفكير! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة:

«فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ» «1».

الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة: «مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ» «2»، تحولت في ساعة إلى غيرهم: «كَذلِكَ وَأَورثنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ» «3».

لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول: «مَا أَغْنَى عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَانِيَهْ» «4».

من هنا يتبيّن أنّ الظن بقدرة المال على الإخلاد، هو الذي يدفع إلى جمع المال، وجمع المال

______________________________

(1) سورة القصص/ 81.

(2) سورة الدخان/ 25- 27.

(3) سورة الدخان/ 28.

(4) سورة الحاقّة/ 28 و 29.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 534

مختصر الامثل ج 5 575

أيضاً عامل على الإستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين.

القرآن الكريم يردّ على هؤلاء ويقول: «كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ». كلّا، ليس الأمر كما يتصور، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلّة في نار محطّمة «وَمَا أَدْرَيكَ مَا الْحُطَمَةُ* نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفِدَةِ».

«لينبذنّ»: من

نبذ، أي رمي الشي ء لتفاهة قيمته.

أي إنّ اللَّه سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنم كموجودات تافهة لا قيمة لها، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.

«الحطمة»: صيغة مبالغة من «حطّم» أي هشّم. وهذا يعني أنّ نار جهنم تهشّم أعضاء هؤلاء.

عبارة «نار اللَّه» دليل على عظمة هذه النار؛ و «الموقدة» تعني استعارها المستمر.

والعجيب أنّ هذه النار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أوّلًا ثم تنفذ إلى الداخل، بل هي تبعث بلهبها أوّلًا إلى القلب، وتحرق الداخل وتبدأ أوّلًا بالقلب ثم بما يحيطه، ثم تنفذ إلى الخارج.

لماذا لا تكون كذلك، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور، وبؤرة حبّ الدنيا والثروة والمال؟!

إنّهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.

الآيات الأخيرة من السورة تقول: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ* فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ».

و «مؤصدة»: من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب.

هؤلاء يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة.

جمع من المفسرين قال: إنّها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبداً، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: «إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ».

«نهاية تفسير سورة الهمزة»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 535

105. سورة الفيل

محتوى السورة: هذه السورة- كما يظهر من اسمها- تشير إلى الحادثة التاريخية التي اقترنت بولادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيها نجّى اللَّه سبحانه الكعبة من شرّ جيش كافر كبير تجهّز من اليمن ممتطياً الفيل.

التذكير بهذه القصة فيه تحذير للكفار المغرورين المعاندين، كي يفهموا ضعفهم تجاه قدرة اللَّه تعالى الذي أباد جيشاً عظيماً بطير أبابيل تحمل حجارة من سجّيل،

وهو سبحانه إذن قادر على أن يعاقب هؤلاء المستكبرين المعاندين.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع: أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ في الفريضة «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ» شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنّه كان من المصلين، وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له، أو عليه. أدخلوا عبدي الجنة، ولا تحاسبوه فإنّه ممن احبّه واحبّ عمله».

إنّ هذه الفضائل وهذا الثواب لمن كانت قراءته باعثاً على انكسار روح الغرور في نفسه، وعلى السير في طريق رضا اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 536

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) قصة أصحاب الفيل: ذكر المفسرون والمؤرخون: إنّ «ذو نواس» ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصة هذا الإضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج).

بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى.

ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وارسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهّز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن، وكان (أبرهة) أيضاً من قواد ذلك الجيش.

اندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن، وبعد مدّة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه.

بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك

عفا عنه وأبقاه في مكانه.

و (أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن يحجّوا إليها بدل (الكعبة)، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن.

أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن.

تذكر بعض الروايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة، وقيل إنّهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 537

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملًا، للإنتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهّز جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة.

عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.

بعث (أبرهة) قاصداً إلى مكة. جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت ربّ يحميه.

وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه [فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك فقال له ذلك الترجمان فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مئتى بعير أصابها لي فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مئتى بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟!

قال له عبد المطلب: إنّي أنا ربّ الإبل، وإنّ

للبيت ربّ سيمنعه ... فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له.

فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في شعف الجبال، والشعاب، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون اللَّه ويستنصرونه على أبرهة وجنده فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هُمّ إنّ العبد يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدواً محالك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك

قال ابن اسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبى جيشه وكان اسم الفيل محموداً، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب [الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ باذنه فقال: أبرك محمود، أو ارجع راشداً

مختصر الامثل، ج 5، ص: 538

من حيث جئت، فإنّك في بلد اللَّه الحرام، ثم أرسل اذنه، فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم، فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين [ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجّهوه إلى مكة فبرك، فأرسل اللَّه عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحداً إلّاهلك.

وقيل: إنّ الحجر كان يسقط

على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.

(أبرهة) اصيب بحجر، وجُرح، فاعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة.

وقيل: إنّ مرض الحصبة والجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة.

وفي هذا العام ولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حسب الرواية المشهورة، وقيل إنّ بين الحادثتين إرتباطاً.

إنّ أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل، وأصبح مبدأ تاريخ العرب «1».

التّفسير

كيد أبرهة: يخاطب اللَّه رسوله صلى الله عليه و آله في الآية الاولى من السورة ويقول له: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ». «أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ». لقد استهدفوا الكعبة ليهدموها وليقيموا بدلها كعبة اليمن، وليدعوا قبائل العرب إلى حج هذا المعبد الجديد، لكنّه سبحانه حال دون تحقق هدفهم، بل زاد الكعبة شهرة وعظمة بعد أن ذاع نبأ أصحاب الفيل في جزيرة العرب، وأصبحت قلوب المشتاقين تهوى إليها أكثر من ذي قبل، وأسبَغَ على هذه الديار مزيداً من الأمن.

كيدهم إذن صار في تضليل، أي في ضلال حيث لم يصلوا إلى هدفهم.

ثم تشرح الآيات التالية بعض جوانب الواقعة: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ».

______________________________

(1) سيرة النبي صلى الله عليه و آله لابن هشام الحميري 1/ 28؛ وبحار الأنوار 15/ 70 و 130؛ ومجمع البيان 10/ 442.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 539

عبارة «طيراً أبابيل» تعني طيراً على شكل مجموعات، والمشهور أنّ هذه الطير كانت تشبه الخطاطيف قدمت من صوب البحر الأحمر في اتجاه أصحاب الفيل.

«تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ» «1».

«فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ».

و «العصف»: هو النبات الجاف المتهشّم، أي هو (التبن) بعبارة اخرى.

وتعبير «مأكول» إشارة إلى أنّ هذا التبن قد سحق مرّة اخرى بأسنان الحيوان، ثم هشّم ثالثة في معدته، وهذا يعني أنّ أصحاب الفيل،

قد تلاشوا بشكل كامل عند سقوط الحجارة عليهم.

