مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل المجلد 4

اشارة

عنوان و نام پديدآور : مختصر الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل/ناصر مکارم شیرازی

مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب علیه السلام، 1428

مشخصات ظاهری : ج

وضعیت فهرست نویسی : در انتظار فهرستنویسی

شماره کتابشناسی ملی : 1148393

31. سورة لقمان

محتوى السورة: إنّ محتوى هذه السورة يتلخص في خمسة أقسام:

1- يشير- بعد ذكر الحروف المقطعة- إلى عظمة القرآن وكونه هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يتمتّعون بصفات خاصة.

2- يتحدث عن آيات اللَّه في خلق السماء ورفعها بدون أي عمد، وخلق الجبال، والأحياء المختلفة، ونزول المطر، ونموّ النباتات.

3- ينقل جانباً من كلام لقمان الحكيم والمتألّه في وصيته لابنه، وتسمية هذه السورة بسورة «لقمان» بسبب هذا البحث المهم العميق المحتوى.

4- ثم تعود السورة إلى أدلة وعلامات التوحيد مرّة اخرى فتتحدث عن تسخير السماء والأرض ونعم اللَّه الوفيرة، وذمّ منطق الوثنيين الذين سقطوا في وادي الضلال والانحراف نتيجة التقليد واتّباع الآباء والأجداد.

وتكشف الستار عن علم اللَّه المطلق بذكر مثال واضح.

5- إنّه يشير إشارة قصيرة مؤثرة تهزّ الوجدان إلى مسألة المعاد والحياة بعد الموت، وتحذّر الإنسان من الإغترار بهذه الدنيا.

ثم تنهي هذا المبحث بذكر جانب من علم اللَّه بالغيب بما يتعلق بالإنسان، ومن جملة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 6

ذلك لحظة موته، وحتى على الجنين في بطن امّه، وبذلك تنتهي السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة لقمان، كان لقمان له رفيقاً يوم القيامة، واعطي من الحسنات عشراً بعدد من عمل بالمعروف وعمل بالمنكر».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة لقمان في ليلة وكّل اللَّه به في ليلته ثلاثين ملكاً يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يصبح، فإذا قرأها

بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يمسي».

وكل هذا الفضل والثواب والإمتياز لتلاوة سورة من القرآن لأنّ التلاوة مقدمة للتفكر، والتفكر مقدمة للعمل.

الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) «الم» تبدأ هذه السورة بذكر أهمية وعظمة القرآن، وبيان الحروف المقطعة في بدايتها إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الآيات التي تتركّب من حروف الألف باء البسيطة، لها محتوى ومفهوم سام يغيّر مصير البشر بصورة تامة، ولذلك فإنّها تقول بعد ذكر الحروف المقطعة: «تِلْكَ ءَايتُ الْكِتبِ الْحَكِيمِ».

«تلك»: في لغة العرب إشارة للبعيد، وهذا التعبير كناية عن عظمة وأهمية هذه الآيات.

إنّ وصف «الكتاب» ب «الحكيم» إمّا لقوّة ومتانة محتواه، لأنّ الباطل لا يجد إليه طريقاً وسبيلًا، ويطرد عن نفسه كل نوع من الخرافات والأساطير؛ أو بمعنى أنّ القرآن كالعالم الحكيم الذي يتكلّم بألف لسان في الوقت الذي هو صامت لا ينطق، فيعلّم، ويعظ وينصح، ويرغّب ويرهّب، ويحذّر ويتوعّد، ويبيّن القصص ذات العبرة. وخلاصة القول فإنّه حكيم بكل معنى الكلمة. ولهذه البداية علاقة مباشرة بكلام لقمان الحكيم الذي ورد البحث فيه في هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 7

ثم تذكر الآية التالية الهدف النهائي من نزول القرآن، فتقول: «هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ».

إنّ الهداية مقدّمة لرحمة اللَّه، لأنّ الإنسان يجد الحقيقة أوّلًا في ظلّ نور القرآن، ويعتقد بها ويعمل بها، وبعد ذلك يكون مشمولًا برحمة اللَّه الواسعة ونعمه التي لا حدّ لها.

ثم تصف الآية التالية المحسنين بثلاث صفات، فتقول: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ».

فإنّ إرتباط هؤلاء بالخالق

عن طريق الصلاة، وبخلق اللَّه عن طريق الزكاة، ويقينهم بمحكمة القيامة باعث قوي على الإبتعاد عن الذنب والمعصية، ودافع لأداء الواجبات.

وتبيّن الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- عاقبة عمل المحسنين، فتقول: «أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».

جملة «أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبّهِمْ» توحي بأنّ هداية اولئك قد ضُمنت من قبل ربّهم.

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ»: في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، كان يتّجر فيخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم ويحدث بها قريشاً ويقول لهم: إنّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود وأنا احدثكم بحديث رستم، واسفنديار، وأخبار الأكاسرة. فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن.

التّفسير

الغناء أحد مكائد الشياطين الكبيرة: الكلام في هذه الآيات عن جماعة يقعون تماماً في الطرف المقابل لجماعة المحسنين والمؤمنين الذين ذكروا في الآيات السابقة. الكلام والحديث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 8

هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم. فتقول أوّلًا: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا». ثم تضيف أخيراً: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

إنّ شراء لهو الحديث والكلام الأجوف إمّا أن يتمّ عن طريق دفع المال في مقابل سماع الخرافات والأساطير،

أو أن يكون عن طريق شراء المغنّيات لعقد مجالس اللهو والباطل والغناء. ويحتمل أيضاً أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كل أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.

وأمّا «لَهْوَ الْحَدِيثِ» فإنّ له معنىً واسعاً يشمل كل نوع من الكلام أو الموسيقى أو الترجيع الذي يؤدّي إلى اللهو والغفلة، ويجرّ الإنسان إلى اللاهدفية أو الضلال، سواء كان من قبيل الغناء والألحان والموسيقى المهيّجة المثيرة للشهوة والغرائز والميول الشيطانية، أو الكلام الذي يسوق الإنسان إلى الفساد عن طريق محتواه ومضامينه.

ولجملة «لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ» مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصة النضر بن الحرث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.

والتعبير ب «بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالة المنحرفة لا تؤمن حتى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير.

أمّا وصف العذاب ب (المهين) فلأنّ العقوبة متناغمة مع الذنب، فإنّ هؤلاء قد استهزؤوا بآيات اللَّه وأهانوها، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه قد أعدّ لهم عذاباً مهيناً، إضافة إلى كونه أليماً.

وأشارت الآية التالية إلى ردّ فعل هذه الفئة أمام آيات اللَّه، وتوحي بالمقارنة بردّ فعلهم تجاه لهو الحديث، فتقول: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا». أي ثقلًا يمنعه من السماع ..

ثم تذكر أخيراً عقاب مثل هؤلاء الأفراد الأليم فتقول: «فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ».

إنّ التعبير ب «وَلَّى مُسْتَكْبِرًا» إشارة إلى أنّ إعراضه لم يكن نابعاً من تضرّر مصالحه الدنيوية والحدّ من رغباته وشهواته فحسب، بل إنّ الأمر أكبر من ذلك، فإنّ فيه دافع التكبر أمام عظمة اللَّه وآياته، وهو أعظم ذنب فيه.

إنّ تعبير (بشّر) في مورد العذاب الإلهي الأليم، يتناسب مع عمل

المستكبرين الذين كانوا يتخذون آيات اللَّه هزواً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 9

ثم تعود الآيات التالية إلى شرح وتبيان حال المؤمنين الحقيقيين، وقد بدأت السورة في مقارنتها هذه بذكر حالهم أوّلًا ثم ختمت به في نهاية هذا المقطع أيضاً، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ».

والأهم من ذلك أنّ هذه الجنان الوافرة النعم خالدة لهؤلاء: «خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» واللَّه سبحانه لا يعد كذباً، وليس عاجزاً عن الوفاء بوعوده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وللنعيم معنىً واسع يشمل كل أنواع النعم المادية والمعنوية.

بحثان

1- تحريم الغناء: لا شك في أنّ الغناء بصورة إجمالية حرام على المشهور بين علماء الشيعة، وتصل هذه الشهرة إلى حد الإجماع.

والذي يمكن استفادته من مجموع كلمات فقهاء في هذا المجال، أنّ الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد، ويحرّك القوى الشهوانية في الإنسان.

والملفت للنظر أنّ بعض الألحان تعدّ أحياناً غناءً ولهواً باطلًا بذاتها ومحتواها، مثال ذلك أشعار العشق والغرام والأشعار المفسدة التي تُقرأ بألحان وموسيقى راقصة.

وقد تكون الألحان بذاتها غناءً أحياناً اخرى، مثال الأشعار الجيدة، أو آيات القرآن والدعاء والمناجاة التي تُقرأ بلحن يناسب مجالس الفاسدين والفساق، وهو حرام في كلتا الصورتين «فتأمل».

ومن الطبيعي أن يكون للغناء موارد شك- ككل المفاهيم الاخرى- وأنّ الإنسان لا يعلم حقّاً هل أنّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذه الصورة يحكم بالحلّية بحكم أصل البراءة.

والكلام الأخير هو أنّ ما ذُكر أعلاه يتعلق بالغناء، وأمّا استعمال الآلات الموسيقية وحرمتها، فهو بحث آخر خارج عن هذا الموضوع.

2- فلسفة تحريم الغناء: فبنظرة سريعة إلى معطيات الغناء سنواجه المفاسد أدناه:

أوّلًا: الترغيب والدعوة إلى فساد الأخلاق:

لقد بيّنت التجربة أنّ كثيراً من الأفراد الواقعين

تحت تأثير موسيقى وألحان الغناء قد تركوا طريق التقوى، واتّجهوا نحو الشهوات والفساد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 10

إنّ مجلس الغناء- عادةً- يُعدّ مركزاً لأنواع المفاسد، والدافع على هذه المفاسد هو الغناء.

وينقل في تفسير روح المعاني حديثاً عن أحد زعماء بني امية أنّه قال لهم: إيّاكم والغناء فإنّه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنّه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. وهذا يبيّن أنّه حتى اولئك كانوا مطّلعين على مفاسده أيضاً.

ثانياً: الغفلة عن ذكر اللَّه:

إنّ التعبير باللهو الذي فسّر بالغناء في بعض الروايات الإسلامية إشارة إلى حقيقة أنّ الغناء يجعل الإنسان عبداً ثملًا من الشهوات حتى يغفل عن ذكر اللَّه.

في الأمالي للطوسي رحمه الله عن علي عليه السلام قال: «كلّما ألهى عن ذكر اللَّه فهو من الميسر».

ثالثاً: الإضرار بالأعصاب:

إنّ الغناء والموسيقى أحد العوامل المهمة في تخدير الأعصاب، ولهذا فإنّ كثيراً من مفاسد المخدّرات موجودة في الغناء، سواء كان تخديره خفيفاً أم قوياً.

ويستفاد من الإحصاءات المعدّة للوفيّات في عصرنا الحالي بأنّ معدّل موت الفجأة قد ازداد بالمقارنة مع السابق، وقد ذكروا أسباباً مختلفة كان من جملتها الغناء والموسيقى.

رابعاً: الغناء أحد وسائل الإستعمار:

إنّ مستعمري العالم يخافون دائماً من وعي الشعوب، وخاصة الشباب، ولذلك فإنّ جانباً من برامجهم الواسعة لاستمرار وإدامة الاستعمار هو إغراق المجتمعات بالغفلة والجهل والضلال، وتوسعة وسائل اللهو المفسدة.

إنّ المخدّرات لا تتّصف اليوم بصفة تجارية فقط، بل هي أحد الوسائل السياسية المهمة، فإنّ السياسات الاستعمارية تسعى إلى إيجاد مراكز الفحشاء ونوادي القمار ووسائل اللهو الفاسدة الاخرى، ومن جملتها توسعة ونشر الغناء والموسيقى، وهي من أهم الوسائل التي يصرّ عليها المستعمرون لتخدير أفكار الناس، ولهذا فإنّ الموسيقى تشكّل القسم الأكبر من وقت إذاعات العالم ووسائل الإعلام

الأساسية.

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ أَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 11

هذا خلق اللَّه: مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة، تتحدث الآيتان أعلاه عن أدلة التوحيد الذي هو أهمّ الاصول العقائدية. تشير الآية الاولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات اللَّه التي ترتبط مع بعضها إرتباطاً وثيقاً لا ينفصل، وهي: خلق السماء، وكون الكواكب معلقة في الفضاء، وخلق الجبال لتثبيت الأرض، ثم خلق الدواب، وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها، فتقول: «خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا».

«العَمَد»: جمع «عمود» وتقييد بنائها وإقامتها ب «تَرَوْنَهَا» دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة، ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلّاأنّها غير قابلة للرؤية، فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبية الذي يبدو كالعمود القوي جدّاً، إلّاأنّه غير مرئي، يحفظ الأجرام السماوية.

إنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة، وقد أوردنا تفصيلًا أكثر عنها في ذيل الآية (2) من سورة الرعد.

ثم تقول الآية في الغاية من خلق الجبال: «وَأَلْقَى فِى الْأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ».

وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية، واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال، تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحية واستقرارها، بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادي ء مطمئن، فتقول: «وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ».

إنّ التعبير ب «مِن كُلّ دَابَّةٍ» إشارة إلى تنوع الحياة في صور مختلفة.

إلّا أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء، ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت

إلى هذا الموضوع، فقالت: «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ».

فالكرة الأرضية تعتبر سماطاً واسعاً ذا أغذية متنوعة يمتدّ في جميع أنحائها، ويصلح لكل نوع منها حسب خلقته، مما يدل على عظمة الخالق جل وعلا.

ثم تشير هذه الآية مرّة اخرى إلى مسألة (الزوجية في عالم النباتات) وهي أيضاً من معجزات القرآن العلمية، لأنّ الزوجية- أي وجود الذكر والانثى- في عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة، والقرآن كشف الستار عنها.

بعد ذكر عظمة اللَّه في عالم الخلقة، وذكر صور مختلفة من المخلوقات، وجّهت الآية الخطاب إلى المشركين، وجعلتهم موضع سؤال واستجواب، فقالت: «هذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 12

مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ». من المسلم أنّ اولئك لم يكونوا يستطيعون إدّعاء كون أيّ من المخلوقات من خلق الأصنام، وعلى هذا فإنّهم كانوا يقرّون بتوحيد الخالق، مع هذا الحال كيف يستطيعون تعليل الشرك في العبادة؛ لأنّ توحيد الخالق دليل على توحيد الرب وكون مدبّر العالم واحداً، وهو دليل على توحيد العبودية.

ولذلك اعتبرت الآية عمل اولئك منطبقاً على الظلم والضلال، فقالت: «بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ومعلوم أنّ «الظلم» له معنىً واسعاً يشمل وضع كل شي ء في غير موضعه، ولما كان المشركون يربطون العبادة، وتدبير العالم أحياناً بالأصنام، فإنّهم كانوا مرتكبين لأكبر ظلم وضلالة.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوَالِدَيْكَ

إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) لتكميل البحوث السابقة حول التوحيد والشرك، وأهميّة وعظمة القرآن، والحكمة التي استعملت واتّبعت في هذا الكتاب السماوي، فقد ورد الكلام في هذه الآيات التي نبحثها والآيات الاخرى التالية عن لقمان الحكيم، وعن جانب من المواعظ المهمة لهذا الرجل المتألّه في باب التوحيد ومحاربة الشرك.

إنّ هذه المواعظ العشرة التي ذكرت ضمن ستّ آيات، قد بيّنت باسلوب رائع المسائل العقائدية، إضافةً إلى اصول الواجبات الدينية والمباحث الأخلاقية.

لقد ورد اسم «لقمان» في آيتين من القرآن في هذه السورة، وأنّ اسلوب القرآن في شأن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 13

لقمان يوحي بأنّه لم يكن نبيّاً.

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حقّاً أقول: لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللَّه فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة».

تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمنَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

إنّ الحكمة التي يتحدث عنها القرآن، والتي كان اللَّه قد آتاها لقمان، كانت مجموعة من المعرفة والعلم، والأخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

فإنّ لقمان بامتلاكه هذه الحكمة كان يشكر اللَّه، فقد كان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الإلهية، وكيفية استغلالها والاستفادة منها، وكان يضعها بدقة وصواب كامل في مكانها المناسب لتحقيق الهدف الذي خلقت من أجله، وهذه هي الحكمة، وهي وضع كل شي ء في موضعه، وبناءً على هذا فإنّ الشكر والحكمة يعودان إلى نقطة واحدة.

والتعبير ب «غَنِىٌّ حَمِيدٌ» إشارة

إلى أنّ شكر الناس للأفراد العاديين إمّا أن يؤدّي إلى النفع المادّي للمشكور، أو زيادة مكانة صاحبه في أنظار الناس، إلّاأنّ أيّاً من هذين الأمرين لا معنى له ولا مصداق في حق اللَّه تعالى، فإنّه غني عن الجميع، وهو أهل لحمد كل الحامدين وثنائهم.

وبعد تعريف لقمان ومقامه العلمي والحِكَمي، أشارت الآية التالية إلى اولى مواعظه، وهي في الوقت نفسه أهم وصاياه لولده، فقالت: «وَإِذْ قَالَ لُقْمنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».

وأي ظلم أعظم منه، حيث جعلوا موجودات لا قيمة لها في مصافّ اللَّه ودرجته، وهم يظلمون أنفسهم أيضاً حيث ينزلونها من قمّة عزّة العبودية للَّه ويهوون بها إلى منحدر ذلة العبودية لغيره.

والآيتان التاليتان جمل معترضة ذكرها اللَّه تعالى في طيّات مواعظ لقمان، لكن هذا الإعتراض لا يعني عدم الإتصال والإرتباط، بل يعني الصلة الواضحة لكلام اللَّه عزّ وجل بكلام لقمان، لأنّ في هاتين الآيتين بحثاً عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، وجعل شكر الوالدين في درجة شكر اللَّه.

إضافةً إلى أنّهما تعتبران تأكيداً على كون مواعظ لقمان لابنه خالصة، لأنّ الوالدين مع

مختصر الامثل، ج 4، ص: 14

هذه العلاقة القوية وخلوص النية لا يمكن أن يذكرا في مواعظهما إلّاما فيه خير وصلاح الولد، فتقول أوّلًا: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ». وعندئذ تشير إلى جهود ومتاعب الام العظيمة، فتقول: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ». وهذه المسألة قد ثبتت من الناحية العلمية، إذ أوضحت التجارب أنّ الامّهات في فترة الحمل يُصبن بالضعف والوهن، لأنّهن يصرفن خلاصة وجودهن في تغذية وتنمية الجنين، ويقدّمن له من موادهن الحياتية أفضلها.

وهذا الأمر يستمر حتى في فترة الرضاعة، لأنّ اللبن عصارة وجود الام، ولهذا تضيف بعد ذلك فترة رضاعه

سنتان: «وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ». كما اشير إلى ذلك في الآية (233) من سورة البقرة: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ». والمراد فترة الرضاعة الكاملة، وإن كانت تتمّ أحياناً بفترة أقلّ.

ثم تقول: «أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ». فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك.

ويقول اللَّه تعالى في نهاية الآية بنبرة لا تخلو من التهديد والعتاب: «إِلَىَّ الْمَصِيرُ».

فإنّك إذا قصّرت هنا فستحاسب على كل هذه الحقوق والمصاعب والخدمات بدقة فيجب على الإنسان أن يؤدّي ما عليه من شكر مواهب اللَّه.

إنّ الوصية بالإحسان إلى الأبوين قد توجد الإشتباه والوهم عند البعض وذلك حينما يظنّ أنّه يجب مداراتهما واتّباعهما حتى في مسألة العقيدة والكفر والإيمان، لكن الآية التالية تقول: «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا».

فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان بامّه وأبيه مقدمة على علاقته باللَّه مطلقاً، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينية أبداً.

ولما كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم إحترامهما، ولذلك أضافت الآية إنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلًا على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أن: «وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا».

فلأطفهما وأظهر المحبة لهما في الحياة الدنيوية والمعاشرة، ولا تستسلم لأفكارهما

مختصر الامثل، ج 4، ص: 15

واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينية، وهذه بالضبط نقطة الإعتدال الأصلية التي تجمع فيها حقوق اللَّه والوالدين، ولذا يضيف بعد ذلك: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ».

لأنّ المصير إليه سبحانه: «ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

إنّ الآية أعلاه تشبه ما جاء في الآية (8) من سورة

العنكبوت، حيث تقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) كانت اولى مواعظ لقمان عن مسألة التوحيد ومحاربة الشرك، وثانيتها عن حساب الأعمال والمعاد، والتي تكمّل حلقة المبدأ والمعاد، فيقول: «يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّموَاتِ أَوْ فِى الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ». أي في يوم القيامة.

ويضعها للحساب: «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ».

«الخردل»: نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّاً يضرب المثل بصغرها؛ وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشر مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفية كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإنّ اللَّه اللطيف الخبير المطّلع على كل الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيّع شيئاً في هذا الحساب.

إنّ الإلتفات والتوجه إلى هذا الإطلاع التام من قبل الخالق سبحانه على أعمال الإنسان وعلمه بها، هو أساس كل الإصلاحات الفردية والاجتماعية، وهو قوة وطاقة محركة نحو الخيرات، وسدّ منيع من الشرور والسيئات.

وبعد تحكيم اسس المبدأ والمعاد، والتي هي أساس

كل الإعتقادات الدينية، تطرّق لقمان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 16

إلى أهمّ الأعمال، أي مسألة الصلاة، فقال: «يَا بُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَوةَ». لأنّ الصلاة أهم علاقة وإرتباط مع الخالق، والصلاة تنوّر قلبك، وتصفّي روحك، وتضي ء حياتك، وتطهّر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر. وبعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهم دستور اجتماعي، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: «وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ».

وبعد هذه الأوامر العملية المهمة الثلاثة، ينتقل إلى مسألة الصبر والإستقامة، والتي هي من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فيقول: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

«العزم»: بمعنى الإرادة المحكمة القوية، والتعبير ب «عَزْمِ الْأُمُورِ» هنا إمّا بمعنى الأعمال التي أمر اللَّه بها أمراً مؤكّداً، أو الامور والأعمال التي يجب أن يمتلك الإنسان فيها إرادة فولاذية وتصميماً راسخاً، وأيّاً من هذين المعنيين كان فإنّه يشير إلى أهمية تلك الأعمال.

والتعبير ب «ذلك» إشارة إلى الصبر والتحمل.

ثم انتقل لقمان إلى المسائل الأخلاقية المرتبطة بالناس والنفس، فيوصي أوّلًا بالتواضع والبشاشة وعدم التكبر، فيقول: «وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ». أي لا تعرض بوجهك عن الناس «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ».

«تُصعّر»: من مادة (صعّر)، وهي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدّي إلى إعوجاج رقبته؛ و «المرح»: يعني الغرور والبطر الناشي ء من النعمة؛ و «المختال»: من مادة «الخيال» و «الخيلاء» وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً، نتيجة سلسلة من التخيلات والأوهام؛ و «الفخور»: من مادة «الفخر» ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين.

وعلى هذا، فإنّ لقمان الحكيم يشير هنا إلى صفتين مذمومتين جدّاً وأساس توهين وقطع الروابط الاجتماعية الصميمية: إحداهما التكبر وعدم الاهتمام بالآخرين، والاخرى الغرور

والعجب بالنفس، وهما مشتركتان من جهة دفع الإنسان إلى عالم من التوهم والخيال ونظرة التفوق على الآخرين، وإسقاطه في هذه الهاوية، وبالتالي تقطعان علاقته بالآخرين وتعزلانه عنهم.

إنّ مراد لقمان محاربة كل مظاهر التكبر والغرور.

في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من مشى على الأرض

مختصر الامثل، ج 4، ص: 17

اختيالًا لعنته الأرض ومن تحتها ومن فوقها».

ثم بيّن في الآية التالية أمرين وسلوكين أخلاقيين إيجابيين في مقابل النهيين عن سلوكين سلبيين في الآية السابقة فيقول: إبتغ الإعتدال في مشيك: «وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ». وابتغ الإعتدال كذلك في كلامك ولا ترفع صوتك عالياً، «وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».

إنّ هاتين الآيتين في الحقيقة أمرتا بصفتين، ونهتا عن صفتين:

فالنهي عن «التكبر» و «العجب»، فإنّ أحدهما يؤدّي إلى أن يتكبر الإنسان على عباد اللَّه، والآخر يؤدّي إلى أن يظنّ الإنسان أنّه في مرتبة الكمال وأسمى من الآخرين، وبالتالي سيغلق أبواب التكامل بوجهه، وإن كان لا يقارن بينه وبين الآخرين.

أمّا الأمر بصفتين، فهما رعاية الإعتدال في العمل والكلام، لأنّ التأكيد على الإعتدال في المشي أو إطلاق الصوت هو من باب المثال في الحقيقة.

والحق أنّ الإنسان الذي يتّبع هذه النصائح الأربع موفق وسعيد وناجح في الحياة، ومحبوب بين الناس، وعزيز عند اللَّه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أكثر ما تلج به امتي الجنة تقوى اللَّه وحسن الخلق».

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَ بَاطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لَا هُدًى وَ لَا

كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَ وَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَ إِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) بعد انتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة، وخطط وبرامج القرآن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 18

الأخلاقية والاجتماعية، ولأجل إكمال البحث، تتّجه الآيات إلى بيان نعم اللَّه تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر ... الشكر الذي يكون منبعاً لمعرفة اللَّه وطاعة أوامره، فيوجّه الخطاب لكل البشر، فيقول: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ثم تضيف الآية: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظهِرَةً وَبَاطِنَةً».

«أسبغ»: من مادة «سَبغ» وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثم اطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضاً.

وتتحدث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة، والتي تحيط الإنسان من كل جانب، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحق، فتقول: «وَمِنَ الْنَّاسِ مَن يُجدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ». وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كل هذه النعم الظاهرة والباطنة، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.

والملفت للنظر هو أنّ «العلم»: إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله؛ و «الهدى»: إشارة إلى المعلمين والقادة الربانيين والسماويين، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف؛ والمراد من «الكتاب المنير»: الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نوراً عن طريق

الوحي.

إنّ هذه الجماعة العنيدة لا يمتلكون علماً، ولا يتّبعون مرشداً وهادياً، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي، ولما كانت طرق الهداية منحصرة بهذه الامور الثلاثة فإنّ هؤلاء لما تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.

وتشير الآية التالية إلى المنطق الضعيف السقيم لهذه الفئة، فتقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا». ولمّا لم يكن اتّباع الآباء الجهلة المنحرفين جزءاً من أيّ واحد من الطرق الثلاثة المذكورة أعلاه للهداية، فإنّ القرآن ذكره بعنوان الطريق الشيطاني، وقال: «أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطنُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ».

ثم تطرّقت الآية التالية إلى بيان حال مجموعتين: المؤمنين الخلّص، والكفار الملوّثين، وتجعلهم مورد اهتمامها في المقارنة بينهم، فقالت: «وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى .

مختصر الامثل، ج 4، ص: 19

والإستمساك بالعروة الوثقى تشبيه لطيف لهذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان يحتاج لنجاته من منحدر الماديّة والإرتقاء إلى أعلى قمم المعرفة والمعنويات وتسامي الروح، إلى واسطة ووسيلة محكمة مستقرّة ثابتة، وليست هذه الوسيلة إلّاالإيمان والعمل الصالح، وكل سبيل ومتّكأ غيرهما متهرّي ء متخرّق هاوٍ وسبب للسقوط والموت، إضافة إلى أنّ ما يبقى هو هذه الوسيلة، وكل ماعداها فانٍ، ولذلك فإنّ الآية تقول في النهاية: «وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ».

في تفسير البرهان: من طريق العامة عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستكون بعدي فتنة مظلمة، الناجي منها من تمسّك بالعروة الوثقى. فقيل: يا رسول اللَّه، وما العروة الوثقى؟ قال: ولاية سيد الوصيين. قيل: يا رسول اللَّه، ومن سيد الوصيين؟ قال: أمير المؤمنين. قيل: يا رسول اللَّه ومن أمير المؤمنين؟ قال: مولى المسلمين وإمامهم بعدي. قيل: يا

رسول اللَّه، ومن مولى المسلمين وإمامهم بعدك؟ قال: أخي علي بن أبي طالب».

وقد رويت روايات اخرى في هذا الباب تؤيّد أنّ المراد من العروة الوثقى مودّة أهل البيت عليهم السلام، أو حبّ آل محمّد صلى الله عليه و آله، أو الأئمة من ولد الحسين عليهم السلام.

وقد قلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير بيان للمصاديق الواضحة، ولا تتنافي مع المصاديق الاخرى كالتوحيد والتقوى وأمثال ذلك.

ثم تطرقت الآية التالية إلى بيان حال الفئة الثانية، فقالت: «وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ و». لأنّك قد أدّيت واجبك على أحسن وجه، وهو الذي قد ظلم نفسه.

فلا تحزن أن تكفر جماعة من الناس، ويظلموا ويجوروا وهم متنعمون بالنعم الإلهية ولا يعاقبون، فلا عجلة في الأمر، إذ: «إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوا». فإنّنا مطّلعون على أسرارهم ونيّاتهم كاطّلاعنا على أعمالهم، ف: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

ثم يضيف بأنّ تمتّع هؤلاء بالحياة لا ينبغي أن يثير عجبك، لأنّا «نُمَتّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ» ذلك العذاب الأليم المستمر.

إنّ هذا التعبير لعله إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم خارجون عن قبضة قدرة اللَّه سبحانه، بل إنّه يريد أن يمهل هؤلاء للفتنة وإتمام الحجة والأهداف الاخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 20

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَ لَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي

النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) عشر صفات للَّه سبحانه: بيّنت الآيات الستة أعلاه مجموعة من صفات اللَّه سبحانه، وهي عشر صفات رئيسية، أو عشرة أسماء من الأسماء الحسنى: الغني، الحميد، العزيز، الحكيم، السميع، البصير، الخبير، الحق، العلي، والكبير.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ الآية الاولى تتحدث عن «خالقية» اللَّه، والآية الثانية عن «مالكيته» المطلقة، والثالثة عن «علمه» اللامتناهي، والآية الرابعة والخامسة عن «قدرته» اللامتناهية، والآية الأخيرة تخلص إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الذي يمتلك هذه الصفات ويتمتّع بها هو اللَّه تعالى، وكل ما دونه باطل أجوف حقير.

مع ملاحظة هذا البحث الإجمالي نعود إلى شرح الآيات، فتقول الآية الاولى: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

هذا التعبير يدل من جهة على أنّ المشركين لم يكونوا منكرين لتوحيد الخالق مطلقاً، ومن جهة اخرى يدل على كون التوحيد فطريّاً وأنّ هذا النور كامن في طينة وطبيعة كل البشر.

ثم تقول: إذا كان هؤلاء معترفين بتوحيد الخالق ف «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

ثم تتطرق إلى «مالكية» اللَّه، لأنّه بعد ثبوت كونه خالقاً لا حاجة إلى دليل على كونه مالكاً، فتقول: «لِلَّهِ مَا فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 21

ومن البديهي أنّ الخالق والمالك يكون مدبّراً لأمر العالم أيضاً.

ولذلك تقول الآية في النهاية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

إنّه غنيّ على الإطلاق، وحميد من كل جهة، لأنّ كل موهبة في هذا العالم تعود إليه، وكل ما يملكه الإنسان فإنّه صادر منه وخزائن

كل الخيرات بيده، وهذا دليل حي على غناه.

ولما كان «الحمد» بمعنى الثناء على العمل الحسن الذي يصدر عن المرء باختياره، وكل حسن نراه في هذا العالم فهو من اللَّه سبحانه، فإنّ كل حمد وثناء منه.

ثم تجسّد الآية التالية علم اللَّه اللامحدود من خلال ذكر مثال بليغ جدّاً فيقول: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

«يمدّه»: من مادة «المداد» وهي بمعنى الحبر أو المادة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من «مدّ» بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

«الكلمات»: جمع «كلمة» وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدث ويتكلم بها الإنسان، ثم اطلقت على معنى أوسع، وهو كل شي ء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كل منها ذات اللَّه المقدسة وعظمته، فقد أطلق على كل موجود (كلمة اللَّه)، ثم استعملت كلمات اللَّه بمعنى علم اللَّه لهذه المناسبة.

بعد ذكر علم اللَّه اللامحدود، تتحدث الآية الاخرى عن قدرته اللامتناهية، فتقول: «مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».

الآية التالية تأكيد وبيان آخر لقدرة اللَّه الواسعة، وقد وجّهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» لخدمة الناس وتأمين احتياجاتهم «كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».

«الولوج»: في الأصل بمعنى «الدخول»، ودخول الليل في النهار والنهار في الليل قد يكون إشارة إلى طول وقصر الليل والنهار التدريجي على مدار السنة، حيث ينقص شي ء من أحدهما تدريجياً، ويضاف على الآخر بصورة غير محسوسة، لتتكوّن

الفصول الأربعة للسنة بخصائصها وآثارها المباركة.

وجملة «كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى» إشارة إلى أنّ هذا النظام الدقيق لا يستمر إلى الأبد، بل إنّ له نهاية بانتهاء الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 22

وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص نتيجة جامعة كلية: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

إنّ مجموع البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول كون اللَّه خالقاً ومالكاً، وعن علمه وقدرته اللامتناهيين، أثبتت هذه الامور، وأنّ الحق هو اللَّه وحده، وكل شي ء غيره زائل وباطل ومحدود ومحتاج؛ والعلي والكبير الذي يسمو على كل شي ء، ويجلّ عن كل وصف، هو ذاته المقدسة.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يدور البحث والحديث في هاتين الآيتين أيضاً عن نعم اللَّه سبحانه، وأدلّة التوحيد في الآفاق والأنفس، فالحديث في الآية الاولى عن دليل النظام، وفي الآية الثانية عن التوحيد الفطري، وهما في المجموع تكمّلان البحوث التي وردت في الآيات السابقة. تقول الآية الاولى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

لا شك أنّ حركة السفن على سطح المحيطات تتمّ بمجموعة من قوانين الخلقة.

وبعد بيان نعمة حركة السفن في البحار، والتي كانت ولا تزال أكبر وأنفع وسائل حمل ونقل البضائع والبشر، أشارت هذه الآية إلى صورة اخرى لهذه المسألة، فقالت: «وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ». «الظلل»: جمع ظُلّة بمعنى

سحابة تظلّ.

أي إنّ أمواج البحر العظيمة تهيج فتحيط بهم كأنّ سحاباً قد أظلّهم بظل مرعب مهول.

هنا يجد الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً رغم كل تلك القوى والإمكانيات الظاهرية التي أعدّها لنفسه.

هنا يحيط التوحيد الخالص بكل قلبه ويغمره، ويعتقد بأنّ الدين والعبادة مختصة به سبحانه.

ثم تضيف الآية إنّ اللَّه سبحانه لما نجّاهم من الهلكة إنقسم الناس قسمين: «فَلَمَّا نَجهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 23

«مقتصد»: من مادة «قصد» بمعنى الإعتدال في العمل، والوفاء بالعهد.

وهؤلاء وفوا بعهدهم ولم ينقضوه، ولم ينسوا منّة اللَّه عليهم في تلك اللحظات الحساسة.

وتضيف الآية في النهاية: «وَمَا يَجْحَدُ بَايَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ».

«ختّار»: من «الختر» بمعنى نقض العهد، وهذه الكلمة صيغة مبالغة، لأنّ المشركين والعاصين يتوجّهون إلى اللَّه مراراً، ويقطعون على أنفسهم العهود، وينذرون النذور، إلّاأنّهم بمجرّد أن يهدأ طوفان الحوادث ينقضون عهودهم بصورة متلاحقة، ويكفرون بنعم اللَّه عليهم.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى اللَّه واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشي ء من الدنيا والشيطان، ثم الحديث عن سعة علم اللَّه سبحانه وشموله لكل شي ء، فتقول: «يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَايَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ

عَن وَالِدِهِ شَيًا».

إنّ الدستور الأوّل هو التوجه إلى المعاد، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوة المراقبة، والثاني ينمّي روح الثواب والعقاب، ولا شك أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كل أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كل أعماله، ومن ناحية اخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كل جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.

جملة «لَايَجْزِى» من مادة الجزاء، و «الجزاء» ورد بمعنيين من الناحية اللغوية:

أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شي ء، كما يقال: جزّاه اللَّه خيراً.

والآخر: الكفاية والنيابة والتحمل للشي ء عن الآخرين، كما جاء في الآية مورد البحث:

«لَا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 24

ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الثواب والعقاب يحلّان محل العمل وينوبان عنه، وهما بمقداره أيضاً- تأمّلوا ذلك-.

على كل حال، فإنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتم به، حتى وإن كان أبوه، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.

وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين، فتقول: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». أي الشيطان.

في الواقع، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجه إلى اللَّه، والخوف من الحساب والجزاء، فلا يخاف عليه من الإنحراف والفساد، إلّامن طريقين:

أحدهما: أن تقلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اخرى، وتسلب منه القدرة على التشخيص، لأنّ حبّ الدنيا رأس كل الخطايا وأساسها.

والآخر: أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه، وتبعده عن المبدأ والمعاد.

فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين، فسوف لا

يهدّده أيّ خطر، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.

وفي آخر آية من هذه السورة، وبمناسبة البحث الذي جاء في الآية السابقة حول يوم القيامة، يدور الكلام عن العلوم المختصة باللَّه سبحانه، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ» ومطّلع على جميع جزئياته وتفاصيله ...

«وَيَعْلَمُ مَا فِى الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فكأنّ مجموع هذه الآية جواب عن سؤال يطرح في باب القيامة، وهو نفس السؤال الذي سأل المشركون به النبي صلى الله عليه و آله مراراً وتكراراً، وقالوا: «مَتَى هُوَ» «1». فيجيبهم القرآن عن سؤالهم، ويقول: «إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا» «2».

«نهاية تفسير سورة لقمان»

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 51.

(2) سورة طه/ 15.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 25

32. سورة السجدة

محتوى السورة: هذه السورة بحكم كونها من السور المكية تتابع بقوة الخطوط الأصلية للسور المكية، أي البحث في المبدأ والمعاد، والبشارة والإنذار، وعلى العموم تنقسم مباحثها إلى عدّة أقسام:

1- الكلام عن عظمة القرآن، ونزوله من قبل رب العالمين.

2- ثم البحث حول آيات اللَّه سبحانه في السماء والأرض، وتدبير هذا العالم.

3- بحث آخر حول خلق الإنسان من «التراب» و «النطفة» و «الروح الإلهية»، ومنحه وسائل تحصيل العلم، أي العين والاذن والعقل من قبل اللَّه تعالى.

4- ثم تتحدث بعد ذلك عن القيامة والحوادث التي تسبقها، أي الموت، وما بعدها.

5 و 6- بحوث مؤثرة تهزّ الوجدان عن البشارة والإنذار.

وبهذا فإنّ الهدف الأصلي للسورة تقوية اسس الإيمان بالمبدأ والمعاد، وإيجاد دفعة قوية في المحتوى الداخلي للإنسان نحو التقوى.

أسماء هذه السورة: اسم هذه السورة في بعض الروايات، وكذلك المشهور على لسان المفسرين: سورة (السجدة)،

أو (الم السجدة)، ويسمّونها أحياناً (سجدة لقمان) لتمييزها عن سورة (حم السجدة)، لأنّها جاءت بعد سورة لقمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 26

وذكرت في بعض الروايات باسم (الم تنزيل).

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ الم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة السجدة في كل ليلة جمعة أعطاه اللَّه كتابه بيمينه، ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّد صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام».

فلا شك أنّ تلاوتها- التلاوة التي تكون مصدراً للتفكير، وبالتالي مبدءاً للتصميم والحركة- قادرة على أن تصنع من الإنسان مثالًا متكاملًا تشمله كل هذه الفضيلة والفخر.

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا شَفِيعٍ أَ فَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) عظمة القرآن، والمبدأ والمعاد: مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة «الم» في هذه السورة، وهذه هي المرّة الخامسة عشرة التي نرى فيها مثل هذه الحروف في بداية السور القرآنية.

والبحث الذي جاء بعد هذه الحروف مباشرة حول أهمية القرآن يبيّن مرّة اخرى هذه الحقيقة، وهي أنّ «الم» إشارة إلى عظمة القرآن، والقدرة على إظهار عظمة اللَّه سبحانه، وهذا الكتاب العظيم الغني المحتوى، والذي هو معجزة محمّد صلى

الله عليه و آله الخالدة يتكوّن من حروف المعجم البسيطة التي يعرفها الجميع. تقول الآية: «تَنزِيلُ الْكِتبِ لَارَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ».

هذه الآية جواب عن سؤالين: الأوّل عن محتوى هذا الكتاب السماوي، فتقول في الجواب: إنّ محتواه حقّ ولا مجال لأدنى شك فيه؛ والسؤال الثاني يدور حول مبدع هذا الكتاب، وفي الجواب تقول: إنّ هذا الكتاب من قبل رب العالمين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 27

ثم يشير إلى التهمة التي طالما وجهها المشركون والمنافقون إلى هذا الكتاب السماوي العظيم حيث قالوا: إنّ هذا الكتاب من تأليف محمّد. وقد إدّعى كذباً بأنّه من اللَّه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ». فيقول جواباً على إدّعاء هؤلاء الزائف: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ». وأدلّة أحقّيته واضحة وبيّنة فيه من خلال آياته.

ثم يتطرق إلى الهدف من نزوله، فيقول: «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».

جملة «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» إشارة إلى أنّ القرآن يهيّ ء أرضية الهداية، إلّاأنّ التصميم واتّخاذ القرار النهائي موكول ومرتبط بنفس الإنسان.

إنّ المراد من «النذير» هنا النبي الكبير الذي يوضّح ويبيّن دعوته مقرونة بالمعجزات وفي محيط واسع، ومعلوم أنّ مثل هذا النذير لم يقم في الجزيرة العربية وبين قبائل مكة.

بعد بيان عظمة القرآن ورسالة النبي صلى الله عليه و آله تطرقت الآية التالية إلى أساس آخر من أهم اسس ودعائم العقائد الإسلامية، فتقول: «اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ». والمراد من «سِتَّةِ أَيَّامٍ» في هذه الآيات: ستّ مراحل.

وبعد مسألة الخلق تتطرق الآية إلى مسألة حاكمية اللَّه سبحانه على عالم الوجود، فتقول: إنّ اللَّه تعالى بعد ذلك استوى على عرش قدرته وسيطر على جميع الكائنات: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».

«العرش»: تعني في الأصل الكراسي الطويلة القوائم، وتأتي عادة

كناية عن القدرة.

إنّ استواء اللَّه على العرش بمعنى أنّه خالق عالم الوجود، وكذلك الحاكم على كل العالم.

وتكمّل الآية مراحل التوحيد بالإشارة إلى توحيد «الولاية» و «الشفاعة»، فتقول: «مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلَا شَفِيعٍ».

والمراد من «الشفيع» هنا: الناصر والمعين، ونحن نعلم أنّ الناصر والولي والمعين هو اللَّه وحده.

فمع هذا الدليل الواضح، فلماذا تنحرفون وتضلّون وتتمسّكون بالأصنام؟ «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ».

إنّ المراحل الثلاث للتوحيد التي انعكست في الآية أعلاه يعتبر كل منها دليلًا على الاخرى، فتوحيد الخالقية دليل على توحيد الحاكمية، وتوحيد الحاكمية دليل على توحيد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 28

الولي والشفيع والمعبود. وتشير الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث إلى توحيد اللَّه سبحانه في البداية، ثم إلى مسألة «المعاد»، وبهذا تكمل هنا فروع وأركان التوحيد الثلاثة التي اتّضحت في الآيات السابقة- (توحيد الخالقية والحاكمية والعبودية)- بذكر توحيد الربوبية، أي تدبير عالم الوجود من قبل اللَّه سبحانه فقط، فتقول: إنّ اللَّه يدبّر امور العالم من مقام القرب منه إلى الأرض: «يُدَبّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ».

ثم تضيف: «ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ و أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ».

والمراد من هذا اليوم يوم القيامة.

والمراد من الآية هو أنّ اللَّه سبحانه خلق هذا العالم، ونظّم ودبّر السماء والأرض بتدبير خاصّ، إلّاأنّه يطوى هذا التدبير في نهاية العالم، وبعد طيّ هذا العالم سيبدأ إبداع برنامج ومشروع عالمي جديد أوسع، أي سيبدأ عالم آخر بعد إنتهاء هذه الدنيا.

ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصَارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا

مَا تَشْكُرُونَ (9) مراحل خلق الإنسان العجيبة: إنّ الآيات- مورد البحث- إشارة وتأكيد في البداية على بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة، والتي كانت تتلخص في أربع مراحل: توحيد الخالقية، والحاكمية، والولاية، والربوبية، فتقول: «ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

ثم تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامة، ومقدمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاص: «الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقَهُ». وأعطى كل شي ء ما يحتاجه. وبتعبير آخر: فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه.

بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس، وكما تحدّث في بحث الآيات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 29

الآفاقية عن عدة أقسام للتوحيد، فإنّه يتحدث هنا عن عدة مواهب عظيمة في مورد البشر: يقول أوّلًا: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسنِ مِن طِينٍ». ليبيّن عظمة وقدرة اللَّه سبحانه، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت، وإلى أين ستذهب؟!

ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدث عن خلق آدم، لا كل البشر، لأنّ استمرار نسله قد ذكر في الآية التالية، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل، قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة.

ثم تشير الآية بعدها، إلى خلق نسل الإنسان، وكيفية تولد أولاد آدم في مراحل، فتقول:

«ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِّن سُللَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ».

«جعل»: هنا بمعنى الخلق؛ و «النسل»: بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل.

«السلالة»: في الأصل، بمعنى العصارة الخالصة لكل شي ء، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كل وجوده، ومبدأ حياة وتولد الذرية واستمرار النسل.

«مهين»: التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري، وإلّا فإنّه من أعمق أسرار

الموجودات.

وتشير الآية التالية إلى مراحل تكامل الإنسان المعقّدة في عالم الرحم، وكذلك المراحل التي طواها آدم عند خلقه من التراب، فتقول: «ثُمَّ سَوَّيهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصرَ وَالْأَفِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ».

«سوّيه»: من التسوية، أي الإكمال، وهذه إشارة إلى مجموع المراحل التي يطويها الإنسان من حال كونه نطفة إلى المرحلة التي تتّضح فيها جميع أعضاء بدنه، وكذلك المراحل التي طواها آدم بعد خلقه من التراب حتى نفخ الروح.

والتعبير ب «النفخ» كناية عن حلول الروح في بدن الإنسان، لأنّ النطفة عندما تنعقد في البداية ليس لها إلّانوعاً من «الحياة النباتية»، أي التغذية والنمو فقط، أمّا الحس والحركة التي هي علامة «الحياة الحيوانية»، وكذلك قوة الإدراكات التي هي علامة الحياة الإنسانية، فلا أثر عن كل ذلك.

إنّ تكامل النطفة في الرحم تصل إلى مرحلة تبدأ عندها بالحركة، وتحيا وتنبعث فيها القوى الإنسانية الاخرى تدريجياً، وهذه هي المرحلة التي يعبّر عنها القرآن بنفخ الروح.

أمّا إضافة «الروح» إلى «اللَّه» فهي «إضافة تشريفية»، أي إنّ روحاً ثمينة وشريفة بحيث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 30

إنّ من المناسب أن تسمّى «روح اللَّه» قد دبّت في الإنسان ونفخت فيه.

وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ

تَعْمَلُونَ (14) الندم وطلب الرجوع: تبدأ هذه الآيات ببحث واضح جلي حول المعاد، ثم تبيّن وتبحث حال المجرمين في العالم الآخر، وهي في المجموع تتمة للبحوث السابقة التي تحدثت حول المبدأ، إذ إنّ البحث عن المبدأ والمعاد مقترنان غالباً في القرآن المجيد فتقول: إنّ هؤلاء الكفار يتساءلون باستغراب بأنّنا إذا متنا وتحوّلت أبداننا إلى تراب واندثرت تماماً فهل سوف نُخلق من جديد: «وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».

إنّ التعبير ب «ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ» إشارة إلى أنّ الإنسان يصبح تراباً بعد موته كسائر الأتربة ويتفرّق هذا التراب نتيجة العوامل الطبيعية وغير الطبيعية، ولا يبقى منه شي ء حتى يعيده اللَّه سبحانه في القيامة مرّة اخرى.

إلّا أنّ هؤلاء ليسوا بمنكرين قدرة اللَّه «بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ» فإنّهم ينكرون مرحلة لقاء اللَّه والحساب والثواب والعقاب لتبرير حرية العمل وليعملوا ما يريدون.

وهذه الآية تشبه كثيراً الآيات (3- 6) من سورة القيامة التي تقول: «أَيَحْسَبُ الْإِنسنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قدِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسنُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيمَةِ».

بناء على هذا، فإنّ هؤلاء ليسوا قاصرين من ناحية الاستدلال، ولكن شهواتهم حجبت قلوبهم، ونيّاتهم السيئة منعتهم من قبول مسألة المعاد.

وتجيب الآية هؤلاء عن طريق آخر، فتقول: لا تتصوّروا أنّ شخصيتكم بأبدانكم وأجسامكم، بل بأرواحكم، وهي باقية ومحفوظة: «قُلْ يَتَوَفكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 31

ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ».

إذا لاحظنا أنّ معنى «يتوفّاكم» من مادة «توفّي» (على وزن تصدّي)، هو الإستيفاء، فإنّ الموت سوف لا يعني الفناء، بل نوع من قبض الملائكة لروح الإنسان التي تشكّل أهم من وجود الإنسان.

إنّ الآيتين أعلاه تجيبان منكري المعاد بهذا الجواب: إذا كان إشكالكم

في تفرق الأجزاء الجسمية، فإنّكم تقرّون بقدرة اللَّه سبحانه ولا تنكرونها، وإذا كان إشكالكم في اضمحلال وفناء شخصية الإنسان على أثر تناثر تلك الذرات، فلا يصحّ ذلك لأنّ أساس شخصية الإنسان يستند إلى الروح.

ثم تجسّد وضع هؤلاء المجرمين الكافرين ومنكري المعاد الذين يندمون في القيامة أشدّ الندم على ما كان منهم لدى مشاهدة مشاهدها ومواقفها المختلفة، فتقول: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ».

ستعجب حقّاً! أهؤلاء النادمون الناكسو الرؤوس هم اولئك المتكبرون العتاة العصاة الذين لم يكونوا يذعنون في الدنيا لأيّة حقيقة؟

«الناكس»: من مادة «نكس» على وزن (كلب) بمعنى إنقلاب الشي ء، وهنا يعني خفض الرأس إلى الأسفل وطأطأته.

تقديم «أبصرنا» على «سمعنا» لأنّ الإنسان يرى المشاهد والمواقف أوّلًا، ثم يسمع إستجواب اللَّه والملائكة.

إنّ المراد من «المجرمين» هنا الكافرون، وخاصة منكري القيامة.

ولما كان كل هذا الإصرار والتأكيد على قبول الإيمان قد يوهم عجز اللَّه سبحانه عن أن يلقي نور الإيمان في قلوب هؤلاء، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَلَوْ شِئْنَا لَأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَيهَا».

فمن المسلم أنّ اللَّه تعالى يمتلك مثل هذه القدرة، إلّاأنّ الإيمان الذي يتحقق ويتم بالإجبار لا قيمة له، ولذا فالمشيئة الإلهية أرادت أن ينال الإنسان شرف كونه مختاراً، وأن يسير في طريق التكامل بحريته واختياره، ولذلك تضيف في النهاية: لقد قرّرت أن أخلق الإنسان مختاراً «وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

أجل ... إنّ المجرمين سلكوا هذا الطريق بسوء اختيارهم، ولذلك فهم مستحقون للعقاب،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 32

ونحن قد قطعنا على أنفسنا أن نملأ جهنم منهم.

ولذلك تقول الآية التالية: إنّا سنقول لأصحاب النار «فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ

الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». مرّة اخرى يستفاد من هذه الآية أنّ نسيان محكمة القيامة العادلة هو الأساس لكل تعاسة وشقاء للإنسان، لأنّه سيرى نفسه في هذه الصورة حرّاً إزاء ارتكاب القبائح والظلم والعدوان.

وكذلك يستفاد من الآية بوضوح أنّ العقاب الأبدي للفرد معلول لما إرتكبه من أعمال في دار الدنيا، لا لشي ء آخر.

وضمناً يتّضح أنّ المراد من «نسيان اللَّه» هو عدم رعايته ونصرته لهم.

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد: إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات، فيقول أوّلًا: «إِنَّمَا يُؤْمِنُ بَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرُّوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 33

سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» «1».

«خرّوا»: في الأصل من مادة «الخرير» أي صوت الماء وأمثاله حين انحداره من مرتفع إلى منخفض، واستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين

إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات:

1- أنّهم يسجدون بمجرد سماعهم آيات اللَّه. لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في سورة مريم الآية (58) كأحد أبرز صفات الأنبياء، كما يقول اللَّه سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا».

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

2 و 3- فهم ينزّهون اللَّه تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كماله وجماله.

4- والصفة الاخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كل أنواع التكبر.

ثم أشارت الآية الثانية إلى أوصاف هؤلاء الاخرى، فقالت: «تَتَجَافِى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ» «2». فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاولى هي اولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

(2) «تتجافي»: من مادة «جفا» وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد؛ و «الجنوب»: جمع جنب، وهوالجانب؛ و «المضاجع»: جمع مضجع، وهو محل النوم، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة اللَّه في جوف الليل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 34

الهدوء والظلام كل الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة. والخلاصة: عند توفّر

أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكل وجودهم إلى معبودهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.

ثم تضيف: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا».

وهنا تذكر الآية صفتين اخريين لهؤلاء هما: «الخوف» و «الرجاء»، فلا يأمنون غضب اللَّه عزّ وجل، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى اللَّه سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى اللَّه سبحانه. وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم: «وَمِمَّا رَزَقْنهُمْ يُنفِقُونَ».

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

ثم تطرقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهمية الفائقة لثوابهم: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

التعبير ب «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ» وكذلك التعبير ب «قُرَّةِ أَعْيُنٍ» مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر.

وفي حديث- رواه البخاري ومسلم جميعاً- عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ اللَّه يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول:

«أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّايَسْتَوُونَ».

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاخرى.

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلًا، فتقول: «أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى «1». ثم تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها اللَّه تعالى لاستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: «نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

إنّ التعبير ب «نزلًا»، والذي يقال عادةً للشي ء الذي يهيّئونه لاستقبال وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً.

______________________________

(1) «المأوى»: من مادة «أوى» بمعنى إنضمام شي ء إلى شي ء آخر، ثم قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 35

وتطرقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَيهُمُ الْنَّارُ». فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث إنّهم: «كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

مرّة اخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب»، والثواب والجزاء في مقابل «العمل»، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلّاأنّ الكفر كافٍ لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) عقوبات تربوية: بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة، وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ اللَّه سبحانه لا يريد أن يبتلي عبداً بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كل وسائل التوعية لنجاته. تقول الآية: «وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنىً واسع يتضمّن أغلب الاحتمالات التي كتبها المفسرون بصورة مفصلة:

فمن جملتها، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة؛ أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع

سنين وابتلي به المشركون في مكة حتى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى؛ أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر، وأمثال ذلك.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كل عذاب حجماً وألماً.

ولما لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلّا انتقام اللَّه من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايَاتِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ».

وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 36

شرط الإمامة، الصبر والإيمان: تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة إلى قصة «موسى عليه السلام» وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اشير إليها في الآيات السابقة. تقول الآية أوّلًا: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتبَ فَلَا تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ».

أي: فلا تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات اللَّه، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل «وَجَعَلْنهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ».

ثم تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين، فتقول: «وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بَايَاتِنَا يُوقِنُونَ».

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة: أحدهما: الإيمان واليقين بآيات اللَّه عزّوجل؛ والثاني: الصبر والإستقامة والصمود.

ولمّا كان بنو إسرائيل- كسائر الامم- قد اختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة

الحقيقيين، وسلكوا مسالك مختلفة، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

أجل ... إنّ مصدر ومنبع الاختلاف دائماً هو مزج الحق بالأهواء والميول، ولما كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحق بأجلى صوره، فهناك ينهي اللَّه سبحانه الاختلافات بأمره، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد.

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) يوم إنتصارنا: كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفار، وتقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث إكمالًا لهذا التهديد: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 37

الْقُرُونِ». فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اولئك الأقوام الذين هلكوا من قبلهم «يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ».

تقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لبيوت هؤلاء وقصورهم المتهدمة مئة لسان، وتبيّن لهم وتحدثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، ولذلك تضيف الآية في النهاية:

«إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ».

وتشير الآية التالية إلى أحد أهم النعم الإلهية التي هي أساس عمران كل البلدان، ووسيلة حياة كل الكائنات الحية، ليتّضح من خلالها أنّ اللَّه سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد

الضالين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميتة، ومنح عباده كل نوع من المواهب، فتقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ».

«الجُرُز»: تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شي ء قطّ.

ولما كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفار يطرحون هذا السؤال غروراً واستكباراً وتعلّلًا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقق، كما يذكر القرآن ذلك: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صدِقِينَ».

فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النبي صلى الله عليه و آله أن: «قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَايَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ». أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.

والمراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال»؛ أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر: فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجة.

وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة- سورة السجدة- بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ».

الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة اللَّه سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقون سواه.

«نهاية تفسير سورة السجدة»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 39

33. سورة الأحزاب

محتوى السورة: إنّ هذه السورة من أغنى سور القرآن المجيد وأجناها ثماراً، وتتابع وتبحث مسائل متنوعة وكثيرة جدّاً في باب اصول الإسلام وفروعه.

ويمكن تقسيم الأبحاث التي وردت في هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1- بداية السورة التي تدعو الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى طاعة اللَّه وترك اتّباع الكافرين ومقترحات المنافقين.

2- أشار إلى

بعض خرافات زمان الجاهلية، كالظهار، وكذلك مسألة التبنّي، وأكّدت على بطلانها، وحصرت العلاقات والروابط العائلية والسببية بالروابط الواقعية والطبيعية.

3- وهو أهم أقسام هذه السورة، ويرتبط بمعركة «الأحزاب» وحوادثها المرعبة، وإنتصار المسلمين المعجز على الكفار.

4- يرتبط بزوجات النبي، حيث يجب أن يكنّ اسوة وانموذجاً أسمى لكل نساء المسلمين، ويصدّر لهن في هذا الباب أوامر مهمة.

5- يتطرق إلى قصة «زينب بنت جحش» التي كانت يوماً زوجة لزيد، وهو ابن النبي بالتبنّي، وافترقت عنه، فتزوّجها النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللَّه سبحانه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 40

6- يتحدث عن مسألة الحجاب، والتي ترتبط بالبحوث السابقة، ويوصي كل النساء المؤمنات بمراعاة هذا القانون الإسلامي.

7- يشير إلى مسألة المعاد المهمة، وطريق النجاة في ذلك الموقف العظيم، وكذلك يشرح مسألة أمانة الإنسان العظمى، أي مسألة التعهد والتكليف والمسؤولية.

لما كان جزء مهم من هذه السورة يتحدث عن أحداث غزوة الأحزاب (الخندق) فإنّ هذا الإسم قد اختير لها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله، وما ملكت يمينه، اعطي الأمان من عذاب القبر».

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار محمّد وآله وأزواجه».

إنّ هذه الفضائل لا تُنال بالتلاوة الخالية من الروح، بل التلاوة التي تكون مبدأً للتفكر الذي يضي ء آفاق الإنسان يظهر آثاره في أعماله وسلوكه.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

سبب النّزول

في تفسير مجمع

البيان: إنّ هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل، وأبي أعور السلمي، قدموا المدينة ونزلوا على عبد اللَّه بن ابي بعد غزوة احد بأمان من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليكلّموه فقاموا وقام معهم عبداللَّه بن ابي وعبد اللَّه بن أبي سرح وطعمة بن ابيرق فدخلوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: يا محمّد! ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات، وقل إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك. فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه و آله فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول اللَّه في قتلهم؟ فقال: «إنّي أعطيتهم الأمان». وأمر صلى الله عليه و آله فاخرجوا من المدينة ونزلت الآية: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ» وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه الإقتراحات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 41

التّفسير

اتّبع الوحي الإلهي فقط: إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضية اقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين.

لقد بذل مشركو «مكة» ومنافقو «المدينة» كل ما في وسعهم ليحرّفوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن خط التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، إلّاأنّ اولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النبي صلى الله عليه و آله إلى الإستمرار في اسلوبه الحاسم في خط التوحيد بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.

إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النبي صلى الله عليه و آله بأربعة أوامر مهمة:

الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّ ء الأرضية لكل برنامج آخر، فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ اتَّقِ اللَّهَ».

إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.

الثاني: نفي ورفض طاعة

الكافرين: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا».

فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.

الثالث: نثر بذور التوحيد واتّباع الوحي الإلهي، فيقول: «وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ» واحذر ف «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا». وبناءً على هذا، فإنّ الواجب الأوّل هو طرد الشياطين من أعماق الروح لتحلّ محلّها الملائكة.

ولما كانت هناك مشاكل كثيرة، وتهديدات ومؤامرات، ومعوّقات في الاستمرار في سلوك هذا الطريق، فإنّه تعالى يصدر الأمر الرابع بأن: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا». فلو أنّ الف عدوّ يسعى لقتلك، فلا تخش ولا تخف منهم لأنّي ناصرك ومعينك.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه و آله، إلّاأنّه خطاب لكل المؤمنين، ولعامة المسلمين في كل عصر وزمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 42

مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَ أُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (6) إدعاءات جوفاء: تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النبي صلى الله عليه و آله أن

يتّبع الوحي الإلهي فقط، ولا يتّبع الكافرين والمنافقين، تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل، وقد ذكرت الآية الاولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها، فتقول أوّلًا: «مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ».

إنّ للجملة معنى عميق، وهو: أنّه ليس للإنسان إلّاقلب واحد، ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلّاعشق معبود واحد، وعلى هذا فإنّ اولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة، ليجعلوا كل واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد.

في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله «مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ» قال علي بن أبي طالب عليه السلام: «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان، إنّ اللَّه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فيحبّ بهذا ويبغض هذا، فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه، فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه، فإن شاركه في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه واللَّه عدوّهم وجبرئيل وميكائيل واللَّه عدوّ للكافرين».

وبناءً على هذا، فإنّ القلب مركز الإعتقاد الواحد، وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشي ء حقيقة وينفصل عنه في العمل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 43

ثم يتطرق القرآن إلى خرافة اخرى من خرافات الجاهلية، وهي خرافة «الظهار»، حيث إنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم، وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم ارتياحهم، قالوا للزوجة: «أنت عليّ كظهر امّي». فيعتبرها بمثابة امّه، وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق.

يقول القرآن الكريم في تتمة هذه الآية: «وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ». فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي،

ولم يصادق عليه، بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه، وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحق له أن يقرب زوجته حتى يدفع الكفارة، وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحق في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها، أو أن يكفّر ويستمر في حياته الزوجية كالسابق.

ثم تطرقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية، فقالت: «وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ».

وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم، ويسمّونهم أولادهم، وبعد هذه التسمية يعطونه كل الحقوق التي يستحقها الولد من الأب، فيرث الولد من تبنّاه، كما يرث المتبنّي الولد.

وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشد النفي. ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: «ذلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ».

إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي، وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من إعتقاد قلبي، وهذا كلام باطل ليس إلّا «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ».

إنّ «قول الحق» يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً، أو أن يكون من الامور الاعتبارية التي تنسجم مع مصالح كل أطراف القضية، ونعلم أنّ مسألة «الظهار» في الجاهلية، أو «التبنّي» الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حد كبير- لم يكونا من الموضوعات العينية، ولا من الاعتباريات الحافظة لمصلحة عامة الناس.

ثم يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخط الصحيح والمنطقي للإسلام: «ادْعُوهُمْ لِأَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ».

وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: «فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ». أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلًا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب

مختصر

الامثل، ج 4، ص: 44

لهذا الإبن، بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم.

«الموالي»: جمع «مولى»، وقد ذكر المفسرون له معاني عديدة، فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب، والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر. ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لاعتياده ذلك سابقاً، أو لسبق لسانه، أو لاشتباهه في تشخيص نسب الأفراد، وهذا خارج عن حدود اختيار الإنسان، فإنّ اللَّه العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان، ولذا أردفت الآية: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق، ويعفو عن السهو والنسيان والإشتباه.

ثم تتطرق الآية التالية إلى مسألة مهمة اخرى، أي إبطال نظام «المؤاخاة» بينهم.

وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكة إلى المدينة وقطع الإسلام كل روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكة تماماً، فقد أجرى النبي صلى الله عليه و آله بأمر اللَّه عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين» و «الأنصار»، وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين، إلّاأنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة استثنائية جدّاً، فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب، وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً باولي الأرحام الحقيقيين.

غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرين- أي كون النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكون نساء النبي صلى الله عليه و آله كامهاتهم- كمقدمة، فقالت:

«النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» «1». «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» «2».

ومع أنّ النبي صلى الله عليه و آله بمنزلة الأب، وأزواجه بمنزلة امهات المؤمنين إلّاأنّهم لا يرثون منهم

______________________________

(1) إنّ النبي صلى الله عليه و آله أولى من

كل إنسان مسلم في المسائل الاجتماعية والفردية، وكذلك في المسائل المتعلقة بالحكومة والقضاء والدعوة، وإنّ إرادته ورأيه مقدم على إرادة أي مسلم ورأيه، وهذا لأنّ النبي صلى الله عليه و آله معصوم ووكيل للَّه سبحانه، ولا يفكّر ويقرّر إلّافي صالح المجتمع والفرد.

(2) وهي طبعاً امومة معنوية وروحية، كما أنّ النبي صلى الله عليه و آله أب روحي ومعنوي للُامة.

إنّ تأثير هذا الإرتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ احترام أزواج النبي صلى الله عليه و آله وحرمة الزواج منهن، كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله، أي إنّ المسلمين كان من حقهم أن يتزوجوا بنات النبي، في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من ابنة امه، وكذلك مسألة كونهن أجنبيات، وعدم جواز النظر إليهن إلّاللمحارم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 45

مطلقاً، فكيف يُنتظر أن يرث الإبن المتبنّي؟!

ثم تضيف الآية: «وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ». ولكن مع ذلك، ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئاً من الإرث لإخوانهم- وإن كان بأن يوصوا بثلث المال- فإنّ الآية تضيف في النهاية: «إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا».

وتقول في آخر جملة تأكيداً لكل الأحكام السابقة، أو الحكم الأخير: «كَانَ ذلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا»- في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم-.

وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) ميثاق اللَّه الغليظ: لما كانت الآيات السابقة قد بيّنت الصلاحيات الواسعة للرسول الأكرم صلى الله عليه

و آله تحت عنوان (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، فإنّ هذه الآيات تبيّن واجبات النبي وسائر الأنبياء العظام الثقيلة العظيمة، لأنّا نعلم أنّ الصلاحيات تقترن دائماً بالمسؤوليات. تقول الآية الاولى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا».

وعلى هذا فإنّها تذكر أوّلًا جميع الأنبياء في مسألة الميثاق، ثم تخصّ بالذكر منهم خمسة أنبياء هم اولوا العزم، وعلى رأسهم نبي ااخاتم صلى الله عليه و آله لعظمته وجلالته وشرفه.

هذا الميثاق هو تأدية مسؤولية التبليغ والرسالة والقيادة وهداية الناس في كل الأبعاد والمجالات.

إنّ الأنبياء كانوا مكلفين بأن يؤيّد بعضهم بعضاً، كما أنّ الأنبياء اللاحقين يصدّقون ويؤكّدون صحّة دعوة الأنبياء السابقين.

وتبين الآية التالية الهدف من بعثة الأنبياء والميثاق الغليظ الذي اخذ منهم، فتقول:

«لّيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا».

إنّ المراد من الصادقين: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين اللَّه والجهاد والثبات والصمود أمام المشاكل وبذل الأرواح والأموال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 46

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً (11) الإمتحان الإلهي العظيم في مواجهة الأحزاب: تتحدث هذه الآيات والآيات الاخرى التالية، والتي تشكّل بمجموعها سبع عشرة آية، عن أعسر الامتحانات والاختبارات الإلهية للمؤمنين والمنافقين، واختبار مدى صدقهم في العمل، الذي بحث في الآيات السابقة.

إنّ هذه الآيات تبحث أحد أهم حوادث تاريخ الإسلام، أي عن «معركة الأحزاب».

إنّ حرب الأحزاب- وكما يدل

عليها إسمها- كانت مجابهة شاملة من قبل عامة أعداء الإسلام والفئات المختلفة التي تعرّضت مصالحها ومنافعها اللامشروعة للخطر نتيجة توسّع وانتشار هذا الدين.

لقد اشعلت أوّل شرارة للحرب من قبل يهود «بني النظير» الذين جاؤوا إلى مكة وأغروا «قريش» بحرب النبي صلى الله عليه و آله، ووعدوهم بأن يساندوهم ويقفوا إلى جانبهم حتى النفس الأخير، ثم أتوا قبيلة «غطفان» وهيّئوهم لهذا الأمر أيضاً.

ثم دعت هذه القبائل حلفاءها كقبيلة «بني أسد» و «بني سليم»، ولما كان الجميع قد أحسّ بالخطر فإنّهم اتّحدوا واتّفقوا على أن يقضوا على الإسلام إلى الأبد.

أمّا المسلمون اجتمعوا للتشاور بأمر النبي صلى الله عليه و آله، وقبل كل شي ء أخذوا برأي «سلمان الفارسي» وحفروا حول المدينة خندقاً حتى لا يستطيع العدو عبوره بسهولة ويهجم على المدينة، ولهذا كان أحد أسماء هذه المعركة «معركة الخندق».

لقد مرّت لحظات صعبة وخطرة جدّاً على المسلمين، وكانت القلوب قد بلغت الحناجر، وكان المنافقون من جهة اخرى قد شمّروا عن السواعد وجدّوا في تآمرهم على الإسلام، وكذلك ضخامة عدد الأعداء وقلة عدد المسلمين- (ذكروا أنّ عدد الكفار كان عشرة آلاف، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثة آلاف) وإستعداد الكفار من ناحية المعدّات الحربية، كل ذلك قد رسم صورة كالحة للمصير المجهول في أعين المسلمين. إلّاأنّ اللَّه سبحانه أراد أن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 47

ينزل هنا آخر ضربة بالكفر، ويميّز صفّ المنافقين عن صفوف المسلمين.

وأخيراً انتهت هذه الغزوة بانتصار المسلمين فقد هبّت بأمر اللَّه عاصفة هوجاء إقتلعت خيام الكفار وأتلفت وسائلهم، وألقت في قلوبهم الرعب الشديد، وأرسل سبحانه قوى الملائكة الغيبية لعون المسلمين.

وقد اضيف إلى ذلك تجلّي قدرة وعظمة أمير المؤمنين علي عليه السلام أمام عمرو بن عبد ودّ، فلاذ المشركون بالفرار

من دون القدرة على القيام بأيّ عمل.

نزلت الآيات السبع عشرة من هذه السورة، واستطاعت بتحليلاتها الدقيقة والفاضحة أن تستفيد من هذه الحادثة المهمة من أجل إنتصار الإسلام النهائي وقمع المنافقين بأفضل وجه.

يلخّص القرآن الكريم هذه الحادثة في آية واحدة أوّلًا، ثم يتناول تبيان خصوصياتها في الستّ عشرة آية الاخرى، فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [كثيرة جدّاً] فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا».

ويعلم أعمال كل جماعة وما قامت به في هذا الميدان الكبير.

إنّ التعبير ب «الجنود» إشارة إلى مختلف الأحزاب الجاهلية كقريش وغطفان وبني سليم وبني أسد وبني فزارة وبني أشجع وبني مرّة، وكذلك إلى طائفة اليهود في داخل المدينة.

إنّ المراد من «جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا» والتي نزلت لنصرة المسلمين، هو «الملائكة» التي ورد نصرها للمؤمنين في غزوة بدر في القرآن المجيد بصراحة.

والملائكة نزلت لرفع معنويات المؤمنين وشدّ عزيمتهم وإثارة حماسهم.

وتقول الآية التالية تجسيداً للوضع المضطرب في تلك المعركة، وقوّة الأعداء الحربية الرهيبة، والقلق الشديد لكثير من المسلمين: «إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الْظُّنُونَا».

إنّ الجملة أعلاه إشارة إلى محاصرة هذه المدينة من قبل أعداء الإسلام.

إنّ جملة «زَاغَتِ الْأَبْصَارُ»- بملاحظة أنّ «زاغت» من مادة الزيغ، أي الميل إلى جانب واحد- إشارة إلى الحالة التي يشعر بها الإنسان عند الخوف والإضطراب، حيث تميل عيناه إلى جهة واحدة، وتتسمّر وتثبت على نقطة معيّنة، ويبقى متحيّراً حينذاك.

وجملة «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الْظُّنُونَا» إشارة إلى أنّ بعض المسلمين خطرت على أفكارهم ظنون شيطانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 48

هنا كان الامتحان الإلهي قد بلغ أشدّه كما تقول الآية التالية: «هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا

شَدِيدًا».

من الطبيعي أنّ الإنسان إذا احيط بالعواصف الفكرية، فإنّ جسمه لا يبقى بمعزل عن هذا الإبتلاء، بل ستظهر عليه آثار الإضطراب والتزلزل.

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (17) المنافقون في عرصة الأحزاب: فار تنوّر امتحان حرب الأحزاب، وابتلي الجميع بهذا الامتحان الكبير العسير، وهنا انقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواص المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصّبين، وبعضهم كان يفكّر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الودّ مع المنافقين.

وتعكس اولى الآيات مورد البحث مقالة المنافقين ومرضى القلوب، فتقول: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا».

جاء في تاريخ حرب الأحزاب: أنّه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون يعملون فخرجت عليهم صخرة كسرت المِعوَل فأعلموا النبي صلى الله عليه و آله فهبط إليها ومعه

سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم فكبّر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمون ثم الثانية كذلك، ثم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 49

الثالثة كذلك ثم خرج وقد صدعها فسأله سلمان عما رأى من البرق فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى، وأخبرني جبرئيل أنّ امّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحُمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أنّ امّتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أنّ امّتي ظاهرة عليها، فأبشروا» فاستبشر والمسلمون.

وقال المنافقون: ألا تعجبون يعدكم الباطل ويخبركم أنّه ينظر من يثرب الحيرة ومدائن كسرى وإنّها تُفتَح لكم، وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل اللَّه: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا» «1».

ثم تتطرق الآية الاخرى إلى بيان حال طائفة اخرى من هؤلاء المنافقين مرضى القلوب، والذين كانوا أخبث وأفسق من الباقين، فمن جانب تقول الآية عنهم: واذكر إذ قالت مجموعة منهم للأنصار: يا أهل المدينة (يثرب) ليس لكم في هذا المكان موقع فلا تتوقفوا هنا وارجعوا إلى بيوتكم: «وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَامُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا».

وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام.

ومن جانب آخر: «وَيَسْتْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا».

«عورة»: مأخوذة من مادة «عار»، وتقال للشي ء الذي يوجب ظهوره العار، وتقال أيضاً للشقوق والثقوب التي تظهر في اللباس أو جدران البيت، وكذلك للثغور الضعيفة والنقاط الحدودية التي يمكن اختراقها وتدميرها، وعلى ما يخافه الإنسان ويحذره،

والمراد هنا البيوت التي ليس لها جدار مطمئن وباب محكم، ويخشى عليها من هجوم العدو.

و «يثرب»: هو الإسم القديم للمدينة قبل أن يهاجر إليها النبي صلى الله عليه و آله، وبعد هجرته أصبح إسمها تدريجياً «مدينة الرسول»، ومخفّفها المدينة.

وتشير الآية التالية إلى ضعف إيمان هذه الفئة، فتقول: إنّ هؤلاء بلغ بهم ضعف الإيمان إلى درجة أنّ جيش الكفر لو دخل المدينة من كل جانب وصوب، واستولى عليها، ثم دعاهم إلى الشرك والكفر فسوف يقبلون ذلك ويسارعون إليه: «وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سِلُوا الْفِتْنَةَ لَأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا».

______________________________

(1) الكامل في التّاريخ لابن الأثير 2/ 70 (ذكر غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب). مختصر الامثل، ج 4، ص: 50

مختصر الامثل ج 4 99

من المعلوم أنّ اناساً بهذا الضعف والتزلزل وعدم الثبات غير مستعدّين للقاء العدو ومحاربته، ولا هم متأهّبون لتقبّل الشهادة في سبيل اللَّه، بل يستسلمون بسرعة ويغيّرون مسيرهم. وبناءً على هذا، فإنّ المراد من كلمة «الفتنة» هنا هي الشرك والكفر.

ثم يستدعي القرآن الكريم فئة المنافقين إلى المحاكمة، فيقول: «وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَايُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسُولًا». وعليه فإنّهم مسؤولون أمام تعهّدهم.

إنّ كل من يؤمن ويبايع النبي صلى الله عليه و آله يعاهده على أن يدافع عن الإسلام والقرآن ولو كلّفه ذلك حياته.

وبعد أن أفشى اللَّه سبحانه نيّة المنافقين وبيّن أنّ مرادهم لم يكن حفظ بيوتهم، بل الفرار من ميدان الحرب، يجيبهم بأمرين:

الأوّل: أنّه يقول للنبي صلى الله عليه و آله: «قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

إنّ هذا البيان يشبه ما ورد في غزوة احد، حيث أشار القرآن في الآية (153)

من سورة آل عمران إلى فئة اخرى من المنافقين المثبّطين للعزائم، والمفرّقين لوحدة الصف.

والثاني: ألم تعلموا أنّ مصائركم بيد اللَّه، ولن تقدروا أن تفرّوا من حدود حكومة اللَّه وقدرته ومشيئته: «قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

بناءً على هذا، فإنّكم إذا علمتم أنّ كل مقدّراتكم بيده سبحانه، فأطيعوا أمره في الجهاد الذي هو أساس العزة والكرامة والشموخ في الدنيا وعند اللَّه، وحتى إذا تقرّر أن تنالوا وسام الشهادة فعليكم أن تستقبلوا ذلك برحابة صدر.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 51

فئة المعوّقين: أشارت هذه الآيات إلى وضع فئة اخرى من المنافقين الذين اعتزلوا حرب الأحزاب، وكانوا يدعون الآخرين أيضاً إلى اعتزال القتال، فقالت: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا».

«المعوّقين»: من مادة «عوق» على زنة (شوق) تعني منع الشي ء ومحاولة صرف الآخرين عنه؛ و «البأس»: في الأصل يعني (الشدّة)، والمراد منه هنا الحرب.

وتضيف الآية التالية: إنّ الدافع لكل تلك العراقيل التي وضعوها أمامكم هو أنّهم بخلاء:

«أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» «1». لا في بذل الأرواح في ساحة الحرب،

بل هم بخلاء حتى في المعونات الماديّة لتهيئة مستلزمات الحرب، وفي المعونة البدنية في حفر الخندق، بل ويبخلون حتى في المساعدة الفكرية، بخلًا يقترن بالحرص المتزايد يومياً.

وبعد تبيان بخل هؤلاء وامتناعهم عن أيّ نوع من المساعدة والإيثار، تتطرق الآية إلى بيان صفات اخرى لهم، والتي لها صفة العموم في كل المنافقين، وفي كل العصور والقرون، فتقول: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».

فلأنّهم لما لم يذوقوا طعم الإيمان الحقيقي، ولم يستندوا إلى عماد قوي في الحياة، فإنّهم يفقدون السيطرة على أنفسهم تماماً عندما يواجهون حادثاً صعباً ومأزقاً حرجاً، وكأنّهم يواجهون الموت.

ثم تضيف الآية: «فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ». فيأتون إليكم كأنّهم هم الفاتحون الأصليون والمتحمّلون أعباء الحرب، فيعربدون ويطلبون سهمهم من الغنائم، وهم كانوا أبخل من الجميع في المشاركة في الحرب والثبات فيها.

«سلقوكم»: من مادة «سَلْق»، وهي في الأصل بمعنى فتح الشي ء بعصبية وغضب، سواء كان هذا الفتح باليد أو اللسان، وهذا التعبير يستعمل في شأن من يطلب الشي ء بالزجر واسلوب الأمر؛ و «الألسنة الحداد» تعني الألسنة الجارحة المؤذية، وهي هنا كناية عن الخشونة في الكلام.

وتشير الآية في النهاية إلى آخر صفة لهؤلاء، والتي هي أساس كل شقائهم وتعاستهم، فقالت: «أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أعْمَالَهُمْ». لأنّها لم تكن منبعثة عن الإخلاص والدافع الديني الإلهي: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

______________________________

(1) «أشحّة»: جمع شحيح، من مادة (الشحّ)، أي البخل المقترن بالحرص.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 52

وتجسّد الآية التالية بتصوير أبلغ جبن وخوف هذه الفئة، فتقول: «يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا».

ثم تضيف الآية: «وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الْأَعْرَابِ». أي: منتشرون في الصحراء بين أعراب البادية،

فيختفون هناك ويتتبعون أخباركم: «يَسَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ». فيسألون من كل مسافر آخر الأخبار لئلّا تكون الأحزاب قد اقتربت منهم، وهم مع ذلك يمنّون عليكم بأنّهم كانوا يتابعون أخباركم دائماً.

وتضيف الآية في آخر جملة: وعلى فرض أنّهم لم ينهزموا ويفرّوا من الميدان، بل بقوا معكم، «وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا». فلا تحزنوا وتقلقوا لذهابهم، ولا تفرحوا بوجودهم بينكم، فإنّهم اناس لا قيمة لهم ولا صفة تحمد، وعدمهم أفضل من وجودهم.

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَ لَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَ كَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً (25) دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب: يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.

ويبدأ مقدمة هذا البحث بالحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 53

فإنّ النبي صلى الله عليه و آله خير

نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كل مجالات الحياة، فإنّ كلّاً من معنوياته العالية، وصبره واستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجهه إلى اللَّه، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث نموذج يحتذي به كل المسلمين.

«الاسوة»: تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر. وبتعبير آخر:

هي التأسي والإقتداء. وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، هو أنّ لكم في النبي صلى الله عليه و آله تأسّياً واقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً عليه السلام مع شهامته وشجاعته في كل ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: «كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه».

بعد ذكر هذه المقدمة تطرقت الآية التالية إلى بيان حال المؤمنين الحقيقيين، فقالت:

«وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا».

هذا الوعد إشارة إلى الكلام الذي كان رسول اللَّه قد تكلّم به من قبل بأنّ قبائل العرب ومختلف أعدائكم سيتّحدون ضدّكم قريباً ويأتون إليكم، لكن اعلموا أنّ النصر سيكون حليفكم في النهاية.

إنّهم قيل لهم من قبل: إنّكم ستخضعون لامتحان عسير، فلمّا رأوا الأحزاب تيقّنوا صدق إخبار اللَّه ورسوله، وزاد إيمانهم وتسليمهم.

وتشير الآية التالية إلى فئة خاصة من المؤمنين، وهم الذين كانوا أكثر تأسّياً بالنبي صلى الله عليه و آله من الجميع، وثبتوا على عهدهم الذي عاهدوا اللَّه به، وهو التضحية في سبيل دينه حتى النفس الأخير، وإلى آخر

قطرة دم، فتقول: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ». من دون أن يتزلزل أو ينحرف ويبدّل العهد ويغيّر الميثاق الذي قطعه على نفسه «وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا».

«نحب»: على زنة «عهد» تعني العهد والنذر والميثاق.

إنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كل المؤمنين المخلصين الصادقين في كل عصر وزمان، سواء من ارتدى منهم ثوب الشهادة في سبيل اللَّه، أم من ثبت على عهده مع ربّه ولم يتزعزع، وكان مستعدّاً للجهاد والشهادة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 54

وتبيّن الآية التالية النتيجة النهائية لأعمال المؤمنين والمنافقين في جملة قصيرة، فتقول:

«لّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا». فلا يبقى صدق وإخلاص ووفاء المؤمنين بدون ثواب، ولا ضعف وإعاقات المنافقين بدون عقاب.

وتطرح الآية الأخيرة من هذه الآيات- والتي تتحدث عن غزوة الأحزاب وتنهي هذا البحث، فتقول في الجملة الاولى: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا».

«الغيظ»: يعني (الغضب) ويأتي أحياناً بمعنى (الغمّ)، وهنا جاء مزيجاً من المعنيين، فإنّ جيوش الأحزاب قد بذلت قصارى جهدها للإنتصار على جيش الإسلام، لكنّها خابت، ورجع جنود الكفر إلى أوطانهم يعلوهم الغمّ والغضب.

والمراد من «الخير» هنا الإنتصار في الحرب، ولم يكن إنتصار جيش الكفر خيراً أبداً، بل إنّه شرّ، ولمّا كان القرآن يتحدّث من وجهة نظرهم الفكرية عبّر عنه بالخير، وهو إشارة إلى أنّهم لم ينالوا أيّ نصر في هذا المجال.

وتضيف في الجملة التالية: «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ». فقد هيّأ عوامل بحيث انتهت الحرب من دون حاجة إلى إلتحام واسع بين الجيشين، ومن دون أن يتحمّل المؤمنون خسائر فادحة، لأنّ العواصف الهوجاء القارصة قد مزّقت أوضاع المشركين من جهة، ومن جهة

اخرى فإنّ اللَّه تعالى قد ألقى الرعب والخوف في قلوبهم من جنود اللَّه التي لا ترى، ومن جهة ثالثة فإنّ الضربة التي أنزلها علي بن أبي طالب عليه السلام بأعظم بطل من أبطالهم، وهو «عمرو بن عبد ودّ»، قد تسبّبت في تبدّد أحلامهم وآمالهم، ودفعتهم إلى أن يلملموا أمتعتهم ويتركوا محاصرة المدينة ويرجعوا إلى قبائلهم تقدمهم الخيبة والخسران.

وتقول الآية في آخر جملة: «وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا». فمن الممكن أن يوجد اناس أقوياء، لكنّهم ليسوا بأعزّاء لا يُقهرون، بل هناك من يقهرهم ومن هو أقوى منهم، إلّاأنّ القوي العزيز الوحيد في العالم هو اللَّه عزّ وجل الذي لا حدّ لقدرته وقوّته ولا انتهاء.

نتائج حرب الأحزاب: لقد كانت حرب الأحزاب نقطة انعطاف في تاريخ الإسلام، قلبت كفّة التوازن العسكري والسياسي لصالح المسلمين إلى الأبد.

ويمكن تلخيص النتائج المثمرة لهذه المعركة في عدّة نقاط:

أ) فشل مساعي العدو، وتحطّم قواه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 55

ب) كشف المنافقين، وفضح الأعداء الداخليين الخطرين.

ج) جبران الذكرى الأليمة لهزيمة احد.

د) قوة المسلمين، وازدياد هيبتهم في قلوب الأعداء.

ه) إرتفاع معنويات المسلمين نتيجة للمعجزات العظيمة التي رأوها في هذه المعركة.

و) تثبيت مركز النبي صلى الله عليه و آله في داخل المدينة وخارجها.

ز) تهيؤ الأرضية لتصفية المدينة وإنقاذها من شرّ بني قريظة.

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27) غزوة بني قريظة إنتصار عظيم آخر: كان في المدينة ثلاث طوائف معروفة من اليهود، وهم: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وكانت هذه الطوائف قد عاهدت النبي صلى

الله عليه و آله على أن لا تعين عدوّاً له ولا يتجسّسوا لذلك العدوّ، إلّاأنّ «بني قينقاع» قد نقضوا عهدهم في السنة الثانية للهجرة، و «بنو النضير» في السنة الرابعة للهجرة بأعذار شتّى، وصمّموا على مواجهة النبي صلى الله عليه و آله وانهارت مقاومتهم في النهاية، وطردوا إلى خارج المدينة. بناءً على هذا، فإنّ «بني قريظة» كانوا آخر من بقي في المدينة إلى السنة الخامسة للهجرة حيث وقعت غزوة الأحزاب، فإنّهم اتّصلوا بمشركي العرب، وشهروا السيوف بوجه المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب فإنّ النبي صلى الله عليه و آله عاد إلى منزله، فنزل عليه جبرئيل بأمر اللَّه وقال: لماذا ألقيت سلاحك وهذه الملائكة قد استعدّت للحرب؟ عليك أن تسير الآن نحو بني قريظة وتنهي أمرهم.

كان المسلمون في حرارة الإنتصار، وبنو قريظة يعيشون لوعة الهزيمة المرّة، وهم في طريقهم إلى ديارهم يجرّون أذيال الخيبة.

هنا نادى مناد من قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن توجّهوا إلى بني قريظة قبل أن تصلّوا العصر، فاستعدّ المسلمون بسرعة وتهيّئوا للمسير إلى الحرب، وما كادت الشمس تغرب إلّاوكانت حصون بني قريظة المحكمة محاصرة تماماً.

لقد استمرت هذه المحاصرة خمسة وعشرين يوماً، وأخير سلّموا جميعاً فقُتل بعضهم، واضيف إلى سجل إنتصارات المسلمين إنتصار عظيم آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 56

وقد أشارت الآيات- مورد البحث- إلى هذه الحادثة، وأوضحت أنّ هذه الحادثة كانت نعمة وموهبة إلهية عظيمة، فتقول الآية أوّلًا: «وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ».

«الصياصي»: جمع (صيصية)، أي: القلعة المحكمة، ثم اطلقت على كل وسيلة دفاعية.

ويتّضح هنا أنّ اليهود كانوا قد بنوا قلاعهم وحصونهم إلى جانب المدينة في نقطة مرتفعة.

ثم تضيف الآية: «وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ». وأخيراً بلغ أمرهم أنّكم

«فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ».

والتعبير عن هذه الغنائم ب «الإرث» لأنّ المسلمين لم يبذلوا كثير جهد للحصول عليها، وسقطت في أيديهم بسهولة كل تلك الغنائم التي كانت حصيلة سنين طويلة من ظلم وجور اليهود واستثماراتهم في المدينة.

وتقول الآية في النهاية: «وَأَرْضًا لَّمْ تَطُوهَا».

وهذا إشارة إلى البساتين والأراضي الخاصّة ببني قريظة، والتي لم يكن لأحد الحق في دخولها، لأنّ اليهود كانوا يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على أموالهم وحصرها فيما بينهم.

وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة اللَّه عزّ وجل في آخر آية: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرًا». إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم- أي يهود بني قريظة- بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.

نتائج غزوة بني قريظة: إنّ الإنتصار على اولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:

أ) تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب) سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.

ج) تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د) فتح آفاق جديدة للإنتصارات المستقبلية، وخاصة فتح «خيبر».

ه) تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 57

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا

مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: لمّا رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من غزاة خيبر وأصاب كنز آل أبي الحقيق، قلن أزواجه أعطنا ما أصبت، فقال لهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قسمته بين المسلمين على ما أمر اللَّه فغضبن من ذلك وقلن لعلّك ترى أنّك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا فانف اللَّه لرسوله فأمره أن يعتزلهن فاعتزلهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مشربة أم إبراهيم تسعة وعشرين يوماً حتى حضن وطهرن ثم أنزل اللَّه هذه الآية وهي آية التخيير فقال «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ» إلى قوله «أَجْرًا عَظِيمًا» فقامت أم سلمة وهي أوّل من قامت وقالت قد اخترت اللَّه ورسوله فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فأنزل اللَّه «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ» الآية.

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا: لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النبي بتاج الفخر حيث سمّتهن ب «أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ». ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحساسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسؤوليات ثقيلة، فكيف يمكن أن تكون نساء النبي امّهات المؤمنين وقلوبهن وأفكارهن مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ النبي صلى الله عليه و آله يجب أن لا يكون لوحده اسوةً للناس بحكم الآيات السابقة، بل يجب أن تكون عائلته اسوة لباقي العوائل أيضاً، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتى تقوم القيامة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 58

فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النبي صلى الله عليه و آله وقالت: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ

أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا».

«امتّعكن»: من مادة متعة، تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة، والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر، وإن لم يكن المهر معيّناً فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادي ء مفعم بالحبّ.

«السراح»: في الأصل من مادة «سرح» أي الشجرة التي لها ورق وثمر. والمراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهن فراقاً مقترناً بالإحسان، وليس فيه جبر وقهر.

وتضيف الآية التالية: «وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْأَخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا».

وبناءً على هذا، فإنّ إظهار عشق اللَّه وحبّه، والتعلق بالنبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن اللَّه سبحانه تكليف نساء النبي وواجبهن في أن يكنّ قدوة واسوة للمؤمنات على الدوام.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النبي إلّاأنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع، وخاصة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم واسوة لهم.

ثم تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة، وكذلك مقامهنّ الممتاز، ومسؤولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة، فتقول: «يَا نِسَاءَ النَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا».

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة، والآخرين ينظرون إليكن ويتخذون أعمالكن نموذجاً وقدوة لهم. بناءً على هذا، فإنّ ذنبكن أعظم عند اللَّه، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة، ومعيار العلم، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية.

أمّا قوله عزّ وجل: «وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكن وعقابكن عسير على اللَّه تعالى، وأنّ علاقتكن بالنبي صلى الله عليه و

آله ستكون مانعة منه.

أمّا في الطرف المقابل، فتقول الآية: «وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 59

«يقنت»: من القنوت، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهن بأن يطعن اللَّه ورسوله، ويراعين الأدب مع ذلك تماماً.

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كل المواهب المادية والمعنوية، وتفسيره بالجنة باعتبارها مجمعاً لكل هذه المواهب.

يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَ أَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَ آتِينَ الزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَ اذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) هكذا يجب أن تكون نساء النبي: كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النبي ومسؤولياتهن الخطيرة، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات، وتأمر الآيات نساء النبي صلى الله عليه و آله بسبعة أوامر مهمة؛ فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة: «يَا نِسَاءَ النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ». فإنّ انتسابكن إلى النبي قد منحكن موقعاً خاصاً بحيث تقدرن على أن تكنّ نموذجاً وقدوة لكل النساء، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية.

وبعد هذه المقدمة التي هيّأتهن لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة، فيقول: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ». بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وباسلوب عادي.

إنّ التعبير ب «الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ» تعبير بليغ جدّاً، ومؤدّ لحقيقة أنّ

الغريزة الجنسية عندما تكون في حدود الإعتدال والمشروعية فهي عين السلامة، أمّا عندما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضاً قد يصل إلى حد الجنون.

ويبيّن الأمر الثاني في نهاية الآية فيقول عزّ وجل: يجب عليكن التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي للَّه ورسوله، ومقترناً مع الحق والعدل: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 60

إنّ جملة «لَاتَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ» إشارة إلى طريقة التحدّث؛ وجملة: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا» إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كل ما قيل، إضافةً إلى أنّه ينفي كل قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكل ما خالف الحق.

ثم يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفة، فيقول: «وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى .

«قرن»: من مادة «الوقار»، أي الثقل، وهو كناية عن التزام البيوت؛ و «التبرّج»: يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

والمراد من «الجاهلية» أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النبي صلى الله عليه و آله، ولم تكن النساء محجّبات حينها- كما ورد في التواريخ- وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهن مع إظهار نحورهن وجزء من صدورهن وأقراطهن وقد منع القرآن الكريم أزواج النبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شك أنّ هذا الحكم عام، والتركيز على نساء النبي من باب التأكيد الأشدّ.

وأخيراً يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس فيقول سبحانه: «وَأَقِمْنَ الصَّلوةَ وَءَاتِينَ الزَّكوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختصة بنساء النبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهن.

ويضيف اللَّه سبحانه في نهاية الآية: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا».

إنّ التعبير ب (إنّما)- والذي يدل على الحصر عادةً- دليل على

أنّ هذه المنقبة خاصة بأهل بيت النبي صلى الله عليه و آله؛ وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة اللَّه التكوينية.

وبتعبير آخر: فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والاختيار في إتيانها.

«الرجس»: تعني الشي ء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها؛ و «التطهير»: الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس ونفي السيئات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 61

فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية والمقصود بأهل بيت النبي هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

وبيّنت الآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث- سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النبي، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهن في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها، فتقول: «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ».

وفيما هو الفرق بين «آيات اللَّه» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسرين: إنّ كليهما إشارة إلى القرآن، غاية ما في الأمر أنّ التعبير ب (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن، والتعبير ب (الحكمة) يتحدث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وأخيراً تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا». وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها، ويعلم نيّاتكم تماماً، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

جاهلية القرن العشرين: مرّت الإشارة إلى أنّ جمعاً من المفسرين تورّطوا في تفسير (الجاهلية الاولى) وكأنّهم لم يقدروا أن يصدّقوا ظهور جاهلية اخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأنّ جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلّاأنّ هذا الأمر

قد تجلّى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهليّة القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعدّ تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.

إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ- مثلًا- ساحة لسفك الدماء لأسباب تافهة عدّة مرّات، وقتل على أثرها أفراد معدودون، فقد وقعت في جاهلية عصرنا حروب ذهب ضحيّتها عشرون مليون إنسان، وجرح وتعوّق أكثر من هذا العدد.

وإذا كانت النساء «تتبرّج» في زمن الجاهلية ويلقين خمرهنّ عن رؤوسهن بحيث كان يظهر جزء من صدورهن ونحورهن وقلائدهن وأقراطهن، ففي عصرنا تشكّل نواد تسمّى بنوادي العراة- ونموذجها مشهور في بريطانيا.

وإذا كانت في الجاهلية «زانيات من ذوات الأعلام»، حيث كنّ يرفعن أعلاماً فوق بيوتهن ليدعين الناس إلى أنفسهن، ففي جاهلية قرننا اناس يطرحون اموراً ومطالب في هذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 62

المجال عبر صحف خاصة، يندى لها الجبين، ولجاهلية العرب مئة مرتبة من الشرف على هذه الجاهلية. إنّ ما قلناه كان جانباً من العب ء الملقى على عاتقنا لبيان حياة الذين يبتعدون عن اللَّه تعالى، فإنّهم وإن امتلكوا آلاف الجامعات والمراكز العلمية والعلماء المعروفين، فهم غارقون في وحل الفساد ومستنقع الرذيلة، بل إنّهم قد يضعون هذه المراكز العلمية وعلماءها في خدمة هذه الفجائع والمفاسد أحياناً.

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِمَاتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ الْقَانِتِينَ وَ الْقَانِتَاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقَاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِرَاتِ وَ الْخَاشِعِينَ وَ الْخَاشِعَاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقَاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِمَاتِ وَ الْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحَافِظَاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، دخلت على نساء رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله فقالت: هل نزل فينا شي ء من القرآن؟ قلن: لا.

فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال: «وممّ ذلك»؟ قالت: لأنّهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

التّفسير

شخصية المرأة ومكانتها في الإسلام: بعد البحوث التي ذكرت في الآيات السابقة حول واجبات أزواج النبي صلى الله عليه و آله، فقد ورد في هذه الآية كلام جامع عميق المحتوى في شأن كل النساء والرجال وصفاتهم، وبعد أن ذكرت عشر صفات من صفاتهم العقائدية والأخلاقية والعملية، بيّنت الثواب العظيم المعدّ لهم في نهايتها. تقول الآية: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ». أي المطيعين لأوامر اللَّه والمطيعات.

وهو إشارة إلى أنّ «الإسلام» هو الإقرار باللسان الذي يجعل الإنسان في صف المسلمين، ويصبح مشمولًا بأحكامهم، إلّاأنّ «الإيمان» هو التصديق بالقلب والجنان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 63

«قانت»: من مادة «القنوت»، وهي الطاعة المقترنة بالخضوع، وهذه إشارة إلى الجوانب العملية للإيمان وآثاره.

ثم تطرقت إلى أحد أهمّ صفات المؤمنين الحقيقيين، أي حفظ اللسان فتقول:

«وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ».

ولمّا كان الصبر والتحمل والصلابة أمام المشاكل والعقبات هو أساس الإيمان، ودوره ومنزلته في معنويات الإنسان بمنزلة الرأس من الجسد، فقد وصفتهم الآية بصفتهم الخامسة، فقالت: «وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ».

ونعلم أنّ أحد أسوأ الآفات الأخلاقية هو الكبر والغرور وحبّ الجاه، والنقطة التي تقع في مقابله هي «الخشوع»، لذلك كانت الصفة السادسة: «وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ».

وإذا تجاوزنا حبّ الجاه، فإنّ حبّ المال أيضاً آفةً كبرى، وعبادته والتعلّق به ذلّة خطيرة مرّة، ويقابله الإنفاق ومساعدة المحتاجين، لذلك كانت صفتهم السابعة: «وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ».

قلنا: إنّ ثلاثة أشياء إذا تخلّص الإنسان من شرّها، فإنّه سيبقى في مأمن من كثير من الآفات

والشرور الأخلاقية، وهي: اللسان والبطن والشهوة الجنسية، وقد اشير إلى الأوّل في الصفة الرابعة، أمّا الشي ء الثاني والثالث فقد أشارت إليهما الآية في الصفتين الثامنة والتاسعة، فقالت: «وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ».

وأخيراً تطرقت الآية إلى الصفة العاشرة التي يرتبط بها الإستمرار في كل الصفات السابقة والمحافظة عليها، فقالت: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ».

إنّ هؤلاء يجب أن يكونوا مع اللَّه ويذكروه في كل حال، وفي كل الظروف، وأن يزيحوا عن قلوبهم حجب الغفلة والجهل، ويبعدوا عن أنفسهم همزات الشياطين ووساوسهم، وإذا ما بدرت منهم عثرة فإنّهم يهبون لجبرانها في الحال لئلّا يحيدوا عن الصراط المستقيم.

ثم تبيّن الآية في النهاية الأجر الجزيل لهذه الفئة من الرجال والنساء الذين يتمتعون بهذه الخصائص العشرة بأنّهم قد «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

فإنّه تعالى قد غسل ذنوبهم التي كانت سبباً في تلوّث أرواحهم، بماء المغفرة، ثم كتب لهم الثواب العظيم الذي لا يعرف مقداره إلّاهو.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 64

وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38)

سبب النّزول

في تفسير

مجمع البيان: نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وكانت بنت اميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخطبها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على مولاه زيد بن حارثة، ورأت أنّه يخطبها على نفسه، فلما علمت أنّه يخطبها على زيد، أبت وأنكرت وقالت: أنا ابنة عمتك فلم أكن لأفعل. وكذلك قال أخوها عبداللَّه بن جحش فنزل: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ» الآية. يعني عبداللَّه بن جحش واخته زينب.

فلما نزلت الآية، قالت: رضيت يا رسول اللَّه وجعلت أمرها بيد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكذلك أخوها فأنكحها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله زيداً.

التّفسير

نعلم أنّ روح الإسلام التسليم، ويجب أن يكون تسليماً لأمر اللَّه تعالى بدون قيد أو شرط، وقد ورد هذا المعنى في آيات مختلفة من القرآن الكريم، وبعبارات مختلفة، ومن جملتها الآية أعلاه، والتي تقول: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ».

بل يجب أن يجعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة اللَّه تعالى، كما أنّ كل وجودهم من الشعر حتى أخمص القدمين مرتبط به ومذعن له. ولذلك أشارت الآية إلى هذه المسألة في نهايتها، حيث تقول: «وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَللًا مُّبِينًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 65

ثم تناولت الآية التالية قصة «زيد» وزوجته «زينب» المعروفة، والتي هي إحدى المسائل الحساسة في حياة النبي صلى الله عليه و آله، ولها إرتباط بمسألة أزواج النبي التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ».

والمراد من نعمة اللَّه تعالى هي نعمة الهداية والإيمان التي منحها لزيد بن حارثة، ومن نعمة النبي

صلى الله عليه و آله أنّه كان قد أعتقه وكان يعامله كولده الحبيب العزيز.

ويستفاد من هذه الآية أنّ شجاراً قد وقع بين زيد وزينب، وقد استمرّ هذا الشجار حتى بلغ أعتاب الطلاق، ويستفاد أنّ النبي كان ينصحه دائماً ويمنعه من الطلاق.

ثم تضيف الآية: «وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشهُ».

إنّ مسألة خشية اللَّه سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كل الاعتبارات الشخصية جانباً من أجل اللَّه تعالى ليتحقق هدف مقدس من أهداف الرسالة، حتى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي. لهذا تقول الآية في متابعة المسألة: إنّ زيداً لمّا أنهى حاجته منها وطلّقها زوّجناها لك: «فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لَايَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا». وكان لابدّ أن يتمّ هذا الأمر: «وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا».

بناءً على هذا، فإنّ هذه المسألة كانت مسألة أخلاقية وإنسانية، وكذلك كانت وسيلة مؤثرة لكسر سنّتين جاهليتين خاطئتين، وهما: الإقتران بمطلّقة الإبن المتبنّى والزواج من مطلّقة عبد معتق.

«الأدعياء»: جمع «دعي»، أي الإبن المتبنّى؛ و «الوطر» هو الحاجة المهمة.

والتعبير ب «زَوَّجْنَاكَهَا» دليل على أنّ هذا الزواج كان زواجاً بأمر اللَّه.

وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: «مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ». فحيث يأمره اللَّه سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد.

وأساساً فإنّ مخالفة السنن والأعراف، واقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير

مختصر الامثل، ج 4، ص: 66

الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: «سُنَّةَ اللَّهِ

فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ». فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اصول الأعراف الفاسدة منها.

ويقول اللَّه سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية:

«وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا».

إنّ التعبير ب «قَدَرًا مَّقْدُورًا» قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالًّا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلّاأنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَ كَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) من هم المبلّغون الحقيقيون: تشير الآية مورد البحث، ومناسبة للبحث الذي مرّ حول الأنبياء السابقين في آخر آية من الآيات السابقة، إلى أحد أهم برامج الأنبياء العامة، فتقول: «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ».

وكذلك الحال بالنسبة إليك، فينبغي أن لا تخش أحداً في تبليغ رسالات اللَّه.

إنّ عمل الأنبياء عليهم السلام في كثير من المراحل هو كسر مثل هذه السنن والأعراف عادةً، ولو أنّهم سمحوا لأقلّ خوف وتردّد أن ينفذ إلى نفوسهم فسوف يفشلون في أداء رسالاتهم، فيجب على هذا أن يسيروا بحزم وثبات، ويستوعبوا كلمات المسيئين الجارحة غير المتزنة، ويستمرّوا في طريقهم دون أن يهتّموا بإصطناع الأجواء ضدهم، وضجيج العوام، وتآمر الفاسدين والمفسدين وتواطئهم، لأنّ كل الحسابات بيد اللَّه سبحانه، ولذلك تقول الآية في النهاية: «وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا».

إنّه يحسب إيثار الأنبياء وتضحياتهم في هذا الطريق ويجزيهم عليها، كما يحفظ كلمات الأعداء البذيئة وثرثرتهم ليحاسبهم عليها ويجازيهم.

إنّ الآية المذكورة دليل واضح على أنّ الحزم والإخلاص وعدم الخوف من أي أحد إلّا اللَّه تعالى، شرط أساسي في التقدم والرقي في

مجال الإعلام والتبليغ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 67

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40) مسألة الخاتمية: هذه الآية هي آخر ما بيّنه اللَّه سبحانه فيما يتعلق بمسألة زواج النبي صلى الله عليه و آله بمطلّقة زيد لكسر عرف جاهلي خاطي ء، وتبيّن في نهايتها حقيقة مهمة اخرى- وهي مسألة الخاتمية- بمناسبة خاصة. تقول أوّلًا: «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رّجَالِكُمْ». لا زيد ولا غيره، وإذا ما أطلقوا عليه يوماً إنّه «ابن محمّد» فإنّما هو مجرد عادة وعرف ليس إلّا، وما إن جاء الإسلام حتى اجتثّت جذوره، وليس هو رابطة طبيعية عائلية.

ثم تضيف: بأنّ علاقة النبي صلى الله عليه و آله معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط: «وَلكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيينَ». وبهذا قطع صدر الآية الإرتباط والعلاقة النسبية بشكل تام وقطعي، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.

ولا شك أنّ اللَّه العليم الخبير قد وضع تحت تصرفه كل ما كان لازماً في هذا الباب، من الاصول والفروع، والكليات والجزئيات في جميع المجالات، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: «وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) تحية اللَّه والملائكة فرج للمؤمنين: لما كان الكلام في الآيات السابقة عن مسؤوليات نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وواجباته الثقيلة الملقاة على عاتقه، فإنّ الآيات مورد البحث

تبيّن جانباً من وظائف المؤمنين من أجل تهيئة الأرضية اللازمة لهذا التبليغ، وتوسعة أطرافه في جميع الأبعاد، فوجّهت الخطاب إليهم جميعاً وقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا». ونزّهوه صباحاً ومساءاً «وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

لما كانت عوامل الغفلة في الحياة المادية كثيرة جدّاً، وسهام وسوسة الشياطين ترمى من كل جانب صوب الإنسان، فلا طريق لمحاربتها إلّابذكر اللَّه الكثير.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 68

إنّ «الذكر الكثير»- بالمعنى الواقعي للكلمة- يعني التوجه إلى اللَّه سبحانه بكل الوجود، لا بلقلقة اللسان وحسب.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من أكثر ذكر اللَّه أظلّه اللَّه في جنته».

والآية التالية بمثابة نتيجة وعلّة غائيّة للتسبيح في الواقع، فهي تقول: «هُوَ الَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ». أي: من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم والتقوى: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا». وبسبب هذه الرحمة كتب على نفسه هداية البشر وإرشادهم، وأمر ملائكته أن تعينهم في ذلك.

«يصلّي»: من مادة «صلاة» وهي هنا تعني الرعاية والعناية الخاصة، وهذه العناية بالنسبة للَّه تعني نزول الرحمة، وبالنسبة للملائكة تعني الاستغفار وطلب الرحمة.

هذه هي رحمة اللَّه الخاصة التي تخرج المؤمنين من ظلمات الأوهام والشهوات والوساوس الشيطانية، وتهديهم إلى نور اليقين والإطمئنان والسيطرة على النفس، ولولا رحمته سبحانه فإنّ هذا الطريق الملي ء بالمنعطفات والعراقيل لا يكون سالكاً.

وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة، فتقول: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلمٌ».

«التحية»: من مادة «حياة»، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اخرى.

هذا السلام يعني السلامة من العذاب، ومن كل أنواع الألم والعذاب والمشقة، سلام ممتزج بالهدوء والإطمئنان.

بعد هذه التحية، التي ترتبط ببداية الأمر، أشارت الآية إلى نهايته فقالت: «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا».

يَا أَيُّهَا

النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ دَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وَ لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَ الْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) السراج المنير: الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النبي صلى الله عليه و آله، إلّاأنّ نتيجته لكل المؤمنين، وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم.

لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات» للنبي صلى الله عليه و آله وجاء

مختصر الامثل، ج 4، ص: 69

في الآيتين الاخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض، وتكمل إحداها الاخرى.

تقول الآية أوّلًا: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا». فهو من جانب شاهد على أعمال امّته، لأنّه يرى أعمالهم.

وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهوداً على اممهم: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلَاءِ شَهِيدًا» «1».

ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة، إضافةً إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرّفة، شاهد على أحقّية دينك، وشاهد على عظمة اللَّه وقدرته.

ثم تطرقت الآية إلى الصفتين الثانية والثالثة فقالت: «وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا». فهو مبشّر للمحسنين بثواب اللَّه اللامتناهي ... بالسلامة والسعادة الخالدة ... بالظفر والتوفيق الملي ء بالفخر والإعتزاز ... ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب اللَّه الأليم ... من خسران كل رأسمال الوجود، ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة.

وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة، فقالت: «وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا».

إنّ كون النبي صلى الله عليه و آله (سراجاً منيراً) إشارة إلى المعجزات وأدلة أحقية دعوة الرسول، وعلامة صدقها، فهو

سراج منير شاهد بنفسه على نفسه.

إنّ وجود النبي صلى الله عليه و آله أساس الهدوء والإطمئنان، ونمو روح الإيمان والأخلاق، والخلاصة:

أساس الحياة والحركة، وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع.

وفي الآيتين الاخريين من الآيات مورد البحث بياناً لخمسة واجبات من واجبات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فتقول أوّلًا: «وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا». وهي إشارة إلى أنّ مسألة تبشير النبي صلى الله عليه و آله لا يحدّ بالثواب الإلهي بمقدار أعمال المؤمنين الصالحة، بل إنّ اللَّه سبحانه يفيض عليهم من فضله بحيث تضطرب المعادلة بين العمل والجزاء تماماً.