وفي هذا السورة تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم، ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة اللَّه سبحانه.

«نهاية تفسير سورة الفيل»

______________________________

(1) «سجّيل»: كلمة فارسية مأخوذة من دمج كلمتين هما «سنگ» و «گل»؛ وتعني الطين المتحجّر.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 541

106. سورة قريش

محتوى السورة: هذه السورة مكملة لسورة الفيل، وآياتها تدل على ذلك. تتضمّن هذه السورة بيان نعمة اللَّه على قريش ولطفه لهم ومحبّته له، كي يحرك فيهم دافع الشكر ويحثهم على عبادة ربّ هذا البيت العظيم الذي يستمدون منه كل مفاخرهم وشرفهم.

وكما إنّ سورة «الضّحى» وسورة «الشرح» تعتبران سورة واحدة كذلك سورة «الفيل» وسورة «قريش» هما سورة واحدة، وإرتباط موضوعهما يدل على ذلك أيضاً.

ولذلك وجب قراءتهما معاً في الصلاة لمن يرى وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها».

هذه الفضيلة دون شك لمن عبد ربّ البيت حق عبادته، وصان حرمة البيت كما يجب، وتشرّبت نفسه برسالة هذا المركز التوحيدي.

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 542

في سورة الفيل جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السورة التي تعتبر امتداداً للسورة السابقة تقول: نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول:

«لِإِيلفِ قُرَيْشٍ». أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

«إيلاف»: مصدر آلف، و «آلفه» أي جعله يألف، أي جعله يجتمع اجتماعاً مقروناً بالانسجام والانس والإلتيام.

والمقصود

إيجاد الالفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكة والبيت العتيق، لأنّهم وكل أهل مكة إختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها. كثير من أهل الحجاز كانوا يحجّون البيت كل سنة، ويقترن حجّهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين.

كل ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن، ولو أنّ هذا الأمن قد انعدم أو أنّ الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد الفة بهذه الأرض.

«إِيلفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصَّيْفِ».

مكة تقع في وادٍ غير ذي زرع، والرعي فيها قليل، لذلك كانت عائدات أهل مكة غالباً من قوافل التجارة، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجوّ لطيف. والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ، ومكة والمدينة حلقتا اتصال بينهما.

هذه هي رحلة الشتاء ... ورحلة الصيف.

والمقصود ب «إيلافهم» في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدسة خلال رحلاتهم وينشدّون إليها لما فيها من أمن، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام، فيسكنون فيها ويهجرون مكة.

وقد يكون المقصود إيجاد الالفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدّة الرحلتين، لأنّ الناس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية خاصة بعد قصة اندحار جيش أبرهة.

قريش لم تكن طبعاً مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام، لكن اللَّه لطف بهم لما كان مقدّراً للإسلام والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدسة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 543

الآية الاخيرة تقول: إنّ هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة ربّ البيت لا الأوثان. «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ». «الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ

وَءَامَنَهُم مّنْ خَوْفٍ» ... الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة، ودفع عنهم الخوف والضرر، كل ذلك باندحار جيش أبرهة، وبفضل دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام مؤسس الكعبة. لكنّهم لم يقدّروا هذه النعمة، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم.

«نهاية تفسير سورة قريش»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 545

107. سورة الماعون

محتوى السورة: هذه السورة بشكل عام تذكر صفات وأعمال منكري القيامة في خمس مراحل، فهؤلاء نتيجة لتكذيبهم بذلك اليوم، لا ينفقون في سبيل اللَّه وعلى طريق مساعدة اليتامى والمساكين، ثم هم يتساهلون في الصلاة، ويعرضون عن مساعدة المحتاجين.

وفي المجمع: قيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان ينحر في كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصاه.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الباقر عليه السلام قال: «من قرأ «أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ» في فرائضه ونوافله قبل اللَّه صلاته وصيامه، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا».

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 546

إنكار المعاد وآثاره المشؤومة: هذه السورة المباركة تبدأ بسؤال موجّه للنّبي صلى الله عليه و آله عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول: «أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ».

وتجيب عن السؤال: «فَذلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ».

«الدين» هنا «الجزاء» أو يوم الجزاء، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان، وفي هذه السورة ذكرت خمسة آثار لهذا الإنكار منها: «طرد اليتيم، وعدم الحثّ على إطعام المسكين»، أي إنّ الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم.

«يدع»:

أي يدفع دفعاً شديداً، ويطرد بخشونة.

و «يحضّ»: أي يحرض ويرغب الآخرين على شي ء.

ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية: «فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ».

لا يقيمون للصلاة وزناً، ولا يهتمون بأوقاتها، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها.

الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان: «الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ».

المجتمع الذي يتعود على الرياء لا يبتعد عن اللَّه وعن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة فحسب، بل تصبح كل برامجه الإجتماعية فارغة خالية المحتوى، لا تتعدى مجموعة من المظاهر، وإنّها لمأساة أن يكون مصير الفرد ومصير المجتمع بهذا الشكل.

من المؤكّد أنّ أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة، وعدم الرغبة بالثواب الإلهي. وإلّا كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة اللَّه ويتجه إلى الناس ليتزلف إليهم.

«الماعون»: من «المَعن» وهو الشي ء القليل. وكثير من المفسرين قالوا: إنّ المقصود من «الماعون» الأشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها الناس وخاصة الجيران من بعضهم، مثل حفنة الملح، والماء، والنار (الثقاب)، والأواني وأمثالها.

واضح أنّ الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الأشياء إلى غيره إنسان دني ء عديم الإيمان.

أي إنّه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء.

في أمالي الصدوق عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من منع الماعون جاره منعه اللَّه خيره يوم القيامة، ووكّله إلى نفسه، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله».

«نهاية تفسير سورةالماعون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 547

108. سورة الكوثر

سبب نزول السورة: في المجمع قيل: نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنّه رآى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدثا، واناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل العاص قالوا: من الذي كنت تتحدث معه؟

قال: ذلك

الأبتر. وكان قد توفي قبل ذلك عبد اللَّه بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو من خديجة. وكانوا يسمون من ليس له إبن، أبتر. فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً.

[فنزلت السورة تبشر النبي بالنعم الوافرة والكوثر وتصف عدوّه بالأبتر].

ولمزيد من التوضيح نذكر أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان له ولدان من ام المؤمنين خديجة عليها السلام أحدهما «القاسم» والآخر «الطاهر» ويسمى أيضاً عبد اللَّه. وتوفي كلاهما في مكة، وأصبح النبي صلى الله عليه و آله من دون ولد. هذه المسألة وفرت للأعداء فرصة الطعن بالنبي فسمّوه الأبتر «1».

والعرب حسب تقاليدها كانت تعير أهمّية بالغة للولد، وتعتبره امتداداً لمهام الأب. بعد وفاة عبد اللَّه خال الأعداء أنّ الرسالة سوف تنتهي بوفاة الرسول صلى الله عليه و آله.

______________________________

(1) كان للرسول صلى الله عليه و آله إبن آخر من «مارية القبطية» إسمه إبراهيم، ولد في الثامنة للهجرة بالمدينة، ولكنّه توفي أيضاً قبل بلوغ الثانية من عمره، وحزن عليه الرسول كثيراً.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 548

السورة نزلت لتردّ على هؤلاء الأعداء بشكل إعجازي ولتقول لهم: إنّ عدوّ الرسول هو الأبتر، وأنّ الرسالة سوف تستمر وتتواصل وهذه البشرى بددت من جهة آمال الأعداء وطيبت خاطر النبي صلى الله عليه و آله بعد أن اغتم من لمز الأعداء وتآمرهم.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها سقاه اللَّه من أنهار الجنة، واعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين».

اسم هذه السورة (الكوثر) مأخوذة من أوّل آية فيها.

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ

الْأَبْتَرُ (3) أعطيناك الخير العميم: الحديث في كل هذه السورة موجّه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (مثل سورة الضّحى، وسورة الشرح)، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء. تقول له أوّلًا: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ».

و «الكوثر»: من الكثرة، وبمعنى الخير الكثير، ويسمى الفرد السخي كوثراً. وفي معنى الكوثر: في المجمع: قال ابن عباس: لما نزلت «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ» صعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المنبر، فقرأها على الناس، فلما نزل قالوا: يا رسول اللَّه! ما هذا الذي أعطاك اللَّه؟ قال: «نهر في الجنة، أشدّ بياضاً من اللبن، وأشدّ استقامة من القدح، حافتاه قباب الدرّ والياقوت».

وقيل: هو النبوّة والكتاب، وقيل: هو القرآن. وقيل: هو كثرة الأصحاب والأشياع.

وقيل: هو كثرة النسل والذرّية، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها السلام، حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم. وقيل هو الشفاعة. رووه عن الصادق عليه السلام.

ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير».

إنّ كل الهبات الإلهية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات، بل حتى علماء امّته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كل زمان ومكان.

ولا ننسي أنّ كلام اللَّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السورة كان قبل ظهور الخير الكثير،

مختصر الامثل، ج 5، ص: 549

فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد، إخبار إعجازي يشكل دليلًا آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً، وإن كان المخلوق لا يستطيع أداء حق نعمة الخالق أبداً، إذ إنّ توفيق الشكر نعمة

اخرى منه سبحانه، ولذا يقول سبحانه لنبيّه: «فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ».

نعم، واهب النعم هو سبحانه. لذلك ليس ثمّة معنى للعبادات إن كانت لغيره.

والأمر بالصلاة والنحر للربّ مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها، بينما كانوا يرون نعمهم من اللَّه. وتعبير (لربّك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات.

وفي آخر آية يقول اللَّه سبحانه لنبيّه ردّاً على ما وَصَمه به المشركون: «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ». «الشاني ء»: هو المعادي من «الشنان»- على وزن ضربان- وهو العداء والحقد.

و «أبتر»: في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب. وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لإنتهاك الحرمة والإهانة. وكلمة (شاني ء) فيها ايحاء بأنّ عدوك لا يراعي أيّة حرمة ولا يلتزم بأي أدب. أي أنّ عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة. والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع: إنّكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول اللَّه.

بحث

فاطمة عليها السلام والكوثر: قلنا إنّ «الكوثر» له معنى واسع يشمل كل خير وهبه اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله، ومصاديقه كثيرة، لكن كثيراً من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ «فاطمة الزهراء عليها السلام» من أوضح مصاديق الكوثر، لأنّ رواية سبب النزول تقول: إنّ المشركين وصموا النبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ».

ومن هنا نستنتج أنّ الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها السلام، لأنّ نسل الرسول صلى الله عليه و آله انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة ... وذرّيّة الرسول صلى الله عليه و آله من فاطمة عليها السلام لم يكونوا امتداداً جسمياً للرسول فحسب، بل كانوا امتداداً رسالياً صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر، أو الخلفاء الإثني عشر بعد النبي

كما أخبر عنهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الأحاديث المتواترة بين السنّة والشيعة.

والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر، يقول:

مختصر الامثل، ج 5، ص: 550

القول الثالث: «الكوثر» أولاده، قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه صلى الله عليه و آله بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلًا يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلي ء منهم، ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم «1».

«نهاية تفسير سورة الكوثر»

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 124.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 551

109. سورة الكافرون

محتوى السورة: من لحن السورة نفهم أنّها نزلت في زمان كان المسلمون في أقلية والكفار في أكثرية، والنبي صلى الله عليه و آله يعاني من الضغوط التي تطلب منه أن يهادن المشركين، وأمام هذه الضغوط كان النبي يعلن صموده وإصراره على المبدأ، دون أن يصطدم بهم.

وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يساوموا أعداء الإسلام في مبادي ء الدين مهما كانت الظروف، وأن يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا إلى هذه المساومة.

فضيلة تلاوة السورة: في حديث ابي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ يا أيّها الكافرون فكأنّما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرى ء من الشرك ويعافي من الفزع الأكبر».

وشعيب الحداد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «كان أبي يقول: (قل يا أيّها الكافرون) ربع القرآن، وكان إذا فرغ منها قال: أعبد اللَّه وحده، أعبد اللَّه وحده».

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَ لَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَ

لَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَ لَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 552

سبب النّزول

في المجمع: نزلت السورة في نفر من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب بن الأسد، وأمية بن خلف قالوا: هلم يا محمّد فاتبع ديننا نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كلّه، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد آلهتك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا، كنّا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه.

فقال صلى الله عليه و آله: «معاذ اللَّه أن أشرك به غيره».

قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك.

فقال: «حتى انظر ما يأتي من عند ربّي».

فنزل «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ»- السورة. فعدل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة. فأيسوا عند ذلك، فآذوه وآذوا أصحابه.

التّفسير

لا أهادن الكافرين: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ». والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسرين، والألف واللام للعهد، وإنّما ذهب المفسرون إلى ذلك لأنّ الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو اللَّه سبحانه في الماضي والحال والمستقبل، والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها، بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكة في دين اللَّه أفواجاً.

«لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ». فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة.

«وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ». لما تأصّل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى

لآبائكم، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام.

ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه: «وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ». فعلى هذا لا معنى لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنّه أمر محال «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 553

لحن الآيات يوضّح بجلاء أنّها نوع من التحقير والتهديد، أي دعكم ودينكم فسترون قريباً وبال أمركم، تماماً مثل ما ورد في الآية (55) من سورة القصص: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلمٌ عَلَيْكُمْ لَانَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ».

«نهاية تفسير سورة الكافرون»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 555

110. سورة النصر

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين اللَّه أفواجاً، وتدعو النبي صلى الله عليه و آله أن يسبح اللَّه ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة.

في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكن فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى «فتح مكة» «1»، خاصة وأنّ العرب- كما جاء في الروايات- كانت تعتقد أنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله لا يستطيع أن يفتح مكة إلّاإذا كان على حق ... ولو لم يكن على حق فربّ البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة، ولذلك دخل العرب في دين اللَّه بعد فتح مكة أفواجاً.

قيل: إنّ هذه السورة نزلت بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكة.

ومن أسماء هذه السورة «التوديع» لأنّها تتضمّن خبر وفاة النبي صلى الله عليه و آله.

في المجمع: قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها صلى الله عليه و آله

على أصحابه ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى، فقال صلى الله عليه و آله: «ما يبكيك يا عم»؟ فقال: أظنّ أنّه قد نعيت إليك نفسك يا

______________________________

(1) فتح مكة فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، ودحر الأعداء بعد عشرين عاماً من المقاومة، وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان، والإسلام تأهب لدعوة بقيّة أصقاع العالم.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 556

رسول اللَّه. فقال: «إنّه لكما تقول». فعاش بعدها سنتين ما رؤي فيهما ضاحكاً متبشراً.

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع ابي بن كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتح مكة».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» في نافلة أو فريضة نصره اللَّه على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه اللَّه من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنم ومن النار، ومن زفير جهنم، يسمعه باذنيه، فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره، وأخبره بكل خير حتى يدخل الجنّة».

إنّ هذه الفضائل لمن قرأ هذه السورة فسلك مسلك رسول اللَّه وعمل بسيرته وسنته.

إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) عند انبلاج فجر النصر: في هذه السورة دار الحديث عن نصرة اللَّه، ثم عن «الفتح» والإنتصار، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول الناس في دين اللَّه زرافات ووحداناً.

نعم، لابدّ من إعداد القوّة للغلبة على العدو، لكن الإنسان الموحّد يؤمن أنّ النصر من عند اللَّه وحده، ولذلك لا يغتّر بالنصر، بل يتجه إلى شكر اللَّه وحمده.

وبين هذه الثلاثة إرتباط علة ومعلول،

فبنصر اللَّه يتحقق الفتح، وبالفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.

بعد هذه المراحل الثلاث- التي يشكل كل منها نعمة كبرى- تحل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد.

من جهة اخرى نصراللَّه والفتح هدفهما النهائي دخول الناس في دين اللَّه وهداية البشرية.

«التسبيح»: تنزيه اللَّه من كل عيب ونقص.

و «الحمد»: لوصف اللَّه بالصفات الكمالية.

و «الإستغفار»: إزاء تقصير العبد.

هذا الفتح العظيم ينبغي أن لا يؤدّي بالإنسان إلى الظن بأنّ اللَّه يترك أنصاره وحدهم (ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص) و أن يعلم المؤمنون بأنّ وعده الحق (موصوف بهذا الكمال)، وأن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة اللَّه.

«نهاية تفسير سورة النصر»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 557

111. سورة المسد

محتوى السورة: هذه السورة نزلت في أوائل الدعوة العلنية. وهي السورة الوحيدة التي تحمل هجوماً شديداً بالاسم على أحد أعداء الإسلام والنبي صلى الله عليه و آله آنذاك وهو أبولهب. ومن السورة يتضح أنّه كان يحمل عداء خاصاً للنّبي ويمارس هو وزوجه كل أنواع الأذى بحقّه.

القرآن يصرّح بأنّهما أهل جهنم، وليس لهما طريق للنجاة، وتحققت هذه النبوءة القرآنية، وكلاهما مات على الكفر.

فضيلة تلاوة السورة: في حديث ابي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من قرأها رجوت أن لا يجمع اللَّه بينه وبين أبي لهب في دار واحدة».

إنّ هذه الفضيلة نصيب من بقراءتها يفصل مسيرته عن مسيرة أبي لهب، لا من يقرأها بلسانه ويعمل عمل أبي لهب في أفعاله.

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَ مَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 558

سبب النّزول

سعيد بن جبير عن

ابن عباس قال: صعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذات يوم الصفا فقال: «يا صباحاه»! فأقبلت إليه قريش، فقالوا له: ما لك؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدّقوني». قالوا: بلى. قال: «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبولهب: تبّاً لك! ألهذا دعوتنا جميعاً؟ فأنزل اللَّه هذه السورة.

ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما نزلت هذه السورة، أقبلت العوراء ام جميل بنت حرب، ولها ولولة وفي يدها فهر، وهي تقول: مذمّماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا.

والنبي صلى الله عليه و آله جالس في المسجد ومعه أبوبكر. فلما رآها أبوبكر قال: يا رسول اللَّه! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «إنّها لن تراني». وقرأ قرآناً فاعتصم به، كما قال:

«وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا» [الإسراء:

45] فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا أبابكر! أخبرت أنّ صاحبك هجاني. فقال: لا وربّ البيت ما هجاك. فولّت وهي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها.

التّفسير

هذه السورة- كما ذكرنا في سبب نزولها- ترد على بذاءات أبي لهب عم النبي صلى الله عليه و آله وابن عبد المطلب. وكان من ألد أعداء الإسلام، وحين صدح النبي صلى الله عليه و آله بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال: تبّاً لك ألهذا دعوتنا جميعاً؟!

والقرآن يرد على هذا الإنسان البذي ء ويقول له: «تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ».

في المجمع: قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: «يا أيّها الناس! قولوا لا إله إلّااللَّه تفلحوا». وإذا برجل خلفه يرميه قد

أدمى ساقيه وعرقوبيه، ويقول: يا أيّها الناس! إنّه كذاب فلا تصدّقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمّد، يزعم أنّه نبي، وهذا عمّه أبولهب يزعم أنّه كذاب «1».

وفي رواية اخرى: وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه كلّما جاء وفد إلى النبي صلى الله عليه و آله يسألون عنه عمّه أبالهب- اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته- كان يقول لهم:

إنّه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنّا لم نزل

______________________________

(1) مجمع البيان 10/ 559.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 559

نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً «1».