ثم تناولت الواجب الثاني والثالث، فقالت: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ».

لا شك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً، إلّاأنّ هذا الموضوع من

______________________________

(1) سورة النّساء/ 41.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 70

الأهمية بمكان، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النبي صلى الله عليه و آله والتحذير والقدوة للآخرين. ثم تقول في الأمر الرابع والخامس: «وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا».

إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النبي صلى الله عليه و آله تحت ضغط شديد لحمله على الإستسلام، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كل أنواع الأذى، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة، أم عن طريق الأذى الجسمي، أو عن طريق الحصار الإقتصادي.

يقول التاريخ: إنّ النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى، ولم يقبلوا عار الإستسلام والهزيمة قطّ، وأخيراً انتصروا في حركتهم.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ

وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا (49) جانب من أحكام الطلاق: إنّ آيات هذه السورة- الأحزاب- جاءت على شكل مجموعات مختلفة، والخطاب في بعضها موجّه إلى النبي صلى الله عليه و آله، وفي بعضها الآخر إلى كل المؤمنين، وهذا يعني أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان مراداً بهذه التعليمات، كما أنّ عموم المؤمنين يرادون بها أيضاً. تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا».

لقد بيّن اللَّه سبحانه هنا حكماً استثنائياً من حكم عدة النساء المطلّقات، وهو أنّ الطلاق إن وقع قبل الدخول فلا تلزم العدّة، ومن هذا التعبير يفهم أنّ حكم العدة كان قد بُيّن قبل هذه الآية.

ثم تتطرق الآية إلى حكم آخر من أحكام النساء اللاتي يطلّقن قبل المباشرة الجنسية- والذي سبقت الإشارة إليه في سورة البقرة أيضاً- فتقول: «فَمَتّعُوهُنَّ». أي اعطوهن هدية مناسبة.

ولا شك أنّ تقديم هدية مناسبة إلى المرأة يكون واجباً في حالة عدم تعيين المهر من قبل.

أمّا مقدار هذه الهدية، فقد بيّنه القرآن المجيد في الآية (236) من سورة البقرة إجمالًا بقوله: «مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ». وكذلك قال في نفس تلك الآية: «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ و وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ و».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 71

وآخر حكم في الآية مورد البحث هو: «وَسَرّحُوهُنَّ سِرَاحًا جَمِيلًا».

«السراح الجميل» هو الطلاق المقترن بالمحبّة والإحترام، وترك كل خشونة وظلم وجور واحتقار.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ

دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) يمكنك الزواج من هذه النسوة: بعد ذكر جانب من الأحكام المتعلقة بطلاق النساء، وجّهت الخطاب هنا إلى النبي صلى الله عليه و آله، وفصّلت الموارد السبعة التي يجوز للنبي الزواج فيها من تلك النسوة:

1- فقالت أوّلًا: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجِكَ التِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ». والمراد من هؤلاء النساء- بقرينة الجمل التالية- النساء اللاتي لم يكنّ يرتبطن بالنبي صلى الله عليه و آله برابطة قرابة وقد تزوّجنه، وربّما كانت مسألة دفع المهر لهذا السبب، لأنّ العرف المتّبع آنذاك هو أنّهم كانوا يدفعون المهر نقداً عند زواجهم من الأجنبيات، إضافةً إلى أفضلية التعجيل في هذا الدفع، وخاصة إذا كانت الزوجة بحاجة إليه إلّاأنّ هذا الأمر ليس من الواجبات على أي حال، إذ يمكن أن يبقى المهر ديناً في ذمة الزوج إذا ما اتّفق الطرفان على ذلك.

2- «وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ».

«أفاء»: من مادة «الفي ء»، وتقال للأموال التي يحصل عليها الإنسان بدون جهد ومشقة، ولذلك يطلق (الفي ء) على الغنائم الحربية، وكذلك الأنفال.

3- «وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالتِكَ التِى هَاجَرْنَ مَعَكَ».

إنّ التحديد بهذه الفئات الأربع واضح، إلّاأنّ شرط الهجرة من أجل أنّها كانت دليلًا على الإيمان في ذلك اليوم، وعدم الهجرة دليل على الكفر، أو لأنّ الهجرة تمنحهنّ امتيازاً أكبر وفخراً أعظم، والهدف من الآية هو بيان النساء الفاضلات المؤهّلات لأن يصبحن زوجات للنبي صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 72

4- «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ من دون مهر إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ

مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ». أي أنّ هذا الحكم خاص للنبي صلى الله عليه و آله ولا يشمل سائر المؤمنين «قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ».

وبناءً على هذا، فإذا كنّا قد حدّدنا بعض المسائل فيما يتعلق بالزواج من هؤلاء النسوة، فقد كان ذلك استناداً إلى مصلحة حاكمة في حياتك وحياتهن، ولم يكن أيّ من هذه الأحكام والمقررات اعتباطياً وبدون حساب.

ثم تضيف الآية: «لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ». وبالتالي ستكون قادراً على أداء المسؤوليات الملقاة على عاتقك في القيام بهذا الواجب «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

إنّ الجملة الأخيرة في الآية أعلاه إشارة في الواقع إلى فلسفة هذه الأحكام الخاصة بنبينا الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث تقول: إنّ للنبي ظروفاً لا يعيشها الآخرون، وهذا التفاوت في الظروف أصبح سبباً للتفاوت في الأحكام.

إنّ الهدف من هذه الأحكام رفع بعض المشاكل والصعوبات من كاهل النبي صلى الله عليه و آله.

تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لَا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51)

سبب النّزول

نزلت الآية حين غار بعض امّهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه و آله وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن شهراً حتى نزلت آية التخيير، فأمره اللَّه تعالى أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ...

وعلى أنّه يؤوي من يشاء منهن ويرجي من يشاء منهن ويرضين به، قسم لهنّ، أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهن أو فضل بعضهن على بعض في النفقة والقسمة والعشره أو سوّى بينهن، والأمر في ذلك إليه يفعل ما يشاء وهذه

من خصائصه صلى الله عليه و آله، فرضين بذلك كله واخترنه على هذا الشرط.

التّفسير

حل مشكلة اخرى في حياة النبي: إنّ قائداً ربّانياً عظيماً كالنبي صلى الله عليه و آله خاصة يجب أن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 73

يكون له هدوء نسبي في حياته الداخلية ليقوى على التفرغ لحل سيل المشاكل التي أحاطت به من كل جانب.

إنّ الإختلاف بين زوجات النبي، والمنافسة النسوية المعروفة بينهن، قد أثار في الوقت نفسه عاصفة من الإضطراب داخل بيت النبي ممّا شغل فكره وزاد في همّه.

هنا منح اللَّه سبحانه نبيّه إحدى الخصائص الاخرى، وأنهى هذه الحوادث والأخذ والعطاء في الجدل إلى الأبد، وأراح فكر النبي صلى الله عليه و آله من هذه الجهة، وهدأ خاطره وروعه، فقال سبحانه في هذه الآية: «تُرْجِى مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ».

«ترجي»: من «الإرجاء»، أي: التأخير؛ و «تؤوي»، من «الإيواء» ويعني إستضافة شخص في بيتك.

ونعلم أنّ أحكام الإسلام في شأن الزوجات المتعددة تقضي بأن يقسّم الزوج أوقاته بينهن بصورة عادلة، ويعبّرون عن هذا الموضوع في الكتب الفقهية الإسلامية ب «حق القسْم».

فكانت إحدى مختصات النبي صلى الله عليه و آله هي سقوط رعاية حق القسم منه بحكم الآية أعلاه، وبسقوط هذا الواجب عنه فقد كان قادراً على أن يقسّم أوقاته كيف يشاء، غير أنّه صلى الله عليه و آله كان يراعي تحقيق العدالة ما أمكن رغم هذه الظروف.

ثم تضيف الآية: وعندما ترغب عن إحداهن وتعتزلها، ثم ترغب فيها فلا تثريب عليك: «وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ».

وبهذا فليس الخيار بيدك في البداية وحسب، بل إنّه بيدك حتى في الأثناء أيضاً، ولذلك يضيف سبحانه: «ذلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ».

وذلك

أوّلًا: لأنّ هذا الحكم عام يشملهنّ جميعاً ولا يتفاوتن فيه، وثانياً: إنّ الحكم الذي يشرّع من جانب اللَّه سبحانه إنّما يشرّع لمصلحة مهمة. وبناءً على هذا فيجب الإذعان له برغبة ورضا.

وأخيراً ينهي المطلب بهذه الجملة: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا».

لا يستعجل في إنزال العقاب بالمذنبين.

أجل إنّ اللَّه يعلم بأي حكم قد رضيتم، وله أذعنتم بقلوبكم، وعن أي حكم لم ترضوا.

وهو سبحانه يعلم أيّاً من أزواجكم تحبّون أكثر، ومن منهن تحظى باهتمام أقل، ويعلم كيف تراعون حكمه وتنفّذوه مع هذا الإختلاف في الميول والرغبات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 74

لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) حكم مهم آخر فيما يتعلق بأزواج النبي: لقد بيّن اللَّه سبحانه في هذه الآية حكماً آخر من الأحكام المتعلقة بزوجات النبي، فقال عزّ وجل: «لَّايَحِلُّ لَكَ النّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ». فالآية منعت الرسول من الزواج الجديد إلّاالإماء والجواري: «وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ رَقِيبًا».

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَ لكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً

أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54)

أسباب النّزول

نزلت آية الحجاب لما بنى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بزينب بنت جحش، وأولم عليها. قال أنس: أولم عليها بتمر وسويق، وذبح شاة، وبعثت إليه امي ام سليم بحَيْس في تور من حجارة، فأمرني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم، فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون. ثم يجي ء القوم فيأكلون ويخرجون. قلت: يا نبي اللَّه! قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه؟ فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا طعامهم، وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون في البيت، فأطالوه المكث. فقام صلى الله عليه و آله وقمت معه، لكي يخرجوا. فمشى حتى بلغ حجرة عائشة.

ثم ظن أنّهم قد خرجوا، فرفع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فنزلت الآية.

قيل: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطعم معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره صلى الله عليه و آله ذلك، فنزلت آية الحجاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 75

وقيل: إنّ رجلين قالا: أينكح محمّد نساءنا ولا ننكح نساءه واللَّه لئن مات لنكحنا نساءه فنزلت الآية أعلاه وحرّمت الزواج بنساء النبي من بعده مطلقاً، وأنهت هذه المؤامرة.

التّفسير

مرّة اخرى يوجّه الخطاب إلى المؤمنين، لتبيّن الآية جانباً آخر من أحكام الإسلام، وخاصة ما كان مرتبطاً بآداب معاشرة النبي صلى الله عليه و آله وبيت النبوة، فتقول أوّلًا: لا ينبغي لكم دخول بيوت النبي إلّاإذا دعيتم إلى طعام واذِن لكم بالدخول بشرط أن تدخلوا في الوقت المقرر، لا أن تأتوا قبل ذلك بفترة وتجلسون في انتظار وقت الغذاء، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى

طَعَامٍ غَيْرِ نَاظِرِينَ إِنَاهُ» «1».

ومن المسلم أنّ هذا الحكم لا يختص ببيت النبي صلى الله عليه و آله، إذ ينبغي أن لا تدخل دار أي إنسان بدون إذنه كما نقرأ- في الكافي- في أحوال النبي صلى الله عليه و آله أنّه عندما كان يريد دخول بيت إبنته فاطمة عليها السلام كان يستأذن، وكان معه جابر بن عبداللَّه يوماً، فاستأذن له بعد أن استأذن لنفسه.

إضافةً إلى أنّهم إذا دُعوا إلى طعام فينبغي أن يكونوا عارفين بالوقت، لئلّا يوقعوا صاحب البيت في جهد وإحراج في غير مكانه.

ثم تناولت الحكم الثاني فقالت: «وَلكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا».

وتقول في الحكم الثالث: «وَلَا مُسْتْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» فلا تجلسوا حلقاً تتحدثون بعد تناول الطعام، سواء كان ذلك في بيت النبي، أم في بيت أي صاحب دعوة.

طبعاً، قد يرغب المضيفون في مثل هذه الحلقات والمجالس، فهذه الحالة مستثناة.

ثم تبيّن الآية علة هذا الحكم فتقول: «إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقّ».

من المسلّم أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يكن يتردد لحظة، ولا يخشى شيئاً، أو يستحيي من شي ء في بيان الحقّ في الموارد التي لم يكن لها بعد شخصي وخاصّ، إلّاأنّ بيان الحق إذا كان يعود على القائل نفسه ليس بالأمر الجميل الحسن، أمّا تبيانه من قبل الآخرين فانّه رائع ومستحسن، ومورد الآية من هذا القبيل أيضاً.

______________________________

(1) «إناه»: من مادة «أنّى- يأني» أي حلول وقت الشي ء، وتعني هنا تهيئة الطعام للتناول.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 76

ثم تبيّن الآية الحكم الرابع في باب الحجاب، فتقول: «وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَسَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ».

ومن الواضح أنّ جعل نساء النبي عرضة لأنظار الناس- وإن كنّ يرتدين الحجاب الإسلامي- لم

يكن بالأمر الحسن، ولذلك صدر الأمر إلى الناس إذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه و آله شيئاً تحتاجون إليه، فاسألوهنّ من وراء الستر.

ولذلك بيّن القرآن فلسفة هذا الحكم فقال: «ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ».

ثم تبيّن الآية الحكم الخامس بأنّه: «وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ». فبالرغم من أنّ هذا العمل قد ذكر في نفس الآية، ولكن معنى الآية فهو يشمل كل نوع من الأذى.

وأخيراً تبيّن الآية الحكم السادس والأخير في مجال حرمة الزواج بنساء النبي صلى الله عليه و آله من بعده، فقالت: «وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا».

وحذّرت الآية الثانية الناس بشدة، فقالت: «إِن تُبْدُوا شَيًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». فلا تظنّوا أنّ اللَّه سبحانه لا يعلم ما خططتم له في سبيل ايذاء النبي صلى الله عليه و آله سواء ما ذكرتموه، أو الذي أضمرتموه، فإنّه تعالى يعلم كل ذلك جيداً، ويعامل كل إنسان بما يناسب عمله.

لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَ لَا أَبْنَائِهِنَّ وَ لَا إِخْوَانِهِنَّ وَ لَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَ لَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَ لَا نِسَائِهِنَّ وَ لَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: لما نزلت آية الحجاب قال: الآباء والأبناء والأقارب يا رسول اللَّه، ونحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب؟ فأنزل اللَّه تعالى قوله: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ» الآية. أن يروهن ولا يحتجبن عنهم.

التّفسير

الموارد المستثناة من قانون الحجاب: لما كان الحكم الذي ورد في الآية السابقة حول حجاب نساء النبي مطلقاً، ويمكن أن يوهم هذا الإطلاق بأنّ المحارم مكلفون بتنفيذه أيضاً، وأن يحدّثوهن من وراء حجاب كالأجانب، فقد

نزلت هذه الآية وفصلت حكم هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 77

المسألة. تقول الآية: «لَّاجُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ».

وبتعبير آخر: فإنّ محارمهن الذين استثنوا في الآية هم هؤلاء الستّة فقط.

ويتغيّر اسلوب الآية في نهايتها من الغائب إلى المخاطب، فتخاطب نساء النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدًا». فإنّ الحجاب والستر وأمثالهما وسائل للحفظ والإبعاد عن الذنب والمعصية ليس إلّا، والدعامة الأساسية هي التقوى فحسب، ولولاها فسوف لا تنفع كل هذه الوسائل.

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58) الصلاة على النبي والسلام عليه: بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب حفظ حرمة النبي صلى الله عليه و آله وعدم إيذائه، فإنّ هذه الآيات تتحدث أوّلًا عن محبة اللَّه وملائكته للنبي صلى الله عليه و آله وتعظيمهم له، وبعد ذلك تأمر المؤمنين بذلك، ثم تذكر العواقب المشؤومة الأليمة لُاولئك الذين يؤذون النبي صلى الله عليه و آله ثم تبيّن أخيراً عظم ذنب الذين يؤذون المؤمنين باتّهامهم والإفتراء عليهم. تقول أوّلًا: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ».

إنّ مقام النبي صلى الله عليه و آله ومنزلته من العظمة بمكان، بحيث إنّ خالق عالم الوجود، وكل الملائكة الموكّلين بتدبير أمر هذا العالم بأمر اللَّه سبحانه يصلّون عليه، وإذا كان الأمر كذلك

فضمّوا أصواتكم إلى نداء عالم الوجود هذا، ف «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلّمُوا تَسْلِيمًا».

إنّه جوهرة نفيسة لعالم الخلقة، وقد جُعل بينكم بلطف اللَّه، فلا تستصغروا قدره، ولا تنسوا مقامه ومنزلته عند اللَّه وملائكة السماوات ...

«الصلاة»: وجمعها «صلوات»، كلّما نسبت إلى اللَّه سبحانه فإنّها تعني «إرسال الرحمة»، وكلّما نسبت إلى الملائكة فإنّها تعني «طلب الرحمة».

إنّ التعبير ب «يصلّون» وهو فعل مضارع يدل على الاستمرار، يعني أنّ اللَّه وملائكته يصلّون عليه دائماً وباستمرار صلاة دائمة خالدة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 78

إنّ «صلّوا» أمر بطلب الرحمة والصلاة على النبي، أمّا «سلّموا» فتعني التسليم لأوامر نبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أو أن يكون بمعنى «السلام» على النبي صلى الله عليه و آله ب (السلام عليك يا رسول اللَّه) وما أشبه ذلك، والذي يعني طلب سلامة النبي من اللَّه سبحانه.

مما يلفت النظر أنّه قد ورد صريحاً في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله وفي روايات لا تحصى من طرق العامة وأهل البيت، أن يضاف (آل محمّد) عند الصلوات على محمّد صلى الله عليه و آله، وكيفية الصلاة هي: أللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.

ثم تبيّن الآية التالية النقطة المقابلة للآية السابقة، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا».

والمراد من أذى اللَّه سبحانه هو الكفر والإلحاد الذي يُغضِب اللَّه عزّ وجل.

وأمّا ايذاء نبي الخاتم صلى الله عليه و آله فله معنى واسع، ويشمل كل عمل يؤذيه.

بل ويستفاد من الرواية الواردة في ذيل الآية أنّ ايذاء أهل بيت النبي وخاصة علي وفاطمة عليهما السلام، يدخل ضمن الآية، وقد جاء في المجلد الرابع من صحيح البخاري، أنّ رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله قال: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني».

وورد هذا الحديث في المجلد السابع من صحيح مسلم بهذه العبارة: «إنّما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها».

وروي هذا المعنى في حق علي عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «1».

وتتحدث الآية الأخيرة عن ايذاء المؤمنين، وتهتمّ به جدّاً بعد ايذاء اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله فتقول: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا». لأنّ للمؤمن علاقة باللَّه ورسوله عن طريق الإيمان، ولهذا جعل في مرتبة اللَّه ورسوله هنا.

وتعبير «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» إشارة إلى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا ذنباً حتى يؤذوا.

وفي عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه أقامه اللَّه تعالى يوم القيامة على تلّ من نار حتى يخرج مما قاله فيه».

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 79

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم في سبب نزول الآية الاولى: فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإذا

كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهن في طريقهن فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل اللَّه: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

التّفسير

تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات: بعد النهي عن ايذاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين، فتقول الآية في الجزء الأوّل: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلبِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ».

إنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت إنتباههم.

ولما كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات مما كان منهن قبل ذلك، فقد أضافت الآية في نهايتها: «وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

فكل ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ اللَّه سيغفره لكن فتبن إلى اللَّه وارجعن إليه، ونفذن واجب العفة والحجاب جيداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 80

بعد الأمر الذي صدر في الآية السابقة للمؤمنات، تناولت هذه الآية بُعداً آخر لهذه المسألة، أي أساليب الأراذل والأوباش في مجال الإيذاء، فقالت: «لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكِ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا». «المرجفون»: من مادة «إرجاف»، وهي إشاعة الأباطيل بقصد ايذاء الآخرين وإحزانهم؛ و «نغرينّك» من مادة «الإغراء»، ويعني الدعوة إلى تنفيذ عمل، أو تعلّم شي ء، دعوة تقترن بالترغيب والتحريض.

ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم، وكل منها كان

يحقّق أهدافه باسلوب خاصّ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي، ولم تكن له صبغة فردية:

فالفئة الاولى: هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لإقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.

و الثانية: هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن: «الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ».

والفئة الثالثة: هم الذين كانوا يبثّون الإشاعات في المدينة، وخاصةً عندما كان النبي صلى الله عليه و آله وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات، لإضعاف معنوياتهم.

وعندما يطردون من هذه المدينة، ويخرجون عن حماية الحكومة الإسلامية، فإنّهم سيكونون «مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلًا».

«ثقفوا»: من مادة «ثقف» و «ثقافة»، وهي: السيطرة على الشي ء بدقّة ومهارة، وهذا التعبير إشارة إلى أنّهم سوف لا يجدون مكاناً آمناً بعد هذا الهجوم، بل سيبحث عنهم المؤمنون بدقة حتى يجدوهم ويرسلوهم إلى ديار الفناء.

ثم تضيف الآية الأخيرة من هذه الآيات أنّ هذا الأمر ليس جديداً، بل: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» فكلما زادت صلافة المفسدين وتجاوزت مؤامراتهم الحدود، يصدر الأمر بالهجوم عليهم.

ولما كان هذا الحكم سنّة إلهية، فإنّه سوف لا يتغير ولا يتبدل أبداً، حيث إنّ سنّة اللَّه ثابتة «وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا».

إنّ هذا التعبير يجسّد كون هذا التهديد حقيقياً وجدياً، ليعلموا أنّ هذا المطلب والمصير

مختصر الامثل، ج 4، ص: 81

حتمي، وله جذوره ونظائره في التاريخ، ولا سبيل إلى تغييره وتبديله، فإمّا أن ينتهوا عن أعمالهم المخزية، أو أن ينتظروا هذا المصير المؤلم.

إنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الإسلامية لا يختص بزمان أو مكان أو أشخاص.

إذا كان نفث السموم والتآمر قد تجاوز الحد على أرض الواقع، وأصبح كتيار جارف يهدّد المجتمع الإسلامي بأخطار حقيقية، فما المانع من أن تنفّذ الحكومة الإسلامية أوامر الآيات أعلاه، والتي انزلت على النبي صلى الله عليه و آله ومنحته هذه

الصلاحية، وتعبى ء الناس للقضاء على جذور الفساد.

والمراد من السنّة في مثل هذه الموارد: القوانين الإلهية الثابتة والأساسية، سواء التكوينية منها أم التشريعية، التي لا تتغيّر مطلقاً.

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يسألون أيّان يوم القيامة: كانت الآيات السابقة تتحدث عن مؤامرات المنافقين والأشرار، وقد اشير في هذه الآيات التي نبحثها إلى واحدة اخرى من خططهم الهدّامة، وأعمالهم المخرّبة، حيث كانوا يطرحون أحياناً هذا السؤال: متى تقوم القيامة التي يخبر بها محمّد ويذكر لها كل هذه الصفات؟ وذلك إمّا استهزاءً، أو لزرع الشك فيها في قلوب البسطاء، فتقول الآية: «يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ».

ثم تقول الآية- مورد البحث- في مقام جوابهم: «قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ» ولا يعلمها حتى المرسلون والملائكة المقربون.

ثم تضيف بعد ذلك: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا».

ثم تطرقت الآية إلى تهديد الكافرين، وتناولت جانباً من عقابهم الأليم، فقالت: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا* خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّايَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 82

الفرق بين «الولي» و «النصير» هنا هو: أنّ «الولي» من يتولّى القيام بكل الأعمال وتنفيذها، أمّا «النصير» فهو الذي يعين على الوصول إلى الهدف المطلوب، إلّاأنّ هؤلاء الكافرين لا وليّ لهم في القيامة ولا نصير. ثم بيّنت جزءاً آخر من عذابهم الأليم في

القيامة فقالت: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ». وهذا التقليب إمّا أن يكون في لون البشرة والوجه حيث تصبح حمراء أو سوداء أحياناً، أو من جهة تقلّبهم في النار ولهيبها حيث تكون وجوههم في مواجهة النار أحياناً، وأحياناً جوانب اخرى (نعوذ باللَّه من ذلك).

هنا ستنطلق صرخات حسرتهم، و «يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا». فإنّا لو كنّا أطعناهما لم يكن ينتظرنا مثل هذا المصير الأسود الأليم.

«وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا».

«السادة»: جمع «سيّد»، وهو المالك العظيم الذي يتولّى إدارة المدن المهمة أو الدول؛ و «الكبراء» جمع «كبير» وهو الفرد الكبير سواء من ناحية السنّ، أو العلم، أو المركز الاجتماعي وأمثال ذلك. وبهذا فإنّ السادة إشارة إلى رؤساء البلاد العظام، والكبراء هم الذين يتولّون إدارة الامور تحت إشراف اولئك السادة، ويعتبرون معاونين ومشاورين لهم، وكأنّهم يقولون: إنّنا قد جعلنا طاعة السادة محل طاعة اللَّه، وطاعة الكبراء مكان طاعة الأنبياء، فابتلينا بأنواع الإنحرافات والتعاسة والشقاء.

هنا تثور ثائرة هؤلاء الجهنميين الضالين، ويطلبون من اللَّه سبحانه أن يزيد في عذاب مضلّيهم وعقابهم أشدّ عقاب فيقولون: «رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا»- عذاب لضلالهم وعذاب لإضلالهم-.

من المسلم أنّ هؤلاء يستحقون العذاب واللعن، واستحقاقهم للعذاب المضاعف واللعن الكبير بسبب سعيهم في سبيل إضلال الآخرين، ودفعهم إلى طريق الإنحراف. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 83

بماذا رموا موسى عليه السلام واتّهموه: بعد البحوث

التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب إحترام مقام النبي صلى الله عليه و آله، وترك كل ما يؤذيه والإبتعاد عنه، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين، وقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا».

إنّ اختيار موسى عليه السلام من جميع الأنبياء الذين طالما اوذوا، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبيّ آخر.

والمراد من ايذاء موسى عليه السلام هو بيان حكم كلي عام جامع، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسى عليه السلام من جوانب متعددة ... ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّنا صلى الله عليه و آله) كإشاعة بعض الأكاذيب وإتّهام زوج النبي بتهم باطلة، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور، ذيل الآيات (11- 20).

ويستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند اللَّه وجيهاً وذا منزلة، فإنّ اللَّه سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل.

قولوا الحق لتصلح أعمالكم: بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النبي، تصدر الآية التالية أمراً هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الإجتماعي الخطير، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا».

«القول السديد»: يعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل.

ثم تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد، فتقول: «يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْملَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ».

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه، ومنبع قول الحق، والقول الحق أحد العوامل المؤثرة في إصلاح الأعمال، وإصلاح الأعمال سبب مغفرة الذنوب، وذلك ل «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ» «1».

ثم تضيف الآية في النهاية: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا».

وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون

أعمال الإنسان صالحة، وذنوبه مغفورة، وهو عند اللَّه من المبيضّة وجوههم الذين رضي اللَّه عنهم.

______________________________

(1) سورة هود/ 114.

0

مختصر الامثل، ج 4، ص: 84

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر: تكمل هاتان الآيتان- اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب- المسائل المهمة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان، والعمل الصالح، والجهاد، والإيثار، والعفة والأدب والأخلاق، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعاً سامياً جدّاً بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة اللَّه العظيمة.

تبيّن الآية أوّلًا أعظم إمتيازات الإنسان وأهمّها في كل عالم الخلقة، فتقول: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنِ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا».

ممّا لا شك فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكباراً منها، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان، اعجوبة عالم الخلقة، قد تقدم: «وَحَمَلَهَا الْإِنسنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا».

إنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل، وعبودية اللَّه الخاصة وتقبّل ولاية اللَّه.

والمراد من عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال هو المقارنة، أي أنّها عندما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والإستعدادات أعلنت عدم لياقتها وإستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعاً بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

ولأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها، وأن يتقبّل

ولاية اللَّه، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته، وبالإستعانة بربّه.

وهذا لم يكن قبول اتفاق وعقد، بل كان قبولًا تكوينياً حسب عالم الإستعداد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 85

أمّا وصف الإنسان بهاتين الصفتين- ظلوماً، جهولًا- بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته ... وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قِبل قابيل وأتباعه، ولا يزال إلى اليوم.

وتبيّن الآية التالية علة عرض هذه الأمانة على الإنسان، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات: المنافقين والمشركين والمؤمنين، فتقول:

«لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

«نهاية تفسير سورة الأحزاب»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 87

34. سورة سبأ

محتوى السورة: إنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع:

1- التوحيد وبعض الآثار الدالة عليه في عالم الوجود، وبعض صفات اللَّه المقدسة كالوحدانية، والربوبية، والالوهية.

2- قضية المعاد التي نالت النصيب الأوفي من العرض في هذه السورة.

3- نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الخاتم صلى الله عليه و آله والرد على تخرّصات أعدائه حوله، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

4- التعرض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النبي سليمان عليه السلام وحياة قوم سبأ.

5- الدعوة إلى التفكر والتأمل والإيمان والعمل الصالح، وبيان تأثير هذه العوامل في سعادة وموفقية البشر.

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصة قوم سبأ.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلّاكان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً».

وروى عن الإمام الصادق عليه السلام

قال: «من قرأ الحمدين جميعاً، سبأ وفاطر، في ليلة لم يزل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 88

ليلته في حفظ اللَّه تعالى وكلائه، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه».

وهذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب، بل يجب أن تكون القراءة مقدمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) هو المالك لكل شي ء والعالم بكل شي ء: خمس سور من القرآن الكريم افتتحت «بحمد اللَّه»، وإرتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترناً في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وجاء في سورة الفاتحة تعبيراً جامعاً شاملًا لكل هذه الإعتبارات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ الحمد والشكر للَّه تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الْأَخِرَةِ».

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه، وكل موهبة، وكل نعمة، ومنفعة وبركة، وكل خلقة سوية عجيبة مذهلة، تتعلّق به تعالى، ولذا فإنّ كل مدح وثناء يصدر من أحدٍ على شي ء في هذا العالم، فإنّ مرجعه في النهاية إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

ثم يضيف تعالى قائلًا: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».

فقد اقتضت حكمته البالغة أن

يُخضع الكون لهذا النظام العجيب، وأن يستقرّ- بعلمه وإحاطته- كل شي ء في محلّه من الكون، فيجد كل مخلوق- كل ما يحتاج إليه- في متناوله.

إنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط، بل تُسمع همهمة الحمد والتسبيح من كل ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل، فليس من موجود إلّاويحمده ويسبّحه تعالى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 89

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم اللَّه اللامحدود، تناسباً مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير، فيقول سبحانه: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا».

نعم، فقد أحاط علماً بكل حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشباً طريّاً.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثاً عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض.

وكذلك، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره ... نعم إنّه مطّلع على كل هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض، والناس الذين يبعثون منها، بالعيون التي تفور بالماء منها، بالغازات التي تتصاعد منها، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها.

والخلاصة، فهو عالم بكل الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعم مما نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثم يضيف قائلًا: «وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا».

فهو يعلم بحبّات المطر، وبأشعة الشمس التي تنثر الحياة، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهية المختلفة، بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي، بالشهب والذرات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو

الأرض، فهو تعالى محيط بهذا كله.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لاستراق السمع، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونةً سحباً، وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء ... نعم هو عالم بكل ذلك.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 90

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ وَ لَا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) أقسم باللَّه لتأتينكم القيامة: تتعرض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات اللَّه في نفس الوقت الذي تهي ء أرضية لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلّاعن طريق العلم اللامتناهي للباري عزّ وجل، كما سنرى. لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلًا بقوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَاتَأْتِينَا السَّاعَةُ».

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات؛ الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكن القرآن بناءً على وضوح أدلة القيامة يخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بصورة حاسمة وفي معرض بيان النتيجة، فيقول: «قُلْ بَلَى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ».

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية، فكيف يمكن أن يكون اللَّه مالكاً ومربّياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثم يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كل شي ء.

وبما

أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم- من جانب- في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب، وكذلك- من جانب آخر- في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السر والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ اللَّه تعالى يضيف في تتمة الآية الكريمة: «عَالِمِ الْغَيْبِ لَايَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ».

والمقصود من «الكتاب المبين» هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» ضُبط وقُيّد كل شي ء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

ثم يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر: إعطاء الدليل على لزوم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 91

مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: «لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».

فإن لم يُجاز المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اصول الخلقة؟

«الرزق الكريم» يشمل كل رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع.

وبتعبير آخر: فإنّ «الجنة» بكل نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة.

ثم تضيف الآية التالية، موضّحة نوعاً آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين، فيقول تعالى: إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا ... «وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ».

«الرّجز»: في الأصل بمعنى الإضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن، ثم اطلقت الكلمة على كل ذنب ورجس. فالمقصود من (الرجز) هنا، أسوأ أنواع العذاب- الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضاً.

«سعو»: من «السعي»، بمعنى كل جهد وجدّ في أمر، والمقصود منها هنا، الجدّ والجهد في

تكذيب وإنكار آيات الحق وصدّ الناس عن طريق اللَّه سبحانه وتعالى.

«معاجزين»: من «المعاجزة»، بمعنى معجّزين، أي مثبّطين، أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوّهمهم بأنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء، ثم يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهية.

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَ الضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 92

العلماء يرون دعوتك إنّها حق: كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر، المغفّلين الذين أنكروا المعاد، والآيات مورد البحث، تتحدث عن العلماء والمفكرين الذين صدّقوا بآيات اللَّه وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها. يقول تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».

إنّ عبارة «الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ»، يشمل كل العلماء والمفكرين في كل عصر وزمان ومكان.

واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اخرى، فيقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ».

يبدو أنّ إصرار- هؤلاء الكفار- على إنكار مسألة المعاد يعتمد على

أمرين:

الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الأكرم صلى الله عليه و آله وهو «المعاد الجسماني»، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه.

الثاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتى القبول باحتماله- على كل حال- إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهدات، وهذا ما اعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقياً.

والعجيب أنّهم: «افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ».

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلًا: «بَلِ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّللِ الْبَعِيدِ».

والحقيقة أنّ الحياة لو حُدّت بهذه الأيام القليلة من عمر الدنيا لكان تصور الموت بالنسبة لكل إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، بينما المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء.

ثم ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين، فيقول تعالى: «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

فإنّ هذه السماء بكواكبها الثابتة والسيّارة، وكذلك الأرض بكل مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحية، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلّاق العظيم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 93

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية (82) من سورة يس، والآية (99) من سورة الإسراء، والآيتين (6 و 7) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدمة لتهديد تلك الفئة المتعصبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كل هذه الحقائق، لذا يضيف تعالى قائلًا: «إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ». فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم «أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ». أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة اللَّه

تعالى على كل شي ء، ولكن يختص بإدراك ذلك كل إنسان يتدبر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى اللَّه: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ».

ونحن المحكومون بقدرته في كل طرفة عين إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) المواهب الإلهية العظيمة لداود: بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب، ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود عليه السلام (في الآية 24 من سورة ص)- كما سيرد شرحه بإذن اللَّه- فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النبي عليه السلام كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق، وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم اللَّه ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته للَّه عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة. في الآية الاولى يقول تعالى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا».

فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: «يَا جِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ».

«أوّبي»: في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق، وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى اللَّه.

وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة عن الصادق عليه السلام أنّه قال في حديث يذكر فيه قصة داود عليه السلام: «إنّه خرج يقرأ الزبور، وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّاجاوبته».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 94

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اخرى

فتقول: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ». إنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي.

وروي- في تفسير مجمع البيان- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه أوحى إلى داود عليه السلام:

نعم العبد أنت إلّاأنّك تأكل من بيت المال! فبكى داود أربعين صباحاً، فألان اللَّه له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال».

الآية التي بعدها تتعرض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ».

«سابغات»: جمع «سابغ» وهو الدرع التامّ الواسع؛ و «سرد»: في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد، وجملة «وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ» معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها، وفي الواقع فإنّ اللَّه تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالًا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها استعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.

ثم تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته: «وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كله وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح، وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته.

وَ لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ

مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 95

هيبة سليمان وموته العبرة: بعد الحديث عن المواهب التي أغدق اللَّه بها على داود عليه السلام تنتقل الآيات إلى الحديث عن إبنه سليمان عليه السلام، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خُصّ بها إبنه سليمان عليه السلام. يقول تعالى: «وَلِسُلَيْمنَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ».

الملفت هنا أنّ اللَّه تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للإبن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين.

أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان، (سواء أكانت كرسياً أم بساطاً)؟ فليس بواضح لنا، والقدر المتيقّن هو أن لا شي ء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة اللَّه.

بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثانية التي خصّ اللَّه بها سليمان عليه السلام، فتقول الآية الكريمة:

«وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ».

«أسلنا»: من مادة «سيلان» بمعنى الجريان؛ و «القطر» بمعنى النحاس، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء.

والأمر ليس واضحاً لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضاً كان من الألطاف الإلهية على هذا النبي العظيم.

أخيراً تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمان عليه السلام وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجن لخدمته فتقول الآية: «وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ».

الآية التالية، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامة، التي كان يقوم بها فريق الجن بأمر سليمان. يقول تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ».

فكل ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت

كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيّأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.

«محاريب»: جمع محراب، ويعني «مكان العبادة» أو «القصور والمباني الكبيرة» التي بنيت كمعابد.

فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية، حتى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 96

«تماثيل»: جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة؛ «جفان»: جمع «جفنة» بمعنى إناء الطعام؛ «جوابي»: جمع «جابية» بمعنى حوض الماء.

وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان عليه السلام أواني للطعام كبيرة جدّاً، بحيث إنّ كلّاً منها كان كالحوض، لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه.

«قدور»: جمع «قدر» على وزن «قشر». بنفس معناه الحالي، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام؛ و «راسيات»: جمع «راسية» بمعنى ثابتة، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.

وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية، إلى آل داود فتخاطبهم: «اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ».

والمقصود من (الشكر) هو (الشكر العملي)، أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها، والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.

آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر حديث عن النبي سليمان عليه السلام، يخبرنا اللَّه سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النبي العجيبة والداعية للإعتبار. يقول تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ» «1».

وتضيف الآية بعد ذلك: «فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ

مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ». «تبيّنت»: من مادة «بيّن» بمعنى «العلم والإطّلاع». يعنى أنّ الجن لم يعلموا بموت سليمان إلى ذلك الوقت، ثم علموا وفهموا أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لما بقوا حتى ذلك الحين في تعب وآلام الأعمال الشاقة التي كلّفوا بها.

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

______________________________

(1) «منسأته»: من مادة «نسأ» وهو التأخير في الوقت؛ والمنسأة: عصا يُنسأ بها الشي ء، أي يؤخّر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 97

المدينة الراقية التي أضاعها الكفران: بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها اللَّه داود وسليمان عليهما السلام، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق .. قوم شملهم اللَّه بأنواع النعم، ولكنهم سلكوا طريق الكفران. يقول تعالى: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ».

والمشهور أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن.

ومن الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداءً، ثم بعدئذ سمّي كل أولاده وقومه من بعده باسمه، ثم انتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى: «جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ».

ما حصل هو أنّ قوم سبأ استطاعوا- ببناء سدّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم- حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل، والإفادة منها ... وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا

تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

ثم يضيف القرآن: «كُلُوا مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».

فبلحاظ النعم المادية هواء نقي، ونسيم يبعث على السرور، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر، وبلحاظ النعم المعنوية فمغفرة اللَّه التي شملتهم، والتغاضي عن تقصيرهم، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين، لم يخرجوا من بوتقة الامتحان بسلام.

قال تعالى: «فَأَعْرَضُوا» استهانوا بنعمة اللَّه، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية، نسوا اللَّه، وأسكرتهم النعمة.

وهنا مسّهم سوط الجزاء، يقول تعالى: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ». فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب ..

«العرم»: من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير.

بعدئذٍ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 98

ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْ ءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ». «اكل»: بمعنى الطعام؛ و «خمط»: بمعنى النبات المرّ وهو «الأراك»؛ و «أثل»: شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محل تلك الأشجار الخضراء المثمرة، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص واستنتاج لهذه القصة: «ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا».

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم، بل إنّ من المسلم أنّه يعمّ كل من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية:

«وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ».

وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَ قَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) «فَجَعَلْنَاهُمْ

أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ»: تعود هذه الآيات إلى قصة قوم سبأ مرّة اخرى، وتعطي شرحاً وتفصيلًا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم، ليكون درساً بليغاً وتربوياً لكل سامع. يقول تعالى: لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها، بل «وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةٍ». فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرىً اخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثانية.

والمقصود من «الأرض المباركة» هو «صنعاء» أو «مأرب» وكلتاهما كانتا في اليمن.

ولكن العمران وحده لا يكفي، بل إنّ شرطه الأساسي هو «الأمان»، ولذلك تضيف الآية: «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ». أي جعلنا بينها فواصل معتدلة: «سِيُروا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا ءَامِنِينَ».

وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 99

ولكن هؤلاء جحدوا نعم اللَّه العظيمة ولبسهم الغرور، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له، فأسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر، وانحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر اللَّه خلف ظهورهم.

فمن جملة مطالبهم العجيبة من اللَّه، «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا». أي طلبوا أن يجعل اللَّه المسافات بين قراهم طويلة، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى- كما أسلفنا- فواصل صحراوية شاسعة، حتى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركب، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة.

فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم «وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ».

فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا، إذ أنّهم قد استلّوا خنجراً ومزّقوا به صدورهم.

ويا له من تعبير رائع، ذلك الذي

أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم، حيث يقول:

إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث: «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ».

فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة، والتمدّن العريض المشرق، إلّاأخبار على الألسن، وذكريات في الخواطر، وكلمات على صفحات التاريخ «وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ».

كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كل مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم، حتى أضحى تفرّقهم مثلًا يضرب فقيل:

«تفرّقوا أيادي سبأ».

و في ختام الآية يقول تعالى: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

ذلك لكونهم بصبرهم واستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح، ويقفون بوجه المعاصي، وبشكرهم للَّه تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به ويقظون، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد.

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 100

مختصر الامثل ج 4 149

لا أحد مجبر على اتّباع الشيطان: هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة. يقول تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ».

بتعبير آخر: فإنّ إبليس بعد امتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي، توقّع وقال: «وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» «1».

وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان، فتقول الآية المباركة: «وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ».

وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه: «وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن

سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى» «2». ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان، وعبيد الهوى، لا يهدأ له بال، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.

لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شك: «إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْأَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ».

والمقصود من الجملة أعلاه هو التحقق العيني لعلم اللَّه، لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله- بكامل الإرادة والإختيار- إلى الواقع الفعلي، ويتحقق علم اللَّه سبحانه وتعالى عيناً.

ثم تختتم الآية بتنبيه للعباد: «وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ». حتى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا، أو أنّ اللَّه ينسى.

______________________________

(1) سورة الحجر/ 39 و 40.

(2) سورة إبراهيم/ 22.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 101

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ

كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قلنا في بداية السورة بأنّ هناك مجموعة من آياتها تتحدث حول المبدأ والمعاد والإعتقادات الحقّة، ومن ربطها مع بعضها نحصل على حقائق جديدة. في هذا المقطع من الآيات يجرّ القرآن المشركين في الواقع إلى المحاكمة، ثم يبيّن تفسّخ منطقهم الواهي بخصوص شفاعة الأصنام.

في الآية الاولى يقول تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ». ولكن اعلموا أنّ هذه الأصنام أو الشركاء لا يستجيبون لدعائكم أبداً، ولا يحلّون لكم مشكلة.

ثم تنتقل الآية إلى عرض الدليل على هذا القول، فيقول تعالى: لأنّهم «لَايَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ».

وللإجابة على هذا التساؤل تقول الآية التي بعدها: لو كان هناك شفعاء لدى اللَّه تعالى فإنّهم لا يشفعون إلّابإذنه وأمره: «وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ».

وعليه فإنّ العذر الذي يتعلّل به الوثنيون بقولهم: «هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ» «1». ينتهي بهذا الجواب، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى، لم يجز شفاعتها أبداً.

لذا تقول العبارة بعدها بأنّه في ذلك اليوم تهيمن الوحشة والإضطراب على القلوب، ويستولي القلق على الشافعين والمشفوع لهم بانتظار أن يروا لمن يأمر اللَّه بجواز الشفاعة؟

وعلى من ستجوز تلك الشفاعة؟ وتستمر حالة القلق والإضطراب، حتى حين ... فيزول

______________________________

(1) سورة يونس/ 18.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 102

ذلك الفزع والإضطراب عن القلوب بصدور الأمر الإلهي: «حَتَّى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ».

هنا وحينما يتواجه الفريقان ويتساءلان، (أو أنّ المذنبين يسألون الشافعين): «قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ». فيجيبونهم: «قَالُوا الْحَقَّ». وما الحق إلّاجواز الشفاعة لمن لم يقطعوا إرتباطهم تماماً مع اللَّه.

وتضيف الآية في الختام: «وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ».

وهذه العبارة متمّمة لما قاله «الشفعاء»، حيث يقولون: لأنّ

اللَّه عليّ وكبير فأي أمر يصدره هو عين الحق، وكل حق ينطبق مع أوامره.

في الآية التالية يلج القرآن الكريم طريقاً آخر لإبطال عقائد المشركين، ويجعل مسألة «الرازقية» عنواناً بعد طرحه لمسألة «الخالقية» التي مرّت معنا في الآيات السابقة. يقول تعالى: «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

بديهي أن لا أحد منهم يستطيع القول بأنّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي التي تنزل المطر من السماء، أو تنبت النباتات في الأرض.

الجميل أنّه- بدون إنتظار الجواب منهم- يردف تعالى قائلًا: «قُلِ اللَّهُ».

آخر الآية تشير إلى موضوع يمكنه أن يكون أساساً لدليل واقعي ومتوائم مع غاية الأدب والإنصاف، بطريقة تستنزل الطرف المقابل من مركب الغرور والعناد الذي يمتطيه، وتدفعه إلى التفكر والتأمل. يقول تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

وهذا إشارة إلى: أنّ عقيدتنا وعقيدتكم متضادّتان، وعليه- بناءً على إستحالة الجمع بين النقيضين- فلا يمكن أن تكون الدعوتان على حقّ.

وتستمر الآية التي بعدها بالاستدلال بشكل آخر- ولكن بنفس النمط المنصف الذي يستنزل الخصم من مركب العناد والغرور. يقول تعالى: «قُل لَّاتُسَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

وهنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله مأمور باستعمال تعبير «جرم» فيما يخصّه، وتعبير «أعمال» فيما يخصّ الطرف الآخر، وبذا تتّضح أنّ كل شخص مسؤول أن يعطي تفسيراً لأعماله وأفعاله، لأنّ نتائج أعمال أي إنسان تعود عليه، حسنها وقبيحها.

الآية التالية توضيح لنتيجة الآيتين السابقتين، فبعد أن نبّه إلى أنّ أحد الفريقين على الحق والآخر على الباطل، وإلى أنّ كلّاً منهما مسؤول عن أعماله، إنتقل إلى توضيح كيفية

مختصر الامثل، ج 4، ص: 103

التحقّق من وضع الجميع، والتفريق بين الحق والباطل ومجازاة كل فريق طبق مسؤوليته، فيقول تعالى، قل لهم بأنّ اللَّه سوف

يجمعنا في يوم البعث، ويحكم بيننا بالحق، ويفصل بعضنا عن بعض، حتى يعرف المهتدون من الضالين، ويبلغ كل فريق بنتائج أعماله. «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ».

وإذا كنتم اليوم ترون أنّكم مخلوطون بعضكم البعض، وكلّاً يدّعي بأنّه على الحق وبأنّه من أهل النجاة، فإنّ هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، ولابدّ أن يأتي يوم التفريق بين الصفوف، فربوبية اللَّه إقتضت فصل «الطيب» من «الخبيث» و «الخالص» من «المشوب» و «الحق» عن «الباطل» في النهاية. ويستقرّ كل منهما في مكانه اللائق.

فكّروا الآن ماذا ستعملون في ذلك اليوم، وفي أي صفّ ستقفون، وهل أحضرتم إجابة لمساءلة اللَّه في ذلك اليوم؟

وفي آخر الآية يضيف ليؤكّد حتمية ذلك التفريق فيقول: «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ».

هذان الاسمان- وهما من أسماء اللَّه الحسنى- أحدهما يشير إلى قدرة اللَّه تعالى على عملية فصل الصفوف، والآخر إلى علمه اللامتناهي، إذ إنّ عملية تفريق صفوف الحق عن الباطل لا يمكن تحقّقها بدون هاتين الصفتين.

واستخدام كلمة «الربّ» في الآية أعلاه إشارةً إلى أنّ اللَّه هو المالك والمربّي للجميع، وذلك ممّا يقتضي أن يكون برنامج مثل ذلك اليوم معدّاً، وهي إشارة لطيفة إلى إحدى دلائل «المعاد».

«فتح»: كما يشير الراغب في مفرداته، الفتح إزالة الإغلاق والإشكال. وذلك ضربان:

أحدهما: يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه، وكفتح القفل، والغلق والمتاع؛ والثاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغمّ، وذلك ضروب: أحدها: في الامور الدنيوية كغمّ يُفرج وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، والثاني: فتح المستغلق من العلوم، ... إلى أن يقول: و «فتح القضية فتاحاً» فصل الأمر فيها وأزال الإغلاق عنها». وعليه فإنّ استخدام هذه المفردة هنا لأنّ الحكم والقضاء يتمّ أيضاً هناك، فضلًا عن الفصل والتفريق بينهما الذي هو أحد

معاني كلمة «فتح»- ومجازاة كل بما يستحق.

في الآية الأخيرة من هذه الآيات والتي هي عبارة عن الأمر الخامس للرسول صلى الله عليه و آله يعود القرآن إلى الحديث مرّة اخرى في مسألة التوحيد التي ابتدأ بها ليختمه بها. يقول تعالى:

«قُلْ أَرُونِى الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 104

فبعد هذه الجملة مباشرة، وبكلمة واحدة يشطب على هذه الأباطيل فيقول: «كَلَّا».

فهذه الأشياء لا تستحق أن تعبد أبداً وهذه الأوهام والتصورات ليس لها شي ء من الواقعية.

ثم لأجل تأكيد وتثبيت هذا المعنى يقول مختتماً الحديث: «بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». فعزته وقدرته الخارقة، تقتضي الدخول في حريم ربوبيته، وحكمته تقتضي توجيه هذه القدرة في محلها.

وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) الدعوة العالمية: الآية الاولى من هذه الآيات، تتحدث في نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله، والآيات التي تليها تتحدث حول الميعاد.

أشارت الآيات ابتداءً إلى شمولية دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وعمومية نبوّته لجميع البشر فقالت: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

«كافّة»: من مادة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ للإنسان يقبض على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اخرى. وهنا بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلّا لجميع الناس». أي عالمية دعوة الرسول صلى الله عليه و آله.

وبناءً على ما أشارت إليه الآيات السابقة من أنّ اللَّه سبحانه وتعالى يجمع الناس ويحكم بينهم

تورد هذه الآية سؤال منكري المعاد كما يلي: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

ولكن القرآن الكريم يمتنع دائماً عن الإجابة الصريحة على هذا السؤال وتعيين زمان وقوع البعث، ويؤكّد أنّ هذه الامور هي من علم اللَّه الخاصّ به سبحانه وتعالى، وليس لأحد غيره الإطّلاع عليها.

لذا فقد تكرّر في الآية التي بعدها، هذا المعنى بعبارة اخرى. يقول تعالى: «قُل لَّكُم مّيعَادُ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 105

يَوْمٍ لَّاتَسْتْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ».

إنّ إخفاء تأريخ قيام الساعة- حتى على شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله- كما أسلفنا- لأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تاريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين إقترابه منهم فستكون أعمالهم ذات جنبة اضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان.

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَ أَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) لمناسبة البحث الوارد في الآيات السابقة حول مواقف المشركين إزاء مسألة المعاد، تعرّج هذه الآيات إلى تصوير بعض فصول المعاد المؤلمة لهؤلاء المشركين كي يقفوا على خاتمة

أعمالهم. أوّلًا يقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءَانِ وَلَا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ».

أي ولا بالكتب السماوية السابقة.

فإنّ إنكار الإيمان بكتب الأنبياء السابقين، يحتمل أن يكون المقصود به، نفي نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله من خلال نفي الكتب السماوية الاخرى، باعتبار أنّ القرآن أكّد على موضوع ورود دلائل على نبوّة الرسول صلى الله عليه و آله في التوراة والإنجيل، ولهذا يقولون: نحن لا نؤمن لا بهذا الكتاب ولا بالكتب التي سبقته.

ثم تنتقل إلى الحديث حول وضع هؤلاء في القيامة من خلال مخاطبة الرسول صلى الله عليه و آله فيقول تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 106

في حين أنّ «المستضعفين» الذين اتّبعوا بجهلهم «المستكبرين» وهم الذين سلكوا طريق الغرور والتسلط على الآخرين ورسموا لهم منهجهم الشيطاني، هناك: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ». إنّهم يريدون بذلك إلقاء مسؤولية ذنوبهم على عاتق هؤلاء «المستكبرين»، مع أنّهم لم يكونوا حاضرين للتعامل معهم بمثل هذه القاطعية في دار الدنيا.

لكن «المستكبرين» لا يبقون على صمتهم بل: «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم».

كلّا، فلسنا بمسؤولين، فمع إمتلاككم حرية الإرادة، استسلمتم لأحاديثنا الباطلة، وكفرتم وألحدتم متناسين أحاديث الأنبياء المنطقية، «بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ».

ولكن المستضعفين لا يقتنعون بهذا الجواب، ويعاودون القول مرّة اخرى لإثبات جرم المستكبرين: «وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَروا بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا».

فصحيح أنّنا كنّا أحراراً في القبول بذلك، ولكن باعتباركم عامل الفساد فأنتم مسؤولون ومجرمون، خاصة وأنّكم كنتم تتحدثون معنا دائماً من موقع القدرة والسلطة.

لذا فإنّ الفريقين يندمون على ما قدّمت

أيديهم، المستكبرون على إضلالهم للآخرين، والمستضعفون على إيمانهم وقبولهم بتلك الأباطيل المشؤومة، ولكن لكي لا يفتضحوا أكثر فانّهم يكتمون الندم حينما يواجهون العذاب الإلهي ... «وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْللَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا».

فهم في الدنيا حينما يلتفتون إلى إشتباههم ويندمون لم يكونوا يمتلكون الشجاعة لإظهار ندمهم الذي هو أوّل طريق التوبة وإعادة النظر، وتلك هي الخصلة الأخلاقية الخاصة بهم والتي يمارسونها في الآخرة أيضاً.

فإنّ هؤلاء قد وجدوا نتائج أعمالهم: «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

فالآية تشير أيضاً إلى قضية تجسم الأعمال.

التعبير ب «الذين كفروا» يشير إلى أنّ فريقي الغاوين والمغويين المستضعفين وكل الكفار يلقون ذلك المصير.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 107

وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة في الغاوين من المستكبرين، فإنّ جانباً آخر من هذا المبحث تعكسه الآيات أعلاه بطريقة اخرى، فتقول الآية المباركة: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ».

«نذير»: من «الإنذار» وهو الإخبار الذي فيه تخويف، وإشارة إلى أنبياء اللَّه الذين ينذرون الناس من عذاب اللَّه في قبال الانحرافات والظلامات والذنوب والفساد.

«مترفوها»: جمع «مترف» من مادة «ترف» بمعنى «التوسّع في

النعمة» و (المترف) الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش، وأترفته النعمة أي أطغته.

تشير الآية التالية إلى المنطق الأجوف الذي يتمسك به هؤلاء لإثبات أفضليتهم ولاستغفال العوام فتقول: «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلدًا».

إنّ اللَّه يحبّنا، فقد أعطانا المال الوفير، والقوّة البشرية، وذلك دليل على لطفه بحقّنا وإشارة إلى مقامنا وموقعنا عنده، ولذلك لن نعاقب أبداً «وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

الآية التي بعدها تردّ بأرقى اسلوب على هذا المنطق الأجوف الخدّاع وتنسفه من الأساس، وبطريق مخاطبة الرسول صلى الله عليه و آله تقول الآية الكريمة: قل لهم: إنّ ربّي يرزق من يشاء ويقدر لمن يشاء، وذلك أيضاً طبق مصالح مرتبطة بامتحان الخلق وبنظام حياة الإنسان، وليس له أي ربط بقدر ومقام الإنسان عند اللَّه سبحانه وتعالى: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

وعليه فلا يجب إعتبار سعة الرزق دليلًا على السعادة، وقلّته على الشقاء، «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ». طبعاً أكثر الجهّال المغفّلين هم كذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 108

ثم تتابع الآيات هذا المعنى بصراحة أكثر. تقول: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلدُكُم بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى .

ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ امتلاك الإمكانات الاقتصادية والقوة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند اللَّه.

ثم تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل استثناء منفصل) فتقول: «إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ».

وعليه فجميع المعايير تعود أصلًا إلى هذين الأمرين «الإيمان» و «العمل الصالح».

هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كل الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من اللَّه.

كلمة «ضعف» ليست بمعنى

«مضاعفة الشي ء مرتين» فقط، بل بمعنى «أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين»، وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى.

«غرفات»: جمع «غرفة» بمعنى الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل، وبعيدة عن الآفات.

التعبير ب «آمنون» فيما يخصّ أهل الجنة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي.

الآية التالية تصف الفريق المقابل لهؤلاء، فتقول: أمّا هؤلاء الذين يسعون ويجتهدون لتسفيه آياتنا، لا يؤمنون ولا يتركون غيرهم يسيرون في طريق الإيمان، ويتوهّمون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرتنا، هؤلاء يحضرون في عذاب أليم يوم القيامة «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولئِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ».

هؤلاء هم الذين اعتمدوا على أموالهم وأولادهم وكثرة عددهم لتكذيب الأنبياء، وعملوا على إغواء عباد اللَّه.

«معاجزين»: كما ذهب بعض أرباب اللغة إلى أنّ معناه أنّ هؤلاء تصوروا أنّهم يستطيعون الفرار من دائرة قدرة اللَّه تعالى وجزائه وعقابه، إلّاأنّ هذا التوهّم باطل وسراب خادع.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 109

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَ هؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لَا ضَرّاً وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) نفور المعبودين من عابديهم: تعود هذه الآيات لتؤكّد مرّة اخرى خطأ الذين يتوهمون بأنّ أموالهم وأولادهم سبب لقربهم من اللَّه فتقول: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ».

ثم تضيف الآية: «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ

وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

وفي الكافي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة».

والجدير بالتذكير هو أنّ الإنفاق يجب أن يكون من المال الحلال والكسب المشروع، وإلّا فلا قبول لغيره عند اللَّه ولا بركة فيه.

فمع أنّ محتوى هذه الآية يؤكّد ما عرضته الآيات السابقة إلّاأنّ هناك ما هو جديد من جهتين:

الاولى: أنّ الآية السابقة التي عرضت نفس المفهوم، كانت تتحدث عن أموال وأولاد الكفار، بينما الآية محل البحث باحتوائها على كلمة «عباد» تشير إلى المؤمنين.

الثانية: الآية السابقة أشارت إلى سعة الرزق وضيقه بالنسبة إلى مجموعتين مختلفتين، في حين أنّ هذه الآية تشير إلى حالتين مختلفتين بالنسبة لشخص واحد، حيناً يتّسع رزقه وحيناً يضيق.

ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة، فقد ردّ القرآن على هذا الإدعاء الباطل فقال: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلِكَةِ أَهؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ».

والهدف من هذا السؤال هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم، فيصيبهم اليأس إلى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 110

الأبد. ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون، أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء)، ولذا عبدوها.

والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري ء عزّ وجل؟ لقد اختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً: «قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُؤْمِنُونَ».

والمقصود (بالجن) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على

ذلك العمل، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجن هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.

لذا- وكاستخلاص للنتيجة- تقول الآية الكريمة التي بعدها: «فَالْيَوْمَ لَايَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفَعًا وَلَا ضَرًّا». وبناءً على ذلك فلا الملائكة- الذين هم ظاهراً معبودون- يستطيعون الشفاعة لهم، ولا هم يستطيعون مساعدة بعضهم البعض.

«وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

التعبير عن «الكفر» ب «الظلم». أو عن «الكافرين والمشركين» ب «الظالمين»، ذلك لأنّهم قبل كل شي ء ظلموا أنفسهم بخلعهم تاج العبودية للَّه عن رؤوسهم.

وفي الحقيقة فإنّهم سيعاقبون يوم القيامة على شركهم وعلى إنكارهم للمعاد.

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) بأيّ منطق ينكرون آيات اللَّه: تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 111

السابقة حول المشركين الكفار وأقوالهم يوم القيامة، فتتحدث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتى يتّضح أنّ مصيرهم الاخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات اللَّه في الدنيا. تقول الآية الكريمة الاولى: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُوا مَا هذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُكُمْ».

فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء «الآيات البينات» وهو السعي إلى تحريك حس العصبية في هؤلاء القوم المتعصبين.

ثم توضّح الآية مقولتهم الثانية التي قصدوا بها إبطال

دعوة النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «وَقَالُوا مَا هذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى».

«إفك»: بمعنى كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه.

وأخيراً، كان الإتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرسول صلى الله عليه و آله هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

في الآية التي بعدها، يشطب القرآن الكريم على جميع تلك الإدّعاءات الواهية، فيقول:

«وَمَا ءَاتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ».

وهي إشارة إلى أنّ هذه الإدّعاءات يمكنها أن تكون مقبولة فيما لو جاءهم رسول من قبل بكتاب سماوي يخالف مضمونه الدعوة الجديدة، فلا بأس أن ينبروا لتكذيبها. أمّا من لا يعتمد إلّاعلى فكره الشخصي- بدون أي وحي من السماء- وبدون أن يكون له نصيب من علم، فلا يحق له الحكم لمجرد تلفيقه الخرافات والأوهام.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تهدّد تلك المجموعة المتمردة بكلمات بليغة مؤثرة فتقول:

«وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ» في حين أنّ هؤلاء لم يبلغوا في القوة والقدرة عشر ما كان لُاولئك الأقوام «وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ».

فمدنهم المدمّرة بضربات العقوبة الإلهية الساحقة ليست ببعيدة عنكم ... فهي في الشام القريب منكم، فليكونوا لكم مرآةً للعبرة، واستمعوا إلى النصائح التي يقولها الدمار، وقارنوا مصيركم بمصيرهم، فلا السنّة الإلهية قابلة للتغيير ولا أنتم أقوى منهم.

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَ فُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 112

الثورة الفكرية أساس لأي ثورة أصيلة: في هذا المقطع من الآيات والآيات التالية، والتي تشكّل أواخر سورة سبأ المباركة، يُؤمر الرسول الأكرم صلى

الله عليه و آله مرّة اخرى بدعوة هؤلاء بالأدلة المختلفة ليؤمنوا بالحق، ويرجعوا عن ضلالهم. ففي الآية الاولى إشارة إلى اللبنة الأساسية في كل التحولات والتبدّلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فتقول: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».

الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول هنا «تتفكّروا» دون أن يذكر بماذا؟ فحذف المتعلق دليل على العموم، أي في كل شي ء، في الحياة المعنوية والمادية، في الامور الكبيرة والصغيرة، وبكلمة: في كل أمر يجب التفكر أوّلًا، وأهمّ من ذلك كله هو التفكر للعثور على الإجابة للأسئلة الأربعة التالية: من أين جئت؟ لأيّ شي ء أتيت؟ إلى أين أذهب؟ وأين أنا الآن؟

تعبير «صاحبكم» إشارة إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وإنّه ليس نكرة بالنسبة لكم، لقد عرفتموه بالأمانة والصدق والإستقامة.

«جنّة»: بمعنى «جنون» وفي الأصل من مادة «جن» بمعنى ستر الشي ء عن الحاسّة، ومن كون أنّ (المجنون) سُتر عقله، فقد اطلق عليه هذا التعبير، والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ العبارة تريد الكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ من يدعو إلى التفكر والإنتباه كيف يكون هو مجنوناً.

جملة «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم» تلخص رسالة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في مسألة «الإنذار» أي:

التحذير من المسؤولية، ومن المحكمة الإلهية، والعقاب الإلهي.

فالآية السابقة كانت دعوة للتفكر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وفي مطلع هذه الآيات، يتحدث القرآن في عدم مطالبة الرسول صلى الله عليه و آله بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة. تقول الآية الاولى: «قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ

أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».

أنا دعوتكم للتفكر، والآن تأمّلوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل، لأنّي أساساً لم اطالبكم بأي أجر أو جزاء.

وأنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن اللَّه سبحانه وتعالى، قلت لكم: «لَّا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 113

أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى «1». فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) واستمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.

ثم تختم الآية بالقول: «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ». فإن كنت اريد أجري من اللَّه وحده فلأنّه وحده عالم بكل أعمالي ومطّلع على نواياى.

بالإلتفات إلى ما قيل حول حقانية دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، تضيف الآية التي بعدها قائلة أنّ القرآن واقع غير قابل للإنكار لأنّه ملقى من اللَّه سبحانه وتعالى على قلب الرسول صلى الله عليه و آله: «قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلمُ الْغُيُوبِ».

«يقذف»: من مادة «قذف» وهو الرمي البعيد. والمقصود ب «يقذف بالحق» هو الكتب السماوية والوحي الإلهي على قلوب الأنبياء والمرسلين، ولأنّه سبحانه وتعالى هو علّام الغيوب، فهو يعلم بالقلوب المهيّأة، فينتخبها ويقذف الوحي فيها حتى ينفذ إلى أعماقها.

ويحتمل أن يكون المقصود بتعبير «القذف» هنا هو نفوذ حقّانية القرآن إلى نقاط العالم القريبة والبعيدة، وهي إشارة إلى أنّ هذا الوحي السماوي سيضي ء جميع العالم بنوره في نهاية الأمر.

بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: «قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ». وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحق، لا خطّة اولى جديدة، ولا خطّة معادة، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحق ومحو أثره من

القلوب.

ثم يضيف تعالى لأجل إيضاح أنّ ما يقوله صلى الله عليه و آله هو من اللَّه، وأنّ كل هداية منه، وأن ليس هناك أدنى خطأ أو نقص في الوحي الإلهي: «قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى». أي: إنّني لو اتّكلت على نفسي فسوف أضلّ، لأنّ الإهتداء إلى طريق الحق من بين أكداس الباطل ليس ممكناً بغير إمداد اللَّه، ونور الهداية الذي ليس فيه ضلال وتيه هو نور الوحي الإلهي.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ».

______________________________

(1) سورة الشورى 23.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 114

قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) ليس للكافرين مفرّ: الآيات الأخيرة من سورة سبأ تعود إلى الحديث في المشركين المعاندين الذين مرّ الحديث فيهم في الآيات السابقة عن طريق مخاطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فتصوّر حال تلك المجموعة عند وقوعها في قبضة العذاب الإلهي، كيف تفكّر في الإيمان، حين لا يكون لإيمانهم أدنى فائدة. يقول تعالى: «وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ».

وذلك الصراخ والفزع والإضطراب تتحدث عن الدنيا وعذاب الإستئصال، أو لحظة تسليم الروح، إذ يقول تعالى في الآية الأخيرة من هذا المقطع: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ».

والمقصود من جملة «أُخِذُوا مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ» هو أنّ هؤلاء الأفراد الكافرين والظالمين، ليس فقط لا يمكنهم

الفرار من يد القدرة الإلهية فحسب، بل إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يأخذهم بالعذاب من مكان قريب منهم جدّاً.

الآية التي بعدها، تعرض وضع هؤلاء بعد أن أخذهم العذاب الإلهي تقول الآية الكريمة:

«وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ». ولكن «أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

نعم فبحلول الموت وعذاب الإستئصال اغلقت أبواب العودة كليّاً، وحيل كالسدّ المحكم بين الإنسان وبين أن يكفّر عن ذنوبه، لذا فإنّ إظهار الإيمان في ذلك الحين، كأنّه كائن من مكان بعيد، وهو إيمان إضطراري بسبب الخوف الشديد من العذاب الذي يعاين هناك، مثل ذلك الإيمان أصلًا لا قيمة له.

«التناوش»: من مادة «نوش» بمعنى التناول، وبعضهم اعتبروا أنّها بمعنى «التناول بسهولة». أي كيف يتناولون الإيمان من مكان بعيد ولم يكونوا يتناولونه من قريب.

كيف يستطيعون الآن وبعد أن انتهى كل شي ء أن ينبروا لجبران خطاياهم ويؤمنوا، في حين أنّهم قبل هذا كفروا: «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 115

ولم يكتفوا بالكفر فقط، بل إنّهم ألصقوا بالرسول صلى الله عليه و آله وبتعاليمه مختلف أنواع التّهم، وحكموا أحكاماً خاطئة فيما يخصّ (عالم الغيب- والقيامة- والنبوّة): «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

«القذف»: الرمي من بعيد؛ و «الغيب» هو عالم ماوراء الحس، والجملة كناية لطيفة عمّن يطلق أحكامه على عالم ما وراء الطبيعة بلا سابق علم أو معرفة، كمن يرمي شيئاً من نقطة بعيدة، فقلّما يصيب الهدف، فظنونهم وأمانيهم وأحكامهم لا تصيب أهدافها أيضاً.

ثم يضيف تعالى: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ».

ففي لحظة مؤلمة فصل بينهم وبين كل ثرواتهم وأموالهم، وقصورهم ومقاماتهم، وأمانيهم، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية ... كيف سيكون

حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كل ذلك وداعاً أخيراً، ثم يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش.

«نهاية تفسير سورة سبأ»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 117

35. سورة فاطر

محتوى السورة: يمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:

1- قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدث حول آثار عظمة اللَّه في عالم الوجود، وأدلة التوحيد.

2- قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية اللَّه، وعن خالقيته ورزاقيته، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.

3- قسم آخر يتحدث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة اللَّه الواسعة في الدنيا، وسنّته الثابتة في المستكبرين.

4- قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين، ومواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في هذا الخصوص.

5- القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكمّلًا لها.

سمّيت هذه السورة ب «فاطر» أو «الملائكة» لابتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر» و «الملائكة».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الملائكة،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 118

دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنة أن ادخل من أيّ الأبواب شئت».

ومع الإلتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنة، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الإعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد- المعاد- النبوّة».

ونقول كما قلنا سابقاً بأنّ القرآن برنامج عمل، وتلاوته بداية للتفكر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات، وكل هذا الثواب العظيم يتحقق بهذه الشروط.

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَ ثُلَاثَ وَ رُبَاعَ يَزِيدُ فِي

الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فاتح مغاليق الأبواب: تبدأ هذه السورة بحمد اللَّه والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح.

يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«فاطر»: من مادة «فطر» وأصله الشقّ طولًا، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ ظلمة العدم وظهور نور الوجود، استخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق.

ولأنّ تدبير امور هذا العالم قد نيطت من قبل الباري ء عزّ وجل- بحكم كون عالمنا عالم أسباب- بعهدة الملائكة، فالآية تنتقل مباشرةً إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها اللَّه إيّاها. «جَاعِلِ الْمَلِكَةِ رُسُلًا أُولِى أجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

إنّ المقصود من الرسالة مفهوم واسع يشمل كلًا من «الرسالة التشريعية» و «الرسالة التكوينية».

«أجنحة»: جمع «جناح» ما يستعين به الطائر على الطيران، وهو بمثابة اليد في الإنسان،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 119

ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الإنتقال والحركة والفعالية، فقد استخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والاستطاعة؛ والمقصود في الآية هو القدرة على الإنتقال والتمكن من الفعل.

بعد الحديث عن خالقية اللَّه سبحانه وتعالى، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة اللَّه سبحانه، والتي هي الأساس لكل عالم الوجود. تقول الآية الكريمة: «مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ

مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده، وهو يفيض منها على كل من يراه أهلًا لها.

وتشير الآية التالية إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد الخالقية والرازقية» فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ».

فكّروا ملياً ما هو منشأ كل هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم ... «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

فإذا علمتم أنّ مصدر كل هذه البركات هو اللَّه، فاعلموا أنّ: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل، وتسجدون للأصنام بدلًا من السجود للَّه سبحانه؟ «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَ لَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) لا يغرنّكم الشيطان والدنيا: بعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول صلى الله عليه و آله ويوجّه الخطاب إليه أوّلًا، ثم لعموم الناس، وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.

في البداية تقدم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي، والذي هو أهمّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 120

الدروس له، فتقول الآية الكريمة: «وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ». فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة، وتؤدّي رسالتك، والبقية بعهدة اللَّه: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ». فهو

الناظر والرقيب على كل شي ء، وسوف يحاسب على جميع الأعمال. فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب.

ثم تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها اللَّه تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: «فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ». فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو اللَّه ورحمته ..

أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهية العظيمة.

«غَرور»: صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع، والظاهر أنّه إشارة الشيطان.

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول: «إِنَّ الشَّيْطنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا».

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم عليه السلام.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر: «إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ». «حزب»: في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنّها تطلق عادةً على كل مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً.

إنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات إلى الشرك والطغيان والإضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنم وبئس المصير.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة «حزب اللَّه» السعيدة وخاتمة «حزب الشيطان» المريرة، فتقول: «الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ».

إنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 121

أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ

يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) تبيّن ممّا مرّ تقسيم الناس إلى مجموعتين «المجموعة المؤمنة» و «المجموعة الكافرة» أو «حزب اللَّه» و «حزب الشيطان»، وتنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى الخصائص المهمة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر برامجهما. تقول الآية الاولى: «أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا». هل هو كمن يرى الحقائق كما هي من حيث الحسن والقبح؟!

إنّ هذه القضية هي المفتاح لكل مصائب الأقوام الضالة والمعاندة، الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالًا جميلة، وذلك لإنسجامها مع شهواتهم وقلوبهم المعتمة.

أمّا من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟

مما لا شك فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان، ولكن لأنّ اللَّه هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم، فيمكن نسبة ذلك إلى اللَّه تعالى، لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الإرتياح حين إرتكاب المعصية، لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الإرتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الإكتراث. ثم إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلًا في نظره، حتى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله، والحال أنّه يغطّ في بِركة آسنةٍ من التعاسة والشقاء.

ثم يضيف القرآن موضّحاً علّة الفرق بين الفريقين فيقول: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ».

وواضح أنّ هذه

المشيئة الإلهية توأم لحكمته تعالى، وإنّما تعطى لكل ما يناسبه، لذا فإنّ الآية تضيف في الختام: «فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ».

ذلك لأجل: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 122

واستناداً إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر، تقول الآية الكريمة: «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ». نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح، ثم في حركة السحاب، ثم في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة، ثم في حياة الأرض الميتة، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير اموره.

الآن، وبعد هذا المبحث التوحيدي، تشير الآية إلى الإشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لإعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم، فتقول الآية: «مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا».

«العزّة»: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ... من قولهم: أرض عزاز، أي صُلبة.

ولأنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب، وعليه فإنّ العزّة جميعها من اللَّه، وكل من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي.

في كتاب كفاية الأثر عن جنادة بن أبي اميّة قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة، من السم الذي أسقاه معاوية (لعنه اللَّه)، فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال: «يا عبد اللَّه، بماذا اعالج الموت؟»

قلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

ثم التفت إليّ فقال: «لقد عهد إلينا رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منّا إلّامسموم أو مقتول». ثم رفعت الطشت وبكى صلوات اللَّه عليه وآله قال: فقلت له: عظني يابن رسول اللَّه قال: «نعم ... وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية اللَّه إلى عزّ طاعة اللَّه عزّ وجل ...» الحديث.

ثم توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزة)، فيقول تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».

فقد فسّر «الكلم الطيب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 123

ثم تنتقل الآية إلى ما يقابل كل ذلك فتقول: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ».

«يبور»: من مادة «بوار» و «بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء. وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَ لَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَ مَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) مع الإلتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد وصفات اللَّه، تتعرض هذه الآيات أيضاً إلى قسم آخر من آيات «الأنفس والآفاق» التي تدلّل على قدرة اللَّه من جانب، وعلى علمه من جانب آخر، وقضية إمكانية المعاد من جانب ثالث.

في البداية تشير إلى

خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول: «وَاللَّهُ خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا».

وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق الإنسان: الطين- والنطفة- ومرحلة الزوجية.

بديهي أنّ الإنسان من التراب، إذ إنّ آدم عليه السلام خلق من تراب، كما أنّ جميع المواد سواء التي يتشكّل منها جسم الإنسان، أو التي يتغذّى عليها، أو التي تنعقد منها نطفته، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب.

ثم ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة، «حمل النساء» و «الولادة» فيقول تعالى: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ».

أين ذلك التراب الميّت الجامد من الإنسان الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكوّن من بضع قطرات من الماء المتعفن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهز بالحواس والأجهزة العضوية المختلفة.

ثم تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل بانتقالها إلى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 124

حلقة اخرى، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثّرة في زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة: «وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِى كِتَابٍ». «معمّر»: من مادة «عُمْر» في الأصل من «العمارة» نقيض الخراب، والعمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة خلال مدة معيّنة.

المقصود من «الكتاب» هو العلم الإلهي اللامحدود.

وأخيراً تختم الآية بهذه الجملة: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».

فخلق هذا الموجود العجيب من التراب، وبدء خلق إنسان كامل من «ماء النطفة» وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس، ثم الزوجية، والحمل، والولادة، وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة، وذلك بمجموعه يمثّل جانباً من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من

جهة اخرى.

إنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر، والتي أصبح أكثرها معروفاً عند الناس، كالتغذية الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط، العمل وإدامة الحركة، تحاشي المواد المخدّرة، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية، الإبتعاد عن المهيّجات المستمرة، التمسك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش بإطمئنان وهدوء في الملمّات، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.

وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عوامل اخرى والروايات أكّدت عليها، وكنموذج نورد الروايات التالية:

أ) في مكارم الأخلاق للطبرسي عن الرسول صلى الله عليه و آله قال: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار».

ب) وفي وسائل الشيعة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء».

تشير الآية التالية- التي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى- إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها، فتقول الآية الكريمة: «وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ».

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 125

السماء إلى الأرض، وأنّ كليهما من أصل واحد، إلّاأنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً وبفوائد متفاوتة أيضاً.

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كل منهما: «وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا». علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والإنتقال «وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

يستخرج من البحار وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ- والمرجان- والصدف- والدرّ)، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحس الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي

يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة إلى إشاعة السرور في النفس.

إنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاخرى.

وتأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.

جملة «لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ» لها معنى واسع وشامل لكل فعالية اقتصادية تعتمد على البحر.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَ يُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي، وليرجع عن أي شرك أو عبادة خرافية. يقول تعالى: «يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ».

«يولج»: من مادة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 126

المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة، مما يؤدي إلى حصول الفصول المختلفة بكل آثارها وبركاتها، أو الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجى ء من النور إلى الظلام وبالعكس. ثم يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ».

وأي تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر، وهذا

التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر.

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: «كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى».

ثم يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ».

اللَّه الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكل بركاتها. «لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ».

«قطمير»: هو الأثر في ظهر النواة، وهنا كناية عن موجودات حقيرة تافهة.

ثم تضيف الآية: «إِن تَدْعُوهُمْ لَايَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ»، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ».

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتى بمقدار (قطمير).

وأدهى من ذلك «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ».

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى:

«وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ».

ثم يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك اللَّه تعالى: «وَلَا يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ».

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا تتعجبوا من هذا القول، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكل ما في هذا الكون بالتفصيل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 127

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ مَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا

يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أيّ شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة اللَّه لأن يُعبد بحيث يصرّ كل هذا الإصرار، فتقول الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ».

فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو اللَّه تعالى، وكل البشر بل كل الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم.

فنحن المحتاجون والفقراء إلى اللَّه ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين إستغنائه عن كل أحد، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر.

الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به، وأنّهم مؤتمنون على كل ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا يمدّوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير اللَّه في أعناقهم.

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان، يقول تعالى في الآية التالية: «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ». فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم.

وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى: «وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ».

نعم، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على جميع عالم

الوجود.

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلق بما سبق بحثه في الآيات السابقة:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 128

الأوّل: من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: «إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ». سؤالًا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين، ويُحكمون بالفناء على حد سواء؟ هنا يجيب: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

«وزر»: بمعنى الثقل، وقد اخذ من «وَزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية.

وهذه الجملة ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كل بعمله، ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة.

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: «وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَايُحْمَلْ مِنْهُ شَىْ ءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى «1».

وفي الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرسول صلى الله عليه و آله لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: «إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَّبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ».

فإن لم يكن خوف اللَّه متمكّناً من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوة غيبية في السرّ أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير باللَّه في تقوية ذلك الإحساس ... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اخرى إلى حقيقة (إنّ اللَّه غير محتاج لأحد) فتضيف: «وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ».

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهمية ما دام المصير إلى اللَّه: «وَإِلَى

اللَّهِ الْمَصِيرُ».

وَ مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لَا الظُّلُمَاتُ وَ لَا النُّورُ (20) وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ (21) وَ مَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَ لَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)

______________________________

(1) «مثقلة»: بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 129

وما تستوي الظلمات ولا النور: تذكر الآيات مورد البحث- بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة- أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.

في المثال الأوّل: شبّه «الكافر والمؤمن» ب «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة:

«وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ».

الإيمان نور وإشراق، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم، وفي الإعتقاد، والعمل وفي كل الحياة، أمّا الكفر فظلمة كالحة، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم، ولا عمل صالح.

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقق الرؤية، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضاً لكي يستطيع الإنسان الإبصار بمساعدة هذين العاملين، تضيف الآية التالية: «وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ».

لأنّ الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبّب لكل أنواع المخاطر، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل.

ثم تضيف الآية: «وَلَا الظّلُّ وَلَا الْحَرُورُ». فالمؤمن يستظل في ظل إيمانه بهدوء وأمن وأمان، أمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

ثم يقول تعالى في آخر تشبيه: «وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ». المؤمنون حيويون، سعاة متحركون، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظل لها، ولا تصلح إلّاحطباً للنار.

وفي ختام الآية يضيف تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ». لكي يسمع دعوة الحق

ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء «وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ».

فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريباً من القلب، ومهما كان بيانك معبّراً، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شي ء من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أن ليس لديه الإستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم، ولا تجزع، فليس عليك من وظيفة إلّاالإبلاغ والإنذار «إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 130

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) لا عجب من عدم إيمان: توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفراداً كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيراً.

أوّلًا تقول الآية الكريمة: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ».

أوصل نداءك إلى مسامعهم، بشّرهم بثواب اللَّه، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.

ويضيف تعالى في الآية التالية: «وَإِن يُكَذّبُوكَ». فلا عجب من ذلك، ولا تحزن بسبب ذلك، لأنّه «فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ».

«البيّنات»: بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقانية النبي؛ والمقصود ب «الزبر»: ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود)؛ وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة

والإنجيل والقرآن.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول: «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا» «1». فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي، وإن استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيراً لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول: «فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ». ذلك تماماً

______________________________

(1) «أخذت»: من مادة «أخذ» بمعنى حيازة الشي ء وتحصيله، لكنّها هنا كناية عن المجازاة، لأنّ الأخذ مقدّمةللعقاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 131

مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهم ثم يسأل الحاضرين: كيف كان عملي؟

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَ مِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) العجائب المختلفة للخلقة: مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصبين. أوّلًا تقول الآية الكريمة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا».

شروع هذه الجملة بالإستفهام التقريري، وبتحريك حس التساؤل لدى البشر، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر من موقع طلب الحقيقة أبصرها.

نعم، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان»: قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» أو كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها.

ثم تشير الآية إلى تنوع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة

عن الاخرى، فتقول: «وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ».

«جدد»: جمع «جدّة» بمعنى الجادة والطريق.

«بيض»: جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب»: جمع «غربيب»- على وزن كبريت- وهو الشبيه للغراب في السواد.

فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة اخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة اللَّه سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كل آن بشكل جديد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 132

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوع الألوان في البشر والأحياء الاخرى، فيقول تعالى:

«وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ».

فالبشر مع كونهم جميعاً لأب واحد وام واحدة، إلّاأنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماماً، فالبعض أبيض البشرة كالوفر، والبعض الآخر أسود كالحبر، وحتى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضاً.

ناهيك عن التفاوت والإختلاف الكامل في بواطنهم عدا أشكالهم الظاهرية، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم وإستعداداتهم وذوقهم.

وبعد عرض تلك الأدلة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعاً: نعم إنّ الأمر كذلك «كَذلِكَ».

ولأنّ إمكانية الإنتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكرين يقول تعالى في آخر الآية: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمؤُا».

نعم فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة اللَّه سبحانه»، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة اللَّه وغاية الخلق.

الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها».

روي- في تفسير مجمع البيان- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق فعله قوله

فليس بعالم».

وفي ختام الآية يقول تعالى، كدليل موجز على ما مرّ: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ».

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء، و «غفرانه» سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدّسين يحفظان عباد اللَّه بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الإتصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافي ء.

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 133

التجارة المربحة مع اللَّه: بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضاً. يقول تعالى أوّلًا: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ».

إنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكر والتأمل، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح، الذي يربط الإنسان باللَّه من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه بخلق اللَّه من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كل ما تفضّل به اللَّه تعالى على الإنسان.

هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً)، فيكون دليلًا على الإخلاص الكامل؛ وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر اللَّه ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول: إنّهم يعملون الخيرات والصالحات «لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ».

هذه الجملة تشير إلى منتهى إخلاصهم، لأنّهم لا ينظرون إلّاإلى الأجر الإلهي.

وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ

أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه، تتحدث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقانيته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة. تقول الآية الكريمة:

«وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ».

جملة «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي.

جملة «إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» توضّح علة حقانية القرآن وإنسجامه مع الواقع جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 134

والحاجات البشرية، لأنّه نازل من اللَّه سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلق بحاجاتهم. «الخبير»: العالم بالبواطن والعقائد والنيات والبُعد الروحي في الإنسان؛ و «البصير»:

العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

الآية التالية تتحدث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم، اولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور، وهم يحفظونه ويحرسونه، فتقول: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا».

والمقصود من «الكتاب» هنا، «القرآن الكريم».

إنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد، واللَّه سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا

مشقّة أو جهد.

ثم تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص، فتقول: «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي، بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله إلى هذه الامة، الامة التي إصطفاها اللَّه سبحانه، غير أنّ في تلك الامة مجاميع مختلفة: بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم مصداق «ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ».

ومجموعة اخرى، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير، وإن كان عملها لا يخلو من بعض الزلّات والتقصيرات أيضاً.

وأخيراً مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 135

الحمد للَّه الذي أذهب عنا الحزن: هذه الآيات نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية.

يقول تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا».

«جنات»: جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض؛ و «عدن»: بمعنى الإستقرار والثبات، وعليه فإنّ «جنات عدن» بمعنى «جنات الخلد والدوام والإستقرار». فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنة العظيمة خالدة وثابتة.

ثم تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنة، بعضها إشارة إلى جانب مادي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات.

فتقول الآية: «يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ».

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر، واللَّه سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كل ذلك، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

بعد ذكر تلك النعمة المادية، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصة فتقول: «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ».

«الحزن»: (على وزن عدم)، و

«الحزن»- على وزن عُسر- كليهما لمعنىً واحد، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم ويضادّه الفرح.

ثم يضيف أهل الجنة هؤلاء: «إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ».

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلّات والذنوب، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغم بظلاله المشؤومة.

أخيراً تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقة والتعب والعذاب، فتحكي عن ألسنتهم «الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَايَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ».

«النصب»: بمعنى التعب؛ و «اللغوب»: يطلق على المشاقّ الروحية.

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة، سواء كانت نفسية أو جسمانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 136

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) ربّنا أخرجنا نعمل صالحاً: القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر «الإنذارات»، إلى جانب «البشارات» لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في الإنسان. فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية، ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات الأليمة للكفار، والحديث هنا أيضاً عن العقوبات المادية والمعنوية. تبتدى ء الآيات بالقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ»، فكما أنّ الجنة دار المقامة والخلد للمؤمنين، فإنّ النار أيضاً مقام أبدي للكافرين.

ثم تضيف: «لَايُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا». فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص من العذاب، لكن اللَّه تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.

يبقى منفذ آخر هو

أن يبقوا على قيد الحياة ويخفّف عنهم العذاب شيئاً فشيئاً، أو أن يزداد تحمّلهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم، ولكن تتمّة الآية أغلقت هذا المنفذ أيضاً: «وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مّنْ عَذَابِهَا».

ثم تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي: «كَذلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ».

فجزاء الكفار ليس سوى الحريق والعذاب الأليم، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص، فتقول الآية الكريمة: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ» «1».

______________________________

(1) «يصطرخون»: من مادة «صرخ» بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للإستغاثة وطلب النجدة، للتخلّص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 137

فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة، يغرقون في ندم عميق، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.

ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه اولئك من اللَّه سبحانه وتعالى، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول: «أَوَلَمْ نُعَمّرْكُم مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ». فإذا لم تنتفعوا بكل ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كل الفرص الكافية المتاحة «فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ».

في الآية الأخيرة- من هذه الآيات- يرد الجواب على طلب الكفار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنم، وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها.

إضافةً إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم، وأن

لا يأخذوا بنظر الاعتبار غير اللَّه سبحانه وتعالى.

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَ لَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) تنتقل الآيات إلى مرحلة اخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول أوّلًا:

«هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلِفَ فِى الْأَرْضِ».

«خلائف»: هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي اللَّه في الأرض، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين، فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث إنّه قيّض لهم جميع إمكانات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 138

الحياة، أعطاهم العقل والشعور والإدراك، وعلّمه طريقة الاستفادة من تلك الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي. هذه الجملة بيان ل «توحيد الربوبية» الذي هو دليل على «توحيد العبادة». وهذه الجملة أيضاً تنبيه للبشر جميعاً ليعلموا بأنّ مكثهم ليس أبديّاً ولا خالداً، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلّامدّة حتى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم.

لذا تردف الآية قائلة: «فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا».

فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول اولئك الذين ارتكبوا السيئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكّرهم

بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمراً أو تعلّق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل نقلي ثابت، وأنتم أيّها الكفار حيث لا تملكون أيّاً من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور. تقول الآية الكريمة: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّموَاتِ». فهل خلقوا شيئاً في الأرض، أم شاركوا اللَّه في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها، لأنّ كون الشي ء معبوداً فرع كونه خالقاً.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلًا عقلياً على ادّعائكم، فهل لديكم دليل نقلي؟

«أَمْ ءَاتَيْنهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيّنَتٍ مِّنْهُ».

كلّا، فليس لديهم أيّ دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية، إذاً فليس لديهم سوى المكر والخديعة: «بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا».

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية اللَّه سبحانه وتعالى على مجموعة السماوات والأرض، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي اشتراك المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا».

فليس بدء الخلق- فقط- مرتبطاً باللَّه، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضاً، بل إنّ المخلوقات في كل لحظة لها خلق جديد، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض، فليس إلّاالعدم والفناء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 139

وللتأكيد تضيف الآية قائلة: «وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ».

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة، ولا غير ذلك، لا أحد غير اللَّه قادر على ذلك.

وفي ختام الآية- لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحاً- يقول تعالى محبّذاً لهم

التوبة في كل مرحلة من الطريق: «إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا».

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم- بشرائطها- في أي مرحلة من مراحل مسيرهم.

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَ لَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)

سبب النّزول

في تفسير الدرّ المنثور: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا: لعن اللَّه اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم، فواللَّه لئن أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الامم. فلّما أشرقت شمس الإسلام من افق بلادهم، وجاءهم النبي صلى الله عليه و آله بالكتاب السماوي، رفضوا، بل كذّبوا، وحاربوا، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.

فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على إدّعاءاتهم الفارغة.

التّفسير

إستكبارهم ومكرهم سبب شقائهم: تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة. الآية الاولى تقول: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ».

فعندما طالعوا صفحات التاريخ، تعجّبوا كثيراً وادّعوا لأنفسهم الإدّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 140

حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد الجملة الاولى من الآية بالقول: «فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا».

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النبي الأكرم صلى

الله عليه و آله- وعلى خلاف ما يدّعون- بعيدين عن دين اللَّه سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلّاأنّهم لم يكونوا يحترمونها.

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحق لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحق: «اسْتِكْبَارًا فِى الْأَرْضِ». وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون «وَمَكْرَ السَّيّىِ».

ولكن «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ».

جملة «لا يحيق»: الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط»؛ إشارة إلى أنّ الاحتيال قد يؤدي- مؤقتاً- إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق اللَّه، وسيندمون حتماً أمام اللَّه سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكة.

هذه الآية تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النبي صلى الله عليه و آله، بل إنّهم استعانوا بكل قدرتهم واستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قوية به وبدعوته، والسبب في كل ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحق.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: «فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ».

هذه الجملة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلًا منهم بلاء عظيم.

ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا».

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتى يروا بامّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحول البيان إلى العيان، فتقول الآية الكريمة: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ

الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 141

فإذا كانوا يتصورون أنّهم أشد قوة من اولئك فهم على إشتباه عظيم، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: «وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً».

إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة، فإنّ قدرته وقوته لا شي ء إزاء قوة اللَّه، لماذا؟ لأنّه «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ و مِن شَىْ ءٍ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ». فهو العليم القدير: «إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا»، لا يخفى عليه شي ء، ولا يستعصي على قدرته شي ء، ولا يغلبه أحد.

وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) لولا لطف اللَّه ورحمته: الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهية بالبشر، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح اللَّه الرحمة للناس.

زيادة على ذلك، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين والكفار بمصير الأقوام الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكة؟! وتجيب على السؤال قائلة: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا». ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في مصيرهم وتهذيب أخلاقهم: «مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ» «1».

نعم لو أراد اللَّه مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق، وزلازل، وطوفانات، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. «وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى» ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصة، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ

كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا».

«نهاية تفسير سورة فاطر»

______________________________

(1) «دابّة»: من مادة «دبّ» والدبّ والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر، ويستعمل في كل حيوان وإن اختّصت في التعارف بالخيل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 143

36. سورة يس

محتوى السورة: يلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسية:

1- تتحدث السورة أوّلًا عن رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم.

2- قسم آخر من السورة يتحدث عن رسالة ثلاثة من أنبياء اللَّه، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد، وجهادهم المتواصل المرير ضد الشرك.

3- قسم آخر منها، والذي يبدأ من الآية (33) وحتى الآية (44)، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر.

4- قسم مهم آخر منها يتحدث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلة المختلفة عليه، وكيفية الحشر والنشر، والسؤال والجواب في يوم القيامة، ونهاية الدنيا، ثم الجنة والنار.

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محركة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهال، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

فضيلة تلاوة السورة: سورة يس من أهمّ السور القرآنية، إلى حد أنّ الأحاديث لقّبتها ب «قلب القرآن». ففي المجمع عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ لكل شي ء قلباً، وقلب القرآن يس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ لكل شي ء قلباً وقلب القرآن يس، فمن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 144

قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم ومن كل آفة».

إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها .. محتوىً يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى، بحيث إنّ

الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكر يلقي بظلاله على أعماله، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) هذه السورة تبدأ- كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اخرى- بحروف مقطعة وهي «يس».

في تفسير علي بن إبراهيم: قال الصادق عليه السلام: «يس اسم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والدليل عليه قوله: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»».

بعد هذه الحروف المقطعة- وكما هو الحال في أغلب السور التي تبدأ بالحروف المقطعة- يأتي الحديث عن القرآن المجيد، فيورد هنا قسماً بالقرآن، إذ يقول: «وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ».

الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا ب «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادةً صفة للعاقل، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر.

بديهي أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأن يقسم، ولكن الأقسام القرآنية تتضمن- دائماً- فائدتين أساسيتين: الاولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم، والثانية بيان عظمة الشي ء الذي يقسم به اللَّه تعالى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 145

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من أجله أقسم اللَّه تعالى في مقدمة السورة الكريمة:

«إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

بعد ذلك تضيف الآية: «تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ».

فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة، وبإقترانهما جعل

هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي: «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءَابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ». أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

إنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم، والذنوب والمعاصي التي إرتكبوها، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها.

ثم يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفار والمشركين فيقول تعالى: «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ».

والمراد من «القول» هنا الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنم.

فإنّ ذلك يخصّ اولئك الذين قطعوا كل إرتباط لهم باللَّه سبحانه وتعالى، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها، فهم لن يؤمنوا أبداً.

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: «إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْللًا فَهِىَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ». أي: مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال»: جمع «غل» من مادة «غلل» ويعني تدرع الشي ء وتوسطه، ومنه الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد استعملت هذه المفردة في هذا المورد.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى»، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة، ولا قدرة الإبصار.

فإنّ الآية أعلاه، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 146

الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك

المجموعة، وتمثيلًا ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول: «وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا». وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء، آنئذ: «فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ». فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق.

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة: «وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ». فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة.

إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) من هم الذين يتقبّلون إنذارك: كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهية ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اسلوب القرآن. تقول الآية الاولى من هذه المجموعة: «إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ».

التعبير ب «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة اللَّه عن طريق الاستدلال والبرهان.

جملة «فبشّره» تكميل للإنذار، إذ إنّ الرسول صلى الله عليه و آله في البدء ينذر، وحين يتحقق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله، هنا يبشّره الباري ء عزّ وجل.

يبشّره بأنّ اللَّه العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّااللَّه سبحانه.

بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين، تنتقل

الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة، تقول الآية الكريمة: «إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوتَى .

مختصر الامثل، ج 4، ص: 147

«وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ». وعليه فإنّ صحيفة الأعمال لن تغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا وتحفظها إلى يوم الحساب.

جملة «ما قدّموا» إشارة إلى الأعمال التي قاموا بها ولم يبق لها أثر، أمّا التعبير «وآثارهم» فإشارة إلى الأعمال التي تبقى بعد الإنسان وتنعكس آثارها على المحيط الخارجي، من أمثال الصدقات الجارية (المباني والأوقاف والمراكز التي تبقى بعد الإنسان وينتفع منها الناس).

ثم تضيف الآية لزيادة التأكيد: «وَكُلَّ شَىْ ءٍ أَحْصَيْنهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ».

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ مَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية: لمتابعة البحوث الماضية في الآيات السابقة حول القرآن ونبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، والمؤمنين الصادقين، والكفار المعاندين، تطرح هذه الآيات نموذجاً من موقف الامم السابقة بهذا الصدد، وتتحدث حول تأريخ عدد من الأنبياء السابقين لتكون تنبيهاً لمشركي مكة من جهة، وتسلية للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ولفئة المؤمنين القليلة به في ذلك اليوم، فإنّ التأكيد على إيراد هذه القصة في قلب هذه السورة التي تعتبر هي بدورها قلب القرآن الكريم، بسبب تشابه ظروف تلك القصة مع ظروف

المسلمين في ذلك اليوم.

أوّلًا تقول الآية الكريمة: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ».

«القرية»: في الأصل اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وتطلق أحياناً على نفس الناس أيضاً، لذا فمفهومها يتّسع حتى يشمل المدن والنواحي، وأطلقت في لغة العرب وفي القرآن المجيد مراراً على المدن المهمة مثل «مصر» و «مكة» وأمثالهما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 148

والمراد من القرية هنا «أنطاكية» إحدى مدن بلاد الشام، فإنّه يظهر جيداً من آيات هذه السورة أنّ أهل تلك المدينة كانوا يعبدون الأصنام، وأنّ هؤلاء الرسل جاؤوا يدعونهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

ثم تنتقل الآيات إلى تفصيل الأحداث التي جرت فتقول: «إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ».

وفي أسماء هؤلاء الرسل قال بعض المفسرين: إنّ أسماء الإثنين «شمعون» و «يوحنا» والثالث «بولس».

الآن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل. القرآن الكريم يقول: إنّهم تعلّلوا بنفس الأعذار الواهية التي يتذّرع بها الكثير من الكفار دائماً في مواجهة الأنبياء «قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَىْ ءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ».

فإذا كان مقرّراً أن يأتي رسول من قبل اللَّه سبحانه، فيجب أن يكون ملكاً مقرّباً وليس إنساناً مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرّعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية.

فإنّ هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جرّاء مخالفة هؤلاء القوم الضالين ولم يضعفوا، وفي جوابهم:

«قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ». ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل بيّن فحسب.

«وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلغُ الْمُبِينُ».

ويستفاد من تعبير «البلاغ المبين» إجمالًا أنّهم أظهروا دلائل ومعاجز تشير إلى صدق ادّعائهم، إذ أنّ البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من الميسّر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحقّقه إلّامن

خلال بعض الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الرّوايات أيضاً أنّ هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم- بإذن اللَّه- كما كان لعيسى عليه السلام.

ولكن الوثنيين لم يسلموا أمام ذلك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل إنّهم زادوا من عنفهم في المواجهة، وإنتقلوا من مرحلة التكذيب إلى مرحلة التهديد والتعامل الشديد «قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ».

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم في نفس الفترة التي بعث فيها هؤلاء الأنبياء، وكانت إمّا نتيجة معاصي هؤلاء القوم، أو كإنذارات إلهية لهم.

وإنّهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل، وأظهروا سوء نواياهم من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 149

خلال التهديد الصريح والعلني، وقالوا: «لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

ومن الممكن أنّ ذكر «العذاب الأليم» إشارة إلى أنّنا سنرجمكم إلى حد الموت.

هنا ردّ الرسل الإلهيون بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: «قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكّرْتُم». فإذا أصابكم سوء الحظّ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات اللَّه عنكم، فإنّ سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطّة وأعمالكم القبيحة المشؤومة، وليس في دعوتنا.

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء: «بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ».

فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق، وإذا أصاب مجتمعكم المصير المشؤوم فبسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوّث بالشهوات. وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ مَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ

يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف: تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصة. والإشارة تتعلق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة ... وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل. تشرع هذه الآيات بالقول: «وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 150

مختصر الامثل ج 4 199

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسرين أنّ اسمه «حبيب النجار»، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما إستطاع؛ بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.

التعبير ب «رجل» بصورة النكرة إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلّاأنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتى للفرد الواحد.

والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟

فقد أشار أوّلًا إلى هذه القضية: «اتَّبِعُوا مَن لَايَسْئَلُكُمْ أَجْرًا». فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة مادية شخصية، ولا يريدون منكم

مالًا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شي ء آخر.

وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات «وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِن أَجْرٍ».

ثم يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: «وَهُمْ مُّهْتَدُونَ».

ثم ينتقل إلى ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء الرسل، فيقول:

«وَمَا لِىَ لَاأَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى».

فإنّ من هو أهل لأن يُعبد هو الخالق والمالك والوهّاب، وليس الأصنام التي لا تُضرّ ولا تنفع.

وبعد ذلك ينبّه إلى أنّ المرجع والمآل إلى اللَّه سبحانه فيقول: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». أي: لا تتصوروا أنّ اللَّه له الأثر والفاعلية في حياتكم الدنيا فقط، بل إنّ مصيركم في العالم الآخر إليه أيضاً، فتوجّهوا إلى من يملك مصيركم في الدارين.

وفي ثالث استدلال له ينتقل إلى الحديث عن الأصنام وإثبات العبودية للَّه بنفي العبودية للأصنام، فيكمل قائلًا: «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرّ لَّاتُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيًا وَلَا يُنقِذُونِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 151

هنا أيضاً يتحدث عن نفسه حتى لا يظهر من حديثه أنّه يقصد الإمرة والإستعلاء عليهم، وهو يحدّد الذريعة الأساس لعبدة الأوثان حينما يقولون: نحن نعبد الأصنام لكي تكون شفيعاً لنا أمام اللَّه.

ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد للتأكيد والتوضيح أكثر: إنّي حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكاً للَّه فإنّي سأكون في ضلال بعيد: «إِنّى إِذًا لَّفِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

فأيّ ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنباً إلى جنب خالق السماوات والأرض.

وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من إستعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع

الحاضرين: «إِنّى ءَامَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ».

أمّا من هو المخاطب في هذه الجملة «فَاسْمَعُونِ»؟

لكن لننظر ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم إزاء ذلك المؤمن الطاهر؟

القرآن لا يصرّح بشي ء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنّهم ثاروا عليه وقتلوه.

ولقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي: «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ».

إنّ هذا التعبير يدلّل على أنّ دخوله الجنة كان مقترناً باستشهاد هذا الرجل المؤمن.

والمقصود من الجنة هنا، هي (جنة البرزخ) لأنّه يستفاد من الآيات ومن الروايات أنّ الجنة الخالدة يوم القيامة ستكون نصيب المؤمنين، كما أنّ جهنم ستكون نصيب المجرمين.

فإنّ روح ذلك المؤمن الطاهرة، عرجت إلى السماء إلى جوار رحمة اللَّه وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى امنية واحدة: «قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ».

يا ليت قومي يعلمون بأي شي ء «بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ». أي: ليت أنّ لهم عين تبصر الحق، لهم عين غير محجوبة بالحجب الدنيوية الكثيفة والثقيلة، فيروا ما حُجب عنهم من النعمة والإكرام والإحترام من قبل اللَّه، ويعلموا أي لطف شملني به اللَّه في قبال عدوانهم عليّ .. لو أنّهم يبصرون ويؤمنون، ولكن يا حسرةً.

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين، والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 152

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ».

فلسنا بحاجة إلى تلك الامور، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء.

ثم يضيف تعالى: «إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ».

فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزّة أوقفت كل شي ء عن التحرك.

الآية الأخيرة

تتعرّض إلى طريقة جميع متمردي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء اللَّه بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول: «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مّن رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

هؤلاء الضالون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الإستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والإستهزاء منهم.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) الغفلة الدائمة: تتحدث هاتان الآيتان- استناداً إلى ما مرّ في الآيات السابقة- عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون، فتقول الآية:

«أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ».

فهؤلاء الكفار ليسوا بدعاً من الأمر، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التاريخ، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والاعتبار؟

في آخر الآية يضيف تعالى: «أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَايَرْجِعُونَ». أي: أنّ رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران مافاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبداً.

هذا التفسير يشبه بالضبط ما قاله علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال: «لا عن قبيح يستطيعون انتقالًا ولا في حسن يستطيعون ازدياداً».

وتضيف الآية التالية: «وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ». أي: أنّ المسألة لا تنتهي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 153

بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا، كلّا، فعاجلًا سيحضر الجميع في عرصة المحشر للحساب، ثم العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في إنتظارهم.

وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) آيات اخرى: مما مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضد الشرك وعبادة الأوثان، وكذلك التعرض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق، توضّح الآيات- مورد البحث- مسألتي التوحيد والمعاد معاً لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان. تتعرض الآية الاولى إلى قضية إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول: «وَءَايَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ».

قضية الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد، فبرغم التطور والتقدم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحل، وحتى الآن لم يُعلم تحت تأثير أي العوامل تتحول موجودات ميتة إلى خلايا حية؟

جملة «فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» إشارة إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية، بينما بعضها غير قابل للأكل، ولكن له فوائد اخرى كتغذية الحيوانات، وصناعة الأصباغ، والأدوية، والامور الاخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاولى من هذه الآيات، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة، فتقول: «وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ».

كان الحديث في الآية الاولى عن الحبوب الغذائية، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كل منهما غذاءً كاملًا.

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول: إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 154

الإنسان في صناعتها ...

«لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ».

ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها، قابلة للأكل بمجرد جنيها من أغصانها، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اخرى. ذلك إشارة إلى غاية لطف اللَّه بهذا الإنسان وكرمه. فالهدف هو تحريك حس تشخيص الحق، والشكر في الإنسان، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة اللَّه عن طريق الشكر، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث، تتحدث عن تسبيح اللَّه وتنزيهه، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول: «سُبْحَانَ الَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ».

بديهي أنّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

إنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتى الآن.

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) هذه الآيات تتحدث في قسم آخر من آثار عظمة اللَّه في عالم الوجود. تقول الآية الكريمة الاولى: «وَءَايَةٌ لَهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ».

«نسلخ»: من مادة «سلخ» وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان، والتعبير في الآية تعبير لطيف، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل، يُنزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي، والتأمّل في هذا

التعبير يوضّح هذه الحقيقة، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها تأتيها من مصدر آخر، فهو

مختصر الامثل، ج 4، ص: 155

كاللباس الذي يرتدى، وحينما يُخلع ذلك الثوب، يظهر اللون الطبيعي للبدن.

الآية التي بعدها تتعرض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس، فتقول: «وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا».

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر. أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ أحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية، هو ما كشفه العلماء أخيراً من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءاً منها، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّاً أطلقوا عليه اسم «وجا».

فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي، ليس مقدوراً لغير اللَّه سبحانه الذي تفوق قدرته كل قدرة وبعلمه اللامتناهي، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشى ء عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاماً وبرنامجاً معيّناً يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي. لذا فإنّ الآية التالية تتحدث عن حركة القمر ومنازله التي تؤدي إلى تنظيم أيام الشهر، وذلك لأجل تكميل البحث السابق، فتقول الآية: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْنهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ».

المقصود ب (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة، ومن جهة اخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، تتحدث عن ثبات ودوام ذلك

النظم في السنين والشهور، والنهار والليل، فقد وضع اللَّه سبحانه وتعالى لها نظاماً وبرنامجاً لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو إختلال في وضعها وحركتها، وبذا ثبت تاريخ البشر وإنتظم بشكل كامل، تقول الآية:

«لَا الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها إثنتي عشرة مرّة، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 156

في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث، هي الحركة بحسب حِسّنا بها.

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلَى حِينٍ (44) حركة السفن في البحار آية إلهية: تحدّثت الآيات السابقة عن دلالة قدرة الباري ء عزّ وجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدث الباري ء عزّ وجل عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها. لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلًا:

«وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».

فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهم وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاخرى، كل ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع

منها السفن، والطاقة التي تحرّكها، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية. وكل هذه القوى والطاقات التي سخّرها اللَّه للإنسان، كل واحدة منها وكلها معاً آية من آيات اللَّه سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهم أنّ المركب الذي أعطاه اللَّه للإنسان هو السفينة فقط، تضيف الآية التالية قائلة: «وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ».

المراكب التي تسير على الأرض، أو في الهواء وتحمل البشر وأثقالهم.

الآية التالية- لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة- تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول: «وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ».

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كل إتّجاه بأمرنا، ولكننا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

وأخيراً تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول: «إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ».

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأية وسيلة إلّابرحمتنا ولطفنا بهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 157

وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهية في عالم الوجود، تنتقل هذه الآيات لتتحدث عن ردّ فعل الكفار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهية، وكذلك توضّح دعوة النبي صلى الله عليه و آله لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم. يفتتح هذا المقطع بالقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

إنّ المقصود ب «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها؛ والمقصود ب «ما خلفكم» عقوبات الآخرة، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم؛ والمقصود ب «التقوى» من هذه العقوبات، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدي إلى وقوع هذه العقوبات.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفار وإعراضهم عن آيات اللَّه وتعاليم الأنبياء، تقول الآية الكريمة: «وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءَايَةٍ مّنْ ءَايَاتِ رَبّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ».

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم، ولا الآفاقية، ولا التهديد والإنذار، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهية، فهم مبتلون بالعمى الكلي بحيث لا يتمكّنون حتى من رؤية أقرب الأشياء إليهم، وحتى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثم يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمة لعنادهم وإعراضهم فيقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسك به الأنانيون والبخلاء في كل عصر وزمان ويقولون:

إنّ فلاناً أصبح فقيراً بسبب عمل إرتكبه وأدّى به إلى الفقر، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف اللَّه ورحمته، وعليه فليس فقره ولا غنانا كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 158

الدنيا إنّما هي دار امتحان وإبتلاء، واللَّه سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة، وربّما يضع اللَّه الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان:

الغنى والفقر، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة، أم أنّه يطأ كل ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق مما تفضّل

اللَّه به عليه، أم لا؟

وَ يَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) صيحة النشور: بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة، تتعرض هذه الآيات إلى الحديث عن إستهزائهم بالقيامة، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافاً إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

تقول الآية الكريمة الاولى: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ». فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة، فمعنى هذا أنّكم لستم بصادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى: «مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ».

فكل ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب، ليتخلّف وراءها صمت مطبق، وتخلو الأرض من أيّ صوت أو إزعاج.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 159

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقي

ماشيته فما يسقيها حتى تقوم».

«صيحة» صاح: رفع الصوت، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك.

«يخصّمون»: من مادة «خصم» بمعنى النزاع.

والمقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والامور المعيشية الاخرى.

فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع، هذا أوّلًا. وأمّا ثانياً فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كل شي ء وتنتهي الدنيا بأسرها. لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلًا: «فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ».

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله، يحاول جاهداً أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله، ثم يقوم بإنجاز بعض الامور المعلّقة، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصية أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الامور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضاً فهل يبقى أحد حيّاً ليستمع الوصية.

ثم تشير الآيات إلى مرحلة اخرى، مرحلة الحياة بعد الموت، فتقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ».

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد، وتنتفض من القبر بشراً سويّاً، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة، وكما أنّهم ماتوا جميعاً بصيحة واحدة، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة اللَّه سبحانه وتعالى، ولا حياتهم كذلك.

«أجداث»: جمع «جدث» وهو القبر، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديداً من نفس المواد السابقة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 160

وقوله تعالى: «رَبّهِمْ» كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية

اللَّه كلها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

تضيف الآية التالية: «قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرقَدِنَا هذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ».

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّامن الإعتراف الواضح الصريح بالحقائق، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث: «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ثم تقول الآية لبيان سرعة النفخة: «إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ».

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت، كما كان الأمر عند هلاكهم، فالصيحة الاولى للموت، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر، ثم ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفار الطالحين، فتقول الآية الكريمة الاولى: «فَالْيَوْمَ لَاتُظْلَمُ نَفْسٌ شَيًا». فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئاً، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئاً.

ثم تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلًا حيّاً عليها فتقول: «وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

ثم تنتقل الآيات لتتعرض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة، وقبل كل شي ء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول: «إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ».

«شغل»:- على وزن سرر- و «شغل»- على وزن لطف-: كليهما بمعنى العارض الذي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 161

يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه، سواء كان

مما يبعث على المسرّة أو الحزن، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك، يمكن إستنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه، وحتى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر.

وبعد التعرض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى، ينتقل إلى ذكر بقية النعم، فيقول تعالى: «هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِللٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكُونَ».

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها اللَّه في الجنة، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

التعبير ب «ظلال» يدلّل على وجود الشمس هناك، ولكنّها ليست شمساً مؤذية.

إضافةً إلى ذلك فإنّ: «لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ».

«يدعون»: أي يطلبون، والمعنى أنّ كل ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه.

وعليه فإنّ كل ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ، واللَّه عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كل ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: «سَلمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ».

هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبة اللَّه، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنة بالحبور ...

الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.

ففي الدرّ المنثور قال النبي صلى الله عليه و آله: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول اللَّه تعالى: «سَلَامٌ قَوْلًا مّن رَبّ رَّحِيمٍ» قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتوا إلى شي ء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 162

وَ امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) لماذا عبدتم الشيطان: مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنة، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلًا: يخاطبون في ذلك اليوم خطاباً تحقيرياً: «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ».

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلوّنتم بلونهم تارةً، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

الآية التالية تشير إلى لوم اللَّه تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلًا: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى ءَادَمَ أَن لَّاتَعْبُدُوا الشَّيْطنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

جرى هذا التحذير وبشكل متكرر على لسان الأنبياء والرسل.

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد اخذ على الإنسان في عالم التكوين، وبلسان إعطاء العقل له، إذ إنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنة، وأقسم على إغواء أبنائه من بعده.

ومن جانب

ثالث فقد اخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهية للناس على التوحيد، وإنحصار الطاعة في اللَّه سبحانه، وبهذا لم تتحقق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد، بل بعدة ألسنة وأساليب، وامضي هذا العهد والميثاق.

الآية التالية تأكيد أشد وبيان لوظيفة بني آدم، تقول الآية الكريمة: «وَأَنِ اعْبُدُونِى هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

اخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه؟! .. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، اخذ عليه العهد بطاعة اللَّه سبحانه وتعالى، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمناً بأنّ الدنيا ليست بدار القرار، إذ إنّ الطريق لا يُرسم لأحد إلّالمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 163

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى: «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ».

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتخذونه صديقاً بل قائداً ووليّاً وإماماً.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيّاً وَ لَا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلَا يَعْقِلُونَ (68) تعرّضت الآيات السابقة إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهية وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة، هذه الآيات تواصل

البحث حول الموضوع نفسه أيضاً.

نعم، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنم للمجرمين الكافرين يذكّرهم اللَّه بوعده، والآية تشير إلى ذلك فتقول: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

فقد بُعث إليكم الأنبياء واحداً بعد واحد، وحذّروكم من مثل هذا اليوم ومن مثل هذه النار، ولكنكم لم تأخذوا أقوالهم إلّاعلى محمل السخرية والاستهزاء: «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».

ثم يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة ... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر اللَّه سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها

مختصر الامثل، ج 4، ص: 164

نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب. في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «وليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال اللَّه عزّ وجل: «فَمَن أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا»».

الآية التالية تشير إلى أحد ألوان العذاب التي يمكن أن يبتلي اللَّه تعالى بها المجرمين في هذه الدنيا، تقول الآية الكريمة: «وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ» «1».

وفي تلك الحالة التي يبلغ فيها الرعب الذروة عندهم: «فَاسْتَبَقُوا الصّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ». فهم عاجزون حتى عن العثور على الطريق إلى بيوتهم، ناهيك عن العثور على طريق الحق وسلوك الصراط المستقيم.

وعقوبة مؤلمة اخرى لهم: إنّنا لو أردنا لمسخناهم في مكانهم على شكل تماثيل حجرية فاقدة للروح والحركة، أو على أشكال الحيوانات بحيث لا يستطيعون التقدّم إلى الأمام، ولا الرجوع إلى الخلف: «لَوْ نَشَاءُ

لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ» «2».

إنّ الآيتين أعلاه تتحدّثان عن عذاب الدنيا.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تشير إلى وضع الإنسان في آخر عمره من حيث الضعف والعجز العقلي والجسمي، لتكون إنذاراً لهم وليختاروا طريق الهداية عاجلًا، ولتكون جواباً على الذين يلقون بمسؤولية تقصيرهم على قصر أعمارهم، وكذلك لتكون دليلًا على قدرة اللَّه سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يعيد ذلك الإنسان القوي إلى ضعف وعجز الوليد الصغير ... قادر على مسألة المعاد بالضرورة، وعلى الطمس على عيون المجرمين ومنعهم عن الحركة، كذلك تقول الآية الكريمة: «وَمَن نُّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ».

«ننكّسه»: من مادة «تنكيس» وهو قلب الشي ء على رأسه، وهي هنا كناية عن الرجوع الكامل للإنسان إلى حالات الطفولة.

______________________________

(1) «طمسنا»: من «طمس»- على وزن شمس- بمعنى إزالة الأثر بالمحو، وهذه إشارة إلى إزالة ضوء العين أو صورتها بشكل كلّي بحيث لا يبقى منها أثر.

(2) «مكانتهم»: بمعنى محل التوقّف، وهي إشارة إلى أنّ اللَّه سبحانه وتعالى قادر على أن يخرجهم عن إنسانيتهم في محلّ توقّفهم، يغيّر أشكالهم، ويفقدهم القدرة على الحركة، تماماً كالتمثال الخالي من الروح.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 165

وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) إنّه ليس بشاعر ... بل نذير: قلنا أنّ في هذه السورة بحوثاً حيّة وجامعة حول اصول الإعتقادات: التوحيد، والمعاد، والنبوّة، وتنتقل الآيات من بحث إلى آخر ضمن مقاطع مختلفة من الآيات.

طرحت في الآيات السابقة بحوث مختلفة حول التوحيد والمعاد، وتعود هاتان الآيتان إلى البحث في مسألة النبوّة، وقد أشارتا إلى أكثر الإتّهامات رواجاً والتي اثيرت بوجه الرسول الأكرم

صلى الله عليه و آله، وردّت عليهم ردّاً قويّاً، منها اتّهام الرسول بكونه شاعراً، فقالت: «وَمَا عَلَّمْنهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ».

كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر الذي كان محسوساً للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتى في نفوس الكفار الذين كانوا أحياناً يأتون إلى جوار منزل النبي صلى الله عليه و آله بشكل خفي ليلًا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.

وهنا حاول الكفار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض إستغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحياً إلهيّاً، فأشاعوا تهمة الشعر في كل مكان، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل إعترافاً ضمنياً بتميّز كلام القرآن الكريم.

وأمّا لماذا لا يليق بالرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله أن يكون شاعراً، فلأنّ طبيعة الشعر تختلف تماماً عن الوحي الإلهي، للأسباب التالية:

1- إنّ أساس الشعر- عادةً- هو الخيال والوهم، والحال أنّ الوحي يُستمدّ وجوده من مبدأ الوجود ويدور حول محور الحقيقة.

2- الشعر يفيض من العواطف الإنسانية المتغيّرة، وهي في حال تغيّر وتبدّل مستمرين، أمّا الوحي الإلهي فمرآة الحقائق الكونية الثابتة.

3- لطافة الشعر تنبع في الغالب من الإغراق في التمثيل والتشبيه والمبالغة، إلى درجة أن قيل: «أحسن الشعر أكذبه»، أمّا الوحي فليس إلّاالصدق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 166

4- وأخيراً يقول أحد المفسّرين: إنّ الشعر مجموعة من الأشواق التي تحلّق منطلقة من الأرض باتّجاه السماء، بينما الوحي حقائق نازلة من السماء إلى الأرض، وهذان الإتّجاهان واضح تفاوتهما.

وهنا يجب أن لا ننسى تقدير مقام اولئك الشعراء الذين يسلكون هذا الطريق باتّجاه أهداف مقدسة، ويصونون أشعارهم من كل ما لا يرضي اللَّه.

ثم

يضيف تعالى في آخر الآية لنفي الشعر عن الرسول صلى الله عليه و آله: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ».

والهدف هو الإنذار وإتمام الحجة: «لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ».

هذه الآيات «ذكر» ووسيلة تنبيه، هذه الآيات «قرآن مبين» يوضّح الحق بلا أدنى تغطية أو غمط، بل بقاطعية وصراحة، ولذا فهو عامل إنتباه وحياة وبقاء.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ (76) فوائد الأنعام للإنسان: يعود القرآن الكريم مرّة اخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك، ويشير- ضمن تعداد قسم من آثار عظمة اللَّه في حياة البشر، وحلّ مشكلاتهم ورفع حاجاتهم- إلى ضعف وعجز الأصنام، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك ويثبت بطلانه، وفي نفس الوقت يثبت حقّانية خطّ التوحيد. تقول الآية الكريمة الاولى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ».

ولكي يستفيدوا بشكل جيّد من هذه الحيوانات: «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ».

ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحد، بل «وَلَهُمْ فِيهَا مَنفِعُ وَمَشَارِبُ». وعليه: «أَفَلَا يَشْكُرُونَ». الشكر الذي هو وسيلة معرفة اللَّه وتشخيص وليّ النعمة.

جملة «وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ» إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تذليل هذه الحيوانات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 167

للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك التذليل الإلهي، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أنّ عشرات الأشخاص لا

يمكنهم الوقوف أمامها؟

وفي حالاتها الاعتيادية فإنّ قافلة كاملة من الجمال يقودها تارةً صبي لم يبلغ الحلم، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه.

جملة «لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ» إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الاخرى التي تتحقّق للإنسان، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف الملابس والخيم والفرش، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية ووسائل اخرى مختلفة.

«مَشَارِبُ» إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمّن مع منتجاته قسماً مهمّاً من المواد الغذائية للإنسان.

لذا فإنّ الآية التالية، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول: «وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ».

فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة التافهة التي لا تملك لنفسها- ناهيك عن الآخرين- ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونها إلى جانب اللَّه سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى، ويلجأون إليها لحل مشاكل حياتهم؟

وعليه تضيف الآية التالية: إنّ المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين، وسيكون هؤلاء المشركون جنوداً مجنّدة يتقدمونها إلى جهنم: «لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ».

وياله من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدّمها تلك الأصنام ليدخلوا جهنم زمراً في ذلك اليوم العظيم، دون أن يستطيعوا حل عقدة مشكلة واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.

التعبير ب «مُّحْضَرُونَ» يكون عادةً للتحقير، لأنّ إحضار الأفراد دون أن يكون لموافقتهم أو عدمها أثر إنّما يدلّل على حقارتهم.

أخيراً- وفي آخر آية من هذه الآيات، ولمواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتثبيت فؤاده إزاء مكر المشركين، والفتن والأعمال الخرافية- تقول الآية الكريمة: «فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ». تارةً يقولون شاعر، واخرى ساحر، وأمثال ذلك من التهم: «إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ».

فلا تخفى علينا نواياهم، ولا مؤامراتهم في الخفاء، ولا جحودهم وتكذيبهم لآياتنا

في

مختصر الامثل، ج 4، ص: 168

العلن، نعلم بكل ذلك، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب، وستكون أنت أيضاً في أمان من شرّهم في هذه الدنيا.

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قيل: إنّ ابيّ بن خلف، أو العاص بن وائل، جاء بعظم بال متفتت، وقال: يا محمّد أتزعم أنّ اللَّه يبعث هذا؟ فقال: «نعم». فنزلت الآية «أَوَ لَمْ يَرَ الْإِنسَانُ» إلى آخر السورة.

التّفسير

هذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة، واختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد. فتقول: «أَوَ لَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ» «1».

فهذا الموجود الضعيف العاجز، يصبح قويّاً إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهية، وينسى ماضيه ومستقبله، ليكون مصداقاً حيّاً لقوله تعالى: «فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ».

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ» «2».

المقصود من ضرب المثل هنا الاستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن.

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى: «وَنَسِىَ خَلْقَهُ». ثم أردفها بتوضيح أكثر.

فكأنّه يقول: لو لم تنس بدء خلقك لما إستدللت بهذا الإستدلال الواهي الفارغ أبداً.

أيّها الإنسان الكثير النسيان، عد قليلًا إلى الوراء وانظر في خلقك، كيف كنت نطفة تافهة

______________________________

(1) «خصيم»: بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال؛ و «الرؤية» بمعنى العلم.

(2) «رميم»: من مادة «رم»، وهو إصلاح الشي ء البالي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 169

وكل يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة،

فأنت في حال موت وبعث مستمرين، فمن جماد أصبحت رجلًا بالغاً، وبكميّة من عالم النبات الجامد، ومن عالم الحيوان الميّت أيضاً أصبحت إنساناً، ولكنّك نسيت كل ذلك وصرت تسأل: من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء تراباً كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى يأمر الرسول صلى الله عليه و آله بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح تراباً وتنتشر في الأصقاع، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط إنتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضاً واضح: «وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ».

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد وتقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ».

ثمّة تفسير عميق، والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «إنبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي: إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساساً على أخذ غاز «ثاني اوكسيد الكربون» من الهواء، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون

مركّباً مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون: بأنّ أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة ما لكي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 170

يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه، وبناءً عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل. وعليه فالشجرة إنّما تقوم بإدّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعندما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اخرى، بالإضافة إلى بخار الماء.

ويقال إنّ كل الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساساً، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «إنبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبداً، بل إنّها تتبدّل شكلًا. وتختفي بعيداً عن أعيننا في كل ذرّة من ذرّات الخشب، وعندما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب، فإنّ إنبعاثها يبدأ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس، في تلك اللحظة- لحظة الحشر والنشر- تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمل بدقة).

أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) هو المالك والحاكم على كل شي ء: بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل، ونشوء

النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة، تتابع الآية الاولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة اللَّه اللامتناهية، فتقول الآية الاولى: «أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلقُ الْعَلِيمُ».

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة للَّه سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط، وخلق السماوات العظيمة والكرة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 171

الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط.

يقول تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئاً إلّاتحقق فوراً، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشي ء أيّة فاصلة، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وتوضيح للتحقّق السريع بوجود كل ما أراده سبحانه وتعالى.

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الإستنتاج الكلي فتقول: «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

«ملكوت»: من أصل «ملك» بمعنى الحكومة والمالكية. ومعنى الآية كما يلي: إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة، وكذلك فإنّ اللَّه سبحانه منزه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد، كل ذلك لن يشكّل لديه أية مشكلة، ولذلك فاعلموا يقيناً أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حق.

بحوث

1- الإعتقاد بالمعاد أمر فطري: إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقاً للفناء، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم

يكن سارّاً للإنسان في أي وقت، وهو يفرّ منه بكل وجوده.

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر، كل ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الإتفاق على الإعتقاد بوجود اللَّه الحكيم العالم، ونحن نعتقد بأنّ كل ما خلقه اللَّه سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقاً لحساب وغرض، وبناءاً عليه فإنّ عشق البقاء لابد أن يكون له حساب خاص، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 172

وبتعبير آخر: فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشاً، فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجوداً في العالم الخارجي، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي، وإلّا فإنّ الإنجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اخرى فعندما نبحث في التاريخ البشري منذ أيام نشأة ذلك التاريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت، فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين- وحتى إنسان ما قبل التاريخ- وبالأخص طريقة دفن الموتى، وكيفية بناء القبور، وحتى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى، كلها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول: «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض، كانت لهم إعتقادات معينة، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معينة في الأرض، ويضعون معهم وسائل وآلات

أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم، وبهذه الطريقة فإنّهم يثبتون إعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت» «1».

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت، وإن كانوا قد سلكوا طريقاً خاطئاً في إعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماماً.

على كل حال، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة، فإنّ وجود محكمة «الوجدان»، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد.

فكلّ إنسان عندما ينجز عملًا حسناً فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحياناً وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصاً الجنايات الكبرى، فإنّه يستشعر عدم الراحة، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الإنتحار، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلق على أعواد المشانق.

______________________________

(1) علم الإجتماع، ساموئيل كنيك/ 192.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 173

كل ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه: كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد أمر فطري، ومن عدّة طرق:

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التاريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

2- أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر: إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية، وخلود الأعمال- سواء كانت خيراً أو شرّاً- يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان، ويمكنه أن يكون عاملًا مؤثّراً في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادةً

في الدنيا، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر، ولا أثر للإضطهاد الفكري على صاحبها، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة، ولا تستغرق- عبر روتينها- مدة من الزمن.

القرآن الكريم يقول: «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّاتَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ» «1».

كذلك يقول تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «2».

كذلك قوله تعالى: «لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» «3».

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما ورد في الخبر: «أنّه تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر».

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء،

______________________________

(1) سورة البقرة/ 48.

(2) سورة يونس/ 54.

(3) سورة إبراهيم/ 51.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 174

فقال تعالى: «فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» «1».

حتى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقداً بالقيمة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة، فقد ورد في وصفه تعالى للمطفّفين في الميزان، قوله تعالى:

«أَلَا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ» «2».

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقاً وحاضراً في ميادين الجهاد، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلّل على أنّه بجميعه إنعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكرين، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون- في المقياس الواسع الشامل- إلّاعن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ»

«3». أي: الوصول إلى إحدى السعادتين، إمّا النصر أو الشهادة، هو قطعاً مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس، وحتى أنّهم يحاذرون من ذكر إسمه أو كل ما يذكّر به، ليس موحشاً ولا قبيحاً قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخط الفاصل بين الإلهيين والماديين، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

فالمادي يرى الموت فناءً مطلقاً، ويفرّ منه بكل وجوده، لأنّ كل شي ء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجاً في عالم واسع كبير مشرق، والإنطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول علي بن أبي طالب عليه السلام: «واللَّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه» «4».

______________________________

(1) سورة السجدة/ 14.

(2) سورة المطفّفين/ 4 و 5.

(3) سورة التوبة/ 52.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 5.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 175

ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبد الرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول: فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع، إنساناً شجاعاً شهماً هادفاً، تمتلى ء حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

3- الدلائل العقليّة على المعاد: فضلًا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص، فإنّ هناك أدلّة عقلية واضحة أيضاً على هذه المسألة، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر:

أ) برهان الحكمة: إذا نظرنا إلى هذا

العالم بدون العالم الآخر، فسيكون فارغاً وبلا معنى تماماً، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرد نزولهم من بطون امّهاتهم ويموتون، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر، فسنواجه نفس الاضطراب والحيرة، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاماً أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كل هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر ... نسعى مدة لتحصيل العلم والمعرفة، وحينما نبلغ درجة منه بعد إشتعال الرأس شيباً يستقبلنا الموت.

ثم لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والإستيقاظ المتكرر يومياً، وإستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين، لماذا؟

فهل حقّاً إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة، وكل هذه المقدمات والمؤخّرات وكل هؤلاء الأساتذة والمعلمين والمربين وكل هذه المكتبات الضخمة وكل هذه الامور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات، كل ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة، ويقدم بعضهم على الإنتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن باللَّه وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون إرتباطها بحياة اخرى ذات قيمة وذات شأن؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 176

يقول تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ» «1». أي: أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى اللَّه، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوماً ينسجم مع حكمة

اللَّه سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه: «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم، وجامعة للإستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم، تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام في نهج البلاغة في كلماته العميقة المعنى: «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء اللَّه، ومصلّى ملائكة اللَّه، ومهبط وحي اللَّه، ومتجر أولياء اللَّه».

خلاصة القول، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الإعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ» «2».

ب) برهان العدالة: التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق، يستنتج منه أنّ كل شي ء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري، يحكم نظام عادل دقيق، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتى الموت، حركات القلب، دوران الدم، أجفان العين، وكل جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق، الذي يحكم العالم بأسره و «بالعدل قامت السماوات والأرض». فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والاختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظل تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أنّ الظالمين الضالين المضلين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطى ء فماذا يقتضي العدل الإلهي؟!

وصحيح أنّ بعضاً من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم- على

______________________________

(1) سورة المؤمنون/ 115.

(2) سورة الواقعة/ 62.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 177

الأقل قسم منهم- ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما

يستحق، كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيبة في الدنيا، فهل من الممكن أن تكون كلتا المجموعتين في كفّة عدالة اللَّه سواء؟!

ويقول القرآن الكريم: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «1».

وفي موضع آخر يقول تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» «2».

على كل حال، فلا شك في تفاوت الناس وإطاعة أوامر اللَّه سبحانه وتعالى، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كل ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامة تراعي بدقة الخير أو الشر في حساباتها، وإلّا فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبداً.

وبناءً على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساوٍ بالضرورة لوجود المعاد والقيامة، القرآن الكريم يقول: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيمَةِ» «3».

ويقول: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» «4».

ج) برهان الهدف: على خلاف ما يتوهمه الماديون، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفاً من خلق الإنسان، والذي يعبّر عنه الفلاسفة ب «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى اللَّه» أو «العبادة»: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ» «5».

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكل شي ء؟!

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمر فيه سير الإنسان التكاملي، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمر سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة: أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد، وإذا قطعنا الإرتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت، فكل شي ء سيتحوّل إلى ألغاز، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

______________________________

(1) سورة القلم/ 35 و

36.

(2) سورة ص/ 28.

(3) سورة الأنبياء/ 47.

(4) سورة يونس/ 54.

(5) سورة الذاريات/ 56.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 178

د) برهان نفي الإختلاف: لا شك أنّنا جميعاً نتعذّب كثيراً من الاختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الاختلافات، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الاختلافات هي من طبيعة الحياة، ويستفاد من عدة دلائل بأنّه حتى بعد قيام المهدي عليه السلام- وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الاختلافات- ستبقى بعض الاختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ، وكما يقول القرآن الكريم، فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على اختلافاتهم إلى قيام القيامة: «فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوِم الْقِيمَةِ» «1».

ولكن اللَّه سبحانه وتعالى الذي يقود كل شي ء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الاختلافات حتماً، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والإنكشاف، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الاختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تام.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعددة من القرآن الكريم على هذه المسألة، يقول تعالى في الآية (113) من سورة البقرة: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وفي الآيات (38 و 39) من سورة النحل يقول تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَايَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ».

4- القرآن ومسألة المعاد: تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختصّت

ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي اختصّت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارةً تكون بشكل إستدلالات منطقية، واخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث إنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق- كالاستدلالات المنطقية- ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

______________________________

(1) سورة المائدة/ 14.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 179

في القسم الأوّل، أي الاستدلالات المنطقية، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيراً على موضوع إمكانية المعاد، إذ إنّ منكري المعاد غالباً ما يتوهمون إستحالته، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اخرى.

ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقاً متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلها في نقطة واحدة، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارةً يجسّد للإنسان النشأة الاولى، وبعبارة واضحة تقول الآية: «كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» «1».

وتارةً يجسّد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه بامّ أعيننا كل عام، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماماً كالنبات: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ» «2».

وفي موضع آخر يقول تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ» «3».

وحيناً يطرح مسألة قدرة اللَّه سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول:

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «4».

وحيناً آخر يعرض عملية إنبعاث الطاقة وإشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته، وجعل النار في قلب الماء فيقول: «الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا» «5».

وتارةً يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ

إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُّخَلَّقَةٍ لِّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» «6».

وأخيراً فإنّ القرآن تارةً يدلّل على البعث بالنوم الطويل- النوم الذي هو قرين الموت

______________________________

(1) سورة الأعراف/ 29.

(2) سورة ق/ 9- 11.

(3) سورة فاطر/ 9.

(4) سورة الأحقاف/ 33.

(5) سورة يس/ 80.

(6) سورة الحجّ/ 5.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 180

وأخوه، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب- كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول: «وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا» «1».

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد.

علاوةً على قصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة (البقرة- 260) وقصة عزير (البقرة- 259) وقصة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة- 73)، والتي تشكّل كل واحدة منها نموذجاً تأريخياً على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حيّة ومقنعة بحيث إنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

5- المعاد الجسماني: المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معاً، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط، وبعد الموت يصبح الإنسان

غير محتاج إليه فينزل من الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق، ويقولون بأنّ اللَّه قيّض للروح جسداً، ولكن شخصية الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحققين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح تراباً ويتلاشى، يتلبّس بالحياة مرّة اخرى بأمر اللَّه الذي يجمعه ويكسوه بالحياة، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّاً، بحيث يمكن

______________________________

(1) سورة الكهف/ 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 181

القول قطعاً بأنّ الذين يعتقدون بإقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى إطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد، وإلّا فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شك في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس، توضّح هذه الحقيقة فحينما تساءل الإنسان: «قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ» أجابه القرآن بصراحة ووضوح: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ».

إنّ كل تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضية، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح تراباً متناثراً وضائعاً في هذه الأرض؟ «وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ» «1».

إنّهم يقولون: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرِجُونَ» «2».

وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلًا على الجنون أو الكذب على اللَّه: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ» «3».

لهذا السبب فإنّ إستدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق

في ستّة طرق كانت دليلًا وشاهداً على هذا الادّعاء.

علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنة، كلها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضاً، وإلّا فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كل حال، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر: فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساوٍ لإنكار أصل المعاد.

______________________________

(1) سورة السجده/ 10.

(2) سورة المؤمنون/ 35.

(3) سورة سبأ/ 7.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 182

علاوةً على هذه الأدلة النقلية، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيراً.

6- الجنة والنار: الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماماً ولكنّه بشكل أكمل وأجمل، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضاً غير كاملة.

فوفقاً لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على فكر بشر، القرآن الكريم يقول: «فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «1».

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضاً تتفاوت تماماً مع الأنظمة في هذا العالم، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتى الجلد: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» «2». «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ

كُلَّ شَىْ ءٍ» «3».

على كل حال، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة، وعادةً فإنّ اللغة التي نتحدث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقن هو أنّ الجنة هي مركز كل النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية، وجهنم هي مركز لكل أنواع العذاب الأليم المادي والمعنوي أيضاً.

«نهاية تفسير سورة يس»

______________________________

(1) سورة السجده/ 17.

(2) سورة يس/ 65.

(3) سورة فصّلت/ 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 183

37. سورة صافَّات

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى سورة الصافات في خمسة أقسام:

1- يبحث حول مجاميع من ملائكة الرحمن، ومجموعة من الشياطين المتمردين ومصيرهم.

2- يتحدث عن الكافرين، وإنكارهم للنبوّة والمعاد، والعقاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، والعذاب الإلهي الذي سيشملهم، كما يشرح هذا القسم جوانب من النعم الموجودة في الجنة إضافةً إلى ملذّاتها وجمالها وسرور أهلها.

3- يشرح تأريخ الأنبياء أمثال (نوح) و (إبراهيم) و (إسحاق) و (موسى) و (هارون) و (إلياس) و (لوط) و (يونس) ويتحدث هذا القسم بشكل مفصل عن إبراهيم محطّم الأصنام وعن جوانب مختلفة من حياته.

4- يعالج صورة معيّنة من صور الشرك والذي يمكن إعتباره من أسوأ صور الشرك، وهو الإعتقاد بوجود رابطة القرابة بين اللَّه سبحانه وتعالى والجن والملائكة.

5- يتناول في عدّة آيات قصار إنتصار جيوش الحق على جيوش الكفر والشرك والنفاق، وإبتلاءهم- أي الكافرين والمشركين والمنافقين- بالعذاب الإلهي، وتنزّه آيات هذا القسم اللَّه سبحانه وتعالى وتقدّسه عن الأشياء التي نسبها المشركون إليه.

إنّ تسمية هذه السورة بالصافات جاءت نسبة إلى الآية الاولى فيها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 184

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة

الصافات اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كل جنّي وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرى ء من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمناً بالمرسلين».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الصافات في كل يوم جمعة لم يزل محفوظاً من كل آفة، مدفوعاً عنه كل بليّة في حياته الدنيا، مرزوقاً في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه اللَّه في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم، ولا جبار عنيد، وإن مات في يومه أو ليلته بعثه اللَّه شهيداً، وأماته شهيداً، وأدخله الجنة مع الشهداء في درجة من الجنة».

إنّ الهدف من التلاوة هو التفكّر، ومن ثم الإعتقاد، ومن بعد العمل، ومن دون شك فإنّ الذي يتلو هذه السورة بتلك الصورة، سيحفظ من شرّ الشياطين، ويتطهّر من الشرك، ويمتلك الإعتقاد الصحيح القوي، ويمارس أعمالًا صالحة، وإنّه سيحشر مع الشهداء.

وَ الصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ الْمَشَارِقِ (5) الملائكة المستعدة لتنفيذ المهام: هذه السورة هي أوّل سورة في القرآن الكريم تبدأ بالقسم، القَسَم الملي ء بالمعاني والمثير للتفكّر، القسم الذي يجوب بفكر الإنسان في آفاق و أجواء هذا العالم، ويجعله متهيّئاً لتقبّل الحقائق.

من المسلّم به أنّ اللَّه تبارك وتعالى هو أصدق الصادقين، وليس بحاجة إلى القسم.

ونلفت الإنتباه إلى نقطتين لحل مشكلة القسم في كل آيات القرآن التي سنتناولها من الآن فما بعد.

الاولى: أنّ القسم يأتي دائماً بالنسبة إلى امور مهمة وذات قيمة، ولذلك فإنّ أقسام القرآن تشير إلى عظمة وأهمية الأشياء المقسم بها.

الثانية: أنّ القسم يأتي للتأكيد، وللدلالة على أنّ الامور التي يقسم

من أجلها هي امور جديّة ومؤكّدة.

إنّ بداية هذه السورة تذكر أسماء ثلاثة طوائف أقسم بها اللَّه تعالى.

الاولى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 185

الثانية: «فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا».

الثالثة: «فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا».

إنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة ...

طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي.

وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن إرتكاب المعاصي والذنوب، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم، أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها.

وأخيراً طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي على الرسل.

«الصافّات»: هي جمع كلمة «صافّة» وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضاً، وتشير إلى مجموعة مصطفّة، إذن ف «الصافّات» تعني الصفوف المتعددة.

و «الزاجرات»: مأخوذة من «الزجر» ويعني الصرف عن الشي ء بالتخويف والصراخ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كل منع وطرد وزجر للآخرين.

إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين.

الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني، أي القسم بالملائكة والإنس؟

الآية التالية توضّح ذلك وتقول: «إِنَّ إَلهَكُمْ لَوَاحِدٌ».

قسم بتلك المقدسات التي ذكرناها فإنّ الأصنام ستزول وتدمّر، وإنّه ليس هناك من شريك ولا شبيه ولا نظير للَّه سبحانه وتعالى.

ثم يضيف: «رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ».

فالشمس في كل يوم تشرق من مكان غير المكان الذي أشرقت منه قبل يوم أو بعد يوم، والفواصل الموجودة بين هذه النقاط منظمة ودقيقة للغاية، حيث إنّها لا تزيد ولا تقلّ بمقدار 11000 من الثانية، وهذا التنظيم الدقيق موجود منذ ملايين السنين، كما أنّ هذا النظام ينطبق على ظهور وغروب النجوم.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)

دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 186

حفظ السماء من تسلّل الشياطين: الآيات السابقة تحدثت عن طوائف الملائكة المكلفة بتنفيذ المهام الجسام، والآيات مورد البحث تتحدث عن الطائفة المقابلة لها، أي الشياطين وعن مصيرهم. ويمكن أن تكون هذه الآيات مقدمة لدحض معتقدات مجموعة من المشركين الذين يعبدون الشياطين والجن، وتتضمّن كذلك درساً في التوحيد بين طيّاتها.

تبدأ الآية بالقول: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».

حقّاً إنّ منظر النجوم في السماء رائع الجمال، ولا تملّ أيّ عين من طول النظر إليه، بل إنّ النظر إليه يزيل التعب والهمّ من داخل الإنسان، (ممّا يذكر أنّ أبناء المدن في العصر الحاضر التي يغطّيها دخّان المصانع، لا يستمتعون بمشاهدة السماء وهي مرصّعة بالكواكب كما يشاهدها الإنسان القروي حيث يدركون هذه المقولة القرآنية- أي تزيين السماء بالكواكب- بصورة أفضل).

أمّا الآية: «وَحِفْظًا مّن كُلّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ» فإنّها تشير إلى حفظ السماء من تسلّل الشياطين إليها.

«مارد»: مشتقة من «مرد» التي تعني الأرض المرتفعة الخالية من الزرع، وهنا المقصود هو الشخص الخبيث العاري من الخير.

ثم يضيف القرآن الكريم: إنّ الشياطين لا تتمكّن من سماع حديث ملائكة الملأ الأعلى ومعرفة أسرار الغيب التي عندهم، فكلّما حاولوا عمل شي ء ما لسماع الحديث، رشقوا بالشهب من كل جانب: «لَّايَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ».

نعم، إنّهم يطردون من السماء بشدّة، وقد أعدّ لهم عذاب دائم، كما جاء في قوله تعالى:

«دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ». «لَّا يَسَّمَّعُونَ» بمعنى (لا يستمعون) ويفهم منها أنّ الشياطين يحاولون معرفة أخبار «الملأ الأعلى» إلّاأنّه لا يسمح لهم بذلك.

«الْمَلَإِ الْأَعْلَى ، تعني ملائكة السماوات العلى، لأنّ كلمة «ملأ» تطلق في الأصل على الجماعة

التي لها وجهة نظر واحدة.

وعندما يوصف الملأ ب (الأعلى) فذلك إشارة إلى الملائكة الكرام ذوي المقام الأرفع والأسمى.

«يقذفون»: مشتقة من «قذف» وتعني رمي الشي ء إلى مكان بعيد، والمقصود هنا طرد الشياطين بواسطة الشهب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 187

وهنا إشارة إلى أنّ الشياطين لا يطردون ولا يمنعون من الإقتراب من السماء فحسب، بل سيصيبهم في النهاية- مع ذلك- عذاب دائم.

وأشارت الآية أيضاً إلى طائفة من الشياطين الشريرة التي تحاول الصعود إلى السماء العليا لإستراق السمع، وإلى المصير الذي ينتظرها هناك، كما جاء في الآية الشريفة: «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ».

«الخطفة»: أي اختلاس الشي ء بسرعة.

و «الشهاب»: شي ء مضي ء متولد من النار، ويرى نوره في السماء على شكل خط ممتد.

وكما هو معروف فإنّ الشهب ليست نجوماً، وإنّما تشبه النجوم، وهي عبارة عن قطع صغيرة من الحجر متناثرة في الفضاء، عندما تدخل في مجال جاذبية الأرض، تنجذب نحوها، ونتيجة دخولها بسرعة إلى جوّ الأرض وإحتكاكها الشديد مع الهواء المحيط بالكرة الأرضية فإنّها تشتعل وتحترق.

و «ثاقب»: تعني النافذ والخارق.

وهذه إشارة إلى أنّ الشهاب يثقب كل شي ء يصيبه ويحرقه.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) الذين لا يقبلون الحق أبداً: هذه الآيات تعالج قضية منكري البعث، وتتابع البحث السابق بشأن قدرة الباري ء عزّ وجل خالق السماوات والأرض، وتبدأ بالإستفسار منهم وتقول: إسألهم هل أنّ معادهم وخلقهم مرّة ثانية أصعب أو خلق الملائكة والسماوات والأرض: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا».

نعم، فنحن خلقناهم من مادة تافهة، من طين

لزج: «إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لَّازِبٍ».

فالمشركون الذين ينكرون المعاد، قالوا بعد سماعهم الآيات السابقة بشأن خلق السماوات والأرض والملائكة. إنّ خلق الإنسان أصعب من خلق السماوات والأرض والملائكة، إلّاأنّ القرآن الكريم أجابهم بالقول: إنّ خلق الإنسان مقابل خلق الأرض

مختصر الامثل، ج 4، ص: 188

والسماء والملائكة الموجودة في هذه العوالم، يعدّ لا شي ء، لأنّ أصل الإنسان يعود إلى حفنة من التراب اللزج. ولأنّ أصل الإنسان كان من التراب الذي خلط بالماء، وبعد فترة أضحى طيناً متجمّعاً ذا رائحة نتنة، ثم تحول إلى طين متماسك (وهذه الصورة هي جمع لحالات متعددة مذكورة في عدّة آيات في القرآن المجيد).

ثم يضيف القرآن الكريم: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ».

وما يكمن وراء تلك التصرفات القبيحة ليس هو الجهل- فقط- وعدم المعرفة، بل إنّها اللجاجة والعناد، إذ أنّهم كلّما ذكّروا بدلائل المعاد والعقوبات الإلهية لا يتذكّرون «وَإِذَا ذُكّرُوا لَايَذْكُرُونَ».

والأنكى من ذلك، أنّهم كلّما شاهدوا معجزة من معجزاتك، لا يكتفون بالإستهزاء، وإنّما يدعون الآخرين للإستهزاء أيضاً: «وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ». «وَقَالُوا إِنْ هذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ».

قولهم «هذا» المقصود منه تحقير المعجزات والآيات الإلهية والإنتقاص منها.

أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) هل نبعث من جديد: الآيات هذه تتابع سرد أقوال منكري المعاد، وتواصل الردّ عليها، فالآية الاولى تعكس إستبعاد البعث من قبل منكريه بهذا النص: «أَءِذَا مِتْنَا

وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ».

وهل سيبعث آباؤنا الأوّلون أيضاً؟ «أَوَ ءَابَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ». فمن يستطيع جمع تلك العظام النخرة وأكوام التراب المتفرّقة المتبقيّة من الإنسان؟ ومن يتمكّن من إعادة الحياة إليها؟

فهؤلاء ذوي القلوب العمياء نسوا أنّهم كانوا تراباً في اليوم الأوّل، ومن التراب خلقوا، وإذ كانوا يشكّكون في قدرة اللَّه، فعليهم أن يعرفوا أنّ اللَّه كان قد أراهم قدرته، وإن كانوا يشكّكون بإستحالة التراب، فقد أثبت ذلك من قبل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 189

ثم يردّ القرآن على تساؤلاتهم عندما يقول للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: قل لهم: نعم أنتم وأجدادكم ستبعثون صاغرين مهانين أذلّاء، «قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ».

فهل تتصورون أنّ عملية إحيائكم والأوّلين تعدّ مستحيلة، أو هي عمل عسير على اللَّه القادر والقوي؟ كلّا، فإنّ صرخة عظيمة واحدة ممّن كلّفهم اللَّه سبحانه وتعالى بذلك كافية لبعث الحياة بمن في القبور، ونهوض الجميع فجأة من دون أيّ تمهيد أو تحضير من قبورهم ليشاهدوا بأعينهم ساحة المحشر التي كانوا بها يكذّبون: «فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ».

تعبير «زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ» مع الإلتفات إلى معنى الكلمتين، يشير إلى أنّ البعث يتمّ بسرعة وعلى حين غرّة، وإلى سهولته في مقابل قدرة الباري ء عزّ وجل.

وهنا تتعالى صرخات المشركين المغرورين وتبيّن ضعفهم وعجزهم وعوزهم، ويقولون: الويل لنا فهذا يوم الدين: «وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هذَا يَوْمُ الدّينِ».

نعم، فعندما تقع أعينهم على محكمة العدل الإلهي وشهودها وقضاتها، وعلى علامات العقاب فإنّهم- من دون أن يشعروا- يصرخون ويبكون، ويعترفون بحقيقة البعث.

وهنا يوجّه إليهم الخطاب من الباري ء عزّ وجل أو من ملائكته: نعم، اليوم هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون، «هذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذّبُونَ».

وبما أنّ المجرمين لا يفكّرون إلّابالجزاء والعقاب الذي

سينالهم، يطلق على يوم القيامة اسم يوم الجزاء، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى يشير إلى معنى أوسع من الجزاء الذي يعدّ أحد أبعاد ذلك اليوم، إذ يعتبر ذلك اليوم هو يوم الفصل.

يوم فصل الحق عن الباطل، فيجب أن تتبيّن كل الخطوط المتضادة والبرامج الحقيقية والكاذبة و يوم المحاكمة.

فطبيعة الدنيا هي إختلاط الحق بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحق عن الباطل، ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد (يوم الفصل).

ثم يصدر الباري ء عزّ وجل أوامره إلى ملائكته المكلفين بإرسال المجرمين إلى جهنم أن «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ».

نعم احشروهم وما كانوا يعبدون «مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ».

«احشروا»: مشتقة من «حشر»، ويقول الراغب في مفرداته: إنّها تعني إخراج الجماعة عن مقرّهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 190

(أزواج) هنا إمّا أن تشير إلى زوجات المجرمين والمشركين، أو إلى من يعتقد إعتقادهم ويعمل عملهم ومن هو على شاكلتهم، لأنّ هذه الكلمة تشمل المعنيين.

جملة «مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ» تشير إلى آلهة المشركين، كالأصنام والشياطين والطغاة المتجبّرين والفراعنة والنماردة.

ففي أحد الأيام ارشدوا إلى الصراط المستقيم ولكنّهم لم يقبلوه، واليوم يجب أن يهدوا إلى صراط الجحيم، وهم مجبرون على القبول به، وهذا توبيخ عنيف لهم يجعلهم يتحرّقون ألماً في أعماقهم.

وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) الحوار بين القادة

والأتباع الضالين: الآيات السابقة إستعرضت كيفية سوق ملائكة العذاب للظالمين ومن يعتقد إعتقادهم برفقة الأصنام والآلهة الكاذبة التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه، إلى مكان معين، ومن ثم هدايتهم إلى صراط الجحيم.

واستمراراً لهذا الإستعراض يقول القرآن: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُولُونَ».

ولكن عمّاذا يسألون؟ هناك روايات يذكرها الشيعة والسنّة في أنّهم يسألون عن ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام «1».

وبالطبع، فإنّ مثل هذه الروايات لا تحدّ من المفهوم الواسع للآيات، بل تعكس مصاديقها الواضحة. بناءً على ذلك فإنّه ليس هناك أي مانع من أن يسأل عن كل شي ء، عن العقائد وعن التوحيد والولاية، وعن الحديث والعمل، وعن النعم والمواهب التي وضعها اللَّه سبحانه وتعالى في إختيار الإنسان.

على أيّة حال، فعندما يساق المجرمون إلى صراط الجحيم، تكون أيديهم مقطوعة عن

______________________________

(1) الرواية هذه وردت في الصواعق المحرقة/ 89، عن الديلمي عن أبي سعيد الخدري نقلًا عن النبي صلى الله عليه و آله كما وردت عن الحاكم بن أبوالقاسم الحسكاني في شواهد التنزيل 2/ 160، نقلًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 191

كل شي ء وقاصرة عن تحصيل العون، ويقال لهم: أنتم الذين كان أحدكم يلجأ إلى الآخر في المشكلات ويطلب العون منه، لِمَ لا ينصر بعضكم بعضاً الآن «مَا لَكُمْ لَاتَنَاصَرُونَ».

فكل الدعائم التي تصوّرتم إنّها دعامات مطمئنة في الدنيا ازيلت عنكم، ولا يمكن أن يساعد بعضكم البعض، كما أنّ آلهتكم ليسوا بقادرين على تقديم العون لكم، لأنّهم عاجزون ومنشغلون بأنفسهم.

الآية التي تليها تضيف: إنّهم في ذلك اليوم مستسلمون لأوامر اللَّه وخاضعون له، ولا يمكنهم إظهار المخالفة أو الإعتراض، «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ».

وهنا يبدأ كل واحد منهم بلوم الآخر، ويسعى إلى إلقاء أوزاره

على عاتق الآخر، والتابعون يعتبرون رؤساءهم وأئمّتهم هم المقصّرون، فيقابلونهم وجهاً لوجه، ويبدأ كل منهم بسؤال الآخر، كما تقول الآية: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».

وهنا يقول التابعون لمتبوعيهم: إنّكم شياطين، إذ كنتم تأتوننا بعنوان النصيحة والهداية والتوجيه وإرادة الخير والسعادة لنا، ولكن لم يكن من وراء مجيئكم سوى المكر والضياع «قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ».

إذ أنّنا- بحكم فطرتنا- كنّا نسعى وراء الخير والطهارة والسعادة، ولذا لبّينا دعوتكم. نعم فكل الذنوب التي إرتكبناها أنتم مسؤولون عنها، لأنّنا لم نكن نملك شيئاً سوى حسن النية وطهارة القلب، وأنتم الشياطين الكذّابون لم يكن لديكم سوى الخداع والمكر.

«يمين»: تعني (اليد اليمنى) أو (الجهة اليمنى) والعرب تعتبرها في بعض الأحيان كناية عن الخير والبركة والنصيحة.

وفي المقابل فإنّ المتبوعين والقادة يجيبون تابعيهم بالقول: «قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

ودليلنا واضح، إذ لم تكن لنا أي سلطة عليكم، ولم نضغط عليكم ونجبركم لعمل أي شي ء: «وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مّن سُلْطَانٍ».

إنّما أنتم قوم طغاة ومعتدون، وأخلاقكم وطبيعتكم الظالمة صارت سبب تعاستكم «بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ».

وكم هو مؤلم أن يرى الإنسان قائده وإمامه الذي كان قد إرتبط به قلبيّاً طوال عمره، قد تسبّب في تعاسته وشقائه ثم يتبرّأ منه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 192

في الحقيقة، إنّ كلتا المجموعتين صادقة في قولها.

فجدالكم لا يؤدي إلى نتيجة، وهنا يعترف أئمة الضلال بهذه الحقيقة، ويقولون: بهذا الدليل ثبت أمر اللَّه علينا، وصدر حكم العذاب بحق الجميع، وسينالنا جميعاً عذاب اللَّه «فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبَّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ».

إنّكم كنتم طاغين، وهذا هو مصير الطغاة، أمّا نحن فقد كنا ضالين ومضلين.

فنحن أضللناكم كما كنّا نحن أنفسنا ضالين «فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ».

بناء على ذلك ما الذي يثير العجب في أن نكون

جميعاً شركاء في هذه المصائب وهذا العذاب؟

إنّ سبب تأثيرنا عليكم هو وجود روح الطغيان في داخلكم؛ هذا الطغيان هيّأ لديكم أرضية التأثّر بإغوائنا، وعبر هذا الطريق تمكّنا من نقل الخرافات إليكم.

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) مصير أئمة الضلال وأتباعهم: الآيات السابقة بحثت موضوع التخاصم الذي يدور بين أئمة الضلال وتابعيهم يوم القيامة قرب جهنم، أمّا الآيات أعلاه فقد وضّحت- في موضع واحد- مصير المجموعتين، وشرحت أسباب تعاستهم. ففي البداية تقول: إنّ التابع والمتبوع والإمام والمأموم مشتركون في ذلك اليوم بالعذاب الإلهي، «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ».

وبالطبع فإنّ إشتراكهم في العذاب لا يمنع من وجود إختلاف في المكان الذي سيلقون منه في جهنم، إضافةً إلى اختلاف نوع العذاب الإلهي؛ إذ من الطبيعي أنّ الذي يتسبّب في انحراف الآلاف من البشر لا يتساوى عذابه مع فرد ضالّ عادي.

وللتأكيد أكثر على تحقق العذاب تقول الآية التي تلتها: «إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ».

إنّ هذه هي سنّتنا، السنّة المستمدّة من قانون العدالة.

ثم توضّح السبب الرئيسي الكامن وراء تعاسة اولئك، وتقول: «إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 193

إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ».

إنّ التكبر والغرور، وعدم الإنصياع للحق، والعمل بالعادات الخاطئة والتقاليد الباطلة بإصرار ولجاجة، والنظر إلى كل شي ء باستخفاف واستحقار، تؤدّي جميعاً إلى إنحراف الإنسان.

لكن هؤلاء برّروا إرتكابهم للذنوب الكبيرة بتبريرات أسوأ من ذنوبهم، كقولهم: هل نترك آلهتنا وأصنامنا

من أجل شاعر مجنون؟ «وَيَقُولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُوا ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ».

لقد أطلقوا على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم، فأحياناً كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزناً، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعراً، وكانوا يعتبرونه (مجنوناً) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه، ووقف موقفاً صلباً أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك، الموقف الذي اعتبره المجتمع الضال في ذاك الوقت نوع من الإنتحار الجنوني، في الوقت الذي كان أكبر فخر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، هو عدم إستسلامه للوضع السائد حينذاك.

وهنا تدخل القرآن لردّ إدّعاءاتهم التافهة والدفاع عن مقام الوحي ورسالة النبي صلى الله عليه و آله عندما قال: «بَلْ جَاءَ بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ».

فمحتوى كتابه من جهة، وتوافق دعوته مع دعوات الأنبياء السابقين من جهة اخرى، هي خير دليل على صدق حديثه.

وأمّا أنتم أيّها المستكبرون الضالون، فإنّكم ستذوقون العذاب الإلهي الأليم: «إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ».

ولا تتصوّروا أنّ اللَّه منتقم، وأنّه يريد الإنتقام لنبيّه منكم، كلّا ليس كذلك: «وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وجزاؤكم إنّما هو نتيجة أعمالكم وتكبّركم وكفركم وعدم إيمانكم باللَّه وزعمكم بأنّ آيات اللَّه هي (شعر) ورسوله (مجنون) إضافةً إلى ظلمكم وإرتكابكم القبائح.

آخر آية في هذا البحث، والتي هي مقدمة للبحث المقبل، تستثني مجموعة من العذاب، وهي مجموعة عباد اللَّه المخلصين: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

وكلمة «عِبَادَ اللَّهِ» يمكنها لوحدها أن تبيّن إرتباط هذه المجموعة باللَّه سبحانه وتعالى، وعندما تضاف إليها كلمة (مخلصين) فإنّها تعطي لتلك الكلمة عمقاً وحياةً.

نعم فهذه المجموعة لا تحاسب على أعمالها، وإنّما يعاملها اللَّه سبحانه وتعالى بفضله

مختصر الامثل، ج 4، ص: 194

وكرمه،

ويمنحها من الثواب بغير حساب.

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَ لَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) جوانب من النعم لأهل الجنة: الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن عباد اللَّه المخلصين، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض العطايا والنعم غير المحدودة التي يهبها اللَّه سبحانه وتعالى لأهل الجنة، ويمكن توضيحها في سبعة أقسام:

تقول الآية أوّلًا: إنّ لهم رزقاً معلوماً ومعيّناً «أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ».

وهي الهبات المعنوية والمتع الروحية ودرك مظاهر ذات اللَّه، وتناول الشراب الطاهر والغمرة في عشق اللَّه، اللذة التي لا يمكن أن يدركها العبد ما لم يتذوّقها ويعيش رحابها.

ثم ينتقل إلى بيان نعم اخرى، ويعدّد قبل كل شي ء بعض نعم الجنة التي تقدّم لأهل الجنة بكل إحترام وتكريم: «فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ».

ثم يقول: إنّ أماكنهم في حدائق خضراء مملوءة بنعم الجنة «فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

فأيّ نعمة يتمنّونها موجودة هناك، وكل ما يطلبون يجدونه أمامهم.

وأشارت الآيات إلى النعمة الرابعة، وهي إستئناس أهل الجنة بمجالس السّمر التي يعقدونها مع أصدقائهم في جوّ ملؤه الصفاء، إذ يجلسون على سرر متقابلة وينظر كل منهم إلى الآخر: «عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ».

«سرر»: هي جمع «سرير» وهي الأسرّة التي يجلس عليها الناس في مجالس سمرهم.

أمّا القسم الخامس فيتحدث عن نعمة اخرى من النعم التي تغدق على أهل الجنة، إذ تطرّق إلى الشراب الطهور الذي يطاف به عليهم بكؤوس مملوءة بأنواع الخمور الطاهرة، ومتى ما أرادوا فإنّهم يسقون من ذلك الخمر ليغرقوا في عالم من النشاط والروحية: «يُطَافُ عَلَيْهِم

بِكَأْسٍ مّن مُّعِينٍ».

وهذه الكؤوس ليست في مكان معيّن يذهبون إليها لأخذها، وإنّما يطاف بها عليهم:

«يُطَافُ عَلَيْهِم».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 195

«كأس»: يطلقها أهل اللغة على إناء الشراب المملوء، فيما يطلقون كلمة «قدح» عليه إن كان خالياً؛ و «معين»: مشتقة من «معن» على وزن (صحن) وتعني الجاري، إشارة إلى أنّ هناك عيوناً جارية من الخمر الطاهر، تملأ منها- في كل لحظة- الكؤوس، ومن ثم يطاف بها على أهل الجنة.

ثم ينتقل الحديث إلى وصف كؤوس الشراب، إذ يقول: إنّها بيضاء اللون ومتلألئة وتعطي لذة للشاربين بها «بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لّلشَّارِبِينَ».

إنّها أشربة طاهرة، خالية من الألوان الشيطانية، وبيضاء اللون شفّافة.

الآية السابقة التي تطرّقت إلى الشراب والكؤوس ربّما تجلب إلى الأذهان مفاهيم اخرى، أمّا الآية التي تليها فتطرد في جملة قصيرة كافّة تلك المفاهيم عن الأذهان: «لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزِفُونَ».

«غول»: على وزن (قول) تعني الفساد الذي ينفذ إلى الشي ء بصورة غير محسوسة.

«ينزفون»: من مادة «نزف» على وزن (حذف) وتعني فقدان الشي ء تدريجيّاً. والمقصود في هذه الآية ذهاب العقل تدريجيّاً والوصول إلى حالة السكرة، أمّا خمر الجنة الطاهر فإنّه لا يسكر على الإطلاق، إذ لا يذهب بالعقل ولا يسبّب أي مضارّ.

أمّا القسم السادس، فإنّه يشير إلى الحور العين في جنات النعيم: «وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ». أي نرزقهم زوجات لا يعشقن سوى أزواجهن ويقصرن طرفهنّ عليهم فقط، ولهذه الزوجات أعيناً واسعة وجميلة.

«طرف»: في الأصل تعني جفن العين، وهذه الكلمة كناية عن النظر، إذ إنّ أجفان العين تتحرّك عندما ينظر الإنسان إلى شي ء ما؛ إذن فإنّ عبارة «قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ» تعني النساء اللواتي ينظرن نظرة قصيرة، وأنّهنّ ينظرن إلى أزواجهنّ فقط.

هذا التعبير كناية عن كونهنّ لا يعشقن إلّاأزواجهن، وقلوبهم متيّمة بمحبّتهم، ولا توجد

محبّة اخرى في قلوبهنّ، وهذا هو أكبر إمتياز للمرأة التي تحبّ زوجها وتتأمل به.

إنّ آخر آية في بحثنا هذا تعطينا وصفاً آخر لزوجات الجنة، إذ توضّح طهارتهن وقداستهنّ من خلال هذه العبارة: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ». أي إنّهن نظيفات وظريفات.

الهبات التي منّ اللَّه تعالى بها على أهل الجنة- المذكورة في الآيات السابقة- هي مجموعة من الهبات الماديّة والمعنوية، وإن كان حقيقة النعم التي تغدق على أهل الجنة خفيّة عن أهل الدنيا، إلّاإذا ذهبوا إلى هناك وشاهدوها عن قرب ليدركوها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 196

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) البحث عن رفيق السوء: عباد اللَّه المخلصون الذين إستعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم، كالفاكهة، والحور، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدثون معهم، وفجأة يتذكّرون أصدقاءهم في الدنيا، أصدقاءهم الذين إنفصلوا عنهم في الطريق، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنة، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض، «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ».

فجأةً خطر في ذهن أحدهم أمر، فالتفت إلى أصحابه قائلًا: لقد كان لي صديق في الدنيا «قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ».

ومع الأسف، فإنّه انحرف عن الطريق الصحيح،

وصار منكراً ليوم البعث، وكان دائماً يقول لي: هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟ «يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ».

هل أنّنا إذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً نحيا مرّة اخرى، لنساق إلى الحساب: «أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءِنَّا لَمَدِينُونَ» «1».

وهنا يخاطب من كان يتحدث معهم من أهل الجنة، بالقول: ليتني أعرف أين هو الآن؟

وفي أيّة ظروف يعيش؟

ويضيف: أيّها الأصدقاء، هل تستطيعون البحث عنه، ومعرفة حاله، «قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ» «2».

______________________________

(1) «مدينون»: من مادة «دين» وتعني الجزاء، وهنا تعني: هل أنّنا سنجزى؟

(2) «مطّلعون»: من مادة «إطّلاع» وتعني التفتيش والبحث، والإشراف على شي ء من مكان عالٍ، وأخذ المعلومات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 197

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنم، ويرى فجأةً صديقه وسط جهنم:

«فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَاءِ الْجَحِيمِ» «1».

فيخاطبه قائلًا: أقسم باللَّه لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه «قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ» «2».

فلولا لطف اللَّه الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنم «وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ».

وهنا يلقي نظرة اخرى إلى صديقه في جهنم، ويقول له موبّخاً إيّاه: ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت «أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ». سوى مرّة واحدة في الدنيا، وبعدها لا حياة اخرى ولا عذاب «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني: «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية، وتشمله الألطاف الإلهية.

ثم يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق: «لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ». أي لمثل هذا فليعمل الناس، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية

المذكورة أعلاه، عندما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية، التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كل أشكال الغم.

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)

______________________________

(1) «سواء»: تعني الوسط.

(2) «تردين»: من مادة «إرداء» وتعني السقوط من مكان عالٍ، وهلاك الساقط.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 198

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار: بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها اللَّه سبحانه وتعالى على أهل الجنة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه اللَّه لأهل جهنم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة. ففي البداية تقول: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ».

«نُزُل»: تعني الشي ء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد، والبعض الآخر قال:

إنّها تعني الشي ء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده.

و «زقّوم»: اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة.

و «شجرة»: لا تأتي دائماً بمعناها المعروف، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات)؛ والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات). مختصر الامثل ج 4 219

ثم يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: «إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ».

«فتنة»: تعني المحنة والعذاب، كما تعني الامتحان، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية

والاستهزاء، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لُاولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم: «إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ».

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم، ويقولون: كيف يمكن لنبات أو شجر أن ينبت في قعر جهنم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاصول التي تحكم في ذلك العالم- أي الآخرة- تختلف كثيراً عن الاصول الحاكمة في العالم الدنيوي.

ثم يضيف القرآن الكريم: «طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ».

إنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز.

ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين: «فَإِنَّهُمْ لَأَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ».

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث إنّ أكل هذا النبات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 199

الذي ينبت في جهنم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله- وبكميّات كبيرة- يعدّ عذاباً أليماً.

ومن البديهي، فإنّ من يتناول هذا الطعام السي ء الطعم والمرّ، يصيبه العطش، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول: «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مّنْ حَمِيمٍ».

«الشوب»: هو الشي ء المخلوط أو الممزوج مع شي ء آخر؛ و «حميم»: هو الماء الحار البالغ في حرارته، وهذا هو غذاء أهل جهنم، وهذا هو شرابهم.

وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ».

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اولئك إلى جهنم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين مليئتين بالمعاني والحقائق: «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَالّينَ».

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة، «فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ».

«يهرعون»: من مادة «هرع» أي أسرع، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً

وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار، وإشارة اخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) الامم الضالة السابقة: بما أنّ المسائل السابقة المتعلقة بالمجرمين والضالين لا تختّص بزمان ومكان معينين، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل، ويهي ء الأرضية في عدة آيات قصيرة ومختصرة لشرح امور كثيرة عن الامم السابقة، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة.

ومن تلك الامم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول:

«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 200

ثم يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم:

«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ».

إذ أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك باللَّه والكفر به، والظلم والإعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولإطّلاعهم على مسؤولياتهم.

ثم يقول في عبارة ذات معان عميقة: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ».

إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

إنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الامم، وتدعو إلى التمعّن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ماعدا عباد اللَّه المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب.

وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي

الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) مقتطفات من قصة نوح: من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء اللَّه الكبار، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اولي العزم من الرسل. بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم: «وَلَقَدْ نَادَينَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ».

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح: «وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا» «1».

فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول: «وَنَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

______________________________

(1) سورة نوح/ 26 و 27.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 201

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة إستهزاء قومه الكافرين المغرورين به، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه.

ويضيف القرآن الكريم: «وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ».

وإضافةً إلى ذلك يقول القرآن: أنّنا جعلنا لنوح ثناءً وذكراً جميلًا في الأجيال والامم اللاحقة: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ».

فقد وصفه القرآن المجيد بالنبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام، منحه اللَّه سبحانه وتعالى وساماً خالداً يفتخر به في العالمين «سَلمٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ».

ولكي تكون خصوصيات نوح عليه السلام مصدر إشعاع للآخرين، أضاف القرآن الكريم: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ». و «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ درجة عبودية نوح للَّه وإيمانه به- إضافةً إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان- كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحاً وأنقذه من الغمّ الكبير، وبعث

إليه بالسلام، السلام الذي يمكن أن يشمل كل من عمل بما عمل به نوح، لأنّ معايير الألطاف الإلهية لا تتخلّف، ولا تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة شديدة اللهجة مصير تلك الامّة الظالمة الشريرة الحاقدة: «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْأَخَرِينَ».

إذ إنهمر المطر سيلًا من السماء، وتفجّرت الأرض عيوناً، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها، لافظاً إيّاهم بعدئذ أجساداً هامدة لا حياة فيها ولا روح.

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 202

خطّة إبراهيم الذكية في تحطيم الأصنام: آيات بحثنا هذا تتناول بشي ء من التفصيل حياة النبي الشجاع إبراهيم عليه السلام محطّم الأصنام بعد آيات إستعرضت جوانب من تاريخ نوح عليه السلام الملي ء بالحوادث. الآية الاولى ربطت بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة:

«وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرهِيمَ». أي: إنّ إبراهيم كان سائراً على خطى نوح عليه السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل. قال تعالى: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه».

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي

الآيات (88 و 89) على لسان النبي الكبير إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

نعم، من هنا تبدأ قصة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عبّاد الأصنام، وبدأ بأبيه وعشيرته: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ». ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه اللَّه على سائر المخلوقات، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثم يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: «أَئِفْكًا ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ».

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة: «فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ». إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّاً، ونعمه تحيط بكم من كل جانب، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون اللَّه.

وجاء في كتب التاريخ والتّفسير، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنوياً، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثم يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه، ثم يخرجون جميعاً إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وحين دعاه قومه ليلًا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ». «فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ». وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 203

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم، «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ».

إنّ أهل بابل كانوا يستقرئون النجوم، وبالطبع كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم عليه السلام بأنّه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إنّي

سقيم، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

ولكن روحه متعبة من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم عليه السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثم نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم عبدتكم، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوع، ما لكم لا تأكلون؟ «فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ» «1».

ثم أضاف: لِم لا تتكلّمون؟ لِم تعجز ألسنتكم عن النطق؟ «مَا لَكُمْ لَاتَنطِقُونَ».

بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكل ما لديه من قوّة: «فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ».

إنّ إنقضاض إبراهيم عليه السلام على الأصنام، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً.

ثم تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويل، حتى تذكّروا وجود شاب يعبد اللَّه في مدينتهم إسمه إبراهيم، كان يستهزى ء بأصنامهم «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ».

______________________________

(1) «راغ»: من مادة «روغ» وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 204

«يزفّون»: مشتقة من «زفّ» وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثم تستخدم للكناية عن (زفاف العروس)

إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فشل مخطّطات المشركين: بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصلة، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حساس واحد من مواقف إبراهيم عليه السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام: «قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ».

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئاً من صنع يديه؟

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان، وليس صنيعة يده، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ».

فهو خالق الأرض والسماء، ومالك الوقت والزمان، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حد جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّهاودحضها.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل.

ولإيقاف إنتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر إنتشاره على مصالحهم الخاصة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضد إبراهيم عليه السلام، حيث هتفوا بالإعتماد على قدراتهم الدنيوية: أن ابنوا له بنياناً عالياً، واشعلوا في وسطه النيران ثم ارموه فيه: «قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ».

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة، ومن ثم إشعال النيران في داخلها، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة، إنّما تمّ- كما يحتمل- للحؤول دون إمتداد النيران إلى خارجها، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها، ولإيجاد جهنم

واقعية

مختصر الامثل، ج 4، ص: 205

كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

«الجحيم»: في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى تفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة: «فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ».

«كيد»: في الأصل تعني الإحتيال، أكان بطريقة صحيحة أم خطأ، مع أنّها غالباً ما تستعمل في موارد مذمومة، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

إبراهيم عليه السلام الذي نجا بإرادة اللَّه من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام، إذ إنّ رسالته في بابل قد إنتهت؛ «وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ».

من البديهي أنّ اللَّه لا يحويه مكان، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي، فإنّها هجرة إلى اللَّه.

الآيات- هنا- عكست أوّل طلب لإبراهيم عليه السلام من الباري ء عزّ وجل، إذ طلب الولد الصالح، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي، ويتمم ما تبقّى من مسيرته، وذلك حينما قال: «رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ».

فاستجاب اللَّه لدعاء عبده إبراهيم، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق).

فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ

(108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم عليه السلام من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك، وطلبه من اللَّه أن يرزقه ولداً صالحاً، إذ لم يكن له ولد، وأوّل آية في هذا البحث تتحدث عن الإستجابة لدعاء إبراهيم، إذ قالت الآية: «فَبَشَّرْنهُ بِغُلمٍ حَلِيمٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 206

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية، الاولى أنّه سيرزق طفلًا ذكراً، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

أخيراً، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهية، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى غلاماً، وهنا يقول القرآن: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ». يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على اموره.

فقد ذهب جمع من المفسرين: إنّ عمر إسماعيل كان (13) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحيّر، والذي يدلّ على بدء امتحان عسير آخر لهذا النبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أنّ اللَّه يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه.

امتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، ولكن قبل كل شي ء، فكّر إبراهيم عليه السلام في إعداد إبنه لهذا الأمر، حيث «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى .

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلّم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: «قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ

مَا تُؤْمَرُ».

ولا تفكّر في أمري، فإنّك «سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ».

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها؛ فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضية الذبح، حيث جعله هنا شخصية مستقلّة حرّة الإرادة.

ومن جهة اخرى، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل.

كتب البعض: إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

يا أبت، أحكم شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلًا بالنسبة لي ولك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 207

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثم أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّى ء من آلامها.

قربت اللحظات الحسّاسة، فعندما رأى إبراهيم عليه السلام درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى:

«فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» «1».

كبّ إبراهيم عليه السلام إبنه على جبينه، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة إبنه، وروحه تعيش حالة الهيجان، إلّاأنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده، ولكنّها لم تؤثّر بشي ء كالمرّة السابقة. نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: إذبحي، لكن اللَّه الجليل يعطي أوامره للسكّين

أن لا تذبحي، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري ء عزّ وجل.

وهنا ينهي القرآن كل حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة:

«وَنَادَيْنهُ أَنْ يَا إِبْرهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

ثم يضيف القرآن الكريم: «إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلؤُا الْمُبِينُ».

عملية ذبح الإبن البارّ المطيع على يد أبيه، لا تعدّ عملية سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه اللَّه بهذا الإبن.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر اللَّه، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح وإطمئنان يحفّه اللطف الإلهي، وإستسلام في مقابل هذا الأمر.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً، وتتحقق امنية إبراهيم في تقديم القربان للَّه، بعث اللَّه كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلًا عن إبنه إسماعيل، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى): «وَفَدَيْنهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ».

______________________________

(1) «تلّه»: من مادة «تلّ» وتعني في الأصل المكان المرتفع؛ و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه إبنه على مكان مرتفع من الأرض.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 208

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو إتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحالياً يذبح في كل عام أكثر من مليون اضحية تيمّناً بذلك الذبح العظيم وإحياءاً لذلك العمل العظيم. النجاح الذي حقّقه إبراهيم عليه السلام في الإمتحان الصعب، لم يمدحه اللَّه فقط ذلك اليوم، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ».

ولما إمتاز به إبراهيم عليه السلام من صفات حميدة، خصّه الباري ء عزّ وجل بالسلام: «سَلمٌ عَلَى إِبْرهِيمَ».

نعم، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين: «كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ». جزاء يعادل عظمة الدنيا، جزاء خالد على مدى الزمان، جزاء يجعل من إبراهيم أهلًا لسلام اللَّه عزّ وجل عليه.

من هو ذبيح

اللَّه؟ ظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح اللَّه.

وجاء في روايات عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق عليهما السلام، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح، فأجابا أنّه إسماعيل.

إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلَى إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) إبراهيم ذلك العبد المؤمن: الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصة إبراهيم وإبنه وتكملها. في البداية تصف الآية القرآنية إبراهيم:

«إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كل وجوده وكيانه وحتى إبنه العزيز البارّ، في صحن الإخلاص فداءً لربّه سبحانه وتعالى.

ثم تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها اللَّه تعالى لإبراهيم: «وَبَشَّرْنهُ بِإِسْحقَ نَبِيًّا مّنَ الصَّالِحِينَ».

الآية الأخيرة تتحدث عن البركة التي أنزلها الباري ء جلّ وعلا على إبراهيم وإبنه إسحاق: «وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحقَ».

«بركة»: مشتقة من «برك» على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وتدريجياً أعطت هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 209

الكلمة معنى الثبات وبقاء شي ء ما؛ والآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهية على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم.

وهذه البركات لا تشمل كل أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته، وإنّما تشمل- فقط- المؤمنين والمحسنين منهم، إذ تقول الآية في آخرها: «وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ».

«محسن»: جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع للَّه؛ و «ظالم»: جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب. فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء، وتقول لهم: إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للإفتخار، إن لم ترافقها صلة في الفكر

والالتزام بالرسالة.

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَ هَارُونَ (114) وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَ آتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَ هَارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) النعم التي منّ بها اللَّه على موسى وهارون: الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهية التي أغدقها اللَّه جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون.

الآية الاولى تشير إلى قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهرُونَ».

«المنّة»: في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن، ثم أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة، ولو إقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة.

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة. أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم، وكل واحدة منها أفضل من اختها. ففي المرحلة الاولى يقول سبحانه وتعالى: «وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ».

فهل هناك قلق أكثر من هذا، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 210

الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة. وفي المرحلة الثانية، قال الباري ء عزّ وجل: «وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ».

ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضاً، إلّاأنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم

بعنايته، جاء في محكم كتابه العزيز: «وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ».

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة، ويجيبهم على كل ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم، كما أكّدت الآية (44) من سورة المائدة ذلك: «إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَيةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ».

وفي المرحلة الرّابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم، «وَهَدَيْنَاهُمَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ».

أمّا المرحلة الخامسة فإنّها أكّدت على استمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما، إذ تقول الآية: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الْأَخِرِينَ». و المرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كل من موسى وهارون من عند اللَّه: «سَلمٌ عَلَى مُوسَى وَهرُونَ».

سلام من عند اللَّه، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والمذهب، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة- الأخيرة- نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباري ء عزّ وجل إليهما: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

نعم إنّ حصولهما على كل هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصة نوح وإبراهيم من قبل:

«إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 211

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير.

وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لَا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) النبي إلياس ومواجهته للمشركين: القصة الرابعة في هذه السورة إستعرضت بصورة مختصرة حياة نبي اللَّه (إلياس). يقول تعالى: «وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول: واذكر عندما أنذر قومه «إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ». أي: اتّقوا اللَّه واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وإرتكاب الذنوب والمظالم، وكل ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ».

قيل: (بعل) إسم صنم وكان من ذهب وطوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن «1».

فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة، وقال لهم: «اللَّهُ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

وإستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والفكر، لأنّ أهمّ قضية في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلّا أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اذناً صاغية لنصائحه ومواعظه، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم، وإنّما كذّبوه «فَكَذَّبُوهُ».

ومقابل تصرّفاتهم هذه توعّدهم اللَّه سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها: إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

______________________________

(1) روح المعاني 23/ 139.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 212

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس، ولكي لا يضيع حق هؤلاء، قال تعالى مباشرةً بعد تلك الآية: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

الآيات الأخيرة من بحثنا إستعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اخرى.

قوله تعالى: «وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْأَخِرِينَ». أي: إنّ الامم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل

حفظ خطّ التوحيد.

وفي المرحلة الثانية أثنى اللَّه سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين. قال تعالى:

«سَلمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ».

وفي المرحلة الثالثة، قال تعالى: «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين إستعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا: «إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ».

«الإيمان» و «العبودية» للَّه هما مصدر الإحسان، والإحسان يؤدّي إلى إنضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام اللَّه.

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلَا تَعْقِلُونَ (138) تدمير قوم لوط: «لوط» هو خامس نبي يذكر اسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه.

وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم عليه السلام، وأنّه من أنبياء اللَّه العظام.

بحثنا يبدأ بقوله تعالى: «وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

ثم يبيّن جوانب من قصة لوط، حيث قال: تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله: «إِذْ نَجَّيْنهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ».

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب: «إِلَّا عَجُوزًا فِى الْغَابِرِينَ». «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْأَخَرِينَ».

الجمل القصيرة- التي وردت أعلاه- تشير إلى تأريخ قوم لوط الملي ء بالحوادث، والتي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 213

ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين، فقد أضاف القرآن الكريم: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ». أي: إنّكم تمرّون في كل صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟ «وَبِالَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب

ليلًا ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط، وتقول: لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين. نعم، إنّه درس ما أكثر العبر فيه، ولكن المعتبرين منه قليل.

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) يونس في بوتقة الإمتحان: الحديث هنا عن قصة نبي اللَّه «يونس» عليه السلام وقومه التائبين، والتي هي سادس وآخر قصة تتناول قصص الأنبياء والامم السابقة.

في البداية، وكما تعوّدنا في القصص السابقة، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته، إذ تقول الآية: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

نبي اللَّه «يونس» عليه السلام كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد اللَّه ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثم محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك، إلّاأنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته، عدا مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة اللَّه وترك عبادة الأصنام، يئس يونس من هدايتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 214

وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس- بمعيّة الرجل العابد- عن قومه وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود

إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ».

«أبق»: مشتقة من «إباق» والتي تعني فرار العبد من سيّده، إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أنّ ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند اللَّه، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري ء عزّ وجل موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شك فإنّ نبي اللَّه يونس عليه السلام، معصوم عن الخطأ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اخرى من قومه، وأن يبقى معه حتى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

ووفق ما ورد في الروايات، فقد صعد يونس عليه السلام إلى السفينة، ثم إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام، فقال ركّاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت، ولم يجدوا سبيلًا سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس.

وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة، قال تعالى: «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ».

«ساهم»: من مادة «سهم» وتعني إشتراكه في الإقتراع، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي، كتبوا اسم كل راكب على (سهم) ثم خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس عليه السلام.

«مدحض»: مشتقة من «دَحْض» وتعني إبطال مفعول الشي ء أو إزالته أو التغلّب عليه؛ والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقية الأسماء.

وقال القرآن الكريم: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ». أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحق للملامة.

«التقم»: مشتقة من «الإلتقام» وتعني (البلع).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 215

«مليم»: من مادة «لوم» وتعني التوبيخ والعتب.

ومن

المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى، وإستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

في تفسير الدرّ المنثور: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لما أراد اللَّه حبس يونس عليه السلام في بطن الحوت أوحى اللَّه إلى الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً».

يونس عليه السلام إنتبه بسرعة للحادث، وتوجّه على الفور إلى اللَّه سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً اللَّه على تركه العمل بالأولى، وطالباً العفو منه.

ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس عليه السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية. قال تعالى: «فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لَّاإِلهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

إعتراف يونس الخالص بالظلم، وتسبيحه اللَّه المرافق للندم أدّى مفعوله، إذ إستجاب اللَّه له وأنقذه من الغم، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ».

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس عليه السلام. قال تعالى: «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتى يوم القيامة، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم، ومن ثم تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

ويضيف القرآن، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتات، وهو مريض: «فَنَبَذْنهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ».

فالحوت الضخم لفظ يونس- الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت- على ساحل خالٍ من الزرع والنبات، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثّر على سلامة وصحّة جسم يونس، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

كانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف

عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة: «وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ».

«اليقطين»: تعني كل نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار

مختصر الامثل، ج 4، ص: 216

وما يشابهها؛ و «الشجرة»: تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان. وبعبارة اخرى: تشمل كل الأشجار والنباتات. فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وجلسوا يبكون، داعين اللَّه سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي اللَّه يونس.

وهنا أزاح اللَّه عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف اللَّه.

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ولكن ما إن عاد إلى قومه حتى فوجى ء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون اللَّه سبحانه.

القرآن يقول هنا: «وَأَرْسَلْنهُ إِلَى مِائَةِ الْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ». كانوا قد آمنوا باللَّه، واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة، «فَامَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ».

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم باللَّه وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

دروس كبيره في قصة يونس عليه السلام: من هذه القصة يمكن إستخلاص الدروس التربوية ومن جملتها:

أ) هذه القصة توضّح كيف أنّ قوماً مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهية، وإنقاذ أنفسهم من العذاب.

ب) هذه

الحادثة تبيّن أنّ الإيمان باللَّه والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في اختيار الإنسان، وتوجد حالة من العمران والبناء، وتطيل الأعمار.

ج) أخيراً فإنّ مجريات هذه القصة تستعرض قدرة الباري ء عزّ وجل العظيمة التي لا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 217

يقف أمامها شي ء ولا يصعب عليها شي ء، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي، وإخراجه سالماً من هناك.

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثاً وَ هُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) التهم القبيحة: بعد إستعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين، يغيّر القرآن موضوع الحديث، ويتناول موضوعاً آخر يرتبط بمشركي مكة آنذاك.

إنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحية تفكيرهم كانوا يقيسون اللَّه عزّ وجل بأنفسهم، ويقولون: إنّ للَّه عزّ وجل أولاداً، وأحياناً يقولون: إنّ له زوجة.

في البداية يقول: اسألهم هل أنّ اللَّه تعالى خصّ نفسه بالبنات، وخصّهم بالبنين، «فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ».

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى اللَّه، حيث إنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدة ويحبّون الأولاد كثيراً.

فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية، ومن حيث التقييم عند اللَّه سبحانه وتعالى متساوون، وميزان شخصيتهم هو التقوى والطهارة.

ثم ينتقل الحديث إلى عرض دليل

حسّي على المسألة هذه، وبشكل إستفهام إستنكاري، قال تعالى: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ».

ومن دون أي شك فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي، إذ لم يستطع أحداً منهم الإدّعاء بأنّه كان موجوداً أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول: «أَلَا إِنَّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ».

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون: «مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 218

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟ «أَفَلَا تَذَكَّرُونَ». إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية، ويتفكّر في الأمر جيّداً، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان إدّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي، حيث يقول القرآن الكريم مخاطباً إيّاهم: لو كان ما تزعمونه صحيحاً لذكرته الكتب السابقة، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه، «أَمْ لَكُمْ سُلْطنٌ مُّبِينٌ».

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب: «فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام: «وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ ءَاتَيْنهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» «1».

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب، والتي تزعم بوجود نسبة بين اللَّه عزّ وجل والجن، فالآية هنا تخاطبهم بضمير الغائب، لأنّهم اناس تافهون، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ نَسَبًا».

والمراد من كلمة (نسب) كل أشكال الرابطة والعلاقة، حتى ولو لم

يكن هناك أي صلة للقرابة فيها، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنّها شركاء للَّه، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين اللَّه. فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدة، ويقول: «وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ».

ونزّه اللَّه تعالى نفسه عمّا قاله اولئك الضالون في صفاته تعالى، قائلًا: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ». وإستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة. قال تعالى: «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

العباد الخالصون من كل أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال، والذين لا يصفون الباري ء عزّ وجل إلّابما سمح لهم به.

______________________________

(1) سورة الزّخرف/ 19- 21.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 219

نعم، ينبغي لنا مراجعة كلمات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وخطب علي بن أبي طالب عليه السلام، وأدعية الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في صحيفته، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنين عليه السلام- في الخطبة 186 في نهج البلاغة- يصف اللَّه عزّ وجل بالقول: «لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولا يتغيّر بحال، ولا يتبدّل في الأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظّلام، ولا يوصف بشي ء من الأجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيريّة والأبعاض، ولا يقال: له حدّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية».

أمّا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام، فقد قال في الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية: «الحمد للَّه الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».

فَإِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ

(162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَ مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَ إِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) الإدّعاءات الكاذبة: الآيات السابقة تحدثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها، أمّا الآيات- مورد بحثنا الآن- فتتابع ذلك الموضوع، حيث توضّح في كل بضع آيات موضوعاً يتعلق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر في الطاهرين والمحسنين، وإنّما قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس. قال تعالى: «فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ».

نعم، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن الطريق المؤدّي إلى اللَّه «مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ». إلّااولئك الذين يريدون أن يحترقوا في نار جهنم «إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ».

بعد إنتهاء بحثنا حول الآيات الثلاث السابقة التي وضّحت مسألة إختيار الإنسان في مقابل فتن وإغراءات عبدة الأصنام، نواصل بحثنا حول الآيات الثلاث التالية والتي تتناول

مختصر الامثل، ج 4، ص: 220

مختصر الامثل ج 4 249

المرتبة العالية لملائكة اللَّه، وتقول مخاطبة عبدة الأصنام: إنّ الملائكة التي كنتم تزعمون أنّها بنات اللَّه لها مقام معيّن، والجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدث عن نفسها «وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ». وتضيف ملائكة الرحمن: وإنّنا جميعاً مصطفون عند اللَّه في إنتظار أوامره، «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ».

وإنّنا جميعاً نسبّحه، وننزّه عمّا لا يليق بساحة كبريائه: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ».

نعم، نحن عباد اللَّه، وقد وضعنا أرواحنا على الأكف بإنتظار سماع أوامره، إنّنا لسنا أبناء اللَّه، إنّنا ننزّه الباري ء عزّ وجل من تلك المزاعم

الكاذبة والقبيحة.

إنّ الآيات المذكورة أعلاه أشارت إلى ثلاث صفات من صفات الملائكة:

الاولى: أنّ لكل واحد منهم مقام معيّن ومشخص ليس له أن يتعدّاه.

والثانية: أنّهم مستعدّون دائماً لإطاعة أوامر اللَّه سبحانه وتعالى وتنفيذها في عالم الوجود.

والثالثة: أنّهم يسبّحون اللَّه دائماً وينزّهونه عمّا لا يليق بساحة كبريائه.

الآيات الأربع الأخيرة من هذا البحث تشير إلى أحد الأعذار الواهية التي تذرّع بها المشركون فيما يخصّ هذه القضية وعبادتهم للأصنام، وتجيب عليهم قائلة: «وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ». «لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ».

الآية التالية تقول: لقد تحقق ما كانوا يأملونه، إذ أنزل عليهم القرآن المجيد الذي هو أكبر وأعظم الكتب السماوية، إلّاأنّ هؤلاء الكاذبين في إدّعاءاتهم كفروا به، ولم يفوا بما قالوا، واتّخذوا موقفاً معادياً إزاءه، فسيعلمون وبال كفرهم «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) حزب اللَّه هو المنتصر: لا زلنا نتابع البحث في آيات هذه السورة المباركة، والتي شارفت على الإنتهاء، بعد أن إستعرضنا في الأبحاث السابقة جهاد الأنبياء العظام والمصاعب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 221

والعراقيل التي أثارها وأوجدها المشركون، ففي آيات بحثنا الحالي سنتطرّق لأهمّ القضايا الواردة في هذه السورة، إذ زفّت البشرى للمؤمنين بإنتصار جيش الحق على جيش الشيطان. الوعد الإلهي الكبير هذا إنّما جاء لبعث الأمل في صفوف المؤمنين في صدر الإسلام الذين كانوا لحظة نزول هذه الآيات يرزحون تحت ضغوط أعداء الإسلام في مكة، ولكل المؤمنين والمحرومين في كل زمان ومكان، والإستعداد لجهاد ومقاومة جيوش الباطل:

«وَلَقَدْ سَبَقَتْ

كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ». «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ». الوعد الإلهي من أهمّ الامور التي ينتظرها السائرون في طريق الحق بإشتياق، حيث يستمدّون منه القوى الروحية والمعنوية.

ولمواساة النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين، وللتأكيد على أنّ النصر النهائي سيكون حليفهم، وفي نفس الوقت لتهديد المشركين، جاءت الآية التالية لتقول: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ».

ويؤكّد القرآن الكريم التهديد الأوّل بتهديد آخر جاء في الآية التي تلتها، إذ تقول: انظر إلى لجاجتهم وكذبهم وإعتقادهم بالخرافات، إضافةً إلى حمقهم، فإنّهم سيرون جزاء أعمالهم القبيحة عن قريب: «وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ».

وسوف ترى في القريب العاجل إنتصارك وإنتصار المؤمنين وإنكسار وهزيمة المشركين المذلّة في الدنيا.

وعن تكرار اولئك الحمقى لهذا السؤال على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أين العذاب الإلهي الذي واعدتنا به؟ وإن كنت صادقاً، فلِم هذا التأخير؟

يردّ القرآن الكريم عليهم بلهجة شديدة مرافقة بالتهديد، قائلًا: اولئك الذين يستعجلون العذاب وأحياناً يتساءلون (متى هذا الوعد؟)، وأحياناً اخرى يقولون متسائلين (متى هذا الفتح؟): «أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ».

فعندما ينزل عذابنا عليهم، ونحيل صباحهم إلى ظلام حالك، فإنّهم في ذلك الوقت سيفهمون كم كان صباح المنذرين سيّئاً وخطيراً «فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ».

استخدام عبارة (ساحة) والتي تعني فناء البيت أو الفضاء الموجود في وسط البيت، جاء ليجسّم لهم نزول العذاب في وسط حياتهم، وكيف أنّ حياتهم الطبيعية ستتحوّل إلى حياة موحشة ومضطربة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 222

وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) تولّ عنهم: كما قلنا، فإنّ الآيات الأخيرة النازلة في هذه السورة جاءت لمواساة الرسول الأكرم صلى الله عليه

و آله والمؤمنين الحقيقيين، ولتهديد الكافرين اللجوجين.

الآيتان الأوّليتان في بحثنا هذا، تشبهان الآيات التي وردت في البحث السابق، إذ تقول بلغة مرفقة بالتهديد: تولّ عنهم واتركهم في شأنهم لمدّة معيّنة «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ».

وانظر إلى لجاجة اولئك الكافرين وكذبهم وممارساتهم العدائية ونكرانهم لوجود اللَّه، الذين سينالون جزاء أعمالهم عن قريب «وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ».

التكرار جاء للتأكيد، وذلك ليدرك اولئك الكافرون أنّ جزاءهم وهزيمتهم وخيبتهم أمر قطعي لابدّ منه وسيكون ذلك عن قريب، وسيبتلون بالنتائج المريرة لأعمالهم، كما أنّ إنتصار المؤمنين هو أمر قطعي ومسلّم به أيضاً.

ثم تختتم السورة بثلاثة آيات ذات عمق في المعنى بشأن (اللَّه) و (الرسل) و (العالمين)، إذ تنزّه اللَّه ربّ العزّة والقدرة من الأوصاف التي يصفه بها المشركون والجاهلون: «سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ».

فأحياناً يصفون الملائكة بأنّها بنات اللَّه، وأحياناً يقولون بوجود نسبة بين اللَّه والجن، وأحياناً اخرى يجعلون مصنوعات لا قيمة لها من الحجر والخشب بمرتبة الباري ء عزّ وجل.

وفي الآية الثانية شمل الباري ء عزّ وجل كافّة أنبيائه بلطفه غير المحدود، وقال: «وَسَلمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ». السلام الذي يوضّح السلامة والعافية من كل أنواع العذاب والعقاب في يوم القيامة، السلام الذي هو صمّام الأمان أمام الهزائم ودليل للإنتصار على الأعداء.

وأخيراً إختتمت السورة بآية تحمد اللَّه: «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

الآيات الثلاث الأخيرة يمكن أن تكون إشارة وإستعراضاً مختصراً لكل القضايا والامور الموجودة في هذه السورة، لأنّ الجزء الأكبر منها كان بشأن التوحيد والجهاد ضدّ مختلف أنواع الشرك، فالآية الاولى تعيد ما جاء بشأن تسبيح وتنزيه اللَّه عزّ وجل عن الصفات التي وصف بها من قبل المشركين، والقسم الآخر من السورة يبيّن جوانب من أوضاع سبع أنبياء كبار أشارت إليها هنا الآية الثانية.

مختصر الامثل،

ج 4، ص: 223

والآية الثالثة إستعرضت جزءاً آخر من النعم الإلهية، وبالخصوص أنواع النعم الموجودة في الجنة، وإنتصار جند اللَّه على جنود الكفر، والحمد والثناء الذي جاء في الآية الأخيرة، فيه إشارة لكل تلك الامور.

روي- في تفسير مجمع البيان- عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه: سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للَّه ربّ العالمين».

«نهاية تفسير سورة الصافات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 225

38. سورة ص

محتوى السورة: سورة (ص) يمكن إعتبارها مكمّلة لسورة الصافات، فمجمل مواضيعها يشابه كثيراً ما ورد في سورة الصافات.

ويمكن تلخيص محتويات هذه السورة في خمس أقسام:

1- يتحدّث عن مسألة التوحيد والجهاد ضدّ الشرك والمشركين، ومهمّة نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وعناد ولجاجة الأعداء تجاه الأمرين المذكورين أعلاه.

2- يعكس جوانب من تأريخ تسع من أنبياء اللَّه ومن بينهم (داود) و (سليمان) و (أيّوب) حيث تتحدث عنهم السورة أكثر من غيرهم.

3- يتطرّق إلى مصير الكفرة الطغاة يوم القيامة ومجادلة بعضهم البعض في جهنم، ويبيّن للمشركين وللذين لا يؤمنون باللَّه إلى أين ستؤدّي بهم أعمالهم.

4- يتناول مسألة خلق الإنسان وعلوّ مقامه وسجود الملائكة له.

5- يتوعّد الأعداء المغرورين بالعذاب، ويواسي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ النبي لا يريد جزاء من أحد مقابل دعوته، ولا يريد الشقاء والأذى لأحد.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كل جبل سخّره اللَّه لداود حسنات وعصمه اللَّه أن يصرّ على ذنب صغيراً أو كبيراً».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 226

وفي كتاب

ثواب الأعمال عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة اعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلّانبي مرسل أو ملك مقرّب، وأدخله اللَّه الجنة وكل من أحبّ من أهل بيته حتى خادمه الذي يخدمه».

والمراد من التلاوة هنا التلاوة التي ترافق التفكير العميق والتصميم الجدّي، الذين يدفعان الإنسان إلى العمل بما جاء في هذه السورة المباركة.

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

سبب النّزول

في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «أقبل أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب، فقالوا: إنّ ابن أخيك قد آذانا وآذى آلهتنا، فادعه ومره فليكفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهه».

قال: «فبعث أبو طالب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فدعاه، فلمّا دخل النبي صلى الله عليه و آله لم ير في البيت إلّا مشركاً فقال: السلام على من اتّبع الهدى، ثم جلس فخبّره أبو طالب بما جاؤوا له، فقال: أوَهل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب ويطأون أعناقهم؟ فقال أبو جهل نعم وما هذه الكلمة؟ فقال: تقولون لا إله إلّااللَّه».

قال: «فوضعوا أصابعهم في آذانهم وخرجوا هراباً وهم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلّاإختلاق». فأنزل اللَّه تعالى في قولهم: «ص وَالْقُرْءَانِ ذِى الذّكْرِ» إلى قوله «إنْ هذَا إِلَّا اخْتِلقٌ».

التّفسير

مرّة اخرى تمرّ علينا سورة تبدأ آياتها الاولى بحروف مقطعة وهو حرف «ص» ويطرح نفس السؤال السابق بشأن تفسير هذه الحروف المقطعة، ولكن مجموعة من المفسرين إعتبرت هنا حرف (ص)

رمزاً يشير إلى أحد أسماء اللَّه، وذلك لأنّ الكثير من أسمائه تبدأ بحرف الصاد مثل (صادق)، (صمد)، (صانع)؛ أو أنّه إشارة إلى (صدق اللَّه) التي إختصرت بحرف واحد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 227

ثم يقسم اللَّه تعالى بالقرآن ذي الذكر والذي هو حقّاً معجزة إلهية: «وَالْقُرْءَانِ ذِى الذّكْرِ».

فالقرآن ذكر ويشتمل على الذكر، والذكر يعني التذكير وصقل القلوب من صدأ الغفلة، تذكّر اللَّه، وتذكّر نعمه، وتذكّر محكمته الكبرى يوم القيامة، وتذكّر هدف خلق الإنسان.

الآية التالية تقول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إذا رأيت هؤلاء لا يستسلمون لآيات اللَّه الواضحة ولقرآنه المجيد، فاعلم أنّ سبب هذا لا يعود إلى أنّ هناك ستاراً يغطّي كلام الحق، وإنّما هم مبتلون بالتكبر والغرور اللذين يمنعان الكافرين من قبول الحق، كما أنّ عنادهم وعصيانهم- هما أيضاً- مانع يحول دون تقبّلهم لدعوتك: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ».

«العزّة»: كما قال الراغب في مفرداته، هي حالة تحول دون هزيمة الإنسان (حالة الذي لا يقهر)، وتعطي معنيين، فأحياناً تعني (العزّة الممدوحة) المحترمة، كما في وصف ذات اللَّه الطاهر بالعزيز، وأحياناً تعني (العزّة بالإثم) أي الوقوف بوجه الحق والتكبر عن قبول الواقع، وهذه مذلّة في حقيقة الأمر.

«شقاق»: مشتقة من «شقّ»، ومعناه واضح، ثم استعمل في معنى المخالفة، لأنّ الإختلاف يسبّب في أن تقف كل مجموعة في شقّ، أي في جانب.

القرآن هنا يعدّ مسألة العجرفة والتكبر والغرور وطيّ طريق الإنفصال والتفرقة من أسباب تعاسة الكافرين.

ولإيقاظ اولئك المغرورين المغفّلين، يرجع بهم القرآن الكريم إلى ماضي تأريخ البشر، ليريهم مصير الامم المغرورة والمتكبّرة، كي يتّعظوا ويأخذوا العبر منها «كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ». أي: إنّ امماً كثيرة كانت قبلهم قد أهلكناها (بسبب تكذيبها الأنبياء، وإنكارها آيات اللَّه،

وظلمها وإرتكابها للذنوب) وكانت تستغيث بصوت عال عند نزول العذاب عليها، ولكن ما الفائدة فقد تأخّر الوقت! ولم يبق أمامهم متّسع من الوقت لإنقاذ أنفسهم: «فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ».

فعندما كان أنبياء اللَّه في السابق يعظونهم ويحذّرونهم عواقب أعمالهم القبيحة، لم يكتفوا بصمّ آذانهم وعدم الإستماع، وإنّما كانوا يستهزئون ويسخرون من الأنبياء ويعذّبون المؤمنين ويقتلونهم، فبذلك أضاعوا الفرصة ودمّروا كل الجسور التي خلفهم، فنزل العذاب الإلهي ليهلكهم جميعاً، العذاب الذي رافقه إنغلاق باب التوبة والعودة، وفور نزوله تبدأ أصوات الإستغاثة تتعالى، والتي لا تغني عنهم يومئذ شيئاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 228

(لات): جاءت للنفي، وهي في الأصل (لا) نافية اضيفت إليها (تاء) التأنيث، لتعطي معنى التأكيد؛ و «مناص»: من مادة «نوص» وتعني الملاذ والملجأ.

وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ الْكَافِرُونَ هذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هذَا لَشَيْ ءٌ عُجَابٌ (5) وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذَا لَشَيْ ءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: نزلت بمكة لما أظهر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الدعوة بمكة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنّ ابن أخيك قد سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا، فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم، جمعنا له حالًا حتى يكون أغنى رجل في قريش، ونملّكه علينا. فأخبر أبو طالب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته، ولكن يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنة».

فقال لهم

أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشر كلمات، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «تشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّي رسول اللَّه».

فقالوا: ندع ثلاث مائة وستّين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً؟

فأنزل اللَّه تعالى: «أَجَعَلَ الْأَلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا»- إلى قوله- «إِلَّا اخْتِلقٌ».

التّفسير

هل يمكن قبول إله واحد بدلًا من كل تلك الآلهة: المغرورون والمتكبرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكل القيم. لذا فعندما رفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لواء التوحيد في مكة، وأعلن الإنتفاضة ضد الأصنام الكبيرة والصغيرة في الكعبة، والبالغ عددها (360) صنماً، تعجّبوا: لماذا جاءهم النذير من بينهم؟ «وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ».

كان تعجّبهم بسبب أنّ محمّداً صلى الله عليه و آله منهم ... أنّهم اعتبروا هذا الإمتياز الكبير نقطة سلبية في دعوة الرسول صلى الله عليه و آله وتعجّبوا من أمر بعثته إليهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 229

وأحياناً كانوا يجتازون مرحلة التعجّب إلى مرحلة إتّهام رسول اللَّه بالسحر والكذب «وَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ».

إنّ إتّهامهم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالسحر، إنّما نتج من جرّاء رؤيتهم لمعجزاته التي لا تقبل الإنكار وتنفذ بصورة مدهشة إلى أفكار المجتمع، وإتّهامه بالكذب بسبب تحدّثه بامور تخالف سنّتهم الخرافية وأفكارهم الجاهلية التي كانت جزءاً من الامور المسلّم بها في ذلك المجتمع، وإدّعاء الرسالة من اللَّه.

وعندما أظهر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعوته لتوحيد اللَّه، أخذ أحدهم ينظر للآخر ويقول له:

تعال واسمع العجب العجاب «أَجَعَلَ الْأَلِهَةَ إِلهًا وَاحِدًا إِنَّ هذَا لَشَىْ ءٌ عُجَابٌ».

نعم، فالغرور والتكبّر إضافة إلى فساد المجتمع، تساهم جميعاً في تغيّر بصيرة الإنسان، وجعله متعجباً من بعض الامور الواقعية والواضحة، في حين

يصرّ بشدة على التمسك ببعض الخرافات والأوهام الواهية.

وبعد أن يئس طغاة قريش من توسط أبي طالب في الأمر وفقدوا الأمل، خرجوا من بيته، ثم إنطلقوا وقال بعضهم لبعض، أو قالوا لأتباعهم: اذهبوا وتمسّكوا أكثر بآلهتكم، واصبروا على دينكم، وتحمّلوا المشاق لأجله، لأنّ هدف محمّد هو جرّ مجتمعنا إلى الفساد والضياع وزوال النعمة الإلهية عنّا بسبب تركنا الأصنام، وإنّه يريد أن يترأس علينا؛ «وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هذَا لَشَىْ ءٌ يُرَادُ».

«إنطلق»: مشتقة من «إنطلاق» وتعني الذهاب بسرعة والتحرّر من عمل سابق، وهنا تشير إلى تركهم مجلس أبي طالب وعلامات الضجر والغضب بادية عليهم.

و (الملأ) إشارة إلى أشراف قريش المعروفين الذين ذهبوا إلى أبي طالب.

وجملة «لَشَىْ ءٌ يُرَادُ» إشارة إلى دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، إذ اعتبرت قريش هذه الدعوة مؤامرة ضدّها، وقالت: إنّ ظاهرها يدعو إلى اللَّه، وباطنها يهدف إلى السيادة والرئاسة علينا وعلى العرب، ودعت الناس إلى التمسك أكثر بعبادة الأصنام، وترك تحليل أمر هذه المؤامرة إلى زعماء القوم.

فإنّ زعماء المشركين أرادوا بهذا القول تقوية المعنويات المنهارة لأتباعهم، والحيلولة دون تزعزع معتقداتهم، ولكن كل مساعيهم ذهبت أدراج الرياح.

ولخداع عوام الناس وإقناع أنفسهم، قال زعماء المشركين: «مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِى الْمِلَّةِ الْأَخِرَةِ إِنْ هذَا إِلَّا اخْتِلقٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 230

فلو كان ادّعاء التوحيد وترك عبادة الأصنام أمراً واقعياً لكان آباؤنا الذين كانوا بتلك العظمة والشخصية قد أدركوا ذلك، وكنّا قد سمعنا ذلك منهم، لذا فهو مجرد حديث كاذب وليست له سابقة. وعبارة «الْمِلَّةِ الْأَخِرَةِ» تشير إلى آخر الأديان قبل ظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

«إختلاق»: مشتقة من «خلق» وتعني إبداء أمر لم تكن له سابقة، والمراد في الآية-

مورد البحث- أنّ التوحيد الذي دعا إليه هذا النبي مجهول بالنسبة لنا ولآبائنا الأوّلين.

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) الآيات السابقة تحدثت عن المواقف السلبية التي إتّخذها المعارضون لنهج التوحيد والإسلام، ونواصل في هذه الآيات الحديث عن مواقف المشركين، فمشركو مكة بعد ما أحسّوا أنّ مصالحهم اللامشروعة باتت في خطر، وإثر تزايد إشتعال نيران الحقد والحسد في قلوبهم، ومن أجل خداع الناس وإقناع أنفسهم عمدوا إلى مختلف الإدّعاءات بمنطق زائف لمحاربة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومنها سؤالهم بتعجب وإنكار: «أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا».

من البديهي أنّ أشكال التعجب والإنكار المتولّدة عن الخطأ في «تحديد القيم» إضافة إلى الحسد وحبّ الدنيا، لا يمكن أن تكون معياراً منطقياً في القضاء.

لهذا فإنّ تتمّة الآية تقول: إنّ مرض اولئك شي ء آخر، إنّهم في حقيقة الأمر يشكّكون في أمر الوحي وأمر اللَّه «بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّن ذِكْرِى».

ملاحظاتهم التي لا قيمة لها على شخصية الرسول ما هي إلّاأعذار واهية، وشكّهم وتردّدهم في هذه المسألة ليس بسبب وجود إبهام في القرآن المجيد، وإنّما بسبب أهوائهم النفسية وحبّ الدنيا وحسدهم.

وفي نهاية الأمر فإنّ القرآن الكريم يهدّدهم بهذه الآية: «بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابَ». أي إنّ هؤلاء لم يذوقوا العذاب الإلهي، ولهذا السبب تجاسروا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ويضيف القرآن الكريم في الردّ عليهم: هل يمتلكون خزائن الرحمة الإلهية كي يهبوا أمر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 231

النبوّة لمن يرغبون فيه،

ويمنعونها عمّن لا يرغبون فيه؟ «أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ».

فاللَّه سبحانه وتعالى بمقتضى كونه (ربّ) هذا الكون ومالكه، وباري ء عالم الوجود وعالم الإنسانية، ينتخب لتحمل رسالته شخصاً يستطيع قيادة الامة إلى طريق التكامل والتربية.

وبمقتضى كونه (العزيز) فإنّه لا يقع تحت تأثير الآخرين ويسلّم مقام الرسالة إلى أشخاص غير لائقين. ولكونه (الوهّاب) فإنّه ينفذ أيّ شي ء يريده، ويمنح مقام النبوّة لكل من يرى فيه القدرة على تحمّله.

ويمكن الاستفادة من كلمة (رحمة) هنا في أنّ النبوّة إنّما هي رحمة ولطف ربّ العالمين بعالم الإنسانية.

الآية اللاحقة واصلت تناول نفس الموضوع، ولكن من جانب آخر، حيث قالت: «أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِى الْأَسْبَابِ».

هذا الكلام يعدّ مكمّلًا للبحث السابق، إذ جاء في الآية السابقة: إنّكم لا تمتلكون خزائن الرحمة الإلهية، كي تمنحوها لمن تنسجم أهواؤه مع أهوائكم، والآن تقول الآية التالية لها: بعد أن تبيّن أنّ هذه الخزائن تحت تصرف الباري ء عزّ وجل، إذن فليس أمامكم غير طريق واحد، وهو أن ترتقوا إلى السماوات لتمنعوا الوحي أن ينزل على رسول اللَّه وإنّكم تعرفون أنّ تحقيق هذا الأمر شي ء محال، وأنتم عاجزون عن تنفيذه.

الآية الأخيرة في بحثنا جاءت بمثابة تحقير لُاولئك المغرورين السفهاء، قال تعالى: «جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّنَ الْأَحْزَابِ». فهؤلاء جنود قلائل مهزومون ...

«هنالك» إشارة للبعيد، وبسبب وجودها في الآية، فقد اعتبر بعض المفسرين أنّها إشارة إلى هزيمة المشركين في معركة بدر، التي دارت رحاها في منطقة بعيدة بعض الشي ء عن مكة المكرّمة.

وإستخدام كلمة (الأحزاب) هنا إشارة- حسب الظاهر- إلى كل المجموعات التي وقفت ضدّ رسل اللَّه، والذين أبادهم الباري ء عزّ وجل.

وفي ذلك اليوم لم تكن هنالك الإنتصارات في بدر والأحزاب وحنين قد

تحققت.

ولكن القرآن قال بحزم إنّ هؤلاء الأعداء- الذين هم مجموعة صغيرة من تلك المجموعات- سيهزمون في نهاية المطاف.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 232

واليوم يبشّر القرآن الكريم مسلمي العالم المحاصرين من كل الجهات من قبل القوى المعتدية والظالمة بنفس البشائر التي بشّر بها المسلمين قبل (1400) عام، في أنّ اللَّه سبحانه وتعالى سينجز وعده في هزيمة جند الأحزاب، إن تمسك مسلمو اليوم بعهودهم تجاه اللَّه كما تمسّك بها المسلمون الأوائل.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَ مَا يَنْظُرُ هؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) تكفيهم صيحة سماوية واحدة: تتمة للآية الآنفة الذكر، التي بشّرت بهزيمة المشركين مستقبلًا، تناولت آيات بحثنا الحالي بعض الأحزاب التي كذّبت رسلها، وبيّنت المصير الأليم الذي كان بإنتظارها، إذ تقول: إنّ أقوام نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد كانت قد كذّبت قبلهم بآيات اللَّه ورسله، «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ».

كذلك أقوام ثمود ولوط وأصحاب الأيكة- أي قوم شعيب- كانت هي الاخرى قد كذّبت رسلهم: «وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزَابُ».

فكلّ قوم من هذه الأقوام كذّب بما جاء به رسل اللَّه، وأنزل العذاب الإلهي بحقّه: «إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ».

والتاريخ بيّن كيف أنّ كل قوم من تلك الأقوام ابيد بشكل من أشكال العذاب، وكيف أنّ مدنهم تحوّلت إلى خرائب وأطلال خلال لحظات، وأصبح ساكنوها أجساد بلا أرواح!

فهل يتوقّع مشركو مكة أن يكون مصيرهم أفضل من مصير اولئك من جرّاء الأعمال العدائية التي

يقومون بها؟ لذا فإنّ الآية التالية تخاطبهم بلغة التهديد الحازمة والقاطعة: ما ينتظر هؤلاء من جرّاء أعمالهم إلّاصيحة سماوية واحدة تقضي عليهم وتهلكهم وما لهم من رجوع، «وَمَا يَنظُرُ هؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِن فَوَاقٍ».

يمكن أن تكون هذه الصيحة مماثلة للصيحات السابقة التي نزلت على الأقوام الماضية، كأن تكون صاعقة رهيبة أو زلزالًا عنيفاً يدمّر حياتهم وينهيها.

وقد تكون إشارة إلى صيحة يوم القيامة، التي عبّر عنها القرآن الكريم ب (النفخة الاولى في الصور).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 233

«فواق»: على وزن (رواق) هو الفاصل بين كل رضعتين، إذ بعد فترة معيّنة من حلب الثدي بصورة كاملة يعود فينزل إليه اللبن من جديد. وبما أنّ الثدي يستريح قليلًا بعد كل حلبة، فكلمة (فواق) يمكن أن تعطي معنى الهدوء والراحة. وبما أنّ هذه الفاصلة من أجل عودة الحليب مرّة اخرى إلى الثدي فإنّ هذه الكلمة تعطي مفهوم العودة والرجوع.

فالصيحة الرهيبة ليس بعدها رجوع ولا راحة ولا هدوء ولا إفاقة، ففور شروعها تغلق كل الأبواب أمام الإنسان.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى كلام آخر للكافرين حيث قالوا باستهزاء وسخرية: ربّنا عجّل علينا العذاب قبل حلول يوم الحساب، «وَقَالُوا رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ».

«قِط»: على وزن (جِنّ) تعني قطع الشي ء عرضاً، فيما تعني كلمة «قَد» وهي على نفس الوزن السابق، قطع الشي ء طولًا؛ وكلمة «قط» هنا تعني نصيباً أو سهماً.

وهذا الكلام قيل بعد نزول آيات قرآنية تؤكّد على أنّ هناك مجموعة تعطى صحائفها باليد اليمنى، ومجموعة اخرى تستسلم صحائفها باليد اليسرى.

وهنا قالت مجموعة من مشركي مكة وهي تستهزى ء: ما أجمل أن تسلّم إلينا الآن صحف أعمالنا لنقرأها ونشاهد ماذا عملنا؟

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنَا

دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْرَاقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنَا مُلْكَهُ وَ آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطَابِ (20) تعلّم من داود: تتمة للبحوث السابقة التي إستعرضت فيها آيات القرآن أذى المشركين لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونسبتهم إليه ما لا يليق به، فإنّ القرآن الكريم لمواساة رسول اللَّه وأصحابه المؤمنين القلائل، طرح قصة داود عليه السلام. ففي البداية تقول آيات بحثنا: «اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

«الأيد»: بمعنى القدرة، وتأتي أيضاً بمعنى النعمة.

وقد توفّر المعنيان المذكوران أعلاه في داود، إذ كان يتمتّع بقوّة جسدية مكّنته من أن يقتل الطاغية جالوت بضربة قويّة واحدة بواسطة حجر رماه من مقلاعه على جالوت،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 234

فأسقطه من فرسه مضرّجاً بدمه خلال إحدى المعارك. أمّا من حيث قدرته السياسية، فقد كانت حكومته قويّة ومستعدّة دائماً لمواجهة الأعداء، بكل قوّة وإقتدار، حتى قيل أنّ الآلاف من جنده كانت تقف على أهبة الإستعداد من المساء حتى الصباح في أطراف محراب عبادته.