من هذه الروايات نفهم بوضوح أنّ أبالهب كان يتتبع النبي صلى الله عليه و آله غالباً كالظلّ، وما كان يرى سبيلًا لإيذائه إلّاسلكه، وكان يقذعه بأفظع الألفاظ، ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة، ولذلك جاءت هذه السورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة.

«مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ»، فليس بامكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الإلهي «سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ».

من الآية الاولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النبي صلى الله عليه و آله.

وأبولهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة، وقيل: يصلاها في الدنيا قبل الآخرة.

و «لهب» جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النار.

لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب اللَّه، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ لَايَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» «2».

بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير.

في تفسير مجمع البيان: قال عكرمة، قال أبو رافع مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، وأسلمت

ام الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبولهب عدوّ اللَّه قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلّابعث مكانه رجلًا.

فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعزّاً، قال: وكنت رجلًا ضعيفاً وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم، فواللَّه إنّي لجالس فيها أنحت القداح وعندي ام الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبولهب، يجرّ رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان ابن حرث بن عبد المطلب، وقد قدم. فقال أبو لهب، هلم إليّ يا ابن أخي فعندك الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي!

______________________________

(1) تفسير الفرقان 30/ 503.

(2) سورة الشعراء/ 88 و 89.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 560

أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: لا شي ء واللَّه إن كان إلّاأن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالًا بيضاً على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شي ء.

قال أبورافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك الملائكة. قال: فرفع أبولهب يده وضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورته واحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني وكنت رجلًا ضعيفاً، فقامت ام الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة، وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيده فقام مولياً ذليلًا، فواللَّه ما عاش إلّاسبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة، فقتله.

ولقد تركه أبناه

ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان إنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه؟ فقالا: إنّا نخشي هذه القرحة. قال: فانطلقا فأنّا معكما، فما غسلوه إلّاقذفاً بالماء عليه من بعيد ما يسمونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه بالحجارة، حتى واروه.

«وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ».

الآيتان تتحدثان عن ام جميل امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وعمّة معاوية، وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً، وفي عنقها حبل من ليف.

ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب؟

قيل: لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتدمي قدماه.

«نهاية تفسير سورة المسد»

مختصر الامثل، ج 5، ص: 561

112. سورة الاخلاص

محتوى السورة: هذه السورة تركز على توحيد اللَّه.

في الكافي في نزول السورة عن محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اليهود سألوا رسول اللَّه فقالوا: أنسب لنا ربّك فلبث ثلاثاً لا يجيبهم. ثم نزلت قل هو اللَّه أحد إلى آخرها».

وفي الإحتجاج عن العسكري عليه السلام إنّ السائل عبد اللَّه بن صوريا اليهودي. وفي بعض روايات أهل السنة إنّ السائل عبد اللَّه بن سلام سأله صلى الله عليه و آله ذلك بمكة ثم آمن وكتم إيمانه. وفي بعضها أنّ أناساً من اليهود سألوه ذلك وفي غير واحد من رواياتهم أنّ مشركي مكة سألوه ذلك.

فضيلة تلاوة السورة: وردت في فضيلة هذه السورة نصوص كثيرة تدل على مكانة هذه السورة بين سور القرآن. في المجمع عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن

في ليلة»؟ قلت: يا رسول اللَّه! ومن يطيق ذلك؟ قال: «اقرأوا قل هو اللَّه أحد».

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ النبي صلى الله عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ. فقال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألفاً ملك، وفيهم جبرئيل عليه السلام يصلون عليه فقلت: يا جبرئيل بما يستحق صلاتكم عليه؟ قال: بقراءته قل هواللَّه أحد قائماً، وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 562

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً قال: «من مضى به يوم واحد فصلّى فيه الخمس صلوات ولم يقرأ فيها بقل هو اللَّه أحد، قيل له: يا عبد اللَّه لست من المصلين».

وفي المجمع عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله فشكا إليه الفقر، وضيق المعاش. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إذا دخلت بيتك، فسلم إن كان فيه أحد، وإن كان لم يكن فيه أحد، فسلم واقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرة واحدة».

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) جواباً عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف اللَّه سبحانه تقول الآية: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم، وهو في الواقع يرمز إلى أنّ ذاته المقدسة في نهاية الخفاء، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شي ء آخر، كما ورد في الآية (53) من سورة فصّلت: «سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

ثم بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول:

«اللَّهُ الصَّمَدُ».

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئاً أنصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّاهو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال لي: يا علي عُلمت الإسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

«... كان علي عليه السلام يقول ذلك يوم صفين وهو يطارد، فقال له عمّار بن ياسر: يا أميرالمؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم اللَّه الأعظم وعماد التوحيد للَّه لا إله إلّا هو ...» «1».

«اللَّه» اسم علم للباري سبحانه وتعالى. ومفهوم كلام الإمام علي عليه السلام أنّ جميع صفات الجلال والجمال الإلهية اشير إليها بهذه الكلمة، ومن هنا سميت باسم اللَّه الأعظم.

______________________________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق/ 89.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 563

هذا الإسم لا يطلق على غير اللَّه، بينما أسماء اللَّه الاخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل: العالم والخالق والرازق، وتطلق غالباً على غيره أيضاً مثل:

(رحيم، وكريم، وعالم، وقادر ...).

هذا الإسم المقدس تكرر أكثر من «ألف مرّة» في القرآن الكريم، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدسة في مقدار تكراره. وهو اسم ينير القلب، ويبعث في الإنسان الطاقة والطمأنينة، ويغمر وجوده صفاءً ونوراً.

«أحد»: يعني اللَّه أحد وواحد، لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي، بل بمعنى الوحدة الذاتية. بعبارة أوضح: وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير.

الدليل على ذلك واضح: فهو ذات غير متناهية من كل جهة، ومن المسلم أنّه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كل جهة، إذ لو كان ثمّة ذاتان، لكانت كلتاهما محدودتين، ولمّا كان لكل واحدة منهما

كمالات الاخرى (تأمل بدقّة).

«اللَّهُ الصَّمَدُ». وهو وصف آخر لذاته المقدسة.

وفي جامع الأخبار: سئل ابن الحنفية عن الصمد، فقال: قال علي عليه السلام: «تأويل الصمد لا اسم ولا جسم، ولا مثل ولا شبه، ولا صورة ولا تمثال، ولا حدّ ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا ولا ثمّة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولا سكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شمّ رائحة، منفي عنه هذه الأشياء».

هذه الرواية توضّح أنّ «الصمد» له مفهوم واسع ينفي كل صفات المخلوقين عن ساحته المقدسة.

الآية التالية تردّ على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ».

إنّها ترد على المؤمنين بالتثليث (الربّ الأب، والربّ الإبن، وروح القدس).