ومن حيث قدرته الأخلاقية والمعنوية والعبادية، فإنّه كان يقوم معظم الليل في عبادة اللَّه، ويصوم نصف أيّام السنة.

وأمّا من حيث النعم الإلهية، فقد أنعم عليه الباري ء عزّ وجل بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.

خلاصة الحديث، إنّ داود كان رجلًا ذا قوّة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة وفي السياسة، وكان أيضاً صاحب نعمة كبيرة «1».

فإنّ الآيات الآنفة بعد أن تطرّقت بصورة موجزة إلى نعم اللَّه على داود، تشرح أنواعاً من تلك النعم. قال تعالى: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِىّ وَالْإِشْرَاقِ».

كذلك سخّرنا له مجاميع الطيور كي تسبّح اللَّه معه: «وَالطَّيْرَ

مَحْشُورَةً».

فكل الطيور والجبال مسخّرة لداود ومطيعة لأوامره، وتسبّح معه الباري ء عزّ وجل، وتعود إليه، «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ».

إنّ تسبيحها كان توأماً مع صوت ظاهري، مرافقاً لنوع من الإدراك والشعور الذي هو في باطن ذرّات العالم، وطبقاً لهذا الإحتمال، فإنّ كل موجودات العالم تتمتّع بنوع من العقل والشعور، وحينما تسمع صوت مناجاة هذا النبي الكبير تردّد معه المناجاة، ليمتزج تسبيحها مع تسبيح داود عليه السلام.

وتواصل الآية التالية إستعراض نعم اللَّه على داود عليه السلام، قال تعالى: «وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ».

أي: ثبّتنا وأحكمنا مملكته، بحيث كان العصاة والطغاة من أعدائه يحسبون لمملكته ألف حساب لقوّتها.

وإضافة إلى هذا فقد آتيناه الحكمة والعلم والمعرفة «وَءَاتَيْنهُ الْحِكْمَةَ».

(الحكمة) هنا تعني العلم والمعرفة وحسن تدبير امور البلاد، أو مقام النبوّة، أو جميعها.

______________________________

(1) «أيد»: جمع «يد»، وقد إستعملت هنا لكونها مظهر القوّة والنعمة والملك، وقد حملت كل هذه المعاني هنا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 235

وآخر نعمة إلهية انعمت على داود هي تمكّنه من القضاء والحكم بصورة صحيحة وعادلة «وَفَصْلَ الْخِطَابِ».

وهناك إحتمال آخر لتفسير هذه العبارة، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أعطى داود منطقاً قويّاً يدلّل على سمو وعمق تفكيره، ولم يكن هذا خاصّاً بالقضاء وحسب، بل في كل أحاديثه.

وَ هَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ لَا تُشْطِطْ وَ اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ قَلِيلٌ مَا

هُمْ وَ ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رَاكِعاً وَ أَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25) داود والإمتحان الكبير: تتمة للآيات السابقة التي إستعرضت الصفات الخاصة بداود والنعم الإلهية التي أنزلها الباري ء عزّ وجل عليه، يبيّن القرآن المجيد أحداث قضية عرضت على داود. ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «وَهَلْ أَتَيكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ».

«الخصم»: تطلق على الطرفين المتنازعين.

«تسوّروا»: مشتقة من «سور» وهو الحائط العالي الذي يبنى حول البيت أو المدينة؛ وتعني هذه الكلمة في الأصل القفز أو الصعود إلى الأعلى.

فرغم أنّ داود عليه السلام كان محاطاً بأعداد كبيرة من الجند والحرس، إلّاأنّ طرفي النزاع تمكّنا- من طريق غير مألوف- تسوّر جدران المحراب، والظهور أمام داود عليه السلام فجأةً، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون إستئذان ومن دون إعلام مسبق، وظنّ داود عليه السلام أنّهم يكنّون له السوء: «إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 236

إلّا أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر؛ «قَالُوا لَاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ».

فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح: «فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصّرَاطِ». «تشطط»: مشتقة من «شطط» على وزن (فقط)، وتعني البعيد جدّاً، ولكون الظلم والطغيان يبعدان الإنسان كثيراً عن الحقّ، فكلمة (شطط) تعني الإبتعاد عن الحق، كما تطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة.

ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99) نعجة، وأنا لا أمتلك إلّانعجة واحدة، وإنّه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمّها

إلى بقية نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ: «إِنَّ هذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ».

«النعجة»: هي الانثى من الضأن، وقد تطلق على انثى البقر الوحشي والخراف الجبلية.

«اكفلنيها»: مشتقة من «الكفالة»، وهي هنا كناية عن التخلي (ومعنى الجملة: إجعلها لي وفي ملكيتي وكفالتي، أي إمنحني إيّاها).

«عزّني»: مشتقة من «العزّة» وتعني التغلّب، وبذا يكون معنى الجملة إنّه تغلّب عليّ.

وهنا التفت داود عليه السلام إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضّحه ظاهر الآية) وقال: من البديهي أنّه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه؛ «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ».

وهذا الأمر ليس بجديد، إذ إنّ الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض يبغي على صاحبه، إلّاالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلّة: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ» «1».

فالأشخاص الذين يراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف المقابل، ولا

______________________________

(1) «خلطاء»: جمع «خليط» وتعني الأشخاص أو الأشياء المخلوطة بعضها مع بعض، كما تطلق على الصديق والشريك والجار، ورغم أنّ الظلم والإعتداء لم يختصّ بالخلطاء، إلّاأنّ ذكر هذه المجموعة بسبب وجود الإتّصالات المتكرّرة فيما بينهم، وإحتمال حدوث سوء تفاهم فيما بينهم، أو بسبب عدم توقّع حدوث أي ظلم وطغيان من قبل اولئك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 237

يعتدون عليه أدنى إعتداء ويؤدّون حقوق أصدقائهم ومعارفهم بصورة كاملة قليلون جدّاً، وهم المتزودّون بالإيمان والعمل الصالح.

على أيّة حال، فالظاهر أنّ طرفي الخصام إقتنعا بكلام داود عليه السلام وغادرا المكان.

ولكن داود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنّه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدّعاءات الطرف الأوّل- أي المدّعي- لكان

قد إعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليل على أنّ القضية هي كما طرحها المدّعي.

ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثم يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنه الباري ء عزّ وجل بهذه الحادثة: «وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنهُ».

وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى اللَّه العزيز الحكيم: «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ».

«خرّ»: مشتقة من «خرير» وتعني سقوط شي ء من علو ويسمع منه الصوت مثل صوت الشلالات، كما أنّها كناية عن السجود.

و «راكعاً»: إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللغة، أو لكون الركوع مقدمة للسجود.

فاللَّه سبحانه وتعالى شمل عبده داود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، كما توضّحه الآية التالية: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ». وإنّ له منزلة رفيعة عند اللَّه «وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ».

«زلفى»: تعني المنزلة (والقرب عند اللَّه)؛ و «حسن مآب»: إشارة إلى الجنة ونعم الآخرة.

يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) احكم بالعدل ولا تتّبع هوى النفس: نواصل استعراض قصة داود، ونقف هنا على

مختصر الامثل، ج 4، ص:

238

أعتابها النهائية، حيث إنّ آيات بحثنا هذا هي آخر الآيات الواردة في هذه السورة بشأن داود، إذ تخاطبه بلهجة حازمة وبعبارات مفعمة بالمعاني، شارحة له وظائفه ومسؤولياته الجسيمة بعد أن وضّحت مقامه الرفيع، إذ تقول: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ».

محتوى هذه الآية التي تتحدث عن مقام داود الرفيع والوظائف المهمّة التي كلّف بها، تبيّن أنّ القصص الخيالية والكاذبة التي نسجت بشأن زواج داود من زوجة (أوريا) كلّها كاذبة ولا أساس لها من الصحة. فهل يمكن أن ينتخب الباري ء عزّ وجل شخصاً ينظر إلى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ويلوّث يده بدم الأبرياء، خليفة له في الأرض، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذه الآية تضمّ خمس جمل كل واحدة منها تتحدث عن حقيقة معيّنة:

الاولى: خلافة داود في الأرض.

هذه الآية تبيّن أنّ الحكومة في الأرض يجب أن تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية، وأيّ حكومة لا تستلهم شرعيّتها من الحكومة الإلهية فإنّها حكومة ظالمة وغاصبة.

الجملة الثانية: تأمر داود قائلة: بعد أن منحك اللَّه سبحانه وتعالى هذه النعمة الكبيرة، أي الخلافة، فإنّك مكلّف بأن تحكم بين الناس بالحقّ «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ».

وفي واقع الأمر فإنّ إحدى ثمار خلافة اللَّه هي ظهور حكومة تحكم بالحق.

أمّا الجملة الثالثة: فإنّها تشير إلى أهمّ خطر يهدّد الحاكم العادل، ألا وهو اتّباع هوى النفس «وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى .

نعم، فهوى النفس ستار سميك يغطّي بصيرة الإنسان، ويباعد بينه وبين العدالة.

لهذا فإنّ الجملة الرابعة تقول: «فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ».

فأينما وجد الضلال كان لهوى النفس ضلع في ذلك، وأينما اتّبع هوى النفس فإنّ عاقبته الضلال.

والجملة الخامسة تشير إلى أنّ كل ضلال عن سبيل اللَّه لا ينفكّ عن نسيان يوم الحساب، ومن ينسى يوم الحساب فإنّ عذاب

اللَّه الشديد ينتظره: «إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ».

وتتمّة للبحث الذي إستعرض حال داود وخلافته في الأرض، تتطرق الآيات لأهداف خلق عالم الوجود، كي تشخّص أسباب الحكومة على الأرض التي هي جزء من ذلك العالم،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 239

فيقول تعالى: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ».

هناك مسألة مهمّة تعدّ مصدراً لكل الحقوق، وهي: ما الهدف من وجود الخلق؟ فعندما ننظر إلى هذا العالم الوسيع، ونوافق على أنّ هذا العالم الوسيع لم يخلقه اللَّه عبثاً، نتابع الهدف من وراء ذلك الخلق، الهدف الذي يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أنّ الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت اسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان.

الآية التالية تضيف: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ».

كما أنّ عدم وجود هدف من خلق العالم يعدّ أمراً مستحيلًا، فمن المستحيل أيضاً المساواة بين الصالحين والطالحين، لأنّ المجموعة الاولى كانت تخطو خطواتها وفق أهداف خلق العالم للوصول إلى الغاية النهائية، بينما كانت المجموعة الثانية تسير بإتّجاه مخالف لمسير المجموعة الاولى.

وبعبارة اخرى: فلإثبات مسألة المعاد- أحياناً- يمكن الاستدلال عليها عن طريق برهان (الحكمة) وأحياناً اخرى عن طريق برهان (العدالة)، فالآية السابقة استدلال بالحكمة، والآية التي بعدها إستدلال بالعدالة.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى موضوع يوضّح- في حقيقة الأمر- الهدف من الخلق، إذ جاء في الآية الكريمة: «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

فتعليماته خالدة، وأوامره عميقة وأصيلة، ونظمه باعثة للحياة وهادية للإنسان إلى

الطريق المؤدّي إلى إكتشاف هدف الخلق.

فالهدف من نزول هذا الكتاب العظيم لم يقتصر- فقط- على تلاوته وتلفّظ اللسان به، بل لكي تكون آياته منبعاً للفكر والتفكّر وسبباً ليقظة الوجدان، لتبعث بدورها الحركة في مسير العمل.

وَ وَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْنَاقِ (33)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 240

سليمان عليه السلام يستعرض قوّاته القتالية: هذه الآيات تواصل البحث السابق بشأن داود عليه السلام. فالآية الاولى تزفّ البشرى لداود في أنّه سيرزق بولد صالح هو سليمان، وسيتولّى الحكم وأعباء الرسالة من بعده، وتقول: «وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

هذه الجملة تبيّن عظمة مقام سليمان، ويحتمل كونها ردّاً على الإتّهامات القبيحة والعارية من الصحّة الواردة في التوراة المحرّفة عن ولادة سليمان من زوجة أوريّا، والتي كانت شائعة في المجتمع قبل نزول القرآن.

الآية التالية تبدأ بقصّة خيل سليمان، التي فسّرت بأشكال مختلفة، حيث إنّ البعض فسّرها بصورة سيّئة ومعارضة لموازين العقل، إذ يقول القرآن: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ».

«صافنات»: جمع «صافنة» وتطلق على الجياد التي تقوم على ثلاث قوائم وترفع أحد قوائمها الأمامية قليلًا ليمسّ الأرض على طرف الحافر، وهذه الحالة تخصّ الخيول الأصيلة التي هي على أهبّة الإستعداد للحركة في أيّة لحظة.

«الجياد»: جمع «جواد» وتعني الخيول السريعة السير، وكلمة «جياد» مشتقة في الأصل من (جود)، والجود عند الإنسان يعني بذل المال، وعند الخيول يعني سرعة سيرها.

ويستشف من الآية مع القرائن المختلفة المحيطة بها، أنّه في أحد الأيّام وعند العصر إستعرض سليمان عليه السلام خيوله الأصيلة التي كان قد أعدّها لجهاد

أعدائه.

فقد جاء هذا الوصف في القرآن بعد ذكر مقام سليمان باعتباره نموذجاً من أعماله.

ولكي يطرد سليمان التصوّر عن أذهان الآخرين في أنّ حبّه لهذه الخيول القوية ناتج من حبّه للدنيا، جاء في قوله تعالى: «فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّى».

إنّي احبّ هذه الخيل من أجل اللَّه وتنفيذ أمره، واريد الإستفادة منها في جهاد الأعداء.

وإستمرّ سليمان عليه السلام ينظر إلى خيله الأصيلة المستعدّة لجهاد أعداء اللَّه، وهو يعيش حالة من السرور، حتى توارت عن أنظاره: «حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ».

كان هذا المشهد جميلًا ولطيفاً لقائد كبير مثل سليمان، بحيث أمر بإعادة عرض الخيل مرّة اخرى: «رُدُّوهَا عَلَىَّ». وعندما نفّذت أوامره بإعادة الخيل، عمد سليمان عليه السلام إلى مسح سوقها وأعناقها: «فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ».

وبهذا الشكل أشاد بجهود مدربي تلك الخيول، وأعرب لهم عن تقديره لها، لأنّ من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 241

الطبيعي لمن أراد أن يعرب عن تقديره للجواد أن يمسح رأس ذلك الجواد ووجهه ورقبته وشعر رقبته، أو يمسح على ساقه، وأبرز في نفس الوقت تعلقه الشديد بخيله التي تساعده في تحقيق أهدافه العليا السامية، وتعلق سليمان الشديد بخيله ليس بأمر يبعث على العجب.

«طفق»: بإصطلاح النحويين من أفعال المقاربة، وتأتي بمعنى (شرع)؛ و «سوق»: هي جمع (ساق)؛ و «أعناق»: جمع (عنق) ومعنى الآية هو أنّ سليمان شرع بمسح سوق الجياد وأعناقها.

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَ أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَ الشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ

أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40) الإمتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع: هذه الآيات تتحدث عن أحداث اخرى من قصة سليمان. القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الإمتحانات التي إمتحن اللَّه بها عبده سليمان، الإمتحان في ترك العمل بالأولى، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى اللَّه سبحانه وتعالى طالباً منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ».

إنّ سليمان عليه السلام كان متزوجاً من عدّة نساء، وكان يأمل أن يُرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء، فحدّث نفسه يوماً قائلًا: لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي، ولكونه غفل عن قول (إن شاء اللَّه) بعد تمام حديثه مع نفسه، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على اللَّه سبحانه وتعالى في كل الامور والأحوال، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جي ء به والقي على كرسي سليمان عليه السلام.

سليمان عليه السلام غرق- هنا- في تفكير عميق، وتألّم لكونه غفل عن اللَّه لحظة واحدة وإعتمد على قواه الذاتية، فتاب إلى اللَّه وعاد إليه.

فإنّ القرآن الكريم- من خلال الآية التالية- يكرّر الحديث بصورة مفصلة حول قضية توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة: «قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 242

مُلْكًا لَّايَنبَغِى لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».

إنّ سليمان طلب من الباري ء عزّ وجل أن يهب له ملكاً مع معجزات خاصة، لأنّنا نعرف أنّ لكل نبي معجزة خاصة به. وهذا الأمر لا يعدّ عيباً أو نقصاً بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من اللَّه

أن يؤيّدهم بمعجزة خاصة.

الآيات التالية تبيّن موضوع إستجابة اللَّه سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكاً يتميّز بإمتيازات خاصة ونعم كبيرة، يمكن إيجازها في خمسة أقسام:

1- تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير، كما تقول الآية: «فَسَخَّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ».

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا، وكل ما نعرفه أنّ تلك الامور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم.

2- النعمة الاخرى التي أنعمها الباري ء عزّ وجل على عبده سليمان عليه السلام، هي تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها «وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ». أي: إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ اللَّه وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه، فالشياطين- التي من طبيعتها التمرّد والعصيان- سخّرت لسليمان لتبني له، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

3- النعمة الاخرى التي أنعمها الباري ء عزّ وجل على سليمان، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل، كي يبقى المجتمع في أمان من شرورهم، كما جاء في القرآن المجيد «وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ».

«مقرّنين»: مشتقة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد»: جمع «صفد» على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض: إنّ عبارة «مُقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ» تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 243

واليدين، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

4- النعمة الرّابعة التي أنعمها اللَّه سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في

توزيع العطايا والنعم على من يريد، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة، «هذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

عبارة «بِغَيْرِ حِسَابٍ» إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ الباري ء عزّ وجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيماً بحيث إنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيماً وكثيراً.

5- والنعمة الخامسة التي منّ اللَّه سبحانه وتعالى بها على سليمان، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا: «وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ».

إنّ عبارة «حُسْنَ مَابٍ» التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند اللَّه، هي- في نفس الوقت- إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام، وعمد إلى بناء معبد للأصنام، إلّاأنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كل تلك البدع والخرافات.

بحث

من جملة الامور التي رسمتها قصة سليمان، ما يلي:

إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصادية واسعة وحضارة ساطعة لا تتنافي مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية.

وَ اذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَ عَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَ شَرَابٌ (42) وَ وَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر: إنّ أيّوب هو ثالث نبي من أنبياء اللَّه تستعرض هذه السورة (سورة

ص) جوانب من حياته، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرم صلى الله عليه و آله إلى تذكّر هذه القصة، وحكايتها للمسلمين، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم، ولا ييأسوا من لطف ورحمة اللَّه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 244

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد، منها الآية (163) في سورة النساء، والآية (84) في سورة الأنعام، التي ذكرت إسمه في قائمة أنبياء اللَّه الآخرين، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء، وإنّما اعتبره أحد عباد اللَّه المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (83 و 84) في سورة الأنبياء إستعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوب عليه السلام. أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات:

فالاولى تقول: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ».

هذه الآية تبيّن أوّلًا علوّ مقام أيّوب عند الباري ء عزّ وجل، وذلك من خلال كلمة «عبدنا»، وثانياً فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الإبتلاءات الشديدة التي لا تطاق، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوب عليه السلام.

ففي تفسير علي بن إبراهيم نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عليه السلام عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علة كانت؟ قال: «لنعمة أنعم اللَّه عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس من دون العرش فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوب حسده إبليس وقال: يا ربّ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّابما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك شكر نعمة أبداً، فسلّطني على دنياه حتى تعلم أنّه لم

يؤدّ إليك شكر نعمة أبداً».

(ولكي يوضّح الباري ء عزّ وجل إخلاص أيّوب للجميع، ويجعله نموذجاً حيّاً للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء، سمح الباري ء عزّ وجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقيل له: قد سلّطتك على ماله وولده. قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالًا ولا ولداً إلّا أعطبه [أي أهلكه فازداد أيّوب شكراً للَّه وحمداً. قال: فسلّطني على زرعه، قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق فازداد أيوب للَّه شكراً وحمداً. فقال: يا ربّ! سلّطني على غنمه، فسلّطه على غنمه فأهلكها فإزداد أيوب للَّه شكراً وحمداً، وقال: يا ربّ سلّطني على بدنه، فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينه، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه، فبقي في ذلك دهراً طويلًا يحمد اللَّه ويشكره ...».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحاً عميقاً، وذلك عندما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 245

«... قالوا: يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعل اللَّه كان يهلكنا إذا سألناه؟ وما نرى إبتلاك بهذا البلاء الذي لم يبتل به أحد إلّامن أمر كنت تستره؟ فقال أيوب: وعزّة ربّي أنّه ليعلم أنّي ما أكلت طعاماً إلّاويتيم أو ضيف يأكل معي وما عرض لي أمران كلاهما طاعة للَّه إلّاأخذت بأشدهما على بدني».

حقّاً إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألماً عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره، وإنّما توجّه إلى الباري ء عزّ وجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفاً، أي قوله تعالى: «أَنّى مَسَّنِىَ الشَّيْطنُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ». ولكونه خرج من الإمتحان الإلهي بنتيجة جيّدة، فتح الباري ء عزّ وجل- مرّة اخرى- أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمل أيوب، وأعاد عليه النعم التي إفتقدها الواحدة

تلو الاخرى، لا بل أكثر مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمل والشكر.

في النهاية خرج أيّوب عليه السلام سالماً من بودقة الامتحان الإلهي، ونزول الرحمة الإلهية عليه يبدأ من هنا، إذ صدر إليه الأمر: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ».

«اركض»: مشتقة من «ركض» على وزن (فقر) وتعني دكّ الأرض بالرجل، وأحياناً تأتي بمعنى الركض، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

عين باردة لأيوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم، وذلك ما أثبته الطب الحديث اليوم.

النعمة المهمة الاولى التي اعيدت على أيوب هي العافية والشفاء والسلامة، أمّا بقية النعم التي اعيدت عليه، فاستعرضها القرآن المجيد: «وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنَّا وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيوب عليه السلام هي قسمه بضرب زوجته، إذ كان قد أقسم أيام مرضه لئن برى ء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها، ولكن بعدما برى ء من مرضه رغب أيوب في العفو عنها إحتراماً وتقديراً لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيام مرضه، ولكن مسألة القسم باللَّه كانت تحول دون ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 246

وهنا شمل الباري ء عزّ وجل أيوب عليه السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته، وذلك عندما أوجد حلّاً لهذه المشكلة المستعصية على أيوب: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ».

«ضغث»: تعني مل ء الكفّ من الأعواد الرقيقة، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا- التي هي بمثابة عصارة القصة من أوّلها حتى آخرها- تقول:

«إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

في هذه الآية

أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كل واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلًا: مقام عبوديته.

ثانياً: صبره وتحمله وثباته.

ثالثاً: إنابته المتكررة إلى اللَّه.

الفرج بعد الشدة نقطة اخرى تكمن في مجريات هذه القصة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كل جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه، كما يقول علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة: «عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء».

وَ اذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) الأنبياء الستّة: متابعة للآيات السابقة تستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء اللَّه، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون انموذجاً حيّاً لكل بني الإنسان. ففي البداية تخاطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ».

فالعبودية للَّه تعني التبعية المطلقة له، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته، والإستعداد لتنفيذ أوامره في كل الأحوال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 247

العبودية للَّه تعني عدم الاحتياج لغيره، وعدم التوجه لسواه، والتفكير بلطفه ورحمته فقط، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثم تضيف الآية: «أُولِى الْأَيْدِى وَالْأَبْصَارِ».

وقد وصف الباري ء عزّ وجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّهم قدوة لكل السائرين في طريق الحق، فبعد مقام العبودية الكامل للَّه تعالى، تسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وعلى هذا أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحس التي يمتلكها غالبية الناس، وإنّما

هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها: «إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ».

إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر، وافق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذاتها المحدودة، بل يتطلّعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية: «وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ».

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في إصطفاء الباري ء عزّ وجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين، تشير الآية التالية، إلى ثلاثة آخرين، إذ تقول: «وَاذْكُرْ إِسْمعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ».

فكل واحد منهم كان مثالًا واسوة في الصبر والإستقامة وطاعة أوامر الباري ء عزّ وجل، خاصة «إسماعيل» الذي كان على إستعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل اللَّه، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح اللَّه).

وإستعراض آيات القرآن الكريم لحياة اولئك العظام ليستلهم منها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكل المسلمين العبر، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار، وتجعله في نفس الوقت صابراً صامداً أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

الآية (86) من سورة الأنعام بيّنت أنّ (اليسع) من ذرية إبراهيم، وأنّه من الأنبياء الكبار؛

مختصر الامثل، ج 4، ص: 248

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضاً معروف بأنّه أحد أنبياء اللَّه، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (85) من سورة الأنبياء.

هذَا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرَابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هذا ما وُعد به المتّقون: آيات هذه

السورة إنتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين، وتشرح مصير كل منهما يوم القيامة، وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة. في البداية، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم، تقول الآية: «هذَا ذِكْرٌ».

لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تاريخ اولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة.

فالهدف هو إيقاظ الأفكار، ورفع المستوى العلمي، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات.

ثم أخرجت الامور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء، إلى طابعها العام، لتشرح بصورة عامة مصير المتقين، إذ تقول: «وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَابٍ».

بعد هذه الآية القصيرة، يعمد القرآن المجيد مجدّداً إلى اتّباع اسلوبه الخاص، وهو اسلوب الإيجاز والتفصيل، ليشرح ما فاز به المتقون: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ».

عبارة «مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ» إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتى بفتح أبواب الجنة، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لإستقبال أهل الجنة، إذ إنّ الجنة بإنتظارهم، وعندما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثم تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنة، إذ تقول: «مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ».

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنة، إذ تقول: «وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 249

«الطرف»: جفن العين، وأحياناً يأتي بمعنى النظر، ووصف آخر نساء الجنة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى إقتصار نظرهن على أزواجهن فقط، وحبّهن وعشقهن لهم وعدم تفكيرهم بسواهم، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على أهل الجنة، والتي وردت في الآيات السابقة. قال تعالى:

«هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ».

وعدٌ لا يُخلف، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد، نعم إنّه وعد من اللَّه العظيم.

وللتأكيد على خلود هذه النعم، جاء في قوله تعالى: «إِنَّ هذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ».

أي: أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا، ولا يظهر عليها أيّ نقص، لأنّ اللَّه أراد ذلك.

هذَا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وهذه هي عاقبة الطغاة: الآيات السابقة إستعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على عباده المتقين، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم اسلوب المقارنة الذي كثيراً ما استخدمه القرآن الكريم، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين. قال تعالى: «هذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَابٍ».

ثم تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من اسلوب الإيجاز والتفصيل، إذ تقول:

«جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ». أي إنّ جهنم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه، وإنّهم سيحترقون بنيرانها، فيا لها من فراش سي ء.

«مهاد»: تعني الفراش، وهو مكان إستراحة، ويجب أن يكون مناسباً- في كل الأحوال- لوضع الشخص وملائماً لرغبته، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنم فراشاً؟!

مختصر الامثل، ج 4، ص: 250

مختصر الامثل ج 4 280

ثم تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي، إذ تقول: «هذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ». أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم»: هو الماء الحارّ

الشديد الحرارة، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنم.

و «غسّاق»: من «غسق» على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل.

وقال الراغب في مفرداته: إنّ (غسّاق) تعني القيح الذي يسيل من جلود أهل جهنم ومن الجراحات الموجودة في أجسامهم.

آيات بحثنا تشير مرّة اخرى إلى نوع آخر من أنواع العذاب الأليم: «وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ». أي أنّ هناك عذاب آخر غير ذلك العذاب.

«أزواج»: تعني الأنواع والأقسام، وهذه إشارة موجزة إلى أنواع اخرى من العذاب لا تختلف عن أنواع العذاب السابقة، ولكن آيات القرآن لم تفصح هنا عن أنواعها وقد لا يستطيع أحد في هذه الدنيا فهمها وإدراكها.

وآخر عذاب لهم أنّ جلساءهم في جهنم ذوو ألسنة بذيئة لا تنطق إلّابالقبيح من الكلام، فعندما يرد رؤساء الضلال النار، ويرون بأعينهم تابعيهم يساقون نحو جهنم يخاطب بعضهم البعض ويقول له: «هذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ».

فيجيبونهم: «لَامَرْحَبًا بِهِمْ».

ثم يضيفون: «إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ».

«مقتحم»: من «إقتحام» وتعني الدخول في شي ء بمشقّة وبصعوبة وخوف، وغالباً ما تعطي معنى الدخول في شي ء من دون أي إطلاع وعلم مسبق.

وتوضّح هذه العبارة أنّ متّبعي سبيل الضلال يردون نار جهنم الرهيبة نتيجة تركهم البحث والتفكير، واتّباعهم لأهوائهم، إضافة إلى تقليدهم الأعمى لآبائهم الأوّلين.

فإنّ الصوت يصل إلى مسامع الأتباع الذين يغضبون من كلام أئمّة الضلال، ويلتفتون إليهم قائلين: «قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَامَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ».

وأراد الأتباع من جوابهم القول: بأنّ من حسن الحظّ أنّكم (أي أئمّة الضلال والشرك) مشتركون معنا في هذا الأمر. وهذا يشفي غليل قلوبنا (وكأنّهم شامتون بأئمّتهم).

لكن الأتباع لا يكتفون بهذا المقدار من الكلام، لأنّ أئمة الضلال هم الذين كانوا السبب المباشر لإرتكابهم الذنوب، ولذا فإنّهم يعتبرونهم أصحاب الجريمة الحقيقيين، وهنا يلتفتون

مختصر الامثل، ج 4،

ص: 251

إلى الباري ء عزّ وجل قائلين: «قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ».

العذاب الأوّل لأنّهم أضلّوا أنفسهم، والثاني لأنّهم أضلّونا.

هذه هي نهاية كل من عقد الصداقة مع المنحرفين وبايعهم على السير في طرق الضلال والإنحراف، فإنّهم عندما يرون نتائج أعمالهم الوخيمة يلعن بعضهم بعضاً ويتخاصمون فيما بينهم.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات التي تذكر النعم التي يغدقها الباري ء عزّ وجل على المتّقين كانت أكثر تنوّعاً من الآيات التي إستعرضت عذاب الطغاة المتجبّرين، إذ أشارت آيات القسم الأوّل إلى سبع نعم، بينما أشارت آيات القسم الثاني إلى خمسة أنواع من العذاب، يحتمل أن يكون السبب هو سبق رحمة اللَّه لغضبه، «يامن سبقت رحمتُه غضبَه».

وَ قَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) تخاصم أهل النار: آيات بحثنا تواصل إستعراض الجدال الدائر بين أهل جهنم. تقول اولى تلك الآيات: «وَقَالُوا مَا لَنَا لَانَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مّنَ الْأَشْرَارِ».

فعندما يبحث أفراد اتّبعوا أئمّة الضلال، أمثال أبي جهل وأبي لهب، عن أشخاص آخرين مثل عمّار بن ياسر وخباب وصهيب وبلال، في نار جهنم يرجعون إلى ذاتهم متسائلين، ويستفسرون من الآخرين: أين اولئك الأشخاص؟

وتضيف الآيات نقلًا عن أهل جهنم: «أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ».

إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، ونعتبرهم اناساً حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم، ولكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا وغرورنا وأهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا، فهؤلاء كانوا من المقربين للَّه ومكانهم الآن في الجنة.

ومن الضروري الإلتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع

الجدّ، إضافة إلى الإستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها.

ثم تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنم، وتؤكّد على ما مضى بالقول: «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 252

فأهل جهنم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام والنزاع والحروب. فالنزاع والجدال يتحكّم بهم، وفي كل يوم يتخاصمون مع هذا وذاك.

وفي يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار وما تخفيه الصدور، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنم.

الجدير بالذكر أنّ أهل الجنة متكئون على الأسرّة، ويتحدثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبة والصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع والجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، وهذا عذاب أليم.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إنّما أنا نذير: البحوث السابقة كانت تحمل طابع إنذار وتهديد للمشركين والعاصين والظالمين، أمّا آيات بحثنا فتتابع ذلك البحث، إذ جاء في اولى آياتها: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ».

صحيح أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مبشّر أيضاً، ولكن بما أنّ البشرى تخصّ المؤمنين فإنّ الإنذار يخصّ المشركين والمفسدين، والحديث هنا يخصّ المجموعة الأخيرة، وإعتمد فيه على الإنذار.

ثم يضيف: «وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

كلمة (القهّار) وردت في هذه العبارة، كي لا يغترّ أحد بلطف اللَّه، ويظنّ أنّه يعيش في مأمن من قهر اللَّه، ولكي لا يغرق في

مستنقع الكفر وإرتكاب الذنب.

وتطرح دلائل توحيد الخالق جلّ وعلا في الالوهية والعبودية بشكل مباشر، وتضيف:

«رَبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

في الواقع هناك ثلاث صفات من صفات الباري ء عزّ وجل ذكرت في هذه الآية، وكل واحدة منها جاءت لإثبات مفهوم ما. الاولى: «ربوبيته» لعالم الوجود، ومالكيته لكل هذا العالم، المالك المدبّر لشؤون عالم الوجود.

والصفة الثانية والثالثة وصف الباري ء عزّ وجل ب (العزيز) و (الغفّار) وهو دليل آخر على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 253

توحّده تعالى في الالوهية، لأنّه الوحيد الذي يستحق العبادة والطاعة، وإضافة إلى ربوبيته فإنّه يمتلك القدرة على المعاقبة، وإضافةً إلى إمتلاكه للقدرة على المعاقبة، فإنّ أبواب رحمته ومغفرته مفتوحة للجميع.

ثم يخاطب الباري ء عزّ وجل نبيّه الأكرم في عبارة قصيرة وقويّة: «قُلْ هُوَ نَبَؤٌا عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ».

ثم تقول الآية، مقدمةً لسرد قصة خلق آدم، والمكانة الرفيعة التي يحتلّها الإنسان الذي سجدت له كافّة الملائكة: «مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ».

أي: لا علم لي بالمناقشات التي دارت بين الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي بخصوص خلق الإنسان، حيث إنّ العلم يأتيني عن طريق الوحي، والشي ء الوحيد الذي يوحى إليّ هو أنّني نذير مبين: «إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

ورغم أنّ الملائكة لم تناقش وتجادل الباري ء عزّ وجل، ولكنّهم قالوا عندما أخبرهم الباري ء عزّ وجل بأنّه سيجعل في الأرض خليفة، فقالوا: أتخلق فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟

مثل هذا النقاش أطلق عليه اسم (التخاصم) وهي تسمية مجازية.

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ

يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) تكبّر الشيطان وطرده من رحمة اللَّه: هذه الآيات توضيح لإختصام (الملأ الأعلى) و (إبليس) وبحث حول مسألة خلق آدم عليه السلام. الآية الاولى تذكّر بإخبار اللَّه عزّ وجل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 254

ملائكته بأنّه سيخلق بشراً من الطين: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ».

ولكي لا يتصور البعض أنّ أصل خلق الإنسان هو ذلك الطين وحسب، أضافت الآية التالية: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».

وبهذا الشكل إنتهت عملية خلق الإنسان، وذلك بعد إمتزاج روح الباري ء عزّ وجل الطاهرة مع التراب. فخُلق موجود عجيب لم يسبق له مثيل، ولم توضع لرقيّه وإنحطاطه أيّة حدود. الموجود الذي زوّده الباري ء عزّ وجل بإستعدادات خارقة تجعله لائقاً لخلافة اللَّه، والذي سجدت له الملائكة بأجمعها فور إكتمال عملية خلقه: «فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ».

إلّا أنّ إبليس كان الوحيد الذي أبى أن يسجد لآدم لتكبّره وتمرده وطغيانه، ولهذا السبب أنزل من مقامه الرفيع إلى صفوف الكافرين: «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ».

نعم، فالتكبر والغرور من أقبح الامور التي يبتلى بها الإنسان، ويحرماه من إدراك الحقائق وفهمها، ويؤدّيان به إلى التمرد والعصيان، ويخرجانه أيضاً من صفوف المؤمنين المطيعين للَّه إلى صفّ الكافرين الباغين والطاغين، ذلك الصفّ الذي يترأسه إبليس ويقف في

مقدّمته.

وهنا إستجوب الباري ء عزّ وجل إبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ».

وبما أنّ الباري ء عزّ وجل منزّه عن كافّة أشكال الجسم والتجسيم، فعبارة (يدي) هنا كناية عن القدرة، ومن الطبيعي أنّ الإنسان يستعمل يديه ليظهر قدرته على إنجاز العمل.

ثم تضيف الآية: «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ». أي أكان عدم سجودك لأنّك استكبرت، أم كنت من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود؟!

ومن دون أي شك فإنّه لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّ قدرته ومنزلته أكبر من أن يسجد للَّه (أو لآدم بأمر من اللَّه).

إلّا أنّ إبليس إختار- بكل تعجب- الشقّ الثاني، وكان يعتقد بأنّه أعلى من أن يؤمر بذلك، لذلك قال- بكل وقاحة- أثناء تبيانه أسباب معارضته لأوامر الباري ء عزّ وجل:

«قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 255

وخطأ إبليس أنّ النار أشرف من التراب، ولا يحقّ لأحد أن يأمر مخلوقاً بالسجود لمخلوق آخر دنى منه.

ولكن أوّلًا: إنّ آدم لم يكن تراباً فقط، وإنّما نفخت فيه الروح الإلهية، وهذا هو سبب عظمته.

ثانياً: التراب ليس بأدنى من النار، وإنّما هو أفضل منها بكثير، لأنّ كل الحياة أصلها من التراب، فالنباتات وكل الموجودات الحية بأجمعها تستمدّ غذاءها ومصدر حياتها من التراب.

والنار إنّما يستفاد منها في الوسائل الترابية، وقد تكون أداة خطرة ومدمّرة.

ولو أمعنا النظر في أدلّة إبليس لرأينا فيها كفراً عجيباً، لأنّه بكلامه أراد نفي حكمة اللَّه، والتقليل من شأن أوامره (نعوذ باللَّه).

وهنا وجب إخراج هذا الموجود الخبيث من صفوف الملأ الأعلى وملائكة العالم العلوي، فخاطبه الباري ء عزّ وجل بالقول: «قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ».

فهذا المكان مكان الطاهرين والمقربين، وليس بمكان المذنبين والعاصين ذوي القلوب المظلمة.

«رجيم»: من «رجم»،

وبما أنّ لازمها الطرد، فقد وردت بهذا المعنى هنا.

ثم أضاف الباري ء عزّ وجل: «وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى يَوْمِ الدّينِ».

المهم أنّ الإنسان عندما يرى النتائج الوخيمة لأعماله السيّئة عليه أن يستيقظ من غفلته، وأن يفكّر في كيفية إصلاح ذلك الخطأ، ولا شي ء أخطر من بقاءه راكباً لموج الغرور واللجاجة واستمراره في السير نحو حافّة الهاوية، لأنّه في كل لحظة يبتعد أكثر عن الصراط المستقيم، وهذا هو نفس المصير المشؤوم الذي وصل إليه إبليس.

وهنا تحوّل (الحسد) إلى (عداء)، كما قال القرآن: «قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».

إنّه طلب من الباري ء عزّ وجل أن يمهله إلى يوم يبعثون كي ينتقم من أبناء آدم عليه السلام ويدفعهم جميعاً إلى طريق الضلال.

وفي الحقيقة، إنّه كان يريد الإستمرار في إغواء بني آدم حتى آخر فرصة متاحة له، لأنّ في يوم البعث تسقط التكاليف عن الإنسان، ولا معنى هناك للوساوس والإغواءات، إضافةً إلى هذا فقد طلب من اللَّه عزّ وجل أن يبقيه حيّاً إلى يوم القيامة، رغم أنّ كل الموجودين في العالم يموتون في هذه الدنيا.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 256

وهنا إقتضت مشيئة اللَّه سبحانه- بدلائل سنشير إليها- أن يستجيب اللَّه لطلب إبليس، ولكن هذه الإستجابة كانت مشروطة وليست مطلقة، كما توضّحه الآية التالية: «قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ».

ولكن ليس إلى يوم البعث الذي تبعث فيه الخلائق، وإنّما إلى زمان معلوم. قال تعالى:

«إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».

وهذا إشارة إلى يوم نهاية العالم، لأنّ كل الموجودات الحيّة في ذلك اليوم تموت، وتبقى ذات اللَّه المقدسة فقط، كما ورد في الآية (88) من سورة القصص: «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ».

هنا كشف إبليس عما كان يضمره في داخله، وعن الهدف الحقيقي لطلبه البقاء خالداً إلى زمن معيّن إذ:

«قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ».

القسم بالعزّة تبيّن أنّه مصمّم بصورة جديّة على المضي في عمله، وأنّه سيبقى إلى آخر لحظة من عمره ثابتاً على عهده بإغواء بني آدم.

وبعد قسمه إنتبه إبليس إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هناك مجموعة من عباد اللَّه المخلصين لا يمكن كسبهم بأي طريقة إلى داخل منطقة نفوذه، لذلك اعترف بعجزه في كسب اولئك فقال:

«إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ».

اولئك الذين يسيرون في طريق المعرفة والعبودية لك بصدق وإخلاص وصفاء، إنّك دعوتهم إليك، وأخلصتهم لك، وجعلتهم في منطقة أمنك.

سؤال: لماذا تمّت الباري ء عزّ وجل الموافقة على طلب إبليس في البقاء حيّاً؟

في الجواب نقول: إنّ عالم الدنيا هذا هو ساحة للإختبار والإمتحان (الإختبار الذي هو وسيلة لتربية وتكامل الإنسان) وكما هو معروف فإنّ الاختبار لا يتمّ من دون مواجهة عدو شرس ومجابهة مختلف أنواع الأعاصير والمشاكل.

وبالطبع، إن لم يكن هناك شيطان، فإنّ هوى النفس ووساوسها هي التي تضع الإنسان في بودقة الإختبار، ولكن حرارة هذه البودقة تزداد بوجود الشيطان، لأنّ الشيطان سيكون في هذه الحالة العامل الخارجي المؤثّر على الإنسان، وهوى النفس والوساوس ستكون العامل الداخلي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 257

قَالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) آخر حديث بشأن إبليس: آيات بحثنا هي آخر آيات سورة (ص)، وهي خلاصة لكل محتوى هذه السورة، ونتيجة للأبحاث المختلفة التي تناولتها السورة.

في البداية ردّاً على تهديد إبليس في إغواء كل بني آدم عدا المخلصين منهم، يجيبه الباري ء عزّ وجل بالقول: «قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ». أقسم بالحق، ولا

أقول إلّاالحق: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ».

فما ورد في بداية السورة إلى هنا حق، والذي ورد بشأن أحوال الأنبياء الكبار في هذه السورة بسبب حروبهم وجهادهم حقّ، والحديث في هذه السورة عن القيامة والعذاب الأليم الذي سينزل بالطغاة والنعم التي سيغدقها الباري ء عزّ وجل على أهل الجنة حقّ، ونهاية السورة حقّ، واللَّه سبحانه يقسم بالحق ويقول الحق بأنّه سيملأ جهنم بالشيطان وأتباعه.

إنّ هاتين الجملتين تشتملان على الكثير من التأكيد، لكي لا يبقى لأحد أدنى شك وترديد بهذا الشأن، إذ لا سبيل لنجاة الشيطان وأتباعه، والاستمرار بالسير على خطاه يؤدّي إلى جهنم.

وفي نهاية هذا البحث يشير الباري ء عزّ وجل إلى أربعة امور:

ففي المرحلة الاولى يقول: «قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ».

إنّما أجري على اللَّه، كما ذكرت ذلك آيات اخرى في القرآن المجيد كالآية (47) من سورة سبأ، والتي تقول: «إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».

وهذه هي إحدى دلائل صدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وفي المرحلة الثانية يقول: أنا لست من المتكلّفين، فكلامي مستند على الأدلّة والمنطق، ولا يوجد فيه أي تكلّف، وعباراتي واضحة وكلامي خالٍ من الغموض واللفّ والدوران «وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 258

أمّا المرحلة الثالثة فتبيّن الهدف الأصلي من هذه الدعوة الكبيرة من نزول هذا الكتاب السماوي «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ».

المهمّ هو أن يوقظ الناس من غفلتهم ويجعلهم يتعمّقون في التفكير.

هذه العبارة تبيّن أنّ محتوى دعوة الأنبياء في كل المراحل يتناسب مع الفطرة التي فطرنا عليها الباري ء عزّ وجل.

وأمّا في المرحلة الرابعة، فإنّه يهدّد المعارضين والمخالفين بعبارة قصيرة غزيرة المعنى:

«وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و بَعْدَ حِينٍ».

يقول: من الممكن أن لا تأخذوا هذا الكلام مأخذ الجدّ، إلّاأنّه سيثبت لكم عاجلًا صدق كلامي،

سيثبت في هذا العالم في ساحات قتال الإسلام ضدّ الكفر، وفي ساحات العمل الاجتماعي والفكري، وفي العالم الآخر بواسطة العذاب الإلهي الأليم الذي ستعذّبون به.

«إنتهت تفسير سورة ص»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 259

39. سورة الزمر

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تضمّ عدّة أقسام مهمة:

1- تتطرق السورة إلى مسألة الدعوة إلى توحيد اللَّه.

2- الأمر المهم الآخر الذي تكرر في عدّة آيات في هذه السورة من بدايتها حتى نهايتها، هو مسألة (المعاد) والمحكمة الإلهية الكبرى، ومسألة الثواب والعقاب، وغرف الجنة، وكور النار في جهنم، ومسألة الخوف والرهبة من يوم القيامة، وظهور نتائج الأعمال في ذلك اليوم، وتجسّدها في ذلك المشهد الكبير، وهذه الامور التي تدور حول محور المعاد ممزوجة مع قضايا التوحيد بشكل كبير وكأنّها تشكّل معها نسيجاً واحداً.

3- قسم آخر من السورة يتناول أهمية القرآن المجيد، وتأثيره القوي على القلوب والأرواح.

4- قسم آخر أيضاً يبيّن مصير الأقوام السابقين والعذاب الإلهي الأليم الذي نزل بهم من جرّاء تكذيبهم لآيات اللَّه تعالى.

5- وقسم آخر من هذه السورة يتحدث عن مسألة التوبة، وكون أبواب التوبة مفتوحة لمن يرغب في العودة إلى اللَّه.

هذه السورة معروفة باسم سورة (الزمر) وهذا الاسم مأخوذ من الآيتين (71) و (73) من هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 260

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللَّه رجاه، وأعطاه ثواب الخائفين الذين خافو اللَّه تعالى».

وفي ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الزمر أستخفها من لسانه أعطاه اللَّه من شرف الدنيا والآخرة، وأعزه بلا مال ولا عشيرة، حتى يهابه من يراه وحرّم جسده على النار وبنى له في الجنة ألف مدينة».

مقارنة فضائل

تلاوة سورة الزمر مع محتوياتها، يوضّح أنّ هذه المكافآت إنّما تعطى لمن كانت تلاوته مقدمة للتفكر والتفكر مقدمة للإيمان والعمل.

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) عليك الإخلاص في الدين: هذه السورة تبدأ بآيتين تتحدثان عن نزول القرآن المجيد:

الأولى تقول: إنّ اللَّه هو الذي أنزل القرآن، و الثانية: تبيّن محتوى وأهداف القرآن.

في البداية تقول: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

من الطبيعي أنّ كل كتاب تتمّ معرفته من خلال مؤلفه أو منزله، وعندما ندرك أنّ هذا الكتاب السماوي الكبير مستلهم من علم اللَّه القادر والحكيم، الذي لا يقف أمام قدرته المطلقة شي ء، ولا يخفى على علمه المطلق أمر، لأيقنّا بلا عناء أنّ محتوياته حق وكلها حكمة ونور وهداية.

ثم تنتقل السورة إلى عرض محتويات هذا الكتاب السماوي وأهدافه: «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ».

ولكون هدف نزول القرآن يتحدد في إعطاء الدين الخالص للبشرية، فإنّ آخر الآية يقول: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ».

إنّ (الدين) يتناول مجموعة شؤون الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويجب على عباد اللَّه المخلصين أن يخلصوا كل حياتهم للَّه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 261

الآية التالية تؤكّد مرّة اخرى على مسألة الإخلاص، وتقول: «أَلَا لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ».

وهذه العبارة ذات معنيين:

الأوّل: هو أنّ الباري ء عزّ وجل لا يقبل سوى الدين الخالص، والاستسلام الكامل له من دون أيّ قيد أو شرط.

والثاني: هو أنّ الدين والشريعة الخالصة يجب أخذها من اللَّه فقط، لأنّ أفكار الإنسان ناقصة

وممزوجة بالأخطاء والأوهام.

إنّ هذه الآية في الواقع استدلال للآية التي جاءت قبلها، فهناك تقول: «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينُ». وهنا تقول: «أَلَا لِلَّهِ الدّينُ الْخَالِصُ».

ثم تنتقل الآية إلى إبطال المنطق الواهي الضعيف للمشركين الذين تركوا طريق الإخلاص، وضاعوا في طرق الشرك والإنحراف: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وهنا سيتّضح للجميع فساد أفكارهم وأعمالهم وبطلان عقائدهم ..

هذه الآية هي تهديد قاطع للمشركين في أنّ الباري ء عزّ وجل سيحاكمهم في يوم القيامة، اليوم الذي تنكشف فيه الإلتباسات وتظهر فيه الحقائق، ليجزوا ويعاقبوا على ما ارتكبوه من الأعمال المحرّمة، إضافة إلى فضيحتهم أمام الجميع في ساحة المحشر.

والقرآن المجيد يؤكّد بصورة خاصة على أنّ الإنسان يستطيع أن يتصل باللَّه من دون أيّ واسطة، وأن يتحدث معه ويناجيه ويطلب منه حاجته.

وبهذا الشكل فالباري ء عزّ وجل ليس ببعيد عنّا، ولسنا بعيدين عنه كي تكون هناك حاجة للوساطة بين الطرفين، إنّه أقرب إلينا من كل قريب، وموجود في كل مكان وفي أعماق قلوبنا.

وفقاً لهذا فإنّ عبادة الوسطاء من الملائكة والجن ونظائرهم، أو الأصنام الحجرية والخشبية، عمل باطل لا صحّة له، إضافة إلى أنّه يعدّ كفراً بنعمة اللَّه، لأنّ الذي يهب النعم أجدر بالعبادة من تلك الموجودات الميتة، أو المحتاجة إلى الآخرين من أعلى رأسها إلى أخمص قدمها. لذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

لأنّه أوصد بكلتا يديه أبواب الهداية أمامه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 262

لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَ

يُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) ما حاجة اللَّه إلى الأولاد: المشركون إضافة إلى أنّهم يعتبرون الأصنام وسيطاً وشفيعاً لهم عند اللَّه- كما استعرضت ذلك الآيات السابقة- فقد اعتقدوا- أيضاً- أنّ بعض المخلوقات- كالملائكة- هي بنات اللَّه، والآية الاولى في بحثنا تجيب على هذا الإعتقاد الخاطى ء والتصور القبيح بالقول: «لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ».

والأفضل هو القول بأنّ الآية تريد القول: إنّ الإبن مطلوب إمّا لتقديم العون أو لمؤانسة الروح، وبفرض المحال فإنّ اللَّه عزّ وجل لو كان محتاجاً لمثل هذا الأمر، لاصطفى لهذا بعضاً ممّن يشاء من أشرف خلقه، فلم يتخذ ولداً؟

ولكن لكونه الواحد الذي لا نظير له والقاهر والغالب لكل شي ء والأزلي والأبدي، فإنّه لا يحتاج إلى مساعدة أيّ أحد، ولا يستوحش من وحدانيته حتى يزيلها عن طريق الانس مع الآخرين، لهذا فهو منزّه ومقدس عن الولد، حقيقياً كان أو منتخباً.

ولإثبات حقيقة أنّ اللَّه لا يحتاج إلى مخلوقاته، ولبيان دلائل توحيده وعظمته، يقول الباري ء عزّ وجل: «خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ».

كون تلك الامور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها، وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدّمتها الإنسان، ثم لا تنتهي عند البعث.

بعد عرض هذا الخلق الكبير، تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب، والتغيّرات التي تطرأ بحسابات دقيقة، والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم اولئك، إذ يقول القرآن المجيد:

«يُكَوّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ».

من هذه الآية يتجلّى لنا أنّ الأرض كروية وتدور حول نفسها، ومن جرّاء هذا الدوران، يطوق الأرض دائماً شريطان، أحدهما سواد الليل، والثاني بياض النهار، ولا يبقى

هذان الشريطان ثابتين، وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 263

الأسود من جهة اخرى، أثناء حركة الأرض حول نفسها.

فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و (النور) و (الظّلمات) في عدّة آيات مختلفة، كل واحدة منها تشير إلى نقطة معيّنة، وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة.

ثم تنتقل إلى جانب آخر، ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسيّر لشؤون هذا العالم. قال تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لِأَجَلٍ مُّسَمًّى».

فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها، أو التي تتحرك مع بقيّة كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصة في مجرة درب التبانة، أدنى خلل، فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً، ولا يظهر أيّ خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه، فالكل يخضع لقوانين (الخالق) ويتحرك وفقها، وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله.

نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين، إذ تقول: «أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

فبحكم عزّته وقدرته المطلقة لا يمكن لأيّ مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه، وبمقتضى كونه الغفار، فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين، ويظللهم بظل رحمته.

«غفار»: صيغة مبالغة مشتقة من المصدر «غفران» وتعني في الأصل لبس الإنسان لشي ء يقيه من التلوّث، وعندما تستخدم بشأن الباري ء عزّ وجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه.

والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية، هو إيجاد حالة من «الخوف» و «الرجاء» عند العباد، وهما عاملان رئيسيان وراء كل تحرك نحو الكمال.

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الجميع مخلوقون من نفس واحدة: مرّة اخرى تستعرض آيات القرآن الكريم عظمة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 264

خلق اللَّه، وتبيّن في نفس الوقت بعض النعم الاخرى التي منّ بها اللَّه سبحانه وتعالى على الإنسان. في البداية تتحدث عن خلق الإنسان وتقول: «خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا».

خلق كل بني آدم من نفس واحدة إشارة إلى مسألة خلق آدم أبي البشر، إذ إنّ كل البشر وبتنوع خلقتهم وأخلاقهم وطبائعهم وإستعداداتهم وأذواقهم المختلفة يعودون في الأصل إلى آدم عليه السلام.

وعبارة: «ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا» إشارة إلى أنّ اللَّه خلق آدم في البداية، ثم خلق حواء ممّا تبقى من طينته التي خلق منها، وذلك كما ورد في الرّوايات الإسلامية.

بعد هذا ينتقل الحديث إلى مسألة خلق أربعة أنواع من الأنعام تؤمّن للإنسان ضروريات الحياة، حيث يستفيد من جلودها لملابسه، ومن حليبها ولحمها لغذائه، ومن جهة اخرى يصنع من جلودها وأصوافها عدّة امور يستفيد منها في حياته، ومن جهة ثالثة يستخدمها كوسيلة لتنقّله وحمل أثقاله: «وَأَنزَلَ لَكُم مّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ».

والمقصود من (الأزواج الثمانية) الذكر والانثى لكل من الإبل والبقر والضأن والمعز.

وعبارة «أَنزَلَ لَكُمْ» والتي تخص هنا الأنعام الأربعة- كما بيّنا ذلك من قبل- لا تعني فقط إنزال الشي ء من مكان عال، وإنّما في مثل هذه الحالات تعني (تدنّي المقام) والنعم من مقام أعلى إلى أدنى.

ثم تتطرّق الآيات إلى حلقة اخرى من حلقات

خلق اللَّه، وهي عملية نمو الجنين، إذ تقول الآية: «يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلثٍ».

«يخلقكم»: فعل مضارع يعطي معنى الاستمرارية، وهو هنا بمثابة إشارة إلى التحولات العجيبة والصور المختلفة التي تطرأ على الجنين في مراحل وجوده المختلفة في بطن الام.

وقوله «ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ» إشارة إلى ظلمة بطن الامّ وظلمة الرحم وظلمة المشيمة (الكيس الخاص الذي يستقر فيه الجنين) التي هي ثلاثة أغلفة سميكة تغطّي الجنين.

الإمام الحسين عليه السلام- في دعائه المعروف بدعاء عرفه الذي يعدّ دورة دراسية كاملة وعالية في التوحيد- عند استعراضه للنعم التي منّ بها الباري ء عزّ وجل عليه يقول:

«وابتدعت خلقي من مني يمنى، ثم أسكنتني في ظلمات ثلاث: بين لحم وجلد ودم لم تشهدني

مختصر الامثل، ج 4، ص: 265

خلقي، ولم تجعل إليّ من أمري ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تامّاً سويّاً».

وفي نهاية الآية، بعد ذكر الحلقات التوحيدية الثلاث الخاصة بخلق الإنسان والأنعام ومراحل خلق الجنين، يقول الباري ء عزّ وجل: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».

فأحياناً يصل الإنسان بعد مشاهدته لهذه الآثار التوحيدية العظيمة إلى مقام الشهود، ثم أشار تعالى إلى ذاته القدسية حيث يقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ».

عبارتي «ربّكم» و «له الملك» تدلان على حصر الربوبية بذاته الطاهرة المقدسة، والذي اتّضح بصورة جيّدة في عبارة: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

بعد ذكر هذه النعم الكبيرة التي منّ بها الباري ء عزّ وجل على عباده، تتطرق الآية التالية إلى مسألة الشكر والكفر، وتناقش جوانب من هذه المسألة. في البداية تقول: «إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ». أي إن تكفروا أو تشكروا فإنّ نتائجه تعود عليكم، واللَّه غني عنكم في حال كفركم وشكركم.

ثم تضيف، إنّ غناه وعدم

احتياجه لا يمنعان من أن تشكروا وتتجنبوا الكفر، لأنّ التكليف إنّما هو لطف ونعمة إلهية. قال تعالى: «وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ».

وبعد استعراض هاتين النقطتين تستعرض الآية نقطة ثالثة وهي تحمل الشخص مسؤولية أعماله، لأنّ قضية التكليف لا يكتمل معناها بدون هذا الأمر. قال تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .

ولأنّه لا معنى للتكليف إن لم يكن هناك عقاب وثواب، فالآية تشير في المرحلة الرابعة إلى قضية المعاد، وتقول: «ثُمَّ إِلَى رَبّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

ولكون مسألة الحساب والعقاب لا يمكن أن تتمّ ما لم يكن هناك إطلاع وعلم كاملين بالأسرار الخفية للإنسان، تختتم الآية بالقول: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

بهذا الشكل، ومن خلال جمل قصار، استعرضت فلسفة التكليف وخصوصياته ومسؤولية الإنسان ومسألة العقاب والثواب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 266

وَ إِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَ قَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) الآيات السابقة تحدثت بالأدلة والبراهين عن توحيد ومعرفةالباري ء عزّ وجل، وذلك من خلال عرض بعض الظواهر العظيمة له في الآفاق والأنفس، أمّا آيات بحثنا فتتحدث في البداية عن التوحيد الفطري وتوضّح أنّ ما يدركه الإنسان عن طريق العقل أو الفهم أو المطالعة في شؤون الخلق موجود بصورة فطرية في أعماقه، وأنّه يظهر أثناء المشاكل وأعاصير الحوادث التي تعصف به. تقول الآية الكريمة: «وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا

إِلَيْهِ». ونادماً من ذنوبه وغفلته.

وعندما يمنّ اللَّه على الإنسان بالنعم ينسى المشاكل والإبتلاءات السابقة التي دعا اللَّه عزّ وجل من أجل كشفها عنه، قال تعالى: «ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ».

إذ يجعل للَّه أنداداً وشركاء ويعمد إلى عبادتها، ولا يكتفي بعبادتها بل يعمد- أيضاً- لإضلال وحرف الناس عن سبيل اللَّه: «وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ».

المقصود هنا من (الإنسان) هم الناس العاديون الذين لم يتربّوا في ظل إشعاعات أنوار تعاليم الأنبياء، ولا يشمل هذا الكلام المؤمنين الذين يذكرون اللَّه في السّراء والضّراء ويطلبون العون من لطفه دائماً.

نهاية الآية تخاطب مثل اولئك الأشخاص بلغة ملؤها التهديد الصريح والحازم والقاطع:

«قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».

الآية التالية استخدمت اسلوب المقارنة، الاسلوب الذي طالما استخدمه القرآن المجيد لإفهام الآخرين القضايا المختلفة، حيث تقول: هل أنّ مثل هذا الشخص انسان لائق وذو قيمة: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْأَخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبّهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 267

«قانت»: من مادة «قنوت» بمعنى ملازمة الطاعة المقرونة بالخشوع والخضوع.

«آناء»: هي جمع «انا»- على وزن كذا- وتعني ساعة أو مقداراً من الوقت.

التأكيد هنا على ساعات الليل، لأنّ تلك الساعات يحضر فيها القلب أكثر، وتقلّ نسبة تلوّثه بالرياء أكثر من أيّ وقت آخر.

وتتمة الآية تخاطب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بالقول: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ». كلّا، إنّهم غير متساوين: «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

لا شك في أنّ السؤال المذكور أعلاه سؤال شامل، ولكن إشارة إلى سؤال آخر قد طرح، وهو: هل يستوي المشركون والمؤمنون الذين يحيون الليل بالعبادة، فالسؤال الثاني يشير أكثر إلى هذه المسألة وهو: هل أنّ الذين يعلمون بأنّ المشركين

المعاندين لا يتساوون مع المؤمنين الطاهرين، يتساوون مع الذين لا يعلمون بهذه الحقيقة الواضحة!

فهذه العبارة أحد شعارات الإسلام الأساسية وهو سمو وعلوّ منزلة العلم والعلماء في مقابل الجهل والبديهي أن تكون هاتان المجموعتان غير متساويتين عند الباري ء عزّ وجل، وغير متساويين لدى العقلاء، ولا يقفون في صفّ واحد لا في الدنيا، ولا في الآخرة وأنّهم مختلفون ظاهراً وباطناً.

العلم في هذه الآية وبقية الآيات لا يعني معرفة مجموعة من المصطلحات، أو العلاقة المادية بين الأشياء، وإنّما يقصد به المعرفة الخاصة التي تدعو الإنسان إلى (القنوت) أي إلى طاعة الباري ء عزّ وجل والخوف من محكمته وعدم اليأس من رحمته، هذه هي حقيقة العلم، فإذا كانت العلوم الدنيوية تؤدّي إلى ما ذكرناه آنفاً، فهي علم أيضاً، وإلّا فهي سبب الغفلة والظلم والغرور والفساد في الارض، ولا يحصل منها سوى «القيل والقال».

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 268

الخطوط الرئسية لمناهج العباد المخلصين: تتمة لما جاء في بحث الآيات السابقة التي قارنت بين المشركين المغرورين والمؤمنين المطيعين للَّه، وبين العلماء والجهلة، فإنّ آيات بحثنا هذا

تبحث الخطوط الرئيسية لمناهج عباد اللَّه الحقيقيين المخلصين وذلك ضمن سبعة مناهج وردت في عدّة آيات تبدأ بكلمة (قل).

الآية الاولى تحثّ النبي صلى الله عليه و آله على التقوى: «قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ».

نعم، فالتقوى هي الحاجز الذي يصدّ الإنسان عن الذنوب، وتجعله يحسّ بالمسؤولية وبتكاليفه أمام الباري ء عزّ وجل، وهي المنهج الأوّل لعباد اللَّه المؤمنين والمخلصين، وهي ميزان شخصية وكرامة الإنسان عند الباري ء عزّ وجل.

المنهج الثاني يختص بالإنسان والعمل الصالح في هذه الدنيا التي هي دار العمل، وقد شجعت الآية الناس وحثّتهم على عمل الإحسان، من خلال بيان نتيجة ذلك العمل:

«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ».

نعم فالإحسان بصورة مطلقة في هذه الدنيا- سواء كان في الحديث، أو في العمل، أو في نوع التفكر والتفكير بالأصدقاء والغرباء- يؤدّي إلى نيل ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، لأنّ جزاء الإحسان هو الإحسان.

وفي الواقع فإنّ التقوى عامل ردع، والإحسان عامل صلاح، وكلاهما يشمل (ترك الذنب) و (أداء الفرائض والمستحبات).

المنهج الثالث يدعو إلى الهجرة من مواطن الشرك والكفر الملوّثة بالذنوب، قال تعالى:

«وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ».

هذه الآية ردّ على ذوي الإرادة الضعيفة والمتذرعين بمختلف الذرائع الذين يقولون: إنّنا عاجزون عن أداء الأحكام الإلهية، لأنّنا في أرض مكة التي يحكمها المشركون. والقرآن يردّ عليهم بأنّ أرض اللَّه لا تقتصر على مكة، هاجروا من المواطن الملوّثة بالشرك والكفر والظلم التي لا يمكنكم فيها أداء الأحكام الإلهية بحرية إلى آخر.

وهذا يوضّح- بصورة جيّدة- أنّ المؤمن الذي تحيط به الضغوط والكبت، ويستطيع أن يهاجر في سبيل اللَّه عليه أن يهاجر، وإلّا فإنّه غير معذور أمام اللَّه.

ولأنّ الهجرة ترافقها بصورة طبيعية مشكلات كثيرة في مختلف جوانب الحياة، فالمنهج الرابع إذن يتعلّق بالصبر والإستقامة. قال

تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 269

وعبارة (بغير حساب) تبيّن أنّ للصابرين أفضل الأجر والثواب عند اللَّه، ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والإستقامة.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر بالإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشي ء، ويتحدث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن وظائفه ومسؤولياته، إذ يقول: «قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أعْبُدَ اللَّهِ مُخْلِصًا لَّهُ الدّينَ».

ثم يضيف: «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ». وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أوّل الناس إسلاماً وتسليماً لأوامر الباري ء عزّ وجل.

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب الباري ء عزّ وجل يوم القيامة. قال تعالى: «قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو عبد من عباد اللَّه، وهو مكلف أيضاً بعبادة اللَّه بإخلاص، لأنّه- هو أيضاً- يخاف العذاب الإلهي.

وهذا دليل على عظمته وأحقّيته.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى، الإحسان، الهجرة، الصبر، الإخلاص، التسليم، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك، تعود الآيات لتؤكّد عليها مرّة اخرى، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى».

أمّا أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون اللَّه: «فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مّن دُونِهِ».

ثم تضيف: «قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

أي: إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم، ولا استفادوا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم، وهذا هو الخسران العظيم: «أَلَا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ».

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران

المبين، إذ تقول: «لَهُم مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ».

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كل جانب، فهل هناك أعظم من هذا؟

وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل»: جمع «ظلّة» على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا، وطبقاً

مختصر الامثل، ج 4، ص: 270

لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النار اطلاق مجازي ومن باب التوسّع في معنى الكلمة. هذا تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا، إذ أنّ الجهل والكفر والظلم محيط بكل وجودهم، ومستحوذ عليهم من كل جانب.

ثم تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إيّاهم: «ذلِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ».

إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية، ولعدّة مرّات إشارة إلى أنّ تهديد الباري ء عزّ وجل لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم.

وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَ أَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) عباد اللَّه الحقيقيون: استخدم القرآن الكريم مرّة اخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات، إذ قارن بين عباد اللَّه الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنم. قال تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى .

عبارة «اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» تعني الإبتعاد عن كل أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهوى النفس والشيطان، وتجنّب الإنصياع والاستسلام للحكّام المتجبرين الطغاة.

أمّا

عبارة «أَنَابُوا إِلَى اللَّهِ» فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ثم تعرّج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول: «فَبَشّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَيهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ».

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي، وقد بيّنتا حرية الفكر عند المسلمين، وحرية الإختيار في مختلف الامور.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 271

ولكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يرغب- بشدّة- في هداية المشركين والضالين، و كان يتألّم كثيراً لإنحراف اولئك الذين لم يعطوا آذاناً صاغية للحقائق، فإنّ الآية التالية عمدت إلى مواساته بعد أن وضّحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والامتحان، ومجموعة من الناس- في نهاية الأمر- يجب أن تدخل جهنم، إذ قالت: «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ».

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي إرتكبوها.

ولبعث السرور في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين، جاء في آخر الآية: «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ».

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النار، كما ورد في الآية السابقة: «لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ».

فإنّ لأهل الجنة غرفاً من فوقها غرف اخرى، وقصور فوقها قصور اخرى، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

وكشفت الآية أيضاً عن أنّ غرف أهل الجنة الجميلة قد زيّنت بأنهار تجري من تحتها «تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ». نعم، هذا وعد اللَّه: «وَعْدَ اللَّهِ لَايُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ».

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ

يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اخرى دلائل التوحيد والمعاد، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة، إذ تقول موجّهة الخطاب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله باعتباره القدوة لجميع المؤمنين: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الْأَرْضِ».

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينماتنزل من السماء تمتصها الطبقة الاولى من طبقات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 272

الأرض، وعندما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها، لتبعث مرّة اخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون وقنوت وآبار. وتضيف الآية فيما بعد: «ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ» ذات الأشكال المختلفة.

أي: مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والرز والذرة، ذات الأشكال المختلفة و الألوان الظاهرية المتعددة، فمنها الأخضر الغامق، والأخضر الفاتح، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

ثم تنتقل الآية إلى مرحلة اخرى من مراحل حياة هذه النباتات، إذ تقول: «ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَيهُ مُصْفَرًّا» «1». حيث تعصف به الرياح من كل جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه، ويضيف تعالى: «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا».

نعم، إنّ في هذا لذكرى لأصحاب العقول وأهل العلم: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْبَابِ».

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه الباري ء عزّ وجل لعالم الوجود، وإنّه تذكير بنهايةالحياة وانطفاء شعلتها، ومن ثم بمسألة البعث وعودة الأموات إلى الحياة.

وكتتمة لهذا الدرس الكبير

في التوحيد والمعاد، تنتقل الآيات إلى المقارنة بين المؤمنين والكافرين، كي توضّح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض، وكما أنّ الأرض التي لها الإستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف اللَّه، هي- فقط- التي تستفيد من آيات اللَّه، وذلك طبقاً لقوله تعالى: «أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ و لِلإِسْلمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ».

كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور. «فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مّن ذِكْرِ اللَّهِ».

أمّا القاسية قلوبهم، فهم الذين لا تؤثّر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى، ولا الآيات القرآنية المؤثرة. نعم، «أُولئِكَ فِى ظَللٍ مُّبِينٍ».

ويقال للقلوب التي لا تظهر أيّ استجابة لنور الحق والهداية، ولا تسمح بنفوذ نور الحق والهداية إليها (قلوب قاسية).

______________________________

(1) «يهيج»: من مادة «هيجان» ولها معنيان في اللغة، الأوّل هو جفاف النبات واصفراره، والثاني هو التحرك والإنتفاض، ومن الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنّه يستعد للإنفصال والإنتشار والتحرك والهيجان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 273

في تفسير القرطبي: روي عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول اللَّه قوله تعالى «أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ و لِلإِسْلمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ» كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح». قلنا يا رسول اللَّه وما علامة ذلك؟ قال صلى الله عليه و آله: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزوله».

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

سبب النّزول

نقل بعض المفسرين عن عبد اللَّه بن مسعود: مل أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ملة، فقالوا: يا رسول اللَّه حدثنا، فنزلت أوّل آية من الآيات أعلاه معرّفة القرآن ب (أحسن الحديث).

التّفسير

الآيات السابقة تحدثت عن العباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كما تحدثت عن الصدور الرحبة المستعدة لتقبّل الحق.

الآيات التي يدور حولها البحث تواصل التطرّق إلى هذا الأمر، كي تكمل حلقات البحوث السابقة الخاصة بالتوحيد والمعاد مع ذكر بعض دلائل النبوة، إذ تقول الفقرة الاولى من الآية: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ».

ثم تستعرض خصائص القرآن الكريم، حيث تشرح الخصائص المهمة للقرآن من خلال بيان ثلاث صفات له:

أمّا الخاصية الاولى فهي: «كِتَابًا مُّتَشَابِهًا». والمقصود من (متشابه) هنا هو الكلام المتناسق الذي لا تناقض فيه ويشبه بعضه البعض، فلا تعارض فيه ولا تضاد، وكل آية فيه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 274

أفضل من الاخرى والمتماثل من حيث اللطف والجمال والعمق في البيان.

وهذا بالضبط على عكس العبارات التي يصوغها الإنسان، والتي مهما اعتنى بصياغتها فإنّها لن تخلو من الاخطاء والاختلافات والتناقضات، ودراسة آثار الكتّاب الكبار المعروفين في مجالي النثر والشعرهي خير شاهد على هذا الموضوع. أمّا الخاصية الثانية فهي: «مَّثَانِىَ»- أي المكرر- وهذه الكلمة تشير إلى تكرار بحوثه المختلفة وقصصه ومواعظه، التكرار الذي لا يملّ منه الإنسان، وإنّما على العكس من ذلك، إذ يتشوّق لتلاوته أكثر، وهذه إحدى اسس الفصاحة.

أمّا الخاصية الثالثة فهي: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ». وهذه الخاصية للقرآن فتتجلّي في مسألة نفوذه

وتأثيره العميقين والخارقين في اعماق النفوس؛ «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ».

إنّه لوصف وتجسيد لطيف وجميل لنفوذ آيات القرآن العجيب إلى أعماق القلوب، إذ أنّه في بداية الأمر يبعث في القلب شيئاً من الخوف والرهبة، الخوف الذي يكون أساساً للصحوة ولبدء الحركة، والرهبة التي تجعل الإنسان يتحسس مسؤولياته المختلفة، ثم تأتي مرحلة الهدوء وقبول آيات اللَّه وتتبعها السكينة والإستقرار.

في تفسير مجمع البيان روي عن العباس بن عبد المطلب أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللَّه، تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها».

وفي نهاية الآية يقول تعالى بعد أن بيّن تلك الخصائص: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ».

حقاً إنّ القرآن نزل لهداية الجميع، لكن المتقين وطلّاب الحق والحقيقة هم المستفيدون- فقط- من نوره، أمّا اولئك الذين تعمّدوا إغلاق كافة نوافذ قلوبهم أمام نور القرآن الكريم، والذين تتحكم بأرواحهم ظلمات التعصب والعناد- فقط- لا يستفيدون من نور القرآن، وإنّما يزدادون ضلالة من جرّاء عنادهم وعدائهم، لذلك فإنّ تتمة الآية تقول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ».

فهذه الضلالة هي التي يضع الإنسان حجر أساسها بيده، ويحكم بناء أساسها بواسطة أعماله الخاطئة والسيئة، ولذلك لا تتنافى اطلاقاً مع إرادة الإنسان وحريته.

الآية التالية تقارن بين مجموعة من الظالمين والمجرمين، ومجموعة من المؤمنين الذين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 275

استعرضت أوضاعهم فيما قبل، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحاً في هذه المقارنة، إذ تقول: «أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

إنّ أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدام وجوههم كوسيلة دفاعية، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل.

ثم تضيف نهاية الآية: «وَقِيلَ

لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ».

نعم، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضّح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة، إذ يقولون لهم: إنّ أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.

إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة، و الآية التالية تتحدث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا، قال تعالى: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ».

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية: «فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا» «1».

ولكن العار والخزي للإنسان أن يخرج من هذه الدنيا حقيراً وذليلًا، قد ابتلي بعذاب فاضح يريق ماء وجهه، «وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».

كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) قرآن لا عوج فيه: الآيات- هنا- تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال. ففي البداية تتحدث عن مسألة شمولية القرآن، إذ تقول الآية الكريمة:

«وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ».

______________________________

(1) «خزي»: تعني الذلّ والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 276

حيث تمّ فيه شرح قصص الطغاة والمتمردين الرهيبة، وعواقب الذنوب الوخيمة، ونصائح ومواعظ، وأسرار الخلق ونظامه، وأحكام وقوانين متينة، وبكلمة أنّه وضّح فيه

كل ما هو ضروري لهداية الإنسان على شكل أمثال، لعلهم يتذكرون ويعودون من طريق الضلال إلى الصراط المستقيم: «لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ». ثم تتطرق الآية إلى وصف آخر للقرآن، إذ تقول: «قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ».

فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم- بكل هذه الصفات التي ذكرناها- هو: «لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ».

ثم يستعرض القرآن المجيد أحد الأمثال التي ضربت ليرسم من خلاله مصير الموحّد والمشرك، وذلك ضمن إطار مثل ناطق وجميل، إذ يقول: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ» «1».

كل واحد منهم يأمره بتنفيذ أمر معيّن.

والأدهى من كل ذلك أنّه عندما يطلب من أحدهم توفير مستلزمات حياته، يرميه على الآخر، والآخر يرميه على الأوّل، وهكذا يبقى محروماً محتاجاً عاجزاً تائهاً. وفي مقابله هناك رجل سلم لرجل واحد «وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ».

فهذا الشخص خطه ومنهجه واضح، وولي أمره معلوم فلا تردد ولا حيرة ولا تضاد ولا تناقض، يعيش بروح هادئة ويخطو خطوات مطمئنة، فهل أنّ هذين الرجلين متساويان:

«هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا».

هذا المثال ينطبق على (المشرك) و (الموحّد) فالمشرك يعيش في وسط المتضادات والمتناقضات، وكل يوم يتعلق قلبه بمعبود جديد، أمّا الموحّدون فإنّهم يعشقون اللَّه وحده.

وفي نهاية الآية يقول تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».

ولكن أكثرهم لا يعلمون رغم وجود هذه الدلائل الساطعة، إذ إنّ حبّ الدنيا والشهوات الطاغية عليهم يجعلهم يضلون عن طريق الحقيقة: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

وتتمة لبحث الآيات السابقة بشأن التوحيد والشرك، تتحدث الآية التالية عن نتائج

______________________________

(1) «متشاكسون»: أصلها من «شكاسة» وتعني سوء الخلق والتنازع والاختصام، ولهذا يقال «متشاكس» لمن يتخاصم ويتنازع بعصبية وسوء خلق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 277

الشرك والتوحيد في موقف القيامة، إذ تبدأ بمسألة الموت الذي هو بوّابة القيامة، وتبيّن لكل البشرية أنّ قانون الموت عامّ وشامل للجميع: «إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُم

مَّيّتُونَ».

قال بعض المفسرين: إنّ أعداء رسول اللَّه كانوا ينتظرون وفاته، وكانوا في نفس الوقت فرحين مسرورين لكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يموت في نهاية الأمر، فالقرآن- هنا- أجابهم بالقول: إن مات رسول اللَّه فهل تبقون أنتم خالدين، هذا ما نصّت عليه الآية (34) من سورة الأنبياء: «أَفَإِين مّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ».

ثم ينتقل البحث إلى محكمة يوم القيامة، ليجسم المجادلة بين العباد في ساحة المحشر: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ».

«تختصمون»: مشتقة من «اختصام» وتعني النزاع والجدال بين شخصين أو مجموعتين تحاول كل منهما تفنيد كلام الآخر.

ولكن الآيات التالية تبيّن أنّ المخاصمة تقع بين الأنبياء والمؤمنين من جهة، والمشركين المكذّبين من جهة اخرى.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) هذه الآيات تواصل البحث الخاص بموقف الناس في ساحة المحشر، وتخاصمهم في تلك المحكمة الكبرى، وتقسّم آيات بحثنا إلى مجموعتين هما (المكذبون) و (المصدقون)، والقرآن الكريم يعطي صفتين لأصحاب المجموعة الاولى، أي «المكذبين». قال تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءَهُ و».

الكافرون والمشركون يكذبون كثيراً على الباري ء عزّ وجل، فأحياناً يعتبرون الملائكة بنات اللَّه، وأحياناً يقولون: عيسى هو ابن اللَّه، وأحياناً اخرى يعتبرون الأصنام شفعاء لهم عند اللَّه، وأحياناً يبتدعون أحكاماً كاذبة في الحلال والحرام وينسبونها إلى اللَّه، وما شابه ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 278

وأمّا الكلام الصادق الذي أنزل إليهم وكذّبوه فهو القرآن المجيد.

خاتمة الآية تبيّن

في جملة قصيرة جزاء أمثال هؤلاء الأفراد. قال تعالى: «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ» «1».

أمّا المجموعة الثانية فقد وصفها القرآن الكريم بوصفين، إذ قال: «وَالَّذِى جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

عبارة «الَّذِى جَاءَ بِالصّدْقِ» يشمل كل الذين يبلّغون نهج الأنبياء ويروّجون كلام اللَّه.

وبهذا الشكل فإنّ الآية تتحدث عن أناس هم من حملة الرسالة ومن العاملين بها، وتتحدث عن أولئك الذين ينشرون في العالم ما ينزل به الوحي من كلام الباري ء عزّ وجل وهم يؤمنون به ويعملون به، وهكذا فإنّ الآية تضم الأنبياء والأئمة المعصومين والدعاة لنهج الأنبياء.

الآية التالية تبيّن أنّ هناك ثلاث مثوبات بانتظار أفراد هذه المجموعة، أي المصدقين، إذ تقول في البداية: «لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ».

لهذه الآية مفهوم واسع بحيث يشمل كل النعم المادية والمعنوية.

أمّا المكافأتان الثانية والثالثة اللتان يمنحهما الباري ء عزّ وجل للمصدقين، فيقول القرآن المجيد بشأنهما: «لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

كم هي عبارة جميلة ولطيفة! فمن جانب يدعون اللَّه سبحانه وتعالى ليكفّر عنهم أسوأ ما عملوا بظل لطفه، ويطهّرهم من تلك البقع السوداء بماء التوبة، ومن جهة اخرى يدعون اللَّه ليجعل أفضل وأحسن أعمالهم معياراً للمكافأة، وأن يجعل بقية أعمالهم ضمن ذلك العمل.

إنّ ما يتّضح من الآيات الكريمة هو أنّ اللَّه استجاب لدعواهم، عندما غفر لهم وعفا عن أسوء أعمالهم، وجعل أفضل الأعمال معياراً للمكافأة.

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)

______________________________

(1) «مثوى : من مادة (ثواء) وتعني الإقامة المستمرة في مكان ما ولهذا

فإنّ (مثوى هنا تعني المكان والمنزل الدائم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 279

سبب النّزول

الكثير من المفسرين قالوا: إنّ مشركي قريش كانوا يخوّفون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من آلهتهم ويحذّرونه من غضبها على أثر وصفه تلك الأوثان بأوصاف مزرية، ويوعدونه بأنّه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى، وللرد على كلامهم نزلت الآية المذكورة أعلاه.

التّفسير

إنّ اللَّه كاف: تتمة لتهديدات الباري ء عزّ وجل التي وردت في الآيات السابقة للمشركين، والوعد لأنبيائه. تتطرق الآية الاولى في بحثنا لتهديد الكفار: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ».

إنّ قدرة الباري ء عزّ وجل أقوى وأعظم من كل القدرات الاخرى، وهو الذي يعلم بكل احتياجات ومشكلات عباده، والذي هو رحيم بهم غاية الرحمة واللطف، كيف يترك عباده المؤمنين لوحدهم أمام أعاصير الحوادث وعدوان بعض الأعداء!

إنّ في هذه الآية بشرى لكل السائرين في طريق الحق والمؤمنين الحقيقيين، خاصة أولئك الذين يعيشون أقلية في بعض المجتمعات، والمحاطين بمختلف أشكال التهديد من كل جانب.

وكتتمة للآية السابقة، تشير الآية التالية إلى مسألة (الهداية) و (الضلالة) وتقسّم الناس إلى قسمين: (ضالين) و (مهتدين) وكل هذا من اللَّه سبحانه وتعالى، كي تبيّن أنّ جميع العباد محتاجون لرحمته، ومن دون إرادته لا يحدث شي ء في هذا العالم. قال تعالى: «وَمَن يُظْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ». «وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ».

ومن البديهي أنّ الضلالة لا تأتي من دون سبب، وكذلك الهداية بل إنّ كل حالة منهما هي استمرار لإرادة الإنسان وجهوده.

وما أشدّ جهل الذين فصلوا بين مثل هذه الآيات وبقية آيات القرآن واعتبروها شاهداً على ما ورد في المذهب الجبري، وكأنّهم لا يعلمون أنّ آيات القرآن تفسّر إحداها الاخرى، بل إنّ القرآن الكريم يقول في

نهاية هذه الآية: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى انتِقَامٍ». وهو خير شاهد على هذا المعنى.

وكما هو معروف فإنّ الإنتقام الإلهي هو بمعنى الجزاء على الأعمال المنكرة التي اقترفها الإنسان، وهذا يشير إلى أنّ إضلاله سبحانه وتعالى للإنسان هو بحدّ ذاته نوع من أنواع

مختصر الامثل، ج 4، ص: 280

الجزاء وردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه، وبالطبع فإنّ هدايته سبحانه وتعالى للإنسان هي بحدّ ذاتها نوع من أنواع الثواب، وهي ردّ فعل للأعمال الصالحة والخالصة التي يقوم بها الإنسان.

الهداية والإضلال من اللَّه: «الهداية»: في اللغة تعني التوجيه والإرشاد بلطف ودقّة، وتنقسم إلى قسمين (بيان الطريق) و (الإيصال إلى المطلوب). وبعبارة اخرى: (هداية تشريعية) و (هداية تكوينية).

ولتوضيح ذلك نقول: إنّ الإنسان يصف أحياناً الطريق للسائل بدقّة ولطف وعناية ويترك السائل معتمداً على الوصف في قطع الطريق والوصول إلى المقصد المطلوب، وأحياناً اخرى يصف الإنسان الطريق للسائل ومن ثم يمسك بيده ليوصله إلى المكان المقصود.

و (الإضلال) هو النقطة المقابلة ل (الهداية).

فلو ألقينا نظرة عامة على آيات القرآن لاتّضح لنا- بصورة جيّدة- أنّ القرآن يعتبر أنّ الظلالة والهداية من اللَّه؛ أي أنّ الإثنين ينسبان إلى اللَّه.

الدراسة السطحية لهذه الآيات وعدم إدراك معانيها العميقة أدّى إلى زيغ البعض خلال تفسيرهم لها ووقوعهم في فخاخ المذهب الجبري.

إنّ أدقّ تفسير يتناسب مع كل آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعاً هو أنّ الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في الآية (3) من سورة الإنسان: «إِنَّا هَدَيْنهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا». وفي الآية (52) من سورة الشورى: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». ومن البديهي أنّ دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة اللَّه تعالى، لأنّ كل ما

عند النبي هو من اللَّه.

وبالنسبة إلى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في الآية (23) من سورة النجم:

«وَلَقَدْ جَاءَهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى .

أمّا الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كل منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كل الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي- أي الهداية التكوينية- موضع بحث الكثير من آيات القرآن الاخرى التي لا يمكن تقييدها بأيّة شروط، فالهداية هذه تخصّ مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أمّا الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنّه يخص مجموعة اخرى ذكرت أوصافهم أيضاً في القرآن الكريم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 281

مختصر الامثل ج 4 319

القرآن المجيد يقول في الآية (26) من سورة البقرة: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ». وفي الآية (258) من سورة البقرة: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

وهذا يبيّن أنّ الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتّضح أنّ الفسق، أي عدم إطاعة أوامر الباري ء تعالى هو مصدر الضلال.

وفي الآية (264) من سورة البقرة نقرأ: «وَاللَّهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».

وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهيّ ء أرضية الضلال.

وقد ورد في الآية (3) من سورة الزمر: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

يعني أنّ الكذب والكفر هما مقدمة الضلال.

والآية (28) من سورة غافر تقول: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَن هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».

أي إنّ الإسراف والكذب يسببان الضلالة.

إنّ ما يمكن استنتاجه هو أنّ القرآن الكريم يؤكّد على أنّ الضلالة الإلهية تشمل كل من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب) و (الإسراف).

أمّا فيما يخصّ الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبيّن أنّ الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية.

وقد استعرضت

الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقاً للهداية ومحاطاً باللطف الإلهي؛ منها ما ورد في الآية (16) من سورة المائدة: «يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلمِ وَيُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

إذن فإتباع أمر اللَّه، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.

وفي الآية (27) من سورة الرعد نقرأ: «إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ».

إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقاً للهداية.

وورد في الآية (69) من سورة العنكبوت: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا».

فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل اللَّه) هو من الشروط الرئيسية للهداية.

وأخيراً نقرأ في الآية (17) من سورة محمّد: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى».

أي أنّ قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للإستمرار فيه بلطف الباري ء عزّ وجل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 282

نستنتج من ذلك أنّه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر اللَّه، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإنّ اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك الباري ء بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب. فهل أنّ شمول هؤلاء الذين يتحلّون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنّه دليل على هدايتهم بالإجبار؟

من الملاحظ أنّ آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدّاً ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الإبتلاء (لأنّهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في طريق الخيال).

إذن يجب القول بأنّهم هم الذين إختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).

على أيّة حال، فإنّ المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثاً ومن دون أيّ حكمة، وإنّما تتمّ بشرائط خاصة، بحيث تبيّن تطابق حكمة الباري ء عزّ وجل مع ذلك

الأمر.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) هل إنّ آلهتكم قادرة على حلّ مشاكلكم: الآيات السابقة تحدثت عن العقائد المنحرفة للمشركين والعواقب الوخيمة التي حلّت بهم، أمّا آيات بحثنا هذا فإنّها تستعرض دلائل التوحيد كي تكمل البحث السابق بالأدلة، كما تحدّثت الآيات السابقة عن دعم الباري ء عزّ وجل لعباده وكفاية هذا الدعم، والآيات أعلاه تتابع هذه المسألة مع ذكر الدليل.

في البداية تقول الآية: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

العقل والوجدان لا يقبلان أن يكون هذا العالم الكبير الواسع بكل هذه العظمة مخلوق من قبل بعض الكائنات الأرضية، فكيف يمكن للعقل أن يقبل أنّ الأصنام التي لا روح فيها ولا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 283

عقل ولا شعور هي التي خلقت هذا العالم، وبهذا الشكل فإنّ القرآن يحاكم اولئك إلى عقولهم وشعورهم وفطرتهم، كي يثبّت أوّل أسس التوحيد في قلوبهم، وهي مسألة خلق السماوات والأرض.

وفي المرحلة التالية تتحدث الآيات عن مسألة الربح والخسارة، وعن مدى تأثيرها على نفع أو ضرر الإنسان، كي تثبت لهم أنّ الأصنام لا دور لها في هذا المجال، وتضيف: «قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ».

والآن بعد أن اتّضح أنّ الأصنام ليس بإمكانها أن تخلق شيئاً ولا باستطاعتها أن تتدخل في ربح الإنسان

وخسارته، إذن فلم نعبدها ونترك الخالق الأصلي لهذا الكون، وكنتيجة نهائية وشاملة يقول الباري ء عزّ وجل: «قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ».

آيات القرآن المجيد أكّدت- ولعدّة مرات- على أنّ المشركين يعتقدون بأنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو خالق السماوات والأرض. وهذا الأمر يبيّن أنّ الموضوع كان بالنسبة للمشركين من المسلّمات، وهذا أفضل دليل على بطلان الشرك، لأنّ توحيد خالق الكون والاعتراف بمالكيته وربوبيته أفضل دليل على (توحيد المعبود) ومن كل هذا نخلص إلى أنّ التوكّل لا يكون إلّاعلى اللَّه فكيف بعبادة غيره؟!

الآية التالية تخاطب اولئك الذين لم يستسلموا لمنطق العقل والوجدان بتهديد إلهي مؤثر، إذ تقول: «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ».

ستعلمون بمن سيحل عذاب الدنيا المخزي والعذاب الخالد في الآخرة: «مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ».

وبهذا الشكل فإنّ آخر كلام يقال لُاولئك هو: إمّا أن تستسلموا لمنطق العقل و الشعور وتستجيبوا لنداء الوجدان، أو أن تنتظروا عذابين سيحلان بكم، أحدهما في الدنيا وهو الذي سيخزيكم ويفضحكم، والثاني في الآخرة وهو عذاب دائمي خالد، وهذا العذاب أنتم اعددتموه لأنفسكم، وأشعلتم النيران في الحطب الذي جمعتموه بأيديكم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 284

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)

بعد ذكر دلائل التوحيد، وبيان مصير المشركين والموحدين، تبيّن الآية الاولى- في هذا البحث- حقيقة، مفادّها أنّ قبول ما جاء في كتاب اللَّه أو عدم قبوله إنّما يعود بالفائدة أو الضرر عليكم، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصرّ عليكم في هذا المجال، فإنّه لم يكن يبتغي جني الأرباح من وراء ذلك، وإنّما كان يؤدّي واجباً إلهيّاً: «إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقّ».

وتضيف الآية: «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».

فإنّك لست مكلّفاً بإدخال الحق إلى قلوبهم بالإجبار، وإنّما عليك إبلاغهم وإنذارهم فقط: «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».

ثم لتوضّح أنّ الحياة والموت وكل شؤون الإنسان هي بيد اللَّه سبحانه وتعالى، قالت الآية: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا».

وبهذا الشكل فإنّ (النوم) يعد شقيق (الموت) لكن بأحد أشكاله الضعيفة.

وتضيف الآية: «فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى».

نعم، «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

وبعدما أصبحت حاكمية (اللَّه) على وجود الإنسان وتدبير أمره عن طريق نظام الحياة والموت والنوم واليقظة، أمراً مسلّماً من خلال الآيات السابقة، تناولت الآية اللاحقة خطأ اعتقاد المشركين فيما يخص مسألة الشفاعة، كي تثبت لهم أنّ مالك الشفاعة هو مالك حياة وموت الإنسان، وليس الأصنام الجامدة التي لا شعور لها: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 285

وكما هو معروف فإنّ إحدى الأعذار الواهية لعبدة الأوثان بشأن عبادتهم للأوثان، هي ما ورد في مطلع هذه السورة: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .

إذ أنّهم كانوا يعدّونها تماثيل وهياكل للملائكة و الأرواح المقدسة، ويزعمون أنّ هذه الأحجار والأخشاب الميتة لها قدرة هائلة.

ولكون الشفاعة تحصل من الشفيع الذي هو، أوّلًا: يشعر ويدرك ويفهم؛

وثانياً: قدير ومالك وحكيم. فإنّ تتمة الآية تجيبهم: «قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَايَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ».

إذا كنتم تتخذون من الملائكة والأرواح المقدسة شفعاء لكم، فإنّهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً، لأنّ كل ما عندهم هو من اللَّه، وإذا كنتم تتخذون من الأصنام المصنوعة من الخشب والحجارة شفعاء لكم، فإنّهم علاوة على عدم امتلاكهم شيئاً لأنفسهم، فهم لا يمتكلون أدنى عقل أو شعور.

لذا فإنّ اللَّه جلّ وعلا يضيف في الآية التالية: «قُلْ لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا». لأنّه: «لَّهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وكما يقول بعض المفسرين: إنّ حقيقة الشفاعة، هي التوسل بأسماء اللَّه الحسنى، التوسل برحمته وغفرانه وستره، طبقاً لهذا فإنّ كافة أشكال الشفاعة تعود في النهاية إلى ذاته المقدسة، إذن كيف يمكن طلب الشفاعة من غيره وبدون إذنه «1».

وَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (48) الذين يخافون من اسم اللَّه: مرّة اخرى يدور الحديث عن التوحيد والشرك، إذ

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 17/ 286.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 286

عكست الآية الاولى إحدى الصور القبيحة والمشوّهة للمشركين ولمنكري المعاد من خلال تعاملهم مع التوحيد، قال تعالى: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ

إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» «1». فأحياناً يستحسن الإنسان القبائح ويستقبح الحسنات بحيث ينزعج إذا سمع اسم الحق ويستبشر إذا سمع اسم الباطل. وفي المقابل نرى المؤمنين لدى سماعهم اسم اللَّه ينجذبون إليه بدرجة أنّهم على استعداد لبذل كل ما لديهم في سبيله.

وعندما يصل الأمر إلى درجة أنّ مجموعة من اللجوجين والجهلة المغرورين ينفرون ويشمئزون حتى من سماع اسم اللَّه، يوحي الباري ء عزّ وجل إلى نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله أن يتركهم ويتوجّه إلى الباري ء عزّ وجل ويشتكي إليه من هؤلاء بلحن ملي ء بالعواطف الرفيعة والعشق الإلهي لكي يبعث على تسكين قلبه الملي ء بالغم من جهة، وعلى تحريك العواطف الهامدة عند اولئك من جهة اخرى: «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

نعم أنت الحاكم المطلق في يوم القيامة، وهناك يدرك المعاندون مدى خطئهم، ويفكّرون في إصلاح ما مضى، ولكن ما الفائدة؟

الآية التالية تقول: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيمَةِ». ولكن هذا الأمر غير ممكن.

«الظلم»: هنا له معان واسعة تشمل الشرك أيضاً وبقية المظالم.

ثم تضيف الآية: «وَبَدَا لَهُم مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ».

وسيرون العذاب بأعينهم، العذاب الذي لم يكن يتوقعه أحد منهم.

الآية التالية توضيح أو تتمة لموضوع طرحته الآية السابقة، إذ تقول: «وَبَدَا لَهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

______________________________

(1) «اشمأزت»: من مادة «اشمئزاز» وتعني الإنقباض والنفور عن الشي ء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 287

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) في الشدائد يذكرون اللَّه، ولكن ...: الآيات هنا تتحدث مرّة اخرى عن المشركين والظالمين، وتعكس صورة اخرى من صورهم القبيحة. في البداية يقول: «فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا». لكن هذا اللجوء مؤقت، إذ ما إن يتفضّل عليه الباري ء عزّ وجل ويكشف عنه الضر والشدائد، حتى يتبجح ناكراً لهذه النعم، وزاعماً بأنّه هو الذي أنقذ نفسه من ذلك الضر: «ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ» «1».

إنّ أمثال هؤلاء الغافلين لا يتصورون أنّ العلوم والمعارف التي يمتلكها الإنسان إنّما هي نعمة إلهية.

ثم يجيب القرآن الكريم على أمثال هؤلاء المغرورين، الذين ينسون أنفسهم وخالقهم بمجرّد زوال المحنة وتوفّر النعمة، قائلًا: «بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

فالهدف من إبتلائهم بالحوادث الشديدة والصعبة، ومن ثم إغداق النعم الكبيرة عليهم هو اظهار خباياهم والكشف عن بواطنهم.

وتضيف الآية التالية: «قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

نعم، فقارون وأمثاله من المغرورين يتصورون أنّهم حصلوا على الأموال بسبب لياقتهم وغفلوا عن أنّ اللَّه سبحانه وتعالى هو الذي منّ بهذه النعم عليهم وأنّه المصدر الأصل للنعم والواهب الحقيقي لها، وأنّهم كانوا ينظرون فقط للأسباب الظاهرية.

ثم يقول: «فَأَصَابَهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا».

فكلّ واحد منهم ابتلي بنوع من العذاب الإلهي وهلك، كابتلائهم بالطوفان والسيل والزلزال والصيحة السماوية.

______________________________

(1) «خول»: من مادة «تخويل» و تعنى الإعطاء على نحو الهبة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 288

ويضيف: إنّ هذا المصير لا ينحصر

باولئك الاقوام وحسب بل إنّ مشركي مكة سيبتلون في القريب العاجل بعواقب أعمالهم السيئة، ولا يستطيع أحد منهم أن يفرّ من قبضة العذاب الإلهي الذي سينزل بهم جميعاً: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ».

وسينال هذا العذاب والإبتلاء كل الطغاة والمغرورين والمشركين، وفي كل العصور والقرون.

القرآن الكريم أجاب على ادعاءات الذين يزعمون أنّهم حصلوا على النعم الدنيوية بعلمهم وقدرتهم، عندما دعاهم إلى مراجعة تاريخ الأوّلين للإطّلاع على أنواع الإبتلاءات والعذاب الذي ابتلوا به بسبب مزاعمهم الباطلة، وهذا هو ردّ تأريخي وواقعي.

ثم يرد القرآن الكريم عليهم بردّ عقلي، إذ يقول: «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

فالكثير من الأشخاص الكفوئين نراهم يعيشون حياة المستضعفين والبسطاء، في حين نرى أنّ الكثير من الأشخاص غير الكفوئين يعيشون أثرياء ومتنعمين من كل النواحي، فلو كان الظفر المادي كلّه يأتي عن طريق جهد وسعي الإنسان إضافة إلى كفاءته، لما كنّا نرى مثل هذه المشاهد.

لذا تضيف الآية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

الآيات التي وضّحها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عندما قال: «عرفت اللَّه بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم» «1». وهي كلمة سامية تدلّ على ضعف وعجز الإنسان كي لا يتيه ولا يبتلى بالغرور والتكبر.

إنّ اللَّه يغفر الذنوب جميعاً: بعد التهديدات المتكررة التي وردت في الآيات السابقة قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ

لَا تَشْعُرُونَ (55)

______________________________

(1) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 250.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 289

بشأن المشركين والظالمين، فإنّ آيات بحثنا فتحت الأبواب أمام المذنبين وأعطتهم الأمل، لأنّ الهدف الرئيسي من كل هذه الأمور هو التربية والهداية وليس الإنتقام والعنف، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة يفتح الباري ء أبواب رحمته أمام الجميع ويصدر أوامر العفو عنهم، عندما يقول: «قُلْ يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَاتَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا».

التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنها أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الّذين أسرفوا» الآية «1».

إنّ الوعد الذي أعطاه اللَّه بغفران الذنوب مشروط بأن يعودوا إلى أنفسهم بعد إرتكاب الذنب، ويتوجّهوا في مسيرهم نحو الباري ء عزّ وجل، ويستسلموا لأوامره، ويظهروا صدق توبتهم وإنابتهم بالعمل.

الآية التاليه ترشد المجرمين والمذنبين إلى الطريق للدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول: «وَأنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ». واصلحوا اموركم ومسير حياتكم: «وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَاتُنصَرُونَ».

بعد طي هاتين المرحلتين «الإنابة» و «التسليم»، تتحدث الآية عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة (العمل)، إذ تقول: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ».

وبهذا الشكل فإنّ مسيرة الوصول إلى الرحمة الإلهية لا تتعدى هذه الخطوات الثلاث:

الخطوة الاولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه إلى اللَّه تعالى.

الخطوة الثانية: الإيمان باللَّه والإستسلام له.

الخطوة الثالثة: العمل الصالح.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ

تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 8/ 407.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 290

الندم لا ينفع في ذلك اليوم: الآيات السابقة أكّدت على التوبة وإصلاح الذات وإصلاح الأعمال السابقة، وآيات بحثنا الحالي تواصل التطرّق لذلك الموضوع؛ ففي البداية تقول: «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِى جَنْبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ».

نعم، فعندما يرد الإنسان إلى ساحة المحشر، ويرى بامّ عينيه نتائج إفراطه وإسرافه ومخالفته، يصرخ فجأة (واحسرتاه) إذ يمتلى ء قلبه في تلك اللحظات بغمّ كبير مصحوب بندم عميق، وهذه الحالة النفسية التي وردت في الآيات المذكورة.

عبارة «جَنْبِ اللَّه» تعني أنّ الامور ترجع إلى جانب اللَّه، فأوامره وإطاعته والتقرّب إليه، والكتب السماوية كلها نزلت من جانبه، وكلها مجموعة في هذا المعنى

ثم تضيف الآية: «أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَينِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ».

يبدو أنّ هذا الكلام يقوله الكافر عندما يوقف أمام ميزان الحساب، حيث يرى البعض يقادون إلى الجنة وهم محمّلون بأعمالهم الحسنة، وهنا يتمنى الكافر لو أنّه كان أحد هؤلاء المتوجهين إلى جنة الخلد.

وتضيف الآية مرّة اخرى: «أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».

وهذا ما يقوله الكافر- أيضاً- حينما تقوده الملائكة الموكلة بالنار نحو جهنم، وترى عيناه نار جهنم ومنظر العذاب الأليم فيها، وهنا يتأوه من أعماق قلبه ويتوسل لكي يسمح له بالعودة مرّة اخرى إلى الحياة الدنيا ليطهّر نفسه من الأعمال السيئة والقبيحة ويستبدلها بأعمال صالحة.

القرآن المجيد يردّ على القول الثاني من بين الأقوال الثلاثة، إذ يقول: «بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ ءَايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ

الْكَافِرِينَ».

إنّ قولك: لو كانت الهداية قد شملتني لأصبحت من المتقين، فما هي الهداية الإلهية؟ هل هي غير الكتب السماوية ورسل اللَّه، وآياته وعلاماته الصادقة في الآفاق والأنفس؟ إنّك سمعت باذنيك وشاهدت بعينيك كل هذه الآيات، فما كان ردّ فعلك إزاءها غير التكذيب والتكبّر والكفر.

فمن بين تلك الأعمال الثلاثة يعد (الاستكبار) الجذر الرئيسي، ومن بعد يأتي التكذيب بآيات اللَّه، وحصيلة الاثنين هو الكفر وعدم الإيمان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 291

وَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) الآيات السابقة تتحدث عن المشركين الكذّابين والمستكبرين الذين يندمون يوم القيامة على ما قدّمت أيديهم ويتوسلون لإعادتهم إلى الدنيا، ولكن هيهات أن يستجاب لهم طلبهم، وآيات بحثنا هذه تواصل الحديث عن هذا الأمر، إذ تقول: «وَيَوْمَ الْقِيمَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ».

ثم تضيف: «أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبّرِينَ».

إنّ عبارة «كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ» تستهدف اولئك الذين قالوا بوجود شريك للَّه، أو باتخاذ اللَّه ولداً من الملائكة، أو الذين يزعمون أنّ المسيح عليه السلام هو ابن اللَّه، وأمثال هذه المزاعم والإدّعاءات.

الآية التالية تتحدث عن طائفة تقابل الطائفة السابقة، حيث تتحدث عن المتقين وابتهاجهم في يوم القيامة، إذ تقول: «وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ» «1».

ثم توضّح فوزهم وانتصارهم من خلال جملتين قصيرتين مفعمتين بالمعاني: «لَايَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

نعم، إنّهم يعيشون في عالم لا

يوجد فيه سوى الخير والطهارة والسرور، وهذه العبارة القصيرة جمعت- حقّاً- كل الهبات الإلهية فيها.

الآية التالية تتطرق من جديد إلى مسألة التوحيد والجهاد ضد الشرك، وتواصل مجادلة المشركين، حيث تقول: «اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ وَكِيلٌ».

العبارة الاولى في هذه الآية تشير إلى (توحد اللَّه في الخلق) والثانية تشير إلى (توحده في الربوبية).

______________________________

(1) «مفازة»: مصدر ميمي بمعنى الفوز والظفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 292

فمسألة (توحده في الخلق) هي حقيقة اعترف بها حتى المشركون، ولكنّهم ابتلوا بالانحراف فيما يتعلق بمسألة (توحده في الربوبية)، ففي بعض الأحيان اعتبروا الأصنام هي التي تحفظهم وتحميهم وتدبّر أمرهم، وكانوا يلجؤون إليها عندما يواجهون أيّ مشكلة.

أمّا الآية التالية فقد تطرّقت إلى (توحيد اللَّه في المالكية) لتكمل بحث التوحيد الذي ورد في الآيات السابقة، إذ تقول: «لَّهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

ولهذا السبب قررت الآية المذكورة بمثابة استنتاج: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ».

لأنّهم تركوا المصدر الرئيسي والمنبع الحقيقي لكل الخيرات والبركات وتاهوا في صحاري الضلال عندما أعرضوا بوجوههم عن مالك مفاتيح السماوات والأرض، وتوجّهوا نحو موجودات عاجزة تماماً عن تقديم أدنى عمل لهم.

من مجموع كل الامور التي ذكرناها في الآيات السابقة بشأن فروع التوحيد، يمكن الحصول على نتيجة جيّدة، وهي أنّ التوحيد في العبادة هو حقيقة لا يمكن نكرانها وعلى كل إنسان عاقل أن لا يسمح لنفسه بالسجود للأصنام، ولهذا فإنّ البحث ينتهي بآية تتحدث بلهجة حازمة ومتشددة: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ».

هذه الآية- وبالنظر إلى أنّ المشركين والكفرة كانوا أحياناً يدعون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى احترام آلهتهم وعبادتها، أو على الأقل عدم الانتقاص منها أو النهي عن عبادتها- أعلنت وبمنتهى الصراحة أنّ مسألة توحيد اللَّه

وعدم الإشراك به هي مسألة لا تقبل المساومة والاستسلام أبداً، إذ يجب أن تزال كافة أشكال الشرك وتمحى من على وجه الأرض.

وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ السَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) الشرك محبط للاعمال: آيات بحثنا تواصل التطرّق للمسائل المتعلقة بالشرك والتوحيد والتي كانت قد استعرضت في الآيات السابقة أيضاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 293

الآية الاولى تتحدث بلهجة قاطعة وشديدة حول أخطار الشرك، وتقول: «وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».

وبهذا الترتيب، فإنّ للشرك نتيجتين خطيرتين، تشملان حتى أنبياء اللَّه فيما لو أصبحوا مشركين، على فرض المحال.

النتيجة الاولى: إحباط الأعمال، والثانية: الخسران والضياع.

وإحباط الأعمال يعني محو آثار ثواب الأعمال السابقة، وذلك بعد كفره وشركه باللَّه، لأنّ شرط قبول الأعمال هو الاعتقاد بأصل التوحيد، ولا يقبل أيّ عمل بدون هذا الاعتقاد.

وأمّا خسارتهم فإنّها بسبب بيعهم أكبر ثروة يمتلكونها، ألا وهي العقل والإدراك والعمر في سوق التجارة الدنيوية، وشراؤهم الحسرة والألم بثمنها.

الآية التالية تضيف للتأكيد أكثر: «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مّنَ الشَّاكِرِينَ».

تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر، وذلك يعني أنّ ذات اللَّه المنزهة يجب أن تكون معبودك الوحيد.

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تكشف عن الجذر الرئيسي لانحرافهم، وتقول: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ». ولهذا تنزّلوا باسمه المقدس حتى جعلوه رديفاً للأوثان.

ثم يأتي القرآن بعبارتين كنائيتين بعد العبارة السابقة، وذلك لبيان عظمة وقدرة الباري ء عزّ وجل، إذ يقول كلام اللَّه المجيد: «وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ

يَوْمَ الْقِيمَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ».

«القبضة»: الشي ء الذي يقبض عليه بجميع الكف، تستخدم- عادة- للتعبير عن القدرة المطلقة والتسلّط التام؛ و «مطويّات»: من مادة «طي» وتعني الثني، والتي تستعمل أحياناً كناية عن الوفاة وانقضاء العمر، أو عن عبور شي ء ما.

فالذي يثني طوماراً ويحمله بيده اليمنى يسيطر بصورة كاملة على الطومار الذي يحمله بتلك اليد، وانتخبت اليد اليمنى هنا لأنّ أكثر الأشخاص يؤدّون أعمالهم المهمة باليد اليمنى ويحسّون بأنّها ذات قوّة وقدرة أكثر.

خلاصة الكلام، أنّ كل هذه التشبيهات والتعابير هي كناية عن سلطة اللَّه المطلقة على عالم الوجود في العالم الآخر، حتى يعلم الجميع أنّ مفتاح النجاة وحلّ المشاكل يوم القيامة هو بيد القدرة الإلهية، كي لا يعمدوا إلى عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة بذريعة أنّها ستشفع لهم في ذلك اليوم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 294

إنّ السماء والأرض أيضاً في قبضته في الحياة الدنيا ولكن في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى وكل إنسان يدرك ويشعر أنّ كل شي ء هو من عند اللَّه وتحت تصرفه.

فبعد التوضيحات التي ذكرت آنفاً، يعطي الباري ء عزّ وجل في آخر الآية نتيجة مركّزة وظاهرية، إذ يقول: «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ».

فلو لم يكن بنو آدم قد أصدروا أحكامهم على ذات اللَّه المقدسة المنزهة وفق مقاييس تفكيرهم الصغيرة والمحدودة، لما انجر أحد منهم إلى حبائل الشرك وعبادة الأصنام.

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) (النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد: الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له، إذ تبدأ

الحديث بنهاية الحياة في الدنيا، وتقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّموَاتِ وَمَن فِى الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ».

يستفاد من الروايات إنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر، ولا يبقى أحد حيّاً في هذا العالم سوى الباري ء عزّ وجل إذ هو: «حَىٌّ لَايَمُوتُ».

يتّضح بصورة جيّدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث، في الحادثة الاولى يموت الأحياء فوراً، وفي الحادثة الثانية- التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الاولى- يعود كل الناس إلى الحياة مرّة اخرى، يقفون بانتظار الحساب. وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ الْكِتَابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها: آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات. في البداية تقول: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا».

وقد اختلف المفسرون في معنى إشراق الأرض بنور ربّها، إذ ذكروا تفسيرات عديدة، اخترنا إثنين منها، وهي:

1- قالت طائفة: إنّ المراد من نور الرب هو الحق والعدالة، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 295

2- أمّا المفسر الكبير العلّامة الطباطبائي رحمه الله، صاحب تفسير الميزان، فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وتجلّي الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلّامة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22) من سورة «ق»: «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ». وهذا الإشراق وإن كان عاماً

لكل شي ء يسعه النور، لكن لمّا كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذٍ من الشأن، خصّها بالبيان.

ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار عليهم السلام تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر (عج)، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه، وتأكيد لهذا المعنى وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجاً حيّاً من مشاهد القيامة، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرسول الأكرم وخليفة اللَّه، الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

العبارة الثانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال، إذ تقول: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ».

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان.

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود: «وَجِاى ءَ بِالنَّبِيّينَ وَالشُّهَدَاءِ».

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة، كما ورد في الآية (6) من سورة الأعراف: «وَلَنَسَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ».

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم، صحيح أنّ الباري ء عزّ وجل مطّلع على كل الامور، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

العبارة الرّابعة تقول: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ».

والخامسة تضيف: «وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ».

فمن البديهيات، عندما يكون الحاكم هو الباري ء عزّ وجل، فلا يحكم إلّابالحق، وفي مثل هذه المحاكم لا وجود للظلم والاستبداد مطلقاً.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول: «وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ».

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يردّ عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 296

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة، هو الذي أحاط علمه بكل شي ء، لهذا فإنّ العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول: «وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ».

إذن فلا حاجة حتى للشهود، لأنّ اللَّه هو

أعلم من كل أولئك الشهود، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود.

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا قَالُوا بَلَى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) الّذين يدخلون جهنم زمراً: تواصل الآيات هنا بحث المعاد، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين، الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة.

وتبدأ بأهل جهنم، إذ تقول: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا».

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس، وتوضّح أنّ الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق»: من مادة «سوق» وتعني (الحث على السير).

ثم تضيف: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا» «1».

يتّضح بصورة جيّدة من خلال هذه العبارة، أنّ أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق اولئك الكفرة، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم، وهذا الحدث المفاجي ء يوجد رعباً ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ، الذين يقولون استهجاناً وتوبيخاً لهم: لم كفرتم وقد هيأت لكم كافة أسباب الهداية، فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات، قائلين: «قَالُوا بَلَى

______________________________

(1) «خزنة»: جمع (خازن) من مادة «خزن» وتعني حافظ الشي ء، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 297

وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ».

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذّبوا الأنبياء وانكروا آيات اللَّه، وبالطبع فإنّ مصيرهم لن يكون

أفضل من هذا.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم: «قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

فأبواب جهنم- كما أشرنا إليها من قبل- يمكن أن تكون قد نظّمت حسب أعمال الإنسان، وإنّ كل مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها، وذلك مثل أبواب الجنة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين».

والذي يلفت النظر هو أنّ ملائكة العذاب تؤكّد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدّي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم، وذلك إشارة إلى أنّ التكبر والغرور وعدم الإنصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي للكفر والإنحراف وإرتكاب الذنب. ولهذا نقرأ في رواية- في الكافي- عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام قالا: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر».

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَ قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) المتقون يدخلون الجنة افواجاً: هذه الآيات- التي هي آخر آيات سورة (الزمر)- تواصل بحثها حول موضوع المعاد، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنة، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم، لتتوضح الامور أكثر من خلال هذه المقارنة. في البداية تقول: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا».

عبارة (سيق) أثار التساؤل، لأنّ هذا التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أيّ اشتياق

ورغبة في تنفيذه، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 298

جهنم، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنة الذين يتوجّهون إلى الجنة بتلهّف واشتياق؟

إنّ التفسير الأصح لهذه العبارة هي: مهما كان حجم عشق المتقين للجنة، فإنّ الجنة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود اولئك عليهم، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق للضيف والمتلهّف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنة.

«زمر»: تعني هنا المجموعات الصغيرة؛ وتبيّن أنّ أهل الجنة يساقون إلى الجنة على شكل مجموعات مجموعات كل حسب مقامه.

ثم تضيف الآية: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ».

الملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم: إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب، ويقول بشأن أهل الجنة، إنّ أبواب الجنة مفتحة لهم من قبل، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أنّ ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين، أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل.

الملاحظ أنّ «الخلود» استخدم بشأن كل من أهل الجنة وأهل النار، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنة من زوال النعم الإلهية، ولكي يعلم أهل النار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النار.

الآية التالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنة السعادة والفرح اللذين غمراهم، حيث تقول: «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ و».

وتضيف في العبارة التالية: «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ».

المراد من الأرض هنا أرض الجنة؛ واستخدام عبارة (الإرث) هنا، إنّما جاء لكونهم حصلوا على

كل هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه، إذ- كما هو معروف- أنّ الميراث هو الشي ء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أيّ عناء مبذول.

العبارة الثالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنة الواسعة، إذ تقول: «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ».

أمّا العبارة الأخيرة فتقول: «فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 299

وهذه إشارة إلى أنّ هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعاً) ليكون صاحبه لائقاً ومستحقاً لنيل مثل هذه النعم.

وفي النهاية تخاطب الآية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله قائلة: «وَتَرَى الْمَلِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ». يسبحون اللَّه ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش اللَّه، أنّها تعبّر عن إستعداد اولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية، ولهذا تقول العبارة التالية: «وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقّ».

وباعتبار أنّ هذه الامور دلائل على ربوبية الباري ء عزّ وجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزهة لكل أشكال الحمد والثناء، فإنّ الجملة الأخيرة تقول: «وَقِيلَ الْحَمْدُلِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ الحمد والثناء على اللَّه هو منهاج كل اولي الألباب، ومنهاج كل الخواص والمقربين.

«نهاية تفسير سورة الزمر»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 301

40. سورة غافر

محتوى السورة: سورة غافر هي طليعة الحواميم، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضاً، نزلت جميعاً في مكة، وهي تبتدأ ب «حم».

يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية:

1- تتحدث عن بعض أسماء اللَّه الحسنى خصوصاً تلك التي ترتبط باحياء معاني الخوف والرجاء في القلوب، مثل قوله تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ» و «شَدِيدِ الْعِقَابِ».

2- تهديد الكفار والطواغيت بعذاب في هذه الدنيا، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية

فيه.

3- بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون، بدأت بالحديث- بشكل واسع- عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي اصطلح عليه ب «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسى عليه السلام من كيدها.

4- تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته، وفي ذلك تتناول جانباً من دلائل التوحيد، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

5- تنتهي السورة بدعوة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للتحمل والصبر، ثم تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 302

إنّ تسمية السورة ب «غافر» يعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثالثة من آيات السورة المباركة، أمّا تسميتها ب «المؤمن» فيعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون».

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الحواميم ديباج القرآن».

وروى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الحواميم ريحان القرآن، فاحمدوا اللَّه واشكروه بحفظها وتلاوتها. وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر. وإنّ اللَّه ليرحم تاليها وقارءها، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكل حميم أو قريب له، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة اللَّه المقرّبون».

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به، والإلتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك، فإنّه سيكون مستحقاً للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَ قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) تواجهنا

في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة، حيث افتتحت السورة ب «حم».

إنّ الحروف التي تبدأ بها سورة غافر- كما يستفاد ذلك من بعض الروايات ومن آراء المفسرين- تشير إلى أسماء اللَّه التي تبدأ بحروف هذه السورة، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك عن الإمام الصادق عليه السلام «1».

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان»، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أنّ «ح» يشير إلى الحاكمية، فيما يشير «م» إلى المالكية الإلهية.

ويتّضح في نهاية الفقرة عدم وجود تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر، بل هي تعمد جميعاً إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

______________________________

(1) يلاحظ معاني الأخبار، للشيخ الصدوق/ 22 (باب: معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 303

في الآية الثانية- كما جرى على ذلك الاسلوب القرآني- حديث عن عظمة القرآن، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ، إنّما يشتكّل في مادته الخام من حروف الألف باء ... وهنا يكمن معنى الإعجاز. يقول تعالى: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

إنّ قدرته تعالى تجعل الأشياء الاخرى عاجزة عن الوقوف إزاءها، فقدرته ماضية في كل شي ء، وعزّته مبسوطة، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال، بحيث يستوعب كل احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

و الآية التي بعدها تعدّد خمساً من صفاته تعالى، يبعث بعضها الأمل والرجاء، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر. يقول تعالى: «غَافِرِ الذَّنبِ». «وَقَابِلِ التَّوْبِ». «شَدِيدِ الْعِقَابِ». «ذِى الطَّوْلِ». «لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

أجل إنّ من له هذه الصفات هو

المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات اللَّه ... الآية الكريمة توضّح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع، فتقول: «مَا يُجَادِلُ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا».

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدّة والعدد، إلّاأنّ ذلك لن يدوم إلّالفترة، فلا تغتر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 304

وتنخدع إذاً لتحرّكهم في البلاد وتنقّلهم في المدن المختلفة، واستعراضهم لقوّتهم: «فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلدِ». «يجادل»: مشتقة من «جدل» وهي في الأصل تعني لفّ الحبل وإحكامه، ثم عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الاشخاص المتقابلين ويريد كل شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

«تقلب»: مشتقة من «قلب» وتعني التغيير، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضاً.

إنّ هدف الآية تحذير للرسول صلى الله عليه و آله والمؤمنين به- في بداية البعثة- من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية أو القوة السياسية والاجتماعية للكفار، ويعتبرونها دليلًا على حقانيتهم أو سبباً لقوتهم الحقيقية، إذ هناك الكثير منهم في تاريخ هذه الدنيا، وقد انكشف ضعفهم

وسقطت عنهم سرابيل القوة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي.

لذلك توضّح الآية التي بعدها عاقبة بعض الامم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادّة الحق والصواب، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ».

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة، بل خططت كل امّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه، بل وحتى تقتله: «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ».

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضاً، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه، وأصرّوا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة اللَّه: «وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» «1».

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلًا، ولم يبق لهم الخير دوماً، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي: «فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ».

______________________________

(1) «ليدحضوا»: مصدرها ثلاثي «إدحاض» وتعني الإزالة والإبطال.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 305

لكم- أيّها الناس- أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم ... انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدوّنة على صفحات التاريخ وفي صدور أهل العلم، فانظروا واعتبروا.

الآية الأخيرة- في المقطع الذي بين أيدينا- تشير إلى الجزاء الاخروي الذي ينتظر هؤلاء، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي: «وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أصْحَابُ النَّارِ».

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع الأقوام.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة، والأعمال التي يقومون بها بمل ء إرادتهم خلافاً لرسالة اللَّه.

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ

شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) دعاء حملة العرش للمؤمنين: يتضح من اسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة، بينما كان الأعداء في أوج قوّتهم، بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين والصابرين، بأنّكم لستم وحدكم. فالقرآن يقول: «الَّذِى يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا».

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو: «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْ ءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا». فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

يوضّح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون اللَّه وتسبحونه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 306

وتحمدونه، فقبلكم الملائكة المقربون وحملة العرش ومن يطوف حوله، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه. وهي من جانب آخر تحذّر الكفار وتقول لهم: إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهماً.

ومن جانب ثالث، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم- بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم- فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم.

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين. يقول تعالى: «رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدتَّهُمْ».

وأيضاً: «وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ».

لماذا؟ ل «إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

والوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مراراً على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة

أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الاولى، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الاخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الاولى ولا في مقامها، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الاولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين: «وَقِهِمُ السَّيَاتِ وَمَن تَقِ السَّيَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ».

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنة الخالدة، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 307

اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص: تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن «غضب» اللَّه تعالى على الكافرين، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين. في البداية تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ».

من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟

يبدو أنّ ملائكة العذاب ينادونهم بهذا النداء لتوبيخهم وفضحهم، في مقابل ما تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.

«المقت»: تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أنّ غضب اللَّه تعالى على الكافرين هو أشدّ من عداوتهم لأنفسهم.

أمّا فيم يتعلّق مقت الكفار لأنفسهم، يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد، فهل

ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.

عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكّرون بطريق للخلاص، فيعترفون بذنوبهم ويقولون: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ».

عندما تزول حجب الغرور والغفلة، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية، فلا سبيل عندها سوى الإعتراف بالذنوب.

والمقصود من «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» هو الموت في نهاية العمر والموت في نهاية البرزخ؛ أمّا المقصود من «أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنَ» فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية؛ لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية.

يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين: حياة برزخية، وحياة في يوم القيامة.

من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 308

فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها، لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلًا على ما نقول، إذ تقول: «ذلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا». فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقّة تشمئزون وتحزنون، أمّا إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط أساريركم، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.

وفي نهاية الآية، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب المظلمة، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات اللَّه سبحانه وتعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِىّ الْكَبِيرِ». إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة، ولا يوجد غيره علي وكبير، فلا يستطيع أحد أن يغلبه، ولا يوجد طريق للهروب

من حكمه.

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَ مَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) ادع اللَّه وحده رغماً على الكافرين: هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار، استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة، فهي استدلال على التوحيد والربوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام. تقول الآية أوّلًا: «هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ».

ثم توضّح واحدة من هذه الآيات: «وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا».

قطرات المطر تهب الحياة، ونور الشمس يحيي الكائنات، والهواء سرّ الوجود والحياة؛ حياة جميع الكائنات، حيوانات، نباتات، اناس ... كلّها تنزل من السماء.

وأخيراً تضيف الآية الكريمة: برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع، وتغمر الوجود بضيائها، إلّاأنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً، وإنّما يتذكّر- فقط- من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب: «وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 309

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول: «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ».

وأخلصوا نيّاتكم: «وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت، وبعض الصفات المهمة، فتقول: «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ».

فهو رفيع في علمه، وفي قدرته، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث إنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى: «ذُو الْعْرشِ».

فكلّ عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته.

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي: «يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ». وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوة والوحي، حيث تحيي

هذه الامور القلوب، وتكون في الانسان كالروح لجسد الإنسان.

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء عليهم السلام؟

الإجابة يقدّمها القرآن في نهاية الآية بقوله: «لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ».

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم ...

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين ...

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره ...

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين ...

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم ...

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة ...

وأخيراً، يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي.

يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 310

يوم التلاقي: هذه الآيات والتي تليها، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة. يبيّن تعالى أنّ يوم التلاقي، هو: «يَوْمَ هُم بَارِزُونَ» ... إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار، ثم تنكشف الأسرار الباطنية والمخفية.

الوصف الثاني لذلك اليوم المهول، هوانكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى شي ء منها على اللَّه تعالى: «لَايَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْ ءٌ».

بالطبع ... في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شي ء على اللَّه العالم المطلق، ولكن «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر بحيث إنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض؛ أمّا بالنسبة للَّه فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة للَّه تعالى، ويظهر ذلك من خلال نفس

الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم: «لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ».

يأتي الجواب: «لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ».

إنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معيّن، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق، الملائكة والإنسان، المؤمن والكافر، تطرحه جميع ذرّات الوجود، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحة.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم، هو كونه يوم جزاء: «الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ».

أجل، إنّ ظهور وبروز الاحاطة العلمية للَّه تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلّها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة، والمفرحة من جهة اخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم، فهي ما يختصره قوله تعالى: «لَاظُلْمَ الْيَوْمَ».

وكيف يمكن أن يحصل الظلم، في حين أنّ الظلم إمّا أن يكون عن جهل، واللَّه عزّ وجل قد أحاط بكل شي ء علماً.

وإمّا أن يكون عن عجز، واللَّه عزّ وجل هو القاهر والمالك والحاكم على كل شي ء.

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي، هي سرعة الحساب لأعمال العباد، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ».

وسرعة الحساب بالنسبة للَّه تعالى تجري كلمح البصر. ورد في الخبر: «أنّه تعالى يحاسب للخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 311

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) يوم تبلغ القلوب الحناجر: هذه الآيات تستمر، كالآيات السابقة، في وصف القيامة.

يقول تعالى: «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْأَزِفَةِ».

«الآزفة»: باللغة بمعنى (القريب). وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة

حيال يوم القيامة، ولأنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تاريخ لهذا اليوم المهول، حتى للأنبياء عليهم السلام، لذا يجب الإستعداد دائماً لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثاني ليوم الآزفة هو: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ» من شدة الخوف.

الصفة الثالثة لذلك اليوم تعبّر عنها الآية ب «كَاظِمِينَ». أي إنّ الهمّ والغمّ سيشمل كل وجودهم، إلّاأنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم»: مشتقة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء، ثم أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلّاأنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

الصفة الرابعة ليوم التلاقي هو يوم: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ». أي صديق، نعم إنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملّقاً- كما يحيط الذباب بالحلويات- طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية: «وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ».

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن اللَّه تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة اللَّه جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفاً لكيفية القيامة، حيث تقول: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ».

إنّ اللَّه تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 312

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقّ». أمّا غيره: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَايَقْضُونَ بِشَىْ ءٍ».

في ذلك اليوم يختص اللَّه وحده بالقضاء، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلّابالحق.

وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ

الْبَصِيرُ».

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة، أي إنّ كل المسموعات والمبصرات حاضرة عنده، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شي ء، وقضاوته بالحق، فإنّه لو لم يكن سميعاً وبصيراً مطلقاً فلا يستطيع أن يقضي بالحق.

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين: إنّ اسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الإنسان ليريه الحوادث الماضية والحالية، لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الامم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير اولئك، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه. يقول تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ».

إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تاريخاً مدوّناً نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له، فهذه قصور الظالمين الخربة، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب، والقصور المدفونة تحت الأرض ... ها هي كلّها تحكي عظة الدرس، وعظيم العبرة، خصوصاً وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم: «كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 313

كانوا يملكون السلطات القوية، والجيوش العظيمة، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكة.

ولكن عاقبة هؤلاء القوم، بكل ما انطوت عليه حياتهم

من مظاهر قوّة وحياة ونماء، هي كما يقول تعالى: «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ».

فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي عندما نزل بساحتهم.

الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقاً بإيجاز. يقول تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا». فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا، كما يستفاد من قوله تعالى: «كَانَت تَّأْتِيهِمْ» إلّاأنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية.

وحينئذ: «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ». وعاقبتهم أشدّ العقاب: «إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ قَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَ مَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَ قَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَ قَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث، من خلال قصة موسى وفرعون، وهامان وقارون. يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

أرسله تعالى: «إِلَى فِرْعَوْنَ وَهمنَ وَقرُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ».

إنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسى عليه السلام القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 314

وبذلك كانت دعوة موسى عليه السلام تستهدف القضاء على الحاكم الظالم، والمخططات

الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم، وبتر تجاوزات الأثرياء المستكبرين، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية.

الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النبي موسى عليه السلام: «فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ».

وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر- كاسلوب طاغوتي- على الفترة التي سبقت ولادة موسى عليه السلام فحسب، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسى عليه السلام.

ويعبّر هذا الاسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الصاقات الفعالة، وترك غير الفاعلين للإستفادة منهم في خدمة النظام.

القرآن يجيب: «وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ».

لقد قضى اللَّه تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

لقد اشتد الصراع بين موسى عليه السلام وأصحابه من جانب، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. يقول تعالى: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ».

نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشاريه أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى، لخوفهم أن يطلب عليه السلام من ربّه نزول العذاب بساحتهم، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية.

وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسى عليه السلام بدليلين، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي، فقال في الأوّل، كما يحكي القرآن ذلك: «إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ».

وفي الثاني: «أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الْأَرْضِ الْفَسَادَ».

والآن لنر كيف كان رد فعل موسى عليه السلام والذي يبدو أنّه كان حاضراً في المجلس؟

يقول القرآن في ذلك: «وَقَالَ مُوسَى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُم مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لَّايُؤْمِنُ بِيَوْمِ

الْحِسَابِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 315

ويستفاد من قول موسى عليه السلام أيضاً أنّ من تحلّ فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر، علينا أن نستعيذ باللَّه من شرّه وكيده.

وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) أتقتلون رجلًا أن يقول ربّي اللَّه: مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ موسى عليه السلام وفرعون، لم تطرح في أيّ مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه- من موقعه في بلاط فرعون- مكلفاً بحماية موسى عليه السلام من أيّ خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر باسلوبه المؤثّر للقضاء على هذا المخطط. يقول تعالى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ». أتقتلوه في حين أنّه: «وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ».

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: «وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ».

ثم تضيف الآيات: «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».

فإذا كان موسى

سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلينٍ وحكمة، حيث

مختصر الامثل، ج 4، ص: 316

قال لهم- كما يحكي ذلك القرآن-: أنّ بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. «يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِى الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا». ويظهر أنّ هذا الكلام أثّر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: «قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى .

وهو إنّي أرى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثم إنّني: «وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ».

وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبارين على طول التاريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره.

وَ قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عَادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) وَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) التحذير من العاقبة: كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبياً بمواصفات التمدّن والثقافة، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيراً، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم. لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التاريخ وأخذ يحذّرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم، عساهم أن يتيقظوا

ويتجنّبوا قتل موسى عليه السلام. يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه: «وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يقَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُم مّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ».

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنّني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة: «مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ».

هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك؛ أو أنّ العقوبات الإلهية لا تشملكم؛ ترى ماذا عمل اولئك حتى أصابهم ما أصابهم، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم ... لذلك كلّه فإنّي أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 317

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم: «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ».

ثم تضيف الآية على لسانه: «وَيَا قَوْمِ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ». أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض، إلّاأصواتكم لا تصل إلى أيّ مكان.

«التناد»: مأخوذة أصلًا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» والمشهور بين المفسرين أنّ (يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة. يعني (يوم مناداة البعض للبعض الآخر). وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عندما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيام التي ينزل فيها العذاب الإلهي، أو الأيام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدود لكثرة ما إرتكب من ذنوب وخطايا، وقد نستطيع أن نتصور صوراً اخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث يصرخ الجميع عندها طالبين للحلّ والنجاة.

الآية التالية تفسّر يوم التناد بقولها: «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مّنَ

اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ».

ومثل هؤلاء حق عليهم القول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ». إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكّبهم عن الطريق المستقيم، سيظلّون في الآخرة عن الجنة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى.

وَ لَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) عجز المتكبرين عن الإدراك الصحيح: هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 318

المقطع الأوّل: راعى فيه مؤمن آل فرعون الإحتياط، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة.

المقطع الثاني: وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمل بما حلّ بالأقوام السابقة.

المقطع الثالث: كامن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا، إذ تذكّرهم الآيات- من خلال خطاب مؤمن آل فرعون- بجزء من تأريخهم، هذا التاريخ الذي لا يبعد كثيراً عنهم، ولم تُمح بعد أواصر الإرتباط الذهني والتاريخي فيما بينهم وبينه؛ وهذا الجزء يتمثّل في نبوّة يوسف عليه السلام، الذي يعتبر أحد أجداد موسى، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى:

«وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ». وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنّكم: «فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ».

وشكّكم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.

ولأجل أن تتنصلوا

من المسؤولية، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات، قلتم: «حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا».

بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ».

لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدّي على حدود اللَّه تعالى كما قمتم بالتشكيك في كل شي ء، حتى غدا ذلك كلّه سبباً لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية، فسدرتم في وادي الضلال والغي، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.

الآية التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول اللَّه تبارك وتعالى: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ».

وللكشف عن قبح هذه المواقف عند اللَّه وعند الذين آمنوا، تقول الآية: «كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا».

ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي، يعتبر أساساً لضلال المجادلين وتنكّبهم عن جادة الهداية والصواب، وكذلك في اغواء الآخرين.

في النهاية، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق، تقرّر الآية قوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 319

إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستاراً مظلماً حول فكر الإنسان، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح.

وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ مَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) أريد أن أطّلع إلى إله موسى: بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في إثناء عزم فرعون عن قتل الكليم عليه السلام، إلّاأنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبّره وتعاليه إزاء الحق. يقول تعالى في وصف هذا الموقف: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا

همنُ ابْنِ لِى صَرْحًا لَّعَلّى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ». أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني إلى السماوات.

«أَسْبَابَ السَّموَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلهِ مُوسَى وَإِنّى لَأَظُنُّهُ كذِبًا».

ولكن ماذا كانت النتيجة؟! «وَكَذلِكَ زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِى تَبَابٍ».

«الصرح»: في الأصل تعني الوضوح؛ و «التصريح»: بمعنى التوضيح، ثم عُمّم معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية؛ و «تباب»: تعني الخسارة والهلاك.

فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرف. والأهداف هذه هي:

أوّلًا: أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوّة موسى عليه السلام وثورة بني إسرائيل.

ثانياً: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس، وعلى الأخص العاطلين منهم، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاءً- ولو مؤقتاً- عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه، ومن ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدّي إلى إرتباطهم بخزانة فرعون وأمواله، وبالتالي إرتباطهم بنظامه وسياساته.

ثالثاً: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح، أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه، ويرمق السماء ببصره، أو يرمي سهماً نحو السماء، ويرجع إلى الناس فيقول لهم: لقد انتهى كل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 320

مختصر الامثل ج 4 349

شي ء بالنسبة لإله موسى، والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال.

طبعاً، يمكن للخطط السياسية والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطراً من الزمان، وتؤثّر فيهم لفترة من الوقت، إلّاأنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.

وَ قَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا

مِثْلَهَا وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) اتّبعوني أهدكم سبيل الرشاد: أشرنا آنفاً إلى أنّ مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع، وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف على المقطع الرابع بعد أن أشرنا في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.

إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصبّ في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة، وقضية المعاد والحشر والنشر، إذ إنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.

يقول تعالى: «وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ».

ثم تضيف الآية: «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هذِهِ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْأَخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ».

إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء، حيث يقول تعالى: «مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ».

إنّ مؤمن آل فرعون- بكلامه هذا أثار أوّلًا قضية عدالة اللَّه تبارك وتعالى، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيراً أو شرّاً.

و من جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الإلهي لذوي العمل الصالح.

ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.

ورابعة يشير أيضاً إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر اللَّه تبارك وتعالى، وفي القيم الإنسانية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 321

لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعاً لا يغني شيئاً عن الحياة الاخرى، إلّاأنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا.

إنّ عبارة

«مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا.

وَ يَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَ لَا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَ عَشِيّاً وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) الكلام الأخير: في خامس وآخر- مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل، فقد قال كل ما هو ضروري، أمّا القوم من ملإ فرعون، فكان لهم- كما سنرى ذلك- قرارهم الخطير بشأنه.

يفهم من خلال القرائن أنّ اولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام. لذا فقد صرخ قائلًا: «وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَوةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ».

نعم، إنّكم: «تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ».

لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على دليل صحيح.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 322

إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن جانب ثانٍ تشير إلى إلغاء الوهية الأصنام والفراعنة، حيث

لا يملكون العزّة ولا العفو.

ينتقل الخطاب القرآني- على لسان مؤمن آل فرعون- إلى قوله تعالى: «لَاجَرَمَ أَنَمَّا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْأَخِرَةِ».

إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع، وإنّ عليكم أن تعلموا: «وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ». فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى الناس لأجل هدايتهم، وهو الذي يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.

ويجب أن تعلموا أيضاً: «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ».

وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني التوحيدي، وانفصل علناً عن خط الشرك الملوّث.

في آخر كلامه- وبتهديد ذي مغزى- يقول لهم: «فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ».

إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة، وستعلمون صدقي عندما تصيبكم المصائب، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان، فإن كان في الآخرة فلا طريق للرجوع، وإن كان في الدنيا فهو لا يتمّ إلّاحين يحلّ بكم العذاب الإلهي، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.

ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن: «وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ».

لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم.

اللَّه تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيداً وإنّما: «فَوَقهُ اللَّهُ سَيَاتِ مَا مَكَرُوا».

أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم: «وَحَاقَ بَالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ».

إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله، إلّاأنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ اللَّه تبارك وتعالى انتخب لهم عذاباً أشدّ إيلاماً من غيره، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها، حيث قوله تعالى: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا». ثم: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 323

وهنا نلفت النظر إلى الملاحظتان الآتيتان:

أوّلًا: تقول

الآية: إنّهم يعرضون على النار صباحاً ومساءً، ثم تقول: في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن، وهذا دليل على أنّ العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده، ويقع قبل يوم القيامة، إنّ العرض على نار جهنم يهزّ الانسان ويجعله يرتعد خوفاً وهلعاً.

ثانياً: إنّ تعبير ب (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب. أو قد يفيد انقطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم مع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوّتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

وَ إِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَ قَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَ مَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) نقاش الضعفاء والمستكبرين في جهنم: لقد لفت مؤمن آل فرعون في نهاية كلامه نظر القوم إلى القيامة والعذاب وجهنم، لذلك جاءت هذه المجموعة من الآيات الكريمة وهي تقف بشكل رائع دقيق على تحاجج وتخاصم أهل النار فيما بينهم، وبالذات تحاجج المتستضعفين مع المستكبرين. يقول تعالى: «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مّنَ النَّارِ».

المراد من «الضعفاء» هنا هم اولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والإستقلال الفكري، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم القرآن اسم المستكبرين، وكانت التبعية مجرد انقياد أعمى بلا تفكير

أو وعي.

وهؤلاء الأتباع يلجأون إليهم كي يتحملوا عنهم قسطاً من العذاب؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 324

وهي نوع من السخرية والإستهزاء واللوم، يوم يثبت أنّ كل ادعاءات المستكبرين مجرد تقوّلات زائفة عارية عن المضمون والحقيقة.

إنّ المستكبرين لم يسكتوا على هذا الكلام وذكروا جواباً يدل على ضعفهم الكامل وذلّتهم في ذلك الموقف المهول، إذ يحكي القرآن على لسانهم قولهم: «قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ».

وعندما تغلق في وجههم السبل، سبل النجاة والخلاص، يتوجّه الجميع إلى خزنة النار:

«وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْمًا مّنَ الْعَذَابِ» «1».

إنّهم يعلمون أنّ العذاب الإلهي لا يرتفع، لذلك يطلبون أن يتوقف عنهم ولو ليوم واحد كي يرتاحوا قليلًا ... إنّهم قانعون بهذا المقدار!

لكن إجابة الخزنة تأتي منطقية واضحة: «قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيّنَاتِ».

وفي الجواب: «قَالُوا بَلَى .

فيستطرد الخزنة: «قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعؤُا الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ».

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَ ذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكَارِ (55) الوعد بنصر المؤمنين: بعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء اللَّه ورسله وللذين آمنوا في هذه الدنيا وفي الآخرة.

إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهدُ».

إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع

التأكيد، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط، والتي يستتبعها الفوز

______________________________

(1) «خزنة»: جمع خازن، وتعني الحارس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 325

والنصر، النصر في المنطق والبيان؛ وفي الحرب والميدان؛ وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشدّ الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.

«أشهاد»: جمع «شاهد» أو «شهيد» وهي تعني الذي يشهد على شي ء ما. والمقصود بالأشهاد، هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.

إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين، هو: «يَوْمَ لَايَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ».

تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي إنتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الرباني لهم، فتتحدث عن النبي الكليم عليه السلام: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ».

إنّ هداية اللَّه لموسى تنطوي على معاني واسعة، إذ تشمل مقام النبوّة والوحي، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز التي وقعت على يديه عليه السلام أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.

الآية التي بعدها تضيف: «هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِى الْأَلْببِ».

الفرق بين «الهداية» و «الذكرى» أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته، أمّا التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بامور سمعها مسبقاً وآمن بها لكنّه نسيها.

وبعبارة اخرى: إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان، وترافقه في أشواط حياته تبثّ من نورها وهداها عليه.

ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم «أولوا الألباب» وأصحاب العقل، وليس الجهلة والمعاندون المتعصّبون.

الآية الأخيرة- من المقطع الذي بين أيدينا- تنطوي على وصايا وتعليمات مهمة للرسول صلى الله عليه و آله وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرسول الكريم صلى الله عليه و آله. يقول تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ

اللَّهِ حَقٌّ».

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف، وتتحمل أحياناً أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضاً أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 326

إنّ جميع انتصارات الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والإستقامة، واليوم لابدّ أن نسير على خطى رسول اللَّه ونصبر كما صبر الرسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الفقرة الاخرى من التعليمات الربانية تقول: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ».

واضح أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معصوم لم يرتكب ذنباً ولا معصية، لكنّا قد أشرنا في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم، والتي تشمل في خطابها الرسول الأكرم وسائر الأنبياء، إنّما تشمل ما نستطيع تسميته ب «الذنوب النسبية» لأنّ الغفلة- مثلًا- لا تليق بمقامهم، ولو للحظة واحدة، إذ إنّ منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تستوجب أن يحذروا هذه الامور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.

الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِىّ وَالْإِبْكَارِ».

«العشي»: فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس؛ أمّا «الإبكار»: فهو ما بين الطلوعين.

إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَ مَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) ما يستوي الأعمى والبصير: دعت الآيات السابقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الصبر والإستقامة

أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية، والآيات التي نحن بصددهاتذكر سبب مجادلتهم للحق. يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ».

«المجادلة»: تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية، وإن كانت تشمل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 327

أحياناً في معناها الواسع الحق والباطل.

أمّا «آتاهم» فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى اللَّه بها إلى أنبيائه عليهم السلام.

أمّا المقصود ب «آيات اللَّه» التي كانوا يجادلون فيها، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد، حيث كانوا يعتبرونها سحراً، أو أنّها علامات الجنون، أو أساطير الأوّلين.

من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الإنصياع إلى الحق.

ثم تضيف الآية: «مَّا هُم بِبَالِغِيهِ».

إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كباراً، يفاخرون بذلك ويفتخرون على غيرهم، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران.

في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يستعيذ باللَّه من شرّ هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم، حيث يقول تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

فهو- تعالى- يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.

إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار، ويعاندون بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر، إذ يقول تعالى: «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع- بطريق أولى أن يحيي الموتى، وإلّا كيف يتّسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟

لقد تضمّنت الآية الكريمة

سبباً آخر من أسباب المجادلة متمثلًا ب «الجهل» في حين طرحت الآيات السابقة عامل «الكبر». والعاملان يرتبطان مع بعضهما، لأنّ أصل وأساس «الكبر» هو «الجهل» وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

الآية التي بعدها، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال المتكبرين الجهلة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 328

وبين المؤمنين الواعين، حيث تقول: «وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِى ءُ». إلّا أنّكم بسبب جهلكم وتكبّركم: «قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ».

إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم ومعرفتهم وموقعهم، إلّاأنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به، لذلك فهو يخطى ء دائماً في تقييم أبعاد وجوده، ويصاب بالكبر والغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسيّ ء.

الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرّض إلى وقوع القيامة وقيام الساعة حيث يقول تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَأَتِيَةٌ لَّارَيْبَ فِيهَا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ».

أمّا سبب القول: ب «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايُؤْمِنُونَ» فلا يعود إلى أنّ قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو «الحرية» في الاستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذّات الدنيا وشهواتها، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة، ويغفل عن التفكير بالقيامة، أو الإستعداد لها.

وَ قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا

بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) ادعوني أستجب لكم: لقد تضمّنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبّاً إلهيّاً ولطفاً، وتنبجس بالرحمة الشاملة للتائبين. يقول تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

الدعاء في نفسه نوع من العبادة، لأنّ الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 329

تتضمّن الآية في نهايتها تهديداً قويّاً للذين يستنكفون عن الدعاء، حيث يقول تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» «1».

في الكافي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: «إنّ عند اللَّه عزّ وجل منزلة لا تنال إلّابمسألة، ولو أنّ عبداً سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاً فسل تعط يا ميسر إنّه ليس من باب يقرع إلّايوشك أن يفتح لصاحبه».

فبما أنّ الدعاء وطلب الحوائج من اللَّه تعالى يعتبر فرعاً لمعرفته، لذا تتحدث الآية التي تليها عن حقائق تؤدّي إلى ارتقاء مستوى المعرفة لدى الإنسان، وتزيد شرطاً جديداً لإجابة الدعاء، متمثلًا بالأمل في الإجابة، بل وانتظار تنجز الحاجة وتمامها. يقول تعالى:

«اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ».

إنّ ظلمة الليل وهدوءه وسكونه يعتبر- من جانب- سبباً قهرياً لتعطيل الحركة اليومية لعمل الإنسان السوي ونشاطه، ومن ناحية اخرى تمحو عن الإنسان تعب النهار، وتدفعه إلى الإستقرار والرأفة لجسده وأعصابه، في حين يعتبر النور والنهار أساس الحياة والحركة.

لذلك يضيف تعالى: «وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا».

ثم تضيف الآية: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَشْكُرُونَ».

إنّ طبع الإنسان الجاهل هو كفران النعم وترك الشكر، كما نقرأ ذلك في الآية (34) من سورة إبراهيم، في قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ».

الآية التي تليها تبدأ من توحيد الربوبية وتنتهي بتوحيد الخالقية والربوبية. فتقول أوّلًا:

«ذلِكُمُ

اللَّهُ رَبُّكُمْ». ومربيكم الذي من صفاته أنّه: «خَالِقُ كُلّ شَىْ ءٍ».

ولا معبود إلّااللَّه: «لَّاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

في الواقع إنّ وجود كل هذه النعم دليل على الربوبية والتدبير، وخالق كل شي ء عنوان لصفة التوحيد في الربوبية، لأنّ الخالق هو المالك والمربي. ومن المعلوم أنّ الخلق يستدعي الرعاية الدائمة لأنّ الخالقية لا تعني أنّ اللَّه يخلق الخلق ويتركها وشأنها، بل لابدّ وأن يكون الفيض الإلهي مستمراً في كل لحظة على جميع الموجودات. ولذلك فهذه الخالقية لا تنفصل عن الربوبية.

______________________________

(1) «داخر»: من «دخور» وتعني الذلة، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والإستعلاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 330

وتتساءل الآية في نهايتها: كيف يسوّغ الإنسان لنفسه الإنحراف والتنكّب عن الجادة المستقيمة؟ فيقول تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».

والملاحظ أنّ «تؤفكون» صيغة مجهول، بمعنى أنّها تحرفكم عن طريق الحق، وكأنّ المراد هو أنّ المشركين فاقدون للإرادة إلى درجة أنّهم يساقون في هذا المسير دون أيّ نسبة من الحرية والإرادة والإختيار في هذا المجال!

الآية الأخيرة- من مجموعة الآيات التي نبحثها- تأتي وكأنّها تأكيد لمواضيع الآيات السابقة، فيقول تعالى: «كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».

«يجحدون»: مشتقة من مادة «جحد» وهي في الأصل تعني إنكار الشي ء الموجود في القلب والنفس. بمعنى أنّ الإنسان يقر في نفسه وقلبه بعقيدة أو بشي ء ما، وفي نفس الوقت ينفيه ويتظاهر بعكسه أو يعتقد بعدمه في نفسه ويثبته في لسانه.

ويطلق وصف الجحود على البخلاء والذين لا يؤمّل منهم الخير ويتظاهرون بالفقر دائماً.

بعض علماء اللغة أوجز في تفسير «جحد» و «جحود» بقولهم: الجحود الإنكار مع العلم.

وبناءً على ما تقدّم فإنّ الجحود يتضمّن في داخله نوعاً من معاني العناد في مقابل الحق.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَ السَّمَاءَ بِنَاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ

مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) ذلكم اللَّه ربّكم: تستمر هذه المجموعة من الآيات الكريمة بذكر المواهب الإلهية العظيمة وشمولها للعباد، كي تهب لهم المعرفة، وتُربّي في نفوسهم الأمل بالدعاء والتسليم وطلب الحوائج من اللَّه تعالى.

والطريف في الأمر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن «النعم الزمانية» من ليل ونهار، بينما تتحدث هذه المجموعة عن «النعم المكانية» أي الأرض المستقرة، والسقف المرفوع (السماء) حيث تقول: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 331

إنّه المكان الخالي من المعوّقات الصعبة، متناسق في تشكيلته مع تكوين الإنسان الروحي والجسدي، حيث تتوفر في الأرض المصادر المختلفة للحياة والوسائل المتنوعة والمجانية التي يحتاجها لمعيشته.

ثم تضيف الآية: «وَالسَّمَاءَ بِنَاءً». أي كالسقف والقبة فوقكم.

والمقصود بالسماء هنا الغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض.

ثم ينتقل الحديث من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فيقول تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ».

لقد ذهب بعض المفسرين في تفسير: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» إلى معنى أوسع من الصورة والشكل الظاهري والتكوين الداخلي، فقال: إنّ المعنى يتضمّن كل الإستعدادات والأذواق التي خلقها اللَّه في الإنسان وأودعها فيه، ففضّله بها على كثير ممن خلق.

وفي آخر الحديث عن سلسلة هذه العطايا والمواهب الإلهية، تتحدث الآية عن النعمة الرابعة، وهي الرزق الطيّب بقوله تعالى: «وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ».

«الطيبات» تشتمل على معنى وسيع جدّاً، وهي تشمل الجيّد من الطعام واللباس والزوجة والمسكن والدواب، وهي أيضاً تشمل الكلام والحديث الطيّب الزكي النافع.

بعد بيان هذه المجموعة الرباعية من

النعم الإلهية، تعود الآية للقول: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» «1».

الآية التي بعدها تستمر في إثارة قضية توحيد العبودية من طريق آخر، فتؤكّد انحصار الحياة الواقعية باللَّه تعالى وتقول: «هُوَ الْحَىُّ».

إنّ حياته عين ذاته، ولا تحتاج إلى الغير. حياته (جلّ وتعالى) أبدية لا يطالها الموت، بينما جميع الكائنات الحية تتمتع بحياة مقرونة بالموت وحياتها محدودة وموقتة تسترفد هذه الحياة من الذات المقدسة.

لذلك ينبغي للإنسان الفاني المحدود المحتاج أن يرتبط في عبادته بالحي المطلق، من هنا تنتقل الآية مباشرة إلى تقرير معنى الوحدانية في العبودية من خلال قوله تعالى: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ».

______________________________

(1) «ذلكم»: اسم إشارة للبعيد، واستخدامها في مثل هذه الموارد كناية على العظمة وعلوّ المقام.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 332

وعلى أساس هذه الوحدانية تتقرّر قضية اخرى يتضمّنها قوله تعالى: «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينِ». ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

والتعبير القرآني درس للعباد بأن يتوجّهوا بالشكر والحمد إلى الخالق جلّ وعلا دون غيره، فهو جزيل العطايا كثير المواهب متواصل النعم على عباده، خاصة نعمة الحياة والوجود بعد العدم.

الآية الأخيرة من المجموعة القرآنية، هي في الواقع خلاصة لكل البحوث التوحيدية الآنفة، وجاءت لكي تقضي على أدنى بارقة أمل قد يحتمل وجودها في نفوس المشركين، إذ يقول تعالى موجّهاً كلامه إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِىَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبّى».

ولم ينهاني ربّي عن عبادة غيره فحسب، بل: «وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ».

إنّ أمثال هذه الصيغ والأساليب المؤثّرة يمكن أن نلمسها في كل مكان من كتاب اللَّه العزيز، فهي تجمع الليونة والأدب حتى إزاء الأعداء والخصوم، بحيث لو كانوا يملكون أدنى قابلية

لقبول الحق فسيتأثرون بالاسلوب المذكور.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) المراحل السبع لخلق الإنسان: تتميماً لما تحدّثت به الآيات السابقة عن قضية التوحيد، تستمر الآيات التي بين أيدينا في إثارة نفس الموضوع من خلال الحديث عن «الآيات الأنفسية» والمراحل التي تطوي خلق الإنسان وتطوّره، من البدء إلى النهاية.

الآية الكريمة تتحدث عن سبع مراحل تكشف عن عظمة الخالق جلّ وعلا وجزيل مواهبه ونعمه على العباد. يقول تعالى: «هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 333

يتّضح من سياق الآية الكريمة أنّ المرحلة الاولى أو بداية الإنسان في مسيرة الخلق والوجود تكون من التراب، حيث خلق اللَّه أبانا الأوّل آدم عليه السلام من تراب، أو أنّ جميع البشر خلقوا من التراب، ذلك أنّ المواد الغذائية التي تشكّل قوام الإنسان ووجوده، بما في ذلك النطفة- سواء كانت حيوانية أم نباتية- كلّها تستمد أساسها واصولها من التراب.

المرحلة الثانية، هي مرحلة النطفة التي تشمل جميع البشر كأصلٍ ثانٍ في وجودهم عدا آدم وزوجته حوّاء.

المرحلة الثالثة التي تتكامل فيها النطفة وتنمو بشكلٍ مستمر وتتحوّل إلى قطعة دم فتسمى بمرحلة «العلقة».

بعد ذلك تتحوّل «العلقة» إلى «مضغة» أشبه ما تكون باللحم «الممضوغ» وهي مرحلة ظهور الأعضاء، ثم مرحلة الحس والحركة، والآية لا تشير هنا إلى هذه

المراحل الثلاث، لكن الآيات الاخرى أشارت إلى ذلك بشكل واضح.

المرحلة الرابعة تتمثل في ولادة الجنين، بينما تتمثل المرحلة الخامسة في تكامل القوّة الجسمية التي قيل إنّها تتم في سن الثلاثين، حيث سيحرز الجسم الإنساني أكبر قدر ممكن من نموه وتكامل قواه.

وقال البعض: إنّ الإنسان يصل هذه المرحلة قبل هذا السن، ومن الممكن أن تختلف هذه المرحلة عند الأشخاص إلى أن يحرز الإنسان فيها مرحلة «بلوغ الأشد» حسب التعبير القرآني.

بعد ذلك تبدأ مرحلة الرجوع القهقري إلى الوراء، فيفقد الإنسان قواه تدريجياً، فيصل إلى الشيب الذي يعتبر المحطة السادسة من محطات حياة الإنسان.

أخيراً، تنتهي حياة كل إنسان في الأرض بالموت والإنتقال إلى العالم الآخر.

بعد كل هذه التغيّرات والتطوّرات، هل ثمّة من شك في قدرة وعظمة مبدى ء عالم الوجود، وألطاف اللَّه ومواهبه على الخلق؟!

الآية الأخيرة في هذا البحث تتحدث عن أهم مظهر من مظاهر قدرة اللَّه تبارك وتعالى متمثلة بقضية الحياة والموت، هاتان الظاهرتان اللتان لا تزالان- بالرغم من تقدّم العلم وتطوّره- في نطاق الامور الغامضة والمجهولة في معرفة الإنسان وعلمه. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 334

إنّ نماذج الحياة تعتبر أكثر النماذج تنوّعاً في عالم الوجود وكل الكائنات تنتهي بأجلٍ معيّن إلى الموت، سواء في ذلك الكائن ذو الخليّة الواحدة أو الحيوانات الكبيرة، أو التي تعيش في الأعماق المظلمة للمحيطات والبحار، أو الطيور التي تعانق السماء، ومن الأحياء احادية الخليّة السابحة في امواج المحيطات إلى الأشجار التي يبلغ طولها عشرات الأمتار، فإنّ لكل واحد منها حياة خاصة وشرائط معيّنة، وبهذه النسبة تتفاوت عملية موتها، وبدون شك فإنّ أشكال الحياة هي أكثر أشكال الخلقة تنوّعاً وأعجبها.

وكل واحدة من هذه القضايا المعقّدة والمتنوعة لا تعتبر مشكلة

وعسيرة بالنسبة إلى قدرة الخالق جلّ وعلا، حيث تتحقق بمجرد إرادته. لذلك تقول الآية في نهايتها بياناً لهذه الحقيقة: «فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ».

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَ السَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) عاقبة المعاندين المغرورين: مرّةً اخرى تعود آيات اللَّه البينات للحديث عن الذين يجادلون في آيات اللَّه، فتقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ».

إنّ هذه المجادلة بالباطل المقترنة مع التعصب الأعمى جعلتهم يحيدون عن الصراط المستقيم، لأنّ الحقائق لا تظهر أو تبيّن إلّافي الروح الباحثة عن الحقيقة ومن ثم الإذعان لمنطقها.

ثم تنتقل الآيات إلى بيان أمرهم عندما تقول: «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 335

من الضروري أن نشير أوّلًا إلى أنّ السورة التي بين أيدينا تحدّثت أكثر من مرّة عن «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ» جاء ذلك في الآيتين (35) و (56) وهذه الآية، ونستفيد من القرائن أنّ المقصود ب «آيات اللَّه» هي دلائل النبوّة وعلائمها على الأكثر، بالإضافة إلى ما تحويه الكتب السماوية، وطالما تتضمّن الكتب السماوية آيات التوحيد، والمسائل الخاصة بالمبدأ والمعاد، لذا فإنّ هذه القضايا مشمولة بجدال القوم وخصومتهم للحق.

وتنتهي الآية بتهديد من خلال

قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ». أي سوف يعلمون نتيجة أعمالهم وعاقبة أعمالهم السيئة وذلك في وقت «إِذِ الْأَغْللُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ». أي يلقي بهم في الماء المغلي: «ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ» «1».

إضافة إلى هذا العذاب الجسماني سيعاقبون بمجموعة من أنواع العذاب الروحي والنفسي كما تشير إليه الآية التالية، حيث يقول تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ». أي: أين شركاؤكم من دون اللَّه كي ينقذوكم من هذا العذاب الأليم وأمواج النار المتلاطمة؟ ألم تقولوا: إنّكم تعبدونهم وتطيعونهم وتتخذونهم أرباباً ليشفعوا لكم، إذاً أين شفاعتهم الآن؟!

فيجيبون بخضوع يغشاهم وذلّ يعلوهم: «قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا». أي اختفوا وهلكوا وابيدوا بحيث لم يبق منهم أثر.

وعندما يرى هؤلاء أنّ اعترافهم بعبادة الأصنام أصبح عاراً عليهم وعلامةً تميّزهم، فإنّهم يبدأون بالإنكار فيقولون: «بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيًا».

لقد كانت الأصنام مجرّد أوهام، لكنّا كنّا نظن أنّها تمثل حقائق ثابتة، لكنّها أصبحت كالسراب الذي يتصوّره العطشان ماءً، أمّا اليوم فقد ثبت لنا أنّها لم تكن سوى أسماء من غير مسمى وألفاظ ليس لها معنى، وأنّ عبادتها لم تنفعنا بشي ء سوى الضلال. لذلك فهؤلاء اليوم يواجهون الواقع الذي لا سبيل إلى إنكاره.

هناك احتمال آخر في تفسير الآية، هو أنّهم سيكذبون لينقذوا أنفسهم من الفضيحة، كما نقرأ ذلك في الآيتين (23 و 24) من سورة الأنعام: «ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبّنَا

______________________________

(1) «الأغلال»: جمع «غل» وتعني الطوق حول العنق أو الرجل، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «غلل» على وزن «أجل» بمعنى الماء الذي يجري بين الأشجار.

«السلاسل»: جمع «سلسلة»؛ و «يسحبون» من كلمة «سحب» على وزن (سهو).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 336

مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ

كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ».

وأخيراً يقول تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ». إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجاباً على قلوبهم وعقولهم، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل، فيحرمون يوم القيامة من الجنة وينتهي مصيرهم إلى النار.

وهكذا يضل اللَّه الكافرين.

الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة، حيث يقول تعالى: «ذلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ».

كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين، وكانوا يشعرون بالعظمة عند إرتكاب الذنوب وركوب المعاصي واليوم عليهم أن يتحمّلوا ضريبة كل ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير.

ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي: «ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ».

هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى على أنّ التكبّر هو أساس المصائب.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) فاصبر ... حتى يأتيك وعد اللَّه: بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتأمرانه بالصبر والإستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب. يأتي الأمر أوّلًا في قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ».

إنّ وعده بالنصر حق، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق، وكلاهما سيتحققان، فعلى أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخّر عقابهم، لذلك تضيف الآية: «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ».

مختصر الامثل،

ج 4، ص: 337

إنّ مسؤوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع، حتى تتنوّر القلوب اليقظة ببلاغك، ولا يبقى للمعاندين عذر.

ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم، حيث واجه الأنبياء السابقين مثل هذه المشاكل، إلّاأنّهم استمروا في طريقهم واحتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ».

ورد في الروايات والمصادر الإسلامية المختلفة أنّ عدد الأنبياء كان (124) ألف نبي. لقد واجه كل منهم ما تواجهه أنت اليوم، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة، ومشركو مكة لم يشذّوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك يخاطب اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه و آله بقوله: «وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بَايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ».

ثم تهدّد الآية من كان يقول: لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرسول صادقاً؟

فتقول الآية: «فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِىَ بِالْحَقّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ».

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة، ويخسر أهل الباطل صفقتهم.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) منافع الأنعام المختلفة: تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرّة اخرى عن علائم قدرة الخالق (جلّ وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر، وتشرح جانباً منها كي تزيد من وعي الإنسان ومعرفته باللَّه تعالى، وليندفع نحو الثناء

والشكر فيزداد معرفة بخالقه. يقول تعالى: «اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ».

فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام، وبعضها للركوب والغذاء كالجمال.

«أنعام»: جمع «نعم» على وزن «قلم» وتطلق في الأصل على الجمال، لكنّها توسّعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقر والأغنام.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 338

إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها: إنّ هناك منافع اخرى: «وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ».

الإنسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الاخرى، بل يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع.

ثم تضيف الآية: «وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ».

وهذا إشارة إلى الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر، وما إلى ذلك من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.

ولأنّ الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة، لذلك تقول الآية في نهايتها: «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».

لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها، وجعل اللَّه تعالى الحركة في الريح بحيث تستطيع الفلك الاستفادة منها في حركتها و ايصال الإنسان و البضائع إلى مناطق مختلفة في العالم.

الآية الأخيرة هي قوله تعالى: «وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَأَىَّ ءَايَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ».

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة غافر، ونستطيع أن نعتبرها نوعاً من

الاستنتاج للبحوث السابقة. فأوّلًا تقول: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ».

فاولئك: «كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ».

عبارة: «ءَاثَارًا فِى الْأَرْضِ» لعلّها إشارة إلى تقدّمهم الزراعي- كما جاء في الآية (9) من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 339

سورة الروم- أو إشارة إلى البناء العظيم للأقوام السابقين في قلب الجبال والسهول.

ومع هذه القوّة والعظمة التي كانوا يتمتعون بها، فإنّهم لم يستطيعوا مواجهة العذاب الإلهي: «فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

الآية التي بعدها تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البيّنة، حيث يقول تعالى: «فَلَمَّا جَاءَتْهمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ». أي إنّهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار، وصرفوا وجوههم عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سبباً لأن ينزل بهم العذاب الالهي: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

والمقصود من العلم الذي كان عندهم، هو اعتماد البشر على ما لديهم، واستعلاءهم بهذه «المعرفة» على دعوات الرسل ومعاجز الأنبياء، بل واندفع هؤلاء حتى إلى السخرية بالوحي والمعارف السماوية.

لكنّ القرآن الكريم يذكر مآل غرور هؤلاء وعلوّهم وتكبّرهم إزاء آيات اللَّه، حينما يقول: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ و وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ».

ثم تأتي النتيجة سريعاً في قوله تعالى: «فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا».

لماذا؟ لأنّه عند نزول «الإستئصال» تغلق أبواب التوبة.

وهذا الحكم لا يختص بقوم دون غيرهم، بل هو: «سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ».

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ».

ففي ذلك اليوم عندما ينزل العذاب بساحتهم، سيفهم هؤلاء بأنّ رصيدهم في الحياة الدنيا لم يكن سوى الغرور والظنون والأوهام.

وهكذا تنتهي السورة المباركة (غافر) التي بدأت بوصف حال الكافرين المغرورين، ببيان نهاية هؤلاء وما آل إليه

مصيرهم من العذاب والخسران.

«نهاية تفسير سورة غافر»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 341

41. سورة فصلت

محتوى السورة: يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط العريضة التالية:

1- التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث.

2- إثارة قضية خلق السماء والأرض، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي خلق من مادة (الدخان) ثم مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات والحيوانات.

3- ثمة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الامم السابقة، مثل قوم عاد وثمود، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسى عليه السلام.

4- تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلّق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه، وتوبيخ اللَّه تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

5- تتناول السورة قسماً من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

6- تنتهي السورة ببحث لطيف عن آيات الآفاق والأنفس، وتعود كرّةً اخرى إلى قضية المعاد.

إنّ تسمية السورة ب «فصّلت» مشتق من الآية الثالثة فيها، وإطلاق «حم السجدة» عليها لأنّها تبدأ ب «حم» والآية (37) فيها هي آية السجدة.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ حم السجدة اعطي

مختصر الامثل، ج 4، ص: 342

بعدد كل حرف منها عشر حسنات».

و أخرج البيهقي في شعب الايمان عن الخليل بن مرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة «1».

و طبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار ومعارف ومواعظ إنّما تكون مؤثّرة فيما لو تحوّلت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى أعماق النفس، فتتحوّل في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط والخلاص، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير، والتفكير مقدمة للعمل.

حم (1) تَنْزِيلٌ

مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَ قَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَ فِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) عظمة القرآن: في الدرّ المنثور عن جابر بن عبداللَّه قال: اجتمع قريش فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا:

أنت يا أبا الوليد. فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم عبداللَّه؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. قال: فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلم حتى نسمع منك. أما واللَّه ما رأينا سلحة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً وأنّ في قريش كاهناً واللَّه ما ننتظر إلّامثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلًا واحداً وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «فرغت»؟ قال: نعم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم

______________________________

(1) روح المعاني 24/ 94.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 343

* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَت ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» حتى بلغ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً

مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: لا. فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنّكم تكلمون به إلّاكلمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال غير أنّه قال: «أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال لا واللَّه ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.

نعود الآن إلى المجموعة الاولى من آيات هذه السورة المباركة، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها «حم».

إنّ البعض اعتبر (حم) اسماً للسورة، أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد»، و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد ومجيد هما من أسماء اللَّه العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول: «تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ».

إنّ «الرحمة العامة» و «الرحمة الخاصة» للَّه تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق، ولها بركات خاصة للأولياء.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم، وذكرت له خمسة صفات ترسم الوجه الأصلي للقرآن: فتقول أوّلًا: إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كل آية في مكانها الخاص، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كل المجالات والأدوار والعصور، فهو:

«كِتَابٌ فُصّلَت ءَايَاتُهُ». وهو كتاب فصيح وناطق: «قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

وهذا الكتاب بشير للصالحين، نذير للمجرمين: «بَشِيرًا وَنَذِيرًا». إلّاأنّ أكثرهم:

«فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ».

بناءً على ذلك فإنّ أوّل خصائص هذا الكتاب هو أنّه يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كل ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات، ويلبّي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته،

حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أيّ نواقص، وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 344

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم، عن طريق اسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق الصالحين والمحسنين بحيث إنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في آفاق الملكوت والرحمة، وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد. ومع ذلك فإنّ المتعصّبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء- كمحاولة منهم لثني الرسول صلى الله عليه و آله عن دعوته، وايغالًا منهم في الغي وفي زرع العقبات- يتحدّثون عند رسول اللَّه بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ».

مادام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا، فاعمل ما شئت فإنّنا عاكفون على عملنا: «فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ».

«أكنّة»: جمع «كنان» وتعني الستار.

هكذا ... بمنتهى الوقاحة والجهل، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

عبارة «فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ» محاولتهم زرع اليأس عند النبي صلى الله عليه و آله. أو قد يكون المراد نوعاً من التهديد له. والتعبير يمثّل منتهى العناد والتحدّي الأحمق للحق ولرسالاته.

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) من هم المشركون: الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين، وهي في الواقع

إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة، وإزالة لأيّ وهمّ قد يلصق بدعوة النبي صلى الله عليه و آله. يقول تعالى لرسوله الكريم: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ».

ثم تستمر الآية: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ».

ثم تضيف الآية محذّرة: «وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 345

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها، حيث يقول تعالى: «الَّذِينَ لَايُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ».

إنّ هؤلاء يعرّفون بأمرين: ترك الزكاة، وإنكار المعاد.

والمقصود من الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق، أمّا كون ذلك من علائم الشرك، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل اللَّه يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب للَّه، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه، وبذلك فإنّ الإنفاق- وعدمه- يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك، خصوصاً في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه، كما نرى ذلك واضحاً في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اخرى: إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد، أو يكون ترك الزكاة ملازماً لإنكار وجوبه.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ اللَّه عزّ وجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها، وهي الزكاة، بها حقنوا دماءهم وبها سمّوا مسلمين».

الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء، وتتعرّض إلى جزائهم حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ». «ممنون»: مشتق من «منّ» وتعني هنا القطع أو النقص،

لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَ بَارَكَ فِيهَا وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) مراحل خلق السماوات والأرض: الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية، وعلائم العظمة،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 346

وقدرة الخالق جلّ وعلا في خلق الأرض والسماء، وبداية خلق الكائنات، حيث يأمر تعالى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بمخاطبة الكافرين والمشركين. يقول تعالى: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الْأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ». وتجعلون للَّه تعالى شركاء ونظائر: «وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا».

إنّه لخطأ كبير، وكلام يفتقد إلى الدليل: «ذلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ». إنّ الذي يدبّر امور هذا العالم، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق، فلماذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية، حيث تقول: «وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ». وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين: «سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ».

وبهذا الترتيب فإنّه تبارك وتعالى قد دبّر لكل شي ء قدره وحاجته.

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات.

ووفق هذا التفسير فإنّ اللَّه تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضاً.

بعد الإنتهاء من الكلام عن

خلق الأرض ومراحلها التكاملية، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا». فكانت الإجابة: «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ». وفي هذه الأثناء: «فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ». ثم: «وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا». وأخيراً: «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا». نعم: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجّر العيون ونبات الأشجار والمواد الغذائية، قد تمّ جميعاً بعد خلق السماوات.

ملاحظات

تبقى أمامنا ملاحظات ينبغي أن نشير إليهم:

1- عبارة «بَارَكَ فِيهَا» إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

2- عبارة «فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ» تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 347

خلق المصادر وبركات الأرض، خلق المواد الغذائية).

3- جملة «هي دخان» تبيّن أنّ بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصّلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

4- قوله تعالى: «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا» لا تعني أنّ كلاماً قد جرى باللفظ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني، وهو عين إرادته في الخلق. أمّا التعبير ب «طوعاً أو كرهاً» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت بتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

5- قوله تعالى: «فَقَضهُنَّ سَبْعَ سَموَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ» يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات، كل مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى، ومن المحتمل أن تكون هاتان

المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة، ثم مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

6- إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة.

ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد، أي إنّ عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد، فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي من السماء الاولى، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكّلًا من سبع مجموعات كبرى، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية.

7- قوله تعالى: «وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ» تدلّ على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الاولى، وهي ليست للزينة وحسب، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ لَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَ هُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 348

احذّركم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود: بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات- التي بين أيدينا- المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كل هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات، وتحذّرهم أنّ نتيجة الإعراض، نزول العذاب بهم. يقول تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ». «الصاعقة»: تعني الصوت

المهيب في السماء، ويشتمل على النار أو الموت أو العذاب.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول: «إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ».

إنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم، حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل اللَّه تعالى. يقول تعالى: «قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلِكَةً» لإبلاغ رسالته بدلًا من إرسال الناس، والآن ومادام الأمر كذلك: «فَإنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ». وما جئتم به لا نعتبره من اللَّه.

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مراراً على لسان منكري النبوات ورسالات اللَّه ومكذبي الرسل، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائماً ملائكة، وكأنّما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (7) من سورة الفرقان: «وَقَالُوا مَالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا».

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويتفاعل مع قضاياهم، وكي يستطيع أن يكون القدوة والاسوة، لذلك يصرّح القرآن في الآية (9) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْنهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنهُ رَجُلًا».

بعد المجمل الذي بيّنته الآيات أعلاه، تعود الآيات الآن- كما هو اسلوب القرآن الكريم- إلى تفصيل ما اوجز من خبر قوم عاد وثمود فتقول: «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً».

لكنّ القرآن يردّ على هؤلاء ودعواهم بالقول: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 349

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى: «وَكَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

نعم، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوّة، وأحياناً بدافع من جهله، فيتوهم أنّه يصارع

اللَّه جلّ وعلا.

لكن ما أسهل أن يبدل اللَّه عوامل حياته إلى موت ودمار، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

إنّ هذه الريح الصرصر، وكما تصرّح بذلك آيات اخرى، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثم ترطمهم بها، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية- يلاحظ الوصف في سورة القمر الآيتين (19 و 20) وسورة الحاقّة الآية (6) فما بعد.

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم، نكالًا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا، وهناك في الآخرة: «وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَخْزَى .

إنّ العذاب الدنيوي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجّي من النار في عذاب الآخرة.

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: «وَهُمْ لَايُنصَرُونَ».

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ (18) عاقبة قوم ثمود: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إنّ اللَّه قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البيّنة، إلّاأنّهم: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى .

لذلك: «فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادى القرى (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم اللَّه أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة، ولقد وهبهم اللَّه العمر الطويل والأجسام القوية، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 350

مختصر الامثل ج 4 398

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي،

ومعه المعاجز الإلهية، إلّاأنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته وحسب، بل آذوه وأتباعه القليلين، لذلك شملهم اللَّه بعقابه في الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

القرآن يجيبنا على ذلك بقول اللَّه عزّ وجل: «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ».

قال بعض المفسرين: لقد آمن بالنبي صالح (110) أشخاص من بين مجموع القوم.

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها؛ والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأمة.

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَ قَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لَا أَبْصَارُكُمْ وَ لَا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الاخروي، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء اللَّه. يقول تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ».

ولكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخيرالصفوف الاولى حتى تلتحق بها الصفوف الاخرى: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» «1». وحينذاك: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال، وهي إذ تتحدث فبأمر اللَّه تعالى.

______________________________

(1) «يوزعون»: من «وزع» وهي بمعنى المنع، وعندما

تستخدم للجنود أو الصفوف الاخرى، فإنّ مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 351

إنّ قوله تعالى «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا» يبيّن أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النار.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة، وآية استغرابهم قوله تعالى: «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا».

وفي الجواب يقولون: «قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْ ءٍ».

ثم تستمر الآية بقوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

ومرّة اخرى تضيف: «وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ».

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو: «وَلكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَايَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ».

كنتم غافلين عن أنّ اللَّه يسمع ويرى، يشهد أعمالكم في كل حال ومكان، ثم هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كل مكان، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

ثم يقول تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنُتم بِرَبّكُمْ أَرْدَيكُمْ فَأَصْبَحْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ».

توضّح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن باللَّه تعالى، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن باللَّه تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) قرناء السوء: في أعقاب البحث السابق حيث تحدّثت الآيات الكريمة عن مصير «أعداء اللَّه» جاءت الآيتان أعلاه لتشيران إلى نوعين من العقاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء في الدنيا والآخرة. يقول تعالى: «فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ». ولا يمكنهم الخلاص منها لأنّها مصيرهم سواء صبروا أم لم يصبروا.

«مثوى»: من «ثوى» على وزن «هوى» وتعني المقرّ ومحل الاستقرار.

وللتأكيد على

هذا الأمر تضيف الآية: «وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مّنَ الْمُعْتَبِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 352

«يستعتبون»: مأخوذة في الأصل من «العتاب» وتعني إظهار الخشونة، ومفهوم ذلك أنّ الشخص المذنب سيستسلم للوم صاحب الحق كي يعفو عنه ويرضى عنه، لذلك فإنّ كلمة (استعتاب) تعني الإسترضاء وطلب العفو. ثم تشير الآية الثانية إلى العذاب الدنيوي لهؤلاء فتقول: «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ». حيث قام هؤلاء الجلساء بتصوير المساوي ء لهم حسنات.

«قيضنا»: من «قيض» على وزن (فيض) وتعني في الأصل قشرة البيضة الخارجية، ثم قيلت لوصف الأشخاص الذين يسيطرون على الإنسان بشكل كامل، كسيطرة القشرة على البيضة.

وهذه إشارة إلى أنّ أصدقاء السوء والرفاق الفاسدين يحيطون بهم من كل مكان، حيث يصادرون أفكارهم، ويهيمنون عليهم بحيث يفقدون معه قابلية الإدراك والإحساس المستقل، وعندها ستكون الامور القبيحة السيئة جميلة حسنة في نظرهم.

لقد ورد هذا المعنى بشكلٍ أوضح في الآيتين (36 و 37) من سورة الزخرف في قوله تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ».

وبسبب هذا الوضع تضيف الآية بأنّ الأمر الالهي صدر بعذابهم وأنّ مصيرهم هو مصير الامم السالفة: «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ».

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ».

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ

(29) الضجيج في مقابل صوت القرآن: بعد أن تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الماضين كقوم عاد وثمود، وتحدّثت عن جلساء السوء وقرناء الشر، تتحدث المجموعة التي بين أيدينا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 353

من الآيات البينات عن جانب من جوانب الإنحراف لمشركي عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في هذه الآيات، حيث يقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ».

هذا الاسلوب في مواجهة تأثير الحق ونفوذه بالرغم من كونه اسلوباً قديماً، إلّاأنّه يستخدم اليوم بشكلٍ أوسع وأخطر لصرف أفكار الناس وخنق أصوات المنادين بالحق والعدالة، فهؤلاء يقومون بمل ء المجتمع بالضوضاء حتى لا يسمع صوت الحق.

فتارة يتمّ اللغو بواسطة الضجة والضوضاء والصفير.

واخرى بواسطة القصص الكاذبة والخرافية.

وثالثة بواسطة قصص الحب والعشق المثيرة للشهوات.

وقد يتجاوز مكرهم مرحلة القول فيقومون بتأسيس مراكز خاصة بالفساد وأنواع الأفلام المبتذلة والمطبوعات المنحرفة الرخيصة، والألاعيب السياسية الكاذبة والمثيرة، إنّهم يعمدون إلى الإستعانة بأي أسلوب يؤدّي إلى حرف أفكار الناس واهتماماتهم عن الحق.

الآية الاخرى تشير إلى عذاب هؤلاء فتقول: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا».

خاصة اولئك الذين يمنعون الناس من سماع آيات اللَّه.

وهذا العذاب يمكن أن يشملهم في الدنيا بأن يقتلوا على أيدي أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو يقعوا في أسرهم، وقد يكون في الآخرة، أو يكون العذاب في الدنيا والآخرة معاً.

قوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ».

كما أنّ قوله تعالى: «كَانُوا يَعْمَلُونَ» دليل على أنّه سيتمّ التأكيد على الأعمال التي كانوا يقومون بها دائماً.

وللتأكيد على قضية العذاب، يأتي قوله تعالى: «ذلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ».

وهذه النار ليست مؤقتة زائلة بل: «لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ». نعم، فذلك: «جَزَاءً بِمَا كَانُوا بَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ».

«يجحدون»:

من «جحد» إشارة إلى إنكار الحقائق مع العلم بها، وهذا من أسوأ أنواع الكفر.

لذلك تشير الآية التالية إلى هذا المعنى الذي سيشمل الكفار وهم في الجحيم فيقول:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 354

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ». إنّ اولئك كانوا ينهونا عن سماع قول النبي وكانوا يقولون: إنّه ساحر مجنون.

والمقصود من الجن والإنس- في الآية- هم الشياطين، والناس الذين يقومون بالغواية مثل الشياطين، وليس هما شخصان معيّنان.

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَنْ تَخَافُوا وَ لَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) نزول الملائكة على المؤمنين الصامدين: بعد أن تحدّث القرآن الكريم عن المنكرين المعاندين الذين يصدّون عن آيات اللَّه، وأبان جزاءهم وعقوبتهم، بدأ الآن (في الصورة المقابلة) في الحديث عن المؤمنين الراسخين في إيمانهم، وأشار إلى سبعة أنواع من الثواب الذي يشملهم جزاء ومثوبة لهم. يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا».

فلا تقلقوا من الصعوبات التي تنتظركم، ولا تحزنوا على ذنوبكم الماضية.

هناك الكثير من الذين يدّعون محبة اللَّه، إلّاأنّنا لا نرى الإستقامة واضحة في عملهم وسلوكهم، فهم ضعفاء وعاجزون بحيث عندما يشملهم طوفان الشهوة يودّعون الإيمان ويشركون في عملهم.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى، كما أنّ الاستقامة تقوي

في الإنسان ملكة التقوى والسير في طريق الحق والإيمان.

روي أنّ سفيان بن عبداللَّه الثقفي قال: قلت: يا رسول اللَّه! حدثني بأمر أعتصم به. قال:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 355

«قل ربّي اللَّه ثم استقم» «1».

فبعد البشارتين الاولى والثانية والمتمثلتين بعدم (الخوف) و (الحزن) تصف الآية المرحلة الثالثة بقوله تعالى: «وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ».

والبشارة الرّابعة يتضمّنها قوله تعالى: «نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَفِى الْأَخِرَةِ».

فلن نترككم وحيدين، بل نعينكم في الخير وتعصمكم عن الانحراف حتى تدخلوا الجنة.

وهذا- أي البشارة الرابعة- دليل على أنّ المؤمنين من ذوي الاستقامة يسمعون هذا الكلام من الملائكة في الدنيا عندما يكونون أحياء، إلّاأنّ ذلك لا يكون باللسان واللفظ، بل يسمعون ذلك باذُن قلوبهم، بما يشعرون به من هدوء واستقرار وسكينة وإحساس كبير بالراحة عند المشاكل والصعاب، وتثبّت أقدامهم من السقوط والإنحراف.

والبشارة الخامسة قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ». أي: في الجنة.

أمّا البشارة السادسة فلا تختص بالنعم المادية وما تريدونه. بل الاستجابة إلى العطايا والمواهب المعنوية: «وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ».

أمّا البشارة السابعة والأخيرة فهى أنّكم ستحلون ضيوفاً لدى الباري ء عزّ وجل وفي جنته الخالدة، وستقدّم لكم كل النعم تماماً مثلما يتمّ الترحيب بالضيف العزيز من قبل المضيف: «نُزُلًا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ».

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ قَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَ لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) ادفع السيّئة بالحسنة: مازالت هذه المجموعة من

الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الاخرى عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول. يقول تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

______________________________

(1) سنن ابن ماجة 2/ 1314؛ سنن ترمذي 4/ 32.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 356

إنّ الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي: الدعوة إلى اللَّه، والعمل الصالح، والتسليم حيال الحق. بعد بيان الدعوة إلى اللَّه وأوصاف الدعاة إلى اللَّه، شرحت الآيات اسلوب الدعوة وطريقتها، فقال تعالى: «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيّئَةُ».

في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الإفتراء والإستهزاء والسخرية والكلام البذي ء وأنواع الضغوط والظلم؛ يجب أن يكون سلاحكم- أنتم الدعاة- التقوى والطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبة.

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و (السيّئة) تنطويان على مفهومين واسعين، إذ تشمل الحسنة كل إحسان وجميل وخير وبركة، والسيئة تشمل كل انحراف وقبح وعذاب، إلّاأنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيّئة والحسنة، الذي يختص بأساليب الدعوة.

ثم تضيف الآية: «ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».

إدفع الباطل بالحق، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة، وقابل الإساءة بالإحسان، فلا ترد الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح، لأنّ هذا اسلوب من همّه الانتقام، ثم إنّ هذا الاسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.

وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير، فتقول: إنّ هذا التعامل سيقود إلى: «فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

«ولي»: هنا بمعنى الصديق؛ و «حميم»: تعني في الأصل الماء الحار المغلي، ويقال للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

إنّ هذا الاسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي السهل، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبيّن الاسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل

في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة، حيث يقول تعالى:

«وَمَا يُلَقهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا».

و كذلك: «وَمَا يُلَقهَا إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ».

إنّ هناك- بلا شك- موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرسول صلى الله عليه و آله بوصفه الاسوة والقدوة فتقول له: «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطنِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«نزغ»: تعني الدخول في عملٍ ما لإفساده، ولهذا السبب يطلق على الوساوس

مختصر الامثل، ج 4، ص: 357

الشيطانية «نزغ»، وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم: لا يمكن إصلاح الناس إلّا بالقوّة، وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول: إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس، ولا تلجأوا إلى القوّة إلّا في موارد معدودة.

وأخيراً، تتضمّن الآية الدعوة إلى الاستعاذة باللَّه في دائرة واسعة.

وَ مِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لَا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ هُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) السجود للَّه تعالى: تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد، ودلائل النبوة وعظمة القرآن، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى اللَّه في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام. تبدأ أوّلًا من قضية التوحيد، فتدعو الناس إلى

الخالق عن طريق الآيات الآفاقية: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» «1».

فالليل وظلمته للراحة، والنهار وضوءه للحركة. أمّا الشمس فهي مصدر كل البركات المادية في منظومتنا، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر، ونمو النباتات ونضج الفواكه، وحتى ألوان الورود الجميلة، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.

القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.

ولعل البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات

______________________________

(1) ينبغي الإلتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 358

والبركات الآنفة الذكر، فتاهوا في عالم الأسباب. ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة: «لَاتَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ». إنّ هذه الآية تستدل على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكّم بالشمس والقمر والليل والنهار، وإنّ حاكميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلًا على وجوب عبادته.

فاللَّه تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله: «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَايَسَمُونَ» «1».

فليس مهماً أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت اللَّه وذاته المقدسة الطاهرة، فهذا العالم الواسع ملي ء بالملائكة المقربين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائماً ولا يفترون أبداً.

ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة اللَّه ولا يحتاج تعالى لعبادتهم، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّافي ظل العبودية له سبحانه وتعالى.

نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد. يقول تعالى: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ».

ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من

الأسرار والخفايا والغموض، إلى قضية المعاد، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى .

نعم: «إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

فدلائل قدرته واضحة في كل مكان، فكيف نشكّك بالمعاد ونعتبره محالًا؟

«خاشعة»: من «الخشوع» وتعني في الأصل التضرّع والتواضع الملازم للأدب؛ واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة، يعتبر نوعاً من الكناية.

«ربت»: من «ربو» على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.

«اهتزت»: من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.

______________________________

(1) «يسأمون»: من كلمة «السئامة» وتعني التعب من الإستمرار في العمل أو في موضوع معيّن.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 359

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) محرّفو آيات الحق: المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد، وتضليل الناس، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَاتِنَا لَايَخْفَوْنَ عَلَيْنَا».

من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس باسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية، ويخفوا ذلك عن الناس؛ إلّاأنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن اللَّه تبارك وتعالى.

«يلحدون»: من «إلحاد» وهي في الأصل من «لحد» على وزن (عهد) وتعني الحفرة الواقعة في جانب واحد، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد». ثم اطلقت كلمة (إلحاد) على أيّ عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام، ويقال لمن لا

يؤمن باللَّه تعالى (الملحد).

والمقصود من «الإلحاد في آيات اللَّه» هو إيجاد الوساوس والتمويه في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان «ومن آياته».

القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى: «أَفَمَن يُلقَى فِى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيمَةِ».

الأشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنم، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم إلى التوحيد والإيمان، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟

وعندما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله: افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ».

لكن عليكم أن تعلموا: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 360

لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاؤون، أو أن يتصرّفوا بما يرغبون، بل هو تهديد لهم لإعراضهم عن كلام الحق.

الآية التي بعدها تتحوّل من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ».

إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكلٍ إجمالي عن طريق فطرته.

ثم تنطلق الآية لبيان عظمة القرآن فتقول: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ».

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلّب عليه، منطقه عظيم واستدلاله قوي، وتعبيره بليغ منسجم وعميق، تعليماته جذرية، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اخرى مهمة حول عظمة القرآن وحيويته، فيقول تعالى: «لَّايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ».

يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه، ولا ينقض بشي ء من العلوم، أو بحقائق الكتب السابقة، ولا يعارض

كذلك بالإكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبل.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة، ولن يطاله ذلك مستقبلًا.

لأنّه: «تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».

أفعال اللَّه عزّ وجل لا تكون إلّاوفق الحكمة وفي غاية الكمال. لذا فهو أهل للحمد دون غيره.

مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْ لَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَ شِفَاءٌ وَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَ مَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 361

كتاب الهداية والشفاء: قام الكفار والمشركون بمحاربة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتكذيبه، والتصدّي للاسلام والقرآن. والآيات السابقة كانت تحكي عن إلحادهم وكفرهم بآيات اللَّه لذلك جاءت الآية الاولى من الآيات التي بين أيدينا لمواساة النبي صلى الله عليه و آله وارشاد المسلمين الذين يواجهون الأذى بأن لا محيص لهم عن الاستقامة والصبر. يقول تعالى: «مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ».

فإذا كانوا يتهمونك بالجنون والكهانة والسحر، فقد أطلقوا هذه الأوصاف على من قبلك من الأنبياء والمرسلين.

إنّ دعوتك لدين الحق ليست جديدة، وإنّ ما تواجهه وأنت تدعو للدين الجديد ليس جديداً أيضاً، لذلك ما عليك- يا رسول اللَّه- إلّاأن ترابط بقوّة وتلزم ما أنت

عليه ولا تهتم بكلام هؤلاء، لأنّ اللَّه معك.

يقول اللَّه تبارك وتعالى في نهاية الآية: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ».

فرحمته ومغفرته للمصدّقين، وعذابه للمكذبين والمعارضين.

الآية التي بعدها تتحدث عن ذرائع هؤلاء المعاندين، وترد على واحدة منها، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن بلسان الأعاجم حتى نهتم به أكثر ويستفيد منه غير العرب؟

وهنا يجيب القرآن على هذا القول بقوله: «وَلَوْ جَعَلْنهُ قُرْءَانًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصّلَتْ ءَايَاتُهُ».

ثم يضيفون: يا للعجب قرآن أعجمي من رسول عربي؟: «ءَأَعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ».

أو يقولون: كتاب أعجمي لُامّة تنطق بالعربية؟!

«أعجمي»: من «عجمة» وتعني عدم الفصاحة والإبهام في الكلام، وتطلق «عجم» على غير العرب لأنّ العرب لا يفهمون كلامهم بوضوح، وتطلق «أعجم» على من لا يجيد الحديث والكلام سواء كان عربياً أم غير عربي.

ثم يخاطب القرآن الرسول صلى الله عليه و آله بالقول: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ».

أمّا لغيرهم: «وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ». أي «ثقل» ولذلك لا يدركونه.

ثم إنّه: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى». أي إنّهم لا يرونه بسبب عماهم، فهؤلاء كالأشخاص الذين ينادون من بعيد: «أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

الآية التالية تستمر في مواساة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين معه وتقول لهم: إنّ للعناد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 362

والإنكار تاريخ طويل في حياة النبوّات: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ». وإذ ترى أنّنا لا نعجل في عقاب هؤلاء الأعداء المعاندين، فذلك لأنّ المصلحة تقتضي أن يكونوا أحراراً حتى تتمّ الحجة عليهم: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ». أي لكان العقاب قد شملهم بسرعة.

إنّ التأجيل الإلهي إنّما يتم هنا لمصلحة الناس ومن أجل المزيد من فرص الهداية والنور، وبغية إتمام الحجة عليهم، وهذه السنّة كانت نافذة في جميع الأقوام

السابقة، وهي تجري في قومك أيضاً.

لكنّهم لم يصدّقوا بهذه الحقيقة بعد: «وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ».

«مريب»: من «ريب» بمعنى الشك الممزوج بسوء الظن والقلق، لذلك فمعنى الآية: إنّ المشركين لا يشكّون في كلامك وحسب، بل يزعمون وجود القرائن على بطلانه والتي تؤدّي بزعمهم إلى الريب.

في الآية الأخيرة- من المجموعة- نقف أمام قانون عام يرتبط بأعمال الناس، وقد أكّده القرآن مراراً، وهذا القانون يكمل البحث السابق بشأن استفادة المؤمنين من القرآن، بينما يحرم غير المؤمنين أنفسهم من فيض النور الإلهي والهدى الرباني. يقول تعالى في هذا القانون: «مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ».

لذا فإنّ من لم يؤمن بهذا الكتاب والدين العظيم فسوف لن يضروا اللَّه تعالى ولا يضروك، لأنّ الحسنات والسيئات تعود إلى أصحابها، وهم الذين سينالون حلاوة أعمالهم ومرارتها.

كلمة «ظلّام» والتي هي صيغة مبالغة بمعنى «كثير الظلم»، يمكن أن تشير- هنا وفي آيات قرآنية اخرى- إلى أنّ العقاب دون سبب من قبل الخالق العظيم يعتبر مصداقاً للظلم الكثير، لأنّه تعالى منزّه عن هذا الفعل.

وذهب بعضهم إلى أنّ اللَّه تعالى له عباد كثيرون، فلو أراد أن يظلم كل واحد منهم بجزء يسير قليل، عندها سيكون مصداقاً ل «ظلّام».

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَ لَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 363

اللَّه العالم بكل شي ء: الآية الأخيرة- في المجموعة السابقة- تحدثت عن قانون تحمّل الإنسان مسؤولية أعماله خيراً كانت أم شراً، وعودة آثار أعماله

على نفسه، وهي إشارة ضمنية لقضية الثواب والعقاب في يوم القيامة.

وهنا يطرح المشركون هذا السؤال: متى تكون هذه القيامة التي تتحدث عنها؟ الآيتان اللتان نبحثهما تجيبان أوّلًا عن هذا السؤال، إذ يقول القرآن: إنّ اللَّه وحده يختص بعلم قيام الساعة: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ».

ثم تضيف الآية: ليس علم الساعة وحده من مختصات العلم الإلهي فحسب، بل يندرج معه أشياء اخرى مثل أسرار هذا العالم، وما يختص بالكائنات الظاهرة والمخفية: «وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مّنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ».

«أكمام»: جمع «كم» على وزن «جم» وتعني الغلاف الذي يغطّي الفاكهة و «كم» على وزن «قُم» تعني الجزء من الرداء الذي يغطّي اليد.

وبما أنّ أدقّ المراحل في عالم الكائن الحي هي مرحلة النمو في الرحم والولادة، لذلك أكّد القرآن على هاتين القضيتين، سواء في عالم الإنسان والحيوان، أم في عالم النبات.

ثم يضيف السياق القرآني: إنّ هذه المجموعة التي تنكر القيامة وتستهزى ء بها، ستتعرض إلى مشهد يقال لهم فيه: «وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِى قَالُوا ءَاذَنكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ».

فما كنّا نقوله هو كلام باطل، كان كلاماً نابعاً من الجهل والعناد والتقليد الأعمى، واليوم عرفنا مدى بطلان ادعاءاتنا الواهية.

وهؤلاء في نفس الوقت الذي يسجّلون اعترافهم السابق، فهم أيضاً لا يشاهدون أثراً للمعبودات التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه من قبل: «وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ».

إنّ مشهد القيامة مشهد موحش مهول بحيث يأخذ منهم الألباب، فينسون خواطر تلك الأصنام والمعبودات التي كانوا يعبدونها ويسجدون لها ويذبحون لها القرابين.

ففي ذلك اليوم سيعلمون: «وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ».

«محيص»: من «حيص» على وزن «حيف» وتعني العدول والتنازل عن شي ء، ولأنّ (محيص) اسم مكان، فهي تعني هنا الملجأ

والمفر.

«ظنوا»: من «ظنّ» ولها في اللغة معنىً واسع، فهي أحياناً بمعنى اليقين، وتأتي أيضاً بمعنى الظن، وفي الآية مورد البحث جاءت بمعنى اليقين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 364

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَ إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَ نَأَى بِجَانِبِهِ وَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) في نفس الاتجاه الذي تحدثت فيه الآيات السابقة، نلتقي مع مضمون المجموعة الجديدة من الآيات التي بين أيدينا. يقول تعالى: «لَّايَسَمُ الْإِنسنُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ».

ولكنّه: «وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيُوسٌ قَنُوطٌ».

والمقصود بالإنسان هنا الإنسان غير المتربي بعدُ باصول التربية الإسلامية، والذي لم يتنور قلبه بالمعرفة الإلهية والإيمان باللَّه، ولم يحسّ بالمسؤولية بشكل كامل.

الآية التالية تشير إلى صفة اخرى من صفات الإنسان الجاهل البعيد عن العلم والإيمان متمثلة بالغرور: «وَلَئِنْ أَذَقْنهُ رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذَا لِى».

أي: إنّني مستحق ولائق لمثل هذه المواهب والمقام.

تضيف الآية بعد ذلك أنّ هذا الغرور يقود الإنسان في النهاية إلى إنكار الآخرة حيث يقول: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً». ولنفرض أنّ هناك قيامة فإنّ حالي سيكون أحسن من هذا: «وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ و لَلْحُسْنَى .

لكنّ اللَّه يحذّر أمثال هؤلاء بقوله تعالى: «فَلَنُنَبّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ». «العذاب الغليظ»: هو العذاب الشديد

المتراكم.

الآية التي بعدها تذكر حالة ثالثة لمثل هؤلاء، هي حالة النسيان عند النعمة والفزع والجزع عند المصيبة. يقول تعالى: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَا بِجَانِبِهِ». أمّا:

«وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ».

«نا»: من «نأي» على وزن «رأي» وتعني الابتعاد، وعندما تقترن مع كلمة «بجانبه» فتكون كناية عن التكبّر والغرور، لأنّ المتكبرين ينأون بوجوههم دون اهتمام ويبتعدون.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 365

«العريض»: مقابل الطويل، ويستخدم العرب هاتين الكلمتين للدلالة على الزيادة والكثرة.

إنّ الإنسان الذي يفتقد الإيمان والتقوى يكون عرضة لمثل هذه الحالات، فهو مع إقبال النعم مغرور ناسٍ للَّه، وإذا أدبرت عنه فقنوط يائس كثير الجزع.

وفي الجانب المقابل نرى أنّ رجال الحق وأتباع الأنبياء والرسل لا يتغيّرون إذا أقبلت عليهم النعم، ولا يهنون أو ييأسون أو يجزعون عند إدبارها.

الآية الأخيرة تتضمن الخطاب الأخير لهؤلاء، وتبيّن لهم- بوضوح- الأصل العقلي المعروف بدفع الضرر المحتمل، حيث تخاطب النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ».

إنّه نفس الاسلوب الذي نقرأ عنه في محاججة أئمة المسلمين لأمثال هؤلاء الأفراد، كما نرى ذلك واضحاً في الحادثة التي ينقلها العلّامة الكليني رحمه الله في الكافي حيث يذكر فيه الحوار الذي دار بين الإمام الصادق عليه السلام وابن أبي العوجاء.

فمن المعروف أنّ عبد الكريم بن أبي العوجاء كان من ملاحدة عصره ودهرييه، وقد حضر الموسم الحج أكثر من مرّة والتقى مع الإمام الصادق عليه السلام في مجالس حوار، انتهت إلى رجوع بعض أصحابه عنه إلى الإسلام، ولكن ابن أبي العوجاء لم يسلم، وقد صرّح الإمام عليه السلام بأنّ سبب ذلك: «هو أعمى من ذلك لا يسلم».

والحادثة موضع الشاهد

هنا، هي أنّ الإمام بضُر بابن أبي العوجاء في الموسم فقال له:

«ما جاء بك إلى هذا الموضع»؟ فقال: عادة الجسد، وسنّة البلد ولننظر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة؟ فقال له عليه السلام: «أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم» «1».

فذهب يتكلم فقال له عليه السلام: «لا جدال في الحج». ونفض ردائه من يده وقال: «إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت».

فأقبل عبد الكريم على من معه فقال: وجدت في قلبي حزازة (ألم) فردّوني، فردّوه فمات.

______________________________

(1) يناديه الإمام بهذا الاسم، وهو اسمه الحقيقي مع كونه منكراً للَّه لكي يشعره مهانة ما هو عليه وهذا اسمه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 366

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54) علائم الحق في العالم الكبير والصغير: الآيتان الختاميتان في هذه السورة تشيران إلى موضوعين مهمين، وهما بمثابة الخلاصة الأخيرة لبحوث هذه السورة المباركة.

فالآية الاولى تتحدث عن التوحيد (أو القرآن)، والثانية عن المعاد. يقول تعالى:

«سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الْأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ».

«آيات الآفاق» تشمل خلق الشمس والقمر والنجوم والنظام الدقيق الذي يحكمها، وخلق أنواع الأحياء والنباتات والجبال والبحار وما فيها من عجائب وأسرار لا تعد ولا تحصى وما في عالم الأحياء من عجائب لا تنتهي، إنّ كل هذه الآيات هي دليل على التوحيد وعلى وجود اللَّه.

أمّا «الآيات النفسية» مثل خلق أجهزة جسم الإنسان، والنظام المحيّر الذي يتحكّم بالمخ وحركات القلب المنتظمة والشرايين والعظام والخلايا،

وانعقاد النطفة ونمو الجنين في ظلمات الرحم. ثم أسرار الروح العجيبة. إنّ كل ذلك هي كتاب مفتوح لمعرفة الإله الخالق العظيم.

نعود الآن إلى الآية التي تنتهي بجملة ذات مغزى حيث يقول تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ شَهِيدٌ».

وهل هناك شهادة أفضل وأعظم من هذه التي كتبت بخط القدرة التكوينية على ناصية جميع الكائنات، على أوراق الشجر، في الأوراد والزهور، وبين طبقات المخ العجيبة، وعلى الأغشية الرقيقة للعين، وفي آفاق السماء وبواطن الأرض، وفي كل شي ء من الوجود تجد أثراً يدل على الخالق، وشهادة تكوينية على وحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه (سبحانه وتعالى).

الآية الأخيرة في السورة تشير إلى الأساس والسبب في شقاء هذه المجموعة المشركة الفاسدة، إذ يقول تعالى عنهم: «أَلَا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لِّقَاءِ رَبّهِمْ».

ولأنّهم لا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، فهم يقومون بأنواع الجرائم والمعاصي مهما

مختصر الامثل، ج 4، ص: 367

كانت. ولكنّهم يجب أن يعلموا: «أَلَا إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ مُّحِيطٌ».

إنّ جميع أعمالهم ونواياهم حاضرة في علم اللَّه، وكل ذلك يسجّل لمحكمة القيامة والحشر.

«مرية»: تعني التردّد في اتخاذ القرار، والبعض اعتبرها بمعنى الشك والشبهة العظيمة.

والآية- في هذا الجزء منها- ردّ على شبهات الكفار بخصوص المعاد، فهؤلاء يقولون:

كيف يمكن لهذا التراب المتناثر المختلط مع بعضه البعض أن ينفصل؟

والأكثر من ذلك: من الذي يحيط بنيات الناس وأعمالهم على مدى تاريخ البشرية؟

القرآن يجيب على كل ذلك بالقول: كيف يمكن للخالق المحيط بكل شي ء أن لا تكون هذه الامور طوع قدرته وواضحة بالنسبة له؟

ثم إنّ دليل إحاطة علمه بكل شي ء، هو تدبيره لكل هذه الامور، فكيف يجوز له أن لا يعلم بامور ما خلق ودبّر.

إنّ إحاطة الخالق جلّ وعلا بالموجودات والكائنات تتضمن معنى دقيقاً ولطيفاً يتمثل في ارتباط كل

الكائنات والموجودات بالذات المقدسة.

وبعبارة اخرى: لا يوجد في عالم الوجود سوى وجود أصيل واحد قائم بذاته، وبقية الموجودات والكائنات تعتمد عليه وترتبط به، بحيث لو زال هذا الإرتباط لحظة واحدة فلا يبقى شي ء منها.

«نهاية تفسير سورة فصّلت»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 369

44. سورة الشورى

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تتناول قضايا يمكن الإشارة إليها بما يلي:

1- في القسم الأوّل وهو أهم أقسام السورة، يشتمل البحث فيه على قضية الوحي الذي يمثل طريق ارتباط الأنبياء عليهم السلام باللَّه تبارك وتعالى.

2- ثم يشير إلى دلائل التوحيد، وآيات اللَّه في الآفاق والأنفس التي تكمّل البحث في موضوع الوحي.

3- في السورة إشارات إلى قضية المعاد ومصير الكفار في القيامة، وهو محدود قياساً إلى الأقسام الاخرى.

4- تشتمل السورة على مجموعة من البحوث الأخلاقية.

إنّ إطلاق اسم «الشورى» على هذه السورة المباركة يعود إلى محتوى الآية (38) منها والتي تدعو المسلمين إلى المشورة في امورهم.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ حم عسق بعثه اللَّه يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، حتى يقف بين يدي اللَّه عزّ وجل فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حم عسق ولم تدر ما ثوابها، أمّا لو دريت ما هي وما ثوابها لما مللت من قراءتها، ولكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنة». وعندما يدخل الجنة يرفل بأنواع النعم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 370

الإلهية التي ذكرها الإمام الصادق عليه السلام في الحديث الآنف بشكل مفصّل «1».

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ

فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) مرّة اخرى تواجهنا الحروف المقطعة في مطلع السورة، وهي هنا تنعكس بشكل مفصّل، إذ بين أيدينا خمسة حروف.

«حم» موجودة في بداية سبع سور قرآنية (المؤمن، فصّلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف) ولكن في سورة الشورى اضيف إليها مقطع «عسق».

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي، فتقول: «كَذلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد، وهو علم اللَّه وقدرته، ومحتوى الوحي في الاصول والخطوط العريضة واحد أيضاً بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات.

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات اللَّه الكمالية، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معيّن، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية: «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فعزّته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم. وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيماً متناسقاً مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الامور والشؤون.

قوله تعالى: «لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ».

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألّا يكون غريباً عن مخلوقاته وما

______________________________

(1) ثواب الأعمال، نقلًا عن تفسير نور الثقلين 4/ 556.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 371

يؤول إليه مصيرها، بل يقوم بتدبير امورها وحاجاتها عن طريق الوحي، وهذه هي الصفة الثالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة له- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأيّ طاعة أو عبودية من عباده.

الآية التي بعدها تضيف: «تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ» «1».

وذلك بسبب نزول الوحي من قبل اللَّه، أو بسبب التُهم الباطلة التي كان المشركون والكفار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في

عبادته.

ويتّضح مما سلف أنّ للجملة معنيين:

الأوّل: أنّها تختص بموضوع الوحي، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (21) من سورة الحشر في قوله تعالى: «لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ».

الثاني: أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون اللَّه، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلّ وعلا.

بقية الآية، قوله تعالى: «وَالْمَلِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الْأَرْضِ».

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه، فهو- وفقاً للتفسير الأوّل- أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته، يسبحون ويحمدون اللَّه دائماً، يحمدونه بجميع الكمالات، وينزّهونه عن جميع النواقص، وعندما ينحرف المؤمنون أحياناً، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من اللَّه تعالى.

أمّا وفق التفسير الثاني، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عمّا ينسب إليه من شرك، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وأخيراً تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات اللَّه تبارك وتعالى، وتنصب حول الغفران والرحمة، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه، وبخصوص وظائف

______________________________

(1) «يتفطّرن»: من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 372

المؤمنين، حيث يقول تعالى: «أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من الأسماء الحسنى المختصة باللَّه تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين، بل إنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَ مَنْ حَوْلَهَا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (8) انطلاقة من ام القرى: تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك، لذلك فإنّ الآية الاولى في المجموعة الجديدة، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم، حيث يقول تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ».

ثم تخاطب الآية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقوله تعالى: «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ».

إنّ مسؤوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء اللَّه إلى جميع العباد.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّةً اخرى، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له، إذ يقول تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا».

و «امّ القرى» هي مكة المكرمة.

ثم تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء:

«وَتُنذِرُ يَوْمَ الْجَمْعِ لَارَيْبَ فِيهِ».

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين: «فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ».

وبما أنّ الآية أعلاه يقسّم الناس إلى فئتين، فإنّ الآية التي بعدها تضيف: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»؛ على الهداية. إلّاأنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معياراً للكمال الإنساني.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 373

وكما أنّ ملكة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل، فهي أيضاً سنّة إلهية لا تقبل التغيير.

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنة والسعادة حيال أهل النار، فيقول تعالى:

«وَلكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ

مَا لَهُم مّن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

إنّ كلمة «ولي» تشير إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أيّ طلب. أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9) وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَ مِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12) الولي المطلق: أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى اللَّه، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.

تقول الآية باسلوب التعجب والإنكار: «أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ». إلّاأنّه: «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ». فلو أراد هؤلاء أن يختاروا ولياً، فعليهم أن يختاروا اللَّه.

ثم تذكر دليلًا آخر فتقول: «وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى .

ويجب اللجوء إليه لا لغيره، لأنّ المعاد والبعث بيده، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعدالموت.

ثم تذكر دليلًا ثالثاً فتقول: «وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقية.

الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ». فهو الوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.

إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب.

وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية باللَّه، تقول الآيات على لسان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 374

النبي صلى الله

عليه و آله: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبّى». فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب:

«عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ». أي: أعود إليه في المشكلات والشدائد والزلات. الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلًا خامساً على ولاية اللَّه المطلقة، أو دليلًا على ربوبيته، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة، إذ تقول: «فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

«فاطر»: من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شي ء ما، وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج الموجودات منه.

والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها، لأنّ الخالقية تشملها جميعاً.

ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول: «جَعَلَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ».

إنّ الزواج يعتبر أساساً لراحة الروح وسكون النفس، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساساً لبقاء النسل واستمراره، وتكاثره.

الصفة الثالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».

إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات اللَّه الاخرى، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أيّ صفة من صفات اللَّه، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة اللَّه يتمثل في «التشبيه» حيث يشبّهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته، وهو أمر يؤدّي للسقوط في وادي الشرك.

إنّ وجود اللَّه تعالى ليس له نهاية ولا يحدّ بحدّ، وكل شي ء غيره له نهاية وحدّ من حيث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ...؛ وفي كل شي ء.

وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.

تشير نهاية الآية إلى صفات اخرى من صفات اللَّه: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

هو الخالق والمدبّر، والسميع والبصير، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير أو مثيل.

الآية التي بعدها تتحدث عن ثلاثة أقسام اخرى من صفات الفعل والذات حيث توضّح

كل واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعدٍ خاص. يقول تعالى: «لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ».

فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 375

منه، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب «وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ» «1».

«مقاليد»: جمع «مقليد» وتعني المفتاح، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كل شي ء.

وفي الصفة الاخرى، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية: «يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ».

لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض، فإنّ جميع الأرزاق في قبضته، ويقسّمها وفقاً لمشيئته التي تصدر بمقتضى حكمته، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.

إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها، ومكانها وسائر شؤون حياتها الاخرى، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى: «إِنَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ».

وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات اللَّه الكمالية سواء الذاتية منها أم الفعلية.

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسَى وَ عِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَ مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء: بما أنّ العديد من بحوث هذه السورة تتعلّق بالمشركين، وأنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضاً، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها

تبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة. تقول الآية: «شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا». والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.

______________________________

(1) سورة المنافقون/ 7.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 376

وأيضاً: «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى .

وبهذا الشكل فما كان موجوداً في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضاً.

لذا، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام، تقول الآية في الجملة الاخرى: «أَنْ أَقِيمُوا الدّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ». وبعد ذلك تقول: «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ».

فلقد تطبّع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصّب لسنين طويلة، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم.

وكما أنّ انتخاب الأنبياء بيد الخالق، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضاً: «اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ».

لقد أشارت هذه الآية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام) لأنّ هؤلاء الخمسة هم الأنبياء اولوا العزم، أي أصحاب الدين والشرائع، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.

وبما أنّ أحد أركان دعوة الأنبياء من اولى العزم هو عدم التفرّق في الدين، فقد كانوا يدعون لذلك حتماً، لذا فقد يطرح هذا السؤال: ما هو أساس كل هذه الاختلافات المذهبية؟

وقد أجابت الآية الاخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات الدينية بأنّه:

«وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرّق في الدين لم يكن الجهل، بل كان الظلم والبغي والانحراف عن الحق، والأهواء والآراء الشخصية.

«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «الحاقدون من الناس والمتعصبون» إتحدوا معاً لزرع هذه الاختلافات.

وتعتبر هذه الآية ردّاً واضحاً على الذين يقولون بأنّ الدين

أوجد الاختلاف بين البشر، وأدّى إلى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ».

حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.

فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل، وهذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 377

هو الأمر التكويني الإلهي الذى كان موجوداً منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير، إنّ هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أنّ جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة.

أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل، حيث تقول: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مُرِيبٍ».

فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَ رَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) فاستقم كما امرت: بما أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن تفرّق الامم بسبب البغي والظلم والانحراف، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النبي بمحاولة حلّ الاختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق، فتقول: «فَلِذلِكَ فَادْعُ». أي:

ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الإختلافات.

ثم تأمره بالإستقامة في هذا الطريق، فتقول: «وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ».

ولعلّ جملة «كما امرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الإستقامة، أو إلى أنّ الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الاخرى مطابقة للقانون الإلهي.

وبما أنّ أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها: «وَلَا

تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ»، لأنّ كل مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق.

وبما أنّ لكل دعوة نقطة بداية، لذا فإنّ نقطة البداية هي شخص الرسول صلى الله عليه و آله، حيث تقول الآية في رابع أمر لها: «وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ».

وبما أنّ رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ». سواء في القضاء والحكم، أو في الحقوق الإجتماعية والقضايا الاخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 378

بعد هذه التعليمات الخمس، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات، حيث تقول: «اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ». وكل واحد مسؤول عن أعماله: «لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ». «لَاحُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ».

إضافة إلى ذلك فإنّنا جميعاً سوف نجتمع في مكان واحد: «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا».

والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد، ونهايتنا ستكون في مكان واحد، والقاضي الذي إليه المصير واحد، وبالرغم من كل هذا فإنّنا مسؤولون جميعاً حيال أعمالنا، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلّابالإيمان والعمل الصالح.

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزَانَ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبي صلى الله عليه و آله، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أيّ محاججة أو خصومة بينه وبينهم،

أمّا الآيات التي نبحثها، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أنّ حقانية نبي الخاتم لا تحتاج إلى دليل، تقول: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ».

وبما أنّ نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة، بل للعناد والإصرار تقول الآية:

«وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ». «وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.

والمقصود من جملة «مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ» هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة، والذين ليست لهم نوايا خبيثة، ويستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 379

ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوّة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي، حيث تقول الآية: «اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَالْمِيزَانَ».

«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية، وما شابه ذلك.

وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد، بالرغم من أنّ معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن، إلّاأنّه في معناه الكنائي يطلق على أيّ معيار للقياس الصحيح، وحتى شخص الرسول صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام، حيث أنّ وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.

بناءً على هذا فإنّ الخالق أنزل كتاباً على نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بحيث يعتبر هو الحق، والميزان للتقييم.

وبما أنّ نتيجة كل هذه الامور، خاصة ظهور الحق بشكل كامل وتحقق العدالة وإقامة الميزان تتّضح في يوم القيامة، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ».

ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة،

فتقول الآية: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِهَا».

فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب، أبداً، إنّ كلامهم هذا من قبيل الاستهزاء والإنكار.

«وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ».

ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة وفي احتمالهم حصول هذا الأمر في أيّة لحظة من اللحظات.

وكإعلان عام، تقول الآية في نهايتها: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ لَفِى ضَللٍ بَعِيدٍ». لأنّ نظام هذا العالم يعتبر- بحدّ ذاته- دليلًا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثاً وليس له أيّ معنى، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 380

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردّها على استعجال منكري المعاد: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ».

ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق، فتقول: «يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ». وهذا لا يعني أنّ هناك جماعة محرومون من رزقه، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء.

ونقرأ في الآية (27) من هذه السورة: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ».

وواضح أنّ (الرزق) هنا يشمل الرزق المعنوي والمادي، الجسماني والروحاني.

وتقول الآية في نهايتها: «وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ».

وعندما يعداللَّه تعالى عباده بالرزق واللطف فهو قادر على إنجاز هذا الأمر، ولهذا السبب لا يوجد أيّ تخلّف في وعوده

أبداً.

الآية التي بعدها شبّهت أفراد العالم حيال رزق الخالق وكيفية الاستفادة منه بالمزارعين الذين يقوم قسم منهم بالزراعة للآخرة والقسم الآخر للدنيا، وتحدد عاقبة كل قسم منهم وفق تشبيه لطيف حيث تقول: «مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْأَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الْأَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ».

وعلى هذا الأساس فلا طلّاب الدنيا يصلون إلى ما يريدون، ولا طلّاب الآخرة يحرمون من الدنيا.

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَ هُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: ورد في سبب نزول الآيات (23- 26) من هذه السورة، أنّه ذكر

مختصر الامثل، ج 4، ص: 381

أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن عبداللَّه بن عباس:

أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فنقول له: إن تَعرُك امور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك. فأتوه في ذلك فنزلت: «قُلْ لَاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى . فقرأها عليهم وقال:

«تودّون قرابتي من بعدي». فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله. فقال المنافقون:

إنّ هذا الشي ء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده. فنزلت: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم فأنزل اللَّه: «وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ» الآية. فأرسل في أثرهم فبشّرهم وقال: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا» وهم الذين سلّموا لقوله.

التّفسير

أجر الرسالة في مودّة أهل البيت عليهم السلام: بما أنّ الآية (13) من هذه السورة كانت تتحدث عن تشريع الدين من قبل الخالق بواسطة الأنبياء اولي العزم، لذا فإنّ أوّل آية في هذا البحث- كاستمرار للموضوع- تقول في مجال نفي تشريع الآخرين، وأنّ جميع القوانين ليست معتبرة قبال القانون الإلهي، وأنّ التقنين يختص بالخالق: «أَمْ لَهُمْ شُرَكؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ».

وبعد ذلك يقوم القرآن بتهديد المشرّعين بالباطل، حيث تقول الآية: «وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ» حيث يصدر الأمر بعذابهم.

وفي نفس الوقت يجب عليهم أن لاينسوا هذه الحقيقةوهي: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

المقصود من (كلمة الفصل) هي المدّة المقررة المعطاة من قبل الخالق لمثل هؤلاء الأفراد، كي تكون لهم حرية العمل وتتم الحجة عليهم.

كما أنّ عبارة (ظالمين) تتحدث عن المشركين الذين لهم عقائد منحرفة قبال القوانين الإلهية وذلك بسبب اتساع مفهوم الظلم، وإطلاقه على أيّ عمل ليس في مورده.

ويظهر أنّ المقصود من (العذاب الأليم) هو عذاب يوم القيامة.

ثم تذكر الآية بياناً مجملًا حول (عذاب الظالمين) ثم بياناً مفصّلًا عن (جزاء المؤمنين)، فتقول: «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 382

«روضات»: جمع (روضة) وتعني المكان الذي يشتمل على الماء والشجر الكثير، لذا فإنّ كلمة (روضة) تطلق على البساتين الخضراء، ونستفيد من هذه العبارة بشكل واضح أنّ

بساتين الجنة متفاوتة، والمؤمنون من ذوي الأعمال الصالحة في أفضل بساتين الجنة.

إلّا أنّ الفضل الإلهي بخصوص المؤمنين ذوي الأعمال الصالحة لا ينتهي هنا، فسوف يشملهم اللطف الإلهي بحيث: «لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ».

وبهذا الترتيب لا يوجد أيّ قياس بين (العمل) و (الجزاء)، بل إنّ جزاءهم غير محدود من جميع الجهات.

والأجمل من ذلك عبارة «عِندَ رَبّهِمْ» حيث توضّح اللطف الإلهي اللامتناهي بشأنهم، وهل هناك فوز أكبر من أن يصلوا إلى قرب مقام الخالق.

وليس غريباً أن تقول الآية في نهايتها: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ».

ولبيان عظمة هذا الجزاء تقول الآية التي بعدها: «ذلِكَ الَّذِى يُبَشّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».

يبشرهم حتى لا تَصعُب عندهم آلام الطاعة والعبودية ومجاهدة هوى النفس والجهاد حيال أعداء اللَّه.

وقد يتوهم أنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله يريد جزاءً وأجراً على إبلاغ هذه الرسالة، لذا فإنّ القرآن يأمر الرسول بعد هذا الكلام ليقول: «قُلْ لَّاأَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى . أي حبّ أهل بيتي.

ومودّة ذوي القربى ومحبّتهم ترتبط بقضية الولاية وقبول قيادة الأئمة المعصومين عليهم السلام من آل الرسول حيث تعتبر في الحقيقة استمراراً لقيادة النبي واستمراراً للولاية الإلهية، وجليّ أنّ قبول هذه الولاية والقيادة كقبول نبوّة النبي صلى الله عليه و آله ستكون سبباً لسعادة البشرية نفسها وستعود نتائجها إليها.