النصارى تعتقد أنّ المسيح ابن اللَّه، واليهود ذهبت إلى أنّ العزير ابن اللَّه: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهُونَ قَوْلَ الَّذِينَ

مختصر الامثل، ج 5، ص: 564

كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «1».

ومشركو العرب كانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات اللَّه: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» «2».

ثم تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف اللَّه تعالى: «وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ». أي ليس له شبيه ومثل اطلاقاً.

«الكفو»: هوالكف ء في المقام والمنزلة والقدر، ثم اطلقت الكلمة على كل شبيه ومثيل.

استناداً إلى هذه الآية، اللَّه سبحانه منزّه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكل نقص ومحدودية، وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي.

من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولا نظير له في صفاته، ولا مثيل

له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كل الجهات.

أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول في الخطبة (186) نهج البلاغة: «لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً ... ولا كف ء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه».

هذا التفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقّها.

بحوث

الأوّل: التوحيد: التوحيد يعني وحدانية ذات اللَّه تعالى ونفي أي شبيه ومثيل له، وإضافة إلى الدليل النقلي المتمثل في النصوص الدينية ثمّة دلائل عقلية كثيرة أيضاً تثبت ذلك نذكر قسماً منها باختصار:

1- برهان صرف الوجود: وملخصه أنّ اللَّه سبحانه وجود مطلق لا يحده قيد ولا شرط، ومثل هذا الوجود سيكون غير محدود دون شك، فلو كان محدوداً لمُني بالعدم، والذات المقدسة التي ينطلق منها الوجود لا يمكن أن يعترضها العدم والفناء، وليس في الخارج شي ء يفرض عليه العدم، ولذلك لا يحدّه حدّ.

______________________________

(1) سورة التوبة/ 30.

(2) سورة الأنعام/ 100.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 565

من جهة اخرى لا يمكن تصوّر وجودين غير محدودين في العالم، إذ لو كان ثمّة وجودان لكان كل واحد منهما فاقداً حتماً لكمالات الآخر، أي لا يملك كمالاته، ومن هنا فكلاهما محدودان، وهذا دليل واضح على وحدانية ذات واجب الوجود (تأمّل بدقّة).

2- البرهان العلمي: عندما ننظر إلى الكون الذي يحيط بنا، نلاحظ في البداية موجودات متفرقة ... الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات والحيوانات، وكلّما ازددنا إمعاناً في النظر الفينا مزيداً من الترابط والإنسجام بين أجزاء هذا العالم وذراته، وظهر لنا أنّه مجموعة واحدة تتحكم فيها جميعاً قوانين واحدة.

هذه الوحدة في نظام الوجود، والقوانين الحاكمة عليه، والإنسجام التام بين أجزائه كلّها ظواهر تشهد على وحدانية الخالق.

3- برهان التمانع: (الدليل العلمي الفلسفي)، وهو دليل آخر على إثبات وحدانية

اللَّه، مستلهم من قوله سبحانه: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» «1».

4- دعوة الأنبياء إلى اللَّه الواحد الأحد: وهو دليل آخر على وحدانية اللَّه، إذ لو كان هناك خالقان كل واحد منهما واجب الوجود في العالم، لاستلزم أن يكون كل واحد منهما منبعاً للفيض، فلا يمكن لوجود ذي كمال مطلق أن يبخل في الإفاضة لأنّ عدم الفيض نقص بالنسبة للوجود الكامل، وحكمته تستوجب أن يشمل الجميع بفيضه.

أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول لإبنه الحسن المجتبى عليه السلام وهو يوصيه: «واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه» «2».

الثاني: فروع دوحة التوحيد: تذكر للتوحيد عادة أربعة فروع:

1- توحيد الذات: (وهو ما شرحناه أعلاه).

2- توحيد الصفات: أي إنّ صفات اللَّه ليست زائدة على ذاته، وليست منفصلة عن بعضها، بل هو وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، وكلّه أزلية وأبدية.

ولو لم يكن ذلك لإستلزم التركيب، وإن كان مركباً لاحتاج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون واجباً للوجود.

______________________________

(1) سورة الأنبياء/ 22.

(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 566

3- التوحيد الأفعالي: ويعني أنّ كل وجود وكل حركة وكل فعل في العالم يعود إلى ذاته المقدسة، حتى الأفعال التي تصدر منّا هي في أحد المعاني صادرة عنه، فهو الذي منحنا القدرة والإختيار وحرية الإرادة، ومع أنّنا نفعل الأفعال بأنفسنا، وأنّنا مسؤولون تجاهها.

فالفاعل من جهة هو اللَّه سبحانه لأنّ كل ما عندنا يعود إليه: (لا مؤثّر في الوجود إلّااللَّه).

4- التوحيد في العبادة: أي تجب عبادته وحده دون سواه، ولا يستحق العبادة غيره، لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق،

ومطلق الكمال، لمن هو غني عن الآخرين، ولمن هو واهب النعم وخالق كل الموجودات وهذه صفات لا تجتمع إلّافي ذات اللَّه سبحانه.

الثالث: التوحيد الأفعالي: توحيد الأفعال له بدوره فروع كثيرة نشير إلى ستة من أهمها:

1- توحيد الخالقية: والقرآن الكريم يقول في الآية (16) من سورة الرعد: «قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ».

ودليله واضح، فحين ثبت بالأدلة السابقة أنّ واجب الوجود واحد، وكل ما عداه ممكن الوجود، يترتب على ذلك أنّ خالق كل الموجودات واحد أيضاً.

2- توحيد الربوبية: أي إنّ اللَّه وحده هو مدبّر العالم ومربّيه ومنظّمه؛ كما جاء في الآية (164) من سورة الأنعام: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْ ءٍ».

دليل ذلك أيضاً وحدة واجب الوجود، وتوحيد الخالق في عالم الكون.

3- التوحيد في التقنين والتشريع: يقول سبحانه في الآية (44) من سورة المائدة:

«وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».

لمّا ثبت أنّه سبحانه هو المدير والمدبّر، فليس لأحد غيره حتماً صلاحية التقنين. إذ لا سهم لغيره في تدبير العالم كي يستطيع أن يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين.

4- التوحيد في المالكية: سواء «الملكية الحقيقية» أي السلطة التكوينية على الشي ء، أم «الملكية الحقوقية» وهي السلطة القانونية على الشي ء، فهي له سبحانه؛ كما في الآية (189) من سورة آل عمران يقول تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». وفي الآية (7) من سورة الحديد يقول سبحانه: «وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ».