في تفسير القرطبي: في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: لمّا أنزل اللَّه عزّ وجل: «قُلْ لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى قالوا: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين نودهم؟

قال: «علي وفاطمة وأبناؤهما».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 383

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنّه ورد في آخر الآية: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حَسَنًا إنَّ

اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ». وهل هناك حسنة أفضل من أن يكون الإنسان دائماً تحت راية القادة الإلهيين، يحبّهم بقلبه، ويستمر على خطهم، يطلب منهم التوضيح للقضايا المبهمة في كلام الخالق، يعتبرهم القدوة والأسوة وسيرتهم وعملهم هو المعيار.

«اقترف» مأخوذة في الأصل من (قرف) على وزن (حرف) وتعني قطع القشرة الإضافية من الشجرة، أو من الجروح الحاصلة، حيث تكون أحياناً علامة على شفاء الجرح وتحسنه، هذه الكلمة استخدمت فيما بعد في الإكتساب سواء كان حسناً أو سيئاً.

والطريف في الأمر أنّ بعض التفاسير تنقل عن ابن عباس و (السدّي) أنّ المقصود من (اقتراف الحسنة) في الآية الشريفة هو مودة آل محمّد.

وجاء في حديث عن الإمام الحسن بن علي عليه السلام: «اقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت».

وواضح أنّ المقصود من هذه التفاسير أنّ معنى اكتساب الحسنة لايتحدد بمودّة أهل البيت عليهم السلام، بل له معنى أوسع و أشمل ولكن بما أنّ هذه الجملة وردت بعد قضية مودّة ذي القربى لذا فإنّ أوضح مصداق لإكتساب الحسنة هو هذه المودّة.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) هذه الآيات تعتبر استمراراً للآيات السابقة في موضوع الرسالة وأجرها، ومودّة ذوي القربى وأهل البيت عليهم السلام. فأوّل آية تقول: إنّ هؤلاء القوم لا يقبلون الوحي الإلهي، بل: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا». وهذا الإعتقاد وليد أفكارهم حيث ينسبونه إلى الخالق.

في حين: «فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ

عَلَى قَلْبِكَ» ويجرّدك من قابلية إظهار هذه الآيات.

وفي الحقيقة، فإنّ هذا الأمر إشارة إلى الاستدلال المنطقي المعروف، وهو أنّه إذا ادعى شخص النبوّة، وجاء بالآيات البينات والمعاجز، وشمله النصر الإلهي، فلو كذب على الخالق فإنّ الحكمة الإلهية تقتضي سحب المعاجز منه وفضحه وعدم حمايته.

ثم تقول الآية لتأكيد هذا الموضوع: «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 384

فهذه هي مسؤولية الخالق في توضيح الحق وفضح الباطل وفقاً لحكمته، وإلّا فكيف يسمح لشخص بالكذب عليه وفي نفس الوقت ينصره ويظهر على يديه المعاجز؟

كما أنّ من الاخطاء الكبيرة أن يتصور بعض المشركين قيام الرسول صلى الله عليه و آله بهذا العمل مخفياً ذلك عن علم الخالق: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ».

وبما أنّ الخالق يبقي طريق الرجعة مفتوحاً أمام العباد، لذا فإنّ الآيات القرآنية بعد ذم أعمال المشركين والمذنبين القبيحة تشير إلى أنّ الابواب التوبة مفتوحة دائماً، ولذا تقول الآية محل البحث: «وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيّئَاتِ».

إلّا أنّكم إذا تظاهرتم بالتوبة وأخفيتم أعمالًا اخرى، فلا تتصوروا أنّ ذلك يخفى عن علم الخالق، لأنّه: «وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».

أمّا آخر آية فتوضّح الجزاء العظيم للمؤمنين، والعذاب الأليم للكافرين في جمل قصيرة فتقول: إنّ اللَّه تعالى يستجيب لدعاء المؤمنين وطلباتهم: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ». بل: «وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ». وسوف يعطيهم ما لم يطلبوا: «وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ». هذه السورة (سورة الشّورى) من السور المكية إلّاأنّ بعض المفسرين يعتقدون أنّ هذه الآيات الأربع (23- 26) نزلت في المدينة، وسبب النزول الذي ذكرناه في بداية تفسير هذه الآيات يشهد على هذا المعنى.

وأيضاً فإنّ الروايات التي تفسّر أهل البيت بعليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهم السلام تناسب هذا المعنى، لأنّنا نعلم

أنّ زواج علي من سيدة النساء عليهما السلام تمّ في المدينة، وولادة الحسن والحسين عليهما السلام كانتا في العام الثالث والرابع الهجري على ما رواه المؤرخون.

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَ هُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لَا نَصِيرٍ (31)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 385

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: قال خباب بن الأرت: أنّ الآية «وَلَوْ بَسَطَ ...» فينا نزلت، نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت.

التّفسير

ورد في آخر آية من الآيات السابقة من أنّ الخالق يستجيب دعوة المؤمنين، وفي أعقاب ذلك يطرح هذا السؤال: لماذا نرى البعض منهم فقراء، ولا ينالون ما يرغبونه مهما يدعون؟

تقول الآية: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ».

وبهذا الترتيب فإنّ تقسيم الأرزاق يقوم على حساب دقيق من قبل الخالق تجاه عباده، وهذا يحدث بسبب: «إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ».

فهو يعلم بمقدار استيعاب أيّ شخص فيعطيه الرزق وفقاً لمصلحته، فلا يعطيه كثيراً ليطغى، ولا قليلًا فيعيش الضنك من الفقر.

صحيح أنّ الخالق ينزل الرزق بقدر حتى لا يطغي العباد، إلّاأنّه لا يمنعهم أو يحرمهم، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ».

ولماذا

لا يكون هذا: «وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ».

هذه الآية تتحدث عن آيات وعلائم التوحيد في نفس الوقت الذي تبيّن فيه نعمة ولطف الخالق، لأنّ نزول المطر يشتمل على نظام دقيق للغاية ومحسوب.

ولهذه المناسبة- أيضاً- فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهم آيات علم وقدرة الخالق، حيث تقول: «وَمِن ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِّن دَابَّةٍ».

وتقول الآية في نهايتها: «وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ».

والمقصود من جمع الأحياء الذي تذكره هذه الآية، فقد ذكر العديد من المفسّرين أنّه الجمع للحساب وجزاء الأعمال في القيامة.

ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أنّ المقصود من (الجمع) الجانب المقابل ل (بث)، أي أنّ (بث) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثم إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها.

فكما أنّ العديد من الأحياء- (على مدى التاريخ)- انتشرت بشكل عجيب، ثم انقرضت واختفت فيما بعد، كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 386

وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التي تصيبنا.

الآية الاخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: «وَمَا أَصَابَكُم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ».

ثم إنّ هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة، لأنّه «وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ».

تبيّن هذه الآية وبوضوح أنّ فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي.

في جامع الأخبار عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة».

على أيّة حال، فقد يتصوّر البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي، لذا فإنّ آخر آية في هذا البحث تقول: «وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ» «1».

وفي السماء بطريق أولى وكيف

تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أنّ كل عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له. وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: «وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلَا نَصِيرٍ».

وفي الحقيقة فإنّ آخر آية تجسّد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته.

وَ مِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)

______________________________

(1) «معجزين»: من كلمة «إعجاز»، إلّاأنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 387

هبوب الرياح المنتظمة وحركة السفن: مرّة اخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص، وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكّان السواحل، حيث تقول الآية: «وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلمِ».

«جوار»: جمع «جارية» وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار، وعادةً فإنّ الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.

«أعلام»: جمع «علم» تعني الجبل، إلّاأنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شي ء معيّن، مثل (علم الطريق) و (علم الجيش) وما شابه.

أمّا سمّي الجبل بالعلم لأنّه ظاهر من بعيد، وأحياناً كانوا يشعلون النار فوق قمّته حتى تكون مناراً للسائرين.

وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن

يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية- كما في الآيات المتعددة الاخرى- بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات الخالق.

وللتأكيد أكثر تقول الآية: «إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ».

وكإستنتاج تضيف الآية في نهايتها: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكّم بهذه الامور ... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.

«صبّار» و «شكور» صيغتا مبالغة، فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأنّ المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم.

في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر».

مرّة اخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الاخرى: «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا». أي لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي إرتكبها المسافرون.

إلّا أنّه بالرغم من ذلك فإنّ اللطف الإلهي يشمل الإنسان: «وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ».

ونقرأ في الآية (45) من سورة فاطر: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى». «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ». وما لهم من ملجأ سوى ذاته

مختصر الامثل، ج 4، ص: 388

المنزّهة.

«محيص»، مأخوذة من كلمة «حيص» على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما، وبما أنّ (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.

والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول: «فَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْ ءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا».

ولكن «وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».

فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.

في صحيح مسلم: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه ما

الدنيا في الآخرة إلّامثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع»؟

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوَاحِشَ وَ إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.

فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبيّة، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية، وهذه البرامج توضّح اسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.

فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أنّ الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ».

«كبائر»: جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة. وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت عليهم السلام بأنّها: «التي أوجب اللَّه عزّ وجل عليها النار» «1».

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 1/ 175؛ تفسير العياشي 1/ 151؛ ثواب الأعمال/ 197.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 389

وعلى هذا الأساس فإنّ أوّل علائم الإيمان والتوكّل هو الاجتناب عن (الكبائر).

أمّا ثاني صفة، والتي لها طبيعة تطهيرية أيضاً، فهي السيطرة على النفس عند الغضب الذي يعتبر من أشدّ حالات الإنسان حيث تقول الآية: «وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».

فهؤلاء لا يفقدون السيطرة على أنفسهم عند الغضب ولا يرتكبون الجرائم عنده، والأكثر من ذلك غسل قلوبهم وقلوب الآخرين من الحقد بواسطة مياه العفو والغفران.

وهذه الصفة لا تتوفر إلّافي ظل الإيمان الحقيقي والتوكّل على الحق.

في تفسير على بن إبراهيم عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «ومن ملك نفسه إذا

رغب، وإذا رهب، وإذا غضب، حرّم اللَّه جسده على النار».

الآية الاخرى تشير إلى الصفة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة، حيث تقول:

«وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبّهِمْ». «وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ». «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

فالآية السابقة كانت تتحدث عن تطهير النفس من الذنوب والتغلب على الغضب، إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن بناء النفس في المجالات المختلفة، ومن أهمها إجابة دعوة الخالق، والتسليم حيال أوامره.

وتقول الآية بخصوص سابع صفة للمؤمنين الحقيقيين: «وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ». أي: أنّهم إذا تعرّضوا للظلم لا يستسلمون له، بل يطلبون النصر من الآخرين.

فإنّ المظلوم مكلّف بمقاومة الظالم وطلب النصرة، وأيضاً فإنّ المؤمنين مكلّفون بإجابته.

هذا البرنامج الإيجابي البنّاء يحذّر الظالمين من مغبّة ظلم المؤمنين، حيث إنّهم لا يسكتون على ذلك ويقفون بوجوههم، وهو أيضاً يؤمّل المظلومين بأنّ الآخرين سوف ينصرونكم عند استغاثتكم.

ولكن بما أنّ التناصر يجب أن لا يخرج عن حدّ العدل وينتهي إلى الإنتقام والحقد والتجاوز عن الحد، لذا فإنّ الآية التي بعدها اشترطت ذلك بالقول: «وَجَزَاؤُا سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مِّثْلُهَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 390

وعمل الظالم يجب أن يسمى ب (سيّئة) إلّاأنّ جزاءه وعقابه ليس (سيّئة) وإذا وجدنا أنّ الآية عبّرت عن ذلك بالسيئة فبسبب العقاب أليم ومؤذٍ، والألم والأذى بحدّ ذاته (سي ء) بالرغم من أنّ قصاص الظالم ومعاقبته يعتبر عملًا حسناً بحد ذاته.

إنّ هذه العبارة يمكن أن تكون مقدمة للعفو الوارد في الجملة التي بعدها، وكأنّما تريد الآية القول: إنّ العقاب مهما كان فهو نوع من الأذى، وإذا ندم الشخص عندها يستحق العفو.

لذا ففي مثل هذه الموارد ينبغي عليكم العفو، لأنّ «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».

وتقول الآية في نهايتها: «إِنَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ».

فإنّ كلّاً من العفو والعقاب له موقعه الخاص، فالعفو يكون

عندما يستطيع الإنسان الإنتقام، وهذا يسمى العفو البنّاء.

والعقاب والإنتقام والردّ بالمثل يكون عندما يبقى الظالم مستمراً في غيّه وضلاله، والمظلوم لم يثبّت أركان سيطرته بعد، فالعفو هنا يكون من موقع الضعف فيجب الردّ بالمثل.

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الظلم والإنتصار: تعتبر هذه الآيات تأكيداً وتوضيحاً وتكميلًا للآيات السابقة بشأن الإنتصار ومعاقبة الظالم والعفو في المكان المناسب. فأوّلًا تقول الآية: «وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ».

لأنّ الإنتصار وطلب العون من الحقوق الطبيعية لأيّ مظلوم، ونصر المظلومين مسؤولية كل إنسان حر ومتيقظ الضمير.

«إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ». وإضافة إلى عقابهم الدنيوي: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ينتظرهم في الآخرة.

«بغى : تعني في الأصل الجد والمثابرة والمحاولة للحصول على شي ء ما، ولكن كثيراً ما تطلق على المحاولات لغصب حقوق الآخرين، والتجاوز عن حدود وحقوق الخالق، لذا فإنّ للظلم مفهوماً خاصاً وللبغي مفهوماً عاماً يشمل أيّ تعدٍ أو تجاوز للحقوق الإلهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 391

أمّا آخر آية فتشير مرّة اخرى إلى الصبر والعفو، لكي تؤكّد أنّ الإنتقام والعقاب والقصاص من الظالم لا يمنع المظلوم من العفو، حيث تقول: «وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».

عبارة (عزم الامور) إشارة إلى أنّ هذا العمل من الأعمال التي أمر اللَّه بها ولا يمكن أن تنسخ، أو أنّه من الأعمال التي يجب أن يشد الإنسان العزم لها.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا

الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) هل من سبيل للرجعة: الآيات السابقة كانت تتحدث عن الظالمين، أمّا الآيات التي نبحثها فتشير إلى عاقبة هذه المجموعة وجوانب من عقابها.

فهي تعتبرهم من الضالين الذين لا يملكون أيّ وليّ، فتقول: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ».

إنّه لا الهداية ولا الضلالة مفروضة وجبرية، إنّما هما نتيجتان مباشرتان لأعمال الناس.

فأحياناً يقوم الإنسان بعمل معيّن وبسببه يسلب الخالق منه التوفيق ويطمس على قلبه ويمنع عنه نور الهداية ويتركه سابحاً في الظلمات.

ثم تضيف الآية: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ».

ولكن مهما كانت هذه الطلبات فإنّها ستواجه بالرفض، لأنّ العودة غير ممكنة أبداً.

الآية الاخرى تذكر ثالث عقاب لهذه المجموعة حيث تقول: «وَتَرَيهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ».

هذه صورة لحالة شخص يخشى من شي ء أشدّ خشية ولا يريد أن ينظر إليه بعينين مفتوحتين، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتغافل عنه، لذا فهو مجبور على النظر إليه، لكن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 392

بطرف خفي.

أمّا آخر عقاب ذكر هنا، فهو سماع اللوم والتوبيخ الأليم من المؤمنين، كما جاء في آخر الآية: «وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ».

فهل هناك خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه، ثم زوجه، وأبناءه وأقرباءه؟

ونصيبه نار الفراق وهو في داخل العذاب الإلهي؟!

ثم

تضيف: يا أهل المحشر: «أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ».

ومن الضروري الإشارة إلى هذه الملاحظة، وهي أنّ (العذاب الخالد) لهؤلاء الظالمين، يدل على أنّ المقصود هم الكافرون، و الآية التي بعدها تشهد على هذه الحقيقة، حيث تقول:

«وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ اللَّهِ».

ولتأكيد هذا المعنى تقول الآية في نهايتها: «وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ».

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَ إِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَ إِنَاثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) بما أنّ الآيات السابقة ذكرت جانباً من العقاب الأليم الموحش للكافرين والظالمين، فإنّ الآيات أعلاه تحذّر جميع الناس من هذا المصير المشؤوم، وتدعوهم إلى الإستجابة لدعوة الخالق والعودة إلى طريق الحق. فأوّل آية تقول: «اسْتَجِيبُوا لِرَبّكُم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ».

وإذا كنتم تتصورون وجود ملجأ آخر سوى لطفه، وأحداً يحميكم غير رحمته، فإنّكم على خطأ، لأنّ: «مَا لَكُم مّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مّن نَّكِيرٍ».

عبارة «يَوْمٌ لَّامَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» تشير إلى يوم القيامة، وليس إلى يوم الموت. كما أنّ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 393

عبارة (من اللَّه) تشير إلى أنّ أحداً لا يستطيع أن يتخذ قراراً بالعودة قبال أمر الخالق جلّ وعلا.

الآية التي بعدها تخاطب الرسول صلى الله

عليه و آله وتواسيه قائلة: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا». فلا تحزن عليهم لأنّك لست مسؤولًا عن حفظهم من الانحراف.

«إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلغُ» سواء قبلوا بذلك أم لم يقبلوا.

ثم ترسم صورة لحال هذه الجماعة غير المؤمنة والمعرضة عن الحق فتقول: «وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا». ويغفل عن ذكر الخالق: «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ».

فلا النعم الإلهية وشكر المنعم توقظ هذا الإنسان وتجرّه نحو الشكر والمعرفة والطاعة، ولا العقوبات التي تصيبه بسبب الذنوب توقظه من نوم الغفلة، ولا دعوة الرسول تؤثر فيه.

فعوامل الهداية من حيث «التشريع» هي دعوة رسل الخالق، ومن حيث «التكوين» قد تكون النعم وقد تكون المصائب، إلّاأنّ هؤلاء الجهلة ذوي القلوب الميتة لا تؤثّر فيهم أيّ من هذه العوامل.

ثم لبيان حقيقة أنّ أيّ نعمة ورحمة في هذا العالم مصدرها الخالق، ولا يملك الأفراد شيئاً من عندهم، أشارت الآية إلى قضية عامة ومصداق واضح لهذه الحقيقة، حيث تقول: «لِّلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ».

و «نموذج» واضح لهذه الحقيقة وأنّ كل ما موجود هو منه، والأفراد لا يملكون شيئاً من عندهم هو أنّه: «يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا».

وبهذا الترتيب فإنّ الناس يُقسّمون إلى أربع مجاميع: من عنده الأولاد الذكور ويريد البنات، ومن عنده البنات ويريد الذكور، ومن عنده الذكور والإناث، والمجموعة التي تفتقد الأبناء ويأملون ويرغبون فيهم.

«عقيم»: مأخوذة من «عقم» تعني في الأصل الجفاف والتصلب المانع من قبول التأثير، والنساء العقيمات تطلق على اللواتي تكون أرحامهنّ غير مستعدة لتقبّل النطفة ونمو الطفل.

و «اليوم العقيم» يطلق على اليوم الذي ليس فيه سرور وفرح، كما يسمى يوم

القيامة باليوم العقيم بسبب عدم وجود يوم بعد ذلك اليوم يمكن فيه التعويض عن الماضي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 394

إنّ استخدام عبارة (يهب) تعتبر دليلًا واضحاً على أنّ الإناث والذكور من هدايا الخالق وهباته، وليس صحيحاً للمسلم الحقيقي التفريق بين الإثنين.

كما أنّ استخدام عبارة (يزوّجهم) لا تعني التزويج هنا، بل تعني جمع الهبتين (الإناث والذكور) لبعض الناس. وبعبارة اخرى: فإنّ مصطلح (التزويج) يأتي أحياناً بمعنى الجمع بين الأشياء المختلفة أو الأنواع المتعددة، لأنّ (زوج) تعني في الأصل شيئين أو شخصين متقارنين.

وعلى أيّة حال، فإنّ المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في كل شي ء وليس في قضية ولادة الأبناء فحسب، فهو القادر والعليم والحكيم، حيث يقترن علمه بقدرته، لذا فإنّ الآية تقول في نهايتها: «إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ».

وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)

سبب النّزول

في تفسير القرطبي: إنّ اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه و آله: ألا تكلم اللَّه وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنّا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صلى الله عليه و آله: «إنّ موسى لن ينظر إليه». فنزل قوله «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ» الآية.

التّفسير

طرق ارتباط الأنبياء بالخالق: هذه السورة، كما قلنا في بدايتها، تهتم بشكل خاص بقضية الوحي والنبوّة، فهي تبدأ بالوحي وتنتهي به، لأنّ الآيات الأخيرة تتحدث عن هذا الموضوع (أي الوحي). وبما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن النعم الإلهية، لذا فإنّ هذه الآيات تتحدث عن أهمّ نعمة إلهية وأكثرها فائدة لعالم البشرية، ألا وهي قضية الوحي والإرتباط بين الأنبياء والخالق. تقول الآية: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ

أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا». لأنّ الخالق منزّه عن الجسم والجسمانية.

«أَوْ مِن وَرَاىِ حِجَابٍ» كما كان يفعل موسى حيث إنّه كان يتحدث في جبل الطور.

«أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا» كما كان يقوم به جبرائيل الأمين وينزل على الرسول صلى الله عليه و آله:

«فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ».

فلا يوجد طريق آخر سوى هذه الطرق الثلاثة لتحدّث الخالق مع عباده ل «إِنَّهُ عَلِىٌ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 395

حَكِيمٌ». فهو أعلى وأجل من أن يرى أو يتكلم عن طريق اللسان، وكل أفعاله حكيمة، ويتمّ ارتباطه بالأنبياء وفق برنامج.

هذه الآية تعتبر ردّاً على الذين يتصورون- بجهالة- أنّ الوحي يعني مشاهدة الأنبياء للخالق وهم يتكلمون معه.

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَ لَا الْإِيمَانُ وَ لكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) القرآن روح من الخالق: بعد البحث العام الذي ورد في الآية السابقة بخصوص الوحي، تتحدث الآيات التي نبحثها عن نزول الوحي على شخص الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث تقول:

«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا».

والمقصود من كلمة (روح) في هذه الآية هو القرآن الكريم، لأنّه أساس حياة القلوب وحياة جميع الأحياء.

فإنّ الآية تضيف: «مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا». فهذا هو اللطف الإلهي الذي شملك وأنزل عليك هذا الوحي السماوي وآمنت بكل ما يحتويه.

وتضيف الآية في نهايتها: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ».

فالقرآن نور للجميع وليس لك فحسب، وهو وسيلة لهداية البشر إلى الصراط المستقيم.

وقد ورد نفس هذا

المعنى بعبارة اخرى في الآية (44) من سورة فصّلت حيث تقول الآية: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ».

ثم تقول الآية مفسّرة للصراط المستقيم: «صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

أمّا آخر جملة في هذه الآية- وهي آخر آية في سورة الشورى- فهي دليل على أنّ الطريق المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، حيث تقول: «أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 396

هذه الجملة بُشرى للمتقين، وهي في نفس الوقت تهديد للظالمين والمذنبين، لأنّ الجميع سوف يرجعون إلى الخالق.

وهي دليل على أنّ الوحي يجب أن يكون من الخالق فقط، لأنّ جميع الامور ترجع إليه، وتدبير كل شي ء بيده.

وهكذا نرى أنّ بداية ونهاية هذه الآيات منسجمة فيما بينها ومترابطة، ونهاية السورة- أيضاً- يتلاءم مع بدايتها والموضوع العام الساري عليها.

بحث

ماذا كان دين الرسول الأعظم قبل نبوّته: لا يوجد شك في أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يسجد لصنم قبل بعثته أبداً، ولم ينحرف عن خط التوحيد، فتاريخ حياته يعكس بوضوح هذا المعنى، إلّاأنّ العلماء يختلفون في الدين الذي كان عليه:

فأفضل قول هو: لقد كان الرسول صلى الله عليه و آله يملك برنامجاً خاصاً من قبل الخالق وكان يعمل به، وفي الحقيقة فقد كان له دين خاص حتى زمان نزول الإسلام عليه.

والدليل على هذا الكلام الجملة التي ورد في الخطبة (192) في نهج البلاغة، وهو: «ولقد قرن اللَّه به- صلّى اللَّه عليه وآله- من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره».

فوجود مثل هذا الملك يدل على وجود برنامج خاص.

«نهاية تفسير سورة الشورى»

مختصر الامثل، ج 4،

ص: 397

43. سورة الزخرف

محتوى السورة: يمكن تلخيص مباحث هذه السورة في سبعة فصول:

1- في بداية السورة يتحدث عن أهمية القرآن المجيد، ونبوّة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله، ومواجهة المشركين لهذا الكتاب السماوي.

2- يذكر قسماً من أدلة التوحيد في الآفاق، ونعم اللَّه المختلفة على البشر.

3- ثم يكمّل هذه الحقيقة عن طريق محاربة الشرك، ونفي ما ينسب إلى اللَّه عزّ وجل من الأقاويل الباطلة، ومحاربة التقاليد العمياء.

4- وينقل جانباً من قصص الأنبياء الماضين واممهم، وتاريخهم لتجسيد هذه الحقائق. مختصر الامثل ج 4 419

5- ويتعرض إلى مسألة المعاد، وجزاء المؤمنين، ومصير الكفار المشؤوم، ويحذّر المجرمين ويهدّدهم بتهديدات وتحذيرات وإنذارات قوية.

6- ويتناول القيم الباطلة التي كانت ولا تزال حاكمة على أفكار الأشخاص الماديين، ووقوعهم في مختلف الإشتباهات حينما يقيّمون مسائل الحياة ويزنونها بالميزان الدنيوي.

7- وهو فصل المواعظ والنصائح العميقة المؤثّرة حيث يكمل الفصول الاخرى.

وقد أخذ اسم هذه السورة (الزخرف) من الآية (35) منها، والتي تتحدث في القيم المادية.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله: «ومن قرأ سورة الزخرف، كان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 398

ممّن يقال له يوم القيامة: يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، ادخلوا الجنة بغير حساب».

إنّ هذه البشارة العظمى، والفضيلة التي لا تقدّر، لا تحصل بمجرد التلاوة الخالية من التدبر والإيمان والعمل الصالح، لأنّ التلاوة مقدمة للفكر، والإيمان والعمل الصالح ثمرة له.

حم (1) وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَ كَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ

إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) مرّة اخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، وهي حروف «حم». وهذه رابع سورة تبدأ ب (حم).

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثانية، فيقول: «وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ».

قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه، والبيّنة معانيه ومفاهيمه، والظاهرة دلائل صدقه.

ثم يضيف: «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».

إنّ كون القرآن «عربياً»، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق، أو بمعنى فصاحته، لأنّ أحد معاني كلمة «عربي» هو (الفصيح) وهي إشارة إلى أنّا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله، ويدركها الجميع جيداً.

ثم يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات اخرى لهذا الكتاب السماوي فيقول: «وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ».

«الام»: في اللغة تعني أصل كل شي ء وأساسه، وإنّما يقول العرب للأم امّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد، وعلى هذا فإنّ (ام الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماوية. إنّه كتاب علم اللَّه المحفوظ لديه، والذي ادرجت فيه كل حقائق العالم، وكل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 399

حوادث الماضي والمستقبل، وكل الكتب السماوية، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه، إلّاإذا أراد اللَّه سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزّ وجل.

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم اللَّه اللامتناهي، وأصله وأساسه لديه سبحانه، ولهذا يقول في الصفة الثانية: (لعليّ) وفي الثالثة (حكيم).

واعتبر البعض الآخر علوّ القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم.

وفي الآية التالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه فيقول: «أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذّكْرَ صَفْحًا أن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ».

صحيح أنّكم

لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه، إلّاأنّ رحمة اللَّه سبحانه واسعة بحدّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها، ونظل ننزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم، وآياته التي تبعث الحياة فيكم، حتى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإستعداد وتثوب إلى طريق الحق، وهذا هو مقام رحمة اللَّه العامة، أي: رحمانيته التي تشمل العدو والصديق، والمؤمن والكافر.

«الصفح»: في الأصل بمعنى جانب الشي ء وطرفه، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة، وهو في الآية بالمعنى الأوّل. أي: أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر؟

«المسرف»: من الإسراف، وهو تجاوز الحدّ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي صلى الله عليه و آله لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً.

ثم يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل، وتسليةً لخاطر النبي صلى الله عليه و آله وتهديداً للمنكرين المعاندين: «وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِىّ فِى الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مّن نَّبِىّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف اللَّه ورحمته أبداً، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد، ووجود يعمّ عطاؤه كل العباد، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» «1». ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً.

______________________________

(1) سورة هود/ 119.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 400

لكن، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف اللَّه اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته، ولذلك يضيف في الآية التالية: «فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ». فالآية تخاطب النبي صلى الله عليه و آله بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو

نقصان، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة ... كفرعون وآل فرعون.

«البطش»: بمعنى أخذ الشي ء بالقوة، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوة والقدرة أكثر.

والضمير في «مِنْهُم» يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هذَا وَ مَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْأَلُونَ (19) وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ

مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَ قَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَ لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) بعض أدلّة التوحيد: من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد. يقول سبحانه: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم

مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ».

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم- العنكبوت/ 61، لقمان/ 25، الزمر/ 38 والزخرف في الآية التي نبحثها- دليل على كون معرفة اللَّه سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب، ومن جانب آخر يدلّ على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 401

أنّ المشركين كانوا مقرّين بأنّ خالق السماوات والأرض هو اللَّه سبحانه.

ثم يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم اللَّه العظيمة، والتي تعتبر كل منها نموذجاً من نظام الخلقة، وآية من آيات اللَّه سبحانه، فيقول أوّلًا: «الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا».

ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للاستفادة من النعم الاخرى والتنعّم بها.

ثم يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية: «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

إنّا نعلم أنّ التظاريس تعمّ كل اليابسة تقريباً، وفيها الجبال والتلال والهضاب، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإنسان أن يشقّ طريقه من خلالها، وقلّما اتّفق أن تكون هذه الجبال سبباً لإنفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماماً، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة، ومن مواهب اللَّه سبحانه وعطاياه للعباد.

وذكرت الموهبة الثالثة- وهي موهبة نزول المطر، وإحياء الأراضي الميّتة- في الآية التالية: «وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ». من قبوركم يوم البعث.

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات، يشير في المرحلة الرابعة إلى خلق أنواع الحيوانات، فيقول سبحانه: «وَالَّذِى خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا».

إنّ التعبير ب «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة.

ونعلم أنّ قانون الزوجية سنّة حياتية في كل الكائنات الحية، والعيّنات الاستثنائية لا تقدح بجامعية هذا القانون.

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه

السلسلة فيقول سبحانه: «وَجَعَلَ لَكُم مّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ».

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب اللَّه سبحانه للبشر، وكراماته التي منّ بها عليهم، وهي لا تلاحظ في الأنواع الاخرى من الموجودات.

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول: «لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ».

وتذكر آخر آية- من هذه الآيات- قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ يقولون: «وَإِنَّا إِلَى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ».

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد، لأنّ الإنتباه إلى الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإنسان نحو المعاد دائماً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 402

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَ أَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَ يُسْأَلُونَ (19) كيف تزعمون أنّ الملائكة بنات اللَّه: بعد تثبيت دعائم التوحيد بوسيلة ذكر آيات اللَّه سبحانه في نظام الوجود، وذكر نعمه ومواهبه، تتناول هذه الآيات ما يقابل ذلك، أي محاربة الشرك وعبادة غير اللَّه تعالى، فتطرّقت أوّلًا إلى أحد فروعها، أي عبادة الملائكة فقالت:

«وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا».

إنّ التعبير ب «الجزء» يبيّن من جانب أنّ هؤلاء كانوا يعتبرون الملائكة أولاد اللَّه تعالى، لأنّ الولد جزء من وجود الأب

والأمّ، وينفصل عنهما كنطفة تتكوّن وتتلقّح، وإذا ما تلقّحت تَكَوّن الولد من تلك اللحظة. ويبيّن من جانب آخر قبولهم عبادتها، لأنّهم كانوا يظنّون الملائكة جزءاً من الآلهة في مقابل اللَّه سبحانه.

ثم تضيف: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ». فمع كل هذه النعم الإلهية التي أحاطت بوجوده، والتي مرّ ذكر خمس منها في الآيات السابقة، فإنّه بدل أن يطأطي ء رأسه إعظاماً لخالقه، وإجلالًا لولي نعمته، سلك سبيل الكفر واتّجه إلى مخلوقات اللَّه ليعبدها.

في الآية التي بعدها يستثمر القرآن الثوابت الفكرية لدى هؤلاء من أجل إدانة هذا التفكير الخرافي، لأنّهم كانوا يرجّحون جنس الرجل على المرأة، وكانوا يعدّون البنت عاراً- عادةً- يقول تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفكُم بِالْبَنِينَ».

فإذا كان مقام البنت أدنى في اعتقادكم، فكيف ترجّحون أنفسكم وتعلونها على اللَّه، فتجعلون نصيبه بنتاً، ونصيبكم ولداً؟

وتتابع الآية التالية هذا البحث ببيان آخر، فتقول: «وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 403

مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».

والمراد من «بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» هم الملائكة الذين كانوا يعتبرونهم بنات اللَّه، وكانوا يعتقدون في الوقت نفسه أنّها آلهتهم، وأنّها شبيهة به- سبحانه- ومثله.

إنّ لفظة (كظيم) من مادة «كظْم»، وتعني الحلقوم، وجاءت أيضاً بمعنى غلق فم قربة الماء بعد امتلائها، ولذلك فإنّ هذه الكلمة استعملت للتعبير عمّن امتلأ قلبه غضباً أو غمّاً وحزناً، وهذا التعبير يحكي جيّداً عن خرافة تفكير المشركين البله في عصر الجاهليّة فيما يتعلق بولادة البنت، وكيف أنّهم كانوا يحزنون ويغتمّون عند سماعهم بولادة بنت لهم، إلّا أنّهم في الوقت نفسه كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه.

وتضيف في الآية الكريمة: «أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ» «1».

لقد ذكر القرآن هنا صفتين من

صفات النساء غالباً، تنبعثان من ينبوع عاطفتهن، إحداهما: تعلّق النساء الشديد بأدوات الزينة، والاخرى: عدم إمتلاكهن القدرة الكافية على إثبات مرادهن أثناء المخاصمة والجدال لحيائهن وخجلهنّ.

وتذكر الآية الأخيرة- من هذه الآيات- هذا المطلب بصراحة أكثر، فتقول: «وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا».

ثم تجيبهم الآية بصيغة الاستفهام الإنكاري فتقول: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ».

وتضيف في النهاية: «سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسَلُونَ».

وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) لا دليل لهم سوى تقليد الآباء الجاهلين: أعطت الآيات السابقة أوّل جواب منطقي على عقيدة عبدة الأوثان الخرافيّة، حيث كانوا يظنون أنّ الملائكة بنات اللَّه، وتتابع هذه الآيات نفس الموضوع، وتسلك مسالك اخرى لإبطال هذه الخرافة القبيحة، فتتعرض أوّلًا لأحد الأدلّة الواهية لهؤلاء ثم تجيب عليه فتقول: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُم».

______________________________

(1) «ينشّؤا»: من مادة «الإنشاء»، أي إيجاد الشي ء، وهنا بمعنى تربية الشي ء وتنميته؛ و «الحلية»: تعني الزينة؛ و «الخصام»: هو المجادلة والنزاع على شي ء ما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 404

إنّ هذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بالجبر، وأنّ كل ما يصدر منا فهو بإرادة اللَّه، وكل ما نفعله فهو برضاه. وتجيب الآية في النهاية على هذا الاستدلال الواهي لعبدة الأصنام، فتقول: «مَّا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».

إنّ هؤلاء لا علم ولا إيمان لهم حتى بمسألة الجبر أو رضى اللَّه سبحانه عن أعمالهم، بل هم- ككثير من متبعي الهوى والمجرمين الآخرين- يتخذون مسألة الجبر ذريعة لهم من أجل تبرئة أنفسهم من الذنب والفساد، فيقولون:

إنّ يد القضاء والقدر هي التي جرتنا إلى هذا الطريق وحتمته علينا.

«يخرصون»: من «الخرص»، وهو في الأصل بمعنى التخمين، وأطلقت هذه الكلمة أوّلًا على تخمين مقدار الفاكهة، ثم أطلقت على الحدس والتخمين، ولمّا كان الحدس والتخمين يخطي ء أحياناً ولا يطابق الواقع، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً، و «يخرصون» في هذه الآية من هذا القبيل.

وتشير الآية التالية إلى دليل آخر يمكن أن يكونوا قد استدلوا به، فتقول: «أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ». أي: يجب على هؤلاء أن يتمسّكوا بدليل العقل لإثبات هذا الإدّعاء، أو بدليل النقل، في حين لم يكن لهؤلاء دليل لا من العقل ولا من النقل، فإنّ كل الأدلّة العقلية تدعو إلى التوحيد، وكذلك دعا كل الأنبياء والكتب السماوية إلى التوحيد.

وأشارت آخر آية- من هذه الآيات- إلى ذريعتهم الأصلية، وهي في الواقع خرافة لا أكثر، أصبحت أساساً لخرافة اخرى، فتقول: «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ».

لم يكن لهؤلاء دليل إلّاالتقليد الأعمى للآباء والأجداد، والعجيب أنّهم كانوا يظنون أنّهم مهتدون بهذا التقليد، في حين لا يستطيع أي إنسان عاقل حر أن يستند إلى التقليد في المسائل العقائدية والأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفكري، خاصة إذا كان التقليد تقليد «جاهل لجاهل».

وَ كَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 405

تواصل هذه الآيات موضوع الآيات السابقة حول الدليل الأصلي للمشركين في عبادتهم للأصنام، وهو

تقليد الآباء والأجداد، فتقول: إنّ هذا مجرد ادعاء واهٍ من مشركي العرب: «وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ».

إنّ هذه الآية نوع من التسلية لخاطر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمؤمنين ليعلموا أنّ ذرائع المشركين واستدلالاتهم هذه ليست بالشي ء الجديد، إذ إنّ هذا الطريق سلكه كل المنحرفين الضالين على مر التاريخ.

وتبيّن الآية التالية جواب الأنبياء السابقين على حجج هؤلاء المشركين والمنحرفين بوضوح تام، فتقول: «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ».

هذا التعبير هو أكثر التعابير المؤدبة الممكن طرحها أمام قوم عنيدين مغرورين، ولا يجرح عواطفهم أو يمسها مطلقاً.

إنّ مثل هذه التعبيرات القرآنية تعلمنا آداب المحاورة والمجادلة وخاصة أمام الجاهلين المغرورين.

ومع كل ذلك، فإنّ هؤلاء كانوا غرقى الجهل والتعصب والعناد بحيث لم يؤثّر فيهم حتى هذا المقال المؤدب الرقيق، فكانوا يجيبون أنبياءهم بجواب واحد فقط: «قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ».

من البديهي أنّ مثل هؤلاء الأقوام الطاغين المعاندين، لا يستحقون البقاء، وليست لهم أهليّة الحياة، ولابدّ أن ينزل عذاب اللَّه، ولذلك فإنّ آخر آية- من هذه الآيات- تقول:

«فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ». فبعضهم بالطوفان، وآخرون بالزلزلة المدمرة، وجماعة بالعاصفة والصاعقة، وخلاصة القول: إنّا دمّرنا كل فئة منهم بأمر صارم فأهلكناهم.

وأخيراً وجهت الآية الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله من أجل أن يعتبر مشركو مكة أيضاً، فقالت: «فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ» فعلى مشركي مكة المعاندين أن يتوقعوا مثل هذا المصير المشؤوم.

وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ

وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 406

التوحيد كلمة الأنبياء الخالدة: أشارت هذه الآيات إشارة موجزة إلى قصة إبراهيم، وما جرى له مع قوم بابل عبدة الأوثان، لتكمل بذلك بحث ذم التقليد، الذي ورد في الآيات السابقة، وذلك لأنّه:

أوّلًا: إنّ إبراهيم عليه السلام كان الجد الأكبر للعرب، وكانوا يعدونه محترماً ويقدّسونه، ويفتخرون بتأريخه، فإذا كان اعتقادهم وقولهم هذا حقّاً فيجب عليهم أن يتبعوه عندما مزّق حجب التقليد، وإذا كان سبيلهم تقليد الآباء، فلماذا يقلّدون عبدة الأوثان ولا يتّبعون إبراهيم عليه السلام.

ثانياً: إنّ عبدة الأصنام استندوا إلى هذا الاستدلال الواهي- وهو اتّباع الآباء- فلم يقبله إبراهيم منهم أبداً.

ثالثاً: إنّ هذه الآية نوع من التطييب لخاطر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله والمسلمين الأوائل ليعلموا أنّ مثل هذه المخالفات والتوسّلات بالمعاذير والحجج الواهية كانت موجودة دائماً، فلا ينبغي أن يضعفوا أو ييأسوا.

تقول الآية الاولى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ».

ولمّا كان كثير من عبدة الأصنام يعبدون اللَّه أيضاً، فقد استثناه إبراهيم مباشرة فقال:

«إِلَّا الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ».

إنّه عليه السلام يذكر في هذه العبارة الوجيزة دليلًا على انحصار العبوديّة باللَّه تعالى، لأنّ المعبود هو الخالق والمدبر، وكان الجميع مقتنعين بأنّ الخالق هو اللَّه سبحانه، وكذلك أشار عليه السلام في هذه العبارة إلى مسألة هداية اللَّه التكوينية والتشريعية التي يوجبها قانون اللطف.

ولم يكن إبراهيم عليه السلام من أنصار أصل التوحيد، ومحاربة كل أشكال الشرك طوال حياته وحسب، بل إنّه بذل قصارى جهده من أجل ابقاء كلمة التوحيد في هذا العالم إلى الأبد، كما تبيّن ذلك الآية التالية، إذ

تقول: «وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» «1».

والطريف أنّ كل الأديان التي تتحدث عن التوحيد اليوم تستلهم دعوتها وأفكارها من تعليمات إبراهيم عليه السلام التوحيدية، وأنّ ثلاثة من أنبياء اللَّه العظام- وهم موسى وعيسى عليهما السلام

______________________________

(1) «العقب»: في الأصل بمعنى كعب القدم، إلّاأنّ هذه الجملة استعملت فيما بعد في الأولاد وأولاد الأولاد بصورة واسعة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 407

ومحمّد صلى الله عليه و آله- من ذرّيته، وهذا دليل على صدق تنبؤ القرآن في هذا الباب.

والآية التالية جواب عن سؤال وهو: في مثل هذه الحال لِمَ لا يعذّب اللَّه مشركي مكة؟ ألم نقرأ في الآيات السابقة: «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ».

فتقول الآية مجيبة: «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ».

فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النبي العظيم محمّد صلى الله عليه و آله بهدايتهم.

إلّا أنّ العجيب أنّه: «وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ».

وَ قَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَ رَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) لمَ لم ينزل القرآن على أحد الأغنياء: كان الكلام في الآيات السابقة في ذرائع المشركين في مواجهة دعوة الأنبياء، فكانوا يتّهمونهم بالسحر تارة، ويتوسلون تارة أخرى بتقليد الآباء وينبذون كلام اللَّه وراء ظهورهم، وتشير الآيات- مورد البحث- إلى حجّة واهية اخرى من حجج اولئك المشركين، فتقول: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ

مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ». أي: مكة والطائف.

لقد كانوا معذورين بتشبثهم بمثل هذه الذريعة من جهة، إذ كان المعيار في تقييمهم للبشر هو المال والثروة والمقام الظاهري والشهرة.

وهذا هو السبب في بلاء المجتمعات البشرية العظيم، والعامل الأساس في انحرافها الفكري، حيث تقلب الحقائق تماماً في بعض الأحيان.

ويردّ القرآن الكريم بأجوبة قاطعة على هذا النمط من التفكير المتسافل الخرافي، ويجسد النظرة الإلهية الإسلامية تماماً، فيقول: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ». فيمنحوا النبوّة من يشاؤون، وينزلوا عليه الكتاب السماوي.

فضلًا عن ذلك، فإنّ وجود التفاوت والإختلاف بين البشر من ناحية مستوى المعيشة، لا يدلّ على تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنويّة مطلقاً، بل: «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 408

فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا».

لقد نسي هؤلاء أنّ حياة البشر حياة جماعية، ولا يمكن أن تدار هذه الحياة إلّاعن طريق التعاون والخدمة المتبادلة. بناءً على هذا فينبغي أن لا يخدعهم هذا التفاوت، ويظنّوا أنّه معيار القيم الإنسانية، إذ:

«وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ»؛ بل إن كل المقامات والثروات لا تعدل جناح بعوضة في مقابل رحمة اللَّه والقرب منه.

وَ لَوْ لَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) قصور فخمة سُقُفها من فضة! (قيم كاذبة): تستمر هذه الآيات في البحث حول «نظام القيم في الإسلام» وعدم اعتبار كون المال والثروة والمناصب المادية هي المعيار في التقييم، فتقول الآية الاولى: «وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا

مّن فِضَّةٍ».

ولجعلنا لهم بيوتاً لها عدّة طوابق ولها سلالم جميلة «وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ».

ثم تضيف الآية الاخرى: «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكُونَ».

ولم تكتف الآية بهذا، بل استطردت أنّه إضافة إلى كل ذلك فقد جعلنا لهم مباهج وانواع الزينة «وَزُخْرُفًا».

ثم تضيف الآية: «وَإِن كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْأَخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ».

«الزخرف»: في الأصل بمعنى كل زينة مقترنة بالرسم والتصوير، ولما كان الذهب أحد أهم وسائل الزينة، فقد قيل له: زخرف؛ وإنّما قيل للكلام الأجوف الذي لا فائدة فيه: كلام مزخرف، لأنّهم يحيطونه ويلبسونه المزوقات ليصبح مقبولًا.

إنّ هذه الاسس المادية ووسائل الزينة الدنيوية، حقيرة لا قيمة لها عند اللَّه تعالى فلا ينبغي أن تكون إلّامن نصيب الأفراد الذين لا قيمة لهم كالكافرين ومنكري الحق، ولو لم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 409

يتأثر الناس من طلاب الدنيا ويميلوا إلى الكفر لجعل اللَّه تعالى هذه الامور من نصيب هذه الفئة فقط، ليعلم الجميع أنّ هذه الامور ليست هي المعيار والمقياس لشخصية الإنسان وقيمته ومقامه.

ومن هنا يتّضح أنّ وجود جماعة من الكفار والظالمين بهذه القدرة المادية ليس دليلًا على رفعة شخصيتهم، ولا أنّ حرمان المؤمنين منها، أو من التمتع بها في حد المعقول كأدوات للزينة، يضر بإيمانهم وتقواهم، وهذا هو التفكير الإسلامي والقرآني الصحيح.

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) أقران الشياطين: لما كان الكلام

في الآيات السابقة عن عبدة الدنيا الذين يقيّمون كل شي ء على أساس المعايير المادية، فإنّ الآيات- مورد البحث- تتحدث عن أحد الآثار المميتة الناشئة عن الإرتباط بالدنيا والتعلق بها، ألا وهو الإبتعاد عن اللَّه سبحانه. تقول الآية الاولى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «1».

نعم، إنّ الغفلة عن ذكر اللَّه، والغرق في لذات الدنيا، والإنبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدّي إلى تسلط شيطان على الإنسان يكون قرينه دائماً، ويلقي لجاماً حول رقبته يشدّه به، ويجرّه إليه ليذهب به حيث يشاء.

ثم أشارت الآية التالية إلى أمر مهم كانت الشياطين تقوم به في شأن هؤلاء الغافلين، فقالت: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ».

وتزين الشياطين طريق الضلال لهم إلى الحد الذي يظنون: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ».

وهكذا تستمر هذه الحالة على هذا المنوال، فيبقى الإنسان الغافل الجاهل على ضلاله، وتستمر الشياطين في إضلاله، حتى ترفع الحجب، وتنفتح عين رؤيته على الحقيقة: «حَتَّى

______________________________

(1) «نقيّض»: من مادة قيض، وهي في الأصل بمعنى الغشاء الذي يغطي البيضة، ثم جاءت بمعنى جعل شي ء مستولياً على شي ء آخر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 410

إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنَ فَبِئْسَ الْقَرِينُ». نعم، إنّ عرصة القيامة تجسيد واسع لمشاهد هذه الدنيا، والقرين والرفيق والقائد والدليل هنا وهناك واحد، بل إنّهما- برأي بعض المفسرين- يقرنان بسلسلة واحدة.

إلّا أنّ هذا الأمل لا يتحقق مطلقاً، ولا يمكن أن يقع الإفتراق أو البون بين هؤلاء وبين الشياطين، ولذلك فإنّ الآية التالية تضيف: «وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ». فيجب أن تذوقوا عذاب قرين السوء هذا مع أنواع العذاب الاخرى إلى الأبد.

وبهذا فإنّ القرآن الكريم يبدل أمل هؤلاء في الإفتراق عن الشياطين إلى يأس دائم.

ويترك

القرآن هنا هذه الفئة وشأنها، ويوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله ويتحدث عن الغافلين عمي القلوب الذى كذّبوا إرتباطه باللَّه، وهم من جنس من تقدم الكلام عنهم في الآيات السابقة، فيقول: «أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

إنّ القرآن يقول بنوعين من السمع والبصر والحياة للإنسان: السمع والبصر والحياة الظاهرية، والسمع والبصر والحياة الباطنية، والمهم هو القسم الثاني من الإدراك والنظر والحياة، فإنّها إذا تعطلت فلا ينفع حينئذ موعظة وإرشاد، ولا إنذار وتحذير.

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَ اسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن الكفار المعاندين الظالمين الذين لا أمل في هدايتهم، تخاطب هذه الآيات نبي الأكرم صلى الله عليه و آله مهدّدة الكفار أشدّ تهديد من جانب، ومسليّة خاطر النبي صلى الله عليه و آله فتقول: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ».

والمراد من الذهاب بالنبي صلى الله عليه و آله من بين اولئك القوم، وفاته.

ثم تضيف الآية: «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ».

فهم في قبضتنا على أية حال، سواء كنت بينهم أم لم تكن، والعقاب والإنتقام الإلهي حتمي في حقّهم إذا ما استمروا في أعمالهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 411

بعد هذه التحذيرات تأمر الآية النبي صلى الله عليه و آله أن: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». وعدم قبول جماعة من هؤلاء به لا يدل على عدم حقانيتك.

ثم تضيف الآية

الاخرى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ». فإنّ الهدف من نزوله إيقاظ البشر، وتعريفهم بتكاليفهم: «وَسَوْفَ تُسَلُونَ».

ثم تطرّقت الآية الأخيرة إلى نفي عبادة الأصنام وإبطال عقائد المشركين بدليل آخر، فقالت: «وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ».

إشارة إلى أنّ كل أنبياء اللَّه قد دعوا إلى التوحيد، ووقفوا جميعاً ضد الوثنية بحزم، وعلى هذا فإنّ نبي الخاتم صلى الله عليه و آله في مخالفته الأصنام لم يقم بعمل لم يسبقه به أحد، بل أحيا بفعله سنة الأنبياء الأبدية.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَ مَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَ مَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) الفراعنة المغرورون ونقض العهد: في هذه الآيات إشارة إلى جانب ممّا جرى بين نبي اللَّه موسى بن عمران عليه السلام وبين فرعون، ليكون جواباً لمقالة المشركين الواهية بأنّ اللَّه إن كان يريد أن يرسل رسولًا، فلماذا لم يختر رجلًا من أثرياء مكة والطائف لهذه المهمة العظمى؟

قالت الآية الاولى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بَايَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ».

المراد من «الآيات»: المعجزات التي كانت لدى موسى، والتي كان يثبت حقانيته بواسطتها، وكان أهمها العصا واليد البيضاء.

يقول القرآن الكريم في الآية التالية: «فَلَمَّا جَاءَهُم بَايَاتِنَا إِذَا هُم مّنْهَا يَضْحَكُونَ».

وهذا الموقف هو الموقف الأوّل لكل الطواغيت والجهال المستكبرين.

إلّا أنّنا أرسلنا بآياتنا الواحدة تلو الاخرى لإتمام الحجة: «وَمَا نُرِيهِم مّنْ ءَايَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا».

مختصر

الامثل، ج 4، ص: 412

وقد أريناهم بعد معجزتي العصا واليد البيضاء معاجز الطوفان والجراد والقمل والضفادع وغيرها.

ثم تضيف الآية: «وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

إنّ هذه الحوادث وإن كانت تنبه هؤلاء بصورة مؤقتة، فيلجأون إلى موسى، غير أنّهم بمجرد أن تهدأ العاصفة ينسون كل شي ء، ويجعلون موسى غرضاً لسهام أنواع التهم، كما نقرأ ذلك في الآية التالية: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ».

أي تعبير عجيب هذا! فهم من جانب يسمّونه ساحراً، ومن جانب آخر يلجأون إليه لرفع البلاء عنهم، ومن جانب ثالث يعدونه بتقبل الهداية.

إنّ موسى رغم كل هذه التعبيرات اللاذعة والمحقرة لم يكفّ عن السعي لهدايتهم مطلقاً، ولم ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم، بل استمرّ في طريقه، ودعا ربّه مرات كي تهدأ عواصف البلاء، وهدأت، لكنّهم كما تقول الآية التالية: «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ».

كل هذه دروس حيّة وبليغة للمسلمين، وتسلية للنبي صلى الله عليه و آله لكي لا ينثنوا مطلقاً أمام عناد المخالفين وتصلبهم.

وهي أيضاً تحذير للأعداء اللجوجين المعاندين، بأنّهم ليسوا أقوى من فرعون وآل فرعون ولا أشد، فلينظروا عاقبة أمر اولئك، وليتفكروا في عاقبتهم.

وَ نَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) إذا كان نبيّاً فلم لا يملك أسورة من ذهب: لقد ترك منطق موسى عليه السلام

من جهة، ومعجزاته المختلفة من جهة اخرى، وزعزعت أفكار الناس واعتقادهم بفرعون.

هنا أراد فرعون بسفسطته ومغالطته أن يمنع نفوذ موسى عليه السلام عن التأثير في أفكار شعب مصر، كما يذكر ذلك القرآن الكريم حيث يقول: «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 413

مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

وبهذا فقد عظّم فرعون القيم المبتدعة السيئة، وجعل المال والمقام والجاه هي معايير الإنسانية، كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأصنام في عصر الجاهلية في موقفهم أمام نبي الخاتم صلى الله عليه و آله.

ثم يضيف: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ».

وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين- حكومة مصر، وملك النيل- وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.

هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أيّة لكنة في اللسان، لأنّ اللَّه تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى» «1».

ومن المسلّم أنّ دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.

ثم تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: «فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلِكَةُ مُقْتَرِنِينَ».

إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.

أمّا أنبياء اللَّه فإنّهم بطرحهم هذه المسائل- بالذات- جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلّها القيم الإنسانية الأصيلة- أي العلم والتقوى والطهارة- لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه

السعادة أبداً.

وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إنّ فرعون لم يكن غافلًا عن واقع الأمر تماماً، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلّاأنّه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ».

إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإبقاء على الناس في مستوى متردٍ من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، لأنّ يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة.

والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة: «إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ» إشارة إلى أنّ

______________________________

(1) سورة طه/ 27.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 414

هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة اللَّه عزّ وجل وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها.

نعم، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً. كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول اللَّه موسى عليه السلام، لكنّنا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسلموا للحق. تقول الآية: «فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ». فقد اختار اللَّه سبحانه لهؤلاء عقوبة الإغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأنّ كل عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوّته، إذ قال: «أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى».

نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون.

«آسفونا»: من مادة «الأسف»، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب.

والطريف أنّ غضب اللَّه يعني «إرادة العقاب»، ورضاه يعني «إرادة الثواب».

وتقول الآية الأخيرة

كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مرّ من كلام: «فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْأَخِرِينَ».

«السلف»: في اللغة يعني كل شي ء متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة: سلف، وللأجيال الآتية: خلف، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً» لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل؛ و «المَثَل»: يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَ قَالُوا أَ آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَ اتَّبِعُونِ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 415

سبب النّزول

في جامع البيان: جلس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فعرض له النضر بن الحارث، وكلّمه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: «إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ ءَالِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ» [أنبياء 98 و 99]. ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأقبل عبداللَّه بن الزبعري بن قيس بن عدي السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبداللَّه الزبعري:

واللَّه ما قام النضر بن الحارث

لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبداللَّه بن الزبعري: أما واللَّه لو وجدته لخصمته، فسلوا محمّداً: أكل من عبد من دون اللَّه في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد اللَّه الزبعري (ورأوا أنّه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله من قول عبداللَّه بن الزبعري، فقال) رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نعم كل من أحبّ أن يعبد من دون اللَّه فهو مع من عبده، إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرهم بعبادته» «1».

فأنزل اللَّه تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ...» أنبياء 101 و 102. أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللَّه تعالى ونزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة وأنّها بنات اللَّه «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا ...» أنبياء 26- 29 والآيات بعدها. ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ...» الزخرف 57 و 58 «2».

التّفسير

أي الآلهة في جهنم: تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح عليه السلام، ونفي مقولة المشركين بالوهيته والوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النبي صلى الله عليه و آله وكل مشركي العالم. تقول الآية الاولى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» «3».

______________________________

(1) جامع البيان 17/ 127.

(2) البداية والنهاية 3/ 110.

(3) «يصدّون»: من مادة «صد»، تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يداً

بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. (يراجع لسان العرب، مادة: صدد).

مختصر الامثل، ج 4، ص: 416

إنّ المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما يتعلق بالأصنام، لأنّا نقرأ في الآيات التالية: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا». إنّ المشركين قالوا أنّ عيسى بن مريم قد كان معبوداً، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شي ء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا.

ثم استمرّوا: «وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ». فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.

ولكن، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة، و «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».

بل: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنهُ مَثَلًا لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ».

لقد كان عيسى مقرّاً طوال حياته بالعبودية للَّه، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه، ولمّا كان موجوداً في امته لم يسمح لأحد بالانحراف عن مسير التوحيد، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده.

ولئلا يتوهموا أنّ اللَّه سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: «وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلِكَةً فِى الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ». ملائكة تخضع لأوامر اللَّه، ولا تعرف عملًا إلّاطاعته وعبادته.

والآية التالية تشير إلى خصيصة اخرى من خصائص المسيح عليه السلام وتقول: إنّ عيسى سبب العلم بالساعة «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ». إمّا أنّ ولادته من غير أب دليل على قدرة اللَّه اللامتناهية، فتحل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة نزول المسيح عليه السلام من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.

ثم تقول الآية بعد ذلك: إنّ قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: «فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا» لا من حيث الإعتقاد بها ولا من حيث الغفلة

عنها.

«وَاتَّبِعُونَ هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ» وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!

إلّا أنّ الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإرتباط بها، فاحذروا: «وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ».

لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم- آدم وحواء-

مختصر الامثل، ج 4، ص: 417

وإخراجهما من الجنة، واخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم، إلّاالمخلَصين منهم.

وَ لَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) مرّت الإشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح عليه السلام في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث. تقول الآية أوّلًا: «وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ».

إنّ «الحكمة» اطلقت على كل العقائد الحقة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإنسان من أنواع الانحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإنّ للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل «الحكمة العلمية» و «الحكمة العملية».

ولهذه الحكمة- إضافة إلى ما مرّ- هدف آخر، وهو رفع الاختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح عليه السلام يؤكّد على هذه المسألة.

وتضيف الآية في النهاية: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ».

بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ».

وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.

وللتأكيد أكثر يضيف: «فَاعْبُدُوهُ». إذ لا يستحق

العبادة غيره، ولا تليق إلّابه، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.

ثم يؤكّد كلامه بجملة اخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة، فيقول: «هذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ».

نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية للَّه سبحانه ... ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا إعوجاج.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 418

لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ».

فالبعض ذهب إلى أنّه الرب الذي نزل إلى الأرض.

وبعض آخر اعتبره ابن ربّه.

وآخرون بأنّه أحد الأقانيم الثلاثة (الذوات المقدسة الثلاثة: الأب، والابن، وروح القدس).

وهناك فئة قليلة فقط هم الذين اعتبروه عبداللَّه ورسوله، غير أنّ عقيدة الأغلبية هي التي هيمنت، وعمت مسألة التثليث والآلهة الثلاثة عالم المسيحية.

وهددهم اللَّه سبحانه في نهاية الآية بعذاب يوم القيامة الأليم، فقال: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ».

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ماذا تنتظرون غير عذاب الآخرة: كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول عبدة الأوثان العنودين، وكذلك حول المنحرفين والمشركين في امّة عيسى عليه السلام، والآيات مورد البحث تجسد عاقبة أمرهم. يقول تعالى: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ».

في الدرّ المنثور قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «تقوم الساعة والرجلان يحلبان اللقحة، والرجلان يطويان الثوب». ثم قرأ: «هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ».

ثم رفعت الآية الغطاء عن حالة الأخلاء الذين يودّ بعضهم بعضاً، ويسيرون معاً في طريق المعصية والفساد، والإغترار بزخارف الدنيا، فتقول: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ

إِلَّا الْمُتَّقِينَ» «1».

______________________________

(1) «الأخلاء»: جمع «خليل»- من مادة خلة- بمعنى المودّة والمحبّة، وأصلها من الخلل أي الفاصلة بين جسمين، ولما كانت المحبّة والصداقة كأنّها تنفذ في أعماق القلب وثناياه، فقد استعملت فيها هذه الكلمة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 419

إنّ تبدل مثل هذه المودّة إلى عداوة في ذلك اليوم أمر طبيعي، لأنّ كلًا منهم يرى صاحبه أساس تعاسته وسوء عاقبته.

أمّا المتقين تبقى روابط أخوتهم، وأواصر مودّتهم خالدة، لأنّها تدور حول محور القيم والمعايير الخالدة، وتتّضح نتائجها المثمرة في عرصة القيامة أكثر، فتمنحها قوّة إلى قوّتها.

والآية التالية تبيان لأوصاف المتقين وأحوالهم، وبيان لعاقبتهم التي تبعث على الفخر والإعتزاز في ذلك اليوم العصيب. يقول لهم اللَّه تعالى: «يَا عِبَادِ لَاخَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ».

كم هو جميل هذا النداء! نداء مباشر من اللَّه سبحانه من دون واسطة توصله ... نداء يبدأ بأحسن الصفات: يا عبادي! نداء يزيل قلق الإنسان في يوم ليس فيه إلّاالقلق والاضطراب ... نداء يطهر القلب من غم الماضي وحزنه، وينقيه ... نعم، لهذا النداء هذه المزايا الأربعة المذكورة.

وتبيّن آخر آية- من هذه الآيات- هؤلاء المتقين والعباد المكرمين بصورة أكثر وضوحاً، بذكر جملتين اخريين، فتقول: «الَّذِينَ ءَامَنُوا بَايَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ».

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوَابٍ وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: تبيّن هذه الآيات جزاء عباد اللَّه المخلصين، والمؤمنين الصالحين الذين مرّ وصفهم في الآيات السابقة، وتبشرهم بالجنة الخالدة مع ذكر سبع نعم من نعمها النفيسة الغالية. تقول أوّلًا:

«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ». وبذلك فإنّ مضيفهم الحقيقي هو اللَّه تعالى الذي يدعو ضيوفه ويقول لهم: ادخلوا الجنة.

ثم أشارت إلى أوّل نعمة من تلك النعم، فقالت: «أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ». ومن الواضح أنّ كون المؤمنين الرحماء إلى جانب زوجاتهم المؤمنات يمنحهما معاً اللذة والسرور، فإذا كانا شريكين في همّ الدنيا، فإنّهما سيكونان شريكين في سرور الآخرة ونشوتها.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 420

مختصر الامثل ج 4 449

ثم تضيف: «تُحْبَرُونَ».

«تحبرون»: من مادة «حِبْر» أي الأثر المطلوب، وتطلق أحياناً على الزينة وآثار الفرح التي تظهر على الوجه.

وتقول في بيان النعمة الثالثة: «يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ». فهم يضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والإطمئنان والصفاء.

«الصحاف»: جمع «صحفة»، وهي في الأصل من مادة «صحف»، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب جمع كوب، وهي أقداح الماء التي لا عروة لها.

وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين اخريين جمعت فيهما كل نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: «وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ».

وعلى قول الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان: وقد جمع اللَّه سبحانه بقوله «مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.

ولما كانت قيمة النعمة في كونها خالدة، فقد طمأنت الآية أصحاب النعيم من هذه الجهة عندما ذكرت الصفة السادسة فقالت: «وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ». لئلّا يكدر التفكير في زوال هذه النعمة صفو عيشهم ولذّتهم، فيقلقوا من المستقبل وما يخبئه.

وهنا، من أجل أن يتّضح أنّ كل نعم الجنة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

أي أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلّاأنّ ما تحصلون عليه

إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشي ء المجاني المعطى من قبل اللَّه تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.

والكلام في النعمة السابعة والأخيرة في ثمار الجنة التي هي من أفضل نعم اللَّه، فتقول الآية: «لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ».

وجاء في الحديث: «لا ينزع رجل في الجنة ثمرة من ثمرها إلّانبت مثلاها مكانها» «1».

______________________________

(1) تفسير روح البيان 8/ 392.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 421

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ بَلَى وَ رُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) نتمنى أن نموت لنستريح من العذاب: لقد فصّلت هذه الآيات القول في مصير المجرمين والكافرين في القيامة، ليتّضح الفرق بينه وبين مصير المؤمنين- المطيعين لأمر اللَّه- المشرف السعيد من خلال المقارنة بين المصيرين. تقول الآية الاولى: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ».

«المجرم»: من مادة «جرم»، وهو في الأصل بمعنى القطع الذي يستعمل في قطع الثمار من الشجرة- أي القطف- وكذلك في قطع نفس الشجرة، إلّاأنّه استعمل فيما بعد في القيام بكل عمل سي ء، وربّما كان سبب هذا الاستعمال هو أنّ هذه الأعمال تفصل الإنسان عن ربّه وعن القيم الإنسانية، وتبعده عنهما.

والمراد هنا هم المجرمون الذين اتخذوا سبيل الكفر سبيلًا لهم.

ولما كان من الممكن أن يخفف العذاب الدائمي بمرور الزمان، وتقل شدته تدريجياً، فإنّ الآية التالية تضيف: «لَايُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ».

إنّ هاتين الآيتين قد أكدتا على ثلاث مسائل: مسألة الخلود، وعدم تخفيف

العذاب، والحزن واليأس المطلق، وما أشد العذاب الذي تمتزج فيه هذه الامور الثلاثة وتجتمع.

وتنبه الآية التالية إلى أنّ هؤلاء هم الذين أرادوا هذا العذاب الأليم، واشتروه بأعمالهم وبظلمهم لأنفسهم، فتقول: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ».

إنّ القرآن يرى ارادة الإنسان وأعماله السبب الأساسي لكل سعادة أو شقاء، لا المسائل الظنية والوهمية التي اصطنعها البعض لأنفسهم.

ثم تطرقت الآية إلى بيان جانب من مذلة هؤلاء ومسكنتهم، فقالت، «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ».

فمع أنّ كل امرى ء يهرب من الموت ويريد استمرار الحياة وبقاءها، إلّاأنّه عندما تتوالى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 422

عليه المصائب أحياناً ويضيق عليه الخناق يتمنّى على اللَّه الموت، وإذا كانت هذه الأمنية قد تحدث أحياناً لبعض الناس في الدنيا، فإنّها تعمّ جميع المجرمين هناك، فكلّهم يتمنى الموت. ولكن حيث لا فائدة من ذلك، فإنّ مالك النار وخازنها يجيبهم: «قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ» «1».

وتقول الآية الاخرى، وهي تشير إلى علّة خلود هؤلاء في نار جهنم: «لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلّحَقّ كَارِهُونَ».

وللتعبير «بالحق» معنى واسع يشمل كل الحقائق المصيرية، وإن كانت مسألة التوحيد والمعاد والقرآن تأتي في الدرجة الاولى.

وهذا التعبير يشير إلى أنّكم لم تخالفوا الأنبياء فحسب، وإنّما خالفتم الحق في الواقع، وهذه المخالفة هي التي ساقتكم إلى العذاب الخالد الأبدي.

وتعكس الآية التالية جانباً من كراهية هؤلاء للحق واشمئزازهم منه، وكذلك مناصرتهم للباطل والتمسك به، فتقول: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ».

فقد حاك هؤلاء الأشرار الدسائس ودبّروا المؤمرات لإطفاء نور الإسلام، وقتل النبي صلى الله عليه و آله ولم يتورعوا في إنزال الضربات بالإسلام والمسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

وفي المقابل أردنا أن نجازي هؤلاء في هذه الحياة الدنيا، وفي الآخرة بأشد العذاب.

و الآية الاخرى بيان لإحدى علل

التآمر، فتقول: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَانَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَيهُم».

فإنّ الأمر ليس كذلك، إذ نحن نسمع ورسلنا: «بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ».

«السر»: هو ما يضمره الإنسان في قلبه، أو ما يودعه من أسراره لدى إخوانه وأصدقائه؛ و «النجوى»: هي الهمس في الاذن.

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَ تَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

______________________________

(1) «ماكثون»: من مادة «مكث»، وهو في الأصل التوقف المقترن بالإنتظار، وربّما كان هذا التعبير من مالك استهزاءً، كما نقول- أحياناً- لمن يطلب شيئاً لا يستحقه انتظر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 423

لما كان البحث في الآيات السابقة- وخاصة في بداية السورة- عن مشركي العرب واعتقادهم بأنّ للَّه ولداً، وأنّهم كانوا يظنون الملائكة بنات اللَّه، ولما مر البحث في عدة آيات مضت عن المسيح عليه السلام ودعوته إلى الوحدانية الخالصة والعبودية للَّه وحده، فقد ورد البحث في هذه الآيات في نفي هذه العقائد الفاسدة عن طريق آخر. تقول الآية: «قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ».

وعلى هذا، فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: لو كان للَّه ولد لبادرت قبلكم إلى احترامه وتعظيمه، ليطمئن هؤلاء من إستحالة أن يكون للَّه ولد.

بعد هذا الكلام ذكرت الآية دليلًا واضحاً على نفي هذه الإدعاءات، فقالت: «سُبْحَانَ رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ رَبّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ». فإنّ من كان مالكاً للسماوات والأرض ومدبراً لها، وربّاً للعرش العظيم، لا يحتاج إلى الولد.

ثم تضيف الآية الاخرى

كاحتقار لهؤلاء المعاندين وتهديد لهم، وهو بحد ذاته أسلوب آخر من أساليب البحث مع أمثال هؤلاء الأفراد: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ».

إنّه نفس اليوم الموعود الذي أقسم اللَّه تعالى به في الآية (2) من سورة البروج، حيث تقول الآية: «وَالْيَوْمِ الْمُوعُودِ».

وتواصل الآيتان التاليتان البحث حول مسألة التوحيد، وهما تشكلان نتيجة للآيات السابقة من جهة، ومن جهة اخرى دليلًا لتكملتها وإثباتها، وفيهما سبع من صفات اللَّه سبحانه، ولجميعها أثر في تحكيم وتقوية مباني التوحيد.

فتقف الآية الاولى بوجه المشركين الذين كانوا يعتقدون بانفصال إله السماء عن إله الأرض، بل ابتدعوا للبحر إلهاً، وللصحراء إلهاً وآخر للحرب، ورابعاً للصلح والسلم، وآلهة مختلفة ومتعددة بتعدد الموجودات، فتقول: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلهٌ».

وتقول في الصفتين الثانية والثالثة: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ». فكلّ أعماله تقوم على أساس الدقّة والحساب والنظم، وهو عليم بكل شي ء ومحيط به، وبذلك فإنّه يعلم أعمال العباد جيداً، ويجازيهم عليها طبقاً لحكمته.

وتتحدث الآية الثانية في الصفتين الرابعة والخامسة، بركات وجوده الدائمة الوفيرة، وعن امتلاكه السماء والأرض وما بينهما، فتقول: «تَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 424

وَمَا بَيْنَهُمَا». «تبارك»: من مادة «بركة»، وتعني امتلاك النعمة الوفيرة، أو الثبات والبقاء، أو كليهما، وكلاهما يصدقان في شأن اللَّه تعالى. وتضيف في الصفتين السادسة والسابعة: «وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».

وعلى هذا فإذا أردتم الخير والبركة فاطلبوها منه لا من الأصنام، فإنّ مصائركم إليه يوم القيامة، وهو المرجع الوحيد لكم، وبيده كل شي ء.

وَ لَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ

هؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) من يملك الشفاعة: لا زال الحديث في هذه الآيات- وهي آخر آيات سورة الزخرف- حول إبطال عقيدة الشرك وتفنيدها، وعاقبة المشركين المُرّة، وهي توضح بطلان عقيدتهم بدلائل اخرى. تقول الآية الاولى: «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ».

ولمّا كانت الملائكة وأمثالها من بين آلهة هؤلاء، فقد استثنوا في ذيل الآية، فقالت: «إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقّ».

لكن ليس الأمر كما تتوهمون أنّهم يشفعون لأي كان، حتى وإن كان وثنياً ومشركاً ومنحرفاً عن طريق التوحيد وضالًا عن الصراط المستقيم، بل «وَهُمْ يَعْلَمُونَ». جيداً لمن يشفعون.

ثم تدين المشركين من أفواههم، وتجيبهم جواباً قاطعاً، فتقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ».

إنّ من النادر أن يوجد من بين مشركي العرب وغيرهم من يعتقد أنّ الأصنام هي الخالقة لهم، فإنّ الأعم الأغلب منهم يعتبرون الأصنام وسائط وشفعاء يقربونهم إلى اللَّه زلفى، أو أنّها دلائل وعلامات لأولياء اللَّه المقدسين، ثم يضمون إليها ذريعة أن معبودنا يجب أن يكون موجوداً ملموساً ومحسوساً لنأنس به، فيعبدونها، ولذا فإنّهم متى ما سئلوا عن خالقهم فسيقولون: اللَّه. ولذلك فإنّ الآية تقول في نهايتها: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ». وهو لوم وتوبيخ لهم ... فإنّكم إذا علمتم حقيقة الأمر فلم تعرضون عن اللَّه وتعبدون غيره؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 425

وتحدثت الآية التالية عن شكوى النبي صلى الله عليه و آله إلى اللَّه سبحانه من هؤلاء القوم المتعصبين الذين لا منطق لديهم، فقالت: «وَقِيلِهِ يَا رَبّ إِنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّايُؤْمِنُونَ».

إنّه يقول: لقد تحدثت مع هؤلاء القوم ليلًا ونهاراً، فأتيتهم من طريق التبشير والإنذار، وذكرت لهم قصص الأقوام الماضين المؤلمة، إلّاأنّ حرارة كلامي لم تؤثر في برودة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشدّ

قسوة، فلم يؤمنوا.

ويأمر اللَّه سبحانه نبيّه في آخر آية أن «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» ولا يكن إعراضك عنهم إعراض افتراق وغضب وأذى وجرح للمشاعر، بل أعرض عنهم «وَقُلْ سَلمٌ» لا سلام تحيّة ومحبّة، بل سلام وداع وافتراق.

إنّ هذا السلام يشبه ذلك السلام الذي ورد في الآية (63) من سورة الفرقان: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا». سلام هو علامة اللامبالاة بهم ممتزجةً بالعلوّ والعزة.

ومع ذلك فإنّه تعالى يهددهم ويحذرهم بجملة عميقة المعنى، لئلا يتصوروا أنّ اللَّه تاركهم بعد هذا الفراق والوداع، فيقول: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ».

نعم، سوف يعلمون أي نار محرقة قد أوقدوها لأنفسهم بعنادهم، وأي عذاب أليم قد هيأوا أسبابه ليطالهم فيما بعد؟

«نهاية تفسير سورة الزخرف»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 427

44. سورة الدخان

محتوى السورة: يمكن تلخيص فصول هذه السورة في سبعة:

1- بداية السورة بالحروف المقطعة، ثم بيان عظمة القرآن، مع تبيان نزوله في ليلة القدر أوّل مرة.

2- وتتحدث عن التوحيد ووحدانية اللَّه سبحانه، وبيان بعض مظاهر عظمته في عالم الوجود.

3- ويتحدث عن مصير الكفار وعاقبتهم، وأنواع العقوبات الأليمة التي نزلت وستنزل بهم.

4- وتتحدث عن قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل مع قوم فرعون، وهزيمة قوم فرعون وهلاكهم وفنائهم، من أجل إيقاظ هؤلاء الغافلين.

5- وتشكل مسألة القيامة وأنواع العذاب الأليم الذي سينال أصحاب الجحيم، والمثوبات العظيمة التي تسر الروح، والتي سينالها المتقون.

6- ومن المواضيع الاخرى التي طرحت في هذه السورة موضوع الغاية من الخلق، وعدم كون خلق السماء والأرض عبثاً.

7- وأخيراً تنتهي السورة ببيان عظمة القرآن الكريم كما بدأت بذلك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 428

ولمّا كان الكلام في الآية العاشرة من هذه السورة عن «الدخان المبين»، فقد سميت بسورة الدخان.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله

قال: «ومن قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة ويوم الجمعة بنى اللَّه له بيتاً في الجنة».

وروى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه ونوافله بعثه اللَّه من الآمنين يوم القيامة، وأظلّه تحت ظلّ عرشه، وحاسبه حساباً يسيراً، واعطي كتابه بيمينه».

حم (1) وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) نزول القرآن في الليلة المباركة: نلاحظ في بداية هذه السورة- وكالسور الأربعة السابقة، والسورتين الآتيتين، والتي يكون مجموعها سبع سور هي سور الحواميم- الحروف المقطعة «حم».

إنّ بعض المفسرين فسّر (حم) هنا بالقسم، فيصبح في الآية قَسمان متتابعان: قسم بحروف الهجاء ك (حم)، وقسم بهذا الكتاب المقدس الذي يكون من هذه الحروف.

وكما قلنا، فإنّ الآية الثانية أقسمت بالقرآن الكريم، حيث تقول: «وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ».

لكن لنَر الآن ما هو القصد من وراء ذكر هذا القسم؟ الآية التالية توضح هذا الأمر، فتقول: «إِنَّا أَنزَلْنهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ».

لقد فسّرها أغلب المفسرين بليلة القدر، تلك الليلة العظيمة التي تغيرت فيها مقدرات البشر بنزول القرآن الكريم ... تلك الليلة التي تقدر فيها مصائر الخلائق.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ظاهر الآية هو أنّ القرآن كلّه قد نزل في ليلة القدر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 429

أمّا ما هو الهدف الأساس من نزوله؟ نهاية الآية أشارت إليه إذ قالت: «إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ». فإنّ سنتنا الدائمة هي إرسال الرسل لإنذار الظالمين والمشركين،

وكان إرسال نبي الخاتم صلى الله عليه و آله بهذا الكتاب المبين آخر حلقة من هذه السلسلة المباركة المقدسة.

والآية التالية وصف وتوضيح لليلة القدر، حيث تقول: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ».

التعبير ب (يفرق) إشارة إلى أنّ كل الامور والمسائل المصيرية تقدر في تلك الليلة؛ والتعبير ب «الحكيم» بيان لاستحكام هذا التقدير، وعدم تغيره، وكونه حكيماً.

وهذا البيان ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول: إنّ مقدرات بني آدم بأجمعهم لمدّة سنة تقدر في ليلة القدر، وكذلك تفرق الأرزاق والآجال والامور الاخرى في تلك الليلة.

وتقول الآية الاخرى لتأكيد أنّ القرآن منزل من قبل اللَّه تعالى: «أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ».

ولأجل تبيان العلة الأساسية لنزول القرآن وإرسال النبي صلى الله عليه و آله وكون المقدرات في ليلة القدر، تضيف الآية: «رَحْمَةً مّن رَّبّكَ».

نعم، فإنّ رحمته التي لا تُحدّ توجب أن لا يترك العباد وشأنهم، بل يجب أن ترسل إليهم التعليمات اللازمة لترشدهم في سيرهم إلى اللَّه.

وتذكر نهاية هذه الآية- والآيات التالية- سبع صفات للَّه سبحانه، وكلّها تبين توحيده ووحدانيته، فتقول: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

فهو يسمع طلبات العباد، وهو عليم بأسرار قلوبهم.

ثم تقول مبينة للصفة الثالثة: «رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ».

لما كان كثير من المشركين يعتقدون بوجود آلهة وأرباب عديدين، وكانوا يظنون أنّ لكل موجود من الموجودات إله، فإنّ هذه الآية أبطلت كل هذه الأوهام بجملة: «رَبّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا». وأثبتت أنّ ربّ كل موجودات العالم واحد.

وتقول في الصفة الرّابعة والخامسة والسادسة: «لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ». فحياتكم ومماتكم بيده، وهو سبحانه ربّكم وربّ العالمين، وعلى هذا فلا إله سواه، أوَ يكون من ليس له مقام الربوبية ولا أهليتها، ولا يملك الحياة والموت ربّاً ومبعوداً؟!

وتضيف في

الصفة السابعة: «وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 430

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) لما كان الكلام في الآيات السابقة في أنّ هؤلاء إن كانوا طلّاب يقين، فإنّ سبل تحصيله كثيرة، وتضيف أوّل آية من هذه الآيات: «بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ» فإنّ شك هؤلاء في حقانية هذا الكتاب السماوي وفي نبوّتك، ليس نابعاً من كون المسألة معقدة صعبة، بل من عدم جديتهم في التعامل معها.

ثم انتقلت الآية التالية إلى تهديد هؤلاء المنكرين المعاندين المتعصبين، في الوقت الذي وجهت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله فقالت: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغشَى النَّاسَ هذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

إنّ المراد من «الدخان المبين» هو ذلك الدخان الغليظ الذي سيغطي السماء في نهاية العالم، وعلى أعتاب القيامة، فهو علامة لحلول اللحظات الأخيرة لهذه الدنيا، وبداية عذاب اللَّه الأليم للظالمين والمفسدين.

عند ذلك سيعم الخوف والاضطراب كل وجودهم، وتزول الحجب من أمام أعينهم، فيقفون على خطئهم الكبير، ويتجهون إلى اللَّه تعالى بالقول: «رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ».

إلّا أنّ اللَّه عزّ وجل يرفض طلب هؤلاء ويقول: «أَنَّى لَهُمُ الذّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ». رسول كان واضحاً في نفسه وتعليماته وبرامجه وآياته ومعجزاته، ومبيناً لها جميعاً.

غير أنّ هؤلاء بدل أن يذعنوا له، ويؤمنوا باللَّه الواحد الأحد، ويتقبلوا أوامره بكل وجودهم، أعرضوا عن النبي صلى الله عليه و آله:

«ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ».

ثم تضيف الآية التالية: «إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ».

ويقول سبحانه في آخر آية من هذه الآيات: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ».

«البطش»: هو تناول الشي ء بصولة، وهنا بمعنى الأخذ للإنتقام الشديد، ووصف البطشة بالكبرى إشارة إلى العقوبة الشديدة التي تنتظر هذه الفئة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 431

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول تمرد مشركي العرب وعدم إذعانهم للحق، تشير هذه الآيات إلى نموذج من الأمم الماضية التي سارت في نفس هذا المسير، وابتليت أخيراً بالعذاب الأليم والهزيمة النكراء، ليكون ذلك تسلية للمؤمنين، وتحذيراً للمنكرين المعاندين. وذلك النموذج هو قصة موسى وفرعون، حيث تقول الآية: «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ».

«فتنّا»: من مادة «فتنة»، وهي في الأصل تعني وضع الذهب في فرن النار لتخليصه من الشوائب، ثم أطلقت على كل امتحان واختبار يجري لمعرفة نسبة خلوص البشر.

ثم تضيف الآية: «وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ».

لقد خاطبهم موسى عليه السلام باسلوبه المؤدب جدّاً، الملي ء بالود والمحبة، فقال: «أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ».

وطبقاً لهذا التفسير، فإنّ «عِبَادَ اللَّهِ» بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلّاأنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق.

بناء على هذا، فإنّ المراد من «أَدُّوا» إطاعة أمر اللَّه سبحانه وتنفيذ

أوامره.

ثم يقول لهم موسى عليه السلام بعد أن دعاهم إلى طاعة اللَّه سبحانه، أو إطلاق سراح بني إسرائيل وتحريرهم: إنّ مهمّتي الاخرى أن أقول لكم: «وَأَن لَّاتَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنّى ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ» معجزاته بينة، وأدلته منطقية واضحة.

ولما كان المستكبرون وعبيد الدنيا لا يدعون أي تهمة وافتراء، إلّاوألصقوهما بمن يرونه مخالفاً لمنافعهم ومصالحهم اللامشروعة بل لا يتورعون حتى عن قتله وإعدامه، لذا فإنّ موسى عليه السلام يضيف للحد من مسلكهم هذا: «وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ».

وتخاطب الآية الأخيرة هؤلاء القوم فتقول: «وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 432

لأنّ موسى عليه السلام كان واثقاً من نفوذه بين أوساط الناس، ومختلف طبقاتهم، بامتلاكه تلك المعجزات الباهرات، والأدلة القوية، والسلطان المبين.

فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) لقد استخدم موسى عليه السلام كل وسائل الهداية للنفوذ إلى قلوب هؤلاء المجرمين الظلمة، إلّا أنّها لم تؤثر فيهم أدنى تأثير، وطرق كل باب ولكن ما من مجيب. لذلك يئس منهم، ولم ير لهم علاجاً إلّالعنهم والدعاء عليهم، لأنّ الفاسدين الذين لا أمل في هدايتهم لا يستحقون الحياة في قانون الخلقة، بل يجب أن ينزل عليهم عذاب اللَّه ويجتثهم ويطهر الأرض من دنسهم. لذلك تقول الآية الاولى من هذه الآيات: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ».

وقد استجاب اللَّه سبحانه دعاءه، وكمقدمة لنزول العذاب على الفراعنة، ونجاة بني إسرائيل

منهم، أمر موسى عليه السلام أن «فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ».

لكن لا تقلق من ذلك، فيجب أن يتبعكم هؤلاء ليلاقوا المصير الذي ينتظرهم.

إنّ ما حذف هنا من أجل الاختصار وُضّح في آيات اخرى من القرآن بعبارات موجزة، فمثلًا نقرأ في الآية (77) من سورة طه: «وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَاتَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى .

ثم تضيف الآية التي بعدها: عندما تصل إلى الساحل الآخر عليك أن تترك البحر بهدوء «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا». والمراد من البحر في هذه الآيات هو نهر النيل العظيم.

من الطبيعي أنّ موسى عليه السلام وبني إسرائيل كانوا راغبين في أن يجتازوا البحر حتى تتصل المياه مرّة اخرى وتملأ هذا الفراغ، ويبتعدوا بسرعة عن منطقة الخطر، ويتجهوا بسلامة إلى الوطن الموعود، إلّاأنّهم امروا أنّ لا يعجلوا أثناء عبورهم نهر النيل، بل ليدعوا فرعون وآخر جندي من جنوده يردون النيل، فإنّ أمر إهلاكهم وإماتتهم قد صدر إلى أمواج النيل المتلاطمة الغاضبة، ولذلك تقول الآية في ختامها: «إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 433

يبيّن القرآن الكريم في الآيات التالية تركة الفراعنة العظيمة التي ورثها بنو إسرائيل، ضمن خمسة مواضيع تكون الفهرس العام لكل حياة الفراعنة، فيقول أوّلًا: «كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

لقد كانت البساتين والعيون ثروتين من أهم وأروع ثروات هؤلاء.

ثم يضيف القرآن الكريم: «وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ». وكانت هاتان ثروتين مهمّتين أخريين، فمن جهة كانت الزراعة العظيمة التي تعتمد على النيل، حيث أنواع المواد الزراعية الغذائية وغيرها، والمحصولات التي امتدت في جميع أنحاء مصر، وكانوا يستخدمونها غذاءاً لهم ويصدرون الفائض منها إلى الخارج؛ ومن جهة اخرى كانت القصور والمساكن العامرة، حيث إنّ من أهم مستلزمات حياة الإنسان

هو المسكن المناسب.

ولمّا كان هؤلاء يمتلكون وسائل رفاه كثيرة غير الامور الأربعة المهمة التي مرّ ذكرها، فقد أشار القرآن إليها جميعاً في جملة مقتضبة، فقال: «وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ».

ثم يضيف: «كَذلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ».

والمراد من «قَوْمًا ءَاخَرِينَ» هم بنو إسرائيل، حيث صرّح بذلك في الآية (95) من سورة الشعراء.

وقد عادوا إلى مصر بعد غرق الفراعنة وورثوا ميراثهم، وحكموا هناك.

وتقول الآية الأخيرة من هذه الآيات: «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ».

إنّ عدم بكاء السماء والأرض ربّما كان كناية عن حقارتهم، وعدم وجود ولي ولا نصير لهم ليحزن عليهم ويبكيهم.

وَ لَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَ آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) بنو إسرائيل في بوتقة الاختبار: كان الكلام في الآيات السابقة عن غرق الفراعنة وهلاكهم، وانكسار شوكتهم وانتهاء حكومتهم، وانتقالها إلى الآخرين، وتتحدث هذه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 434

الآيات في النقطة المقابلة لذلك أي نجاة بني إسرائيل وخلاصهم، فتقول: «وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ». من العذاب الجسمي والروحي الشاق، من ذبح الأطفال الذكور، واستحياء البنات للخدمة وقضاء المآرب، من السخرة والأعمال الشاقة جدّاً، وأمثال ذلك. لقد نجّى اللَّه سبحانه هذه الامّة المظلومة من قبضة هؤلاء الظالمين، أعظم سفاكي الدماء في التاريخ، في ظل ثورة موسى بن عمران عليه السلام الربانية، لذلك تضيف الآية: «مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مّنَ الْمُسْرِفِينَ».

وتشير الآية التالية إلى نعمة اخرى من نعم اللَّه سبحانه على بني إسرائيل، فتقول: «وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ». إلّاأنّهم لم يعرفوا قدر هذه النعمة، فكفروا وعوقبوا.

وعلى هذا فإنّهم كانوا الامة

المختارة في عصرهم، لأنّ المراد من العالمين البشر في ذلك العصر والزمان لا في كل القرون والأعصار.

وتشير آخر آية من هذه الآيات إلى بعض المواهب الاخرى التي منحهم اللَّه إيّاها، فتقول: «وَءَاتَيْنَاهُم مّنَ الْأَيَاتِ مَا فِيهِ بَلؤٌا مُّبِينٌ».

وهذا تحذير لكل الامم والأقوام فيما يتعلق بالإنتصارات والمواهب التي يحصلون عليها بفضل اللَّه ولطفه، فإنّ الامتحان عندئذ عسير.

إِنَّ هؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَ مَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) لا شي ء بعد الموت: بعد أنّ جسدت الآيات السابقة مشهداً من حياة فرعون والفراعنة، وعاقبة كفرهم وإنكارهم، تكرر الكلام عن المشركين مرّة اخرى، وأعادت هذه الآيات مسألة شكهم في مسألة المعاد- والتي مرّت في بداية السورة- بصورة اخرى، فقالت: «إِنَّ هؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى . وسوف لا نعود إلى الحياة اطلاقاً وما يقوله محمّد عن المعاد والحياة بعد الموت والثواب والعقاب، والجنة والنار لا حقيقة له.

أي إنّنا نموت مرّة واحدة وينتهي كل شي ء.

ثم تنقل كلام هؤلاء الذين تشبثوا بدليل واه لإثبات مدعاهم، إذا قالوا: «فَأْتُوا بَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 435

أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) قوم تبع: لقد كانت أرض اليمن- الواقعة في جنوب الجزيرة العربية- من الأراضي العامرة الغنية، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك يسمّون «تبّعاً»- وجمعها تبابعة- لأنّ قومهم كانوا يتبعونهم، أو لأنّ أحدهم كان يخلف الآخر ويتبعه في الحكم.

وهذه الآيات تواصل البحث الذي ورد حول مشركي مكة

وعنادهم وإنكارهم للمعاد- فتهدد اولئك المشركين من خلال الإشارة إلى قصة قوم تبّع، بأنّ ما ينتظركم ليس العذاب الإلهي في القيامة وحسب، بل سوف تلاقون في هذه الدنيا أيضاً مصيراً كمصير قوم تبّع المجرمين الكافرين، فتقول: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ».

ثم تعود الآية التي بعدها إلى مسألة المعاد مرّة اخرى، وتثبت هذه الحقيقة باستدلال رائع، فتقول: «وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لعِبِينَ» «1».

فإذا كان الموت بزعمكم نقطة النهاية فسيكون هذا الخلق لعباً ولهواً وعبثاً، لا فائدة من ورائه ولا هدف.

ثم تضيف الآية التي بعدها لتأكيد الكلام: «مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ».

إنّ كون هذا الخلق حقاً يوجب أن يكون له هدف عقلائي، وذلك الهدف لا يتحقق إلّا بوجود عالم آخر. «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ»، لأنّهم لا يعملون الفكر في التوصل إلى الحقائق، وإلّا فإنّ أدلة المبدأ والمعاد واضحة بينة.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

______________________________

(1) «لاعب»: من مادة «لعب»، ويقول الراغب في المفردات: لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 436

يوم الفصل: تمثل هذه الآيات نتيجة الآيات السابقة التي بحثت مسألة المعاد، والتي استدل بها عن طريق حكمة خلق هذا العالم على وجود البعث والحياة الاخرى.

فتستنتج الآية الاولى من هذا الإستدلال: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ».

ثم ذكرت الآية التالية شرحاً موجزاً ليوم الفصل هذا، فقالت: «يَوْمَ لَايُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

«المولى»: من مادة «ولاء»، وهي في الأصل تعني الإتصال بين شيئين بحيث لا يوجد بينهما حاجز، وله مصاديق كثيرة.

والفرق بين «لا

يغني» وبين «لا هم ينصرون» هو: إنّ الأوّل إشارة إلى أنّ أي فرد لا يقدر في ذلك اليوم على حل مشكلة فرد آخر بصورة إنفرادية مستقلة، والثاني إشارة إلى أنّهم عاجزون عن حلّ المشاكل حتى وإن تعاونوا فيما بينهم.

لكن هناك جماعة واحدة مستثناة فقط، وهي التي أشارت إليها الآية التالية، فقالت: «إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ».

لا شك أنّ هذه الرحمة الإلهية لا تُمنح اعتباطاً، بل تشمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقط.

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) شجرة الزقوم: تصف هذه الآيات أنواعاً من عذاب الجحيم وصفاً مرعباً يهز الأعماق، وهي تكمل البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول يوم الفصل والقيامة، فتقول: «إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ». فهؤلاء المجرمون هم الذين يأكلون هذا النبات المر القاتل، والخبيث الطعام النتن الرائحة.

«الزقوم»: اسم شجرة لها أوراق صغيرة وثمرة مرّة خشنة اللمس منتنة الرائحة، تنبت في أرض تهامة من جزيرة العرب، كان المشركون يعرفونها، وهي شجرة عصيرها مرّ، وإذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 437

أصابت البدن تورّم؛ و «الأثيم»: من مادة «إثم»، وهو المقيم على الذنب، والمراد هنا الكفار المعاندون المعتدون، المصرون على الذنوب والمعاصي المكثرون منها.

ثم تضيف الآية: «كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ».

«المهل»: الفلز المذاب؛ و «الحميم»: هو الماء الحار المغلي.

فعندما يدخل الزّقوم بطون هؤلاء، فإنّه يولد حرارة عالية لا تطاق، ويغلي كما يغلي الماء، وبدل أن يمنحهم هذا الغذاء القوة والطاقة فإنّه يهبهم الشقاء والعذاب والألم والمشقة.

ثم يخاطب

سبحانه خزنة النار، فيقول: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ».

«فاعتلوه»: من مادة «العَتْل»، وهي الأخذ والسحب والإلقاء؛ و «سواء»: بمعنى الوسط، لأنّ المسافة إلى جميع الأطراف متساوية، وأخذ أمثال هؤلاء الأشخاص وإلقاؤهم في وسط جهنم باعتبار أنّ الحرارة أقوى ما تكون في الوسط، والنار تحيط بهم من كل جانب.

ثم تشير الآية التالية إلى نوع آخر من أنواع العقاب الأليم الذي يناله هؤلاء، فتقول: «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ». وبهذا فإنّهم يحترقون من الداخل، وتحيط النار بكل وجودهم من الخارج، وإضافة إلى ذلك يصب على رؤوسهم الماء المغلي في وسط الجحيم.

وبعد كل أنواع العذاب الجسمي هذه، تبدأ العقوبات الروحية والنفسية، فيقال لهذا المجرم المتمرد العاصي الكافر: «ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

أنت الذي ركبك الغرور فلم تدع ذنباً لم ترتكبه، ولا موبقة لم تأتها، فذق الآن نتيجة أعمالك التي تجسدت أمامك، وكما أحرقت أجسام الناس وآلمت أرواحهم، فليحترق الآن داخلك وخارجك بنار غضب اللَّه والماء المغلي الذي يصهر ما في بطونهم والجلود.

ويضيف القرآن الكريم في آخر آية- من الآيات مورد البحث- مخاطباً إيّاهم: «إِنَّ هذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ».

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 438

المتقون ومختلف نعم الجنة: لما كان الكلام في الآيات السابقة عن العقوبات الأليمة لأهل النار، فإنّ هذه الآيات تذكر المواهب والنعم المعدّة لأهل الجنة، لتتضح أهمية كل منهما من خلال المقارنة بينهما. وقد لخّصت هذه

المواهب في سبعة أقسام:

الاولى هي: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ». على هذا فلا يصيبهم أي إزعاج أو خوف، بل هم في أمن كامل من الآفات والبلايا، من الغم والأحزان، ومن الشياطين والطواغيت.

ثم تطرقت الآيات إلى النعمة الثانية فقال: «فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

إنّ التعبير بالجنات يمكن أن يكون إشارة إلى تعدد الحدائق والبساتين التي يتمتع بها كل فرد من أهل الجنة، فهي تحت تصرّفه، أو تكون إشارة إلى مقاماتهم المختلفة ودرجاتهم المتفاوتة، لأنّ حدائق الجنة وبساتينها غير متساوية، بل تختلف باختلاف درجات أصحاب الجنة.

وتشير الثالثة إلى ملابسهم الجميلة، فتقول: «يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ».

«السندس»: يقال للأقمشة الحريرية الناعمة الرقيقة؛ و «الإستبرق» هي الأقمشة الحريرية السميكة.

طبعاً، ليس في الجنة حرّ شديد أو برد قارص ليتوقاه أهل الجنة بارتداء هذا الملابس، بل هذه إشارة إلى الألبسة المتنوعة المعدة لهم.

وتصل النوبة في النعمة الرابعة إلى أزواجهم، فتقول: «كَذلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ».

«الحور»: جمع حوراء وأحور، وتقال لمن اشتد سواد عينه، واشتد بياض بياضها؛ و «العين»: جمع أعين وعيناء، أي أوسع العين، ولما كان أكثر جمال الإنسان في عينيه، فإنّ الآية تصف عيون الحور العِين الجميلة الساحرة.

ثم تناولت الآية الاخرى النعمة الخامسة لأصحاب الجنة فقالت: «يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ».

ولا أثر هنا للأمراض والاضطرابات التي قد تحدث في هذه الدنيا على أثر تناول الفواكه، وكذلك لا خوف من فسادها وقلّتها.

خلود الجنة ونعمها هي النعمة السادسة من نعم اللَّه سبحانه على المتقين، لأنّ الذي يقلق فكر الإنسان عند الوصال واللقاء هو خوف الفراق، ولذلك تقول الآية: «لَايَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى .

مختصر الامثل، ج 4، ص: 439

وأخيراً يبيّن القرآن الكريم السابع من النعم وآخرها، فيقول: «وَوَقهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ». فإنّ كمال هذه النعم إنّما

يتم عندما يخلو فكر أصحاب الجنة من احتمال العذاب، وعدم انشغالهم به، لئلا يقلقوا فيتكدر صفوهم فلا تكمل تلك النعم حينئذ.

وهذا التعبير يشير إلى أنّ المتقين إن كانوا خائفين مما بدر منهم من هفوات، فإنّ اللَّه سبحانه سيعفو عنها بلطفه وكرمه، ويطمئنهم بأن لا يدعوا للخوف إلى أنفسهم سبيلًا.

وأشارت آخر آية- من هذه الآيات- إلى جميع النعم السبعة، وكنتيجة لما مر تقول:

«فَضْلًا مّن رَّبّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

صحيح، إنّ المتقين قد عملوا الكثير من الصالحات والحسنات، إلّاأنّ من المسلّم أنّ تلك الأعمال جميعاً لا تستحق كل هذه النعم الخالدة، بل هي فضل من اللَّه سبحانه، إذ جعل كل هذه النعم والعطايا تحت تصرّفهم ووهبهم إيّاها.

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) قلنا: إنّ سورة الدخان بدأت ببيان عظمة القرآن وعمقه، وتنتهي بهذه الآيات التي تبيّن كذلك التأثير العميق لآيات القرآن الكريم، لتنسجم بذلك بداية السورة مع نهايتها. تقول الآية الاولى: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ». فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنّه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كل الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين، ويعلم الجاهلين، ويذكّر من كان له قلب.

وهذه الآية شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرّات في سورة القمر: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ».

لكن لمّا كان هناك جماعة لم يذعنوا لأمر اللَّه، ولم يسلموا ويستسلموا رغم ذكر كل هذه الأوصاف، فقد هددتهم الآية الأخيرة، وحذرتهم فقالت: «فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ». فانتظر ما وعدك اللَّه بالنصر على الكفار،

ولينتظروا الهزيمة والخسران ...

انتظر نزول عذاب اللَّه الأليم على هؤلاء المعاندين الظالمين، ودعهم ينتظرون هزيمتك وعدم تحقق أهدافك السامية، ليعلم أي الإنتظارين هو الصحيح؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 440

«ارتقب»: في الأصل مأخوذة من «الرقبة»، ولما كان من ينتظر شيئاً يمد رقبته نحوه دائماً، فقد جاءت بمعنى انتظار الشي ء ومراقبته.

«نهاية تفسير سورة الدخان»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 441

45. سورة الجاثية

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى هذه السورة في سبعة فصول:

1- عظمة القرآن المجيد وأهميته.

2- بيان جانب من دلائل التوحيد أمام المشركين.

3- ذكر بعض ادّعاءات الدهريين، والرد عليها بجواب قاطع.

4- إشارة وجيزة إلى عاقبة بعض الأقوام الماضين، كبني إسرائيل.

5- تهديد الضالين المصرّين على عقائدهم المنحرفة والمتعصبين لها تهديداً شديداً.

6- الدعوة إلى العفو والصفح، لكن مع الحزم وعدم الانحراف عن طريق الحق.

7- الإشارات البليغة المعبّرة إلى مشاهد القيامة المهولة.

واسمها مقتبس من الآية (28) منها؛ و «الجاثية»: تعني الجثو على الركب، وهي إشارة إلى وضع كثير من الناس في ساحة القيامة، في محكمة العدل الإلهية تلك.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ حم الجاثية ستر اللَّه عورته، وسكن روعته عند الحساب».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 442

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) إنّ هذه السورة هي سادس السور التي تبدأ بالحروف المقطعة «حم»

وهي تشكل مع السورة الآتية- أي سورة الأحقاف- سور الحواميم السبعة.

يقول الطبرسي رحمه الله في بداية هذه السورة: إنّ أحسن ما يقال هو أنّ (حم) اسم هذه السورة، ثم ينقل عن بعض المفسرين، أنّ تسمية هذه السورة ب (حم) للإشارة إلى أنّ هذا القرآن المعجز بتمامه يتكون من حروف الألف باء.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية التالية عن عظمة القرآن مباشرة فتقول:

«تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

«العزيز»: هو القوي الذي لا يقهر؛ و «الحكيم»: هو العارف بأسرار كل شي ء، وتقوم كل أفعاله على أساس الحكمة والدقّة.

ثم تناولت الآية التي بعدها بيان آيات اللَّه سبحانه ودلائل عظمته في الآفاق والأنفس، فقالت: «إِنَّ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَأَيَاتٍ لّلْمُؤْمِنِينَ».

إنّ عظمة السماوات من جانب، ونظامها العجيب الذي مرّت عليه ملايين السنين الذي لم ينحرف عما سار عليه قيد أنملة، من جانب آخر، ونظام خلقة الأرض وعجائبها، من جانب ثالث، يكون كل منها آية من آيات اللَّه سبحانه.

غير أنّ علامات التوحيد هذه، وعظمة اللَّه تعالى إنّما يلتفت إليها وينتفع بها المؤمنون، أي طلّاب الحق والسائرون في طريق اللَّه.

ثم انتقلت السورة من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس، فقالت: «وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ».

كل واحد من هذه المخلوقات آية بنفسه، ودليل على علم مبدئ الخلقة وحكمته وقدرته اللامتناهية.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 443

وتذكر الآية التالية ثلاث مواهب اخرى لكل منها أثره الهام في حياة الإنسان والكائنات الحية الاخرى، وكل منها آية من آيات اللَّه تعالى، وهي مواهب «النور» و «الماء» و «الهواء»، فتقول: «وَاخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ ءَايَاتٌ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

إنّ نظام «النور» و

«الظلمة» وحدوث الليل والنهار حيث يخلف كل منهما الآخر نظام موزون دقيق جدّاً، وهو عجيب في وضعه وسنّته وقانونه.

ويحتمل في تفسير الآية أنّ لا يكون المراد من اختلاف الليل والنهار تعاقبهما، بل هو إشارة إلى اختلاف المدة وتفاوت الليل والنهار، في فصول السنة، فيعود نفعه على الإنسان من خلال ما ينتج عن هذا الإختلاف من المحاصيل الزراعية المختلفة والنباتات والفواكه، ونزول الثلوج وهطول الأمطار والبركات الاخرى.

ثم تتناول الحديث في الفقرة الثانية عن الرزق السماوي، أي «المطر». والماء يشكل الجانب الأكبر والقسم الأساسي من بدن الإنسان، وكثير من الحيوانات الاخرى، والنباتات.

ثم تتحدث في الفقرة الثالثة عن هبوب الرياح .. تلك الرياح التي تنقل الهواء الملي ء بالأوكسجين من مكان إلى آخر، وتضعه تحت تصرف الكائنات الحية، وتبعد الهواء الملوث بالكاربون إلى الصحاري والغابات لتصفيته، ثم إعادته إلى المدن.

والعجيب أنّ هاتين المجموعتين من الكائنات الحية- أي الحيوانات والنباتات- متعاكسة في العمل تماماً، فالاولى تأخذ الأوكسجين وتعطي غاز ثاني أوكسيد الكاربون، والثانية على العكس تتنفس ثاني أوكسيد الكاربون وتزفر الأوكسجين، ليقوم التوازن في نظام الحياة، ولكي لا ينفذ مخزون الهواء النقي المفيد من جو الأرض بمرور الزمان.

إنّ هبوب الرياح، إضافة إلى ذلك فإنّه يلقح النباتات فيجعلها حاملة للأثمار والمحاصيل، وينقل أنواع البذور إلى الأراضي المختلفة لبذرها هناك، وينمي المراتع الطبيعية والغابات، ويهيج الأمواج المتلاطمة في قلوب المحيطات، ويبعث الحركة والحياة في البحار ويثير أمواجها العظيمة، ويحفظ الماء من التعفّن والفساد، وهذه الرياح نفسها هي التي تحرك السفن على وجه المحيطات والبحار وتجريها.

وتقول الآية الأخيرة، إجمالًا للبحوث الماضية، وتبياناً لعظمة آيات القرآن وأهميتها:

«تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 444

«التلاوة»: من مادة «تلو» أي الإتيان بالكلام بعد الكلام

متعاقباً، وبناء على هذا فإنّ تلاوة آيات القرآن تعني قراءتها بصورة متوالية متعاقبة.

والتعبير «بالحق» إشارة إلى محتوى هذه الآيات، وهو أيضاً إشارة إلى كون نبوّة النبي صلى الله عليه و آله والوحي الإلهي حقّاً. وبعبارة اخرى، فإنّ هذه الآيات بليغة معبرة تضمنت في طياتها الاستدلال على حقانيتها وحقانية من جاءها.

وحقّاً إذا لم يؤمن هؤلاء بهذه الآيات فبأي شي ء سوف يؤمنون؟ ولذلك تعقب الآية:

«فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ».

حقّاً إنّ للقرآن الكريم محتوىً عميقاً من ناحية الاستدلال والبراهين على التوحيد، وكذلك فهو يحتوي على مواعظ وإرشادات تجذب العباد إلى اللَّه سبحانه حتى القلوب التي لها أدنى استعداد- أو أرضية صالحة- وتدعو كل مرتبط بالحق إلى الطهارة والتقوى، فإذا لم تؤثر هذه الآيات البينات في أحد فلا أمل في هدايته بعد ذلك.

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَ لَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) ويل لكل أفّاك أثيم: رسمت الآيات السابقة صورة عن فريق يسمعون كلام اللَّه مدعماً بمختلف أدلة التوحيد والمواعظ والإرشاد، فلا يترك أثراً في قلوبهم القاسية، أمّا هذه الآيات فتتناول بالتفصيل عواقب أعمال هذا الفريق، فتقول أوّلًا: «وَيْلٌ لِّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ».

«الأفّاك»: صيغة مبالغة، وهي تعني الشخص الذي يكثر الكذب جدّاً، وتقال أحياناً لمن يكذب كذبة عظيمة حتى وإن لم يكثر من الكذب.

و «الأثيم»: من مادة إثم، أي المجرم والعاصي، وتعطي أيضاً صفة المبالغة.

ويتّضح من هذه الآية جيداً أنّ الذين يقفون موقف

الخصم العنيد المتعصب أمام آيات اللَّه سبحانه هم الذين غمرت المعصية كيانهم، فانغمسوا في الذنوب والآثام والكذب، لا اولئك الصادقون الطاهرون، فإنّهم يذعنون لها لطهارتهم ونقاء سريرتهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 445

ثم تشير الآية التالية إلى كيفية اتخاذهم لموضع الخصام هذا، فتقول: «يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا».

وتهدده الآية في نهايتها بالعذاب الشديد، فتقول: «فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ». فكما أنّه آذى قلب النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين وآلمهم، فإنّنا سنبتليه بعذاب أليم أيضاً.

ثم تضيف الآية التي بعدها: «وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا».

إنّه يتخذ كل آياتنا هزواً، سواء التي علمها والتي لم يعلمها، وغاية الجهل أن ينكر الإنسان شيئاً أو يستهزي ء به وهو لم يفهمه أصلًا، وهذا خير دليل على عناد اولئك وتعصّبهم.

ثم تصف الآية عقاب هؤلاء في النهاية فتقول: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

وتوضح الآية التالية العذاب المهين، فتقول: «مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ».

إن التعبير بالوراء مع أنّ جهنم أمامهم وسيصلونها في المستقبل، يمكن أن يكون ناظراً إلى أنّ هؤلاء قد أقبلوا على الدنيا ونبذوا الآخرة والعذاب وراء ظهورهم.

إنّ الآية تضيف مواصلةً الحديث أنّ هؤلاء إن كانوا يظنون أنّ أموالهم الطائلة وآلهتهم التي ابتدعوها ستحل شيئاً من أثقالهم، وأنّها ستغني عنهم من اللَّه شيئاً، فإنّهم قد وقعوا في اشتباه عظيم، حيث: «وَلَا يُغْنِى عَنْهُم مَا كَسَبُوا شَيًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ».

ولمّا لم يكن هناك سبيل نجاة وفرار من هذا المصير، فإنّ هؤلاء يجب أن يبقوا في عذاب اللَّه ونار غضبه: «وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

ولقد استصغر هؤلاء آيات اللَّه سبحانه، ولذلك سيعظم اللَّه عذابهم، وقد اغتر هؤلاء وتفاخروا فألقاهم اللَّه في العذاب الأليم.

هذَا هُدًى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ

عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 446

مواصلة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول عظمة آيات اللَّه، تتناول هذه الآيات نفس الموضوع، فتقول: «هذَا هُدًى». فهو يميز بين الحق والباطل، ويضي ء حياة الإنسان، ويأخذ بيد سالكي طريق الحق ليوصلهم إلى هدفهم ومنزلهم المقصود، لكن:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَايَاتِ رَبّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ». «الرجز»: يعني الاضطراب والإهتزاز وعدم الإنتظار، وتطلق هذه الكلمة أيضاً على مرض الطاعون والإبتلاءات الصعبة، أو العواصف الثلجية الشديدة، والوساوس الشيطانية وأمثال ذلك، لأنّ كل هذه الامور تبعث على الإضطراب وعدم الإنتظام والانضباط.

ثم تحول زمام الحديث إلى بحث التوحيد الذي مرّ ذكره في الآيات الاولى لهذه السورة، فتعطي المشركين دروساً بليغة مؤثرة في توحيد اللَّه سبحانه ومعرفته. فتارة تدغدغ عواطفهم، وتقول: «اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

بعد بيان السفن التي لها تماس مباشر بحياة البشر اليومية، تطرقت الآية التي بعدها إلى مسألة تسخير سائر الموجودات بصورة عامة، فتقول: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مّنْهُ».