والدليل على ذلك هو نفس الدليل على توحيد الخالقية، وحين يكون هو سبحانه خالق كل شي ء فهو مالك كل شي ء أيضاً، فكلّ ملكية يجب أن تستمد وجودها من مالكيته.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 567

5- توحيد الحاكمية: لابدّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الإجتماعية تتطلب ذلك، فلا يمكن

بدون حكومة أن تقسم المسؤوليات، وتنظم المشاريع، ويحال دون التعدي والتجاوز.

ومن جهة اخرى، مبدأ الحرية يقرر أن لا أحد له حق الحكومة على أحد، إلّاإذا سمح بذلك المالك الأصلي والصاحب الحقيقي. من هنا فالإسلام يرفض كل حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهية ومن هنا أيضاً نرى شرعية الحكم للنبي صلى الله عليه و آله وللأئمة المعصومين عليهم السلام ثم للفقيه الجامع للشرائط بعدهم.

ومن الممكن أن يجيز الناس أحداً ليحكمهم، ولكن اتفاق الناس بأجمعهم غير ممكن في مجتمع عادة، ولذلك لا يمكن إقامة مثل هذه الحكومة عملياً «1».

6- توحيد الطاعة: اللَّه سبحانه هو وحده «واجب الإطاعة» في هذا الكون، وهو تعالى مصدر مشروعية إطاعة غيره، أي إنّ إطاعة غيره يجب أن تعدّ إطاعة له.

دليل ذلك واضح أيضاً، حين تكون الحاكمية له دون سواه فيجب أن يكون هو المطاع دون غيره، ولذلك نحن نعتبر إطاعتنا للأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام ومن ينوب عنهم هي انعكاس عن طاعتنا للَّه؛ كما في الآية (59) من سورة النّساء يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الْأَمْرِ مِنكُمْ». وفي الآية (80) من نفس السورة يقول تعالى: «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ».

«نهاية تفسير سورة الإخلاص»

______________________________

(1) لذلك إذا تعينت حكومة عن طريق الإنتخابات وبأكثرية الأصوات، فلابدّ من تنفيذ الفقيه الجامع للشرائط كي تكون لها شرعية إلهيّة.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 569

113. سورة الفلق

محتوى السورة: تتضمن السورة تعاليم للنبي صلى الله عليه و آله خاصة، وللناس عامة تقضي أن يستعيذوا باللَّه من شرّ كل الأشرار، وأن يوكلوا أمرهم إليه، ويأمنوا من كل شرّ في اللجوء إليه.

فضيلة السورة: عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «انزلت

عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ المعوذتان».

وأبوعبيدة الحذاء عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «من أوتر بالمعوذتين، وقل هو اللَّه أحد، قيل له: يا عبد اللَّه! أبشر فقد قبل اللَّه وترك».

وعن النبي صلى الله عليه و آله قال: «يا عقبة! ألا اعلمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن»؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. فعلّمني المعوذتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي: «إقرأهما كلّما قمت ونمت».

إنّ هذه الفضائل نصيب من جعل روحه وعقيدته وعمله منسجماً مع محتوى السورة.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

مختصر الامثل، ج 5، ص: 570

بربّ الفلق أعوذ: يخاطب اللَّه سبحانه نبيّه باعتباره الاسوة والقدوة، ويقول له: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِن شَرّ مَا خَلَقَ».

«الفلق»: من «فَلَق» أي شقّ وفَصَل؛ وسمي طلوع الصبح بالفلق لأنّ ضوء الصبح يشق ظلمة الليل؛ ومثله الفجر، اطلق على طلوع الصبح لنفس المناسبة.

وقيل: إنّ الفلق يعني ولادة كل الموجودات الحيّة، بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية.

فولادة هذه الموجودات تقترن بفلق حبّتها أو بيضتها، والولادة من أعجب مراحل وجود هذه الأحياء.

وقيل: إنّ الفلق له معنى واسع يشمل كل خلق، لأنّ الخلق، هو شقّ ستار العدم ليسطع نور الوجود.

وكل واحد من هذه المعاني الثلاثة (طلوع الصبح- وولادة الموجودات الحيّة- وخلق كل موجود) ظاهرة عجيبة تدل على عظمة الباري والخالق والمدبّر، ووصف اللَّه بذلك له مفهوم عميق.

«مِن شَرّ مَا خَلَقَ» ... من كل موجود شرّير من الإنس والجن والحيوان وحوادث الشرّ والنفس الأمارة بالسوء، وهذا لا يعني أنّ الخلق الإلهي ينطوي

في ذاته على شرّ، لأنّ الخلق هو الإيجاد، والإيجاد خير محض. يقول سبحانه: «الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ» «1».

بل الشرّ يعرض المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة، وتنسلخ عن المسير المعين لها، على سبيل المثال، أنياب الحيوانات وسيلة دفاعية تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السلاح للدفاع مقابل العدو، فلو أنّ هذا السلاح استخدم في محله فهو خير، وإن لم يستعمل في محله كأن صوّب تجاه صديق فهو شرّ.

وجدير بالذكر أنّ كثيراً من الامور نحسبها شرّاً وفي باطنها خير كثير، مثل الحوادث والبلايا التي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة وتدفعه إلى التوجه نحو اللَّه هذه ليس من الشرّ حتماً.

«وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ». «غاسق»: من الغسق، وهو شدّة ظلمة الليل في منتصفه.

«غاسق»: تعني إذن في الآية: الفرد المهاجم، أو الموجود الشرّير الذي يتستر بظلام الليل لشنّ هجومه.

«وقب»: من الوَقب، وهو الحفرة، ثم استعمل الفعل «وَقَبَ» للدخول في الحفرة؛ وكأنّ

______________________________

(1) سورة السّجدة/ 7.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 571

هذه الموجودات الشريرة المضرة تستغل ظلام الليل، فتصنع الحفر الضارة لتحقق مقاصدها الخبيثة، وقد يكون الفعل يعني: نَفَذَ وتوغّل.

«وَمِن شَرّ النَّفثَاتِ فِى الْعُقَدِ».

«النفاثات»: من «النفث» وهو البصق القليل؛ ولمّا كان البصق مقروناً بالنفخ، فاستعملت نفث بمعنى نفخ أيضاً.

كثير من المفسرين قالوا إنّ «النفاثات» هي النساء الساحرات، وهي صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نَفثَ، وهذه النسوة كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر، وقيل: إنّها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في اذن الرجال وخاصة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى.

الفخر الرازي يقول أنّ النساء لأجل كثرة حبّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأى إلى رأى ومن عزيمة إلى عزيمة «1».

وهذا المعنى

في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إنّ إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدقّ الأسرار.

وقيل: إنّ النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب.

ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كل اولئك ويشمل أيضاً النمامين والذين يهدمون بنيان المحبة بين الأفراد.

«وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».

هذه الآية تبيّن أنّ الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها، لأنّ القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة والثعابين اللاسعة والشياطين الماكرة.