فلماذا يعرض الإنسان عنه ويلجأ إلى غيره، ويتسكع على أعتاب المخلوقات الضعيفة، ويبقى في غفلة وذهول عن المنعم الحقيقي عليه؟ ولذلك تضيف الآية في النهاية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».

لقد كانت

الآية السابقة تلامس عاطفة الإنسان وتحاول إثارتها، وهنا تحاول هذه الآية تحريك عقل الإنسان وفكره، فما أعظم رحمة ربّنا سبحانه! إنّه يتحدث مع عباده بكل لسان وأسلوب يمكن أن يطبع أثره، فمرّة بحديث القلب، واخرى بلسان الفكر، والهدف واحد من كل ذلك، ألا وهو إيقاظ الغافلين ودفعهم إلى سلوك السبيل القويم.

ثم تطرقت الآية التالية إلى ذكر قانون أخلاقي يحدد كيفية التعامل مع الكفار لتكمل أبحاثها المنطقية السابقة عن هذا الطريق، فحولت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه و آله وقالت: «قُلْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَايَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ».

فمن الممكن أن تكون معاملة هؤلاء قاسية، وتعبيراتهم خشنة غير مؤدبة، وألفاظهم بذيئة، وذلك لبعدهم عن مبادئ الإيمان وأسس التربية الإلهية، غير أنّ عليكم أن تقابلوهم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 447

بكل رحابة صدر لئلا يصروا على كفرهم ويزيدوا في تعصبهم، فتبعد المسافة بينهم وبين الحق.

لكن، ومن أجل أنّ لا يستغل مثل هؤلاء الأفراد هذا الصفح الجميل والعفو والتسامي، فقد أضافت الآية: «لِيَجْزِىَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

لقد اعتبر بعض المفسرين هذه الجملة تهديداً للكفار والمجرمين، في حين أنّ البعض الآخر اعتبرها بشارة للمؤمنين لهذا العفو والصفح، لكن لا مانع من أن تكون تهديداً لتلك الفئة من جانب، وبشارة لهذه الجماعة من جانب آخر، كما أشير إلى هذا المعنى في الآية التالية أيضاً. تقول الآية: «مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ».

إنّ هذا التعبير الذي ورد في القرآن الكريم مراراً، وبعبارات مختلفة، يشكل جواباً لمن يقول: ماذا يضر عصياننا اللَّه تعالى، وما تنفعه طاعتنا؟

فتقول هذه الآيات: إنّ كل ضرر ذلك وكل نفعه يعود عليكم، فأنتم الذين تسلكون مراقي الكمال في ظل الأعمال الصالحة، وتحلّقون إلى سماء

قرب اللَّه عزّ وجل، كما أنّكم أنتم الذين تهوون إلى الحضيض نتيجة ارتكابكم الآثام والمعاصي، فتبتعدون عن اللَّه عزّ وجل وتستحقون بذلك اللعنة الأبدية.

وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَ آتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَ لَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) آتينا بني إسرائيل كل ذلك، ولكن ...: متابعة للبحوث التي وردت في الآيات السابقة حول نعم اللَّه المختلفة وشكرها والعمل الصالح، تتناول هذه الآيات نموذجاً من حياة بعض الأقوام الماضين الذين غمرتهم نعم اللَّه سبحانه، إلّاأنّهم كفروا بها ولم يرعوها حق رعايتها.

تقول الآية الاولى: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مّنَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 448

الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

تبيّن هذه الآية في مجموعها خمس نعم أنعم اللَّه بها على بني إسرائيل.

النعمة الاولى هي الكتاب السماوي، أي التوراة التي كانت مبينة للمعارف الدينية والحلال والحرام، وطريق الهداية والسعادة؛ والثانية مقام الحكومة والقضاء.

أمّا النعمة الثالثة فقد كانت نعمة مقام النبوّة، حيث اصطفى اللَّه سبحانه أنبياء كثيرين من بني إسرائيل.

وقد ورد في رواية أنّ عدد أنبياء بني إسرائيل بلغ ألف نبي، وفي رواية اخرى: «إنّ عدد أنبياء بني إسرائيل أربعة آلاف نبي».

وتتحدث الآية في الفقرة الرابعة حديثاً جامعاً شاملًا عن المواهب المادية، فتقول:

«وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيّبَاتِ».

النعمة

الخامسة، هي تفوقهم وقوّتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، كما توضح الآية ذلك في ختامها فتضيف: «وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ».

لا شك أنّ المراد من «العالمين» هنا هم سكان ذلك العصر.

وتشير الآية التالية إلى الموهبة السادسة التي منحها اللَّه سبحانه لهؤلاء المنكرين للجميل، فتقول: «وَءَاتَيْنَاهُمْ بَيّنَاتٍ مّنَ الْأَمْرِ».

«البيّنات»: يمكن أن تكون إشارة إلى المعجزات الواضحة التي أعطاها اللَّه سبحانه موسى بن عمران عليه السلام وسائر أنبياء بني إسرائيل، أو أنّها إشارة إلى الدلائل والبراهين المنطقية الواضحة، والقوانين والأحكام المتقنة الدقيقة.

فمع وجود هذه المواهب والنعم العظيمة، والدلائل البيّنة الواضحة لا يبقى مجال للاختلاف، إلّاأنّ الكافرين بالنعم هؤلاء ما لبثوا أن اختلفوا، كما يصور القرآن الكريم ذلك في تتمة هذه الآية إذ يقول: «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ».

ويهددهم القرآن الكريم في نهاية الآية بقوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».

وبهذا فقد فقدوا قوّتهم وعظمتهم في هذه الدنيا بكفرانهم النعمة، واختلافهم فيما بينهم، واشتروا لأنفسهم عذاب الآخرة.

بعد بيان المواهب التي منّ اللَّه تعالى بها على بني إسرائيل، وكفرانها من قبلهم، ورد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 449

الحديث عن موهبة عظيمة أهداها اللَّه سبحانه لنبي الخاتم صلى الله عليه و آله والمسلمين، فقالت الآية:

«ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الْأَمْرِ».

«الشريعة»: تعني الطريق التي تستحدث للوصول إلى الماء الموجود عند ضفاف الأنهر التي يكون مستوى الماء فيها أخفض من الساحل، ثم أطلقت على كل طريق يوصل الإنسان إلى هدفه ومقصوده.

لقد استعملت هذه الكلمة مرّة واحدة في القرآن الكريم، وفي شأن الإسلام فقط.

والمراد من «الأمر» هنا هو دين الحق الذي مرّت الإشارة إليه في الآية السابقة أيضاً، حيث قالت: «بَيّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ».

ولمّا كان هذا المسير مسير النجاة

والنصر، فإنّ اللَّه سبحانه يأمر النبي صلى الله عليه و آله بعد ذلك أن «فَاتَّبِعْهَا».

وكذلك لما كانت النقطة المقابلة ليس إلّااتباع أهواء الجاهلين ورغباتهم، فإنّ الآية تضيف في النهاية: «وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ».

وتعتبر الآية التالية تبياناً لعلّة النهي عن الإستسلام أمام مقترحات المشركين وقبول طلباتهم، فتقول: «إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيًا». فإذا ما اتبعت دينهم الباطل وأحاط بك عذاب اللَّه تعالى فإنّهم عاجزون عن أن يهبّوا لنجدتك وإنقاذك، ولو أنّ اللَّه سبحانه سلب منك نعمة فإنّهم غير قادرين على إرجاعها إليك.

ومع أنّ الخطاب في هذه الآيات موجه إلى النبي صلى الله عليه و آله إلّاأنّ المراد منه جميع المؤمنين.

ثم تضيف الآية: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ». فكلّهم من جنس واحد، ويسلكون نفس المسير، ونسجهم واحد، وكلّهم ضعفاء عاجزون.

لكن لا تذهب بك الظنون بأنّك وحيد، ومن معك قليل ولا ناصر لكم ولا معين، بل:

«وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ».

وكتأكيد لما مرّ، ودعوة إلى اتباع دين اللَّه القويم، تقول آخر آية من هذه الآيات: «هذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ». «البصائر»: جمع «بصيرة»، وهي النظر، ومع أنّ هذه اللفظة أكثر ما تستعمل في وجهات النظر الفكرية والنظريات العقلية، إلّاأنّها تطلق على كل الامور التي هي أساس فهم المعاني وإدراكها.

هذا تعبير جميل يعبر عن عظمة هذا الكتاب السماوي وتأثيره وعمقه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 450

مختصر الامثل ج 4 479

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ

وَ خَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلَا تَذَكَّرُونَ (23) ليسوا سواءً محياهم ومماتهم: متابعة للآيات السابقة التي كان الكلام فيها يدور حول فئتين هما: المؤمنون والكافرون، أو المتقون والمجرمون، فإنّ أولى هذه الآيات قد جمعتهما في مقارنة أصولية بينهما، فقالت: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ».

«اجترحوا»: في الأصل من الجرح الذي يصيب بدن الإنسان أثر إصابته بحادث، ولما كان إرتكاب الذنب والمعصية كأنّما يجرح روح المذنب، فقد استعملت كلمة الإجتراح بمعنى إرتكاب الذنب.

فإنّ الآية تقول: إنّه لظن خاطئ أن يتصوروا أنّ الإيمان والعمل الصالح، أو الكفر والمعصية، لا يترك أثره في حياة الإنسان، فإنّ حياة هذين الفريقين ومماتهم يتفاوتان تماماً.

أمّا الآية التالية فإنّه تفسير لسابقتها وتعليل لها، إذ تقول: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ». فكلّ العالم يوحي بأنّ خالقه قد خلقه وجعله يقوم على محور الحق، وأن يحكم العدل والحق كل مكان، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يجعل اللَّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمجرمين الكافرين.

وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين، إذ تقول: «أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَيهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ».

ولا صنم أخطر من إتباع هوى النفس الذي يوصد كل أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان؟

في تفسير القرطبي عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى اللَّه من الهوى».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 451

لأنّ

الأصنام العادية موجودات لا خصائص لها ولا صفات فعالة مهمة، أمّا صنم الهوى، فإنّه يغوي الإنسان ويسوقه إلى إرتكاب أنواع المعاصي، والإنزلاق في هاوية الإنحراف.

وَ قَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَ نَحْيَا وَ مَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَ مَا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) عقائد الدهريين: في هذه الآيات بحث آخر حول منكري التوحيد، غاية ما هناك أنّه ذكر هنا اسم جماعة خاصة منهم، وهم «الدهريون» الذين ينكرون وجود صانع حكيم لعالم الوجود مطلقاً، في حين أنّ أكثر المشركين كانوا يؤمنون ظاهراً باللَّه، وكانوا يعتبرون الأصنام شفعاء عند اللَّه، فتقول الآية أوّلًا: «وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا».

فكما يموت من يموت منّا، يولد من يولد منّا وبذلك يستمر النسل البشري: «وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ».

وبهذا فإنّهم ينكرون المعاد كما ينكرون المبدأ، والجملة الاولى ناظرة إلى إنكارهم المعاد، أمّا الجملة الثانية فتشير إلى إنكار المبدأ.

إنّ القرآن الكريم أجاب هؤلاء العبثيين بجملة وجيزة عميقة، تلاحظ في موارد اخرى من القرآن الكريم أيضاً، فقال: «وَمَا لَهُم بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».

وقد ورد نظير هذا المعنى في الآية (28) من سورة النجم في من يظنون أنّ الملائكة بنات اللَّه سبحانه: «وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَايُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيًا».

وقد ورد هذا المعنى أيضاً في القول بقتل المسيح، [النساء 157] وعقيدة مشركي العرب في الأصنام، [يونس 66].

وأشارت الآية التالية إلى إحدى ذرائع هؤلاء الواهية وحججهم الباطلة فيما يتعلق بالمعاد، فقالت: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ مَّا كَانَ

حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

كان هؤلاء يرددون أنّه إذا كانت حياة الأموات وبعثهم حقّاً فأحيوا آباءنا كنموذج لإدعائكم، حتى نعرف مدى صدقكم، ولنسألهم عمّا يجري بعد الموت، وهل يصدّقون ما تقولونه أم يكذبونه؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 452

قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) الكل جاثٍ في محكمة العدل الإلهي: هذه الآيات جواب آخر على كلام الدهريين، الذين كانوا ينكرون المبدأ والمعاد، وقد أشير إلى كلامهم، في الآيات السابقة؛ فتقول الآية أوّلًا: «قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لَارَيْبَ فِيهِ».

لم يكن هؤلاء يعتقدون باللَّه ولا باليوم الآخر، ومحتوى هذه الآية استدلال عليهما معاً، حيث أكّدت على مسألة الحياة الاولى.

ومن جهة اخرى، تقول لهم: كيف يكون القادر على إنشاء الحياة الاولى عاجزاً عن إعادتها ثانياً؟

ولمّا كان كثير من الناس لا يتأمل هذه الدلائل ولا يدقق النظر فيها، فإنّ الآية تضيف في النهاية: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ».

أمّا الآية التالية فهي دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الاخرى، فتقول: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». فلما كان مالكاً لتمام عالم

الوجود الواسع وحاكماً عليه، فمن المسلّم أن يكون قادراً على إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.

لقد جعل اللَّه سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ».

إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الاخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فانٍ سريع الزوال، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلّاالقلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 453

بام أعينهم، ولات ساعة مندم.

«يخسر»: من الخسران، وهو فقدان رأس المال؛ و «المبطل»: من مادة «إبطال»، فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشي ء، والكذب، والاستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكل هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.

الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين كذبوا أنبياء اللَّه، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.

وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: «وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً».

ثم تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كل الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: «لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا» «1».

وعبارة «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا» يوحي بأنّ لكل امة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصة بكل فرد.

ثم يأتيهم الخطاب من قبل اللَّه مرّة اخرى، فيقول مؤكّداً: «هذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ». فقد كنتم تفعلون كل ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدّقون مطلقاً أنّ كل أعمالكم

هذه تسجل في مكان ما، ولكن «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

«نستنسخ»: من مادة «إستنساخ»، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشي ء بشي ء آخر، ثم استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.

وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال كل فئة جزاء أعمالها، فتقول: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ».

والتعبير ب «ربّهم» يحكي عن لطف اللَّه الخاص، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنة».

وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ».

______________________________

(1) سورة الكهف/ 49. مختصر الامثل، ج 4، ص: 454

إنّ ل «رحمة اللَّه» معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، واخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم اخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنة ومواهب اللَّه سبحانه في القيامة.

«الفوز»: تعني الظفر المقترن بالسلامة، وقد استعملت في (19) مورداً من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرّة بالمبين، واخرى بالكبير، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم، وهو مستعمل عادة في شأن الجنة.

وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لُاولئك السابقين، فتقول: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ».

ومما يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب اللَّه وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب.

وَ إِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنّاً

وَ مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا وَ مَأْوَاكُمُ النَّارُ وَ مَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَ لَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) يوم تبدو السيّئات: الآية الاولى من هذه الآيات توضيح لما ذكر في الآيات السابقة بصورة مجملة، توضيح لمسألة استكبار الكافرين على آيات اللَّه ودعوة الأنبياء، فتقول:

«وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَارَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

وتتحدث الآية التالية عن جزاء هؤلاء وعقابهم، ذلك الجزاء الذي لا يشبه عقوبات

مختصر الامثل، ج 4، ص: 455

المحاكم الدنيوية، فتقول: «وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُوا». فستتجسد القبائح والسيئات أمام أعينهم، وتتّضح لهم، وتكون لهم قريناً دائماً يتأذون من وجوده إلى جانبهم ويتعذبون من صحبته: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

والأشد ألماً من كل ذلك هو الخطاب الذي يخاطبهم به اللَّه الرحمن الرحيم، فيقول سبحانه: «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا».

لا شك أنّ النسيان لا معنى له بالنسبة إلى اللَّه سبحانه الذي يحيط علمه بكل عالم الوجود، لكنّه هنا كناية لطيفة عن احتقار الإنسان المجرم العاصي وعدم الإهتمام به.

وتتابع الآية الحديث، فتقول: «وَمَأْوَيكُمُ النَّارُ». وإذا كنتم تظنون أنّ أحداً سيهبّ لنصرتكم وغوثكم، فاقطعوا الأمل من ذلك، واعلموا أنّه: «وَمَا لَكُم مّن نَّاصِرِينَ».

أمّا لماذا ابتليتم بمثل هذا المصير؟ ف «ذلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ

ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا».

وتكرر الآية ما ورد في الآية السابقة وتؤكّده باسلوب آخر، فتقول: «فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».

فقد كان الكلام هناك عن مأواهم ومقرهم الثابت، والكلام هنا عن عدم خروجهم من النار .. حيث قال هناك: ما لهم من ناصرين، وهنا يقول: لا يقبل منهم عذر، والنتيجة هي أنّ لا سبيل لنجاتهم.

وفي نهاية هذه السورة، ولإكمال بحث التوحيد والمعاد، والذي كان يشكل أكثر مباحث هذه السورة، تبيّن الآيتان الأخيرتان وحدة ربوبية اللَّه وعظمته، وقدرته وحكمته، وتذكر خمس صفات من صفات اللَّه سبحانه في هذا الجانب، فتقول أوّلًا: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ». لأنّه «رَبّ السَّموَاتِ وَرَبّ الْأَرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ».

وبعد وصف ذاته المقدسة بمقام الحمد والربوبية، تضيف الآية في الصفة الثالثة: «وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ». لأنّ آثار عظمته ظاهرة في السماء المترامية الأطراف، والأرض الواسعة الفضاء، وفي كل زاوية من زوايا العالم.

وأخيراً تقول الآية في الوصفين الرابع والخامس: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وبذلك تكمل مجموعة العلم والقدرة والعظمة والربوبية والمحمودية، والتي هي مجموعة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 456

من أهمّ صفات اللَّه، وأسمائه الحسنى.

وبوصف اللَّه سبحانه بالعزيز والحكيم تنتهي سورة الجاثية كما بدأت بهما، وكل محتواها وما تضمنته شاهد على عزّة اللَّه سبحانه وحكمته السامية.

«نهاية تفسير سورة الجاثية»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 457

46. سورة الأحقاف

محتوى السورة: إنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية:

1- بيان عظمة القرآن.

2- محاربة كل أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

3- توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

4- إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف»، ومنها اخذ اسم هذه السورة.

5- الإشارة إلى سعة دعوة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله وكونها عامة تتخطى حتى حدود البشر، أي

إنّها تشمل طائفة الجن أيضاً.

6- ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

7- دعوة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله إلى التحلي بالصبر والاستقامة إلى أبعد الحدود، والإقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ كل ليلة أو كل جمعة سورة الأحقاف لم يصبه اللَّه بروعة في الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة».

ومن البديهي أنّ كل هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرد التلاوة اللفظية، بل التلاوة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 458

البنّاءة المؤدّية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّاً إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعداً للعمل والتطبيق.

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) خلق هذا العالم على أساس الحق: هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب «حم» وتسمى جميعاً الحواميم.

إنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلًا على عظمة اللَّه سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة.

وربّما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة: «تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

إنّه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم، وهي: المؤمن، والجاثية، والأحقاف.

ولا شك في الحاجة إلى قوّة لا تقهر، وحكمة لا حد لها، لكي تنزل مثل هذا الكتاب.

ثم تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقاً، فقالت: «مَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ

وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى». فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً نشازاً لا ينسجم والحق.

لكن مع أنّ القرآن حق، وخلق العالم حق أيضاً: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ».

فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم بأنّ محكمة عظمى أمامهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حساباً ونظاماً، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 459

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَ إِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) أضلّ الناس: كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع اللَّه العزيز الحكيم، ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النبي صلى الله عليه و آله وتقول: «قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّموَاتِ».

كنتم تقرّون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم- على سبيل الفرض-: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين ف «ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ

عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

إنّ جملة «أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ...» إشارة إلى دليل العقل؛ وجملة «ائْتُونِى بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هذَا» إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير ب «أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ» إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم، فتقول: «وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّايَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ». ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم: «وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ».

والأشد أسفاً من ذلك أنّه: «وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ».

أمّا المعبودات من العقلاء، فإنّهم سيهبّون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين، فالمسيح عليه السلام يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه، وتتبرأ الملائكة منهم، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة، فإنّ اللَّه سبحانه سمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 460

وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَ مَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) لم أكن أوّل نبيّ: يستمر الحديث في هذه الآيات عن

حال المشركين، وكيفية تعاملهم مع آيات اللَّه، فتقول: «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ». فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة، وهم من جهة اخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون: إنّه سحر مبين، وهذا القول- بحدّ ذاته- اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناءً على هذا، فإنّ «الحق»- في الآية المذكورة- إشارة إلى آيات القرآن.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع، وأكثر صراحةً: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَيهُ».

إنّ اللَّه سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شَيًا».

وهذا كما ورد في الآيات (44- 47) من سورة الحاقّة: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ».

ثم يضيف مهدداً: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ» وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

ثم يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً: «كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ». فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي ولكم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 461

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلّمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة، يقول: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية: «قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا

مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

يقول النبي صلى الله عليه و آله أنا لست أوّل نبي دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلّهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: «قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

إنّ الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً هو «عبد اللَّه بن سلام» عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَ رَحْمَةً وَ هذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

سبب النّزول

إنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوادي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف

كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 462

البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولًا ومعقولًا فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه. وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة: تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثم تقريعهم وملامتهم بعد ذلك، فتشير أوّلًا إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبنيّ على أساس الكبر والغرور، فتقول: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ».

فما هؤلاء إلّاحفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلّاالقليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن- أعيان المجتمع وأشرافه- في غفلة عنه؟

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: «وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ». أي: إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أنّ القصور في قابلية القرآن على الهداية.

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثم تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته، وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة: «وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهذَا كِتَابٌ مُّصَدّقٌ». وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك

قديم؟

ثم تضيف بعد ذلك: «لِّسَانًا عَرَبِيًّا» يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثم تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين، فتقول: «لّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ». وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الاستمرار والدوام، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر، فهو يحذر الظالمين

مختصر الامثل، ج 4، ص: 463

والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم، ويبشر المحسنين على الدوام.

و الآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».

وبناءً على هذا، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها، فتقول:

«أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

التعبير ب «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنة.

وعبارة «جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» يدل من جهة على أنّ الجنة لا تمنح مجاناً، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدّى، ويشير من جهة اخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلَى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَ نَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) أيّها الإنسان أحسن إلى والديك: هذه الآيات والتي تليها، توضيح لما يتعلق بالفريقين:

الظالم والمحسن، اللذين أشير إليهما إجمالًا

في الآيات السابقة، وتتناول الآية الاولى وضع المحسنين، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها، والذي يعتبر مقدمة لشكر اللَّه سبحانه، فتقول: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا».

«الوصية» و «التوصية» بمعنى مطلق الوصية، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

إنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الاصول الإنسانية، ينجذب إليها ويقوم بها حتى اولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب، وبناءً على هذا، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة، ويرفضون القيام بهذا الواجب، ليسوا مسلمين حقيقيين، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 464

ثم تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حق الام، فقالت: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلثُونَ شَهْرًا».

تضحي خلالها الام أعظم التضحيات، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار، لأنّ آلام ومعاناة الام في طريق تربية الطفل محسوسة وملموسة أكثر، ولأنّ جهود الام أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب، كان التأكيد أكثر على قدر الام في الروايات الإسلامية.

ثم إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلّما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (30) شهراً.

ثم تضيف الآية: إنّ حياة هذا الإنسان تستمر «حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ و وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

إنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي.

وفي الحديث: «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب، ويقول: بأبي وجه لا يفلح» «1».

إنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إنّ الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين، يطلب من ربّه ثلاث طلبات، فيقول أولًا: «قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ».

أمّا طلبه الثاني

فهو: «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ».

وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول: «وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى».

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين، كل منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر، فتقول: «إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ». فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

والآخر: «وَإِنّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث، فقالت أوّلًا: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا».

إنّ جملة «وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ» تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى اللَّه سبحانه.

______________________________

(1) تفسير روح المعاني 26/ 18.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 465

وتعبير «أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا» والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد، يبيّن فضل اللَّه الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم، حيث يجعل أحسن أعمالهم معياراً لكل أعمالهم الحسنة في الحساب والمثوبة.

والهبة الثانية هي تطهيرهم، فتقول: «وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيّئَاتِهِمْ».

والموهبة الثالثة هي أنّهم: «فِى أَصْحَابِ الْجَنَّةِ». فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند اللَّه سبحانه.

وتضيف الآية في نهايتها- كتأكيد على هذه النعم التي مرّ ذكرها-: «وَعْدَ الصّدقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ».

وَ الَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَ تَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) مضيّعو حقوق الوالدين: كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من اللَّه، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة اللَّه،

وكرمهم لطفه، وكل ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح، وشكر نعم اللَّه سبحانه، والإلتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق، والعاقون لوالديهم، فتقول: «وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى».

إلّا أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال، فتقول الآية: «وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ». غير أنّه يأبى إلّاأن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه، ولذلك نراه يجيبهما بكل تكبر وغرور ولا مبالاة: «فَيَقُولُ مَا هذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ»، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلّاخرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات، فإنّ هذه الآيات تبيّن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 466

عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على اللَّه، فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مّنَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ». وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كل رأس مال وجودهم إذ اشتروا به غضب اللَّه عزّ وجل وسخطه. أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلًا إلى تفاوت درجات كلا الفريقين، فتقول: «وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا». فليس كل أصحاب الجنة أو أصحاب النار في درجة واحدة، بل إنّ لكل منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.

«الدرجات»: جمع «درجة»، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى؛ و «الدركات» جمع «درك»، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنة: درجات، وفي

شأن النار: دركات، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً، ولأهمية مقام أصحاب الجنة، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين، وهو من باب التغليب.

ثم تضيف الآية: «وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعمَالَهُمْ» وهذا التعبير إشارة اخرى إلى مسألة تجسم الأعمال، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الأليم.

وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك: «وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ» لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) الزهد والإدخار للآخرة: تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا».

نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلّاالتمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كل القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كل أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 467

«فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ». فاليوم ترون جزاء كل ذلك التمتع الباطل، واتّباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

إنّ هذا العرض بحد ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كل أقسام جهنم من الخارج قبل أن يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذبوا ويتألموا له.

لقد ذكر في ذيل هذه الآية

ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الإستكبار، و الثاني: الفسق.

ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات اللَّه وبعث الأنبياء والقيامة، والثاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين «1».

وَ اذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) قوم عاد والريح المدمرة: لمّا كان القرآن يذكر قضايا كلية، ثم يتطرق إلى بيان مصاديق واضحة لها، ليطبق تلك الكليات. فإنّه هنا يسلك نفس السبيل، فبعد أن فصل حال المستكبرين المتمردين، تطرّق إلى ذكر قصة قوم عاد الذين هم صورة واضحة لأولئك العتاة، فتقول الآية: «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ».

إنّ التعبير بالأخ يعكس منتهى صفاء هذا النبي العظيم وحرصه على قومه.

ثم تضيف الآية: «إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ».

______________________________

(1) الميزان في تفسير القرآن 18/ 206.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 468

«الأحقاف»: تعني الكثبان الرملية التي تتشكل على هيئة مستطيل أو تعرجات ومنحنيات، على أثر هبوب العواصف في الصحاري، ويتّضح من هذا التعبير أنّ أرض قوم عاد كانت أرضاً حصباء كبيرة. إنّ هذه المنطقة تقع جنوب الجزيرة العربية قرب أرض اليمن.

يقول القرآن الكريم: «أَلَّا

تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ». ثم هدّدهم بقوله: «إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».

إلّا أنّ هؤلاء القوم المتمردين وقفوا بوجه هذه الدعوة الإلهية، وخاطبوا هوداً: «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

إلّا أنّ هوداً عليه السلام قال في ردّه على هذا الطلب المتهور الذي يدل على الجنون: «قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ». فهو الذي يعلم متى وفي أي ظروف ينزل عذاب الإستئصال، فلا هو مرتبط بطلبكم وتمنيكم، ولا هو تابع لرغبتي، بل يجب أن يتمّ الهدف ويتحقق، ألا وهو إتمام الحجة عليكم، فإنّ حكمته سبحانه تقتضي ذلك.

ثم يضيف: «وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ». فهو مهمتي الأساسية، ومسؤوليتي الرئيسية، أمّا اتخاذ القرار في شأن طاعة اللَّه وأوامره فهو أمر يتعلق بكم، وإرادة نزول العذاب ومشيئته تتعلق به سبحانه.

«وَلكِنّى أَرَيكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ». وجهلكم هذا هو أساس تعاستكم وشقائكم، فإنّ الجهل المقترن بالكبر والغرور هو الذي يمنعكم من دراسة دعوة رسل اللَّه، ولا يأذن لكم في التحقيق فيها ...

وأخيراً لم تؤثر نصائح هود عليه السلام المفيدة، وإرشاداته الأخوية في قساة القلوب اولئك، وبدل أن يقبلوا الحق لجّوا في غيّهم وباطلهم، وتعصبوا له، وحتى نوح عليه السلام كذّبه قومه بهذا الادّعاء الواهي وهو أنّك إن كنت صادقاً فيما تقول فأين عذابك الموعود؟

والآن، وقد تمّت الحجة بالقدر الكافي، وأظهر اولئك عدم أهليتهم للبقاء، وعدم استحقاقهم للحياة، فإنّ حكمة اللَّه سبحانه توجب أن يرسل عليهم «عذاب الإستئصال» ذلك العذاب الذي يجتث كل شي ء ولا يبقي ولا يذر.

وفجأة رأوا سحاباً قد ظهر في الأفق، واتسع بسرعة: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا» «1».

______________________________

(1) «عارض»: من مادة «عرض»، وهنا بمعنى السحاب الذي ينتشر في عرض السماء، وربّما كان

هذا أحد علامات السحب الممطرة بأنّها تتسع في ذلك الأفق ثم تصعد؛ و «الأودية»: جمع «واد»، وهو المنخفض ومجرى السيول والمياه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 469

لكن، قيل لهم سريعاً بأنّ هذا ليس سحاباً ممطراً: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ».

والظاهر أنّ المتكلم بهذا الكلام هو اللَّه سبحانه، أو أنّ هوداً لمّا سمع صرخات فرحهم واستبشارهم قال لهم ذلك.

نعم، إنّها ريح مدمّرة: «تُدَمّرُ كُلَّ شَىْ ءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا».

قال بعض المفسرين: إنّ المراد من «كُلَّ شَىْ ءٍ» البشر ودوابهم وأموالهم، لأنّ الجملة التالية تقول: «فَأَصْبَحُوا لَايُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ». وهذا يوحي بأنّ مساكنهم كانت سالمة، أمّا هم فقد هلكوا، وألقت الرياح القوية أجسادهم في الصحاري البعيدة، أو في البحر.

روى أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجوّ حتى يرى كأنّها جرادة، وقيل: أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت فيها كشهب النار، وروى أنّ أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب أليم أنّهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم وأحال اللَّه عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لها أنين.

وجاء في الآية (7) من سورة الحاقة: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ».

ثم كشف الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر «1».

وتشير الآية في النهاية إلى حقيقة، وهي أنّ هذا المصير غير مختص بهؤلاء القوم الضالين، بل: «كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ».

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصَاراً وَ أَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لَا أَبْصَارُهُمْ وَ لَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا

مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَ صَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

______________________________

(1) التفسير الكبير 28/ 28.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 470

لستم بأقوى من قوم عاد أبداً: إنّ هذه الآيات بمثابة استنتاج للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن عقاب قوم عاد الأليم، فتخاطب مشركي مكة وتقول: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ».

فقد كانوا أقوى منكم من الناحية الجسمية، وأقدر منكم من ناحية المال والثروة والإمكانات المادية، ولكن عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي، فكيف بكم إذن.

ثم تضيف الآية: «وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفِدَةً». فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً، وكانوا يدركون الامور جيداً، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه، لكن: «فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفِدَتُهُم مّن شَىْ ءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بَايَاتِ اللَّهِ».

وأخيراً: «وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ».

ثم تخاطب الآية مشركي مكة من أجل التأكيد على هذا المعنى ولزيادة الموعظة والنصيحة، فتقول: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مّنَ الْقُرَى .

اولئك الأقوام الذين لا تبعد أوطانهم كثيراً عنكم، وكان مستقرهم في أطراف جزيرة العرب.

ثم تضيف الآية بعد ذلك: «وَصَرَّفْنَا الْأَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».

وتوبخ الآية الأخيرة من هذه الآيات هؤلاء العصاة، وتذمهم بهذا البيان: «فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةً».

حقّاً، إذا كانت هذه الآلة على حق، فلماذا لا تعين أتباعها وعبادها وتنصرهم في تلك الظروف الحساسة، ولا تنقذهم من قبضة العذاب المهول المرعب؟ إنّ هذا بنفسه دليل محكم على بطلان عقيدتهم حيث كانوا يظنّون أنّ هذه الآلهة المخترعة هي ملجأهم وحماهم في يوم تعاستهم

وشقائهم.

ثم تضيف: «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ». فإنّ هذه الموجودات التي لا قيمة لها ولا أهمية، والتي ليست مبدأ لأي أثر، ولا تأتي بأي فائدة، وهي عند العسر صماء عمياء، فكيف تستحق الألوهية وتكون أهلًا لها؟

وأخيراً تقول الآية: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ». فإنّ هذا الهلاك والشقاء، وهذا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 471

العذاب الأليم، واختفاء الآلهة وقت الشدّة والعسر، كان نتيجةً لأكاذيب اولئك وأوهامهم وافتراءاتهم.

وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

سبب النّزول

في تفسير علي بن إبراهيم: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد ولم يجد من يقبله، ثم رجع إلى مكة، فلما بلغ موضعاً يقال له وادي مجنة: تهجد بالقرآن في جوف الليل، فمر به نفر من الجن فلمّا سمعوا قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استمعوا له فلما سمعوا قراءته قال بعضهم لبعض: «أنصتوا». يعني اسكتوا (فلمّا قضي) أي فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من القراءة «وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ» إلى قوله «أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ» فجاؤا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاسلموا وآمنوا وعلمهم رسول اللَّه

شرائع الإسلام فأنزل اللَّه على نبيه «قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنّ» السورة كلها.

التّفسير

إيمان طائفة من الجن: جاء في هذه الآيات بحث مختصر حول إيمان طائفة من الجن بنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكتابه السماوي.

لقد كانت قصة قوم عاد تحذيراً لمشركي مكة، وقصة إيمان طائفة من الجن تحذيراً آخر.

تقول الآية أوّلًا: «وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ».

«صرّفنا»: يعني نقل الشي ء وتبديله من حالة إلى اخرى؛ ولعله إشارة إلى أنّ الجن كانوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 472

يصغون إلى أخبار السماء عن طريق استراق السمع، ومع ظهور نبي الخاتم صلى الله عليه و آله رجعوا إليه واتّجهوا نحو القرآن. ثم تضيف الآية: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا». وذلك حينما كان النبي صلى الله عليه و آله يتلو آيات القرآن في جوف الليل، أو في صلاة الصبح.

وأخيراً أضاء نور الإيمان قلوب هؤلاء، فلمسوا في أعماقهم كون آيات القرآن حقاً، ولذلك: «فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ».

وتبيّن الآية التالية كيفية دعوة هؤلاء قومهم عند عودتهم إليهم، تلك الدعوة المتناسقة الدقيقة، الوجيزة والعميقة المعنى: «قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى .

ومن صفاته أنّا رأيناه يصدق الكتب السماوية السالفة ويتطابق معها في محتواها، وفيه العلائم الواردة في تلك الكتب: «مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ».

وصفته الاخرى أنّه: «يَهْدِى إِلَى الْحَقّ». بحيث إنّ كل من يستند إلى عقله وفطرته يرى آيات حقانيته واضحة جلية.

وآخر صفة أنّه يهدي إلى الرشد: «وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ».

ثم أضافوا: «يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ». إذ ستمنحون حينها مكافأتين عظيمتين: «يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ» «1».

المراد من: «دَاعِىَ اللَّهِ» نبي الإسلام صلى الله عليه و آله الذي كان

يرشدهم إلى اللَّه سبحانه.

وتذكر الآية الأخيرة- من هذه الآيات- كلام مبلغي الجن، فتقول: «وَمَن لَّايُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ». ينصرونه من عذاب اللَّه، ولذلك فإنّ: «أُولئِكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ».

أي ضلال أشد وأسوأ وأجلى من أن يهبّ الإنسان إلى محاربة الحق ونبي اللَّه، بل حتى إلى محاربة اللَّه الذي لا ملجأ له سواه في كل عالم الوجود، ولا يستطيع الإنسان أن يفر من حكومته إلى مكان آخر؟!

______________________________

(1) «يجركم»: من مادة «إجارة»، وقد وردت بمعان مختلفة: الإغاثة، الإنقاذ من العذاب، الإيواء، والحفظ.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 473

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) فاصبر كما صبر أولوا العزم: تواصل هذه الآيات البحث حول المعاد، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن- هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الاولى عن مسألة التوحيد، وعظمة القرآن المجيد، وإثبات نبوّة نبي الخاتم صلى الله عليه و آله، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الاصول الإعتقادية الثلاثة.

تقول الآية الاولى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى بَلَى

إِنَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ».

هذا أحد أدلة المعاد العدديدة التي يؤكّد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة، ومن جملتها الآية (81) من سورة يس.

وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد، فتقول:

«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ».

وعندما يُعرض الكافرون على النار، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم:

«أَلَيْسَ هذَا بِالْحَقّ». وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة اللَّه العادلة، وثوابه وعقابه، وتقولون: ما هذا إلّاأساطير الأوّلين؟

غير أنّ اولئك الذين لا حيلة لهم: «قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا». فهنا يقول اللَّه سبحانه، أو ملائكة العذاب: «قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ».

وبهذا فإنّهم يرون كل الحقائق بام أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم، وسوف لن تكون نتيجته إلّاالهم والحسرة، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي.

ويأمر اللَّه سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر آية في سورة الأحقاف،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 474

على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين، أن: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولوا العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا.

عبارة (من الرّسل) إشارة إلى فئة خاصة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة، وهم الذين أشارت إليهم الآية (7) من سورة الأحزاب: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا».

وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة.

ثم يضيف القرآن بعد ذلك: «وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ». أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشد العذاب، وعندها سيطلعون على أخطائهم،

ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي.

إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مّن نَهَارٍ».

ثم تضيف الآية كتحذير لكل البشر: «بَلغٌ» لكل اولئك الذين خرجوا عن خط العبودية للَّه تعالى .. لُاولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء، والعابدين شهواتها .. وأخيراً هو بلاغ لكل سكان هذا العالم الفاني.

وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى، وينطوي على التهديد: «فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ».

ملاحظة

كان نبي الخاتم مثال الصبر والإستقامة: إنّ حياة أنبياء اللَّه العظام- وخاصة نبي الأكرم صلى الله عليه و آله- تبيان لمقاومتهم اللامحدودة أمام الحوادث الصعبة والشدائد العسيرة، والعواصف الهوجاء، والمشاكل القاصمة، ولما كان طريق الحق مليئاً بهذه المشاكل دائماً، فيجب على سالكيه أن يستلهموا العبر من أولئك العظماء في هذا المسير.

إنّنا ننظر عادة من نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إلى أيّام مرّت على الإسلام ونبيّه صلى الله عليه و آله صعبة مظلمة، وهذه النظرة من المستقبل إلى الماضي تجسم الوقائع والحقائق بشكل آخر، فينبغي علينا أن ندرك أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان وحيداً فريداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 475

فأعداؤه شمروا عن سواعدهم للفتك به، حتى أنّ أقاربه وعشيرته كانوا في الخط الأوّل في هذه المجابهة.

لقد فرضوا عليه الحصار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بحيث أغلقوا جميع الأبواب والطرق بوجهه وبوجه أتباعه، حتى مات بعضهم جوعاً، وأقعد المرض بعضهم الآخر.

لقد مرّت على النبي صلى الله عليه و آله أيّام يصعب على القلم واللسان وصفها، فعندما جاء إلى الطائف ليدعو الناس إلى الإسلام، لم يكتفوا بعدم إجابة دعوته، بل رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه.

لقد كانوا يحثّون الجهلاء من الناس

على أن يصرخوا، ويسيؤوا في كلامهم إليه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي ...» «1».

كانوا يسمونه ساحراً تارة، واخرى يخاطبونه بالمجنون.

كانوا يلقون التراب والرماد على رأسه حيناً، وحيناً يجمعون على قتله، فيحاصرون بيته بالسيوف والرماح.

إلّا أنّه رغم كل تلك الظروف استمر في صبره وصموده واستقامته.

وأخيراً جنى الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة، فقد عمّ دينه شرق العالم وغربه، لا جزيرة العرب وحدها، ويدوّي اليوم صوت انتصاره صباح مساء في كل أرجاء الدنيا، وفي قارات العالم الخمسة، وهذا هو معنى: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ».

«نهاية تفسير سورة الأحقاف»

______________________________

(1) سيرة النبي صلى الله عليه و آله، لابن هشام 2/ 285؛ تاريخ الطبري 2/ 80.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 477

47. سورة محمد

محتوى السورة: يمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول:

1- مسألة الإيمان والكفر، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.

2- بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.

3- شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.

4- فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض، وتدبر مصير الأقوام الماضية وعاقبتهم، كدرس للاعتبار والإتعاظ.

5- وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.

6- ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الجهاد، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي

يقع في الطرف المقابل.

7- وتناولت بعض آيات هذه السورة- لمناسبة موضوعها- مسألة الصلح مع الكفار- الصلح الذي يكون أساساً لهزيمة المسلمين وذلّتهم- ونهت عنه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 478

سمّيت هذه السورة بسورة محمّد صلى الله عليه و آله لأنّ اسمه الشريف قد ذكر في الآية الثانية، واسمها الآخر هو: سورة القتال، والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة.

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الذين كفروا لم يرتب أبداً، ولم يدخله شك في دينه أبداً، ولم يبله اللَّه بفقر أبداً، ولا خوف من سلطان أبداً، ولم يزل محفوظاً من الشك والكفر أبداً حتى يموت، فإذا مات وكّل اللَّه به في قبره ألف ملك يصلون في قبره، ويكون ثواب صلاتهم له ويشيعونه حتى يوقفونه موقف الأمن عند اللَّه عزّ وجل، ويكون في أمان اللَّه، وأمان محمّد صلى الله عليه و آله».

إنّ الذين يعيشون محتوى هذه السورة في نفوسهم و أعماق وجودهم، وتشبّعت به أرواحهم، وهم أشداء في جهاد الأعداء اللدودين القساة، والذين لم يدعوا للشك والتزلزل إلى أنفسهم سبيلًا، تكون أسس دينهم قوية، وإيمانهم صلباً، ولا يملكهم خوف ولا تنالهم ذلّة ولا يعتريهم فقر، وهم في الآخرة منعمون في جوار رحمة اللَّه.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ آمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) المؤمنون أنصار الحق، والكافرون أنصار الباطل:

إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة، فبيّنت الاولى منها وضع الكافرين وحالهم، والثانية حال المؤمنين، وقارنت ثالثتهما بين الإثنين، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين.

تقول الآية الاولى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ».

وهي إشارة إلى زعماء الكفر ومشركي مكة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام، ولم يكتفوا بكونهم كفاراً، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل اللَّه بأنواع الحيل والخدع والمخططات.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 479

والمراد من: «أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ» أنّه كل أعمالهم التي قاموا بها، وظاهرها معونة للفقراء والضعفاء، أو إقراء للضيف، أو غير ذلك، ستحبط لعدم إيمانهم.

فإنّ اللَّه سبحانه قد أحبط كل مؤامراتهم وما قاموا به من أعمال لمحو الإسلام والقضاء على المسلمين، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم الخبيثة.

والآية التالية وصف لوضع المؤمنين الذين يقفون في الصف المقابل للكافرين الذين وردت صفاتهم في الآية السابقة، فتقول: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ».

والجدير بالإلتفات إليه أنّ الآية تبيّن ثوابين للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، في مقابل العقابين اللذين ذكرا للكفار الصادين عن سبيل اللَّه.

لقد جاء «البال» بمعان مختلفة، فجاء بمعنى الحال، العمل، القلب؛ وبناءً على هذا فإنّ إصلاح البال يعني تنظيم كل شؤون الحياة والامور المصيرية، وهو يشمل الفوز في الدنيا.

وبيّنت الآية الأخيرة العلّة الأساسية لهذا الإنتصار وتلك الهزيمة من خلال مقارنة مختصرة بليغة، فقالت: «ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبّهِمْ».

ف «الحق» يعني الحقائق العينية، وأسماها ذات اللَّه المقدّسة، وتليها الحقائق المتعلقة بحياة الإنسان، والقوانين الحاكمة في علاقته باللَّه

تعالى، وفي علاقته بالآخرين؛ و «الباطل» يعني الظنون، والأوهام، والمكائد والخدع، والأساطير والخرافات، والأفعال الجوفاء التي لا هدف من ورائها، وكل نوع من الانحراف عن القوانين الحاكمة في عالم الوجود.

وتضيف الآية في النهاية: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ». أي: كما أنّه سبحانه قد بيّن الخطوط العامة لحياة المؤمنين والكفار، وعقائدهم وبرامجهم العملية ونتائج أعمالهم في هذه الآيات، فإنّه يوضح مصير حياتهم وعواقب أعمالهم.

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَ إِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذلِكَ وَ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 480

مختصر الامثل ج 4 520

يجب الحزم في ساحة الحرب: إنّ الآيات السابقة كانت مقدمة لتهيئة المسلمين من أجل إصدار أمر حربي مهم ذكر في الآيات مورد البحث، فتقول الآية: «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقَابِ».

من البديهي أنّ «ضرب الرقاب» كناية عن القتل، فإنّ الهدف هو دحر العدو والقضاء عليه، ولما كان ضرب الرقاب أوضح مصداق له، فقد أكّدت الآية عليه.

فإنّ هذا الحكم مرتبط بساحة القتال، لأنّ «لقيتم»- من مادة اللقاء- تعني الحرب والقتال في مثل هذه الموارد.

ثم تضيف الآية: «حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ».

«أثخنتموهم»: من مادة «ثخن»، بمعنى الغلظة والصلابة، ولهذا تطلق على النصر والغلبة الواضحة، والسيطرة الكاملة على العدو.

فإنّ الآية المذكورة تبيّن تعليماً عسكرياً دقيقاً، وهو أنّه يجب أن لا يُقدم على أسر الأسرى قبل تحطيم صفوف العدو والقضاء على آخر حصن لمقاومته، لأنّ الإقدام على الأسر قد يكون سبباً في تزلزل وضع المسلمين

في الحرب، وسيعيق المسلمين الإهتمام بأمر الأسرى ونقلهم إلى خلف الجبهات عن أداء واجبهم الأساسي.

وتبيّن الجملة التالية حكم أسرى الحرب الذي يجب أن يقام بحقّهم بعد انتهاء الحرب، فتقول: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً».

وعلى هذا لا يمكن قتل الأسير الحربي بعد انتهاء الحرب، بل إنّ ولي أمر المسلمين- طبقاً للمصلحة التي يراها- يطلق سراحهم مقابل عوض أحياناً، وبلا عوض أحياناً اخرى، وهذا العوض- في الحقيقة- نوع من الغرامة الحربية التي يجب أن يدفعها العدو.

طبعاً يوجد حكم ثالث في الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو استعباد الأسرى، إلّا أنّه ليس أمراً واجباً، بل هو راجع إلى ولي أمر المسلمين ينفّذه عندما يراه ضرورة في ظروف خاصة، ولعلّه لم يرد في القرآن بصراحة لهذا السبب، بل بيّنته الرّوايات الإسلامية فقط.

ثم تضيف الآية بعد ذلك: «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا». فلا تكفوا عن القتال حتى تحطّموا قوى العدو ويصبح عاجزاً عن مواجهتكم، وعندها سيخمد لهيب الحرب.

ثم تضيف الآية: «ذلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ». بالصواعق السماوية، والزلازل،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 481

والعواصف، والإبتلاءات الاخرى، لكن باب الإختبار وميدانه سيغلق في هذه الصورة:

«وَلكِن لّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ».

هذه المسألة هي فلسفة الحرب، والنكتة الأساسية في صراع الحق والباطل، ففي هذه الحروب ستتميز صفوف المؤمنين الحقيقيين والعاملين من أجل دينهم عن المتكلمين في المجالس المتخاذلين في ساعة العسرة، وبذلك ستتفتح براعم الاستعدادات، وتحيا قوة الإستقامة والرجولة، ويتحقق الهدف الأصلي للحياة الدنيا، وهو الإبتلاء وتنمية قوة الإيمان والقيم الإنسانية الاخرى.

وتحدّثت آخر جملة من الآية مورد البحث عن الشهداء الذين قدّموا أرواحهم هدية لدينهم في هذه الحروب، ولهم فضل كبير على المجتمع الإسلامي، فقالت: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ».

هذه هي أحدى مواهب اللَّه

في شأن الشهداء.

وهناك ثلاث مواهب اخرى أضيفت في الآيات التالية:

تقول الآية أوّلًا: «سَيَهْدِيهِمْ» إلى المقامات السامية، والفوز العظيم، ورضوان اللَّه تعالى.

والاخرى: «وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ» فيهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط المعنوي والروحي، والإنسجام مع صفاء ملائكة اللَّه ومعنوياتهم، حيث يجعلهم جلساءهم وندماءهم في مجالس أنسهم ولذّتهم، ويدعوهم إلى ضيافته في جوار رحمته.

والموهبة الأخيرة هي: «وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ».

إنّه تعالى لم يبيّن لهم الصفات الكليّة للجنات العلى وروضة الرضوان وحسب، بل عرف لهم صفات قصورهم في الجنة وعلاماتها، بحيث أنّهم عندما يردون الجنة يتوجّهون إلى قصورهم مباشرة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 482

إن تنصروا اللَّه ينصركم: تستمر هذه الآيات في ترغيب المؤمنين في جهاد أعداء الحق، وهي ترغّبهم في الجهاد بتعبير رائع بليغ، فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ».

إنّ التأكيد على مسألة «الإيمان» إشارة إلى أنّ إحدى علامات الإيمان الحقيقي هو جهاد أعداء الحق.

وعبارة «تَنصُرُوا اللَّهَ» تعني نصرة دينه، ونصرة نبيّه، وشريعته وتعليماته.

يقول: «يَنصُرْكُمْ» فهو سبحانه يلقي في قلوبكم نور الإيمان، وفي نفوسكم وأرواحكم التقوى، وفي أرادتكم القوّة والتصميم أكثر، وفي أفكاركم الهدوء والإطمئنان.

ومن جانب آخر يرسل الملائكة لمدكم ونصرتكم، ويغيّر مسار الحوادث لصالحكم، ويجعل أفئدة الناس تهوي إليكم، ويجعل كلماتكم نافذة في القلوب، ويصيّر نشاطاتكم وجهودكم مثمرة. نعم، إنّ نصرة اللَّه تحيط

بالجسم والروح، من الداخل والخارج؛ إلّاأنّه سبحانه يؤكّد على مسألة تثبيت الأقدام من بين كل أشكال النصرة، وذلك لأنّ الثبات أمام العدو أهم رمز للانتصار، وإنّما يكسب الحرب الذين يصمدون ويستقيمون أكثر.

ولمّا كانت حشود العدو العظيمة، وأنواع معداتهم وتجهيزاتهم قد تشغل فكر المجاهدين في سبيل اللَّه أحياناً، فإنّ الآية التالية تضيف: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلُّ أَعْمَالَهُمْ».

وتبيّن الآية التالية علّة سقوط هؤلاء، وجعل أعمالهم هباءً منثوراً، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ».

لقد أنزل اللَّه سبحانه دين التوحيد قبل كل شي ء، إلّاأن هؤلاء نبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا نحو الشرك.

لقد أمر اللَّه سبحانه بالحق والعدالة، والعفّة والتقوى، غير أنّهم أعرضوا عنها جميعاً، واتجهوا صوب الظلم والفساد، بل إنّهم تشمئز قلوبهم إذا ذكر اسم اللَّه تعالى وحده: «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ» «1».

وإذا كان هؤلاء يتنفّرون من هذه الامور، فمن الطبيعي أن لا يخطوا خطوة في هذا المسير، ولقد كانت كل مساعيهم وجهودهم في مسير الباطل وخدمته، فمن الطبيعي أيضاً أن تحبط كل هذه الأعمال.

______________________________

(1) سورة الزمر/ 45.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 483

ولمّا كان القرآن الكريم في كثير من الموارد يعرض للظالمين العاصين نماذج محسوسة، فقد دعاهم هنا أيضاً إلى التدبّر في أحوال الماضين، فقال: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

ومن أجل أن لا يظنّ هؤلاء أنّ ذلك المصير المشؤوم كان مختصّاً بالأقوام الطاغين الماضين، فقد أضافت الآية: «وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا».

وتناولت آخر آية- من الآيات مورد البحث- سبب حماية اللَّه المطلقة للمؤمنين ودفاعه عنهم، وإهلاكه الكافرين الطغاة، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ». «المولى»: بمعنى الولي والناصر، وبذلك فإنّ

اللَّه سبحانه قد تولّى أمر المؤمنين ونصرتهم، أمّا الكافرون فقد أخرجهم من ظل ولايته، ومن الواضح أنّه تعالى يعين اولئك المستظلين بظل ولايته، ويدفع عنهم النوائب، ويزيل عن طريقهم العراقيل، ويثبّت أقدامهم، وأخيراً فإنّهم ينالون مرادهم بنصرة اللَّه ومعونته، أمّا اولئك الخارجون عن ولايته فإنّ أعمالهم ستحبط، وتكون عاقبتهم الهلاك.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَ النَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) عاقبة المؤمنين والكافرين: لمّا كانت الآيات السابقة تتحدث عن الصراع الدائم بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، فإنّ الآيات مورد البحث تبيّن عاقبة المؤمنين والكفار من خلال مقارنة واضحة، وهي بذلك تريد أن توضح أنّ هذين الفريقين لا يختلفان في الحياة الدنيا وحسب، بل إنّ الاختلاف بينهما سيكون أوسع في الآخرة، فتقول: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ».

صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها، إلّاأنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى

مختصر الامثل، ج 4، ص: 484

اللَّه تعالى، أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتع بلذات الحياة. ومن أجل إكمال هذا الهدف تقارن الآية التالية بين مشركي مكة وعبدة الأوثان الماضين، وبعبارة أوضح، فإنّها تهدّدهم تهديداً شديداً، وتؤكّد ضمنياً على بعض جرائمهم الشنيعة التي تدلّ على جواز قتالهم

فتقول: «وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ».

فلا يظنّ هؤلاء أنّ الدنيا مستوسقة لهم إلى درجة أنّهم اجترؤوا على إخراج أشرف رسل اللَّه من أقدس المدن، فإنّ الأمر لا يدوم كذلك، فهم بالقياس إلى قوم عاد وثمود والفراعنة وجيش أبرهة موجودات ضعيفة عاجزة، واللَّه قادر على تدميرهم بكل سهولة، والقضاء عليهم يسير على اللَّه سبحانه.

وتطرح آخر الآيات- مورد البحث- مقارنة اخرى بين المؤمنين والكفار، بين فئتين تختلفان في كل شي ء، فإحداهما مؤمنة تعمل الصالحات، وتحيا الاخرى حياة حيوانية بكل معنى الكلمة .. بين فريقين، أحدهما مستظل بظل ولاية اللَّه سبحانه، والآخر لا مولى له ولا ناصر، فتقول: «أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَةٍ مِّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم».

إنّ الفريق الأوّل قد اختاروا طريقهم عن معرفة صحيحة، ورؤية واقعية، وعن يقين ودليل وبرهان قطعي؛ أمّا الفريق الثاني فقد ابتلوا بسوء التشخيص، وعدم إدراك الواقع، وظلمة المسير والهدف، فهم في ظلمات الأوهام حائرون، والعامل الأساس في هذه الحيرة والضلالة هو اتّباع الهوى والشهوات.

ومن الواضح أنّ الاستفهام في جملة: «أَفَمَن كَانَ ...» استفهام إنكاري، أي إنّ هذين الفريقين لا يتساويان أبداً.

«البينة»: تعني الدليل الواضح الجلي، وهي هنا إشارة إلى القرآن، ومعاجز الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، والدلائل العقلية الاخرى.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 485

وصف آخر للجنة: إنّ هذه

الآية وصف لمصير كل من المؤمنين والكافرين، فالفئة الاولى الذين يعملون الصالحات، والثانية زيّن لهم سوء أعمالهم.

وقد رفعت هذه الآية الغطاء عن ستة أنواع من نعم أهل النعيم، وعن نوعين من أنواع العذاب الأليم لأصحاب الجحيم، وهي تحدد عاقبة كلا الفريقين وتوضحها.

تتحدث الآية عن أربعة أنهار في الجنة، لكل منها سائله ومحتواه الخاص، ثم تتحدث عن فواكه الجنة، وأخيراً عن بعض المواهب المعنوية. تقول الآية أوّلًا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ».

ثم تضيف: «وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» وذلك أنّ الجنة مكان لا يعتريه الفساد، ولا تتغيّر أطعمة الجنة بمرور الزمن، وإنّما تتغيّر الأطعمة في هذه الحياة الدنيا، لوجود أنواع الميكروبات التي تفسد المواد الغذائية بسرعة.

ثم تطرّقت إلى ثالث نهر من أنهار الجنة، فقالت: «وَأَنْهَارٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ».

لا يخفى أنّ خمر الجنة وشرابها لا علاقة له بخمر الدنيا الملوّث مطلقاً، بل هو كما يصفه القرآن في الآية (47) من سورة الصافات: «لَافِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ»، وليس فيه إلّا العقل والنشاط واللذة الروحية.

وأخيراً تبيّن الآية رابع أنهار الجنة بأنّه: «وَأَنْهَارٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى».

وعلاوة على هذه الأنهار المختلفة التي خلق كل منها لغرض، فقد تحدثت الآية عن فواكه الجنة في الموهبة الخامسة، فقالت الآية: «وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ».

وأخيراً تتحدث عن الموهبة السادسة التي تختلف عن المواهب المادية السابقة، إذ إنّ هذه الهبة معنوية روحية، فتقول: «وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ».

ولنرَ الآن ماذا سيكون مصير الفريق المقابل للمؤمنين، أي الكفار؟

تقول الآية متابعة لحديثها: «كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ».

جملة «سُقُوا» بصيغة الفعل المبني للمجهول، توضح أنّ أصحاب الجحيم يسقون الماء الحميم بالقوة، لا بإرادتهم، وبدل الإرتواء

في تلك النار المحرقة فإنّه يقطّع أمعاءهم، وكما هي طبيعة الجحيم، فإنّهم يرجعون إلى حالتهم الاولى، حيث لا موت هناك.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 486

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَا ذَا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَ آتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْوَاكُمْ (19) تعكس هذه الآيات صورة عن وضع المنافقين، وطريق تعاملهم مع الوحي الإلهي، وكلمات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ومسألة قتال أعداء الإسلام ومحاربتهم.

تقول الآية الاولى من الآيات مورد البحث: «وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا». وكان مرادهم من ذلك الرجل هو النبي صلى الله عليه و آله.

إنّ تعبير هؤلاء في شأن النبي وكلماته البليغة، كان من القبح والبذاءة إلى درجة تدل على أنّهم لم يؤمنوا بالوحي السماوي قط.

«آنفاً»: من مادة «أنف»، ولمّا كان للأنف بروزاً متميّزاً في وجه الإنسان، فإنّ هذه الكلمة تستعمل في شأن أشراف القوم، وكذلك تستعمل في مورد الزمان المتقدم على زمان الحال، كما جاء في الآية مورد البحث.

إلّا أنّ القرآن الكريم قد أجابهم جواباً قاطعاً، فقال: إنّ كلام النبي صلى الله عليه و آله لم يكن غامضاً ولا معقّداً، بل «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ».

ويقف المؤمنون الحقيقيون في الطرف المقابل لهؤلاء، وعنهم تتحدث الآية التالية فتقول:

«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ

تَقْوَيهُمْ».

نعم، لقد خطا هؤلاء الخطوة الاولى بأنفسهم، واستخدموا عقلهم وفطرتهم في هذا المسير، ثم أخذ اللَّه سبحانه بيدهم كما وعدهم من قبل، فزادهم هدى إلى هداهم.

وتحذّر الآية التالية اولئك المستهزئين الذين لا إيمان لهم، فتقول: «فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَيهُمْ».

إنّ هؤلاء لم يذعنوا للحق حيث كان الإيمان واجباً عليهم، ومفيداً لهم، بل كانوا في طغيانهم يعمهون، وبآيات اللَّه يستهزئون، غير أنّهم يوم يرون الحوادث المرعبة وبداية القيامة تهزّ العالم وتزلزله، يصيبهم الفزع ويظهرون خضوعهم ويؤمنون، ولا ينفعهم يومئذ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 487

إيمانهم وخضوعهم.

«الأشراط»: جمع «شَرَط»، وهي العلامة، وعلى هذا فإنّ (أشراط الساعة) إشارة إلى علامات اقتراب القيامة.

وتقول آخر آية من هذه الآيات وكاستخلاص لنتيجة البحوث التي وردت في الآيات السابقة حول الإيمان والكفر، ومصير المؤمنين والكفار: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا اللَّهُ». أي:

اثبت على خط التوحيد، فإنّه الدواء الشافي، واعلم أنّ أفضل وسيلة للنجاة هو التوحيد الذي بيّنت الآيات السالفة آثاره.

وبعد هذه المسألة العقائدية، تعود الآية إلى مسألة التقوى والعفة عن المعصية، فتقول:

«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ».

لا يخفى أنّ النبي صلى الله عليه و آله لم يرتكب ذنباً قط بحكم مقام العصمة، وأمثال هذه التعابير إشارة إلى ترك الاولى، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقربين، أو إلى أنّه قدوة للمسلمين.

ويقول سبحانه في ذيل الآية، وكتبيان للعلة: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَيكُمْ».

فهو يعلم ظاهركم وباطنكم، كتمانكم وعلانيتكم، سرّكم ونجواكم، بل ويعلم حتى نيّاتكم، وما توسوس به أنفسكم، ويخطر على أذهانكم، وما يجري في ضمائركم، ويعلم حركاتكم وسكناتكم، ولهذا وجب عليكم التوجّه إليه ورفع الأكف بين يديه وطلب العفو والمغفرة والرحمة منه.

«المتقلّب»: هو المكان الذي يكثر التردّد عليه؛ و «المثوى»: هو

محل الإستقرار.

إنّ لهاتين الكلمتين معنى واسعاً يشمل كل حركات ابن آدم وسكناته، سواء التي في الدنيا أم في الآخرة.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 488

يخافون حتى من اسم الجهاد: تبيّن هذه الآيات المواقف المختلفة للمؤمنين والمنافقين تجاه الأمر بالجهاد، تكملة للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول هذين الفريقين.

تقول الآية الاولى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلَا نُزّلَتْ سُورَةٌ».

سورة يكون فيها أمر بالجهاد، يوضح واجبنا تجاه الأعداء القساة.

وأمّا المنافقون: «فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ».

إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى المؤمنين ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان تفجّر الإستعدادت والقابليات، وهو ميدان الثبات والمقاومة والإنتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان. إلّاأنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض.

فإنّ الآية تضيف في النهاية فتقول: «فَأَوْلَى لَهُمْ».

إنّ جملة أعلاه تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر.

وتضيف الآية التالية: «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ».

ثم تضيف: «فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ». وسيرفع رؤوسهم في الدنيا، ويمنحهم العزّة والفخر، ويؤدّي إلى أن ينالوا الثواب الجزيل، والأجر الكبير، والفوز

العظيم في الآخرة.

وجملة «عَزَمَ الْأَمْرُ» تشير في الأساس إلى استحكام العمل، إلّاأنّ المراد منها هنا الجهاد، بقرينة الآيات التي سبقتها والتي تليها.

وتضيف الآية التالية: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ». لأنّكم إن أعرضتم عن القرآن والتوحيد، فإنّكم سترجعون إلى جاهليّتكم حتماً، ولم يكن في الجاهلية إلّاالفساد في الأرض، والإغارة والقتل وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ووأد البنات.

وتوضح الآية التالية المصير النهائي لهؤلاء القوم المنافقين المفسدين المتذرّعين بأوهى الحجج فتقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ».

إنّ هؤلاء يظنّون أنّ الجهاد الإسلامي القائم على أساس الحق والعدالة، قطيعة للرحم، وفساداً في الأرض، أمّا كل الجرائم التي إرتكبوها في الجاهلية، والدماء البريئة التي سفكوها

مختصر الامثل، ج 4، ص: 489

أيّام تسلطهم، والأطفال الأبرياء الذين وأدوهم ودفنوهم وهم أحياء يستغيثون، كانت قائمة على أساس الحق والعدل! لعنهم اللَّه إذ لا اذن واعية لهم، ولا عين ناظرة بصيرة.

وتناول آخر آية من هذه الآيات ذكر العلة الحقيقية لانحراف هؤلاء القوم التعساء، فقالت: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا».

ولهذا، فإنّ القرآن الكريم يجب أن يأخذ مكانه من حياة المسلمين، ويكون في صميمها لا على هامشها، وعليهم أن يجعلوه قدوتهم وأسوتهم، وأن ينفذوا كل أوامره، وأن يجعلوا خطوط حياتهم وطبيعتها منسجمة معه.

لكن، أنّ الاستفادة من القرآن تحتاج إلى نوع من تهذيب النفس وجهادها، وإن كان القرآن بنفسه معيناً في تهذيبها، لأنّ القلوب إذا كانت مقفلة بأقفال الهوى والشهوة، والكبر والغرور، واللجاجة والتعصّب، فسوف لا يلجها نور الحق.

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلَى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ

(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أفلا يتدبّرون القرآن: تواصل هذه الآيات الكلام حول المنافقين ومواقفهم المختلفة، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ».

«سوّل»: من مادة «سُؤْل»، وهي الحاجة التي يحرص عليها الإنسان؛ و «التسويل»: بمعنى الترغيب والتشويق إلى الامور التي يحرص عليها، ونسبته إلى الشيطان بسبب الوساوس التي يلقيها في نفس الإنسان، وتمنع من هدايته؛ و «أملى : من مادة «إملاء»، وهو زرع طول الأمل فيهم، والآمال البعيدة المدى، والتي تشغل الإنسان، فتصدّه عن الحق والهدى.

وتشرح الآية التالية علّة هذا التسويل والتزيين الشيطاني، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الْأَمْرِ». وهذا دأب المنافقين في البحث عن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 490

العصاة والمخالفين، وإذا لم يكونوا مشتركين ومتفقين معهم في كل المواقف، فإنّهم يتعاونون معهم على أساس المقدار المتفق عليه من مواقفهم، بل ويطيعونهم إذا اقتضى الأمر. بل قد اتجه منافقو المدينة نحو يهود المدينة- وهم «بنو النضير» و «بنو قريظة» الذين كانوا يبشرون بالإسلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه و آله، أمّا بعد ظهوره ومبعثه، وتعرّض مصالحهم للخطر، ولحسدهم وكبرهم، فإنّهم اعتبروا الإسلام ديناً باطلًا، وغير سليم- ولمّا كان هناك قدر مشترك بين المنافقين واليهود في مخالفتهم النبي صلى الله عليه و آله، وتآمرهم ضد الإسلام، فإنّهم اتفقوا مع اليهود على العمل المشترك ضد الإسلام والمسلمين.

وربّما كان جملة «فِى بَعْضِ الْأَمْرِ» إشارة إلى أنّنا نتعاون معكم في هذا الجزء فقط، فإنّكم تخالفون عبادة الأصنام، وتعتقدون بالبعث والقيامة، ونحن لا نتفق معكم في

هذه الامور.

وتهدد الآيات هؤلاء في نهايتها فتقول: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ». فهو عليم بكفرهم الباطن ونفاقهم، وبتآمرهم مع اليهود، وسيعاقبهم ويجازيهم في الوقت المناسب.

و الآية التالية بمثابة توضيح لهذا التهديد المبهم، فتقول: «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ».

وهم يضربون وجوههم لأنّها اتجهت نحو أعداء اللَّه، ويضربون أدبارهم لأنّهم أدبروا عن آيات اللَّه ونبيّه.

وتناولت آخر آية من هذه الآيات بيان علّة هذا العذاب الإلهي وهم على إعتاب الموت، فتقول: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ».

لأنّ رضى اللَّه سبحانه هو شرط قبول الأعمال وكل سعي وجهد.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَ لَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) يعرف المنافقون من لحن قولهم: تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين دائماً، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة

مختصر الامثل، ج 4، ص: 491

الكبرى، فتقول أوّلًا: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ».

«الأضغان»: جمع «ضِغْن»، وهو الحقد الشديد.

إنّ الآية التالية تضيف: «وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ». فنجعل في وجوههم علامات تعرفهم بها إذا رأيتهم، وتراهم رأي العين فتنظر واقعهم عندما تنظر ظاهرهم.

ثم تضيف: «وَلَتَعْرِفَنَّهمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ». فيمكنك في الحال أن تعرفهم من خلال نمط كلامهم. أي: يمكن معرفة المنافقين مرضى القلوب من خلال الكناية في كلامهم، وتعبيراتهم المؤذية التي تنطوي على النفاق.

في تفسير مجمع البيان عن أبي سعيد الخدري قال: لحن

القول بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: وكنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام «1».

لقد كانت إحدى العلامات البارزة للمنافقين أنّهم كانوا يعادون أوّل من آمن من الرجال، وأوّل مضحٍ في سبيل الإسلام، ويبغضونه.

واليوم أيضاً لا تصعب معرفة المنافقين من لحن قولهم ومواقفهم المضادة في المسائل الاجتماعية المهمّة، وخاصة عند الإضطرابات أو الحروب، ويمكن التعرف عليهم بأدنى دقّة في أقوالهم وأفعالهم.

وأخيراً تضيف الآية: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعمَالَكُمْ». فهو يعلم أعمال المؤمنين ما ظهر منها وما بطن، ويعلم أعمال المنافقين، وإذا افترضنا أنّ هؤلاء قادرون على إخفاء واقعهم الحقيقي عن الناس، فهل باستطاعتهم إخفاءه عن اللَّه الذي هو معهم في سرّهم وعلانيهم، وخلوتهم واجتماعهم؟

وتضيف الآية التالية مؤكّدة وموضحة طرقاً اخرى لتمييز المؤمنين عن المنافقين:

«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ». الحقيقيين من المتظاهرين بالجهاد والصبر.

______________________________

(1) مجمع البيان 9/ 176. ثم إنّ جماعة من كبار العامّة نقلوا مضمون هذا الحديث في كتبهم؛ ومن جملتهم: أحمد بن حنبل في كتاب فضائل الصحابة، وابن عبد البر في الإستيعاب، والذهبي في تاريخ أوّل الإسلام، وابن الأثير في جامع الاصول، والعلّامة الگنجي في كفاية الطالب، والسيوطي في الدرّ المنثور، والآلوسي في روح المعاني، وأورده جماعة آخرون في كتبهم؛ وهو يبيّن أنّها إحدى الروايات المسلّمة عن الرسول الأعظم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 492

وتقول الآية الأخيرة: «وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ».

وبهذا فإنّ اللَّه سبحانه يختبر أعمال البشر، كما يختبر أقوالهم وأخبارهم. فليست هذه المرة الاولى التي يخبر اللَّه سبحانه الناس فيها بأنّي أبلوكم لتمييز صفوفكم، وليعرف المؤمنون الحقيقيون وضعفاء الإيمان والمنافقون، وقد ذكرت مسألة الإمتحان والإبتلاء هذه في آيات كثيرة من القرآن الكريم.

وقد بحثنا المسائل

المتعلقة بالاختبار الإلهي في ذيل الآية (155) من سورة البقرة، وكذلك وردت في بداية سورة العنكبوت.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث هذه الآيات وضع جماعة اخرى من الكفار، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ». حتى وإن عملوا خيراً، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.

هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكة، أو الكفار من يهود المدينة، أو كليهما.

أمّا «تبيّن الهدى»، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.

و «إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.

وبعد أن تبيّن حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجّهت الآية التالية الخطاب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 493

إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم، فقالت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ».

فإنّ اسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة اللَّه ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإنّ اللَّه سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.

وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في

الآيات السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ». لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم، فكيف يغفر اللَّه لهم.

فَلَا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) الصلح المذل: متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية إلى أحد الامور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب. ولذلك تقول الآية الشريفة:

الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد «فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ».

أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم، كيف تذلّون أنفسكم وترضون بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلّاالتراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار، وهو نوع من طلب الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.

ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: «وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعمَالَكُمْ». «يتركم»: من مادة «الوتر»، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي وحيداً: وِتْر. وجاء أيضاً بمعنى النقصان؛ وفي الآية- مورد البحث- كناية جميلة عن هذا المطلب، بأنّ اللَّه سبحانه لن يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلّاكتبت لكم، فلم يكن اللَّه لينقص من أجركم شيئاً، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 494

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ

تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) قلنا: إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي، والآيات مورد البحث- وهي آخر آيات هذه السورة- تتناول مسألة اخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة اللَّه سبحانه عموماً، وإلى أمر الجهاد بالخصوص، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد العوامل المهمّة التي تعيق المسلمين عن الجهاد، فتقول: «إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ».

«اللعب»: يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي؛ و «اللهو»: يقال لكل عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.

والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلّا، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنّما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.

ثم تضيف الآية: «وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ». فلا اللَّه يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكل تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة، ولا رسوله، فإنّ اللَّه تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير اللَّه.

وإذا كان الشي ء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية اخرى، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولاستقرار النظام والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.

بناءً على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هو من أجلكم ومنفعتكم، فإنّ اللَّه ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة

والإنفاق وأمثالها.

ولتبيان تعلق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية: «إِن

مختصر الامثل، ج 4، ص: 495

يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ».

«يحفكم»: من مادة «إحفاء»، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي في الأصل من حفأ، وهو المشي حافياً، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود؛ و «الأضغان» جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد.

وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكل ما لديهم في سبيل اللَّه، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلّاالإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.

والآية الأخيرة- من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد- تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل اللَّه، فتقول: «هَا أَنتُمْ هؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ».

وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ اللَّه لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل اللَّه؟

غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أوّلًا: «وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ». لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقلّ التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبة والصفاء محل العداوة والحقد، هذا ثوابكم الدنيوي.

وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كل درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه. وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير ب

«فِى سَبِيلِ اللَّهِ» يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.

والجواب الآخر هو: «وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ» فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.

وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه،

مختصر الامثل، ج 4، ص: 496

فحذار أن تقصّروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم».

وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ».

وفي تفسير مجمع البيان: روى أبوهريرة أنّ ناساً من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالوا: يا رسول اللَّه! من هؤلاء الذين ذكر اللَّه في كتابه وكان سلمان إلى جنب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فضرب بيده على فخذ سلمان فقال: «هذا وقومه، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «واللَّه أبدل بهم خيراً منهم الموالي».

«نهاية تفسير سورة محمّد»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 497

48. سورة الفتح

محتوى السورة: هذه السورة كما هو ظاهر من اسمها تحمل رسالة الفتح والنصر؛ الفتح والنصر على أعداء الإسلام، الفتح المبين والأكيد «سواءً كان هذا الفتح متعلّقاً بفتح مكة أو بصلح الحديبية أو فتح خيبر أو كان هذا الفتح بشكل مطلق».

وفي تفسير مجمع

البيان عن عبد اللَّه بن مسعود قال: أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الحديبية فجعلت ناقته تثقل فتقدّمنا فأنزل اللَّه عليه: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا». فأدركنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبه من السرور ما شاء اللَّه، فأخبر أنّها نزلت عليه.

وبمراجعة إجمالية للسورة يمكن القول إنّها تتألف من سبعة أقسام:

1- تبدأ السورة بموضوع البشرى بالفتح كما أنّ آياتها الأخيرة لها علاقة بهذا الموضوع أيضاً، وفيها تأكيد على تحقق رؤيا النبي التي تدور حول دخوله وأصحابه مكة وأداء مناسك العمرة.

2- يتحدث قسم آخر من هذه السورة عن الحوادث المتعلقة بصلح الحديبية ونزول السكينة على قلوب المؤمنين و «بيعة الرضوان» وما إلى ذلك.

3- ويتحدث قسم ثالث منها عن مقام النبي صلى الله عليه و آله وهدفه الأسمى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 498

4- ويكشف القسم الرابع الستار عن غَدر المنافقين ونقضهم العهد ونكثهم له ويعطي أمثلةً من أعذارهم الواهية في مسألة عدم مشاركتهم النبي جهاده المشركين والكفار.

5- وفي قسم آخر يقع الكلام على طلبات «المنافقين» في غير محلّها.

6- والقسم السادس يوضح من هم المعذورون الذين لا حرج عليهم.

7- وأخيراً يتحدث عن خصائص أصحاب النبي وأتباعه في طريقته وسنّته وصفاتهم التي يتميّزون بها.

فضيلة تلاوة السورة: في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا» فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي وادخلوه جنات النعيم واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور».

ومن الواضح أنّ الهدف الأصلي من تلاوة هذه السورة هو تطبيق أعمال القارئ وخلقه وطبعه على مفاد

هذه السورة ومضامينها.

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) الفتح المبين: في الآية الاولى من هذه السورة بشرى عظيمة للنبي صلى الله عليه و آله بشرى هي عند النبي طبقاً لبعض الرّوايات أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، إذ تقول الآية: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا».

وهو إشارة إلى ما كان من نصيب للمسلمين من الفتح الكبير على أثر «صلح الحديبية».

ومن الأفضل وقبل الولوج في تفسير الآيات أن نعرض قصة صلح الحديبية ليتّضح «المقام» وليكون هذا العرض بمثابة شأن نزول الآيات أيضاً.

قصة صلح الحديبية: في السنة السادسة خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله معتمراً في ذي القعدة لا يريد حرباً ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة وساق الهَدْىَ معه سبعين بَدَنة ليعلم الناس أنّه إنّما جاء زائراً للبيت فلما بلغ عُسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول اللَّه هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوى يحلفون باللَّه لا تدخلها عليهم أبداً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 499

إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال للناس: «انزلوا». فقالوا: ما بالوادي ماء ينزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش الماء بالريّ حتى ضرب الناس بعطن ..

وبدأ التزاور بين سفراء النبي صلى الله عليه و آله وممثليه وسفراء قريش وممثليها لتحلّ المشكلة على أي نحو كان وأخيراً جاء عروة بن مسعود الثقفي الذي كان رجلًا حازماً عند النبي فقال النبي:

«إنّا لم نأت لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين ...» فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أيّ قوم قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فواللَّه ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما

يعظم أصحاب محمّد محمّداً، وحدّثهم ما رأى وما قال النبي صلى الله عليه و آله ...

فدعا رسول اللَّه عمر ليرسله إلى مكة، فقال: ليس بمكة من بني عدي من يمنعني وقد علمت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها وأخافها على نفسي فأرسل عثمان فهو أعزّ بها مني فدعا عثمان فأرسله ليبلغ عنه فانطلق فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره فأتى أبا سفيان، وعظماء قريش فبلغهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا لعثمان حين فرغ من أداء الرسالة: إن شئت أن تطوف بالبيت فطُف به فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به النبي صلى الله عليه و آله فاحتبسته قريش عندها فبلغ النبي صلى الله عليه و آله أنّه قد قتل. فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة .. ثم أتى الخبر أنّ عثمان لم يقتل.

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه و آله ليصالحه على أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه و آله وأطال معه الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهم الصلح، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب فقال: «اكتب بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم». فقال سهيل: لا نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. فكتبها، ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللَّه سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو نعلم أنّك رسول اللَّه لم نقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعلي: «امح رسول اللَّه». فقال: لا أمحوك أبداً. فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وليس يحسن أن يكتب فكتب موضع رسول اللَّه محمّد بن

عبد اللَّه، وقال لعلي لتبلين بمثلها، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن الناس، وإنّه من أتى منهم رسول اللَّه بغير إذن وليّه رده إليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول اللَّه لم يردّوه عليه ومن أحب أن يدخل في عهد رسول اللَّه دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وأن يرجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنهم عامه ذلك فإذا كان

مختصر الامثل، ج 4، ص: 500

عام قابل خرجنا عنك فدخلَتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً، وسلاح الراكب السيوف في القِرَب لا تدخلها بغيرها ... فلما فرغ النبي صلى الله عليه و آله من قضيته قال: «قوموا فانحروا ثم احلقوا».

فما فتح في الإسلام قبله فتح كان أعظم منه حيث أمن الناس كلهم بعضهم بعضاً فدخل في الإسلام تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر.

وفي ذلك الحين نزلت سورة الفتح وأعطت للنبي الكريم بشرى كبرى بالفتح المبين «1».

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (2) وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) نتائج الفتح المبين الكبرى: في هاتين الآيتين بيان للنتائج المباركة من «الفتح المبين» (صلح الحديبية) والتي ورد ذكره في الآية السابقة. فتقول الآيتان: «لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا* وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا».

وبهذا فإنّ اللَّه منح نبيّه الكريم في ظل هذا الفتح المبين أربع مواهب عظيمة هي:

«المغفرة»، و «إتمام النعمة»، و «الهداية» و «النصر».

الإجابة على سؤال مهم: تثار هنا سؤال وهو:

ما المراد من العبارة الآنفة «لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» مع أنّ النبي معصوم من الذنب؟

وللحصول على الإجابة «الجامعة» لهذه الإشكال لابدّ من ذكر مقدمة وهي:

إنّ المهم هو العثور على العلاقة الخفية بين فتح الحديبية ومغفرة الذنب! وبالتدقيق في الحوادث التاريخية وما تمخّضت عنه نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه حين يظهر أيّ مذهب حق ويبرز في عالم الوجود فإنّ أصحاب السنن الخرافية الذين يرون أنفسهم ووجودهم في خطر يكيلون التهم والامور التافهة إليه ويشيعون الشائعات والأباطيل وينشرون الأراجيف الكاذبة بصدده. ولكن حين ينال الانتصار وتحظى مناهجه وخططه بالموفقية فإنّ تلك النسب تمضي كما لو كانوا قد رقموا على الماء، وتتبدّل جميع أقوالهم إلى حسرات وندامة ويقولون عندئذ لم نكن نعلم.

______________________________

(1) الكامل في التّاريخ 2/ 86- 90.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 501

وخاصّة في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله كانت هذه التصورات والذنوب التي وصموها به كثيرة، إذ عدّوه باغياً للحرب والقتال ومثيراً لنار الفتنة معتداً بنفسه لا يقبل التفاهم وما إلى ذلك.

وقد كشف صلح الحديبية أنّ مذهبه على خلاف ما يزعمه أعداؤه إذ كان مذهباً «تقدّمياً» إلهيّاً ..

فهو يحترم كعبة اللَّه وبيته العتيق ولا يهاجم أية جماعة أو قبيلة دون سبب، ويدعو جميع الناس بحقّ إلى محبوبهم «اللَّه» وإذا لم يضطره أعداؤه إلى الحرب فهو داعية للسلام والصلح والدعة ...

وعلى هذا فقد غسل صلح الحديبية جميع الذنوب التي كانت قبل الهجرة وبعد الهجرة قد نسبت إلى النبي صلى الله عليه و آله أو جميع الذنوب التي نسبت إليه قبل هذا الحادث أو ستنسب إليه في المستقبل احتمالًا ... وحيث إنّ اللَّه جعل هذا الفتح نصيب النبي فيمكن أن يقال أنّ اللَّه غفر للنبي ذنوبه جميعاً.

والنتيجة

أنّ هذه الذنوب لم تكون ذنوباً حقيقية أو واقعية بل كانت ذنوباً تصورية وفي أفكار الناس وظنّهم فحسب، وكما نقرأ في الآية (14) من سورة الشعراء في قصة موسى قوله مخاطباً ربّه: «وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ». في حين أنّ ذنبه لم يكن سوى نصرة المظلوم من بني إسرائيل وسحق ظلم الفراعنة لا غير.

وبديهي أنّ هذا الفعل لا يعدّ ذنباً، بل دفاع عن المظلومين ولكنّه كان يعدّ ذنباً في نظر الفراعنة وأتباعهم.

وبتعبير آخر: أنّ «الذنب» في اللغة يعني الآثار السيّئة والتبعات التي تنتج عن العمل غير المطلوب، فكان ظهور الإسلام في البداية تدميراً لحياة المشركين، غير أنّ إنتصاراته المتلاحقة والمتتابعة كانت سبباً لنسيان تلك التبعات.

وهكذا بالنسبة لمشركي مكة سواءً قبل هجرة النبي أم بعدها إذ كانت أفكارهم وأذهانهم مبلبلة عن الإسلام وشخص النبي بالذات، غير أنّ إنتصارات الإسلام أزالت هذه التصورات والأفكار.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 502

نزول السكينة على قلوب المؤمنين: ما قرأناه في الآيات السابقة هو ما أعطاه اللَّه من مواهب عظيمة لنبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالفتح المبين «صلح الحديبية»، أمّا في الآية أعلاه فالكلام عن الموهبة العظيمة التي تلطف اللَّه بها على جميع المؤمنين، إذ تقول الآية: «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ».

ولم لا تنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا».

«السكينة»: في الأصل مشتقة من «السكون»، ومعناها الاطمئنان والدعة وما يزيل كل أنواع الشك والتردّد والوحشة من الإنسان ويجعله ثابت القدم في طوفان الحوادث.

وهذه السكينة يمكن

أن يكون لها جانب عقائدي فيزيل ضعف تزلزل العقيدة أو يكون لها جانب عملي بحيث يهب الإنسان ثبات القدم والمقاومة والاستقامة والصبر.

وتعبيرات الآية نفسها تتناسب مع استعمال السكينة في معناها الأوّل أكثر.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ كَانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَ الْمُنَافِقَاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيراً (6) وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) نتيجة اخرى من الفتح المبين: في روح المعاني عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه و آله ليغفر لك اللَّه من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال: «لقد أنزلت على آية هي أحبّ إليّ ممّا على الأرض». ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول اللَّه قد بين اللَّه تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت «لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ» حتى بلغ «فَوْزًا عَظِيمًا».

إنّ هذه الآيات تتحدث عن علاقة صلح الحديبية وآثاره وردّ الفعل المختلف في أفكار الناس ونتائجه المثمرة، وكذلك عاقبة كل من الفريقين اللذين امتحنا في هذه «البوتقة» والمختبر. فتقول الآية الاولى من هذه الآيات محل البحث: «لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 503

جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا». فلا تُسلب هذه النعمة الكبرى عنهم أبداً ..

وإضافة إلى ذلك فإنّ اللَّه يعفو عنهم «وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا».

وبهذا فإنّ اللَّه قد وهب المؤمنين بإزاء ما وهب لنبيّه في فتحه المبين من المواهب الأربعة موهبتين عظيمتين هما:

«الجنة خالدين فيها» و «التكفير عن سيّئاتهم» بالإضافة إلى إنزال السكينة على قلوبهم ومجموع هذه المواهب الثلاث يعدّ فوزاً عظيماً لأولئك الذين خرجوا من الإمتحان بنجاح وسلامة.

غير أنّ إزاء هذه الجماعة، جماعة المنافقين والمشركين الذين تتحدث الآية التالية عن عاقبتهم بهذا الوصف فتقول: «وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ».

أجل، لقد ظنّ المنافقون حين تحرّك النبي صلى الله عليه و آله ومعه المؤمنون من المدينة أن لا يعودوا نحوها سالمين.

ثم يفصّل القرآن ببيان عذاب هؤلاء وعقابهم ويجعله تحت عناوين أربعة فيقول أوّلًا:

«عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ». «الدائرة»: في اللغة هي الحوادث وما ينجم عنها أو ما يتّفق للإنسان في حياته، فهي أعم من أن تكون حسنةً أو سيّئة غير أنّها هنا بقرينة كلمة «السوء» يراد منها الحوادث غير المطلوبة.

وثانياً: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».

وثالثاً: «وَلَعَنَهُمْ».

ورابعاً: فإنّه بالمرصاد «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا».

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة اخرى إلى عظمة قدرة اللَّه فتقول الآية:

«وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا».

وممّا يستلفت النظر أنّ القرآن حين يذكر المؤمنين يصف اللَّه بالعلم والحكمة، وهما يناسبان مقام الرحمة، ولكنّه حين يذكر المنافقين والمشركين يصف اللَّه بالعزة والحكمة، وهما يناسبان العذاب.

ما المراد من جنود السماوات والأرض: هذا التعبير له معنى واسع حيث يشمل الملائكة «وهي من جنود السماء» كما يشمل جنوداً اخر كالصواعق والزلازل والطوفانات والسيول والأمواج والقوى الغيبية غير المرئية التي لا نعرف عنها شيئاً .. لأنّ جميع هذه الأشياء هي جنود اللَّه وهي مطيعة لأوامره.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 504

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ

يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) مكانة النبي وواجب الناس تجاهه: قلنا إنّ بعض الجهلاء اعترضوا بشدة على صلح الحديبية وحتى أنّ بعض تعبيراتهم لم تخل من عدم الإحترام بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و آله وكان مجموع هذه الامور يستوجب أن يؤكّد القرآن مرّةً اخرى على عظمة النبي صلى الله عليه و آله وجلالة قدره. لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات أعلاه تخاطب النبي فتقول: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وُمَبشّرًا وَنَذِيرًا».

«شاهداً» على جميع الامّة الإسلامية، بل هو شاهد على جميع الأمم.

وفي الآية التالية خمسة أوامر مهمة، هي بمثابة الهدف من سمات النبي المذكورة آنفاً:

وتشكل أمرين في طاعة اللَّه وتسبيحه وتقديره، وثلاثة أوامر منها في «طاعة» رسوله و «الدفاع عنه» و «تعظيم مقامه». إذ تقول الآية: «لّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا».

«تعزّروه»: من مادة «تعزير»، وهو في الأصل يعني «المنع» ثم توسّعوا فيه فأطلق على كل دفاع ونصرة وإعانة للشخص في مقابل أعدائه كما يطلق على بعض العقوبات المانعة عن الذنب «التعزير» أيضاً؛ و «توقّروه»: مشتقة من مادة «توقير»، وجذورها «الوقر» ومعناها الثِقَل .. فيكون معنى التوقير هنا التعظيم والتكريم.

وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الضميرين في «تعزّروه» و «توقّروه» يعودان على شخص النبي صلى الله عليه و آله والهدف من ذلك هو الدفاع عنه بوجه أعدائه وتعظيمه واحترامه.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة قصيرة إلى مسألة «بيعة الرضوان» وقد جاء التفصيل عنها في الآية (18) من السورة ذاتها.

إنّ القرآن يتحدث عن مبايعة المسلمين في الآية محل البحث فيقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ

أَيْدِيهِمْ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 505

و «البيعة»: معناها المعاهدة على اتّباع الشخص وطاعته، وكان المرسوم أو الشائع بين الناس أنّ الذي يعاهد الآخر ويبايعه يمد يده إليه ويظهر وفاءه ومعاهدته عن هذا الطريق لذلك الشخص أو لذلك «القائد» المبايَع.

وحيث أنّ الناس يمدّون أيديهم «بعضهم إلى بعض» عند البيع وما شاكله من المعاملات ويعقدون المعاملة بمد الأيدي و «المصافحة» فقد أطلقت كلمة «البيعة» على هذه العقود والعهود أيضاً. وخاصةً أنّهم عند «البيعة» كأنّما يقدّمون أرواحهم لدى العقد مع الشخص الذي يظهرون وفاءهم له.

وعلى هذا يتّضح معنى «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» .. إذ إنّ هذا التعبير كناية عن أنّ بيعة النبي هي بيعة اللَّه، فكأنّ اللَّه قد جعل يده على أيديهم فهم لا يبايعون النبي فحسب بل يبايعون اللَّه، وأمثال هذه الكناية كثيرة في اللغة العربية.

ثم يضيف القرآن الكريم قائلًا: «فَمَنْ نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا».

«نكث»: مشتقة من «نكْث» ومعناها الفتح والبسط ثم استعملت في نقض العهد.

والقرآن في هذه الآية يُنذر جميع المبايعين للنبي صلى الله عليه و آله أنّ يثبتوا على عهدهم وبيعتهم فمن ثبت على العهد فسيؤتيه اللَّه أجراً عظيماً ومن نَكث فإنّما يعود ضرره عليه ولا ينال اللَّه ضرره أبداً ..

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَ أَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ

لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَ كَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 506

المخلفين: هذه الآيات تبيّن حالة المخلّفين ضعاف الإيمان بعد أن بيّنت الآيات السابقة حال المنافقين والمشركين لتتمّ حلقات البحث ويرتبط بعضها ببعض. تقول هذه الآيات:

«سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ».

إنّهم لم يكونوا صادقين حتى في توبتهم.

فأبلغهم يا رسول و «قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مّنَ اللَّهِ شَيًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا».

أجلْ «بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».

وهو يعلم جيداً أنّ هذه الحيل والحجج الواهية لا صحة لها ولا واقعيّة ..

ومن أجل أن ينجلي الأمر ويتّضح الواقع أكثر يميط القرآن جيمع الأستار فيقول: «بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا».

أجلْ، إنّ السبب في عدم مشاركتكم النبي وأصحابه في هذا السفر التاريخي لم يكن هو كما زعمتم- انشغالكم بأموالكم وأهليكم- بل العامل الأساس هو سوء ظنّكم باللَّه، وكنتم تتصوّرون خطأً أنّ هذا السفر هو السفر الأخير للنّبي وأصحابه وينبغي الاجتناب عنه.

وما ذلك إلّاما وسوست به أنفسكم «وَزُيّنَ ذلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ».

لأنّكم تخيّلتم أنّ اللَّه أرسل نبيّه في هذا السفر وأودعه في قبضة أعدائه ولن يخلصه ويحميه عنهم، «وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا»- أي هالكين- في نهاية الأمر.

وأي هلاك أشدّ وأسوأ من عدم مشاركتهم في هذا السفر التاريخي وبيعة الرضوان وحرمانهم من المفاخر الاخر .. ثم الفضيحة الكبرى .. وبعد هذا كلّه ينتظرهم العذاب الشديد في الآخرة، أجل لقد كان لكم قلوب ميتة فابتليتم بمثل هذه العاقبة.

وحيث أنّ هذه الأخطاء

مصدرها عدم الإيمان فإنّ القرآن يصرّح في الآية التالية قائلًا:

«وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا». «السعير»: معناه اللهيب.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يقول القرآن ومن أجل أن يثبت قدرة اللَّه على معاقبة الكفار والمنافقين: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 507

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17) المخلّفون الانتهازيون: يعتقد أغلب المفسرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبية. وتوضيح ذلك أنّه طبقاً للروايات حين كان النبي صلى الله عليه و آله يعود من الحديبية بشّر المسلمين المشتركين بالحديبية- بأمر اللَّه- بفتح خيبر، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبية من المسلمين فحسب، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شي ء أبداً.

إلّا أنّ عبيد الدنيا الجبناء لما فهموا من القرائن أنّ النبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً- وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام- أفادوا من الفرصة، فجاؤوا إلى النبي وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك

في حرب خيبر، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنّها كشفت حقيقتهم من قبل كما نقرأ ذلك في الآية الاولى من الآيات محل البحث-: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ».

إنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص: «يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُوا كَلمَ اللَّهِ». ثم يضيف قائلًا للنبي: «قُل لَّن تَتَّبِعُونَا».

وليس هذا هو كلامي بل «كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ» وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً.

إنّ أمر اللَّه أن تكون غنائم خيبر خاصة بأهل الحديبية ولن يشاركهم في ذلك أحد. لكن هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبي ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك: «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 508

وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النبي صلى الله عليه و آله ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.

وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول: «بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا».

أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل ملازم لهم أبداً، جهلهم باللَّه سبحانه وعدم معرفة مقام النبي صلى الله عليه و آله وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا محالة.

واستكمالًا لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبية اقتراحاً وتفتح عليهم باب العودة فتقول: «قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً اخرى، وإلّا فإنّ إجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول.

ومن هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم

ب «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟!

نقول: جملة «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ» تدلّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، لأنّ أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمة.

وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلّاالإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى أنّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.

ومع الإلتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمة في عصر النبي بعد حادثة الحديبية مع المشركين سوى فتح مكة وغزوة حنين، فيمكن أن تكون الآية المتقدمة إشارة إلى ذلك وخاصة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و «بني سعد».

الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها «يعذّبكم عذاباً أليماً»، فقالوا: يا رسول اللَّه، ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى: «لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ».

وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهية هي سلسلة من

مختصر الامثل، ج 4، ص: 509

الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى

وبالطبع فإنّ هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد، إلّاأنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية.

ولعل الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول: «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارِ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا».

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ

فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) رضي اللَّه عن المشتركين في بيعة الرضوان: ذكرنا آنفاً أنّه في الحديبية جرى حوار بين ممثلي قريش والنبي صلى الله عليه و آله وكان من ضمن السفراء عثمان بن عفان الذي تشدّه أواصر القربى بأبي سفيان، ولعل هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلًا عن النبي صلى الله عليه و آله فأرسله إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل. فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم». ودعا الناس إلى البيعة فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا «1».

فبلغ صدى هذه البيعة مكة واضطربت قريش من ذلك بشدة واطلقوا عثمان.

وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفاً في تاريخ الإسلام. فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصّة فتقول الاولى: «لَّقَدْ رَضِىَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

والهدف من هذه البيعة الإنسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء.

فأعطى اللَّه هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول اللَّه في هذه

______________________________

(1) تفسير مجمع البيان 9/ 194.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 510

اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (72) من سورة التوبة:

«وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .. أيضاً. ثم تضيف

الآية قائلة: «فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ».

سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة».

وهذا هو الأجر الثاني والموهبة الإلهية الاخرى.

وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثالث إذ تقول الآية: «وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا».

هذا الفتح هو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسرين.

والتعبير ب «قريباً» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر».

والأجر الرّابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي: «وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا».

وحيث إنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئناناً كاملًا فإنّ الآية تضيف في الختام: «وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا».

فإذا ما أمركم في الحديبية أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم الكثيرة فهو قادر على أن يُلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق.

وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصاراً في الدنيا والآخرة، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات.

بحث

البيعة وخصوصيّاتها: «البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثم أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة.

وتدلّ القرائن على أنّ البيعة ليست من إبداعات المسلمين، بل هي سنّة متّبعة بين العرب قبل الإسلام، ولهذا السبب فإنّ طائفة من «الأوس» و «الخزرج» جاؤوا في بداية الإسلام

مختصر الامثل، ج 4، ص: 511

خلال موسم الحج من المدينة إلى مكة وبايعوا النبي صلى الله عليه و آله في العقبة، وكان تعاملهم

في قضية البيعة يوحي بأنّها أمر معروف، وبعدها وخلال فرص ومناسبات متعددة جدّد النبي البيعة مع المسلمين، وكانت إحداها هذه البيعة التي عرفت ببيعة الرضوان في الحديبية، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكة، وسيأتي شرحها في تفسير «سورة الممتحنة» بإذن اللَّه.

ولكن كيف تتم البيعة؟! .. بصورة عامة تتمّ البيعة كما يلي:

يمدّ المبايع يده إلى يد المبايَع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال .. وربّما ذكر شروطاً أو حدوداً لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة.

وكان النبي الكريم يقبل بيعة النساء أيضاً لكن لا على أن يمددن أيديهنّ إلى يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها في طرف آخر.

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (20) وَ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21) من بركات صلح الحديبية مرّةً اخرى تتحدث هاتان الآيتان- كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبية والوقائع التالية لها- عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق. فتقول الآية الاولى منهما: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ».

ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها اللَّه للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد.

ثم يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف اللَّه على المسلمين- في هذه الحادثة- فيقول:

«وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ».

وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو- في مأمن

منه وأن يلقي اللَّه رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 512

ثم يضيف القرآن في تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين اخريين من مواهب اللَّه ونعمه إذ يقول: «وَلِتَكُونَ ءَايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا».

وفي الآية التالية أعطى اللَّه بشارةً اخرى للمسلمين إذ قال: «وَأُخْرَى لمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرًا».

إنّ هذا الوعد إشارة إلى فتح مكة وغنائم حنين.

أو إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النبي (كفتح فارس والروم ومصر)، كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره.

فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدّة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء.

وَ لَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَ لَا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) هذه الآيات تتحدث أيضاً عن أبعاد اخر لما جرى في الحديبية وتشير إلى «لطيفتين» مهمّتين في هذا الشأن.

الاولى: هي أنّه لا تتصوروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكة في الحديبية لانتصر المشركون والكفرة. «وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايَجِدُونَ وَلِيًّا

وَلَا نَصِيرًا».

وليس هذا منحصراً بكم بل: «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا». فهذا هو قانون إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم اللَّه على عدوّهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 513

واللطيفة الاخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت: «وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا».

حقاً .. كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين» ونعم ما اختاره القرآن له من وصف، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، إلّا أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة اخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبية وحكمتها، إذ تقول الآية: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ» «1».

كان أحد ذنوبهم كفرهم، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت اللَّه ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله، أي مكة.

ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم اللَّه عليهم لتعاقبوهم بشدة، لكنّ اللَّه تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول: «وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ».

وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.

«المعرّة»: من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» (والعرّ على زنة الحر) في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثم توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ

على كل ضرر يصيب الإنسان.

ولإكمال الموضوع تضيف الآية: «لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ».

أجل، كان اللَّه يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أيّة صدمة ..

ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

أي: لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً.

______________________________

(1) «معكوفاً»: مشتق من «العكوف»، ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 514

صحيح أنّ اللَّه قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز، ولكن سنّة اللَّه- في ما عدا الموارد الاستثنائية- أن تكون الامور وفقاً للأسباب العادية.

«تزيلوا»: من مادة «زوال»، وهنا معناها الإنفصال والتفرّق.

ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين واللَّه سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين ..

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا وَ كَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26) التعصب وحمية الجاهلية أكبر سدّ في طريق الكفار: هذه الآية تتحدث مرّة اخرى عن (مجريات) الحديبية وتجسّم ميادين اخرى من قضيتها العظمى ... فتشير أوّلًا إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان باللَّه ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ».

ولذلك منعوا النبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت اللَّه ويؤدّوا مناسكهم وينحروا «الهدي» في مكة. وقالوا: لو دخل هؤلاء- الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب- أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب

فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد هذا؟

فهؤلاء- بهذا العمل- هتكوا حرمة بيت اللَّه والحرم الآمن من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة اخرى، كما أسدلوا ستاراً بينهم وبين الحقيقة أيضاً.

«الحمية»: في الأصل من مادة حَمي- على وزن حمد- ومعناها حرارة الشمس أو النار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله، ومن هنا سمّيت الحُمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم؛ «حُمّى» على وزن كبرى، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصب المقرون بالغضب حمية أيضاً.

ثم تضيف الآية الكريمة- وفي قبال ذلك-: «فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 515

هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد باللَّه والإعتماد على لطفه دعتهم إلى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا- ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى- بحذف جملة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا- مكانها «بسمك اللهم» التي هي من موروثات العرب السابقين- في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول اللَّه» الذي يلي اسم محمّد صلى الله عليه و آله.

وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبية دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة، ونحروا هديهم خلافاً للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسك ..

أجل، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كل المشاكل الصعبة، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الامور الآنفة كفيلًا أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض.

ثم يضيف القرآن في هذا الصدد قائلًا: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا».

«كلمة»: هنا بمعنى «روح»، ومعنى الآية أنّ اللَّه ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم.

وتختتم الآية بقوله سبحانه: «وَكَانَ

اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمًا». فهو سبحانه يعرف نيّات الكفار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضاً فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) رؤيا النبي الصادقة: هذه الآية- أيضاً- ترسم جانباً آخر من جوانب قصة الحديبية المهمّة، والقصّة كانت على النحو التالي:

رأى النبي صلى الله عليه و آله في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسُرّوا جميعاً، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصورون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكة أصابهم الشك والتردد ... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النبي غير صادقة؟

مختصر الامثل، ج 4، ص: 516

فكان جواب النبي لهم: هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟! فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة ... تقول الآية: «لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقّ».

فما رآه النبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.

ثم تضيف الآية قائلة: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا». وكان في هذا التأخير حكمةٌ: «فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا».

جملة «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» هنا لعلها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة اللَّه عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة اللَّه، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه.

التعبير ب «فَتْحًا قَرِيبًا» إشارة إلى «فتح خيبر» لأنّه كان «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا

في فترة أقل زمناً من فتح مكة بعدها.

الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن، وهي شاهد على أنّ هذا الكتاب سماوي وأنّه من معاجز النبي الكريم حيث يخبر قاطعاً عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضاً، وكما نعلم أنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلًا.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29) في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبية»: احداهما تتعلّق بعالمية الإسلام و الثانية تتعلق بأوصاف

مختصر الامثل، ج 4، ص: 517

أصحاب النبي وخصائصهم وما وعدهم اللَّه سبحانه به. فالاولى منهما تقول: «هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ و عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا».

وهذا وعد صريح وقاطع من اللَّه سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.

أي لا تعجبوا لو أخبركم اللَّه عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالإنتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم، كما لا تعجبوا أن يبشّركم اللَّه بالفتح القريب- فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة» وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان ...

والمراد ب «الظهور على الدين

كلّه»، أهو الظهور المنطقي، أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟!

إنّ كلمة «يظهر» دليل على الغلبة الخارجية ... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي (عج) إن شاء اللَّه.

وفي آخر آية وصف بليغ لأصحاب النبي الخاصين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورُجولتهم في الحديبية والمراحل الاخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار ...

فتقول الآية في البداية: «مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ».

ثم تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم: «وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ».

وصفتهم الثانية أنّهم: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ».

وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين: «الرحمة» و «الشدة» ... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلًا، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً ...

ثم تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثالث فتقول: «تَرَيهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا».

هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: «الركوع والسجود» على أنّها حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر اللَّه الحق، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 518

أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا». فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا اللَّه وفضله فحسب.

أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: «سِيمَاهُمْ فِى

وُجُوهِهِم مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

إنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَيةِ».

فهذه حقيقة مقولة قبلًا وأوصاف وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام ...

ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير ب «وَالَّذِينَ مَعَهُ» يحكي عن معيّة النبي في كل شي ء، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره- وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.

ثم يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول: «وَمَثَلُهُمْ فِى الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَهُ فَازَرَهُ و فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ».

وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية ...

وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).

أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة ... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي ...

ثم تضيف الآية معقّبة: أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ».

ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

بديهي أنّ أوصاف أصحاب النبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما: أي أنّ اللَّه وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله واستمروا بالإيمان والعمل الصالح.

«نهاية تفسير سورة الفتح»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 519

49. سورة الحجرات

محتوى السورة: هذه السورة تحمل مسائل مهمّة تتعلق بشخص النبي الكريم صلى الله عليه و آله

والمجتمع الإسلامي بعضه ببعض. وحيث أنّ أغلب المسائل الأخلاقية تدور في هذه السورة فيمكن أن نسمّي هذه السورة ب «سورة الأخلاق والآداب».

ويمكن تقسيم مضامين السورة على النحو التالي:

1- في بداية السورة تبين طريقة التعامل مع النبي صلى الله عليه و آله وآدابها وما ينبغي على المسلمين مراعاته من أصول عند حضرة النبي.

2- تشتمل هذه السورة على سلسلة من اصول «الأخلاق الاجتماعية» المهمة.

3- الأوامر الإرشادية المتعلقة بكيفية مواجهة الاختلافات والتنازع أو القتال الذي قد يقع بين المسلمين أحياناً ...

4- يتحدث عن معيار قيمة الإنسان عند اللَّه وأهمية التقوى ...

5- يعالج قضية أنّ الإيمان ليس بالقول فحسب بل لابدّ من ظهور آثاره في أعمال الإنسان والجهاد بالمال والنفس- إضافةً إلى الإعتقاد في القلب-.

6- يتحدث عن علم اللَّه وإطّلاعه وعن جميع أسرار الوجود الخفية وأعمال الإنسان، وهذا القسم بمثابة الضامن لتنفيذ جميع هذه الأقسام الواردة في هذه السورة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 520

مختصر الامثل ج 4 549

وتسمية هذه السورة بسورة «الحجرات» لورود هذه الكلمة في الآية الرابعة منها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «من قرأ سورة الحجرات اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللَّه ومن عصاه».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الحجرات في كل ليلة أو في كل يوم كان من زوّار محمّد صلى الله عليه و آله».

وبديهي أنّ كل هذه الحسنات التي هي بعدد المطيعين والعاصين إنّما تكون في صورة ما لو أخذنا بنظر الإعتبار كلّاً من الفريقين وأن نفكّر جيداً فنجعل مسيرنا وفقاً لمنهج المطيعين ونبتعد عن منهج العاصين.

ونيل زيارة النبي أيضاً فرع على أن نعمل وفق الآداب المذكورة

في الحضور عنده صلى الله عليه و آله لأنّ التلاوة في كل مكان مقدمة للعمل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

أسباب النّزول

في تفسير القرطبي: روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله أراد أن يستخلف على المدينة رجلًا إذا مضى إلى خيبر فأشار عليه عمر برجل آخر، فنزلت الآية وأمرت أن لا تقدموا بين يدي اللَّه ورسوله.

وأمّا في شأن الآية الثانية فقد قال المفسرون إنّ طائفة من بني تميم وأشرافهم وردوا المدينة، فلمّا دخلوا مسجد النبي نادوا بأعلى صوتهم من وراء الحجرات التي كانت للنبي: يا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 521

محمّد أخرج إلينا. فأزعجت هذه الصرخات غير المؤدبة النبي، فخرج إليهم فقالوا له: جئناك لنفاخرك فأجز شاعرنا وخطيبنا ليتحدث عن مفاخر قبيلتنا، فأجازهم النبي صلى الله عليه و آله فنهض خطيبهم وتحدّث عن فضائلهم الخيالية الوهمية كثيراً ...

فأمر النبي ثابت بن قيس «1» أن يردّ عليهم فنهض وخطب خطبةً بليغة فلم يُبق لخطبة اولئك من أثر ...

ثم نهض شاعرهم وألقى قصيدة في مدحهم فنهض «حسان بن ثابت» فردّ عليه بقصيدة شافية كافية.

فأمر النبي صلى الله عليه و آله أن تُهدى لهم هدايا ليكتسب

قلوبهم إليه فكان أن تأثّروا بمثل هذه المسائل فاعترفوا بنبوته.

فالآيات محل البحث ناظرة إلى هذه القضية والأصوات من خلف الحجرات.

التّفسير

إنّ في محتوى هذه السورة قسماً من المباحث الأخلاقية المهمّة والتعليمات الإنضباطية التي تدعونا إلى تسمية هذه السورة ب «سورة الأخلاق»، وهذه المسائل والتعليمات تقع في الآيات الأوّل من السورة محل البحث، والآيات هذه على نحوين من التعليمات.

الأوّل: عدم التقدّم على اللَّه ورسوله وعدم رفع الصوت عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فتقول الآية الاولى في هذا الصدد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

والمراد من عدم التقديم بين يدي اللَّه ورسوله هو أن لا يُقترح عليهما في الامور، وترك العجلة والإسراع أمام أمر اللَّه ورسوله ...

والآية الثانية تشير إلى الأمر الثاني فتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبّىِ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَاتَشْعُرُونَ».

والجملة الاولى: «لَاتَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ» إشارة إلى أنّه لا ينبغي رفع الصوت على صوت النبي، فهو بنفسه نوع من الإساءة الأدبية في محضره المبارك، والنبي له مكانته، وهذا الأمر لا يجدر أن يقع أمام الأب والام والأستاذ لأنّه مخالف للإحترام والأدب أيضاً.

______________________________

(1) كان ثابت بن قيس خطيب الأنصار وخطيب النبي كما كان حسّان بن ثابت شاعره [اسد الغابة 1/ 229].

مختصر الامثل، ج 4، ص: 522

أمّا جملة: «لَاتَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ» فيمكن أن تكون تأكيداً على المعنى المتقدم في الجملة الاولى، أو أنّها إشارة إلى مطلب آخر، وهو ترك مخاطبة النبي صلى الله عليه و آله بالنداء «يا محمّد» والعدول عنه بالقول: «يا رسول اللَّه» ...

وبديهي أنّ أمثال هذه الأعمال إن قصد بها

الإساءة والإهانة لشخص النبي ومقامه الكريم فذلك موجب للكفر، وإلّا فهو ايذاء له وفيه إثم أيضاً ...

وفي الصورة الاولى تتّضح علة الحبط وزوال الأعمال، لأنّ الكفر يحبط العمل ويكون سبباً في زوال ثواب العمل الصالح ...

وفي الصورة الثانية أيضاً، لا يمنع أن يكون مثل هذا العمل السي ء باعثاً على زوال ثواب الكثير من الأعمال.

وفي الآية الاخرى مزيد تأكيد على الثواب الذي أعدّه اللَّه لُاولئك الذين يمتثلون أمر اللَّه ويراعون الآداب عند رسول اللَّه، فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ».

«يغضّون»: مشتقة من غضّ- على وزن حظّ- ومعناها تقليل النظر أو خفات الصوت ويقابل هذه الكلمة الإمعان بالنظر والجهر بالصوت.

و «امتحن»: مشتقة من الإمتحان، والأصل في استعمالها إذابة الذهب وتطهيره من غير الخالص، ثم استعملت بعدئذ في مطلق الاختبار كما هي الحال بالنسبة للآية محل البحث.

أمّا الآية الاخرى فتشير إلى جهل أولئك الذين يجعلون أمر اللَّه وراء ظهورهم، وعدم إدراكهم فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ».

وأساساً كلّما ترقّى عقل الإنسان زيد في أدبه فيعرف القيم الأخلاقية بصورة أحسن ومن هنا فإنّ إساءة الأدب دليل على عدم العقل.

«الحجرات»: جمع «حجرة» وهي هنا إشارة إلى البيوت المتعددة لأزواج النبي المجاورة للمسجد .. وأصل الكلمة مأخوذ من «الحَجْر» على وزن الأجر: أي «المنع» لأنّ الحجرة تمنع الآخرين من الدخول في حريم «حياة» الإنسان ... والتعبير ب «وراء» هنا كناية عن الخارج من أي جهة كان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 523

ويضيف القرآن إكمالًا للمعنى في نهاية الآية قائلًا: «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ».

صحيح أنّ العجلة قد تجعل الإنسان أحياناً يبلغ قصده بسرعة، إلّاأنّ

الصبر في مثل هذا «المقام» والتأنّي مدعاة إلى المغفرة والأجر العظيم.

وحيث إنّ بعضهم قد ارتكبوا جهلًا هذا الخطأ من قبل، واستوحشوا من هذا الأمر وحاسبوا أنفسهم بعد نزول الآية، فإنّ القرآن يضيف قائلًا إنّهم تشملهم الرحمة عند التوبة:

«وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

بحثان

1- الأدب أغلى القيم: اهتم الإسلام اهتماماً كبيراً بمسألة رعاية الأدب، والتعامل مع الآخرين مقروناً بالإحترام والأدب سواءً مع الفرد أم الجماعة.

يقول الإمام علي عليه السلام: «الآداب حُلل مجدّدة» «1».

ويقول في مكان آخر: «الأدب يُغني من الحسب» «2».

وأساساً فإنّ الدين مجموعة من الآداب، الأدب بين يدي اللَّه والأدب بين يدي الرسول والأئمة المعصومين، والأدب بين يدي الأستاذ والمعلم، أو الأب والأم والعالم والمفكّر.

2- الإنضباط الإسلامي في كل شي ء وفي كل مكان: إنّ مسألة المديرية لا تتم بدون رعاية الإنضباط، وإذا أريد للناس العمل تحت مديرية وقيادة حسب رغبتهم، فإنّ اتساق الأعمال سينعدم عندئذ وإن كان المديرون والقادة جديرين.

وكثير من الأحداث والنواقص التي نلاحظها تحدّث عن هذا الطريق، فكم من هزيمة أصابت جيشاً قوياً أو نقصاً حدث في أمر يهمّ جماعة وما إلى ذلك كان سببه ما ذكرناه آنفاً ...

ولقد ذاق المسلمون أيضاً مرارة مخالفة هذه التعاليم مراراً في عهد النبي صلى الله عليه و آله أو بعده، ومن أوضح الامور قصة هزيمة المسلمين في معركة احُد لعدم الإنضباط من قبل جماعة قليلة من المقاتلين.

______________________________

(1) نهج البلاغة، الحكمة 5.

(2) كنز الفوائد، أبوالفتح الكراجكي/ 47.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 524

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَ

زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ» نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحاً به، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية، فظن أنّهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: إنّهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه. فغضب النبي صلى الله عليه و آله وهمّ أن يغزوهم فنزلت الآية.

التّفسير

لا تكترث بأخبار الفاسقين: كان الكلام في الآيات الآنفة على ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون ووظائفهم أمام قائدهم ونبيّهم محمّد صلى الله عليه و آله. أمّا الآيات محل البحث فهي تبيّن الوظائف الاخرى على هذه الامة إزاء نبيّها. وتقول ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر إلى النبي فلو أنّ فاسقاً جاءكم بنبإ فتثبّتوا وتحقّقوا من خبره، ولا تكرهوا النبي على قبول خبره حتى تعرفوا صدقه ... فتقول الآيات أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».

ثم تبيّن السبب في ذلك فتضيف: «أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».

فلو أنّ النبي قد أخذ بقول «الوليد بن عقبة» وعدّ قبيلة بني المصطلق مرتدين وقاتلهم لكانت فاجعة عظمى ...

واستدل جماعة من علماء الاصول على حجية خبر الواحد بهذه الآية لأنّها تقول: «إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا ...» ومفهومها أنّ العادل لو جاء بنبإ فلا يلزم التبيّن.

والآية التالية- وللتأكيد على الموضوع المهم في الآية السابقة- تضيف قائلةً: «وَاعْلَمُوا

مختصر الامثل، ج 4، ص: 525

أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الْأَمْرِ

لَعَنِتُّمْ» «1».

فالقرآن يقول: من حسن حظّكم أنّ فيكم رسول اللَّه وهو مرتبط بعالم الوحي، ولا تصرّوا وتلحّوا عليه، فإنّ ذلك فيه عنت لكم وليس من مصلحتكم ...

ويشير القرآن معقّباً في الآية إلى موهبة عظيمة اخرى من مواهب اللَّه سبحانه فيقول:

«وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ».

فإنّ القرآن يقرّر قاعدةً كلية وعامة في نهاية هذه الآية لواجدي الصفات المذكورة فيها فتقول: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ».

أي: لو حفظتم هذه الموهبة الإلهية «العشق للإيمان والتنفّر من الكفر والفسوق» ولم تلوّثوا هذا النقاء والصفات الفطرية فإنّ الرشد والهداية دون أدنى شك في انتظاركم ...

أمّا آخر الآيات محل البحث فتوضّح هذه الحقيقة وهي أنّ محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان من المواهب الإلهية العظمى على البشر إذ تقول: «فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».

فعلمه وحكمته يوجبان أن يخلق فيكم عوامل الرشد والسعادة ويكملها بدعوة الأنبياء إيّاكم ويجعل عاقبتكم الوصول إلى الهدف المنشود ... «وهو الجنة».

ولا شك أنّ علم اللَّه بحاجة العباد وحكمته في مجال التكامل وتربية المخلوقات توجبان أن يتفضّل بهذه النعم المعنوية الكبرى على عباده (وهي محبوبية الإيمان والتنفّر من الكفر والعصيان).

وعلى هذا فإنّ عشق الإيمان والتنفّر من الكفر موجودان في قلوب جميع الناس دون استثناء وإذا لم يكن لدى بعضهم ذلك فإنّما هو من جهة اخطائهم وسلوكيّاتهم وأعمالهم، فإنّ اللَّه لم يُلق في قلب أيّ شخص حبّ العصيان وبغض الإيمان ...

وَ إِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

______________________________

(1) «لعنتّم»: مشتقة من مادة «العنت» ومعناه الوقوع في عمل يخاف الإنسان عاقبته أو الأمر الذي يشقّ على الإنسان، ومن هنا قيل للألم الحاصل من العظم المكسور عند تعرّضه للضربة بأنّه عنت ..

مختصر الامثل، ج 4، ص: 526

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل في الأوس والخزرج، وقع بينهما قتال بالسعف والنعال.

التّفسير

المؤمنون إخوة: يقول القرآن هنا قولًا هو بمثابة القانون الكلي العام لكل زمان ومكان:

«وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا».

«اقتتلوا»: مشتقة من مادة «القتال» ومعناها الحرب، إلّاأنّها كما تشهد بذلك القرائن تشمل كل أنواع النزاع وإن لم يصل إلى مرحلة القتال والمواجهة «العسكرية».

فإنّ من واجب جميع المسلمين أن يصلحوا بين المتنازعين منهم لئلّا تسيل الدماء وأن يعرفوا مسؤوليتهم في هذا المجال، فلا يكونوا متفرّجين كبعض الجهلة الذين يمرّون بهذه الامور دون اكتراث وتأثّر! فهذه هي وظيفة المؤمنين الاولى عند مواجهة أمثال هذه الامور.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثانية على النحو التالي: «فَإِن بَغَتْ إِحْدَيهُمَا عَلَى الْأُخْرَى . ولم تستسلم لاقتراح الصلح: «فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ».

وبديهي أنّه لو سالت دماء الطائفة الباغية والظالمة- في هذه الأثناء- فإثمها عليها، أو كما يصطلح عليه إنّ دماءهم هدر، وإن كانوا مسلمين.

وهكذا فإنّ الإسلام يمنع من الظلم وإن أدّى إلى مقاتلة الظالم، لأنّ ثمن العدالة أغلى من دم المسلمين أيضاً، ولكن لا يكون ذلك إلّاإذا فشلت الحلول السلمية.

ثم يبيّن القرآن الوظيفة الثالثة فيقول: «فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ».

أي لا ينبغي أن يقنع المسلمون بالقضاء على قوة الطائفية الباغية الظالمة بل ينبغي أن يعقب ذلك الصلح وأن يكون مقدّمة لقلع جذور عوامل النزاع، وإلّا فإنّه بمرور الزمن ما أن يُحسّ الظالم في نفسه القدرة حتى ينهض

ثانية ويثير النزاع.

وحيث إنّه تميل النوازع النفسية أحياناً في بعض الجماعات عند الحكم والقضاء إلى إحدى الطائفتين المتخاصمتين وتنقض «الإستقامة» عند القضاة فإنّ القرآن ينذر المسلمين في رابع تعليماته وما ينبغي عليهم فيقول: «وأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» «1».

والآية التالية تضيف لبيان العلّة والتأكيد على هذا الأمر قائلةً: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ».

______________________________

(1) «المقسطين»: مأخوذة من «القسط» ومعناها في الأصل التقسيم بالعدل.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 527

وحيث إنّه في كثير من الأوقات تحلّ «الروابط» في أمثال هذه المسائل محل «الضوابط» فإنّ القرآن يضيف في نهاية هذه الآية مرّةً اخرى قائلًا: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».

وهكذا تتّضح إحدى أهم المسؤوليات الاجتماعية على المسلمين في ما بينهم في تحكيم العدالة الاجتماعية بجميع أبعادها.

بحث

أهمية الأخوة الإسلامية: إنّ جملة «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» الواردة في الآيات المتقدمة واحدة من الشعارات الأساسية و «المتجذرة» في الإسلام.

فعلى هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ المسلمين على اختلاف قبائلهم وقوميّاتهم ولغاتهم وأعمارهم يشعرون فيما بينهم بالأخوة وإن عاش بعضهم في الشرق والآخر في الغرب ...

ففي مناسك الحج مثلًا حيث يجتمع المسلمون من نقاط العالم كافة في مركز التوحيد تبدو هذه العلاقة والإرتباط والإنسجام والوشائج محسوسة وميداناً للتحقق العيني لهذا القانون الإسلامي المهم ...

وبتعبير آخر: إنّ الإسلام يرى المسلمين جميعاً بحكم الأسرة الواحدة ويخاطبهم جميعاً بالإخوان والأخوات ليس ذلك في اللفظ والشعار، بل في العمل والتعهدات المتماثلة أيضاً، جميعهم (أخوة وأخوات).

وفي الروايات الإسلامية تأكيد على هذه المسألة أيضاً.

في كنز الفوائد: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً، لا براءة له منها إلّا بالأداء العفو؛ يغفر زلّته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويُقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلّته،

ويرعى ذمّته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافي صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسئلته، ويسمّت عطسته، ويرشد ضالّته، ويردّ سلامه، ويطيب كلامه، ويُبرّ أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليّه، ولا يعادي عدوه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه، ولا يُسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يُحبّ لنفسه، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 528

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لَا تَجَسَّسُوا وَ لَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

أسباب النّزول

في تفسير مجمع البيان: نزل قوله: «لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ» في ثابت بن قيس بن شماس وكان في اذنه وقر، وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسّحوا، تفسّحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مُغضباً.

فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: ابن فلانة، ذكر امّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه حياء، فنزلت الآية.

وقوله «وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ» نزل في نساء النبي صلى

الله عليه و آله سخرن من ام سلمة. وذلك أنّها ربطت حقويها بسبية وهي ثوب أبيض، وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجره. فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها، كأنّه لسان كلب فلهذا كانت سخريتهما.

وقوله «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا» نزل في رجلين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اغتابا رفيقهما وهو سلمان، بعثاه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد، وكان خازن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على رحله، فقال: ما عندي شي ء. فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة وقالا لسلمان: لو بعثاه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا يتجسسان عند أسامة ما أمر لهما به رسول اللَّه. فقال لهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما». قالا: يا رسول اللَّه! ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال: «ظلتم تأكلون لحم سلمان وأسامة». فنزلت الآية.

التّفسير

الإستهزاء وسوء الظن والغيبة والتجسس والألقاب السيئة حرام: حيث أنّ القرآن المجيد

مختصر الامثل، ج 4، ص: 529

اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الإختلاف (بقطعها) ويُحسم النزاع.

ففي كل من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة امور يمكن أن يكون كل منها شرارة لإشتعال الحرب والاختلاف، إذ تقول الآية الاولى من الآيتين محل البحث أوّلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَايَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ».

لأنّه: «عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ». «وَلَا نِسَاءٌ مِّن نّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ».

والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يعمّ الرجال والنساء وينذر

الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح، لأنّ أساس السخرية والاستهزاء هو الإحساس بالاستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ.

ثم تقول الآية في المرحلة الثانية: «وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ».

«تلمزوا»: هي من مادة «لَمْز» على زنة «طنز» ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين.

وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة: «وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ».

هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً، ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة، ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق، وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً، ثم تاب وأناب وأخلص قلبه للَّه، ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه.

الإسلام نهى عن هذه الامور بصراحة ومنع من إطلاق أي إسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم ...

وروي- في تفسير مجمع البيان- أنّ صفية بنت حيي بن أخطب، جاءت إلى النبي صلى الله عليه و آله تبكي فقال لها: «ما وراءك»؟ فقالت: إنّ عائشة تعيّرني وتقول يهودية بنت يهوديين! فقال لها: «هلّا قلت أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد». فنزلت الآية.

ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً: «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ». أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 530

وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: «وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

وأي ظلمٍ أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و «اللاسعة» والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق» اللَّه.

في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ».

المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار، أي متى

ما خطر الظنّ السي ء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الإعتناء به عمليّاً، ولا ينبغي تبديل اسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف.

ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً- في الأمالي للصدوق- عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال:

«... وضَع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يَغلِبُك منه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملًا».

ثم تذكر الآية موضوع «التجسّس» فتنهى عنه بالقول: «وَلَا تَجَسَّسُوا».

وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول: «وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا».

وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس، والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار، والإطّلاع عليها يستوجب الغيبة، والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولًا.

ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلًا بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ».

أجل، إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده، وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه.

كلمة «ميتاً» للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد، فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حق أخيه.

وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم، فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 531

فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من اللَّه أوّلًا: وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة اللَّه ولطفه.

بحوث

1- الأمن الإجتماعي الكامل: إنّ الأوامر أو التعليمات الستة الواردة في الآيتين آنفتي الذكر (النهي عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب وسوء

الظن والتجسس والإغتياب) إذا نُفّذت في المجتمع فإنّ سمعة وكرامة الأفراد في ذلك المجتمع تكون مضمونة من جميع الجهات.

إنّ للإنسان رؤوس أموال أربعة ويجب أن تحفظ جميعاً في حصن هذا القانون وهي:

«النفس والمال والناموس وماء الوجه».

والتعابير الواردة في الآيتين محل البحث والروايات الإسلامية تدل على أنّ ماء وجه الأفراد كأنفسهم وأموالهم بل هو أهم من بعض الجهات.

الإسلام يريد أن يحكم المجتمع أمن مطلق، ولا يكتفي بأن يكفّ الناس عن ضرب بعضهم بعضاً فحسب، بل أسمى من ذلك بأن يكونوا آمنين من ألسنتهم، بل وأرقى من ذلك أن يكونوا آمنين من تفكيرهم وظنّهم أيضاً .. وأن يُحسّ كلٌّ منهم أنّ الآخر لا يرشقه بنبال الإتهامات في منطقة أفكاره.

وهذا الأمن في أعلى مستوى ولا يمكن تحقّقه إلّافي مجتمع رسالي مؤمن. يقول النبي صلى الله عليه و آله في هذا الصدد: «إنّ اللَّه حرّم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يُظنّ به ظنّ السّوء» «1».

2- لا تجسّسوا: رأينا أنّ القرآن يمنع جميع أنواع التجسس بصراحة تامّة، وحيث إنّه لم يذكر قيداً أو شرطاً في الآية فيدلّ هذا على أنّ التجسس على أعمال الآخرين والسعي إلى إذاعة أسرارهم إثم، إلّاأنّ القرائن الموجودة داخل الآية وخارجها تدل على أنّ هذا الحكم متعلق بحياة الأفراد الشخصية والخصوصية.

ويصدق هذا الحكم أيضاً في الحياة الاجتماعية للأفراد بشرط أن لا يؤثر في مصير المجتمع.

لكن من الواضح أنّه إذا كان لهذا الحكم علاقة بمصير المجتمع أو مصير الآخرين فإنّ المسألة تأخذ طابعاً آخر، ومن هنا فإنّ النبي صلى الله عليه و آله كان قد أعدّ أشخاصاً وأمرهم أن يكونوا

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 5/ 268.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 532

عيوناً لجمع الأخبار واستكشاف المجريات واستقصائها

ليحيطوا بما له علاقة بمصير المجتمع. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن للحكومة الإسلامية أن تتّخذ أشخاصاً يكونون عيوناً لها أو منظمة واسعة للإحاطة بمجريات الامور، وأن يواجهوا المؤامرات ضد المجتمع أو التي يراد بها إرباك الوضع الأمني في البلاد، فيتجسّسوا للمصلحة العامة حتى لو كان ذلك في إطار الحياة الخاصة للأفراد.

إلّا أنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يكون ذريعةً لهتك حرمة هذا القانون الإسلامي الأصيل، وأن يسوّغ بعض الأفراد لأنفسهم أن يتجسّسوا في حياة الأفراد الخاصة بذريعة التآمر والإخلال بالأمن، فيفتحوا رسائلهم مثلًا، أو يراقبوا الهاتف ويهجموا على بيوتهم بين حين وآخر.

والخلاصة أنّ الحد بين التجسس بمعناه السلبي وبين كسب الأخبار الضرورية لحفظ أمن المجتمع دقيق وظريف جداً، وينبغي على مسؤولي إدارة الامور الاجتماعية أن يراقبوا هذا الحد بدقة لئلّا تهتك حرمة أسرار الناس، ولئلّا يتهدد أمن المجتمع والحكومة الإسلامية.

3- الغيبة من أعظم الذنوب وأكبرها: قلنا إنّ رأس مال الإنسان المهم في حياته ماء وجهه وحيثيّته، وأي شي ء يهدّده فكأنّما يهدّد حياته بالخطر.

وأحياناً يعدّ اغتيال وقتل الشخصية أهم من اغتيال الشخص نفسه، ومن هنا كان إثمه أكبر من قتل النفس أحياناً.

إنّ واحدةً من حِكم تحريم الغيبة أن لا يتعرّض هذا الاعتبار العظيم ورأس المال المعنوي للأشخاص لخطر التمزّق والتلوّث.

والأمر الآخر إنّ الغيبة تولّد النظرة السيئة وتضعف العلائق الاجتماعية وتوهنها وتتلف رأس مال الإعتماد وتزلزل قواعد التعاون «الإجتماعي».

قال البراء خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أسمع العواتق في بيوتهنّ فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فإنّه من تتّبع عورة أخيه تتّبع اللَّه عورته ومن تتّبع اللَّه عورته يفضحه في جوف بيته» «1».

______________________________

(1) المحجّة البيضاء

في تهذيب الاحياء 5/ 251.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 533

وأوحى اللَّه تعالى موسى عليه السلام: «من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرّاً عليه فهو أوّل من يدخل النار» «1».

في الكافي: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه».

إنّ هذه التأكيدات والعبارات المثيرة إنّما هي للأهمية القصوى التي يوليها الإسلام لصون ماء الوجه وحيثية المؤمنين الاجتماعية، وكذلك للأثر المخرّب- الذي تتركه الغيبة- في وحدة المجتمع والإعتماد المتبادل في القلوب.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) التقوى أغلى القيم الإنسانية: كان الخطاب في الآيات السابقة موجّهاً للمؤمنين وكان بصيغة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا»، وقد نهى الذكر الحكيم في آيات متعددة عمّا يوقع المجتمع الإسلامي في خطر، وتكلّم في جوانب من ذلك.

في حين أنّ الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبيّن أهم أصل يضمن النظم والثبات، وتميّز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».

والمراد ب «خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى «آدم وحواء»، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على اخرى من حيث النسب، وإذا كان اللَّه سبحانه قد خلق كل قبيلة وأولاها خصائص ووظائف معيّنة فإنّما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية.

إنّ القرآن بعد أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويُلغي التفاضل بالأنساب والقبائل يتّجه نحو المعيار الواقعي القيم، فيضيف قائلًا: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقكُمْ».

وهكذا

فإنّ القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الإمتيازات الظاهرية والمادية، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من اللَّه، ويقول إنّه لا شي ء أفضل من التقوى في سبيل التقرب إلى اللَّه وساحة قدسه.

______________________________

(1) المحجّة البيضاء في تهذيب الاحياء 5/ 252.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 534

وبما أنّ «التقوى» صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كل شي ء مستقرّةً في القلب والروح، وربّما يوجد مدّعون للتقوى كثيرون والمتصفون بها قلة منهم، فإنّ القرآن يضيف في نهاية الآية قائلًا: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

فاللَّه يعرف المتقين حقّاً وهو مطّلع على درجات تقواهم وخلوص نيّاتهم وطهارتهم وصفائهم، فهو يكرمهم طبقاً لعلمه ويثيبهم، وأمّا المدّعون الكذَبَة فإنّه يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضاً.

بحثان

1- القيم الحقّة والقيم الباطلة: لا شك أنّ كل إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم ...

إلّا أنّ معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماماً، وربّما أخذت القيم الكاذبة مكاناً بارزاً ولم تُبق للقيم الحقّة مكان في قاموس الثقافة للفرد.

فجماعة ترى بأنّ قيمتها الواقعية في الإنتساب إلى القبيلة المعروفة.

وكان الاهتمام بالقبيلة والإفتخار بالإنتساب إليها من أكثر الامور الوهميّة رواجاً في الجاهلية إلى درجة كانت كل قبيلة تعدّ نفسها أشرف من القبيلة الاخرى، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات! وجماعة اخرى تعوّل على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الامور، فتعدّها دليلًا على القيمة الشخصية وتسعى من أجل كل ذلك دائماً.

وهكذا تخطو كل جماعة في طريق خاص وتنشدّ قلوبها إلى قيمة معينة وتعدّها معيارها الشخصي.

وبما أنّ هذه الامور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإنّ مبدأً سماوياً كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن

يوافق عليها أبداً .. لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه الديني.

حتى أنّه لا يكترث بموضوعات مهمة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خطّ «الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية» ...

في الدرّ المنثور عن جابر بن عبداللَّه قال: خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: «يا أيّها الناس! ألا إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على

مختصر الامثل، ج 4، ص: 535

عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلّابالتقوى إنّ أكرمكم عنداللَّه أتقاكم ألا هل بلّغت»؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه. قال: «فليبلغ الشاهد الغائب».

2- حقيقة التقوى: يستفاد من آيات القرآن أنّ التقوى هي الإحساس بالمسؤولية والتعهد الذي يحكم وجود الإنسان وذلك نتيجةً لرسوخ إيمانه في قلبه حيث يصدّه عن الفجور والذنب ويدعوه إلى العمل الصالح والبر ويغسل أعمال الإنسان من التلوّثات ويجعل فكره ونيّته في خلوص من أيّة شائبة.

وقد ذكر بعض الأعاظم للتقوى ثلاث مراحل:

أ) حفظ النفس من (العذاب الخالد) عن طريق تحصيل الإعتقادات الصحيحة.

ب) تجنّب كل إثم وهو أعم من أن يكون تركاً لواجب أو فعلًا لمعصية.

ج) التجلّد والإصطبار عن كل ما يشغل القلب ويصرفه عن الحق، وهذه تقوى الخواص بل خاص الخاص.

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)

سبب النّزول

نزلت

في أعراب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يقولون لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية «1».

التّفسير

الفرق بين الإسلام والإيمان: كان الكلام في الآية المتقدمة على معيار القيم الإنسانية، أي التقوى، وبما أنّ التقوى ثمرة لشجرة الإيمان، الإيمان النافذ في أعماق القلوب، ففي الآيتين

______________________________

(1) أسباب نزول الآيات، الواحدي النيسابوري/ 265.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 536

الآنفتين بيان لحقيقة الإيمان إذ تقول الآية الاولى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ». وطبقاً لمنطوق الآية فإنّ الفرق بين «الإسلام» و «الإيمان» في أنّ: الإسلام له شكل ظاهري قانوني، فمن تشهد بالشهادتين بلسانه فهو في زمرة المسلمين وتجري عليه أحكام المسلمين.

أمّا الإيمان فهو أمر واقعي وباطني، ومكانه قلب الإنسان لا ما يجري على اللسان أو ما يبدو ظاهراً.

في مجمع البيان: روى أنس عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب».

وهذا المعنى نفسه وارد في تعبير آخر في بحث الإسلام والإيمان. في الكافي عن فضيل بن يسار قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: «إنّ الإيمان يشارك الإسلام ولا يشاركه الإسلام، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء».

ثم تضيف الآية محل البحث فتقول: «وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَايَلِتْكُم مّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيًا». وسيوفّيكم ثواب أعمالكم بشكل كامل ولا ينقص منها شيئاً.

وذلك ل «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

«يلتكم»:

مشتق من «لَيت» على زنة (ريب) ومعناه الإنقاص من الحق.

والعبارات الأخيرة في الحقيقة إشارات إلى أصل قرآني مسلّم به وهو أنّ شرط قبول الأعمال «الإيمان»، إذ مضمون الآية أنّه إذا كنتم مؤمنين باللَّه ورسوله إيماناً قلبياً وعلامته طاعتكم للَّه والرسول فإنّ أعمالكم مقبولة، ولا ينقص من أجركم شي ء، ويثيبكم اللَّه، وببركة هذه الأعمال يغفر ذنوبكم لأنّ اللَّه غفور رحيم.

وحيث إنّ الحصول على هذا الأمر الباطني أي الإيمان ليس سهلًا، فإنّ الآية التالية تتحدث عن علائمه، العلائم التي تميّز المؤمن حقّاً عن المسلم والصادق عن الكاذب، وأولئك الذين استجابوا للَّه وللرسول رغبةً وشوقاً منهم عن أولئك الذين استجابوا طمعاً أو للوصول إلى المال والدنيا فتقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ».

أجل، إنّ أوّل علامة للإيمان هي عدم التردد في مسير الإسلام، والعلامة الثانية الجهاد بالأموال، والعلامة الثالثة التي هي أهم من الجميع الجهاد بالنفس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 537

ولذلك فإنّ الآية تُختتم بالقول مؤكّدة: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ».

هذا هو المعيار الذي حدّده الإسلام لمعرفة المؤمنين الحق وتمييزهم عن الكاذبين المدّعين بالإسلام تظاهراً، وليس هذا المعيار منحصراً بفقراء جماعة بني أسد، بل هو معيار واضح وجلي ويصلح لكل عصر وزمان لفصل المؤمنين عن المتظاهرين بالإسلام، ولبيان قيمة اولئك الذين يمنّون بأن أسلموا على النبي صلى الله عليه و آله وذلك بحسب الظاهر فحسب، إلّاأنّه عند التطبيق والعمل لا يوجد فيهم أقلّ علامة من الإيمان أو الإسلام.

قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ

إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان: قالوا: فلما نزلت الآيتان- آنفاً- أتو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحلفون أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان، فأنزل اللَّه سبحانه الآية الاولى من الآيات مورد البحث وأنذرتهم أن لا يحلفوا، فاللَّه يعرف باطنهم وظاهرهم، ولا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.

التّفسير

لا تمنّوا عليّ إسلامكم: كانت الآيات السابقة قد بيّنت علائم المؤمنين الصادقين، وحيث إنّا ذكرنا في شأن النّزول أنّ جماعة جاؤوا النبي صلى الله عليه و آله وقالوا إنّ ادّعاءهم كان حقيقةً وإنّ الإيمان مستقر في قلوبهم، فإنّ هذه الآيات تنذرهم وتبيّن لهم أنّه لا حاجة إلى الإصرار والقسم، كما أنّ هذا البيان والإنذار هو لجميع الذين على شاكلة تلك الجماعة، فمسألة (الكفر والإيمان) إنّما يطّلع عليها اللَّه الخبير بكل شي ء.

ولحن الآيات فيه عتاب وملامة، إذ تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «قُلْ أَتُعَلّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ».

ولمزيد التأكيد تقول الآية أيضاً: «وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ». فذاته المقدسة هي علمه

مختصر الامثل، ج 4، ص: 538

بعينه وعلمه هو ذاته بعينها ولذلك فإنّ علمه أزلي أبدي.

ثم يعود القرآن لكلمات الأعراب من أهل البادية الذين يمنّون على النبي بأنّهم أسلموا وأنّهم أذعنوا لدينه في الوقت الذي حاربته القبائل العربية الاخرى. فيقول القرآن جواباً على كلماتهم هذه: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّاتَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلمَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَيكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».

«المنّة»: من مادة «المن» ومعناه الوزن الخاص الذي يوزن به، ثم استعمل هذا اللفظ على كل نعمة غالية وثمينة، والمنّة على

نوعين: فإذا كان فيها جانب عملي كعطاء النعمة والهبة فهي ممدوحة، ومنن اللَّه من هذا القبيل، وإذا كان فيها جانب لفظي، كمنّ كثير من الناس بالقول بعد العمل، فهي قبيحة وغير محبوبة.

فالإيمان وقبل كل شي ء يمنح الإنسان إدراكاً جديداً عن عالم الوجود، ويكشف عنه حجب الأنانية والغرور، ويوسع عليه أفق نظرته، ويجسّد له عظمة خلقه في نظره.

ومن هنا كان على الإنسان أن يؤدّي شكر نعمة اللَّه صباح مساء، وأن يهوي إلى السجود بعد كل صلاة وعبادة، وأن يشكر اللَّه على جميع هذه الامور.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث تأكيد آخر على ما ورد في الآية الآنفة إذ تقول: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ». فلا تصرّوا على أنّكم مؤمنون حتماً ولا حاجة للقسم .. فهو حاضر في أعماق قلوبكم، وهو عليم بما يجري في غيب السماوات والأرض جميعاً.

«نهاية تفسير سورة الحجرات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 539

50. سورة ق

محتوى السورة: إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» والمسائل المرتبطة بالمعاد. تمت الإشارة في هذه السورة إلى الامور التالية:

1- إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

2- الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

3- الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

4- الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

5- المسائل المتعلقة بالموت والإنتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاخرى.

6- جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنة والنار.

7- إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة.

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الامم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب

وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجه إلى اللَّه تعالى ... كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة إلى عظمة القرآن.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 540

فضيلة تلاوة السورة: يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يهتمّ إهتماماً كبيراً بسورة «ق» حتى أنّه صلى الله عليه و آله كان يقرأها في كل جمعة إذا خطب الناس «1».

في تفسير مجمع البيان عن الباقر عليه السلام قال: «ومن أدمن في فرائضه ونوافله سورة ق وسّع اللَّه في رزقه وأعطاه كتاباً بيمينه وحاسبه حساباً يسيراً».

وكل هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والإنسجام مع محتوى السورة هذه.

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) مرّةً اخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطعة، وهو الحرف «ق»، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ ... وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة.

قال بعض المفسرين: إنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء اللَّه تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

ومن جملة الامور التي تثبت على أنّ هذا الحرف (ق) هو من الحروف المقطعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجي ء

القسم مباشرةً- بعد هذا الحرف- بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: «ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ».

«المجيد»: مشتقة من المجد ومعناها الشرف الواسع؛ وبما أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كل جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ثم يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين

______________________________

(1) مستدرك، الحاكم النيسابوري 1/ 284؛ صحيح مسلم 3/ 13؛ مسند أحمد 6/ 463.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 541

منها ... الأوّل هو حكايته عنهم: «بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هذَا شَىْ ءٌ عَجِيبٌ».

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النبي محمّد صلى الله عليه و آله وهو كيف يكون النبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي: «أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ».

إنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعددة؛ فتارةً يشير إلى علم اللَّه الواسع فيقول: «قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ».

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم ... فاللَّه الذي أحاط بكل شي ء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على اللَّه من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شي ء في هذا العالم، وكل شي ء- حتى أعمالكم- سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.

ثم يردّ القرآن عليهم

بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقّ لَمَّا جَاءَهُمْ». أي: إنّهم جحدوا الحق مع علمهم به، وإلّا فإنّه لا غبار على الحق، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشك والتردد.

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: «فَهُمْ فِى أَمرٍ مَّرِيجٍ». فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وهذه الكلمات المتفرقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحق، إلّاأنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

«مريج»: مشتقة من مرج ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعددة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 542

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا وَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَ النَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) انظروا إلى السماء لحظةً: هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارةً تتحدث عن قدرة اللَّه المطلقة لإثبات المعاد، واخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد، فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: «أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا».

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة

عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وإستحكام ونظم ودقة.

جملة «وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ» أي لا إنشقاق فيها، إمّا أن يكون بمعنى عدم النقص والعيب، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ.

ثم تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ».

أجل، خلق الأرض من جهة، ثم اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اخرى، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة ... ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللّامحدودة.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول: «تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ».

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اخرى.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 543

أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: «وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ».

ثم تضيف الآية: «وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ».

«باسقات»: جمع «باسقة» بمعنى الشجرة المرتفعة العالية؛ و «الطلع»: ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ؛ «النضيد»: معناها المتراكم بشكل دقيق.

والآية الأخيرة من الآيات محل البحث تقول: «رّزْقًا لّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ».

وهكذا فإنّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس

الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلًا للمعاد كل سنة في حياتهم في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة: «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ باري ء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اخرى، لأنّ وقوع الشي ء أقوى دليل على إمكانه.

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحَابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) لست وحدك المبتلى بالعدوّ: تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعددة.

ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النبي صلى الله عليه و آله وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ».

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز. أمّا «أصحاب الرسّ» فالكثير من المفسرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه. وألقوه في البئر في آخر الأمر.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 544

ثم يضيف القرآن قائلًا: «وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ». والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم: «وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ». و «الأيكة»: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض- أو الملتفّة أغصانها- و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين»

وهي منطقة ذات أشجار كثيرة.

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم.

ثم إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ».

فإنّ هؤلاء الامم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالًا عليهم، فمنهم من ابتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة.

ثم يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: «أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ».

ثم يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو اللَّه ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كل تلك الدلائل الواضحة: «بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ».

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلًا هو اللَّه إذ خلقهم من تراب، إلّاأنّهم من جهة اخرى حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) كتابه جميع الأقوال: يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو

مختصر الامثل، ج 4، ص: 545

ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدث عن علم اللَّه المطلق وإحاطته بكلّ شي ء فتقول: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ».

«توسوس»: مشتقة

من الوسوسة وهي- كما يراه الراغب في مفرداته- الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ اللَّه لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْانسَانَ» يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه.

أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا.

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلًا: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ».

وهذا ما أشار إليه القرآن في الآية (24) من سورة الأنفال، إذ قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي، واللَّه سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب.

إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل اللَّه ... فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واعٍ ملتزم ورع تقيّ.

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ». أي: أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم اللَّه «التامة» على ظاهر الإنسان وباطنه، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله.

«تلقّى»: معناها الأخذ والتسلّم؛ و «المتلقّيان»: هما ملكان مأموران بكتابة أعمال الناس؛

مختصر الامثل، ج 4، ص: 546

و «قعيد»: مأخوذة من القعود ومعناها «جالس» والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان. وبتعبير آخر: أنّ الآية هذه لا تعني

أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً، واخرى في حال الجلوس، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله. وورد في الروايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيّئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا إستغفر اللَّه منها لم يكتب عليه شي ء، وإن لم يستغفر اللَّه كتب له سيّئة واحدة.

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث فتتحدث عن الملكين أيضاً فتقول: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ».

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهمية القصوى للقول وأثره في حياة الناس، حتى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدي إلى تغيير مسير المجتمع نحو الخير أو الشرّ.

«الرقيب»: معناها المراقب؛ و «العتيد»: معناها المتهي ء للعمل.

وَ جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) القيامة، والبصر الحديد: تعكس الآيات أعلاه مسائل اخرى تتعلق بيوم المعاد: «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر». فتقول أوّلًا: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ».

سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الاضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

مختصر الامثل،

ج 4، ص: 547

وللإمام علي عليه السلام كلام بليغ- في الخطبة 109 في نهج البلاغة- يرسم لحظة الموت وسكراتها إذ يقول: «اجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع باذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره! ويتذكّر أموالًا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرّحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها».

ثم يضيف القرآن في ذيل الآية قائلًا: «ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ» «1».

أجل، إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم. أيّاً كان فهم منه يهربون ...

ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه.

ثم يتحدث القرآن عن النفخ في الصور فيقول: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ».

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية، وهي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة: «وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ».

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل اللَّه، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال: «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

أجل،

إنّ أستار عالم المادة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل

______________________________

(1) «تحيد»: مشتقة من مادة «حيد»- على وزن صيد- ومعناها العدول عن الشي ء والفرار منه ..

مختصر الامثل، ج 4، ص: 548

والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر.

وَ قَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين: مرّةً اخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اخرى عن المعاد، صورة مثيرة مذهلة حيث إنّ الملك- قرين الإنسان- يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم اللَّه لمعاقبته وجزائه. تقول الآية الاولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال هذا الإنسان حاضر لديّ: «وَقَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ».

فيكشف الستار عن كل صغيرة وكبيرة صدرت منه.

والمراد من «قرينه» هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل اللَّه.

ثم يخاطب اللَّه الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما: «أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ

عَنِيدٍ».

«عنيد»: مشتقة من العناد، ومعناها التكبر وحبّ الذات وعدم الخضوع للحق.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف الذميمة المنحطّة التي يتّصف بها هؤلاء الكفار- إذ تقول الآية: «مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ».

«معتد»: معناها المتجاوز على الحدود، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود اللَّه وأحكامه؛ و «مريب»: مشتقة من الريب، وتعني من هو في شك، الشك المقرون بسوء الظن، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شك من أمرهم ... فيضلّوا عن سواء السبيل.

ثم تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفار فتقول: «الَّذِى جَعَلَ

مختصر الامثل، ج 4، ص: 549

مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ». أجل: «فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ».

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدمة بعضها لبعض بمثابة العلة والمعلول، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف، لأنّ معنى الكفار هو من أصرّ على كفره كثيراً، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود اللَّه.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشك والريب وسلب الإيمان عنهم.

وفي الوصف السادس أي: «الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ» يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الامور المتقدمة.

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اخرى مما يجري على هؤلاء الكفار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغوي في يوم القيامة، فكل من الكفار يلقي التبعات على الشياطين، إلّاأنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِن كَانَ فِى ضَللٍ

بَعِيدٍ». فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه باختياره وإرادته وإختار هذا الطريق.

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفار وردّهم على الشيطان، إلّاأنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالًا، لأنّها تقول حاكية عن رب العزة: «قَالَ لَاتَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ».

وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: «قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا» «1».

ومن جهة اخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء/ 63.

(2) سورة ص/ 85.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 550

مختصر الامثل ج 4 590

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان رب العزة: «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلمٍ لّلْعَبِيدِ».

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه اللَّه سبحانه مراراً في آيات متعددة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير ب «ظلّام» وهو صيغة مبالغة معناه إشارة إلى أنّ مقام عدل اللَّه وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلّام، فعلى هذا فإنّ اللَّه بعيد عن أي أنواع الظلم.

إنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحرية «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ

هَلْ مِن مَّزِيدٍ».

إنّ هذه الآية تدل دلالة واضحة أنّ أهل جهنم كثيرون، وأنّ صورة جهنم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد اللَّه جدّي وحق يربك الفكر في كل إنسان فيهزّه ويحذّره ألّا يكون واحداً من أهلها.

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) مع الإلتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والامور التي تتعلق به، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدث عن كيفية القاء الكفار المعاندين في نار جهنم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنم.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 551

ففي هذه الآيات محل البحث تصوير لمشهد آخر، وهو دخول المتقين الجنة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في الجنة، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنة.

فتبدأ الآيات بالقول: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ».

«ازلفت»: من مادة «زُلفى»- على زنة كبرى- ومعناها القرب، أي قُرّبت.

ثم تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنة فتقول: «هذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ».

«أوّاب»: من مادة «أوب»- على زنة ذوب- ومعناها العودة؛ ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنة رجال متقون بحيث إنّ أي عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة اللَّه فهم يلتفتون

ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فوراً، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ»: معناه الحافظ، والمراد منه هو الحافظ لعهد اللَّه إذ أخذه من بني آدم ألّا يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (60) من سورة يس؛ والحافظ لحدود اللَّه وقوانينه والحافظ لذنوبه والمتذكّر لها مما يستلزم التوبة والجبران.

وإستدامةً لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها، وهما بمثابة التوضيح لما سبق ذكره، إذ تقول الآية: «مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ». أي: أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وإبتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سبباً للإنابة، فيكون قلبهم متوجّهاً إلى اللَّه ويقبل على طاعته دائماً ويتوب من كل ذنب، وأن يواصلوا هذه الحالة حتى نهاية العمر ويردوا عرصات المحشر على هذه الكيفية.

ثم تضيف الآية الاخرى بأنّ اولئك الذين يتمتعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام: «ادْخُلُوهَا بِسَلمٍ».

«السلام» من كل أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يُضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و «ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ».

وإضافةً لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام، وبشرى الخلود في الجنة، يبشّرهم اللَّه بشريين اخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعاً كما أنّهم يتصفون بأربع صفات يقول:

«لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 552

وإضافةً إلى كل ذلك فإنّه: «لَدَيْنَا مَزِيدٌ» من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

وبعد الانتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والاستنتاج فيقول: «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِى الْبِلدِ». فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلّاأنّهم وبسبب

كفرهم وظلمهم أهلكناهم ... فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي: «هَلْ مِن مَّحِيصٍ».

«القرن» و «الإقتران»: في الأصل هو «القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون»، فإهلاك القرون معناه إهلاك الامم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشي ء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «المحيص»: معناها الانحراف والعدول عن الشي ء، ومن هنا فقد استعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة.

فإنّ الآية تنذر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه و آله أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للاعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين الذين كانوا امماً وأقواماً أشد من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً».

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».

والمراد ب «القلب» هنا وفي الآيات الاخر من القرآن التي تتكلم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك.

أمّا «أَلْقَى السَّمْعَ» فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقة.

و «الشهيد»: يطلق على من هو حاضر القلب.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعه يعني ما يلي: إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة ... فالفريق الأوّل من يتمتع بالذكاء والعقل ... ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره.

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلّاأنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 553

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ

مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبَارَ السُّجُودِ (40) خالق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى: تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعددة في شأن المعاد، تشير الآيات محل البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد ... ثم تأمر النبي بالصبر والاستقامة والتسبيح بحمد اللَّه ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاولى من هذه الآيات: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ».

«اللغوب»: بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعددة فإنّ القرآن يخاطب النبي ويأمره بالصبر- لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحق وتصرّ على الباطل فيقول:

«فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ». إذ بالصبر والإستقامة- وحدهما- يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وبما أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر اللَّه والإرتباط بالمبدأ- مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم- لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلًا: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ».

وكذلك: «وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ».

و «التسبيح» في الأوقات الأربعة إشارة إلى الصلوات الخمس اليومية وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي:

ف «قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 554

أمّا قوله: «وَمِنَ الَّيْلِ» فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: «وَأَدْبَارَ السُّجُودِ» ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب.

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ

(41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة: هذه الآيات محل البحث التي تختتم بها سورة «ق» كسائر آياتها تتحدث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور ... فتقول: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ».

والمخاطب بالفعل «استمع» هو النبي صلى الله عليه و آله نفسه إلّاأنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.

والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً، فهو منتظر لأن يسمع الصوت؛ أو هو الإصغاء إلى كلام اللَّه فيكون المعنى «استمع كلام اللَّه» إذ يقول: يوم يسمعون الصيحة الخ.

هذا المنادي هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور ... وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصة.

عبارة «مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ» إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في اذن كل أحد.

ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإنّ القرآن يضيف قائلًا: «إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ».

ثم يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا».

أي: يخرجون مسرعين من القبور. ويضيف مختتماً: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ».

و «الحشر»: معناه الجمع من كل جهة ومكان.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 555

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث وهي آخر

آية من سورة «ق» ذاتها فهي تخاطب النبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ».

فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحق والبشارة والنذارة: «فَذَكّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ».

وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كافٍ للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكل صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل اللَّه هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.

«نهاية تفسير سورة ق»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 557

51. سورة الذاريات

محتوى السورة: يدور محور هذه السورة حول المسائل المتعلقة بالمعاد ويوم القيامة والثواب والعقاب لكل من المؤمنين والكافرين.

إنّ مباحث هذه السورة تدور حول خمسة محاور وهي:

1- إنّ القسم المهم منها يتكلم عن المعاد وبداية السورة ونهايتها أيضاً هما حول المعاد.

2- القسم الآخر ناظر إلى مسألة توحيد اللَّه وآياته في نظام الخلق والوجود، وهي تكمل مبحث المعاد طبعاً.

3- وفي قسم آخر يقع الكلام على ضيف إبراهيم من الملائكة وما امروا به من تدمير مدن قوم لوط.

4- والآيات الاخر من هذه السورة فيها إشارات إلى قصّة موسى عليه السلام وبعض الامم كعاد وثمود وقوم نوح.

5- وقسماً من هذه السورة يتحدث عن مواجهة الامم المعاندين لأنبيائهم وتأمر النبي صلى الله عليه و آله بالصبر والاستقامة بوجه المشاكل والشدائد وتسرّي عنه وتسلّي قلبه.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: «من قرأ سورة الذاريات في يومه أو ليلته أصلح اللَّه له معيشته، وأتاه برزق واسع ونور له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 558

والهدف هو التلاوة بتفكر ... التفكر الباعث على العمل.

وقد اشتق اسم

هذه السورة، أي (الذاريات) من الآية الاولى فيها.

وَ الذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) قسماً بالأعاصير والسُحُب الذاريات: هذه السورة هي الثانية بعد سورة «الصافات» التي تبدأ بالقَسم المتكرر، القسم العميق والباعث على التفكر.

والطريف في الأمر أنّ هذا القَسم يرتبط محتواه بمحتوى يوم القيامة والنشور.

والحقيقة أنّ كل قسم في القرآن هو بنفسه- وإن كثرت الأقسام- أو الأيمان- وجه من وجوه إعجاز القرآن هذا الكتاب السماوي، وهو من أجمل جوانبه وأبهاها وسيأتي تفصيل كل ذلك في موقعه.

وفي مستهلّ السورة يقسم اللَّه سبحانه بخمسة أشياء مختلفة، فيقول اللَّه في البداية:

«وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا» «1». أي قسماً بالرياح التي تحمل السحب في السماء وتذرو البذور على الأرض في كل مكان ...

ثم يضيف: «فَالْحَامِلتِ وِقْرًا». قسماً بالسحب التي تحمل أمطاراً ثقيلة معها ..

«فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا». و «الجاريات»: هنا هي السفن. أي: قسماً بالسفن التي تجري في الأنهار العظيمة والبحار الشاسعة بيسر وسهولة ..

«فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْرًا». و «المقسّمات»: هنا معناها الملائكة الذين يقسّمون الامور.

فهناك تفسير آخر يمكن ضمّها إلى هذا التفسير، وهو أنّ المراد ب «الجاريات» هي الأنهار التي تجري بماء المزن؛ و «المقسّمات أمراً» هي الأرزاق التي تقسّم بواسطة الملائكة عن طريق الزراعة.

وعلى هذا فإنّ الكلام عن الرياح ثم الغيوم وبعدها الأنهار وأخيراً نمو النباتات في الأرض يتناسب تناسباً قريباً مع مسألة المعاد، لأنّنا نعرف أنّ واحداً من أدلة إمكان المعاد هو إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث وقد ذكر ذلك عدة مرات في القرآن بأساليب مختلفة.

______________________________

(1) «الذّاريات»: جمع «الذّارية»، ومعناها الريح التي تحمل معها الأشياء وتنشرها في الفضاء.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 559

وبعد ذكر هذه الأقسام الأربعة التي تبيّن

أهمية الموضوع الذي يليها، يقول القرآن: «إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ».

ومرّة اخرى لمزيد التأكيد يضيف قائلًا: «وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ». «الدين»: هنا معناه الجزاء كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: «مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ». أي يوم الجزاء.

وأساساً فإنّ واحداً من أسماء يوم القيامة هو «يوم الدين» و «يوم الجزاء». ويتضح من ذلك أنّ المراد من الوعود الواقعة «هنا» هي ما يوعدون عن يوم القيامة وما يتعلق بها من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار وسائر الامور المتعلقة بالمعاد، فعلى هذا تكون الجملة الاولى شاملة لجميع الوعود، والجملة الثانية تأكيد آخر على مسألة الجزاء.

وَ السَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) والسماء ذات الحُبك: تبدأ هذه الآيات كالآيات المتقدمة بالقسم وتتحدث عن إختلاف الكفار وجدلهم حول يوم الجزاء والقيامة. فتقول الآيات في البداية: قسماً بالسماء ذات الخطوط والتعرّجات الجميلة: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ».

«الحبك»: جمع «حباك» وفي اللغة معان كثيرة لها، وجميع هذه المعاني تعود إلى معنى واحد وهي التجاعيد والتعاريج الجميلة التي تظهر على صفحات الرمل في الصحراء أو صفحات الماء أو التجاعيد في الشعر أو السُحب في السماء.

وتطبيق هذا المعنى على السماء ووصفها بها «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» هو إمّا لنجومها ذات المجاميع المختلفة وصورها الفلكية.

وإمّا للأمواج الجميلة التي ترتسم في السحب أو لمجرّاتها العظيمة. فعلى هذا يكون معنى «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ» أنّ القرآن يقسم بالسماء ومجراتها العظيمة.

أمّا الآية التالية فهي جواب للقسم وبيان لما وقع عليه القسم، إذ تقول مؤكّدة: «إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ». فدائماً

أنتم تتناقضون في الكلام؛ ففي مسألة المعاد تقولون أحياناً: لا نصدّق أبداً أن نعود أحياء بعد أن تصير عظامنا رميماً.

وتارةً تقولون نحن نشك في هذه القضية ونتردد.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 560

وتارةً تضيفون أن هاتوا آباءنا وأسلافنا من قبورهم ليشهدوا أنّ بعد الموت قيامةً ونشوراً لنقبل بما تقولون.

وتقولون في شأن النبي محمّد صلى الله عليه و آله تارةً بأنّه شاعر، أو بأنّه ساحر، وتارةً تقولون أنّه لمجنون، وتارةً تقولون إنّما يعلمه بشر فهو معلّم.

كما تقولون في شأن القرآن بأنّه: أساطير الأوّلين تارةً، أو تقولون بأنّه شعر، وتارةً تسمّونه سحراً، وحيناً آخر تقولون أنّه كذب إفتراه وأعانه عليه قوم آخرون ... الخ.

فقسماً بحُبك السماء وتجاعيدها إنّ كلامكم مختلف وملي ء بالتناقض، وكأنّ هذا التناقض في كلامكم دليل على أنّه لا أساس لكلامكم أبداً.

وهذا التعبير إنّما هو استدلال على بطلان إدّعاء المخالفين في شأن التوحيد والمعاد والنبي والقرآن «وإن كان إعتماد هذه الآيات في الأساس على مسألة المعاد كما تدل عليه القرينة في الآيات التالية».

وفي الآية التالية يبيّن القرآن علة الانحراف عن الحق فيقول: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ». أي:

يؤفك عن الإيمان بالقيامة والبعث كل مخالف للحق، وإلّا فإنّ دلائل الحياة بعد الموت واضحة وجليّة.

«الإفك»: في الأصل يطلق على صرف الشي ء.

ومع ملاحظة أنّ الكلام كان في الآيات المتقدمة على المعاد والقيامة، فمن المعلوم أنّ المراد الأصلي من الإنحراف والإفك هنا هو الانحراف عن هذه العقيدة ... كما أنّه حيث كان الكلام في الآية المتقدمة عن اختلاف كلام الكفار وتناقضهم فيعلم أنّ المراد هنا من الآية هم اولئك المنحرفون عن الإيمان بالمعاد الذين انحرفوا عن مسير الدليل العقلي والمنطق السليم الباحث عن الحق.

وفي الآية التالية ذمّ شديد للكاذبين وتهديد لتخرصاتهم، إذ

تقول: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ».

«الخراص»: من مادة «خَرْص» ومعناه في الأصل كل كلام يقال تخميناً أو ظنّاً، وحيث إنّ مثل هذا الكلام غالباً ما يكون كذباً فقد استعملت هذه الكلمة في الكذب أيضاً.

إنّ القضاء بلا دليل ولا مدرك أو مستند بيّن بل على الظن والحدس هو عمل يسوق إلى الضلال ويستحق اللعن والعذاب.

ثم يعرّف القرآن هؤلاء الخراصين الكذبة فيقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَاهُونَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 561

«الغمرة»: في الأصل معناها الماء الغزير الذي يغطّي محلًا ما ... ثم استعملت على الجهل السحيق الذي يغطّي عقل الشخص.

و «ساهون»: جمع ل «ساهٍ» وهي مشتقة من «السهو» والمراد بها هنا الغفلة.

فعلى هذا يكون المراد من كلمة «الخرّاصون» هم الغارقون في جهلهم وكل يوم يتذرّعون بحجة واهية فراراً من الحق.

ولذلك فهم دائماً: «يَسَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ».

جملة «يسألون» والفعل للمضارع يدل على أنّهم يثيرون هذا السؤال أيّان يوم الدين؟! باستمرار ... على أنّه ينبغي أن يكون يوم القيامة وموعده مخفياً، ليكون محتمل الوقوع في أيّ زمان، ويحصل منه الأثر التربوي للإيمان بيوم القيامة الذي هو بناء الشخصية والاستعداد الدائم.

إلّا أنّه ومع هذه الحال فإنّ القرآن يردّ عليهم مجيباً بلغة شديدة ويعنّفهم: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ».

وعندئذ يقال لهم هنالك: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ». إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19) ثواب المستغفرين بالأسحار: تعقيباً على الكلام المذكور في الآيات آنفة الذكر الذي كان يدور حول الكذبة والجهلة ومنكري القيامة وعذابهم، في الآيات محل البحث يقع الكلام عن المؤمنين

المتقين وأوصافهم وثوابهم لتتجلّى بمقارنة الفريقين- كما هو عليه اسلوب القرآن- الحقائق أكثر فأكثر. تقول الآيات هنا: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ».

وصحيح أنّ البستان بطبيعته يكون ذا سواق وروافد، لكن ما ألطف أن تتدفّق مياه العيون في داخل البستان نفسه وتسقي أشجاره ... فهذا هو ما تمتاز به بساتين الجنة ... فهي ليست ذات عين واحدة بل فيها عيون ماء متعددة تجري متدفّقه هناك.

ثم يضيف القرآن مشيراً إلى نعم الجنّات الاخر فيتحدث عنها بتعبير مغلق فيقول:

مختصر الامثل، ج 4، ص: 562

«ءَاخِذِينَ مَا ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ». أي أنّهم يتلقّون هذه المواهب الإلهية بمنتهى الرضا والرغبة والشوق ... ويعقّب القرآن في ختام الآية بأنّ هذه المواهب وهذا الثواب كل ذلك ليس إعتباطاً بل «إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ». و «الإحسان»: هنا يحمل معنى وسيعاً بحيث يشمل طاعة اللَّه والأعمال الصالحة الاخر أيضاً. والآيات التالية تبيّن كيفية إحسانهم، فتعرض ثلاثة أوصاف من أوصافهم فتقول: أوّلًا:

«كَانُوا قَلِيلًا مّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ».

«يهجعون»: مشتقة من الهجوع، ومعناه النوم ليلًا. فعلى هذا فهم كل ليلة يحيّون قسماً منها بالعبادة وصلاة الليل، أمّا الليالي التي يرقدون فيها حتى مطلع الفجر ... وتفوت عليهم العبادة فيها كليّاً ... فهي قليلة جدّاً.

والوصف الثاني من أوصافهم يذكره القرآن بهذا البيان: «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ».

فحيث إنّ عيون الغافلين هاجعة آخر الليل والمحيط هادى ء تماماً، فلا شي ء يشغل فكر الإنسان ويقلق باله ... يصلّون ويستغفرون عن ذنوبهم خاصة.

ثم يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنة المتقين فيقول: «وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لّلْسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ».

كلمة «حق» هنا هو إمّا لأنّ اللَّه أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة؛ أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك.

ويمكن أن يقال إنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو

أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق، في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك.

وما وصلنا من روايات عن أهل البيت عليهم السلام يؤكّد أيضاً أنّ المراد من «حق معلوم» شي ء غير الزكاة الواجبة.

وفي الفرق بين «السائل» و «المحروم»، فقال بعضهم «السائل» هو من يطلب العون من الناس، أمّا «المحروم» فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد، أو يطلب العون من أحد، بل يصبّر نفسه.

فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم، بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم

مختصر الامثل، ج 4، ص: 563

«يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» «1» ... لتساعدوهم وتحفظوا ماء وجوههم.

وَ فِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) آيات اللَّه وآثاره في أنفسكم: تعقيباً على الآيات المتقدمة التي كانت تتحدث عن مسألة المعاد وصفات أهل النار وأهل الجنة، تأتي هذه الآيات- محل البحث- لتتحدث عن آيات اللَّه ودلائله في الأرض وفي وجود الإنسان نفسه ليطّلع على مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه وصفاته التي هي مبدأ الحركة نحو الخيرات كلها من جهة، وعلى قدرته على مسألة المعاد والحياة بعد الموت من جهة اخرى، لأنّ خالق الحياة على هذه الأرض وما فيها من عجائب قادر على تجديد الحياة بعد الموت كذلك. تقول هذه الآية أوّلًا: «وَفِى الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ».

والحق أنّ دلائل اللَّه وقدرته غير المتناهية وعلمه وحكمته التي لا حد لها في هذه الأرض كثيرة ووفيرة إلى درجة أنّ عمر أي إنسان

مهما كان لا يكفي لمعرفتها جميعاً.

ولا بأس أن ننقل هنا جانباً من كلمات بعض العلماء المعروفين في العالم الذين لهم دراسات كثيرة في هذا الصدد: إنّه «كرسي موريسين» فلنصغ إليه قائلًا: «لقد روعي منتهى الدقة في تنظيم العوامل الطبيعية فلو تضخّمت القشرة الخارجية للكرة الأرضية أكثر ممّا كانت عليه عشر مرّات لأنعدم الأوكسجين الذي هو المادّة الأصلية للحياة، ولو أنّ أعماق البحار كانت أكثر عمقاً ممّا هي عليه قليلًا أو كثيراً، لأنجذب جميع الأوكسجين والكربون من سطح الأرض ولم يعد أي إمكان لحياة النبات أو الحيوان على سطح الأرض».

ويقول في مكان آخر: «أنّ نسبة الأوكسجين في الهواء هي إحدى وعشرين بالمائة فحسب، فلو كانت هذه النسبة خمسين بالمائة لأحترق به كل ما من شأنه الاشتعال في هذا العالم ... ولو وصلت شظية صغرى من النار إلى شجرة في غابة لأحترقت الغابة جمعاء» «2».

______________________________

(1) سورة البقرة/ 273.

(2) أسرار خلق الإنسان، كرسي موريسين/ 33- 36.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 564

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلًا: «وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ». أي أفلا تبصرون هذه الآيات في أنفسكم أيضاً. ولا شك أنّ الإنسان أعجوبة عالم الوجود وما هو في العالم الأكبر موجود في عالم الإنسان الأصغر أيضاً، بل في الإنسان عجائب لا توجد في أي مكان من العالم.

إنّ الأجهزة الموجودة في بدن الإنسان كالقلب والكلية والرئة وخاصة عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب الرقيقة أو الكبيرة والأعصاب الدقيقة التي لا ترى بالعين المجرّدة وجميعها مسؤولة عن إيصال الغذاء والماء والتهوية إلى عشرة مليون مليارد خلية، والحواس المختلفة كالسمع والبصر والحواس الاخر كل منها آية عظمى من آيات اللَّه.

وأهمّ من كل ذلك لغز الحياة التي لم تعرف أسرارها وبناء الروح أو العقل

الإنساني الذي يعجز عن إدراكه عقول جميع الناس.

وقد ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» «1».

وفي الآية الثالثة من الآيات- محل البحث- إشارة إلى القسم الثالث من دلائل عظمة الخالق وقدرته على المعاد، إذ تقول: «وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ».

إنّ سعة مفهوم الرزق تشمل حبّات المطر وغيرها كنور الشمس الذي يأتي من السماء وله أثره الفاعل في الحياة، والهواء الذي هو أساس حياة الموجودات.

إنّ ما يمنع البصيرة ويصدّها عن مطالعة أسرار الخلق هو «الحرص على الرزق»، فاللَّه سبحانه يطمئن الإنسان في الآية الأخيرة بأنّ رزقه مضمون، ليستطيع أن ينظر إلى عجائب العالم ويتحقق فيه قوله: «أَفَلَا تُبْصِرُونَ».

وجملة «وَمَا تُوعَدُونَ» فيمكن أن تكون تأكيداً على مسألة الرزق ووعد اللَّه في هذا المجال، أو أنّ المراد منها عذاب ينزل من السماء.

فهذه الآيات الثلاث فيها ترتيب لطيف، فالآية الاولى تتحدث عن أسباب وجود الإنسان وحياته، والآية الثانية تتحدث عن الإنسان نفسه، والآية الثالثة تتحدث عن أسباب بقائه ودوامه.

لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تُقسم فتقول: «فَوَرَبّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ».

وقد بلغ الأمر حدّاً أن يقسم اللَّه على ما لديه من عظمة وقدرة ليُطمئن عباده الشاكّين

______________________________

(1) بحار الأنوار 2/ 32.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 565

ضعاف الأنفس الحريصين إنّ ما توعدون في مجال الرزق والثواب والعقاب والقيامة جميعه حق ولا ريب في كل ذلك.

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَ لَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ

عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَ قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) ضيوف إبراهيم عليه السلام: من هذا المقطع- فما بعد- يتحدث القرآن في هذه السورة عن قصص الأنبياء الماضين والامم المتقدمة تأكيداً وتأييداً للموضوع آنف الذكر وما حواه من مسائل، وأوّل جانب يثيره هذا المقطع هو قصة الملائكة الذين جاءوا لعذاب قوم لوط، ومرّوا على إبراهيم عليه السلام على صورة بشر، ليبشّروه بالولد، مع أنّ إبراهيم بلغ سنّاً كبيراً فهو في مرحلة المشيب وامرأته كانت عقيماً كذلك.

فمن جهة ... يعدّ إعطاء هذا الولد لإبراهيم وزوجه وهما في مرحلة الكبر واليأس من الإنجاب تأكيداً على كون الأرزاق مقدّرة كما اشير إلى ذلك في الآيات المتقدمة.

ومن جهة اخرى يُعدّ دليلًا آخر على قدرة الحق وآية من آيات معرفة اللَّه التي ورد البحث عنها في الآيات آنفاً.

ومن جهة ثالثة يُعدّ بُشرى للُامم المؤمنة بأنّها في رعاية الحق، كما أنّ الآيات التالية تتحدث عن عذاب قوم لوط وهي في الوقت ذاته تهديد للمجرمين.

ففي البدء يوجّه اللَّه سبحانه الخطاب لنبيّه فيقول: «هَلْ أَتَيكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرهِيمَ الْمُكْرَمِينَ».

والتعبير ب «المكرمين» إمّا لأنّ هؤلاء الملائكة كانوا مأمورين من قبل الحق، أو لأنّ إبراهيم عليه السلام أكرمهم، أو للوجهين معاً.

ثم يبيّن القرآن حالهم فيقول: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلمًا قَالَ سَلمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ».

فإنّ إبراهيم أدّى ما عليه من حق الضيافة: «فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 566

«راغ»: مشتق من «روغ»- على وزن شوق- ومعناه التحرّك مقروناً بخطّة خفية.

و «العجل»: على وزن «طفل» معناه ولد البقر وفي الأصل مأخوذة من العجلة، لأنّ هذا الحيوان في هذه السن وفي هذه المرحلة

يتحرك حركة عجلى، وحين يكبر تزول عنه هذه الصفة تماماً؛ و «السمين»: معناه المكتنز لحمه، وإنتخاب مثل هذا العجل إنّما هو لإكرام الضيف وليسع المتعلقين والأكلة الآخرين.

ثم تضيف الآية بالقول عن إبراهيم وضيفه: «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ». إلّاأنّه لاحظ أنّ أيديهم لا تصل إلى الطعام فتعجب و «قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ».

وكان إبراهيم يتصور أنّهم من الآدميين «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» لأنّه كان معروفاً في ذلك العصر وفي زماننا أيضاً بين كثير من الناس الملتزمين بالتقاليد العرفية، أنّه متى ما أكل شخص من طعام صاحبه فلن يناله أذى منه ولا يخونه ولذلك فإنّ الضيف إذا لم يأكل من طعام صاحبه، يثير الظن السي ء بأنّه جاء لأمر محذور.

وهنا قال له الضيف كما ورد في الآية (70) من سورة هود طمأنةً له ف «قَالُوا لَاتَخَفْ».

ويضيف القرآن: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلمٍ عَلِيمٍ».

وبديهي أنّ الغلام عند ولادته لا يكون عليماً، إلّاأنّه من الممكن أن يكون له إستعداد بحيث يكون في المستقبل عالماً كبيراً ... والمراد به هنا هو ذلك المعنى.

والمشهور بين المفسرين أنّ هذا الغلام هو إسحاق.

«فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ». ونقرأ في الآية (72) من سورة هود قوله تعالى: «قَالَت يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذَا بَعْلِى شَيْخًا».

«صرّة»: مشتقة من الصرّ على وزن الشرّ، ومعناه في الأصل الشدّ والإرتباط. وفي الآية محل البحث معناها هو الصوت العالي الشديد.

و «صكّت»: معناها الضرب الشديد أو الضرب، والمراد منها هنا هو أنّ امرأة إبراهيم حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها- كعادة سائر النساء- تعجباً وحياءً.

وطبقاً لما يقول بعض المفسرين وما ورد في سفر التكوين فإنّ امرأة إبراهيم كانت آنئذ في سن التسعين وإبراهيم نفسه كان في سن المئة عاماً ... أو أكثر. إلّاأنّ

الآية التالية تنقل جواب الملائكة لها فتقول: «قَالُوا كَذلِكِ قَالَ رَبُّكَ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ».

والتعبير ب «الحكيم» و «العليم» إشارة إلى أنّه لا يحتاج إلى الإخبار بكونك امرأة عقيماً عجوزاً وبعلك شيخاً، فاللَّه يعرف كل هذه الامور.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 567

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) مُدن قوم لوط المدمّرة آية وعبرة: تعقيباً على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفاً على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك: إنّ إبراهيم بعد ما ابعد إلى الشام ... واصل دعوة الناس إلى اللَّه ومواجهته لكل أنواع الشرك وعبادة الأصنام ... وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويُحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالين، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورّطهم في الإنحراف الجنسي واللواط، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلّاأنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهم، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولد إسحاق، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمة «البشارة»، أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية» مهمّة. لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تحكي بداية المحاورة فتقول: «قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ».

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة»

ومأموريتهم ف «قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ».

ثم أضافوا قائلين: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ».

والتعبير ب «حجارة من طين» هو ما أشارت إليه الآية (82) من سورة هود بالقول من «سجّيل»؛ ولعلها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات «المطر».

ثم أضاف الملائكة قائلين: «مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 568

والقرآن هنا يكشف عما جرى لرسل اللَّه إلى نبيّه لوط فيقول: «فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ».

أجل عدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر.

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان (59 و 60) من سورة الحجر بالقول: «إِلَّا ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ».

إنّ هذا القسم من قصة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدث عن حقيقة واحدة ... إلّاأنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعددة وكل زاوية لها بعدها الخاصّ ... فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية- على هذه الشاكلة- غالباً.

وفي مقام التربية يلزم أحياناً أن يعول على مسألة مهمّة مراراً لتترك أثرها العميق في ذهن القارى ء.

فإنّ اللَّه سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثم أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثراً ... حتى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة لتكون عبرةً لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلًا في آخر آية من الآيات محل البحث: «وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ».

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من

يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم إستعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

وَ فِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46) دروس العبرة من الأقوام السالفة: يتحدث القرآن في هذه الآيات محل البحث- تعقيباً

مختصر الامثل، ج 4، ص: 569

على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة- عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة. فيقول أوّلًا: «وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

«السلطان»: ما يكون به التسلط، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القوي أو كلاهما، وقد واجه موسى فرعون بهما.

إنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهداً على إرتباطه باللَّه ولم يطأطى ء رأسه للدلائل المنطقية ... بل بقي مصرّاً لما كان فيه من غرور وتكبّر: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

والطريف أنّ الجبابرة المتكبرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والإفتراء كانوا يتناقضون تناقضاً عجيباً، فتارةً يتّهمونهم بأنّهم سحرة، واخرى بأنّهم مجانين، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّاً وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتى يسحرهم ويخدعهم بها ... والمجنون بخلافه تماماً.

إلّا إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبار وأعوانه بقوله: «فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ وَهُوَ مُلِيمٌ».

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ

فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة اللَّه بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

المراد بالمليم ذو الملامة؛ أي هو الشخص الذي يرتكب عملًا يكون بنفسه ملامة.

والتعبير ب «وهو مليم» إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يَمحُه فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكل ما يشينه ويلعنه ويفضح غروره وتكبره بإماطة النقاب عنهما.

ثم يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد»، فيقول: «وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ».

ثم يذكر القرآن سرعة الريح المسلطة على عاد فيقول: «مَا تَذَرُ مِن شَىْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ».

«الرميم»: مأخوذ من الرمّة وهي العظام النخرة البالية. وهذا التعبير يدل على أنّ سرعة الريح المسلطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعية، بل إضافةً إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم مما جعلت كل شي ء رميماً.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 570

ثم تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم اللَّه قليلًا ليتلقوا العذاب بعد ذلك ... فيقول اللَّه فيهم: «وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ».

والمراد ب «حَتَّى حِينٍ» هو الأيام الثلاثة المشار إليها في الآية (65) من سورة هود إمهالًا لهم: «فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ».

أجل: «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ».

«عتوا»: مشتقة من العتوّ- على وزن غلوّ- ومعناه الإعراض «بالوجه»، والإنصراف عن طاعة اللَّه، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيام الثلاثة فحسب، وبدلًا من أن يتوبوا وينيبوا

غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

وأخيراً فإنّ آخر جملة تتحدث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين. تقول: «فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ».

إنّ قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة وعمّروا طويلًا في قصور مشيّدة ... اهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر اللَّه وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم، وبقيت آثارهم درساً بليغاً من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى عاقبة خامس امّة من الامم، وهي قوم نوح، فتقول: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ». و «الفاسق» يُطلق على من يخرج على حدود اللَّه وأمره، ويكون ملوّثاً بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

وَ السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون: مرّة اخرى تتحدث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة اللَّه في عالم الخلق، وهي تتمة لما ورد في الآيتين (20 و 21) من هذه السورة في

مختصر الامثل، ج 4، ص: 571

شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده- وهي ضمناً دليل على قدرة اللَّه على المعاد والحياة، فتقول أوّلًا: «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ».

«الأيد»: على وزن الصيد، معناه القدرة والقوة- وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة اللَّه المطلقة العظيمة في خلق السماوات.

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جلية في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً.

ومع الأخذ بنظر

الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم هو أنّ اللَّه خلق السماوات ويوسعها دائماً.

والعلم الحديث (المعاصر) يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم، أي أنّ بعض النجوم المستقرة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع.

وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن: «وَمِن كُلّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

جملة «وَمِن كُلّ شَىْ ءٍ» يشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحية فحسب، فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرات موجبة وسالبة، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرات مؤلفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.

ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً مما تقدم من الأبحاث التوحيدية قائلًا: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

والتعبير ب «الفرار» هنا يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أو حادثاً مخيفاً فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجى ء إلى نقطة الأمن والأمان ... فالآية تقول: فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 572

فرّوا من السيئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحق وسعادته الأبدية.

ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة للَّه الأحد فيقول: «وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا ءَاخَرَ إِنّى لَكُم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».

كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ

(52) أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) قرأنا في الآية (39) من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى عليه السلام عندما دعاه إلى اللَّه وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتهام ورد على لسان المشركين في زمان النبي محمّد صلى الله عليه و آله أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النبي. فالآيات محل البحث ومن أجل تسلية النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين تقول:

«كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» ... لأنّه لم يكن على غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للُامور المادية.

ثم يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التهمة إلى جميع الأنبياء: «أَتَوَاصَوْا بِهِ».

ويعقّب القرآن على ذلك قائلًا: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ».

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكل كذب واتّهام لإخراج أهل الحق من الساحة.

ولمزيد التسرّي عن قلب النبي وتسليته يضيف القرآن: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ».

وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة: «فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ».

وهذه الجملة تذكّر بالآيات السابقة التي تدل على أنّ النبي كان يتحرق لقومه حتى يؤمنوا ويتأثر غاية التأثر لعدم إيمانهم حتى كاد يهلك نفسه من أجلهم.

كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 573

قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية حزن رسول اللَّه

صلى الله عليه و آله والمؤمنون، وظنوا أنّ الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حل حتى نزلت الآية بعدها لتأمر النبي بالتذكير: «وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» «1».

فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان.

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يا رسول اللَّه وتبليغك فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحق مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحق من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين.

وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) هدف خلق الإنسان من وجهة نظر القرآن: من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كل إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيى ء إلى هذه الدنيا؟!

فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدمة حول تذكير المؤمنين، لأنّ ذلك من أهمّ الاصول التي ينبغي على النبي أن يتابعها ... كما توضّح- ضمناً- معنى الفرار إلى اللَّه الوارد في الآيات السابقة.

تقول الآيات حاكيةً عن اللَّه سبحانه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً: «مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ». بل إنّ اللَّه تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته ... «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ».

وبقليل من التأمل في مفهوم آيات القرآن نرى أنّ الهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما اشير في هذه الآيات محل البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية للَّه، ورحمة اللَّه الواسعة نتيجة العبودية للَّه.

وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة اللَّه، لكن

المهم أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!

إنّ العبودية هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق

______________________________

(1) مجمع البيان 9/ 268.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 574

العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى اللَّه سبحانه.

فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوج بلوغ الإنسان وإقترابه من اللَّه.

فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلّافي منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتى (نفسه وشخصه).

وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ اللَّه له الامتحان والاختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كل ذلك فيض رحمته للإنسان.

هؤلاء يشاركون أصحابهم في العذاب: الآيتان أعلاه هما آخر سورة الذاريات، وهما نوع من الإستنتاج لما تقدم من الآيات الواردة في السورة ذاتها. فالآية الاولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد انحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ» .. ويقولوا إن كان عذاب اللَّه حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير ب «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشي ء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة اللَّه تعدّ أهم مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة، إذ تقول: «فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ».

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك.

«نهاية تفسير سورة الذاريات»

مختصر الامثل، ج 4، ص: 575

52. سورة الطور

محتوى السورة: تتركز بحوث

هذه السورة- أيضاً- على مسألة المعاد وعاقبة الصالحين والمتقين.

يمكن أن يقسّم محتوى هذه السورة إلى ستّة أقسام.

1- الآيات الاولى من السورة التي تبدأ بالقَسم تلو القسم، وهي تبحث في عذاب اللَّه، ودلائل القيامة وعلاماتها وعن النار وعقاب الكافرين (الآيات 1- 16).

2- ثم يذكر بتفصيل نعم الجنة ومواهب اللَّه في القيامة، (الآيات 17- 28).

3- ثم يقع الكلام عن نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وما وجّه إليه الأعداء من التّهم، ويردّ عليها بنحو موجز (الآيات 29- 34).

4- ثم بحث عن التوحيد باستدلالات واضحة (الآية 35- 43).

5- ثم عود على مسألة المعاد وبعض أوصاف يوم القيامة (الآيات 44- 47).

6- والقسم الأخير الذي لا يتجاوز الآيتين يختتم الامور المذكورة آنفاً بأمر نبي الإسلام بالصبر والاستقامة والتسبيح والحمد للَّه ووعده بأنّ اللَّه حاميه وناصره.

وقد اشتق اسم هذه السورة (الطور) من الآية الاولى فيها.

فضيلة تلاوة السورة: في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ومن قرأ سورة والطور كان حقّاً على اللَّه أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنّته».

مختصر الامثل، ج 4، ص: 576

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: «من قرأ سورة الطور جمع اللَّه له خير الدنيا والآخرة».

وواضح أنّ كل هذا الأجر والثواب العظيم هو لُاولئك الذين يجعلون هذه التلاوة وسيلة للتفكر والتفكر بدوره وسيلة للعمل.

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) هذه السورة- هي الاخرى- من السور التي تبدأ بالقسم ... القسم الذي يهدف لبيان حقيقة مهمة، وهي مسألة القيامة والمعاد ومحاسبة أعمال الناس.

يقول سبحانه وتعالى: «وَالطُّورِ».

«الطور»: في

اللغة معناه الجبل، ولكن مع ملاحظة أنّ هذه الكلمة تكرّرت في عشر آيات من القرآن الكريم، تسع منها كانت في الكلام على «طور سيناء» وهو الطور أو الجبل الذي نزل الوحي عنده على موسى، فيُعلم أنّ المراد منه في الآية محل البحث (الطور ذاته).

فبناءً على ذلك، فإنّ اللَّه يقسم في أوّل مرحلة بواحد من الأمكنة المقدسة في الأرض حيث نزل عليها الوحي.

وفي تفسير قوله تعالى «وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ» احتمالات متعددة، ولكن بتناسب القسَم المذكور آنفاً فإنّ الآية تشير هنا إلى «كتاب موسى» أو كل كتاب سماوي.

«فِى رَقّ مَّنشُورٍ». «الرقّ»: من الرقّة، وهي في الأصل الدقة واللطافة، كما تطلق هذه الكلمة على الورق أو الجلد الخفيف الذي يكتب عليه؛ و «المنشور»: معناه الواسع.

«وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ». والمراد منه «الكعبة» وهي بيت اللَّه في الأرض المعمور بالحجاج والزوار، وهو أوّل بيت وضع للعبادة على الأرض.

«وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ». والمقصود هو «السماء» لأنّنا نقرأ في الآية (32) من سورة الأنبياء: «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا».

ولعل الوجه- في التعبير- بالسقف هو أنّ النجوم والكرات السماوية إلى درجة من الكثرة بحيث غطّت السماء فصارت كأنّها السقف، أو إشارة إلى الجو الذي يحيط بالأرض أو ما يسمّى بالغلاف الجوّي، وهو بمثابة السقف الذي يمنع النيازك والشهب أن تهوي إلى الأرض وتصدّ الأشعّة الضارّة من الوصول إلى الأرض.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 577

«وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ». «المسجور»: معناه الملتهب، كما في الآيتين (71 و 72) من سورة غافر، إذ قال سبحانه: «يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ».

هذا «البحر المسجور» هو البحر المحيط بالأرض، أو البحار المحيطة بها وسيلتهب قبل يوم القيامة، ثم ينفجر كما نقرأ ذلك في الآية (6) من سورة التكوير: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ».

البحر الذي في باطن الأرض وهو

مؤلّف من مواد منصهرة مذابة.

ولعلّ أن تكون الآية قَسماً بهما معاً، إذ كلاهما من آيات اللَّه ومن عجائب هذا العالم الكبرى.

وعلاقة هذه الأقسام الخمسة فيما بينها، أنّ الظاهر أنّ الأقسام الثلاثة الاول بينها إرتباط وعلاقة، لأنّها جميعاً تتحدث عن الوحي وخصوصياته، فالطور محل نزول الوحي، والكتاب المسطور إشارة إلى الكتاب السماوي أيضاً، سواءً كان التوراة أو القرآن، والبيت المعمور هو محل ذهاب وإيّاب الملائكة ورُسل وحي اللَّه.

أمّا القَسمان الآخران فيتحدثان عن الآيات التكوينية «في مقابل الأقسام الثلاثة التي كانت تتحدث عن الآيات التشريعية».

وهذان القَسمان واحد منهما يشير إلى أهمّ دلائل التوحيد وعلائمه وهو «السماء» بعظمتها، والآخر يشير إلى واحد من علائم المعاد المهمة ودلائله، وهو الواقع بين يدي القيامة.

فبناءً على هذا فإنّ التوحيد والنبوة والمعاد جمعت في هذه الأقسام [أو الأيمان الخمسة.

«إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ». إنّ هذه الأقسام والتي تدور حول محور قدرة اللَّه في عالم التكوين والتشريع تدل على أنّ اللَّه قادر على إعادة الحياة وبعث الموتى من قبورهم مرّة اخرى، وهذا هو غاية الأقسام المذكورة كما قرأنا في الآيات الأخيرة من الآيات محل البحث.

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (9) وَ تَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَ فَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 578

كانت في الآيات السابقة إشارة وتلميح عن عذاب اللَّه في يوم القيامة- بصورة مغلقة- أمّا الآيات محل البحث ففيها توضيح وتفسير لما مرّ، فتتحدث أوّلًا عن بعض حالات

يوم القيامة وخصائصه، ثم عن كيفية تعذيب المكذبين فتقول: «يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا».

«المَوْر»: معناه الحركة السريعة والدوران المقترن بالذهاب والإياب والاضطراب والتموّج. وعلى هذا فإنّ النظام الحاكم على الكرات يضطرب بين يدي يوم القيامة وتنحرف عن مداراتها وتتّجه إلى كل جهة ذهاباً وإيّاباً، ثم تتبدّل وتولّد سماء جديدة بأمر اللَّه كما تقول الآية (104) من سورة الأنبياء: «يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ».

ثم يضيف القرآن في آية اخرى: «وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا».

كل ذلك هو إشارة إلى أنّ هذه الدنيا وما فيها وما عليها تندكّ ويحدث مكانها عالم جديد بأنظمة جديدة ويكون الإنسان أمام نتائج أعماله وجهاً لوجه.

لذا فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلًا: «فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ».

أجل، حين تعمّ الوحشة والإضطراب جميع الخلق لتغيّر العالم، تهيمن على المكذبين وحشة عظيمة وهي العذاب الإلهي ... لأنّ «الويل»: إظهار التأسف والحزن لوقوع حادثة غير مطلوبة.

ثم تبيّن الآيات من هم «المكذبون» فتقول: «الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ».

فيزعمون أنّ آيات القرآن ضرب من الكذب والإفتراء وأنّ معجزات النبي سحر وأنّه مجنون، ويتلقّون جميع الحقائق باللعب ويسخرون منها ويستهزئون بها.

«خوض»: معناه الدخول في الكلام الباطل، وهو في الأصل ورود الماء والعبور منه.

ثم تبيّن الآيات ذلك اليوم وعاقبة هؤلاء المكذبين في توضيح آخر، فتقول: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» «1». أي يساقون نحو جهنم بعنف وشدة.

ويقال لهم حينئذ: «هذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ».

كما يقال لهم أيضا: «أَفَسِحْرٌ هذَا أَمْ أَنتُمْ لَاتُبْصِرُونَ».

لقد كنتم تزعمون في الدنيا إنّ ما جاء به محمّد سحر، وليختطف عقولنا! ويرينا اموراً على أنّها معاجز، ويذكر لنا كلاماً على أنّه وحي منزل من اللَّه.

______________________________

(1) «دعّ»: على وزن جدّ معناه الدفع الشديد والسوق بخشونة وعنف.

مختصر الامثل، ج 4، ص:

579

لذلك فحين يردون نار جهنم يقال لهم بنحو التوبيخ والملامة والإحتقار وهم يلمسون حرارة النار: أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟!

كما يقال لهم هناك أيضاً: «اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَاتَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

أجل، هذه هي أعمالكم وقد عادت إليكم، فلا ينفع الجزع والفزع والآه والصراخ ولا أثر لكل ذلك أبداً.

وهذه الآية تأكيد على «تجسم الأعمال» وعودتها نحو الإنسان، وهي تأكيد جديد أيضاً على عدالة اللَّه ... لأنّ نار جهنم مهما كانت شديدة ومحرقة فهي ليست سوى نتيجة أعمال الناس أنفسهم، وأشكالها المتبدلة هناك.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) تعقيباً على المباحث الواردة في الآيات المتقدمة حول عقاب المجرمين وعذابهم الأليم تذكر الآيات محل البحث ما يقابل ذلك من المواهب الكثيرة والثواب العظيم للمؤمنين والمتقين لتتجلى بمقايسة واضحة مكانة كل من الفريقين. تقول الآية الاولى من الآيات محل البحث: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ».

والتعبير ب «المتقين» بدلًا من المؤمنين، لأنّ هذا العنوان يحمل مفهوم الإيمان، كما يحمل مفهوم العمل الصالح أيضاً، خاصة أنّ «التقوى» تقع مقدمةً وأساساً للإيمان في بعض المراحل.

ثم يتحدث القرآن عن تأثير هذه النِعَم الكبرى على روحية أهل الجنة فيقول في الآية التالية: «فَاكِهِينَ بِمَا ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ» «1».

______________________________

(1) «فاكهين»: مشتقة من فكه و معناها كون الإنسان مسروزاً، وجعل الآخرين مسرورين بالكلام العذب. مختصر الامثل، ج 4، ص: 580

خاصةً أنّ اللَّه

قد طمأنهم وآمنهم من العقاب: «وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

وهذه الجملة قد تكون ذات معنين ... الأوّل بيان النعمة المستقلة قبال نعم اللَّه الاخر ...

و الثاني أن يكون تعقيباً على الكلام السابق، أي أنّ أهل الجنة مسرورون من شيئين «بما آتاهم اللَّه من النعم في الجنة»، و «بما وقاهم من عذاب الجحيم».

ثم تشير الآية الاخرى إلى نعم المتقين في الجنة فتقول: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

والتعبير ب «هنيئاً» هو إشارة إلى أنّ أطعمة الجنة وشرابها السائغة غير منغّصة، فهي ليست كأطعمة الدنيا وشرابها التي تجرّ الإنسان إلى الوبال عند الإفراط أو التفريط بها ...

إضافةً إلى كل ذلك لا يحصل عليها بمشقة، ولا يخاف من إنتهائها، ولذلك فهي هنيئة.

ومن المعلوم أنّ أطعمة الجنة هنيئة بذاتها، ولكن قول الملائكة لأهل الجنة «هنيئاً» هذا القول له لطفه وعذوبته الخاصة.

والنعمة الاخرى التي يتمتع بها أهل الجنة هي كونهم: «مُتَّكِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ».

فهم يلتذّون بالاستئناس إلى أصحابهم والمؤمنين الآخرين، وهذه لذة معنوية فوق أية لذة اخرى.

وهذا التعبير لا ينافي ما ورد في هذه الآية محل البحث، لأنّ مجالس الانس والسرور ترتّب الأسرة فيها على شكل مستدير ومصفوفة جنباً إلى جنب، فجلّاسها على سرر مصفوفة متقابلون.

والتعبير ب «متكئين» إشارة إلى منتهى الهدوء، لأنّ الإنسان عند الهدوء يتكى ء عادةً، والذين هم في قلق وحزن لا يرون كذلك.

ثم يضيف القرآن بأنّا زوّجناهم من نساء بيض جميلات ذوات أعين واسعة «وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ» «1».

______________________________

(1) «الحور»: جمع حوراء وأحور، فهو جمع للمذكّر والمؤنث سواء، ويطلق على من حدقة عينه سوداء وبياضها شفّاف أو هو كناية عن الجمال، لأنّ الجمال يتجلّى في العينين قبل كل شي ء، والعين جمع لأعين وعيناء، معناه العين الواسعة؛ وهكذا فإنّ الحور

العين مفهوماً واسعاً يشمل الأزواج جميعاً الذكور والإناث من أهل الجنة فالذكور للإناث وبالعكس.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 581

هذه بعض من نعم أهل الجنة المادية والمعنوية، إلّاأنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب، وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية اخر: «وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْ ءٍ».

وهذه نعمة بنفسها أيضاً أن يرى الإنسان ذريته في الجنة ويلتذ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شي ء أبداً.

فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذرية إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ اللَّه سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين، ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم، وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء.

إنّ القرآن يضيف في نهاية الآية: «كُلُّ امْرِىٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ». أي: أنّ أعمال كل إنسان ملازمة له، سواءً كانت صالحة أو طالحة، ولذلك فإنّ المتقين في الجنة رهينو أعمالهم، وإذا كان أبناؤهم وذرياتهم معهم، فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شي ء أبداً.

وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لَا لَغْوٌ فِيهَا وَ لَا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) أشارت الآيات المتقدمة إلى تسعة أقسام من مواهب أهل الجنة، وتشير الآيات محل البحث إلى خمسة اخر منها بحيث يستفاد من المجموع أنّ ما هو لازم للهدوء والطمأنينة والفرح والسرور واللذة مهيّأ لهم في الجنة. فتشير الآية الاولى من الآيات محل البحث إلى نوعين من طعام أهل الجنة فتقول: «وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مّمَّا

يَشْتَهُونَ».

«أمددناهم»: مشتق من الإمداد ومعناه العطاء والزيادة والإدامة ... أي إنّ طعام الجنة وفواكهها لا ينقص منهما شي ء بتناولهما، وهما ليسا كطعام الدنيا وفواكهها بحيث يتغيّران أو ينقصان.

والتعبير ب «مّمَّا يَشْتَهُونَ» يدل على أنّ أهل الجنة أحرار تماماً في إنتخاب الأطعمة ونوعها وكميّتها وكيفيتها، فمهما طلبوا فهو مهي ء لهم ... وبالطبع فإنّ طعام الجنة غير منحصر بهذين النوعين اللحم والفاكهة، إلّاأنّهما يمثّلان الطعام المهم، وتقديم الفاكهة على اللحم إشارة إلى أفضليتها عليه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 582

ثم تشير الآية التالية إلى ما يشربه أهل الجنة من شراب سائغ فتقول: «يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّالَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ».

حيث يناول أحدهم الآخر كؤوس الشراب الطاهر من الإثم والإفساد، ويشربون شراباً سائغاً عذباً لذيذاً يهب النشاط خالياً من أي نوع من أنواع التخدير وفساد العقل! ولا يعقبه لغو ولا إثم، بل كلّه لذّة وإنتباه ونشاط «جسمي وروحاني».

«يتنازعون»: من مادة التنازع ومعناه أخذ بعضهم من بعض. بأنّ أهل الجنة يتجاذبون الشراب الطهور بعضهم من بعض على سبيل المزاح والسرور.

أمّا النعمة الرابعة المذكورة لأهل الجنة فوجود الخدم والغلمان إذ تقول الآية: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ».

و «اللؤلؤ المكنون»: هو اللؤلؤ داخل صدفه، وهو في هذه الحالة شفّاف وجميل إلى درجة لا توصف وإن كان خارج الصدف شفّافاً وجميلًا أيضاً، غير أنّ الهواء الملوّث والأيدي التي تتناوله كل ذلك يؤثّر فيه، فلا يبقى على حالته الاولى من الشفافية! فالغلمان وخدمة الجنة هم إلى درجة من الصفاء حتى كأنّهم اللؤلؤ المكنون كما يعبّر القرآن الكريم.

وبالرغم من أنّه لا حاجة في الجنة إلى الخدمة، وما يطلبه الإنسان يجده أمامه، إلّاأنّ هذا بنفسه إكرام أو إحترام آخر لأهل الجنة.

في تفسير مجمع البيان: قيل يا

رسول اللَّه! الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم؟ فقال: «والذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

وآخر نعمة في هذه السلسلة من النعم هي نعمة الطمأنينة وراحة البال من كل عذاب أو عقاب إذ تقول الآية التالية: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ».

مشفقين أن يسلك أبناؤنا طريق الضلال، فيتيهوا في مفازة جرداء ويتحيّروا. مشفقين أن يفجؤنا أعداؤنا القساة ويضيّقوا علينا الميدان. ولكن اللَّه منّ علينا برحمته الواسعة: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ».

«السموم»: يعني الحرارة التي تدخل في مسام البدن فتؤذي الإنسان، ويطلق على الريح التي تتسم بهذه السمة بريح السموم كما يطلق عذاب السموم على مثل هذا العذاب الذي تدخل حرارته مسام البدن فتؤذيه.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 583

وأمّا إطلاق كلمة «السم» على المواد القاتلة فهو لأنّها تنفذ في جميع أجزاء البدن.

والكلام الذي ينقله القرآن على لسان أهل الجنة هنا يشير إلى إعترافهم بهذه الحقيقة وهي أنّ كون اللَّه برّاً رحيماً يعرفه أهل الجنة في ذلك الزمان أكثر من أي وقت مضى فيقولون: «إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ».

إلّا أنّنا نعرف هذه الصفات الآن بشكل واقعي أكثر مما كنا نعرفها، إذ شملنا برحمته العظيمة قبال هذه الأعمال التي لا تعدّ شيئاً وأحسن إلينا مع كل تلك الذنوب الكثيرة.

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَ لَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

سبب النّزول

في الدرّ المنثور عن ابن عباس

أنّ قريشاً لما اجتمعوا في الدار الندوة «1» في أمر النبي صلى الله عليه و آله قال قائل منهم احبسوه في وثاق وتربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة إنّما هو كأحدهم فأنزل اللَّه في ذلك من قولهم «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

التّفسير

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن قسم مهم من نعم الجنة وثواب المتقين وكان الكلام في الآيات التي سبقتها عن بعض عذاب أهل النار. لذلك فإنّ الآية الاولى من الآيات محل البحث تخاطب النبي فتقول: «فَذَكّرْ». لأنّ قلوب عشّاق الحق تكون أكثر إستعداداً بسماعها مثل هذا الكلام، وقد آن الأوان أن تبيّن الكلام الحق لها.

ثم يذكر القرآن الإتهامات التي أطلقها أعداء النبي الألدّاء المعاندون فيقول: «فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ».

______________________________

(1) «دار الندوة»: وهي دار قصي بن كلاب التي لا تقضي قريش أمراً من أمورها إلّافيها، وكانت هذه الدار بابهاإلى مسجد الكعبة. (راجع سيرة النبي صلى الله عليه و آله، ابن هشام الحميري 2/ 331). مختصر الامثل، ج 4، ص: 584

«الكاهن»: يطلق على من يخبر عن الأسرار الغيبية، وغالباً ما كان الكاهن يدّعي بأنّه له علاقة بالجن ويستمد الأخبار الغيبية منهم.

فإنّ قريشاً ومن أجل أن تشتّت الناس وتصرفهم عن النبي صلى الله عليه و آله كانت تتّهمه ببعض التّهم، فتارةً تتّهمه بأنّه كاهن، وتارةً تتّهمه بأنّه مجنون، والعجب أنّها لم تقف على تضاد الوصفين، لأنّ الكهنة اناس أذكياء والمجانين على خلافهم! ولعل الجمع بين الإفترائين في الآية إشارة إلى هذا التناقض في الكلام من قبل القائلين.

ثم يذكر القرآن الإتهام الثالث الذي يخالف الوصفين السابقين أيضاً فيقول: «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ».

«المنون»: مشتق من

المنّ، وهو على معنيين: النقصان والقطع، ثم استعملت كلمة «المنون» في الموت أيضاً، لأنّه ينقص العدد ويقطع المدد؛ «ريب»: أصلها الشك والتردد والوهم في الشي ء الذي تنكشف أستاره بعدئذ فتتضح حقيقته. وهذا التعبير يستعمل في شأن الموت، فيقال «ريب المنون» لأنّ وقت حصوله غير معلوم لا أصل تحققه.

إلّا أنّ جماعة من المفسرين قالوا: إنّ المراد من «ريب المنون» في الآية محل البحث هو حوادث الدهر، حتى إنّه نقل عن ابن عباس أنّه قال حيث ما وردت كلمة «ريب» في القرآن فهي بمعنى الشك والتردد، إلّافي هذه الآية من سورة الطور فمعناها الحوادث.

فاولئك كانوا يطمئنون أنفسهم ويرضون خاطرهم بأنّ حوادث الزمان كفيلة بالقضاء على النبي صلى الله عليه و آله وكانوا يتصورون أنّهم سيتخلصون من هذه المشكلة العظمى التي أحدثتها دعوة النبي صلى الله عليه و آله في سائر المجتمع ... لذلك فإنّ القرآن يرد عليهم بجملة موجزة مقتضبة ذات معنى غزير ويهدّد هؤلاء- عمي القلوب- مخاطباً نبيّه فيقول: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ».

ثم يوبّخهم القرآن توبيخاً شديداً فيقول في شأنهم: «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلمُهُم بِهذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ».

إنّ هذه التّهم والإفتراءات ليست مما تقول به عقولهم وتأمرهم به، بل أساسها طغيانهم وتعصبهم وروح العصيان والتمرد.

«الأحلام»: جمع «حُلُم» ومعناه العقل؛ وهذه الكلمة قد تأتي بمعنى الرؤيا والمنام ولا يبعد مثل هذا التّفسير في الآية محل البحث ... فكأنّ كلماتهم ناتجة عن أحلامهم الباطلة.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 585

ومرّة اخرى يشير القرآن إلى اتّهام آخر- من اتهاماتهم- الذي يعدّ الرابع في سلسلة اتّهاماتهم فيقول: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّايُؤْمِنُونَ».

«تقوّله»: مشتق من مادة تقوّل- على وزن تكلّف- ومعناه الكلام الذي يفتعله الإنسان بينه وبين نفسه دون أن يكون

له واقع.

إنّ القرآن يردّ عليهم ردّاً يدحرهم ويتحدّاهم متهكماً فيقول: «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ».

فأنتم اناس مثله ولديكم العقل والقدرة على البيان والإطلاع والخبرة على أنواع الكلام فلِمَ لا يأتي مفكّروكم وخطباءكم وفصحاءكم بمثل هذا الكلام.

وجملة «فليأتوا» أمر تعجيزي، والهدف منه بيان عجزهم وعدم قدرتهم على مجاراة القرآن. وهذا ما يعبّر عنه في علم الكلام والعقائد بالتحدّي أي دعوة المخالفين إلى المعارضة والإتيان بالمثل «في مواجهة المعجزات».

فهذه آية من الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بجلاء، ولا يختصّ مفهومها بمن عاصروا النبي صلى الله عليه و آله بل يشمل جميع الذين يزعمون- بأنّ القرآن كلام بشر، وأنّه مفترى على اللَّه- على إمتداد القرون والأعصار، فهم مخاطبون بهذه الآية أيضاً ... أي هاتوا حديثاً مثله إن كنتم تزعمون بأنّه ليس من اللَّه وأنّه كلام بشر.

إنّ نداء القرآن في هذه الآية والآيات المشابهة كان عالياً أبداً، ولم يستطع أي إنسان خلال أربعة عشر قرناً- منذ بعثة النبي صلى الله عليه و آله حتى يومنا هذا- أن يرد بجواب إيجابي.

وهذا العجز «العمومي» شاهد حي على أصالة هذا الوحي السماوي.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابق- كذلك- مع أحد عشر سؤالًا متتابعاً،

مختصر الامثل، ج 4، ص:

586

وهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وقدرة اللَّه سبحانه. فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَىْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ».

وهذه إشارة إلى «برهان العليّة» المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود اللَّه، وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شك- فيه- حادث (لأنّه في تغيير دائم، وكل ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث، وكل ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديماً وأزليّاً).

والآن ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان العالم حادثاً فلا يخرج عن الحالات الثلاث التالية:

1- وُجد من دون علّة.

2- هو نفسه علّة لنفسه.

3- إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتياً له.

وبطلان الاحتمان المتقدمة واضح، لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال، وإلّا فينبغي أن يكون كل شي ء موجوداً في أي ظرف كان، والأمر ليس كذلك.

والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشي ء من نفسه محال أيضاً، لأنّ مفهومه أن يكون موجوداً قبل وجوده، ويلزم منه إجتماع النقيضين [فلاحظوا بدقّة].

فبناءً على ذلك لا طريق إلّاالقبول بالاحتمال الثالث، أي خالقية واجب الوجود.

الآية التالية تثير سؤالًا آخر على الإدّعاء في المرحلة الأدنى من المرحلة السابقة فتقول:

«أَمْ خَلَقُوا السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ».

فإذا لم يوجدوا من دون علّة ولم يكونوا علّة أنفسهم أيضاً، فهل هم واجبو الوجود فخلقوا السماوات والأرض؟! وإذا لم يكونوا قد خلقوا الوجود، فهل أوكل اللَّه إليهم أمر خلق السماء والأرض؟ فعلى هذا هم مخلوقون وبيدهم أمر الخلق أيضاً.

من الواضح أنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا هذا الإدّعاء الباطل، لذلك فإنّ الآية تختتم بالقول: «بَل لَّايُوقِنُونَ».

أجل، فهم يتذرّعون بالحجج الواهية فراراً من الإيمان.

ثم يتساءل القرآن قائلًا: فإذا لم يدّعوا هذه الامور ولم يكن

لهم نصيب في الخلق، فهل

مختصر الامثل، ج 4، ص: 587

عندهم خزائن اللَّه: «أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ» «1». ليهبوا من شاؤوا نعمة النبوّة والعلم أو الأرزاق الاخر ويمنعوا من شاؤوا ذلك: «أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» على جميع العوالم وفي أيديهم امور الخلائق؟!

إنّهم لا يستطيعون أن يدّعوا أبداً أنّ عندهم خزائن اللَّه تعالى، ولا يملكون تسلطاً على تدبير العالم، لأنّ ضعفهم وعجزهم إزاء أقل مرض بل حتى على بعوضة تافهة وكذلك احتياجهم إلى الوسائل الابتدائية للحياة خير دليل على عدم قدرتهم وفقدان هيمنتهم! وإنّما يجرّهم إلى إنكار الحقائق هوى النفس والعناد وحبّ الجاه والتعصب والأنانية.

وكلمة «مصيطرون» إشارة إلى أرباب الأنواع التي هي من خرافات القدماء، إذ كانوا يعتقدون أنّ كل نوع من أنواع العالم إنساناً كان أمّ حيواناً آخر أم جماداً أم نباتاً له مدبّر وربّ خاصّ يدعى بربّ النوع ويدعون اللَّه «ربّ الأرباب» وهذه العقيدة تعدّ في نظر الإسلام «شركاً» والقرآن في آياته يصرّح بأنّ التدبير لجميع الأشياء هو للَّه وحده ويصفه بربّ العالمين.

ومن المعلوم أنّه لا منكرو النبوة ولا المشركون في العصر الجاهلي ولا سواهما يدّعي أيّاً من الامور الخمسة التي ذكرها القرآن، ولذلك فإنّه يشير إلى موضوع آخر في الآية التالية فيقول: إنّ هؤلاء هل يدعون أنّ الوحي ينزل عليهم أو يدعون أنّ لهم سُلّماً يرتقون عليه إلى السماء فيستمعون إلى أسرار الوحي: «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ» «2».

وحيث إنّه كان من الممكن أن يدّعوا بأنّهم على معرفة بأسرار السماء فإنّ القرآن يطالبهم مباشرةً بعد هذا الكلام بالدليل فيقول: «فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».

ومن الواضح أنّه لو كانوا يدّعون مثل هذا الادّعاء فإنّه لا يتجاوز حدود الكلام فحسب، إذ لم يكن لهم دليل على ذلك أبداً.

ثم يضيف

القرآن قائلًا: هل صحيح ما يزعمون أنّ الملائكة اناث وهم بنات اللَّه؟! «أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ».

وفي هذه الآية إشارة إلى واحد من إعتقاداتهم الباطلة، وهو استياؤهم من البنات

______________________________

(1) الخزائن: جمع الخزينة ومعناها مكان كل شي ء محفوظ لا تصل إليه اليد ويدّخر فيه ما يريد الإنسان يقول القرآن في هذا الصدد: «وَإِن مِّن شَىْ ءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ» سورة الحجر/ 21.

(2) «سُلّم»: يعني «المصعد» كما يأتي بمعنى أيّة وسيلة كانت.

مختصر الامثل، ج 4، ص: 588

بشدة، وإذا علموا أنّهم رزقوا من أزواجهم «بنتاً» اسودّت وجوههم من الحياء والخجل ومع هذا فإنّهم كانوا يزعمون أنّ الملائكة بنات اللَّه. وبديهي أنّ الذكر والانثى لا يختلفان في نظر القيمة الإنسانية ... والتعبير في الآية المتقدمة هو في الحقيقة من قبيل الاستدلال بعقيدتهم الباطلة ومحاججتهم بها.

ثم يتنازل القرآن إلى مرحلة اخرى، فيذكر واحداً من الامور التي يمكن أن تكون ذريعة لرفضهم فيقول: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ».

«المغرم»:- على وزن مغْنَم وهو ضدّ معناه- أي ما يصيب الإنسان من خسارة أو ضرر دون جهة، أمّا الغريم فيطلق على الدائن والمدين أيضاً.

و «المُثقَل»: مشتق من الأثقال، ومعناه تحميل العب ء والمشقة، فبناءً على هذا المعنى يكون المراد من الآية: تُرى هل تطلب منهم غرامة لتبليغ الرسالة فهم لا يقدرون على أدائها ولذلك يرفضون الإيمان؟!

ومرّة اخرى يخاطبهم القرآن متسائلًا «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ». فهؤلاء يدّعون أنّ النبي شاعر وينتظرون موته لينطوي بساطه وينتهي كل شي ء بموته وتلقى دعوته في سلّة الإهمال. فمن أين لهم أنّهم سيبقون أحياء بعد وفاة النبي؟ ومن أخبرهم بالغيب؟!

ثم يتناول القرآن إحتمالًا آخر فيقول: لو لم يكن كل هذه الامور المتقدمة، فلابدّ أنّهم يتآمرون

لقتل النبي وإجهاض دعوته ولكن ليعلموا أنّ كيد اللَّه أعلى وأقوى من كيدهم:

«أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ».

وأخيراً فإنّ آخر ما يثيره القرآن من أسئلة في هذا الصدد قوله: «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ».

ويضيف- منزّهاً-: «سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ».

فعلى هذا لا أحد يستطيع أن يمنعهم من اللَّه ويحميهم، وهكذا فإنّ القرآن يستدرجهم ويضعهم أمام استجواب عجيب وأسئلة متّصلة تؤلّف سلسلة متكاملة مؤلفة من أحد عشر سؤالًا، ويضطرهم مرحلة بعد مرحلة إلى التراجع والتنازل من الإدعاءات الفارغة، ثم يوصد عليهم سُبُل الفرار كلها ويحاصرهم في طريق مغلق.

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

مختصر الامثل، ج 4، ص: 589

تعقيباً على البحث الوارد في الآيات المتقدمة الذي يناقش المشركين والمنكرين المعاندين، هذا البحث الذي يكشف الحقيقة ساطعةً لكل إنسان يطلب الحق، تميط الآيات محل البحث النقاب عن تعصبهم وعنادهم فتقول: «وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ».

إنّ هؤلاء المشركين معاندون إلى درجة إنكارهم الحقائق الحسية وتفسيرهم الحجارة الساقطة من السماء بالسحاب.

وهكذا يتّضح حال هؤلاء الأشخاص إزاء الحقائق المعنوية. لذلك فإنّ الآية التالية تضيف بالقول: «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ».

«يُصعقون»: مأخوذة من صعق، والإصعاق هو الإهلال، وأصله مشتق من الصاعقة، وحين أنّ الصاعقة تُهلك من تقع عليه فإنّ هذه الكلمة استعملت بمعنى الإهلاك أيضاً.

إنّ جملة «ذرهم» أمر يُفيد

التهديد، والمراد منه أنّ الإصرار على تبليغ مثل هؤلاء الأفراد لا يجدي نفعاً إذ لا يهتدون.

ثم يبيّن القرآن في الآية التالية هذا اليوم فيقول: «يَوْمَ لَايُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ».

أجل، من يمت تقم قيامته الصغرى «من مات قامت قيامته» وموته بداية للثواب أو العقاب الذي يكون قسم منه في البرزخ والقسم الآخر في القيامة الكبرى، أي القيامة العامة، وفي هاتين المرحلتين لا تنفع ذريعة متذرّع ولا يجد الإنسان وليّاً من دون اللَّه ولا نصيراً.

ثم تضيف الآية أنّه لا ينبغي لهؤلاء أن يتصوروا أنّهم سيواجهون العذاب في البرزخ وفي القيامة فحسب، بل لهم عذاب في هذه الدنيا أيضاً: «وَإِنَّ لّلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ».

أجل، إنّ على الظالمين أن ينتظروا في هذه الدنيا عذاباً كعذاب الامم السابقة كالصاعقة والزلازل والكسف من السماء والقحط أو القتل على أيدي جيش التوحيد كما كان ذلك في معركة بدر وما ابتلي به قادة المشركين فيها إلّاأن يتيقّظوا ويتوبوا ويعودوا إلى اللَّه آيبين منيبين.

وجملة «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَايَعْلَمُونَ» تشير إلى أنّ أغلب اولئك الذين ينتظرهم العذاب

مختصر الامثل، ج 4، ص: 590

في الدنيا والآخرة هم جهلة، ومفهومها أنّ القليل منهم يعرف هذا المعنى، إلّاأنّه في الوقت ذاته يُصرّ على المخالفة لما فيه من اللجاجة والعناد عن الحق.

وفي الآية التالية يخاطب القرآن نبيّه ويدعوه إلى الصبر أمام هذه التّهم والمثبّطات وأن يستقيم فيقول: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ».

فإذا ما اتّهموك بأنّك شاعر أو كاهن أو مجنون فاصبر، وإذا زعموا بأنّ القرآن مفترى فاصبر، وإذا أصرّوا على عنادهم وواصلوا رفضهم لدعوتك برغم كل هذه البراهين المنطقية فاصبر، ولا تضعف همّتك ويفتر عزمك: «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا».

نحن نرى كل شي ء ونعلم بكل شي ء ولن ندعك وحدك.

وبما

أنّ الحاجة للَّه وعبادته وتسبيحه وتقديسه وتنزيهه والإلتجاء إلى ذاته المقدسة كل هذه الامور تمنح الإنسان الدّعة والاطمئنان والقوة، فإنّ القرآن يعقّب على الأمر بالصبر بالقول: «وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ».

سواء كان الحمد التسبيح سحراً، أو عند صلاة الفريضة، أو عند القيام من أي مجلس كان.

أجل، نوّر روحك وقلبك بتسبيح اللَّه وحمده فإنّهما يمنحان الصفاء ... وعطر لسانك بذكر اللَّه ... واستمدّ منه المدد واستعدّ لمواجهة أعدائك.

وفي الدرّ المنثور: إنّه لما كان بآخرة كان إذا قام من مجلسه قال: «سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلّاأنت أستغفرك وأتوب إليك». فقيل يا رسول اللَّه! ما هؤلاء الكلمات التي تقولهن، قال: «هنّ كلمات علمنيهنّ جبرئيل كفارات لما يكون في المجلس».

ثم يضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث قائلًا: «وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ».

«نهاية تفسير سورة الطور»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.