«الحسد»: خصلة سيئة شيطانية تظهر في الإنسان نتيجة عوامل مختلفة؛ مثل: ضعف الإيمان، وضيق النظر، والبخل. وهو يعني طلب وتمنّي زوال النعمة من شخص آخر.

الحسد منبع لكثير من الذنوب الكبيرة.

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب».

«نهاية تفسير سورة الفلق»

______________________________

(1) التفسير الكبير 32/ 196.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 573

114. سورة الناس

محتوى السورة: الإنسان معرض دائماً لوساوس الشيطان، وشياطين الجن والإنس يسعون دائماً للنفوذ في قلبه وروحه، ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم بفساد العالِم.

هذه السورة تأمر النبي صلى الله عليه و آله باعتباره القدوة والاسوة أن يستعيذ باللَّه من شرّ الموسوسين.

محتوى هذه السورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يدوران حول الإستعاذة باللَّه من الشرور والآفات، مع فارق أنّ سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السورة تركز على شرّ (الوسواس الخناس).

فضيلة تلاوة السورة: في المجمع عن الفضل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ رسول اللَّه صلى

الله عليه و آله اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعاً شديداً، فأتاه جبرائيل وميكائيل عليهما السلام، فقعد جبرائيل عليه السلام عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرائيل بقل أعوذ بربّ الفلق وميكائيل بقل أعوذ بربّ الناس».

مختصر الامثل، ج 5، ص: 574

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6) بربّ الناس أعوذ: في هذه السورة يتجه الخطاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باعتباره الاسوة والقدوة: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ».

يلاحظ أنّ الآيات ركزت على ثلاث من صفات اللَّه سبحانه هي (الربوبية والمالكية والالوهية) وترتبط كلّها إرتباطاً مباشراً بتربية الإنسان ونجاته من براثن الموسوسين.

المقصود من الإستعاذة باللَّه ليس طبعاً ترديد الإستعاذة باللسان فقط، بل على الإنسان أن يلجأ إليه جلّ وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضاً، مبتعداً عن الطرق الشيطانية والأفكار المضللة الشيطانية، والمناهج والمسالك الشيطانية والمجالس والمحافل الشيطانية، ومتجهاً على طريق المسيرة الرحمانية، وإلّا فإنّ الإنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان لا تكفيه قراءة هذه السورة ولا تكرار الفاظ الإستعاذة باللسان.

على المستعيذ الحقيقي أن يقرن قوله «ربّ الناس» بالإعتراف بربوبية اللَّه تعالى، وبالإنضواء تحت تربيته؛ وأن يقرن قوله «ملك الناس» بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره؛ وأن يقرن قوله: «إله الناس» بالسير على طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره.

ومن كان مؤمناً بهذه الصفات الثلاث؛ وجعل سلوكه منطلقاً من هذا الإيمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شرّ الموسوسين.

هذه الأوصاف الثلاثة تشكل في الواقع ثلاثة دروس تربوية هامّة ... ثلاث سبل وقاية ...

وثلاث طرق نجاة من شرّ الموسوسين، إنّها تؤمن على مسيرة الإنسان

من الأخطار.

«مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ».

«الوسواس»: أصلها- كما يقول الراغب في المفردات- صوت الحُلي (اصطكاك حلية بحلية)، ثم اطلق على أي صوت خافت، ثم على ما يخطر في القلب من أفكار وتصورات سيئة، لأنّها تشبه الصوت الباهت الذي يوسوس في الاذن.

مختصر الامثل، ج 5، ص: 575

«الوسواس»: مصدر، ويأتي بمعنى اسم الفاعل بمعنى الموسوس، وهي في الآية بهذا المعنى.

«الخنّاس»: صيغة مبالغة من الخنوس وهو التراجع، لأنّ الشياطين تتراجع عند ذكر اسم اللَّه؛ والخنوس له معنى الإختفاء أيضاً، لأن التراجع يعقبه الإختفاء عادة.

فقوله سبحانه: «مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ». أي: أعوذ باللَّه من شرّ الموسوس ذي الصفة الشيطانية الذي يهرب ويختفي من ذكر اسم اللَّه.

عمل الشيطان هو التزيين، واخفاء الباطل تحت طلاء الحق، والكذب في قشر من الصدق، والذنب في لباس العبادة، والضلال خلف ستار الهداية.

وبإيجاز، الموسوسون متسترون، وطرقهم خفية، وفي هذا تحذير لكل سالكي طريق اللَّه أن لا يتوقعوا رؤية الشياطين في صورتهم الأصلية، أو رؤية مسلكهم على شكله المنحرف.

أبداً ... فهم موسوسون خناسون ... وعملهم الحيلة والمكر والخداع والتظاهر والرياء وإخفاء الحقيقة.

جملة «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» تنبيه على حقيقة هامّة هي إنّ «الوسواس الخناس» لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة، ولا في فئة خاصة، بل هو موجود في الجن والإنس ... في كل جماعة وفي كل ملبس، فلابدّ من الحذر منه أينما كان، والإستعاذة باللَّه منه في كل أشكاله وصوره.

أصدقاء السوء، والجلساء المنحرفون، وأئمة الظلم والضلال، والولاة الجبابرة الطواغيت، والكتاب والخطباء الفاسدون، والمدارس الإلحادية والإلتقاطية المخادعة، ووسائل الإعلام المزوّرة الملفّقة، كلّها هي وأمثالها تندرج ضمن المفهوم الواسع للوسواس الخناس وتتطلب من الإنسان أن يستعيذ باللَّه منها.

في أمالي للشيخ الصدوق عن الإمام جعفر بن محمّد

الصادق عليه السلام قال: «لمّا نزلت هذه الآية: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلًا بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس:

أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئه، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم

مختصر الامثل، ج 5، ص: 576

الإستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة».

«نهاية تفسير سورة الناس»

اللّهمّ! احفظنا من شرّ كل وسواس خناس.

ربّنا! التآمر دقيق، والعدوّ متربّص، والمخططات خفية رهيبة، ولا نجاة منها إلّابلطفك وفضلك.

يا كريم! بفضلك وبمنّك وبنعمتك استطعت بعد ثلاثة عاماً أن ننهي هذا التفسير.

يا غفور ويا رحيم! تعلم أنّنا في هذه اللحظات مغمورون بفرحة ممزوجة بالشكر فنبتهل إليك ونتضرع أن تغفر لنا زلاتنا فإنّك أرحم الراحمين.

وتقبل منّا يا ربّ هذا الجهد المتواضع بكرمك، واجعله لنا ذخراً يوم نلقاك.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

قم- الحوزة العلميّة

أحمد- علي بابائي

13 رجب 1427

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.